الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
من هو الحاكم بأمر الله الذي ألهه الدروز
؟
هذا الشخص هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي لقب بالحاكم بأمر الله، ولد سنة 375هـ وتولى الملك بعد موت أبيه في رمضان سنة 386هـ، وكان سادس الملوك العبيديين تولى الملك وعمره إحدى عشرة سنة.
ادعى الألوهية على يد حمزة بن علي، وغيره من ملاحدة الإسماعيلية سنة 408هـ، إلى أن قتل سنة 411هـ، ويذكر المؤرخون لهذا الحاكم أنه كان أسطورة في سفك الدماء وإرهاب الناس وكانت له مواقف متناقضة عجيبة وله غرائب كثيرة.
ومن غرائبه أنه كان دائماً يفتك بوزرائه ويقتلهم شر قتلة، يعين أحدهم في منصبه ثم يقتله ويعين آخر، فلا تمضي فترة بسيطة إلا وهو يتشحط في دمه، وقد قتل من العلماء والكتاب ووجوه الناس ما لا يحصى.
لقد كان الحاكم نفسه مثال الشذوذ، فقد كانت له تصرفات غريبة غير مفهومة فقد لبس الصوف سبع سنين وامتنع من دخول الحمام وأقام سنين يجلس في ضوء الشمع ليلاً ونهاراً. ثم عنَّ له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة.
ومن تناقضاته أنه مرة يأمر بسب الصحابة وبكتابة ذلك في المساجد، ثم يعود فيأمر به أن يمحى. وقد بنى المساجد الكثيرة ثم منع من صلاة التراويح عشر سنين ثم أباحها وأراق خمسة آلاف جرة من العسل في البحر خوفاً أن
تعمل نبيذاً، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهاراً. ثم أمر بقتل الكلاب كلها ثم عاد فمنع من ذلك، وهكذا كانت حياته مليئة بالمتناقضات والشذوذ وقد أثبت حمزة كثيراً من تناقضات الحاكم وتصرفاته المجانبة للعقل ثم أجاب عن كل ذلك تأويلات باطنية (1) .
ويقول السيوطي: ((إن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين.
وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً حتى إنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرها، وكان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً كثير التلون في أقواله وأفعاله)) (2) .
وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له وكان لا يركب إلا حماراً -فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبداً له يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى (3) وهو منكر لم يسبقه إليه أحد، وأما القتلى فقد قدر بعض العلماء ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات.
ومما يروى في إرهابه للناس: أنه أمر في سنة 395هـ بعمل شونة كبيرة مما
(1) انظر: طائفة الدروز ص 42 - 47، وفيها وصف كامل لكل حياة الحاكم وتصرفاته اليومية وأعماله وكل ما يقوم به. وانظر لمزيد التفاصيل: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 4 / 176، 177.
(2)
حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1 / 601.
(3)
البداية والنهاية 12 / 9، وانظر: طائفة الدروز ص 38 وقف على تشكيك د/ محمد كامل حسين في صحة ذلك.
يلي الجبل وملئت بالسنط والبوص والحلفاء؛ فارتاع الناس وظن كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامه بها وسرت في ذلك إشاعات مخيفة.
فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصوفون من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون ويسألون العفو عنهم ثم دخلوا القصر ورفعوا إلى الحاكم بواسطة قائد القواد -الحسين بن جوهر- ورقة يلتمسون فيها العفو. فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو.
ثم اشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم فضجوا واستغاثوا وطلبوا العفو والأمان فأجيبوا إلى ما طلبوا وتبعهم في الاستغاثة التجار وأرباب المهن والحرف. وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطبقات (1) .
وهذه حالة واحدة من أحوال الحاكم العديدة. وواضح من تلك السجلات العجيبة مدى بطشه بالناس واستهانته بسفك الدماء حتى صار الناس يطلبون العفو من غير جرم فعلوه. وكل ذلك كان تمهيداً لدعوى الألوهية.
وصورة كتاب الأمان هي: ((هذا كتاب عبد الله ووليه المنصور أبي علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين، وأمان جدنا محمد خاتم النبيين وأبينا علي خير الوصيين، وآبائنا الذرية النبوية المهديين صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين، وأمان أمير المؤمنين
(1) انظر: الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية لمحمد عبد الله عنان ص 59، عقيدة الدروز ص 48.
على النفس والحال والدم والمال، لا خوف عليكم ولا تمد يَدٌ بسوء إليكم إلا في حد يقام بواجبه وحق يؤخذ بمستوجبه فيوثق بذلك وليعول إن شاء الله)) (1) .
ولقد حيرت العلماء مواقف الحاكم واختلفت كلمتهم حول الحكم عليه ((فقد رفعه قوم إلى درجة الألوهية وهم الدروز، واعتقد فيه قوم أنه إمام المسلمين وخليفة رب العالمين وهم الإسماعيلية الفاطميون، وذهب أكثر المؤرخين إلى أنه كان شاذ الطباع مريضاً بالعقل يأتي بأعمال تضحك الثكلى تدل على الجنون، وهؤلاء هم مؤرخو العرب والمؤرخون المسيحيون)) (2) .
ولكن بالنظر إلى أن مدة الحاكم كانت من سنة 386 إلى سنة 411هـ يظهر أن الاعتذار عنه بأنه كان مجنوناً؛ كلام لا يلتفت إليه؛ لأنه من المحال أن يبقى في الحكم شخص مجنون مدة تصل إلى خمس وعشرين سنة.
بل كان سلوك الحاكم على تلك الصور إنما نشأ عن تأثير فكرة الألوهية، وأن كل ما صدر عنه من أعمال وأقوال إنما كان بدافع واحد وهو تأليهه، خصوصاً أنه تولى الحكم وهو صغير السن، وقد أحيط بهالة من التعظيم مما أسبغته العقيدة الإسماعيلية على أئمتها، فكان يطمح إلى أكثر من الملك.
إضافة إلى ما زينه له بعض زعماء المجوسية من الجرأة على تلك الدعوى بعد أن قربهم إليه وصاروا خاصته حتى أنسوه الدين والعقل، وبعد أن رأى كذلك دعوى ألوهية بعض أهل البيت عند السبئية وألوهية جعفر عند الخطابية
(1) طائفة الدروز ص 39 نقلاً عن المقريزي.
(2)
طائفة الدروز ص 31.