الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فَهُوَ خَيْرٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ: من أَرَادَ إطْعَام مَعَ الصِّيَامِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَنْ زَادَ فِي الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُدِّ وَهُوَ بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ الْمُدُّ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خُبْزًا وَلَحْمًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ حِينَ شَاخَ.
وخَيْرٌ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْأَوَّلِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خَيْرًا آخَرَ أَيْ خَيْرَ الْآخِرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ الثَّانِي تَفْضِيلًا أَيْ فَالتَّطَوُّعُ بِالزِّيَادَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا وَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِظُهُورِهِ.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الظَّاهِرُ رُجُوعُهُ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ نَازِلًا فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْقَادِرِ فَقَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا تَرْغِيبٌ فِي الصَّوْمِ وَتَأْنِيسٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي إِبَاحَتِهِ لِصَاحِبِ الْمَشَقَّةِ كَالْهَرِمِ فَكَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً وَمَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ تَفْضِيلًا لِلصَّوْمِ عَلَى الْفِطْرِ إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي السَّفَرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي الْمَرَضِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْمَرَضِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَذْيِيلٌ أَيْ تَعْلَمُونَ فَوَائِدَ الصَّوْمِ عَلَى رُجُوعِهِ لِقَوْلِهِ:
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْقَادِرِينَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَوَائِدَ الصَّوْمِ دُنْيَا وَثَوَابَهُ أُخْرَى، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ثَوَابَهُ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْأُخَرِ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) لِأَنَّ عِلْمَهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَكُونَ مُحَقَّقًا لِخَفَاءِ الْفَائِدَتَيْنِ.
[185]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 185]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تَكْمِلَةٌ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَأَنْ لَا نَسْخَ فِي خِلَالِ هَاتِهِ الْآيَاتِ، فَقَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هِيَ أَيِ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَالْجُمْلَةُ
مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: 184] يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ عَنْ تَعْيِينِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ شَهْرًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ أَيَّاماً: بَدَلَ تَفْصِيلٍ.
وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِأَحْوَالِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَهُمْ يَحْذِفُونَ ضَمِيرَهُ، وَإِذَا جَوَّزْتَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ نَسْخًا لِصَدْرِ الْآيَةِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هِيَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَان مُبْتَدأ خبرهم قَوْلُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِالْفَاءِ حِينَئِذٍ مُرَاعَاةٌ لِوَصْفِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، أَوْ عَلَى زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ:
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ (1) أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ.
وَالشَّهْرُ جُزْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ تَقْسِيمِ السَّنَةِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [التَّوْبَة: 36] وَالشَّهْرُ يَبْتَدِئُ مِنْ ظُهُورِ الْهِلَالِ إِلَى الْمُحَاقِ ثُمَّ ظُهُورِ الْهِلَالِ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشُّهْرَةِ لِأَنَّ الْهِلَالَ يَظْهَرُ لَهُمْ فَيُشْهِرُونَهُ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَثْبُتُ الشَّهْرُ عِنْدَهُمْ.
وَرَمَضَانُ عَلَمٌ وَلَيْسَ مَنْقُولًا إِذْ لَمْ يُسْمَعْ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَعْلَانِ مِنْ رَمِضَ بِكَسْرِ الْمِيمِ إِذَا احْتَرَقَ لِأَنَّ الْفَعْلَانَ، يَدُلُّ عَلَى الِاضْطِرَابِ وَلَا مَعْنَى لَهُ هُنَا، وَقِيلَ هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَرَمَضَانُ عَلَمٌ عَلَى الشَّهْرِ التَّاسِعِ مِنْ أَشْهُرِ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَمَرِيَّةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْمُحَرَّمِ فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَفْتَتِحُونَ أَشْهُرَ الْعَامِ بِالْمُحَرَّمِ لِأَنَّ نِهَايَةَ الْعَامِ عِنْدَهُمْ هِيَ
انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَمُدَّةُ الرُّجُوعِ إِلَى آفَاقِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَبَيْدًا جَعَلَ جُمَادَى الثَّانِيَةَ وَهُوَ نِهَايَةُ فَصْلِ الشِّتَاءِ شَهْرًا سَادِسًا إِذْ قَالَ:
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً
…
جُزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا
وَرَمَضَانُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَهِيَ الْحَرَارَةُ لِأَنَّ رَمَضَانَ أَوَّلُ أَشْهُرِ الْحَرَارَةِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنَ النَّسِيءِ فِي السَّنَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ إِذْ كَانَتِ
(1) تَمَامه:
وأكرومة الحيّين خلو كَمَا هيا
السَّنَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى سِتَّةِ فُصُولٍ كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا شَهْرَانِ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ الْخَرِيفُ وَشَهْرَاهُ مُحَرَّمٌ وَصَفَرٌ، الثَّانِي رَبِيعٌ الْأَوَّلُ وَهُوَ وَقْتُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَظُهُورِ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَشَهَرَاهُ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَشَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَصْفٌ لِشَهْرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ «الرُّطَبُ شَهْرَيْ رَبِيعٍ» ، الثَّالِثُ الشِّتَاءُ وَشَهْرَاهُ جُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الثَّانِيَةُ قَالَ حَاتِمٌ:
فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ
…
لَا يُبْصِرُ الْكَلْبُ من ظلمائها الظّنبا
لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ
…
حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خَيْشُومِهِ الذَّنَبَا
الرَّابِعُ الرَّبِيعُ الثَّانِي- وَالثَّانِي وَصْفٌ لِلرَّبِيعِ- وَهَذَا هُوَ وَقْتُ ظُهُورِ النَّوْرِ وَالْكَمْأَةِ وَشَهْرَاهُ رَجَبٌ وَشَعْبَانُ، وَهُوَ فَصْلُ الدَّرِّ وَالْمَطَرِ قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ غَزَوَاتِ النُّعْمَانِ ابْن الْحَارِثِ:
وَكَانَتْ لَهُمْ رِبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَهَا
…
إِذَا خَضْخَضَتْ مَاءَ السَّمَاءِ الْقَبَائِلُ
وَسَمَّوْهُ الثَّانِيَ لِأَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الرَّبِيعِ الْأَوَّلِ فِي حِسَابِ السَّنَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ
…
رَبِيعُ الثَّانِ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ
فِي رِوَايَة وراوي «رَبِيعُ النَّاسِ» ، وَسَمَّوْا كُلًّا مِنْهُمَا رَبِيعًا لِأَنَّهُ وَقْتُ خَصْبٍ، الْفَصْلُ الْخَامِسُ، الصَّيْفُ وَهُوَ مَبْدَأُ الْحَرِّ وَشَهْرَاهُ رَمَضَانُ وَشَوَّالٌ، لِأَنَّ النُّوقَ تَشُولُ أَذْنَابَهَا فِيهِ تَطْرِدُ الذُّبَابَ. السَّادِسُ الْقَيْظُ وَشَهْرَاهُ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ.
وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ تُقَسِّمُ السَّنَةَ إِلَى أَرْبَعَةٍ، كُلُّ فَصْلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ الرَّبِيعُ وَشُهُورُهُ رَجَبٌ وَشَعْبَانُ وَرَمَضَانُ، وَالصَّيْفُ وَشُهُورُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْخَرِيفُ وَشُهُورُهُ مُحَرَّمٌ وَصَفَرٌ وَالرَّبِيعُ الْأَوَّلُ، وَالشِّتَاءُ وَشُهُورُهُ شَهْرُ رَبِيعٍ الثَّانِي- عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَصْفَانِ لِشَهْرٍ لَا لِرَبِيعٍ- وَجُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الثَّانِيَةُ.
وَلَمَّا كَانَتْ أَشْهُرُ الْعَرَبِ قَمَرِيَّةً وَكَانَتِ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ أَقَلَّ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي
تَجِيءُ بِهَا الْفُصُولُ تَنْقُصُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَسْرًا، وَرَامُوا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَوَقْتِ السَّلَامَةِ مِنَ الْبَرْدِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ جَعَلُوا لِلْأَشْهُرِ كَبْسًا بِزِيَادَةِ شَهْرٍ فِي السَّنَةِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّسِيءِ.
وَأَسْمَاءُ الشُّهُورِ كُلُّهَا أَعْلَامٌ لَهَا عَدَا شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَشَهْرِ رَبِيعٍ الثَّانِي فَلِذَلِكَ وَجَبَ ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهْرِ مَعَهُمَا ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّ مَعْنَاهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ مِنْ فَصْلِ الرَّبِيعِ أَعْنِي الْأَوَّلَ، فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي صِفَتَانِ لِشَهْرٍ، أَمَّا الْأَشْهُرُ الْأُخْرَى فَيَجُوزُ فِيهَا ذِكْرُ لَفْظِ الشَّهْرِ بِالْإِضَافَةِ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ النَّوْعِ إِلَى وَاحِدِهِ مِثْلَ شَجَرِ الْأَرَاكِ وَمَدِينَةِ بَغْدَادَ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ وَالْمُحَقِّقِينَ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُقَالُ رَمَضَانُ إِلَّا بِإِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ مَصْدَرٌ، حَتَّى تَكَلَّفَ لِمَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ صَارَ بِإِضَافَةِ شَهْرٍ إِلَيْهِ عَلَمًا فَمَنَعَ جُزْءَ الْعَلَمِ مِنَ الصَّرْفِ كَمَا مَنَعَ هُرَيْرَةَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ تَكَلَّفَ شَطَطًا وَخَالَفَ مَا
رُوِيَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»
بِنَصْبِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا انْجَرَّ إِلَيْهِمْ هَذَا الْوَهْمُ مِنِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الدِّيوَانِ كَمَا فِي «أَدَبِ الْكَاتِبِ» .
وَإِنَّمَا أضيف لفظ الشَّهْرُ إِلَى رَمَضَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّ الْإِيجَازَ الْمَطْلُوب لَهُم يتقضي عَدَمَ ذِكْرِهِ إِمَّا لِأَنَّهُ الْأَشْهَرُ فِي فَصِيحِ كَلَامِهِمْ وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ جَمِيعِ أَيَّامِهِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ رَمَضَانُ لَكَانَ ظَاهِرًا لَا نَصًّا، لَا سِيَّمَا مَعَ تَقَدُّمِ قَوْله أَيَّاماً [الْبَقَرَة:
184] فَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ أَنَّهَا أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ.
فَالْمَعْنَى أَنَّ الْجُزْءَ الْمَعْرُوفَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْقَمَرِيَّةِ هُوَ الَّذِي جُعِلَ ظَرْفًا لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الصِّيَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الدِّينِ فَكُلَّمَا حَلَّ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ مِنَ السَّنَةِ الْمُسَمَّى بِشَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدَاءُ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَلما كانم ذَلِكَ حُلُولَهُ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ عَامٍ كَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ مُكَرَّرًا فِي كُلِّ سَنَةٍ إِذْ لَمْ يُنَطِ الصِّيَامُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ مَخْصُوصٍ وَلِأَنَّ مَا أُجْرِي عَلَى الشَّهْرِ مِنَ الصِّفَاتِ يُحَقِّقُ أَنَّ المُرَاد مِنْهُ جَمِيع الْأَزْمِنَةُ الْمُسَمَّاةُ بِهِ طُولَ الدَّهْرِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ وَقَعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ عَالِمًا بِاخْتِصَاصِهَا بِمَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمَوْصُولُ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَدَثِ الدِّينِيِّ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ تَذْكِيرًا بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِهَذَا الْفَضْلِ وَأُجْرِيَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ مُخْتَصٌّ بِمَضْمُونِ هَذِهِ
الصِّلَةِ بِحَيْثُ تُجْعَلُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَتِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِاتِّصَافِ ذِي الصِّلَةِ بِمَضْمُونِهَا فِي التَّعْرِيفِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ بَلْ ذَلِكَ غَرَضٌ أَغْلَبِيٌّ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ تَتَبُّعُ كَلَامِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ
عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْكَلَامِ لَا يَسْمَحُ بِاعْتِبَارِهِ خَبَرًا لِأَنَّ لَفْظَ شَهْرُ رَمَضانَ خَبَرٌ وَلَيْسَ هُوَ مُبْتَدَأً، وَالْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءُ إِنْزَالِهِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ فِيهِ ابْتِدَاءَ النُّزُولِ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْفِيلِ فَعَبَّرَ عَنْ إِنْزَالِ أَوَّلِهِ بِاسْمِ جَمِيعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُنَزَّلَ مُقَدَّرٌ إِلْحَاقُ تَكْمِلَتِهِ بِهِ كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: 92] وَذَلِكَ قَبْلَ إِكْمَالِ نُزُولِهِ فَيَشْمَلُ كُلَّ مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ بَعْدُ، وَقد تقدم عِنْد قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَعْنَى الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ أنزل فِي مثله لِأَن الشَّهْر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قَدِ انْقَضَى قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الصَّوْمِ بِعِدَّةِ سِنِينَ، فَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَان فرض من السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ فَبَيْنَ فَرْضِ الصِّيَامِ وَالشَّهْرِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً عِدَّةُ سِنِينَ فَيَتَعَيَّنُ بِالْقَرِينَةِ أَنَّ الْمُرَادَ أُنْزِلَ فِي مِثْلِهِ أَيْ فِي نَظِيرِهِ مِنْ عَامٍ آخَرَ.
فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَوَاقِيتِ الْمَحْدُودَةِ اعْتِبَارًا يُشْبِهُ اعْتِبَارَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ الْمُتَجَدِّدِ، وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِبَارٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ الْمِقْدَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: 5] ، فَخَلَعَ اللَّهُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي قَارَنَهَا شَيْءٌ عَظِيمٌ فِي الْفَضْلِ أَنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْمَوَاقِيتِ فَضْلًا مُسْتَمِرًّا تَنْوِيهًا بِكَوْنِهَا تَذْكِرَةً لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لِأَجْلِهِ سُنَّةَ الْهَدْيِ فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَلَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأَظْهَرَ عَزْمَ إِبْرَاهِيمَ وَطَاعَتَهُ رَبَّهُ وَمِنْهُ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ تَعْظِيمَ الْيَوْمِ الْمُوَافِقِ لِيَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَيَجِيءُ مِنْ هَذَا إِكْرَامُ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ وَتَعْظِيمِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَائِمِينَ مَقَامَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأُمَّةِ صَوْمُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مُتَتَابِعَةً مَضْبُوطَةَ الْمَبْدَأِ وَالنِّهَايَةِ مُتَّحِدَةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ وُقِّتَ بِشَهْر معيّن وَجعل قَمَرِيًّا لِسُهُولَةِ ضَبْطِ بَدْئِهِ وَنِهَايَتِهِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَالتَّقْدِيرِ، وَاخْتِيرَ شَهْرُ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهُرِ لِأَنَّهُ قَدْ شُرِّفَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ لِقَصْدِ تَنْزِيهِ الْأُمَّةِ وَهُدَاهَا نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ تَطْهِيرُ النُّفُوسِ وَالتَّقَرُّبِ مِنَ الْحَالَةِ الْمَلَكِيَّةِ وَاقِعًا فِيهِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَى ظَنِّي أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ تَحَنُّثِهِ فِي غَارِ حِرَاءَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلْقِينَا لِبَقِيَّةٍ
مِنَ الْمِلَّةِ الحنيفية فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ
الْإِسْلَامِيَّةَ بِالصَّوْمِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ،
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرَ رَمَضَانَ»
0، وَقَالَ ابْن سعد: جَاءَهُ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لسبع عشرَة حلت مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حَالَانِ مِنَ (الْقُرْآنِ) إِشَارَةً بِهِمَا إِلَى وَجْهِ تَفْضِيلِ الشَّهْرِ بِسَبَبِ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ، وَبِالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْهُدَى الْخَفِيِّ الَّذِي يُنْكِرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرُ فَرَقَ وَقَدْ شَاعَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ إِعْلَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: ضَرْبٌ مِنَ الْهُدَى غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْهُدَى الثَّانِي، فَلَا تِكْرَارَ.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى التَّبْيِينِ بَعْدَ الْفَصْلِ بِمَا عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ مِنِ اسْتِينَاسٍ وَتَنْوِيهٍ بِفَضْلِ الصِّيَامِ وَمَا يُرْجَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى نُفُوسِ الصَّائِمِينَ بِالتَّقْوَى وَمَا حَفَّ اللَّهُ بِهِ فَرْضَهُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَيْسِيرٍ عِنْدَ حُصُولِ مَشَقَّةٍ مِنَ الصِّيَامِ.
وَضَمِيرُ مِنْكُمُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: 183] مِثْلَ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وشَهِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَضَرَ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا شَهِدَ بَدْرًا وَشَهِدَ أُحُدًا وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ أَوْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ حَضَرَهَا فَنَصَبَ الشَّهْرَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ لِفِعْلِ شَهِدَ أَيْ حَضَرَ فِي الشَّهْرِ أَيْ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ. إِلَخْ.
أَيْ فَمَنْ حَضَرَ فِي الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ كُلَّهُ وَيُفْهَمْ أَنَّ مَنْ حَضَرَ بَعْضَهُ يَصُومُ أَيَّامَ حُضُورِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: 18] فَيَكُونُ انْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ عَلِمَ بِحُلُولِ الشَّهْرِ،
وَلَيْسَ شَهِدَ بِمَعْنَى رَأَى لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: شَهِدَ بِمَعْنَى رَأَى، وَإِنَّمَا يُقَالُ شَاهَدَ، وَلَا الشَّهْرُ هُنَا بِمَعْنَى هِلَالِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْهِلَالِ كَمَا حَكَوْهُ عَنِ الزَّجَّاجِ وَأَنْشَدَ فِي «الْأَسَاسِ» قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:
فَأَصْبَحَ أَجْلَى الطَّرْفِ مَا يَسْتَزِيدُهُ
…
يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهُوَ نَحِيلُ
أَيْ يَرَى هِلَالَ الشَّهْرِ لِأَنَّ الْهِلَالَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ شَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ وَمَنْ يَفْهَمُ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مُعَلَّقٌ وُجُوبُ صَوْمِهِ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ هِلَالَ رَمَضَانَ فَمَنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَصْرِيحٌ عَلَى طَرِيقِ ثُبُوتِ الشَّهْرِ وَإِنَّمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ
وَفِي مَعْنَى الْإِقْدَارِ لَهُ مَحَامِلُ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: (القرءان) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ السَّاكِنَةِ وَبَعْدَ الْهَمْزَةِ أَلِفٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ السَّاكِنَةِ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ قَالُوا فِي وَجْهِ إِعَادَتِهِ مَعَ تَقَدُّمِ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً [الْبَقَرَة: 184] إِنَّهُ لَمَّا كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدْيَةِ بِالْإِطْعَامِ بِالْآيَةِ الْأُولَى وَهِيَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] إِلَخْ وَقَدْ سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِنَصِّهَا فَلَمَّا نُسِخَ حُكْمُ تِلْكَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ شَهْرُ رَمَضانَ الْآيَةَ وَصَارَ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ خِيفَ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الرُّخْصَةِ قَدْ نُسِخَ فَوَجَبَ الصَّوْمُ أَيْضًا حَتَّى عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَأُعِيدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ تَصْرِيحًا بِبَقَاءِ تِلْكَ الرُّخْصَةِ، وَنُسِخَتْ رُخْصَةُ الْإِطْعَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْحَضَرِ وَالصِّحَّةِ لَا غَيْرَ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى كَوْنِ هَاتِهِ الْآيَةِ نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنْ دَرَجْنَا عَلَى أَنَّهُمَا نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَانَ الْوَجْهُ فِي إِعَادَةِ هَذَا الْحُكْمِ هُوَ هَذَا الْمَوْضِعُ الْجَدِيرُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ تَعْيِينِ أَيَّامِ الصَّوْمِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَهُوَ تَعْجِيلٌ بِالْإِعْلَامِ بِالرُّخْصَةِ رِفْقًا بِالسَّامِعِينَ، أَوْ أَنَّ إِعَادَتَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إِذَا كَانَ
شَهِدَ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَعَلِمَ، مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَأْكِيدِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً إِلَخْ بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ الرُّخْصَةِ أَيْ شَرَعَ لَكُمُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِكُمُ الْيُسْرَ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ نَفْيٌ لِضِدِّ الْيُسْرِ، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةُ قَصْرٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا يُرِيدُ بِكُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ إِلَى جُمْلَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً هُوَ جُمْلَةُ الْإِثْبَاتِ لِتَكُونَ تَعْلِيلًا لِلرُّخْصَةِ، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةُ النَّفْيِ تَأْكِيدًا لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ تَعْلِيلًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: 183] إِلَى هُنَا فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَتْ تَلُوحُ فِي صُورَةِ الْمَشَقَّةِ وَالْعُسْرِ فَإِنَّ فِي طَيِّهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهَا الْيُسْرَ أَيْ تَيْسِيرَ تَحْصِيلِ رِيَاضَةِ النَّفْسِ بِطَرِيقَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ إِرْهَاقِ أَصْحَابِ بَعْضِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى أَنْفُسَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: (الْيُسْر) و (الْعسر) بِسُكُونِ السِّينِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرَ بِضَمِّ السِّينِ ضَمَّةَ إِتْبَاعٍ.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إِلَخْ إِذْ هِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ كَمَا عَلِمْتَ فَإِنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إِلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا تُسَمَّى شِبْهَ الزَّائِدَةِ وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ مَادَّةِ أَمَرَ اللَّذَيْنِ مَفْعُولُهُمَا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ فِعْلِهَا، فَحَقُّ ذَلِكَ
الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ فِعْلُ الْإِرَادَةِ وَفِعْلُ مَادَّةِ الْأَمْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ وَلَكِنْ كَثُرَ فِي الْكَلَامِ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصَّفّ: 8] قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَصْلُهُ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] وَالْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ اللَّامِ مَنْصُوبٌ بِأَنْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً.
وَالْمَعْنَى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَأَنْ تُكَبِّرُوا اللَّهَ، وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِيَأْتِيَ بِعِدَّةِ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَامِلَةً، فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ حِكْمَةً تَجِبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا، فَبِالْقَضَاءِ حَصَلَتْ حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ وَبِرُخْصَةِ الْإِفْطَارِ لِصَاحِبِ الْعُذْرِ حَصَلَتْ رَحْمَةُ التَّخْفِيفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَلِتُكْمِلُوا) بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مُضَارِعُ أَكْمَلَ وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مُضَارِعُ كَمَّلَ.
وَقَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَعْلِيلًا وَهُوَ فِي مَعْنَى عِلَّةٍ غَيْرِ مُتَضَمِّنَةٍ لِحِكْمَةٍ وَلَكِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمَقْصِدِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يُكَبِّرُوهُ.
وَالتَّكْبِيرُ تَفْعِيلٌ مُرَادٌ بِهِ النِّسْبَةُ وَالتَّوْصِيفُ أَيْ أَنْ تَنْسِبُوا اللَّهَ إِلَى الْكِبَرِ وَالنِّسْبَةُ هُنَا نِسْبَةٌ بِالْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ، وَالْكِبَرُ هُنَا كِبَرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا جِسْمِيٌّ فَهُوَ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ وَالتَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ كُلِّهَا، أَيْ لِتَصِفُوا اللَّهَ بِالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَقُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَالتَّفْعِيلُ هُنَا مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلٍ الْمَنْحُوتِ مِنْ قَوْلٍ يَقُولُهُ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: بَسْمَلَ وَحَمْدَلَ وَهَلَّلَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، أَيْ لِتَقُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فِي الْوَاقِعِ كَالْحُكَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالسَّادَةِ وَالْقَادَةِ، وَمِنْ كُلِّ عَظِيمٍ فِي الِاعْتِقَادِ كَالْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، وَإِثْبَاتُ الْأَعْظَمِيَّةِ لِلَّهِ فِي كَلِمَةِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) كِنَايَةٌ عَنْ وَحْدَانِيَّتِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ يَسْتَلْزِمُ نُقْصَانَ مَنْ عَدَاهُ وَالنَّاقِصُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا لَا تُلَاقِي شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاة لإبطال السُّجُود لغير الله، وَشرع التَّكْبِير عِنْد نحر الْبدن فِي الْحَج لإبطال مَا كَانُوا يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَى أصنامهم، وَكَذَلِكَ شرع التَّكْبِيرُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ يُكَبِّرَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَيُكَبِّرَ الْإِمَامُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ.
وَفِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الصِّيَامِ خُصُوصِيَّةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَزَلَّفُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ بِالْأَكْلِ وَالتَّلْطِيخِ بِالدِّمَاءِ، فَكَانَ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُعْبَدُ بِالصَّوْمِ وَأَنَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنْ ضَرَاوَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَعْلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ تَعْظِيمٌ يَتَضَمَّنُ شُكْرًا وَالشُّكْرُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بِفِعْلِ الْقُرْبِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ وَأَيَّامِ الْفِطْرِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ الشُّكْرِ لُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْبِيرِ إِذْ جَعَلَتْهُ مِمَّا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُفَصَّلٍ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ، وَمُجْمَلٌ فِي وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَعَدَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَحْوَالِ.
فَأَمَّا لَفْظُ التَّكْبِيرِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ لَفْظُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْمَشْهُورُ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ يُكَرِّرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا شَاءَ الْمَرْءُ زَادَ عَلَى التَّكْبِيرِ تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَإِذَا أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّكْبِيرِ كَبَّرَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ وَاسِعٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُ غَيْرَ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ.
وَأَمَّا وَقْتُهُ: فَتَكْبِيرُ الْفِطْرِ يَبْتَدِئُ مَنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْمُصَلِّي مَنْ بَيْتِهِ إِلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ وَمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَإِذَا بَلَغَ مَحَلَّ الصَّلَاةِ قَطَعَ التَّكْبِيرَ، وَيُسَنُّ فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ افْتِتَاحُ الْأُولَى بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةِ بِسِتٍّ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ وَعَمِلَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ عهد النبيء عليه الصلاة والسلام فَمَا بَعْدَهُ وَتَلَقَّاهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِي التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ وَالْأَمْرُ وَاسِعٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيُكَبِّرُ مَعَهُ الْمُصَلُّونَ حِينَ تَكْبِيرِهِ وَيُنْصِتُونَ لِلْخُطْبَةِ فِيمَا سِوَى التَّكْبِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ النَّاسُ مِنْ وَقْتِ اسْتِهْلَالِ هِلَالِ الْفِطْرِ إِلَى انْقِضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ التَّكْبِيرُ، هَذَا كُلُّهُ فِي الْفِطْرِ فَهُوَ مَوْرِدُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.