الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ.
عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهَذَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِدَّةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ الَّتِي قَبْلَهَا أَحْكَامَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَأَنَّ أَمَدَ الْعِدَّةِ مُحْتَرَمٌ، وَأَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ جَازَ أَنْ يَفْعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مَا أَرَدْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَبْلُغْنَهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَالتَّزَوُّجُ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ حَرَامٌ، وَلَمَّا كَانَ التَّحَدُّثُ فِي التَّزَوُّجِ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ الْمُتَحَدِّثُ حُصُولَ الزَّوَاجِ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَتَسَابَقُوا إِلَى خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ وَمُوَاعَدَتِهَا، حِرْصًا عَلَى الِاسْتِئْثَارِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَبَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ لَهُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وَرَخَّصَتْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَابِقِهِ.
وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة:
158] .
وَقَوله: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مَا مَوْصُولَة، وَمَا صدقهَا كَلَامٌ، أَيْ كَلَامٌ عَرَّضْتُمْ بِهِ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ يُطْلَقُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ ضروب الْمعَانِي المستفادة مِنَ الْكَلَامِ، وَقد بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:
مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَلَامٌ.
وَمَادَّةُ فعّل فِيهِ دَالَّة عَلَى الْجُعْلِ مِثْلَ صُورٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ أَيْ جَعَلَ كَلَامَهُ بِجَانِبٍ، وَالْجَانِبُ هُوَ الطَّرَفُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَحِيدُ بِكَلَامِهِ مِنْ جَادَّةِ الْمَعْنَى إِلَى جَانِبٍ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ جَنَّبَهُ، أَيْ جَعَلَهُ فِي جَانِبٍ. فَالتَّعْرِيضُ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا، غَيْرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِيبِ وَضْعًا، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ، مَعَ قَرِينَةٍ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ، فَعُلِمَ أَلَّا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ، وَتِلْكَ الْمُنَاسَبَةُ: إِمَّا مُلَازِمَةٌ أَوْ مُمَاثِلَةٌ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْعَافِي لِرَجُلٍ كَرِيمٍ: جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَلِأَنْظُرَ وَجْهَكَ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِرَادَتِهِمْ مِثْلَ
هَذَا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي قَوْلِهِ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَجَعَلَ الطِّيبِيُّ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: 116] . فَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ فِي مِثْلِ هَذَا حَاصِلٌ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ» فِي حَضْرَةِ مَنْ عُرِفَ بِأَذَى النَّاسِ، فَالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ حَاصِلٌ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ بِمُمَاثَلَةِ حَالِ الشَّخْصِ الْمَقْصُودِ لِلْحَالَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ شَبِيهَةً بِالْمُلَازَمَةِ- لِأَنَّ حُضُورَ الْمُمَاثِلِ فِي الذِّهْنِ يُقَارِنُ حُضُورَ مَثِيلِهِ- صَحَّ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَكَّبَاتِ شَبِيهٌ بِالْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيُّ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِالْمُرَكَّبِ فَخُصَّ بِاسْمِ التَّعْرِيضِ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّعْرِيضُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا هُوَ الْمُلَاقِي لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَالتَّعْرِيضُ عِنْدَهُ مُغَايِرٌ لِلْكِنَايَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ شَبِيهًا بِهَا، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ إِلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ التَّبَايُنُ. وَأَمَّا السَّكَّاكِيُّ فَقَدْ جَعَلَ بَعْضَ التَّعْرِيضِ مِنَ الْكِنَايَةِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ، فَصَارَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ الْوَجْهِيَّ، وَقَدْ حَمَلَ الطِّيبِيُّ وَالتَّفْتَازَانِيُّ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» عَلَى هَذَا، وَلَا إِخَالُهُ يَتَحَمَّلُهُ.
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ لَكَ مَعْنَى التَّعْرِيضِ، وَعَلِمْتَ حَدَّ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّرِيحِ فَأَمْثِلَةُ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ لَا تَخْفَى، وَلَكِنْ فِيمَا أُثِرَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ إِشْكَالٌ لَا يَنْبَغِي الْإِغْضَاءُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
إِنَّ الْمُعَرِّضَ بِالْخِطْبَةِ تَعْرِيضُهُ قَدْ يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ يُرِيدُهُ لِغَيْرِهِ بِوَسَاطَتِهِ، وَبَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَرْقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُتَشَابِهِ مِنَ التَّعْرِيضِ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِفَاطِمَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ آخِرَ الثَّلَاثِ «كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ»
أَيْ لَا تَسْتَبِدِّي بِالتَّزَوُّجِ قَبْلَ اسْتِئْذَانِي
وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِذا حللت فآذنيين»
وَبَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَهَذَا قَوْلٌ لَا خِطْبَةَ فِيهِ وَإِرَادَةُ الْمَشُورَةِ فِيهِ وَاضِحَةٌ.
وَوَقَعَ فِي «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ
زَوْجِهَا: «إِنَّكِ عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ» .
فَأَمَّا إِنَّكِ عَلَيَّ لَكَرِيمَةٌ فَقَرِيبٌ مِنْ صَرِيحِ إِرَادَةِ التَّزَوُّجِ بِهَا وَمَا هُوَ بِصَرِيحٌ، فَإِذَا لَمْ تَعْقُبْهُ مُوَاعَدَةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا فَأَمْرُهُ مُحْتَمَلٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ وَأَمْرُهُ مُشْكِلٌ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ إِلَى إِشْكَالِهِ بِقَوْلِهِ:«قَالُوا وَمِثْلُ إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ أَكْثَرُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَصْرِيحًا فَيَنْبَغِي تَرْكُ مِثْلِهِ» وَيُذْكَرُ عَنْ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم عَرَّضَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ، وَلَا أَحْسَبُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَحِيحًا.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ» : «قِيلَ إِنَّ شَيْخَنَا مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَيْدَرَةَ كَانَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ التَّعْرِيضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّعْرِيضُ مِنْهُمَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ كَصَرِيحِ الْمُوَاعَدَةِ» .
وَلَفْظُ النِّسَاءِ عَامٌّ لَكِنَّ خُصَّ مِنْهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَيُخَصُّ مِنْهُ الْمُطَلَّقَاتُ الرَّجْعِيَّاتُ بِدَلِيلِ الْقِيَاسِ وَدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ لَهَا حُكْمُ الزَّوْجَةِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ خِطْبَةِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي عِدَّتِهَا، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازَ التَّعْرِيضِ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ: مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَهُوَ يُخَالِفُ كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ لِأَنَّ لِلطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ شَائِبَتَيْنِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ التَّعْرِيضَ فِي الْمُعْتَدَّة بعد وَفَاةٍ وَمَنَعَهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا حَكَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الْإِكْنَانُ الْإِخْفَاءُ. وَفَائِدَةُ عَطْفِ الْإِكْنَانِ عَلَى التَّعْرِيضِ فِي نَفْيِ الْجُنَاحِ، مَعَ ظُهُورِ أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَزْمٍ فِي النَّفْسِ، فَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنْ عَزْمِ النَّفْسِ الْمُجَرَّدِ ضَرُورِيٌّ مِنْ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَنِ التَّعْرِيضِ، أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ تَكَلُّمُ الْعَازِمِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ جِبِلَّةً فِي الْبَشَرِ، لِضَعْفِ الصَّبْرِ عَلَى الْكِتْمَانِ، بَيَّنَ اللَّهُ مَوْضِعَ الرُّخْصَةِ أَنَّهُ الرَّحْمَةُ بِالنَّاسِ، مَعَ الْإِبْقَاءِ عَلَى احْتِرَامِ حَالَةِ الْعِدَّةِ، مَعَ بَيَانِ عِلَّةِ هَذَا التَّرْخِيصِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ الْحَرَجِ، فَفِيهِ حِكْمَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الَّذِي لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ.
وَأَخَّرَ الْإِكْنَانَ فِي الذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَبْقَى عَلَى مَا لِلْعِدَّةِ مِنْ حُرْمَةٍ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَادِرٌ وُقُوعُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ لَكَانَ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ الْإِكْنَانِ إِلَى ذِكْرِ التَّعْرِيضِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُ زَائِدَ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَشْمَلُهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَلَمْ يَتَفَطَّنِ السَّامِعُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَلَمَّا خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ
هَذِهِ
الْمُخَالَفَةَ تَرْمِي إِلَى غَرَضٍ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَلِيغِ فِي مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ عَلِمَ أَنَّكُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ كِتْمَانَ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، فَأَبَاحَ لَكُمُ التَّعْرِيضَ تَيْسِيرًا عَلَيْكُمْ، فَحَصَلَ بِتَأْخِيرِ ذِكْرِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَجَاءَ النَّظْمُ بَدِيعًا مُعْجِزًا، وَلَقَدْ أَهْمَلَ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ التَّعَرُّضَ لِفَائِدَةِ هَذَا الْعَطْفِ، وَحَاوَلَ الْفَخْرُ تَوْجِيهَهُ بِمَا لَا يَنْثَلِجُ لَهُ الصَّدْرُ (1) وَوَجَّهَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَوْجِيهِ الْفَخْرِ، وَلَكِنَّهُ لَا تَطْمَئِنُّ لَهُ نَفْسُ الْبَلِيغِ (2) .
فَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اسْتِدْرَاكٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ صَرَاحَةً وَتَعْرِيضًا إِذْ لَا يَخْلُو ذُو عَزْمٍ مَنْ ذِكْرِ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الْعِلْمِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنِ الْإِذْنِ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا تُرِيدُ: إِنِّي لَا أُؤَاخِذُكَ لِأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ تُؤَاخِذُهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِعْلَهُ، لَآخَذْتَهُ كَمَا قَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الْبَقَرَة: 187] هَذَا أَظْهَرُ مَا فُسِّرَ بِهِ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَقِيلَ: هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ لَا تُصَرِّحُوا وَتُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ تَعِدُوهُنَّ وَيَعِدْنَكُمْ بِالتَّزَوُّجِ.
وَالسِّرُّ أَصْلُهُ مَا قَابَلَ الْجَهْرَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ قُرْبَانِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْأَعْشَى:
وَلَا تَقَرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا
…
عَلَيْكَ حَرَامٌ فانكحن أَو تأبدوا
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْحَيِّ أَنَّنِي
…
كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ حَقِيقَتُهُ، فَيَكُونُ سِرًّا مَنْصُوبًا عَلَى الْوَصْفِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ أَيْ وَعْدًا صَرِيحًا سِرًّا، أَيْ لَا تَكْتُمُوا الْمُوَاعَدَةَ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَجَنُّبِ مُوَاعَدَةِ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ إِلَّا وَعْدًا مَعْرُوفًا، وَهُوَ التَّعْرِيضُ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَنْوَاعِ
(1) قَالَ الْفَخر: لما أَبَاحَ التَّعْرِيض وَحرم التَّصْرِيح فِي الْحَال قَالَ: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَي أَنه يعْقد قلبه على أَنه سيصرح بذلك فِي الْمُسْتَقْبل فالآية الأولى تَحْرِيم للتصريح فِي الْحَال وَالْآيَة الثَّانِيَة إِبَاحَة للعزم على التَّصْرِيح فِي الْمُسْتَقْبل.
(2)
قَالَ: فَائِدَة عطف أَوْ أَكْنَنْتُمْ الْإِشْعَار بالتسوية بَين التَّعْرِيض وَبَين مَا فِي النَّفس فِي الْجَوَاز أَي هما سَوَاء فِي رفع الْحَرج عَن صَاحبهمَا.
الْوَعْدِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، عُلِمَ النَّهْي عَن لمواعدة جَهْرًا بِالْأَوْلَى، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً مُتَّصِلٌ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ هُنَا كِنَايَة، أَي لَا تُوَاعِدُوهُنَّ قُرْبَانًا، وَكَنَّى بِهِ عَنِ النِّكَاحِ أَيِ الْوَعْدِ الصَّرِيحِ بِالنِّكَاحِ، فَيَكُونُ سِرًّا مَفْعُولًا بِهِ لِتُوَاعِدُوهُنَّ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ النِّكَاحِ، إِذِ النِّكَاحُ عَقْدٌ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَالْقَوْلُ خِطْبَةٌ: صَرَاحَةً أَوْ تَعْرِيضًا وَهَذَا بِعِيدٌ: لِأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً عَلَى كِنَايَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي التَّعْرِيجُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ حَظْرُ: صَرِيحِ الْخِطْبَةِ وَالْمُوَاعَدَةِ، وَإِبَاحَةُ التَّعْرِيضِ بِذَلِكَ يُلَوِّحُ بِصُوَرِ التَّعَارُضِ، فَإِنَّ مَآلَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ وَاحِدٌ، فَإِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَ الْخَاطِبِ وَالْمُعْتَدَّةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَخْطُبُهَا وَبِأَنَّهَا تُوَافِقُهُ، فَمَا فَائِدَةُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسَالِيبِ، إِنْ كَانَ الْمُفَادُ وَاحِدًا قُلْتُ: قَصَدَ الشَّارِعُ مِنْ هَذَا حِمَايَةَ أَنْ يَكُونَ التَّعَجُّلُ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا يُعَطِّلُ حِكْمَةَ الْعِدَّةِ، إِذْ لَعَلَّ الْخَوْضَ فِي ذَلِكَ يَتَخَطَّى إِلَى بَاعِثِ تَعَجُّلِ الرَّاغِبِ إِلَى عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بِالْبِنَاءِ بِهَا فَإِنَّ دَبِيبَ الرَّغْبَةِ يُوقِعُ فِي الشَّهْوَةِ، وَالْمُكَاشَفَةُ تُزِيلُ سَاتِرَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ مِنَ الْوَازِعِ الطَّبِيعِيِّ الْحَيَاءَ الْمَوْجُودَ فِي الرَّجُلِ، حِينَمَا يَقْصِدُ مُكَاشَفَةَ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا، وَالْحَيَاءُ فِي الْمَرْأَةِ أَشَدُّ حِينَمَا يُوَاجِهُهَا بِذَلِكَ الرَّجُلُ، وَحِينَمَا تَقْصِدُ إِجَابَتَهُ لِمَا يَطْلُبُ مِنْهَا، فَالتَّعْرِيضُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ يُؤْذِنُ بِمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ وَقَارِ الْحَيَاءِ فَهُوَ يَقْبِضُ عَنِ التَّدَرُّجِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ، وَإِيذَانُهُ بِهَذَا الِاسْتِحْيَاءِ يَزِيدُ مَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحَيَاءِ فَتَنْقَبِضُ نَفْسُهَا عَنْ صَرِيحِ الْإِجَابَةِ، بَلْهُ الْمُوَاعَدَةَ فَيَبْقَى حِجَابُ الْحَيَاءِ مَسْدُولًا بَيْنَهُمَا وَبُرْقُعُ الْمُرُوءَةِ غَيْرَ مُنَضًّى وَذَلِكَ من توفير شَأْنِ الْعِدَّةِ فَلذَلِك رخص فِي التَّعْرِيضَ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ، وَمَنَعَ التَّصْرِيحَ إِبْقَاءً عَلَى حُرُمَاتِ الْعِدَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الْعَزْمُ هُنَا عَقْدُ النِّكَاحِ لَا التَّصْمِيمُ عَلَى الْعَقْدِ، وَلِهَذَا فَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ، أُخِذَ مِنَ الْعَزْمِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ أَيْ لَا تُصَمِّمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَنَهَى عَنِ التَّصْمِيمِ لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ وَقَعَ مَا صَمَّمَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ:
نَهَى عَنِ الْعَزْمِ مُبَالَغَةً، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهِ، مِثْلُ النَّهْيِ مِنَ الِاقْتِرَابِ فِي قَوْلِهِ:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [الْبَقَرَة: 187] وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، كَقَوْلِهِمْ ضَرْبَةَ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَقِيلَ ضُمِّنَ عَزَمَ مَعْنَى أَبْرَمَ قَالَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» فِي الْبَابِ الثَّامِنِ.
وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَيِ الْمَفْرُوضِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ الْعِدَّةُ الْمَذْكُورَةُ بِالتَّعْرِيفِ لِلْعَهْدِ.
وَالْأَجَلُ الْمُدَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لِعَمَلٍ مَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُدَّةُ الْعِدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ بِتَمَامٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الْبَقَرَة: 234] آنِفًا.
وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَفِي تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ وَفِي إِبَاحَةِ التَّعْرِيضِ.
فَأَمَّا النِّكَاحُ أَيْ عَقْدُهُ فِي الْعِدَّةِ، فَهُوَ إِذَا وَقَعَ وَلَمْ يَقَعْ بِنَاءٌ بِهَا فِي الْعِدَّةِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَتَأَبَّدُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْعَاقِدِ أَوْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَحَكَى ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةَ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْعِدَّةِ فَفِيهِ الْفَسْخُ اتِّفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بن حَنْبَل بتأبد تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ أَصْلٌ ضَعِيفٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: بِفَسْخِ النِّكَاحِ وَلَا يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ بَعْدَ الْعِدَّةِ خَاطِبٌ مِنِ الْخِطَابِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ رَجَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا،
وَقَدْ تَزَوَّجَ رُوَيْشِدٌ الثَّقَفِيُّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ فِي عِدَّتِهَا فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ مَهْرَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ:«يَرْحَمُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَالُ الصَّدَاقِ وَبَيْتِ الْمَالِ، إِنَّمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا لِلسُّنَّةِ» قِيلَ لَهُ:
«فَمَا تَقُولُ أَنْتَ» ؟ قَالَ: «لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِمَا»
وَاسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَاضِي إِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ النَّاكِحِ فِي الْعِدَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ فِي حُكْمِهِ لِلْحُكْمِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّنَازُعُ فِي شَأْنِهِ لَدَيْهِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ التَّعْرِيجَ عَلَيْهِ، لَعَلَّهُمَا أَنْ يَأْخُذَا بِقَوْلِ مَنْ لَا يَرَوْنَ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ.