الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
»
. [230]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 230]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ.
تَفْرِيعٌ مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة: 229] وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ، عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُكْسِبُهُ تَأْثِيرًا فِي تَفْرِيعِ هَذَا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ تخييرا بني الْمُرَاجَعَةِ وَعَدَمِهَا، فَرَتَّبَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُرَاجَعَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْإِمْسَاكِ فَإِنْ طَلَّقَها وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَإِنْ رَاجَعَهَا فَطَلَّقَهَا لِبَيَانِ حُكْمِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. وَقَدْ تَهَيَّأَ السَّامِعُ لِتَلَقِّيَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة:
229] إِذْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِك بَيَان لآخر عَدَدٍ فِي الرُّجْعَى وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ بَتَاتٌ، فَذِكْرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ، وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ إِلَخْ فَالْفَاءُ إِمَّا عاطفة لجملة فَإِنْ طَلَّقَها عَلَى جملَة فَإِمْساكٌ [الْبَقَرَة: 229] بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ فَإِمْساكٌ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِمْسَاكِ الْمُرَاجَعَةَ وَمِنَ التَّسْرِيحِ عَدَمَهَا، أَيْ فَإِنْ أَمْسَكَ الْمُطَلِّقُ أَيْ رَاجَعَ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِمَّا فَصِيحَةٌ لِبَيَانِ قَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الْبَقَرَة: 229] ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْرِيحِ إِحْدَاثَ الطَّلَاقِ، أَيْ فَإِنِ ازْدَادَ بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ فَسَرَّحَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، وَإِعَادَةُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمُرَاجَعَةِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، تَصْرِيحًا بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالطَّلَاقِ هُنَا دُونَ التَّسْرِيحِ لِلْبَيَانِ وَلِلتَّفَنُّنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلَا يعوزك توزيعه عَلَيْهِمَا، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ رَاجِعٌ لِلْمُطَلِّقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الطَّلَاقِ أَيْضًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] .
وَالْآيَةُ بَيَانٌ لِنِهَايَةِ حَقِّ الْمُرَاجَعَةِ صَرَاحَةً، وَهِيَ إِمَّا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَتَشْرِيعٌ إِسْلَامِيٌّ جَدِيدٌ، وَإِمَّا نَسْخٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إِذَا صَحَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» ، فِي بَاب نسخ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ وَنَزَلَ الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
وَلَا يَصح بِحَالٍ عَطْفُ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا [الْبَقَرَة: 229] ، وَلَا صِدْقُ الضَّمِيرَيْنِ عَلَى مَا صَدَقَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُ إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما، وفَلا جُناحَ عَلَيْهِما لِعَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ حُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ
بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا [الْبَقَرَة: 229] إِلَخْ إِذْ لَا يَصِحُّ تَفْرِيعُ الطَّلَاقِ الَّذِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهُ الْمَرْأَةُ عَلَى وُقُوعِ الْخُلْعِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ، فَمِنَ الْعَجِيبِ مَا وَقَعَ فِي «شَرْحِ الْخَطَّابِيِّ عَلَى سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ لِكَوْنِ الْخُلْعِ فَسَخًا بِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْخُلْعَ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ قَالَ: «فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا» وَلَا أَحْسَبُ هَذَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مَعَانِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَوْلُهُ: فَلا تَحِلُّ لَهُ أَيْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ ثَلَاثِ تطليقاتٍ تَسْجِيلًا عَلَى الْمُطَلِّقِ، وَإِيمَاءً إِلَى عِلَّةَ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ تَهَاوُنُ الْمُطَلِّقِ بِشَأْنِ امْرَأَتِهِ، وَاسْتِخْفَافُهُ بِحَقِّ الْمُعَاشَرَةِ، حَتَّى جَعَلَهَا لعبة تقلبها عواصف غَضَبِهِ وَحَمَاقَتُهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدُ عَلِمَ الْمُطَلِّقُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُحِقِّينَ فِي أَحْوَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أَنَّ تَعْقِدَ عَلَى زَوْجٍ آخَرَ، لِأَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا الْعَقْدُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ أَرَ لَهُمْ إِطْلَاقًا آخَرَ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مجَازًا، وأيا مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي الْكَلَامِ فَالْمُرَادُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَى الْمُدَّعُونَ أَنَّهُ مِنْ مَعَانِي النِّكَاحِ بِالِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ أَعْنِي الْمَسِيسَ، لَا يُسْنَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلْمَرْأَةِ أَصْلًا، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ غَفَلُوا عَنْهَا فِي الْمَقَامِ.
وَحِكْمَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الْعَظِيمِ رَدْعُ الْأَزْوَاجِ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِ أَزْوَاجِهِمْ، وَجَعْلُهُنَّ لُعَبًا فِي بُيُوتِهِمْ، فَجَعَلَ لِلزَّوْجِ الطَّلْقَةَ الْأُولَى هَفْوَةً، وَالثَّانِيَةَ تَجْرِبَةً، وَالثَّالِثَةَ فِرَاقًا، كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: «فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ الْخضر فِي الثَّالِث هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
[الْكَهْف: 78] .
وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عَلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حُكْمَيْنِ وَهَمَا سَلْبُ الزَّوْج حق الرّجْعَة، بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ، وَسَلْبُ الْمَرْأَةِ حَقَّ الرِّضَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ إِلَّا بعد زوج، وَاشْتِرَاط التَّزَوُّجَ بِزَوْجٍ ثَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِقَصْدِ تَحْذِيرِ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، إِلَّا بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّرَيُّثِ، الَّذِي لَا يَبْقَى بَعْدَهُ رَجَاءٌ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الْعَوْدِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَهُوَ عِقَابٌ لِلْأَزْوَاجِ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحُقُوقِ الْمَرْأَةِ، إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُمْ ذَلِكَ ثَلَاثًا، بِعُقُوبَةٍ تَرْجِعُ إِلَى إِيلَامِ الْوِجْدَانِ، لِمَا ارْتَكَزَ
فِي النُّفُوسِ مِنْ شِدَّةِ النَّفْرَةِ مِنِ اقْتِرَانِ امْرَأَتِهِ بِرَجُلٍ آخَرَ، وَيَنْشُدُهُ حَالَ
الْمَرْأَةِ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ (1) :
وَفِي النَّاسِ إِنْ رَثَّتْ حِبَالُكَ وَاصِلٌ
…
وَفِي الْأَرْضِ عَنْ دَارِ الْقِلَى مُتَحَوَّلُ
وَفِي الطِّيبِيِّ قَالَ الزَّجَّاجُ: «إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِصُعُوبَةِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمَا التَّزَوُّجَ بَعْدَ الثَّلَاثِ لِئَلَّا يُعَجِّلُوا وَأَنْ يُثْبِتُوا» وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اشْتِرَاطَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ هُوَ تَرْبِيَةٌ لِلْمُطَلِّقِينَ، فَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّكَاحِ فِي الْآيَةِ حَقِيقَتَهُ وَهِيَ الْعَقْدُ، إِلَّا أَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ وَسِيلَةً لِمَا يُقْصَدُ لَهُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْبِنَاءِ وَمَا بَعْدَهُ، كَانَ الْعَقْدُ الَّذِي لَا يَعْقُبُهُ وَطْءُ الْعَاقِدِ لِزَوْجِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فِيمَا قُصِدَ مِنْهُ، وَلَا يَعْبَأُ الْمُطَلِّقُ الْمُوقِعُ الثَّلَاثَ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَمَسَّ فِيهِ الْمَرْأَةَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا طَلَّقَ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ الْقُرَظِيُّ زَوْجَهُ تَمِيمَةَ ابْنَةَ وَهْبٍ طَلْقَةً صَادَفَتْ أُخْرَى الثَّلَاثَ، وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ،
جَاءَتِ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ (2) هَذَا الثَّوْبِ» وَأَشَارَتْ إِلَى هُدْبِ ثَوْبٍ لَهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ» قَالَتْ «نَعَمْ» قَالَ «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»
الْحَدِيثَ، فَدَلَّ سُؤَالُهَا عَلَى أَنَّهَا تَتَوَقَّعُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِنِكَاحِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي تَحْلِيلٍ مِنْ بِتِّهَا، لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَايَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالْمُطَلِّقِ، فَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي يُحِلُّ الْمَبْتُوتَةَ هُوَ دُخُولُ الزَّوْجِ الثَّانِي بِالْمَرْأَةِ وَمَسِيسُهُ لَهَا، وَلَا أَحْسَبُ دَلِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا الرُّجُوعَ إِلَى مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ، الَّذِي عَلِمَهُ سَائِرُ مَنْ فَهِمَ هَذَا الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ الْفَصِيحَ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَتْحِ دِلَاءِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ الْمُرَادِ بِهِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَسِيسُ أَوْ هُوَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ تَقْيِيدِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ هُوَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا نَسْخٌ أَمْ لَا، وَفِي أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ أَمْ لَا، كُلُّ ذَلِكَ دُخُولٌ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَ تَطْوِيلِ تَقْرِيرِهِ بَلْ حَسْبُنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى فَهْمِ هَذَا الْمَقْصِدِ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ
(1) هُوَ بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء من بني قُرَيْظَة صَحَابِيّ.
(2)
الهدبة بِضَم الْهَاء وَسُكُون الدَّال نِهَايَة الثَّوْب الَّتِي تتْرك وَلَا تنسج فَتتْرك سدى بِلَا لحْمَة وَرُبمَا فتلوها وَهِي الْمُسَمَّاة فِي لِسَان أهل بلدنا بالفتول.
إِلَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَإِنَّهُ قَالَ: يُحِلُّ الْمَبْتُوتَةَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى زَوْجٍ ثَانٍ، وَهُوَ شُذُوذٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ إِذْ أَيَّةُ فَائِدَةٍ تَحْصُلُ مِنَ الْعَقْدِ، إِنْ هُوَ إِلَّا تَعب للعاقدين، وَالْوَلِيّ، وَالشُّهُودِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ
الْحُكْمَ مَنُوطًا بِالْعَقْدِ، بِاعْتِبَارِ مَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ غَالِبًا، فَإِذَا تَخَلَّفَ مَا يَحْصُلُ بَعْدَهُ اغْتُفِرَ، مِنْ بَابِ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفٌ، وَنَسَبَهُ النَّحَّاسُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَحْسَبُ ذَلِكَ سَهْوًا مِنْهُ وَاشْتِبَاهًا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، مُرَتَّبًا عَلَى حُصُولِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ تَقَدَّمَتَاهُ فَوَجَبَ امْتِثَالُهُ وَعُلِمَتْ حِكْمَتُهُ فَلَا شَكَّ فِي أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى مَوْرِدِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ ذَلِكَ إِلَى كُلِّ طَلَاقٍ عَبَّرَ فِيهِ الْمُطَلِّقُ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ تَغْلِيظًا، أَوْ تَأْكِيدًا، أَوْ كَذِبًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ طَلَاقًا بَعْدَ طَلَّاقَيْنِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ حِكْمَةُ التَّأْدِيبِ عَلَى سُوءِ الصَّنِيعِ، وَمَا الْمُتَلَفِّظُ بِالثَّلَاثِ فِي طَلَاقِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا كَغَيْرِ الْمُتَلَفِّظِ بِهَا فِي كَوْنِ طَلْقَتِهِ الْأُولَى، لَا تَصِيرُ ثَانِيَةً، وَغَايَةُ مَا اكْتَسَبَهُ مَقَالُهُ أَنَّهُ عُدَّ فِي الْحَمْقَى أَوِ الْكَذَّابِينَ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجِهِ، وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، كَمَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ:«الْمُوَطَّأِ» وَمَا بَعْدَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ رِوَايَةُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ،
وَوَرَدَ حَدِيثُ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ الْمُطَّلِبِيِّ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَسَأَلَ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا مَلَّكَكَ اللَّهُ وَاحِدَةً فَأَمْرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ خِلَافَتِهِ حَدَثَتْ حَوَادِثُ مِنَ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: أَرَى النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ تَلَفَّظَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي طَلْقَةٍ لَيْسَتْ ثَالِثَةً، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ أَخْذًا بِمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَأَيَّدَ قَضَاؤُهُ بِسُكُوتِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ، وَبِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الطَّلَاقَ بِالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ فِيهَا مَا الْتَزَمَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَيَّدُوهُ بِهِ مِنْ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ النَّحَارِيرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، وَخَاصَّةً أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
مَصْدَرِ الْقَضَاءِ وَالزَّجْرِ، فَهُوَ قَضَاءٌ فِي مَجَالِ الِاجْتِهَادِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ تَغْيِيرُهُ، وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ جُزْئِيٌّ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادَ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَصَرُّفُ الْإِمَامِ بِتَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِمَصْلَحَةٍ مَجَالٌ لِلنَّظَرِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْن عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَحَجَّاجُ بن أَرْطَاة وطاووس وَالظَّاهِرِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْأَنْدَلُسِ:
مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ زِنْبَاعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيُّ، فَقِيهُ عَصْرِهِ بِقُرْطُبَةَ، وَأَصْبَغُ بْنُ الْحُبَابِ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُغِيثٍ الطُّلَيْطِلِيُّ الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْأَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ.
وَاحْتَجُّوا بِحُجَجٍ كَثِيرَةٍ أُولَاهَا وَأَعْظَمُهَا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ثَالِثَةً، وَرَتَّبَ حُرْمَةَ الْعَوْدِ عَلَى حُصُولِ الثَّالِثَةِ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: هِيَ طَالِق طَلَاقا وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الطَّلْقَةُ ثَالِثَةً بِالْفِعْلِ وَالتَّكَرُّرِ كَذَبَ فِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا ثَلَاثٌ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَانِيَةٌ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمِ عَوْدِهَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:«وَهَلْ هُوَ إِلَّا كَمَنْ قَالَ: قَرَأَتُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ قَرَأَهَا وَاحِدَةً فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَكُونُ كَاذِبًا» .
الثَّانِيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَصَدَ مِنْ تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ التَّوْسِعَةَ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ الْمُعَاشِرَ لَا يَدْرِي تَأْثِيرَ مُفَارَقَةِ عَشِيرِهِ إِيَّاهُ، فَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ يَظْهَرُ لَهُ النَّدَمُ وَعَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، فَيَخْتَارُ الرُّجُوعَ فَلَوْ جَعَلَ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ مَانِعَةً بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِنَ الرَّجْعَةِ، تَعَطَّلَ الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ إِثْبَات حق الرّجْعَة، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «الْبِدَايَةِ» (1) «وَكَأَنَّ الْجُمْهُورَ غَلَّبُوا حُكْمَ التَّغْلِيظِ فِي الطَّلَاقِ سَدًّا للذريعة وَلَكِن تبطل بِذَلِكَ الرُّخْصَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالرِّفْقَ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] .
الثَّالِثَةُ قَالَ ابْنُ مُغِيثٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَمُوقِعُ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُحْسِنٍ، لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ تَوْسِعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَخْرُجُ هَذَا بِقِيَاسٍ عَلَى غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مِنْ ذَلِكَ قَول الْإِنْسَان: مَا لي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ قَالَ مَالِكٌ يُجْزِئُهُ الثُّلُثُ.
الرَّابِعَةُ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» «كَانَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرِ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلْقَةً وَاحِدَةً» .
وَأَجَابَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ بِأَن رَاوِيه طَاوُوس وَقَدْ رَوَى بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
(1)«بداية الْمُجْتَهد» لِابْنِ رشد الْحَفِيد (2/ 62) ، ط دَار الْمعرفَة.
مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَقَدْ عَصَى رَبَّهُ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجُهُ، وَهَذَا يوهن رِوَايَة طَاوُوس، فَإِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يُخَالِفُ الصَّحَابَةَ إِلَى رَأْيِ نَفْسِهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبر رِوَايَة طَاوُوس وَهْمٌ وَغَلَطٌ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، فَالْمُرَادُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَدَلَ إِيقَاعِ النَّاسِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ «إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ» فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ وَأَبِي بَكْرِ لَمَا قَالَ عُمَرُ إِنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وَلَا عَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا جَوَابٌ ضَعِيفٌ، قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: الرِّوَايَة عَن طَاوُوس بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ.
وَأَقُولُ: أَمَّا مُخَالَفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا رَوَاهُ فَلَا يُوهِنُ الرِّوَايَةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُ بِرِوَايَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِرَأْيِهِ، وَأَمَّا مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُوقِعُونَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَدَلَ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمُنَافٍ لِأَلْفَاظِ الرِّوَايَةِ وَلِقَوْلِ عُمَرَ «فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ» فَإِنْ كَانَ إِمْضَاؤُهُ عَلَيْهِمْ سَابِقًا مِنْ عَهْدِ الرَّسُولِ لَمْ يَبْقَ مَعْنًى لِقَوْلِهِ:«فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمْضَاؤُهُ سَابِقًا بَلْ كَانَ غَيْرَ مَاضٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ.
الْخَامِسَةُ مَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ الْمُطَّلَبِيَّ طَلَّقَ زَوْجَهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ أَوْ إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَة فارتجعها.
وَأَجَابَ عَنْهُ أَنْصَارُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّهُ رَوَى أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ وَفِي رِوَايَةٍ طَلَّقَ زَوْجَهُ ثَلَاثًا وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ: أَرَدْتُ وَاحِدَةً فَاسْتَحْلَفَهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ جَوَابٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ صَحَّتِ الزِّيَادَةُ أَمْ لَمْ تَصِحَّ فَقَدْ قَضَى النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِالْوَاحِدَةِ فِيمَا فِيهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ، وَلَا قَائِلَ مِنَ الْجُمْهُورِ بَالتَّوْهِيَةِ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ لَيْسَتْ فِي مَرْتَبَةٍ مُعْتَبَرَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ.
السَّادِسَةُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ تَطْلِيقِ ابْنِ عُمَرَ زَوْجَهُ حِين أمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ طَلْقَةً صَادَفَتْ آخِرَ الثَّلَاثِ لَمَا جَازَ إِرْجَاعُهَا إِلَيْهِ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَقَدْ عَدَّهَا عَلَيْهِ وَاحِدَةً فَقَطْ، وَهَذَا دَلِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا لِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَلِكَوْنِ مِثْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ مِمَّا لَا يَغْفُلُ عَنْهَا رُوَاةُ الْحَدِيثِ فِي كتب الصَّحِيح ك «الْمُوَطَّأ» و «صَحِيح البُخَارِيّ» و «مُسلم» . وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا.
وَذَهَبَ مُقَاتِلٌ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ
لَا يَقَعُ
طَلَاقًا بِالْمَرَّةِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الطَّلَاقَ الْمُفَرِّقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْمُوعَ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ. وَلَوِ احْتَجَّ لَهُمَا بِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ لَكَانَ قَرِيبًا، لَوْلَا أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَعْتَرِي الْفُسُوخَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَاذٌّ وَبَاطِلٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، وَكَيْفَ لَا يَقَعُ طَلَاقًا وَفِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ طَلَاقَ الْبِكْرِ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ يَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ بِخِلَاف طَلَاق بالمبني بِهَا وَكَأَنَّ وَجْهَ قَوْلِهِمْ فِيهِ: وَأَن مَعْنَى الثَّلَاثِ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَيْنُونَةِ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ تُبِينُهَا الْوَاحِدَةُ.
وَوَصْفُ زَوْجاً غَيْرَهُ تَحْذِيرٌ لِلْأَزْوَاجِ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ بِذِكْرِ الْمُغَايِرَةِ يَتَذَكَّرُ أَنَّ زَوْجَتَهُ سَتَصِيرُ لِغَيْرِهِ كَحَدِيثِ الْوَاعِظِ الَّذِي اتعظ بقول الشَّاعِرِ:
الْيَوْمَ عِنْدَكَ دَلُّهَا وَحَدِيثُهَا
…
وَغَدًا لِغَيْرِكَ زَنْدُهَا وَالْمِعْصَمُ
وَأَسْنَدَ الرَّجْعَةَ إِلَى الْمُتَفَارِقَيْنِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ عَلَّقَ ذَلِكَ بقوله: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ أَنْ يَسِيرَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِعَادَةِ الْخُصُومَاتِ.
وحُدُودَ اللَّهِ هِيَ أَحْكَامُهُ وَشَرَائِعُهُ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَتَجَاوَزُهَا فَكَأَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَهَا. وَحَقِيقَةُ الْحُدُودِ هِيَ الْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَرَضِينَ وَنَحْوِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: 229] وَالْإِقَامَةُ اسْتِعَارَةٌ لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْحُدُودِ إِلَى الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِمْ: نَقَضَ فُلَانٌ غَزْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها فَالْبَيَانُ صَالِحٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّاظِرِينَ.
وَالْمرَاد ب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْأَحْكَامَ فَهْمًا يُهَيِئُهُمْ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَبِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا، وَلَا يَتَحَيَّلُونَ فِي فَهْمِهَا.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَةُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: 229] الْمُتَقَدّمَة آنِفا.
ووَ تِلْكَ