المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌ أهميّةُ الذِّكر وفضله

- ‌مِن فوائد الذِكر

- ‌ فوائدُ أخرى للذكر

- ‌ فضلُ مجالس الذكر

- ‌ ذِكرُ الله هو أزكى الأعمال وأفضلُها

- ‌ فضلُ الإكثار من ذكرِ الله

- ‌ تنوّع الأدلّة الدّالة على فضل الذِكر

- ‌ ذمُّ الغفلة عن ذكرِ الله

- ‌ من آداب الذِكر

- ‌ أفضلُ الذكر القرآن الكريم

- ‌ نزول القرآن في شهر رمضان

- ‌المطلوب من القرآن فهم معنيه والعمل به

- ‌ آدابُ حملة القرآن

- ‌ تفاضلُ سوَر القرآن، وفضل سورة الفاتحة

- ‌ فضل آية الكرسي، وسورة الإخلاص، وسُوَر أخرى

- ‌ وَسَطيَّةُ أهلِ القرآن

- ‌ أفضليَّةُ القرآن على مجرَّدِ الذكر

- ‌ فضلُ طلب العلم

- ‌أركان التعبد القلبية وغيره من العبادات

- ‌ ذكرُ الله بذكرِ أسمائه وصفاته

- ‌ أهمّيَّةُ العلم بأسماء الله وصفاته

- ‌ اقتضاء الأسماء والصفات لآثارها من العبوديّة لله

- ‌ العلمُ بأسماء الله وصفاته ومنهج أهل السنة في ذلك

- ‌ وصفُ أسماء الله بأنَّها حسنى ومدلول ذلك

- ‌ التحذير من الإلحاد في أسماء الله

- ‌ تدبّرُ أسماء الله وصفاته وعدم تعطيلها وعِظم أثر ذلك على العبد

- ‌ أسماءُ الله الحسنى غيرُ محصورة بِعددٍ معيَّنٍ وبيانُ المراد بقوله: "مَنْ أحصاها دخل الجنّة

- ‌ تفاضلُ الأسماء الحسنى، وذكرُ الاسم الأعظم

- ‌فضائل الكلمات الأربع: سبحان الله والحمد الله ولا أله إلا الله والله أكبر

- ‌ فضائل أخرى لهؤلاء الكلمات الأربع

- ‌ فضائل كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله

- ‌ فضائلُ أخرى لكلمة التوحيد لا إله إلاّ الله

- ‌ شروط لا إله إلاّ الله

- ‌ مدلولُ ومعنى كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله

- ‌ نواقض شهادة أن لا إله إلاّ الله

- ‌ بيان فساد الذِّكر بالاسم المفرد مظهَراً أو مضمَراً

- ‌ فضل التسبيح

- ‌ من فضائل التسبيح في السُّنَّة

- ‌ تسبيحُ جميع الكائنات لله

- ‌ معنى التسبيح

- ‌ فضلُ الحمدِ والأدلَّةُ عليه من القرآن

- ‌ الأدلّة من السنة على فضل الحمد

- ‌ المواطن التي يتأكّد فيها الحمد

- ‌ أعظم موجبات الحمد العلم بأسماء الرب وصفاته

- ‌ حمد الله على نعمه وآلائه

- ‌ حمدُ الله هو أفضلُ النِّعَم

- ‌ أفضلُ صِيَغِ الحمد وأكملُها

- ‌ تعريفُ الحمد، والفرقُ بينه وبين الشكر

- ‌ فضل الشكر

- ‌ حقيقة الشكر ومكانته عند السلف

- ‌ فضل التكبير ومكانته من الدِّين

- ‌ معنى التكبير وبيان مدلوله

- ‌ التلازم بين الكلمات الأربع

- ‌ حقيقة لا حول ولا قوة إلَاّ بالله

الفصل: ‌ أفضل الذكر القرآن الكريم

‌المجلد الأول

‌مقدمة

فقه الأدعية والأذكار

بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله.

{يَأَيّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلَاّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} .

{يَأُيَّهَا النَّاسُ اتّقُوا رَبَّكمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .

أمَّا بعد: فلا ريب أنَّ ذِكر الله ودعاءه هو خير ما أُمضيت فيه الأوقات وصُرفت فيه الأنفاس، وأفضل ما تقرّب به العبدُ إلى ربّه سبحانه وتعالى، وهو مفتاحٌ لكلِّ خير يناله العبد في الدنيا والآخرة "فمتى أعطى (الله) العبدَ هذا المفتاح فقد أراد أنْ يفتح له، ومتى أضلَّه بقي باب الخير مُرْتَجاً دونه"1 فيبقى مضطربَ القلب، مُشَوَّشَ الفؤاد، مُشَتَّتَ الفِكر، كثيرَ القلَقِ، ضعيفَ الهِمَّةِ والإرادةِ، أمّا إذا كان محافظاً

1 الفوائد لابن القيم (ص:127) .

ص: 5

على ذِكر الله ودعائه وكثرةِ اللجأ إليه فإنَّ قلبَه يكون مطمئناً بذكره لربِّه {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} 1، وينال من الفوائد والفضائل والثمار الكريمة اليانعة في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلَاّ الله تعالى.

فذِكر إلَهِ العرشِ سرًّا ومعلناً

يُزِيلُ الشَّقَا والهَمَّ عنك ويَطردُ

ويجلبُ للخيراتِ دنيا وآجلاً

وإنْ يأتِك الوَسواسُ يوماً يشَرَّدُ

فقد أخبَر المختارُ يوماً لصحبِه

بأنَّ كثيرَ الذِّكرِ في السَّبق مُفرِدُ

ووَصَّى معاذاً يَستَعين إلهه

على ذكرِه والشكر بالحسن يعبدُ

وأوصى لشخصٍ قد أتى لنصيحةٍ

وقد كان في حمْل الشرائِعِ يَجْهَدُ

بأنْ لا يزالَ رطباً لسانُك هذه

تُعينُ على كلِّ الأمورِ وتُسعِدُ

وأخبَرَ أنَّ الذِكرَ غَرسٌ لأهلِه

بجنَّاتِ عَدن والمساكنُ تُمْهَدُ

وأخبَر أنَّ الله يذكرُ عبدَهُ

ومَعْهُ عى كلِّ الأمرِ يُسَدِّدُ

وأخبَر أنَّ الذِّكرَ يبقى بجنّة

ويَنقطعُ التَّكليفُ حين يُخلَّدُوا

ولو لَم يكنْ في ذِكره غيرَ أنَّه

طريقٌ إلى حبِّ الإلَه ومُرشِدُ

ويَنهَى الفتَى عن غِيبةٍ ونَميمةٍ

وعن كلِّ قولٍ للدِّيانَةِ مُفسِدُ

لكان لنَا حَظٌّ عظيمٌ ورغبةٌ

بكثرةِ ذكرِ الله نعمَ المُوَحَّدُ

ولكنَّنَا من جَهلِنا قلَّ ذِكرُنا

كما قلَّ منَّا للإلَه التَّعبُّدُ2

ولهذا فإنَّ الأذكارَ الشرعية والأدعية النبويّة لها منزلةٌ عاليةٌ في

1 سورة الرعد، الآية:(28) .

2 ناظم هذه الأبيات هو الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله.

ص: 6

الدِّين، ومكانةٌ خاصّةٌ في نفوس المسلمين، وكُتُبُ الأذكار على تنوُعها تلقى في أوساطهم اهتماماً بالغاً وعنايةً فائقةً، ولا يمكن إحصاءُ ما كتبه أهلُ العلم قديماً وحديثاً في الذِّكر والدعاء لكثرة ما أُلِّف في ذلك، فمنهم الراوي الأخبارَ بالأسانيد، ومنهم الحاذف لها، ومنهم المطوِّل المسهب، ومنهم المختصِر والمتوسِّط والمهذِّب، مع تفاوت بينهم في جمع النصوص، وعرض الأدلة، وطرق تبويبها وتصنيفها، والاهتمام بشرحها وتوضيحها، إلى غير ذلك.

ناهيك أنَّ أهل الأهواء لهم في هذا الباب مؤلّفات كثيرة مشتملة على الشططِ والانحراف والبعدِ عن الحقِّ، بسبب عدم تقيّد مؤلِّفيها بالسنة وإعراضهم عن الالتزام بالمأثور.

هذا وقد دلَّ الكتابُ والسنَّةُ وآثارُ السلف على جنس المشروع والمستحبِّ في ذِكر الله ودعائه كسائر العبادات، وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمّته ما ينبغي لهم أن يقولوه من ذِكر ودعاء في الصباح والمساء، وفي الصلوات وأعقابها، وعند دخول المسجد، وعند النوم، وعند الانتباه منه، وعند الفزع فيه، وعند تناول الطعام وبعده، وعند ركوب الدابَّة، وعند السفر، وعند رؤية ما يحبّه المرء، وعند رؤية ما يكره، وعند المصيبة، وعند الهمِّ والحزن، أو غير ذلك من أحوال المسلم وأوقاته المختلفة.

كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه مراتب الأذكار والأدعية وأنواعَها وشروطَها وآدابها أتمَّ البيان وأكمله، وترك أمَّتَه في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين على محجّة بيضاء، وطريق واضحة، لا يزيغ عنها

ص: 7

بعده إلَاّ هالك، و "لا ريب أنَّ الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحرّاه المتحرِّي من الذِّكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبِّر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرَّماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون فيه شرك ممَّا لا يهتدي إليه أكثرُ الناس، وهي جملة يطول تفصيلها"1.

فالمشروع للمسلم هو أن يذكرَ الله بما شرع، وأن يدعوَ بالأدعية المأثورة، وقد نهى الله عن الاعتداء في الدعاء، فينبغي لنا أن نتبّع فيه ما شُرع وسنَّ، كما أنَّه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، وأنْ لا نعدل عن ذلك إلى غيره "ومن أشدِّ الناس عيباً من يتّخذ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزباً لبعض المشايخ، ويَدَعُ الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيِّد بني آدم، وإمام الخلق وحجّة الله على عباده"2، فالخير كلُّه في اتباعه، والاهتداء بهديه، وترسُّم خطاه، فهو القدوة والأسوة صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان أكملَ الناس ذِكراً لله وأحسنَهم قياماً بدعائه سبحانه.

ولهذا فإنَّه إذا اجتمع للعبد في هذا الباب لزومُ الأذكار النبوية والأدعية المأثورة مع فهم معانيها ومدلولاتها، وحضورِ قلبٍ عند الذِّكر فقد كمل نصيبُه من الخير.

1 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/510،511) .

2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/525) .

ص: 11

قال ابن القيّم رحمه الله: "وأفضل الذِّكر وأنفعُه ما واطأ القلبُ اللسانَ، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذَّاكر معانيه ومقاصده"1.

ولَمّا كان الأمر بهذه المنزلة وعلى هذا القدر من الأهمية نشأ عندي رغبةٌ في أنْ أعدَّ وأقدِّم ـ مع الاعتراف بالعجز وعدم الأهلية ـ دراسةً في الأذكار والأدعية النبوية في بيان فقهها وما اشتملت عليه من معان عظيمة، ومدلولات كبيرة، ودروس جليلة، وعِبرة مؤثّرة، وحِكم بالغة، واجتهدتُ في جمع كلام أهل العلم في ذلك، فاجتمع عندي من ذلك بحمد الله فوائدُ كثيرةٌ ولطائفُ عديدةٌ وتنبيهاتٌ دقيقةٌ من كلام أهل العلم المحقّقين، ولا سيما الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، ثمَّ نظَّمتُ ما اجتمع عندي من ذلك وألّفتُ بينه، وجعلته بعنوان:

"فقه الأدعية والأذكار"

وقد أُذيع جزءٌ كبير منه في حلقات عبر الإذاعة المباركة، إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية ـ حرسها الله ـ ولا يزال مستمرًّا عرضُه حتى الآن، وقد رغِب غيرُ واحد من مشايخي وإخواني أن أقوم بنشره مطبوعاً ليتنوّع مجالُ نفعه، ولتكثر فائدته، فأجريت عليه تعديلات يسيرة في أسلوبه ليكون مناسباً للنشر، وجعلتُ لكلِّ حلقة عنواناً خاصاً يدلُّ على مضمونها، ويُرشد إلى موضوعها، وسوف يصدر ـ بإذن الله ـ في مجموعات متناسبة الحجم والموضوع، وهذا هو القسم الأول منه، وإني لأرجو الله الكريم أن يتقبَّل مني هذا العمل

1 الفوائد لابن القيم (ص:247) .

ص: 12

وسائر أعمالي، وأن يُبارك فيه، وأن يجعله نافعاً لعباده المسلمين، فهو سبحانه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا نِعم الوكيل.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدّم بالشكر الجزيل لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى، الذي تفضَّل مشكوراً بقراءة هذا الكتاب والتعليق عليه1 والتقديم له على كثرة أعماله، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناته وأن يجزيه عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء، إنَّه سميع مجيب.

وكتب: عبد الرزاق البدر

غفر الله له، وعفا عنه، ورحمه، ووالديه وجميع المسلمين.

1 وقد جعلتُ تعليقاته حفظه الله بين معقوفين [] في داخل المتن.

ص: 13

1 /‌

‌ أهميّةُ الذِّكر وفضله

غيرُ خافٍ على كلِّ مسلم أهميّةُ الذكر وعظيمُ فائدته؛ إذ هو من أجلِّ المقاصد وأنفع الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى، وقد أمر الله به في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، ورغّب فيه، ومدح أهله وأثنى عليهم أحسن الثناء وأطيبه.

يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1، ويقول تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 2، ويقول تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 3، ويقول تعالى:{وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 4.

فأمر تعالى في هذه الآيات بذكره بالكثرة، وذلك لشدّة حاجة العبد إلى ذلك وافتقاره إليه أعظم الافتقار، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأيُّ لحظة خلا فيها العبدُ عن ذِكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظمَ ممّا ربح في غفلته عن الله، وندم على ذلك ندماً شديداً عند لقاء الله يوم القيامة.

1 سورة الأحزاب، الآية:(41) .

2 سورة البقرة، الآية:(200) .

3 سورة آل عمران، الآية:(191) .

4 سورة الأحزاب، الآية:(35) .

ص: 11

بل لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في شعب الإيمان للبيهقي، والحلية لأبي نعيم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّه قال:" ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلاّ تحسّر عليها يوم القيامة"1.

والسُّنّةُ مليئةٌ بالأحاديث الدّالة على فضل الذِّكر، ورفيع قدره، وعلوِّ مكانته، وكثرةِ عوائده وفوائده على الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات.

فقد أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذّهبي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئُكم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله"2.

وروى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"سبق المُفرِّدون، قالوا: وما المُفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذّاكرون الله كثيراً والذّاكرات"3.

1 شعب الإيمان (رقم:508) ، الحلية (5/362)، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:5720) .

2 سنن الترمذي (رقم:3377) ، سنن ابن ماجه (3790) ، والمستدرك (1/496)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629) .

3 صحيح مسلم (رقم:2676) .

ص: 12

وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَثلُ الذي يذكُرُ ربَّه والّذي لا يذكرُ ربّه مثَلُ الحيِّ والميِّت"1.

والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، ولعلّ من المناسب هنا والحديث ماضٍ بنا في فضل الذكر أن ألخِّص بعض ما ذكره أهلُ العلم من فوائد لذكر الله تعالى يَجنيها الذّاكرون في حياتهم الدُّنيا ويوم القيامة، ومن أحسن من رأيتُه تكلَّم في هذا الموضوع وجمع أطرَافَه، ولمَّ شَتاتَه الإمامُ العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله في كتابه العظيم الوابل الصيِّب من الكَلِمِ الطيِّب، وهو مطبوعٌ طبعاتٌ كثيرةٌ، ومُتَداوَلٌ بين أهل العلم وطلاّبه، فقد قال رحمه الله في كتابه المذكور2: وفي الذِّكر أكثرُ من مائة فائدة

، ثمّ أخذ يعدِّد فوائد الذِّكر، فذكر ما يزيد على السبعين فائدة، كلُّ واحدة منها بمفردها كافيةٌ لحفز النُّفوس وتحريك الهِمم للاشتغال بالذِّكر، كيف وقد اجتمعت تلك الفوائد الكُثار والعوائد الغِزار، والأمر فوق ما يصفه الواصفون، ويعدُّه العادُّون {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهْمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.

1 صحيح البخاري (رقم:6407) .

(ص:84) .

3 سورة السَّجدة، الآية:(17) .

ص: 13

ولعلّي أذكر لك أخي المسلم هنا فائدةً واحدةً من فوائد الذِّكر مما ذكره رحمه الله، على أن أستكمل لك بعض هذه الفوائد إن شاء الله، مع وصيَّتي لك باقتناء الكتاب المذكور والانتفاع به، فهو حقًّا كتابٌ عظيم النَّفع، كبيرُ الفائدة.

ـ فمن فوائد الذِّكر: أنّه يطردُ الشيطان ويقمعُه ويكسِرُه1، يقول الله تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2، ويقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3.

وثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم وغيرها بإسناد صحيح، من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنّ اللهَ سبحانه أمر يحيى بن زكريّا بخمس كلمات، أن يعمل بها، ويأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنّه كاد أن يُبطّئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إنّ الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها فإمّا أن تأمرهم وإمّا أن آمُرَهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسفَ بي أو أعذب، فجمع النّاسَ في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنّ اللهَ أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهنَّ

"4.

1 انظر: الوابل الصيّب (ص:84) .

2 سورة الزُّخرف، الآية:(36) .

3 سورة الأعراف، الآية:(201) .

4 المسند (4/202)، سنن الترمذي (رقم:2863) ، المستدرك (1/117، 118، 421)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1724)

ص: 14

فذكر أمرَهم بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصّدقة، ثمّ ذكر الخامسةَ فقال: "وآمُرُكم أن تذكروا اللهَ، فإنّ مَثَلُ ذلكَ كمَثَلِ رجُلٍ خرج العدوُّ في أثَرِه سراعاً حتى إذا أتى على حِصنٍ حصينٍ فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يحرزُ نفسَه من الشَّيطان إلاّ بذكر الله تعالى

"، إلى آخر هذا الحديث العظيم.

وقد وصفه العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله بأنَّه حديث عظيمُ الشَّأن، وينبغي لكلِّ مسلم حِفظُهُ وتعقُّلُه1.

فهذا الحديث مشتملٌ على فضيلةٍ عظيمةٍ للذِّكر، وأنّه يطرُد الشيطان، ويُنجي منه، وأنّه بمثابَة الحِصن الحصين والحِرز المكين الّذي لا يحرزُ العبدُ نفسَه من هذا العدوِّ اللّدود إلاّ به، وهذه ولا ريب فضيلة عظيمة للذِّكر؛ ولهذا يقول ابن القيّم رحمه الله: "فلو لم يكن في الذّكر إلاّ هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتُرَ لسانُه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهِجا بذكره، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوِّه إلاّ بالذِّكر، ولا يدخل عليه العدوُّ إلاّ من باب الغفلة، فهو يرصُدُه، فإذا غفل وثب عليه وافترسَه، وإذا ذكرَ اللهَ تعالى انخنس عدوُّ الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذّباب، ولهذا سُمِّيَ (الوسواسُ الخنَّاس)، أي: يوسوس في الصدور فإذا ذكرَ الله تعالى خنس أي كفَّ وانقبضَ.

1 الوابل الصيّب (ص:31) .

ص: 15

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: الشَّيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنَس"1.

فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من شرِّ الشيطان وشِركِه، ومن همزِه ونَفخِه ونفثِه، إنّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.

1 الوابل الصيب (ص:72) .

ص: 16

‌مِن فوائد الذِكر

لايزال الحديث موصولاً في بيان فوائد الذِّكر، وقد مرَّ معنا فيما سبق ذكرُ فائدةٍ واحدةٍ له وهي: أنّه حِرزٌ لصاحبه من الشيطان، فمن خلى من الذِّكر لازمه الشَّيطان ملازمة الظِّلِّ، والله يقول:{ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 1 ولا يستطيع العبدُ أن يُحْرِزَ نفسه من الشيطان إلاّ بذكر الله تعالى، وهذه فائدةٌ جليلةٌ من فوائد الذِّكر العديدة.

وكما مرَّ بنا فإنّ الإمام العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله عدّ في كتابه القيِّم الوابلُ الصّيِّب ما ينيف على السَّبعين فائدة للذِّكر، ونستكمل هنا بعضَ تلك الفوائد العظيمة، ممّا أورده رحمه الله في كتابه المُشار إليه آنفا2.

ـ فمن فوائد ذكر الله العظيمة: أنّه يجلُبُ لقلب الذَّاكر الفرَحَ والسرورَ والرَّاحةَ، ويورثُ القلبَ السكونَ والطُّمأنينةَ، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} 3، ومعنى قوله تعالى:{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي: يزول ما فيها من قلقٍ أو اضطراب، ويكون فيها بدَلَ ذلك الأنسُ والفرحُ والرَّاحة، وقوله:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} أي: حقيقٌ بها وحَرِيٌّ أن لا تطمئنَّ

1 سورة الزخرف، الآية:(36) .

2 وانظر: الوابل الصيب (ص:84 ـ 100) و (ص:145) .

3 سورة الرعد، الآية:(28) .

ص: 17

لشيءٍ سوى ذكره تبارك وتعالى.

بل إنّ الذكرَ هو حياةُ القلب حقيقةً، وهو قوتُ القلب والرّوح، فإذا فقده العبدُ صار بمنزلة الجسم إذا حيلَ بينَه وبين قوتِه، فلا حياةَ للقلب حقيقةً إلاّ بذكر الله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"الذِّكرُ للقلب مثلُ الماء للسَّمك، فكيف يكون حالُ السَّمك إذا فارق الماء"1.

ـ ومن فوائد ذكر العبد لِلَّه: أنّه يورثُه ذكرَ الله له، كما قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 2.

وفي الصّحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: "من ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم"3.

ـ ومن فوائده: أنّه يحطُّ الخطايا ويُذهبُها، ويُنجّي الذّاكرَ من عذاب الله، ففي المسند عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدميٌّ عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى"4.

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يترتّبُ عليه من العطاء والثّواب والفضل ما لا يترتَّبُ على غيره من الأعمال، مع أنَّه أيسرُ العبادات؛ فإنَّ حركة

1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:85) .

2 سورة البقرة، الآية:(152) .

3 صحيح البخاري (رقم:7405)، وصحيح مسلم (رقم:2675) .

4 المسند (5/239) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم5644) .

ص: 18

اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرُها، ولو تحرّك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشقّ عليه غاية المشقّة، بل لا يمكنُه ذلك، ومع هذا فالأجور المترتِّبة عليه عظيمةٌ والثّوابُ جزيلٌ.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائة مرّة كانت له عدلُ عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيِّئة، وكانت له حِرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل ممّا جاء به إلاّ رجلٌ عمل أكثر منه"1.

وفي الصّحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " من قال سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر"2.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَن أقول سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشّمسُ "3، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه غِراسُ الجنَّة، فالجنّة كما جاء في الحديث قيعانٌ، وهي طيِّبةُ التُّربة، عذبة الماء، وغِراسُها ذكرُ الله، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال

1 صحيح البخاري (رقم:3293،6403)، وصحيح مسلم (رقم:2691) .

2 صحيح البخاري (رقم:6405)، وصحيح مسلم (رقم:2691) .

3 صحيح مسلم (رقم:2695) .

ص: 19

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ ليلةَ أُسريَ بي إبراهيمَ الخليل عليه السلام فقال: يا محمّد أَقرئ أُمَّتك منّي السلام، وأخبِرهُم أنّ الجنّة طيِّبةُ التُّربة، عذبةُ الماء، وأنّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر"، قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ من حديث ابن مسعود1.

ورواه الإمامُ أحمد من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه، ولفظه:" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به مرَّ على إبراهيم فقال: مَنْ معك يا جبريلُ؟ قال: هذا محمّد، فقال له إبراهيم: مُرْ أمتك فليُكثروا من غِراس الجنّة، فإنّ تربتَها طيِّبة وأرضَها واسعةٌ، قال: وما غِراسُ الجنَّة؟ قال: لا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله". فهذا شاهدٌ للحديث الّذي قبله2.

وروى الترمذي من حديث أبي الزُّبير، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِست له نخلةٌ في الجنَّة"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح3.

ورواه الإمامُ أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من قال: سبحان الله العظيم، نبت له غرسٌ في الجنّة"4.

1 سنن الترمذي (رقم:3462)، وحسنه الألباني بما له من الشواهد في السلسلة الصحيحة (رقم:105) .

2 المسند (5/418) .

3 سنن الترمذي (رقم:3465)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:6429) .

4 المسند (3/440) .

ص: 20

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يكون نورًا للذَّاكر في الدنيا، ونورًا له في قبره، ونورًا له في مَعَاده، يسعى بين يديه على الصِّراط، فما استنارَت القلوبُ والقبورُ بمثل ذكر الله تعالى.

قال اللهُ تعالى: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1.

فالأوّل: هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله ومحبَّته ومعرِفتِه وذكرِه.

والآخرُ: هو الغافلُ عن الله تعالى، المعرِضُ عن ذكره ومحبَّته.

والشَّأنُ كلُّ الشَّأن والفلاحُ كلُّ الفلاح في النّور، والشَّقاءُ كلُّ الشَّقاءِ في فَواتِه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من سُؤال الله تبارك وتعالى ذلك بأن يجعَلَه في كلِّ ذرّاته الظّاهرة والباطنة، وأن يجعلَه محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاتَه وجملَتَه نوراً.

فقد خرّج مسلمٌ في صحيحه من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في ذكر دعاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل قال: "وكان في دعائه اللهمّ: اجعلْ في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخَلْفي نوراً، وعظِّم لي نوراً "، قال كُرَيب ـ أَحَدُ رواة الحديث ـ: وسبعًا في التَّابوت. فلَقيتُ بعضَ ولَد العبّاس فحدّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشَري، وذكر خصلتين2.

1 سورة الأنعام، الآية:(122) .

2 صحيح مسلم (رقم:763) .

ص: 21

فالذِّكرُ نورٌ لِقلب الذَّاكر ووجهِه وأعضائِه، ونورٌ له في دنياه وفي البرزخ وفي يوم القيامة.

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يوجبُ صلاةَ الله عز وجل وملائكتِه على الذّاكر، ومن صلَّى اللهُ عليه وملائِكتُه فقد أفلح كلَّ الفلاح، وفاز كلَّ الفوز، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينِ رَحِيماً} 1.

1 سورة الأحزاب، الآية:(41،42،43) .

ص: 22

3/‌

‌ فوائدُ أخرى للذكر

نواصل الحديثَ في عدِّ بعض فوائد الذِّكر، وذكر شيءٍ من منافعه وعوائده على الذَّاكرين في الدنيا والآخرة؛ وذلك من خلال ما ذكره الإمام العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله في كتابه الوابل الصيِّب1.

ـ فمِن فوائده: أنّ الذِّكر سببٌ لتصديق الرّبِّ عز وجل عبدَه، فإنّ الذَّاكرَ يُخبرُ عن الله تعالى بأوصاف كماله ونُعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبدُ صدَّقه ربُّه، ومن صدّقه اللهُ تعالى لم يُحشَر مع الكاذبين، ورُجي له أن يُحشر مع الصّادقين.

روى ابن ماجه، والترمذي، وابن حبّان، والحاكم، وغيرُهم عن أبي إسحاق، عن الأغرّ أبي مسلم، أنّه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"إذا قال العبدُ: لا إله إلاّ الله والله أكبر، قال: يقول الله تبارك وتعالى: صَدَقَ عبدي لا إله إلاّ أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملكُ وله الحمدُ، قال: صدق عبدي، لا إله إلا أنا لي الملكُ ولي الحمدُ، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوَّة إلاّ بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوَّة إلاّ بي".

ثمّ قال الأغرُّ شيئًا لم أفهمه، قلتُ لأبي جعفر: ما قال؟ قال:

1 انظر: الوابل الصيب (ص:160،164،142،143،144،132،153،154)

ص: 23

"من رُزِقَهُنَّ عند موته لم تمسَّه النَّار".

وقال الترمذي حديث حسن، وصحّحه الحاكم ووافقه الذّهبي، وقال الشيخ الألباني حفظه الله: وهو حديث صحيح1.

ـ ومن فوائده: أنّ كثرةَ ذكر عز وجل وسلم أمانٌ من النِّفاق، فإنّ المنافقين قليلو الذِّكر لله عز وجل، قال الله تعالى في المنافقين:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً} 2.

قال كعب: "من أكثر ذكرَ الله عز وجل برئ من النِّفاق".

ولعلّه لأجل هذا ختم اللهُ سورة المنافقين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 3.

فإنّ في ذلك تحذيرًا من فتنة المنافقين الّذين غَفَلوا عن ذكر الله عز وجل فوقَعُوا في النِّفاق والعياذُ بالله.

وقد سُئِل عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عن الخوارج: منافقون هم؟ فقال: "المنافقون لا يذكرون اللهَ إلاّ قليلاً".

فهذا من علامة النِّفاق، قلَّةُ ذكر الله عز وجل، وعلى هذا فكثرة ذكره تعالى أمانٌ من النِّفاق، واللهُ عز وجل أكرمُ مِن أن يبتلي قلبًا ذاكرًا بالنِّفاق، وإنّما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل.

1 سنن ابن ماجه (3794)، وسنن الترمذي (رقم:3430) ، وصحيح ابن حبان (رقم:851) ، ومستدرك الحاكم (1/5)، والسلسلة الصحيحة (رقم:1390) .

2 سورة النساء، الآية:(142) .

3 سورة المنافقون، الآية:(9) .

ص: 24

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه شفاءٌ للقلب، ودواءٌ لأمراضه، قال مكحول بن عبد الله رحمه الله:"ذكرُ الله تعالى شفاء، وذكرُ النّاس داء".

ثمّ إنَّ الذِّكرَ أيضا يُذهبُ قسوةَ القلب، ففي القلب قسوةٌ لا يُذيبُها إلاّ ذكرُ الله تعالى، جاء إلى الحسنِ البصري رحمه الله رجلٌ فقال: يا أبا سعيد: أشكو إليك قسوةَ قلبي، قال:"أَذِبْهُ بالذِّكر".

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّ الذَّاكرَ قريبٌ من مذكوره، ومذكورُه معه، وهذه المعيَّةُ معيَّةٌ خاصةٌ غيرُ معيَّة العلم والإحاطة العامّة، فهي معيَّةٌ بالقرب والولاية والمحبَّة والنُّصرة والإعانة والتَّوفيق، كقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1، وقولِه:{وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 2، وقوله:{وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} 3، فالذَّاكرُ له من هذه المعيَّة النَّصيبُ الوافر، كما في الحديث الإلهي:"أنا مع عبدي ما ذكَرني وتحرَّكَتْ بي شفَتاه"، رواه البخاري تعليقاً، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وغيرُهم4.

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه جَلَاّب للنِّعم، دافعٌ للنِّقم، فما استُجلِبت نعمة ولا استُدفِعت نِقمَة بمثل ذكر الله عز وجل، قال اللهُ تعالى: {إِنّ اللهَ

1 سورة النحل، الآية:(128) .

2 سورة البقرة، الآية:(249) .

3 سورة العنكبوت، الآية:(69) .

4 صحيح البخاري (8/572) ، والمسند (2/540)، وسنن ابن ماجه (رقم:3792) ، ومستدرك الحاكم (1/496) .

ص: 25

يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} 1، فدفاعُه تبارك وتعالى عنهم هو بحسَب قوَّة إيمانهم وكماله، ومادَّةُ الإيمان وقوَّتُه ذكرُ الله تعالى، فمن كان إيمانُه أكملَ، وذكرُه لله أكثرَ كان نصيبُه من دفاع الله عنه أعظمَ وحظُّه منه أوفرَ، ومن نَقَصَ نَقَص، ذِكْرًا بذكرٍ ونسيانًا بنسيانٍ.

ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّ إدامته تنوبُ عن الطّاعات، وتقوم مقامها سواءً كانت بَدَنيَّةً أو ماليّةً، أو بدنيَّةً ماليَّةً كحجِّ التَّطوُّع.

وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهلُ الدُّثور بالأجور والنَّعيم المُقيم، يُصلّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلُ أموالهم يحُجُّون بها ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدَّقون، فقال: ألا أُعلِّمُكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدَكم، ولا أحدٌ يكون أفضلَ منكم إلاّ من صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: تسبِّحون وتحْمدون وتكبِّرون خلف كلِّ صلاة

" إلى آخر الحديث، وهو متّفق عليه2.

فجعل الذِّكر عوضًا لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد، وأخبر أنَّهم يسبقونهم بهذا الذِّكر، فلما سمع أهلُ الدُّثور بذلك عملوا به، فازدادوا إلى صَدّقتهم وعبادتهم بمالِهم التعبُّدَ بهذا الذِكر، فحازوا الفضيلتين، فنافسهم الفقراء، وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّهم قد شاركوهم في ذلك، فانفردوا عنهم بما لا قدرة لهم عليه، فقال عليه

1 سورة الحج، الآية:(38) .

2 صحيح البخاري (رقم:843)، وصحيح مسلم (رقم:1006) .

ص: 26

الصلاة والسلام: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".

وفي حديث عبد الله بن بُسر رضي الله عنه الذي خرّجه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم قال: جاء أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله كثُرت عليّ خلالُ الإسلام وشرائعه، فأخبرني بأمرٍ جامعٍ يكفيني. قال:"عليك بذكر الله تعالى". قال: ويكفيني يا رسول الله؟ قال: "نعم، ويفضل عنك"1.

فدلّه الناصح صلى الله عليه وسلم على شيء يعينه على شرائع الإسلام والحِرص عليها، والاستكثار منها، فإنَّه إذا اتّخذ ذكرَ الله تعالى شعارَه، أحبّه وأحبَّ ما يحبّ، فلا شيء أحبُّ إليه من التقرّب بشرائع الإسلام، فدلّه صلى الله عليه وسلم ما يتمكّن به من شرائع الإسلام، وتسهلُ به عليه، فالذِّكرُ من أكبرِ العونِ على طاعة الله، فإنَّه يحبّبُها إلى العبد ويسهِّلها عليه، ويلذِّذُها له بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجده الغافلُ، ثم هو أيضاً يسهل الصعبَ، وييسِّرُ العسيرَ، ويخفّفُ المشاقَّ، فما ذُكر اللهُ على صعبٍ إلا هانَ، ولا على عسيرٍ إلا تيسَّرّ، ولا مشقّةٍ إلا خفَّت، ولا شدّةٍ إلا زالت، ولا كُربَةٍ إلا انفرجت، فذكرُ الله هو الفرجُ بعد الشدّةِ، واليسرُ بعد العسرِ، والفرحُ بعد الغمِّ، فاللهم إياك نسأل، وبأسمائك وصفاتكَ نتوسّل أن تجعلنا من عبادِك الذاكرين، وأن تعيذَنا برحمتكَ من سبيل المُعرِضين الغافلين، إنَّك على كلِّ شيء قدير.

1 سنن الترمذي (رقم:)، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

ص: 27

4/‌

‌ فضلُ مجالس الذكر

لقد مرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائد الذِّكر، وأنَّها كثيرةٌ لا تُحصى، وعديدةٌ لا تُستقصى، يعجز عن إحصائها المحصون، ولا يقدر على عدّها العادون، ولا يحيط بها إنسانٌ، ولا يُعبِّر عنها لسانٌ، كيف لا وهو من أجلِّ القُرُبات، وأفضل الطّاعات. وكم للذِّكر من فوائد مغدقةٍ، وثمار يانِعةٍ، وجنى لذيذٍ، وأكلٍ دائمٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة.

ومجالسُ الذِّكر هي أزكى المجالس وأشرَفُها، وأنفعُها وأرفعُها، وهي أعلى المجالس قدراً عند الله، وأجلُّها مكانةً عنده.

وقد ورد نصوصٌ كثيرةٌ في فضلِ مجالس الذِّكر، وأنّها حياةٌ للقلوب، ونماءٌ للإيمان، وصلاحٌ وزكاءٌ للعبد، بخلاف مجالس الغفلة الّتي لا يقوم منها الجالسُ إلاّ بنقصٍ في الإيمان، ووَهاءٍ في القلب، وكانت عليه حسرةٌ وندامة.

وكان السَّلفُ رحمهم الله يهتمّون بهذه المجالس أعظمَ الاهتمام، ويعتنون بها غاية العناية، كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول:"تعالوا نؤمن ساعةً، تعالوا فلنذكُر الله، ونزدادُ إيماناً بطاعته، لعلّه يذكرُنا بمغفرته".

وكان عُمير بن حبيب الخطميُّ رضي الله عنه يقول: "الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبَّحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيَّعنا ونسينا فذلك

ص: 28

نقصانه"، والآثار عنهم في هذا المعنى كثيرةٌ1.

إنَّ مجالسَ الذِّكر هي رياضُ الجنّة في الدنيا، روى الإمام أحمدُ والترمذي وغيرُهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حِلَقُ الذِّكر "2.

ورواه ابن أبي الدنيا والحاكم وغيرُهما، من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيُّها النَّاس ارتعوا في رياض الجنّة، قلنا: يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذِّكر"، ثمّ قال:"اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يحبُّ أن يعلم منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلةُ الله تعالى عنده، فإنّ الله تعالى يُنزل العبدَ منه حيث أنزله من نفسه"3.

وهو حسنٌ بهذين الطريقين المذكورين4.

قال ابن القيِّم رحمه الله: "من شاء أن يسكن رياض الجنّة في الدنيا فليستوطن مجالس الذِّكر، فإنّها رياض الجنّة"5.

ومجالس الذِّكر هي مجالسُ الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم

1 سنن الترمذي (رقم:)، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

1 انظر كثيراً من هذه الآثار مخرّجة في كتاب "زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه" لعبد الرزاق البدر (ص:106 وما بعدها) .

2 المسند (3/150)، وسنن الترمذي (رقم:3510) .

3 المستدرك (1/494) .

4 وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم:2562) .

5 الوابل الصيب (ص:145) .

ص: 29

مجلسٌ إلا مجلسٌ يُذكرُ اللهُ تعالى فيه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله ملائكةً فُضُلاً، يطوفون في الطُّرق يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السّماء الدنيا، قال: فيسألُهم ربُّهم تعالى وهو أعلمُ بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يُسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لك تحميداً وتمجيداً، وأكثرَ لك تسبيحاً، قال: فيقول: ما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنّة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو أنّهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنّهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حِرصاً، وأشدَّ لها طلبًا، وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فيقول: فممَّ يتعوّذون؟ قال: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا ربّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً، وأشدَّ لها مخافةً، قال: يقول: فأشهدُكم أنّي قد غفرتُ لهم. قال: فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء لحاجة، قال: همُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسُهم"1.

فمجالس الذِّكر مجالسُ الملائكة، ومجالس اللّغو والغفلة مجالس الشَّياطين، وكلٌّ مضاف إلى شكله، وكلُّ امرئ يصير إلى ما يناسبه،

1 سنن الترمذي (رقم:)، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

1 صحيح البخاري (رقم:6408)، وصحيح مسلم (رقم:2689) .

ص: 30

فليختر العبدُ أعجبهما إليه، وأولاهما به، والذَّاكر يسعد به جليسه بخلاف الغافل واللاغي فإنّه يشقى به جليسه ويتضرّر1.

ومجالسُ الذِّكر تُؤمِّنُ العبدَ من الحسرة والنّدامة يوم القيامة، بخلاف مجالس اللهو والغفلة، فإنَّها تكون على صاحبها حسرةٌ وندامةٌ يوم القيامة، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قعدَ مقعدًا لم يذكُر اللهَ تعالى فيه، كانت عليه من اللهِ تعالى تِرَةٌ، ومن اضطجع مضطجعًا لا يذكر اللهَ فيه كانت عليه من الله تعالى تِرَة"2، أي: نقصٌ وتبعةٌ وحسرةٌ.

ومن شرَف مجالس الذِّكر وعلوِّ مكانها عند الله، أنَّ الله عز وجل يُباهي بالذَّاكرين ملائكته، كما روى مسلمٌ في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاويةُ على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى. قال: آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال: أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ عنه حديثًا منّي، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال:"ما أجلسكم؟ "، قالوا: جلسنا نذكرُ اللهَ تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: "آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذاك؟ "، قالوا: والله ما أجلسنا إلاّ ذاك، قال:"أما إنّي لم أستحْلِفْكم تُهمَةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أنَّ الله تبارك يُباهي بكم الملائكة"3.

1 سنن الترمذي (رقم:)، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:146 ـ 148) .

2 سنن أبي داود (رقم:4856)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم:87) .

3 صحيح مسلم (رقم:2701) .

ص: 31

فهذه المباهاةُ من الرّبِّ دليلٌ على شرف الذِّكر عند الله، ومحبّته له، وأنّ له مزيّةً على غيره من الأعمال1.

ومجالس الذِّكر سببٌ لنزول السّكينة، وغِشيان الرَّحمة، وحفوف الملائكة بالذَّاكرين فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي مسلم الأغرّ، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لايقعد قومٌ في مجلس يذكرون اللهَ فيه إلاّ حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهمُ الرَّحمة، ونزلت عليهم السّكينة، وذكرهم اللهُ فيمن عنده"2.

ومجالس الذِّكر سببٌ عظيم من أسباب حفظ اللِّسان، وصونه عن الغِيبة والنَّميمة، والكذب والفُحش والباطل، فإنّ العبدَ لا بُدَّ له من أن يتكلّم، فإن لم يتكلّم بذكر الله تعالى وذكر أوامره وبالخير والفائدة، تكلّم ولا بُدَّ بهذه المحرّمات أو بعضها، فمن عوّد لسانه على ذكر الله، صان لسانَه عن الباطل واللّغو، ومن يَبَسَ لسانُه عن ذكر الله نطق بكلِّ باطل ولغوٍ وفحش3.

واللهَ المسئول أن يعمرَ أوقاتنا وأوقاتكم بطاعته، وأن يشغلنا مجالسنا ومجالسكم بذكره وشكره وحُسن عبادته، وأن يقيَنا من مجالس الغفلة واللهو والباطل، فإنهّ خير مسئول، وهو وحده المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاّ به.

1 سنن الترمذي (رقم:)، وسنن ابن ماجه (رقم:3793) ، ومستدرك الحاكم (1/495) .

1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:148،149) .

2 صحيح مسلم (رقم:2700) .

ص: 32

5/‌

‌ ذِكرُ الله هو أزكى الأعمال وأفضلُها

إنَّ ذكرَ الله جلَّ وعلا هو أزكى الأعمال وخيرُها وأفضلُها عند الله تبارك وتعالى، ففي المسند للإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم، وغيرها من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر عز وجل "1.

فهذا الحديث العظيم أفاد فضيلة الذِّكر، وأنّه يعدل عتق الرِّقاب، ونفقة الأموال، والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل.

قال ابنُ رجب رحمه الله: "وقد تكاثرت النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصّدقة بالمال وغيره من الأعمال"2. ثمّ أورد حديث أبي الدرداء المتقدِّم، وجملة من الأحاديث الأخرى الدّالة على المعنى نفسه.

وقد روى ابنُ أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب للمنذري3، وقال: إسناده حسن، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل

1 المسند (5/195) ، سنن ابن ماجه (3790)، والمستدرك (1/496) . وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629) .

2 جامع العلوم والحكم (ص:225) .

(2/395) .

ص: 33

لأبي الدرداء: إنّ رجلا أعتق مائة نسَمة قال: "إنّ مائة نسَمة من مال رجل كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنّهار وأن لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله".

فبيّن رضي الله عنه فضل عتق الرِّقاب وأنّه مع عظم فضله لا يعدل ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، وقد جاء في هذا المعنى آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ رحمهم الله.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لأَنْ أُسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبُّ إليَّ من أن أُنفق عددهن دنانير في سبيل الله".

وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فقال عبد الله ابن مسعود: لأَن آخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل، فقال عبد الله بن عمرو:"لأن آخذ في طريق فأقولهنّ أحبُّ إليَّ من أن أحمل عددهنّ على الخيل في سبيل الله عز وجل ".

وكذلك قال غيُر واحدٍ من الصحابة والتّابعين، إنّ الذِّكر أفضل من الصّدقة بعدده من المال1.

والآثارُ في هذا المعنى عنهم كثيرةٌ، وهي لا تعني لا من قريب ولا من بعيد التّقليل من شأن النّفقة في سبيل الله، والحمل على الخيل في سبيله، وعتق الرِّقاب في سبيله، وإنَّما المرادُ بها تعليةُ شأن الذِّكر، وبيانُ عظيم قدره، ورِفعة مكانته، وأنّه لا يعدله شيءٌ من هذه الأمور، بل إنّ الأعمال كلَّها والطّاعات جميعها إنّما شرعت لإقامة ذكر الله،

1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص:225،226) .

ص: 34

والمقصودُ بها تحصيل ذكر الله تعالى.

ولهذا يقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 1، أي: أقم الصلاة لأجل ذكر الله جلّ وعلا، وهذا فيه تنبيهٌ على عظيم قدر الصلاة؛ إذ هي تضرُّعٌ إلى الله تعالى، وقيامٌ بين يديه، وسؤالٌ له تبارك وتعالى، وإقامةٌ لذكره. وعلى هذا فالصلاة هي الذِّكر، وقد سمّاها الله تعالى ذكراً، وذلك في قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} 2، فسمّى الصّلاة هنا ذكراً؛ لأنّ الذِّكر هو روحُها ولُبُّها وحقيقتُها، وأعظمُ النّاس أجرًا في الصّلاة أقواهم وأشدُّهم وأكثرهم فيها ذكرًا لله تعالى. وهكذا الشّأنُ في كلِّ طاعة وعبادةٍ يتقرّب بها العبدُ إلى الله.

روى الإمامُ أحمد، والطبراني من طريق عبد الله بن لهيعة، قال: حدّثنا زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً يا رسول الله؟ فقال: "أكثرهم لله ذكرًا". فقال: فأيُّ الصّائمين أكثرُهم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، ثمّ ذكر الصّلاة والزكاة والحجّ والصّدقة، كلُّ ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكثرُهم لله ذكرًا". فقال أبو بكر لِعُمر رضي الله عنهما: ذهب الذّاكرون بكلّ خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجَل "3.

1 سورة طه، الآية:(14) .

2 سورة الجمعة، الآية:(9) .

3 المسند (3/438)، والمعجم الكبير للطبراني (20/رقم:407) .

ص: 35

قال الهيثمي رحمه الله: "وفيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وُثِّق، وكذلك ابن لهيعة"1. اهـ.

لكن له شاهدٌ مرسلٌ بإسناد صحيح، رواه ابن المبارك في الزُّهد قال: أخبرني حيوةُ قال: حدّثني زُهرة بنُ معبَد أنّه سمع أبا سعيد المقبُري يقول: قيل: يا رسول الله أيُّ الحاج أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قال: فأيُّ المصلّين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قال: فأيّ الصّائمين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله ذكراً"، قال: فأيُّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ فقال: "أكثرهم لله ذكرًا". قال زُهرة: فأخبرني أبو سعيد المقبُري: أنّ عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: ذهب الذّاكرون بكلِّ خير2.

وله شاهدٌ آخر أورده ابن القيِّم في كتابه الوابل الصيِّب قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا حديثاً مرسلاً أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل أيُّ أهل المسجد خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: أيُّ أهل الجنازة خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: فأيُّ المجاهدين خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قيل: فأيُّ الحُجّاج خير؟ قال: "أكثرهم ذكراً لله عز وجل "، قيل: وأيُّ العوّاد خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا لله عز وجل "، قال أبو بكر: ذهب الذّاكرون بالخيركلِّه3.

فالحديث بشاهديه صالحٌ للاحتجاج إن شاء الله، ومعناه الّذي دلَّ

1 مجمع الزوائد (10/74) .

2 الزهد (رقم:1429) .

3 الوابل الصيب (ص:152) .

ص: 36

عليه حقٌ لا ريب في صحّته. يقول ابن القيِّم رحمه الله: "إنّ أفضل أهل كلِّ عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل، فأفضلُ الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدّقين أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وأفضلُ الحجّاج أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال"1، ثمّ أورد الحديث المتقدّم، وأورد عقبه عن عبيد بن عُمير رحمه الله أنّه قال:"إنْ أَعْظَمَكم هذا اللّيلُ أن تُكابدوه، وبَخِلتم بالمال أن تنفقوه، وجنبتم عن العدوِّ أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله عز وجل ".

فذِكرُ الله تعالى هو أفضل الأعمال، وهو أكبر من كلِّ شيء، يقول الله جلّ وعلا:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} 2، أي: ذكرُ الله لكم أكبرُ من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، وهو ذاكرٌ مَن ذَكَرَه، قال معناه ابنُ مسعود وابن عبّاس وأبو الدرداء وأبو قرَّة وسلمانُ والحسنُ، واختاره ابن جرير الطبري. وقيل: ذِكْرُكُم الله في صلاتكم وفي قراءة القرآن أفضلُ من كلِّ شيء. قال ابن زيد وقتادة: ولَذِكرُ الله أكبرُ من كلِّ شيء، أي أفضل من العبادات كلُّها بغير ذكر. وقيل المعنى: إنّ ذكر الله أكبر مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصّحيح أنّ معنى الآية أنّ الصّلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى، ولِمَا

1 الوابل الصيب (ص:152) .

2 سورة العنكبوت، الآية:(45) .

ص: 37

فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر"1. اهـ كلامه رحمه الله.

وقد سُئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: "أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن: ولذكرُ الله أكبر".

وذكر ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: "ذكرُ الله أكبر"2.

فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، ملءَ سمواتِه، وملءَ أرضِه، وملءَ ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، لا ينقطع ولا يبيد ولا يفنى، عدد ما حمده الحامدون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، عدد خلقه ورضا نفسه وزِنة عرشه ومِدادَ كلماته، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

1 نقله ابن القيم في الوابل الصيب (ص:152) .

2 وانظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:149 ـ 153) .

ص: 38

6/‌

‌ فضلُ الإكثار من ذكرِ الله

لقد أمَرَ الله في كتابه عبادَه المؤمنين بالإكثار من ذكره قيامًا وقُعودًا وعلى الجنوب، بالليل والنّهار، وفي البرِّ والبحر، وفي السّفر والحضر، وفي الغنى والفقر، وفي الصّحة والسقم، وفي السّرِّ والعَلَن، وفي كلِّ حال، ورتّب لهم على ذلك جزيلَ الأجرَ، وعظيمَ الثّوابَ، وجميلَ المآبَ.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكْرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} 1.

ففي هذه الآية الحثُّ على الإكثار من ذكر الله تعالى، وبيانُ ما يترتَّبُ على ذلك من أجرٍ عظيمٍ وخيرٍ عميمٍ، وقوله:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} فيه أعظمُ التّرغيب في الإكثار من ذكر الله، وأحسنُ حظٍ على ذلك، أي: أنّه سبحانه يَذْكُرُكُم فاذكروه أنتم، وهو نظيرُ قولِه تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعلِّمُكُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} 2 فالجزاء من جنس العمل، فمن ذكر اللهَ في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره الله في ملأٍ خير منهم، ومن نسي الله نسيه الله.

1 سورة الأحزاب، الآيات:(41 ـ 44) .

2 سورة البقرة الآية: (151،152) .

ص: 39

فالمكثرون من ذكر الله لهم الحظُّ الأوفر، والنَّصيب الأكمل من ذكر الله لهم، وصلاتِهِ عليهم وملائكتِهِ. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أنّه قال: فإذا فعلتم ذلك ـ أي أكثرتم من ذكر الله ـ صلّى اللهُ عليكم هو وملائكتُه.

وصلاةُ الله على عباده الذّاكرين له، هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى عند الملائكة الكرام البررة، وصلاةُ الملائكة عليهم هي بمعنى الدعاء لهم والاستغفار، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 1.

وقد حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية رحمه الله، أنّه قال في معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ وَملَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2 "صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء"3.

ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى بسبب رحمته بالذّاكرين الله كثيرًا، وثنائِهِ عليهم، ودعاءِ ملائكته لهم، يخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ولهذا قال:

1 سورة غافر، الآيات:(7 ـ 9) .

2 سورة الأحزاب، الآية:(56) .

3 صحيح البخاري كتاب التفسير (6/326) .

ص: 40

{هُوَ الّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1 من ظلمات الجهل والضّلال إلى نور الهدى واليقين، ثمّ قال تعالى:{وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أي: في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فإنَّه هداهم إلى الحقِّ الّذي جهله غيرُهم، وبصّرهم الطريق الّذي ضلّ عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة أو الباطل، وأمّا رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقّونهم بالبشارة بالفوز بالجنّة والنّجاة من النَّار، وما ذاك إلاّ لمحبّته لهم ورأفته بهم، جعلنا الله وإيّاكم منهم.

ويقول الله تعالى في آية أخرى مبيِّنًا فضل الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، منوِّهًا بشأنهم، معليًا لذكرهم، مبيِّنًا لعظيم أجرهم وثوابهم، {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ واَلصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّآئِمِينَ وَالصَّآئِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 2.

أي: هيّأ لذنوبهم الصّفح والغفران، ولأعمالهم الصّالحة الأجرَ العظيم والدّرجات العالية في الجنان، ممّا لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب إنسان.

إنّ الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات همُ المفرِدون السّابقون إلى الخيرات، المحظوظون بأرفع الدرجات وأعلى المقامات، روى مسلم في

1 سورة الأحزاب، الآية:(43) .

2 سورة الأحزاب الآية: (35)

ص: 41

صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكّة فمرّ على جبل يقال له جُمْدان فقال: سيروا هذا جُمدان، سبق المفرّدون. قالوا: وما المفرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات "1.

وقد فسّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفردين بأنّهم الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات، وأصلُ المفردين كما يقول ابن قتيبة وغيره: الّذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى.

إنّ من يتأمّلُ هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة الواردة في بيان عظيم أجر الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات، وجزيل ثوابهم، وما أعدّ الله لهم من النّعيم المقيم، والثّواب الكبير يوم القيامة لتتحرّك نفسه شوقًا وطمعًا، ويهتزُّ قلبُه حبًّا ورغبًا في أن يكون من هؤلاء، أهلِ هذا المقام الرّفيع والمنزلة العالية.

ولكن بما ينالُ العبدُ ذلك؟ وهذا سؤالٌ عظيم يجدر بكلِّ مسلم أن يقف عنده ويعرف جوابه، وقد جاء عن السّلف في معنى الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات نقولٌ عديدةٌ منها:

ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: المراد: يذكرون الله في أدبار الصّلوات وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلّما استيقظ من نومه، وكلّما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى.

وقال مجاهد: "لا يكون من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات حتّى يذكر الله قائما وقاعدًا ومضطجعًا".

1 صحيح مسلم (رقم:2676) .

ص: 42

وقال عطاء: "من صلّى الصّلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول الله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 1"2.

ومن صفة هؤلاء: الصّلاةُ من الليل، فقد روى أبو داود وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم، بإسناد صحيح، صحّحه الحاكم والذّهبي والنّووي والعراقي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أيقظ الرّجل أهله من الليل فصلّيا أو صلّى ركعتين جميعاً كُتِبا من الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات "3.

وقد سُئل أبو عمرو بن الصّلاح فيما نقله النووي رحمه الله عنه في كتاب الأذكار عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات فقال: "إذا واظب على الأذكار المأثورة المُثبتة صباحًا ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهارًا، وهي مبيّنة في كتاب عمل اليوم والليلة، كان من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات"4.

ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرّحمن بن سعدي رحمه الله: "وأقلُّ ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصّباح والمساء وأدبار الصّلوات الخمس وعند العوارض والأسباب، وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات على جميع الأحوال، فإنَّ ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح،

1 سورة الأحزاب، الآية:(35) .

2 انظر: هذه الآثار في الأذكار للنووي (ص:9، 10) .

3 سنن أبي داود (رقم:1309)، سنن ابن ماجه (رقم:1335) ، ومستدرك الحاكم (1/316)، وصحح العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:6030) .

4 نقله النووي في الأذكار (ص:10) .

ص: 43

وداعٍ إلى محبّة الله ومعرفته، وعونٍ على الخير وكفِّ اللّسان عن الكلام القبيح"1. اهـ كلامه رحمه الله.

وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإيّاكم من الذَّاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات، ومن الذين أعدّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

1 تيسير الكريم الرّحمن (6/112) .

ص: 44

7/‌

‌ تنوّع الأدلّة الدّالة على فضل الذِكر

مرّ معنا فضيلةُ الذِّكر وعظيمُ أجره، وبيان ما أعدّه الله لأهله من جميل الثّواب، وكريم المآب، وحُسن العاقبة، وهناءة العيش، ومرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائده العطِرة، وثماره الكريمة اليانعة، وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة.

ولمّا كان الذِّكر بهذه المنزلة الرّفيعة والدّرجة العالية، فإنّ دلالات النصوص المبيِّنة لفضله جاءت متنوِّعة، وكان مجيئه في القرآن الكريم على وجوه كثيرة، وهي بمجموعها وأفرادها تدلُّ على عظيم شأن الذِّكر وجليل قدره.

وقد ذكر الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه مدارج السّالكين1: أنَّ الذِّكر ورد في القرآن الكريم على عشرة أوجه، ذكرها مجملة، ثمّ أورد بعد ذلك تفصيلها. قال رحمه الله:

الأوّل: الأمرُ به مطلقاً ومقيّداً.

الثاني: النّهي عن ضدّه من الغفلة والنسيان.

الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته.

الرّابع: الثناء على أهله، والإخبار بما أعدّ الله لهم من الجنّة والمغفرة.

الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره.

السادس: أنّه سبحانه جعل ذكره لهم جزاءً لذكرهم له.

السابع: الإخبار بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء.

1 انظره (2/424 وما بعدها) .

ص: 45

الثامن: أنّه جعله خاتمة الأعمال الصالحة، كما كان مفتاحها.

التاسع: الإخبار عن أهله بأنّهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنّهم أولو الألباب دون غيرهم.

العاشر: أنّه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح.

ثم قال رحمه الله في بيان تفصيل هذه الأوجه العشرة:

ـ أمّا الأوّل: وهو الأمر به مطلقاً ومقيّداً، فكقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهََ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1، وقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضُرُّعاً وَخِيفَةً} 2.

ـ وأمّا النهي عن ضدّه فكقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 3، وقوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 4.

ـ وأمّا تعليق الفلاح بالإكثار منه فكقوله: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5.

ـ وأمّا الثناء على أهله وحسن جزائهم فكقوله: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ

1 سورة الأحزاب، الآية:(41،42،43) .

2 سورة الأعراف، الآية:(205) .

3 سورة الأعراف، الآية:(205) .

4 سورة الحشر، الآية:(19) .

5 سورة الجمعة، الآية:(10) .

ص: 46

أَعَدَّ اللهُ لَهْمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.

ـ وأمّا خسران من لها عنه فكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 2.

ـ وأمّا جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له، فكقوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونَ} 3، وذكر العبد لربِّه محفوف بذكرين من ربِّه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكورًا، فذكر الربّ لعبده نوعان: نوعٌ قبل ذكر العبد لربِّه، ونوعٌ بعده.

ـ وأمّا الإخبار عنه بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، فكقوله تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} 4.

ـ وأمّا ختم الأعمال الصالحة به، فكما ختم به عمل الصيام بقوله:{ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 5، وختم به الحجّ في قوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 6، وختم به الصلاة بقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ

1 سورة الأحزاب، الآية:(35) .

2 سورة المنافقون، الآية:(9) .

3 سورة البقرة، الآية:(152) .

4 سورة العنكبوت، الآية:(205) .

5 سورة البقرة، الآية:(185) .

6 سورة البقرة، الآية:(200) .

ص: 47

قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} 1، وختم به الجمعة بقوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخرُ كلام العبد أدخله الله الجنة.

ـ وأمّا اختصاص الذّاكرين بالانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول، فكقوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم} 3.

ـ وأمّا مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنّه روحها، فإنّه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 4، وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه، بل هو روح الحج ولبِّه ومقصوده، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنّما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله". وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران، ومكافحة الأعداء فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5.

فهذه وجوهٌ عشرةٌ ورد فيها الذِّكر في القرآن الكريم، وذُكِرَ لكلِّ

1 سورة النساء، الآية:(103) .

2 سورة الجمعة، الآية:(10) .

3 سورة آل عمران، الآية:(191) .

4 سورة طه، الآية:(14) .

5 سورة الأنفال، الآية:(45) .

ص: 48

وجه منها بعضُ أمثلة من الآيات القرآنية، والقرآن الكريم مليءٌ بالآيات المندرجة تحت هذه الأنواع، وهي يسيرة الحصول، قريبة المتناول لمن قرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته، وما أحسن وأروع ما قاله الإمامُ الشَّوكاني رحمه الله في سياق آخر وهو ينطبق على سياقنا هذا تمام الانطباق حيث قال رحمه الله:"واعلم أن إيراد الآيات القرآنية على إثبات كلِّ مقصد من هذه المقاصد لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم، فإنّه إذا أخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في أيِّ موضع شاء، ومن أيِّ مكان أحبَّ، وفي أيِّ محلٍ أراد، ووجده مشحوناً به من فاتحته إلى خاتمته"1. اهـ كلامه رحمه الله.

بل إنَّ القرآن الكريم كلّه كتابُ ذكرٍ لله، فذكر الله تعالى هو لبُّ القرآن وروحُه وحقيقته وغايةُ مقصوده، يقول الله تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} 2، وقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 3، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهْمْ أَجْراً كَبِيراً} 4، وقال تعالى:{فَذِكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد} 5، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

1 إرشاد الثقات (ص:4) .

2 سورة ص، الآية:(29) .

3 سورة ق، الآية:(37) .

4 سورة الإسراء، الآية:(9) .

5 سورة ق، الآية:(45) .

ص: 49

وقد سمّى الله سبحانه وتعالى كتابَه العزيز ذكرًا فقال: {وَهَذَاذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} 1، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وقال تعالى:{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ} 3، وقال تعالى:{أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} 4، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5، وقال تعالى:{ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} 6، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 7.وفي هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم.

قال سفيان الثّوري رحمه الله: "سمعنا أنّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به"8. وروى الطبري بإسناده إلى عون بن عبد الله قال: أتينا أمّ الدرداء نتحدّث إليها، قال: ثمّ قلتُ: يا أمَّ الدرداء لعلّنا أمللناكِ؟ قالت: "أمللتموني والله، لقد التمستُ العبادة في كلِّ شيء فما وجدتُ شيئاً أشفى لنفسي من مجلس ذكرٍ، قال: ثمّ اختبأت، ثمّ

1 سورة الأنبياء، الآية:(50) .

2 سورة النحل، الآية:(44) .

3 سورة آل عمران، الآية:(58) .

4 سورة الأعراف، الآية:(63) .

5 سورة الحجر، الآية:(9) .

6 سورة ص، الآية:(1) .

7 سورة فصلت، الآية:(41،42) .

8 أورد هذا الأثر والذي بعده القرطبي في التذكار في فضل الأذكار (ص:55،59) .

ص: 50

قالت لرجلٍ: اقرأ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1 ") .

رحم الله أمَّ الدرداء، ورحم الله السّلف الصّالح أجمعين، كيف حفظوا أوقاتهم وأعمارهم وعمروها بذكر الله وما يقرِّب إليه، ولم تتردّد رحمها الله عندما سألها: لعلّنا أمللناك؟ أن تقول: نعم أمللتموني والله، فهي الحافظة لوقتها الحريصة على كمال دينها وتمامه، فلله ما أزكاها من ألفاظٍ صادقة، وأنفاسٍ عَطِرة، وإيمانيّات مؤَثِّرة، وخير متدفّق، والله المستعان وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

1 سورة القصص، الآية:(51) .

ص: 51

8/‌

‌ ذمُّ الغفلة عن ذكرِ الله

إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أمر بذكره في القرآن الكريم، وحثَّ عليه ورغّب فيه في آيٍ كثيرةٍ منه، حذّر أيضا من الوقوع في ضدّه وهو الغفلة، إذ لا يتمُّ الذِّكرُ لله حقيقةً إلاّ بالتخلُّص من الغفلة والبعد عنها، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في آية واحدة من القرآن ـ أعني الأمر بالذِّكر والنهي عن الغفلة ـ وذلك في قوله تعالى من آخر سورة الأعراف:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 1.

والمراد بقوله في الآية {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أي: من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فإنهم حُرِموا خيري الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن مَن كلُّ السعادة والفَوز في ذكره وعبوديّته، وأقبلوا على مَن كلُّ الشقاوة والخيبة في الاشتغال به، وفي الآية أمرٌ بالذكر والمواظبة عليه وتحذيرٌ من الغفلة عنه، وتحذيرٌ من سبيل الغافلين.

والغفلةُ داءٌ خطير إذا اعترى الإنسان وتمكّن منه لم يشتغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالاً من الطّاعة والعبادة فإنّها تأتي منه على حال سيِّئة ووضع غير حسن، فتكون أعماله عاريةً من الخشوع والخضوع والإنابة والطُمأنينة والخشية والصّدق والإخلاص.

ولهذا جاء في القرآن الكريم في مواطن كثيرة منه التحذيرُ منها

1 سورة الأعراف، الآية:(205) .

ص: 52

وذمّها وبيان سوء عاقبتها، وأنّها من خصال الكافرين وصفات المنافقين المعرضين. يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْينٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} 1، ويقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2، ويقول تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 3، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

إنّ مَثَل الغافل عن ذكر الله مثَلُ الميِّت، وقد تقدّم معنا أنّ الذِّكر هو حياةً القلوب حقيقةً، فلا حياة لها بدونه، وحاجتها إليه أعظم من حاجة السّمك إلى الماء، فالقلب الذَّاكر هو القلب الحيّ، والقلب الغافل هو القلب الميِّت.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكره مَثَلُ الحيِّ والميِّت". ولفظ مسلم: " مَثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مَثَلُ الحيِّ والميِّت"4.

ففي هذا التمثيل كما يقول الشوكاني رحمه الله: "منقبةٌ للذَّاكر

1 سورة الأعراف، الآية:(179) .

2 سورة يونس، الآية:(7) .

3 سورة الروم، الآية:(7) .

4 صحيح البخاري (رقم:6407)، وصحيح مسلم (رقم:779)

ص: 53

جليلةٌ، وفضيلة له نبيلة، وأنّه بما يقع منه من ذكر الله عز وجل في حياةٍ ذاتيةٍ وروحيّةٍ لما يغشاه من الأنوار، ولما يصل إليه من الأجور، كما أنّ التارك للذِّكر وإن كان في حياةٍ ذاتيةٍ فليس لها اعتبارٌ بل هو شبيه بالأموات"1.

لقد جعل النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيت الذَّاكر بمنزلة بيت الحيّ، وبيت الغافل بمنزلة بيت الميِّت وهو القبر، وفي اللّفظ الأوّل جعل الذّاكر نفسه بمنزلة الحيّ، والغافل بمنزلة الميِّت، فتضمّن الحديثُ بمجموع لفظيه أنّ القلب الذّاكر كالحيِّ في بيوت الأحياء، والقلب الغافل كالميّت في بيوت الأموات، وعلى هذا فإنّ أبدان الغافلين قبورٌ لقلوبهم، وقلوبهم فيها كالأموات في القبور، ولهذا قيل:

فنسيان ذكر الله موت قلوبهم

وأجسامهم قبل القبور قبورُ

وأرواحهم في وحشة من جسومهم

وليس لهم حتى النشور نشورُ

وقيل:

فنسيان ذكر الله موت قلوبهم

وأجسامهم فهي القبور الدوارسُ

وأرواحهم في وحشة من حبيبهم

ولكنها عند الخبيث أوانسُ2

ولهذا صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن جعل البيوت قبورًا، أي: لا يصلّى فيها ولا يذكر فيها الله تعالى. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً"3.

1 تحفة الذاكرين (ص:15) .

2 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/429،430) .

3 صحيح البخاري (رقم:432)، وصحيح مسلم (رقم:777) .

ص: 54

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنَّ الشيطان يفرُّ من البيت الذي يسمع سورة البقرة تُقرأ فيه"1.

وفي سنن أبي داود وغيره بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلّوا عليَّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في بيان معنى قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا" قال: "أي لا تُعطِّلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحرّيها عند القبور عكس ما يفعله المشركون من النّصارى ومن تشبّه بهم"3. اهـ كلامه رحمه الله.

ولَمَّا كان القلب بهذه المثابة يوصف بالحياة وضدّها انقسمت القلوب بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام4:

الأوّل: القلب السليم، وهو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادةً ومحبّةً وتوكُّلاً وإنابةً وإخباتًا وخشيةً ورجاءً، وخلُص عملُه لله، فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع

1 صحيح مسلم (رقم:780) .

2 سنن أبي داود (رقم:2042)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:7226) .

3 اقتضاء الصراط المستقيم (2/662) .

4 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/13 ـ 15) .

ص: 55

لله، ويكون الحاكم عليه في أموره كلّها هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتقدّم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل.

الثاني: ضد هذا وهو القلب الميّت، الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربّه ولا يعبده ولا يمتثل أمره ولا يفعل ما يحبّه ويرضاه، بل هو واقفٌ مع شهواته ولذّاته، ولو كان فيها سخطُ ربِّه وغضبُه، فهو متعبِّدٌ لغير الله حبًّا وخوفًا ورجاءً ورضًا وسخطًا وتعظيمًا وذلاًّ، إن أحبَّ أحبَّ لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهو آثَرُ عنده وأحبُّ إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركّبة.

الثالث: قلب له حياة وبه علّة، فله مادّتان تُمدُّه هذه مرّة، وهذه تُمدُّه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبّة الله تعالى والإيمان به والإخلاصِ له والتوكّلِ عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبّة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، ومن الحسد والكبر والعجب وحب العُلُوِّ ما هو مادة هلاكه وعَطَبِه.

فالقلب الأوّل حيٌّ مخبتٌ ليِّنٌ، والثاني يابسٌ ميِّت، والثالث مريض فإمّا إلى السلامة أدنى وإمّا إلى العطب أدنى، وعلى هذا فإن القلب لكي تبقى له حياتُهُ وتزول عنه غفلتُهُ وتتم له استقامتُهُ محتاجٌ إلى ما يحفظ عليه قوتَه وهو الإيمان وأوراد الطاعات والمحافظة على ذكر الله، والبعدُ عن كلّ ما يسخطه تبارك وتعالى، ولا سعادة للقلب ولا لذّة ولا نعيم ولا صلاح إلاّ بأن يكون اللهُ وحده إلهه وفاطره ومعبوده وغاية مطلوبه، وأحبّ إليه من كلِّ ما سواه، فبهذا تكون نجاة القلب من الغفلة وسلامته من الهلَكة، وبهذا تسري فيه الحياة، والتوفيق بيد الله وحده.

ص: 56

9/‌

‌ من آداب الذِكر

تقدّم معنا قولُ الله تبارك: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 1 وبيان ما اشتملت عليه الآية الكريمة من الجمع بين الأمر بذكر الله والنّهي عن ضدِّه وهو الغفلة، وهذه الآية إضافة إلى دلالتها على ذلك فقد اشتملت على جملةٍ طيِّبةٍ من الآداب الكريمة التي ينبغي أن يتحلّى بها الذَّاكر. فمن هذه الآداب:

أوّلاً: أن يكون الذِّكر في نفسه؛ لأنَّ الإخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأقربُ إلى الإجابة وأبعدُ من الرِّياء.

ثانياً: أن يكون على سبيل التضرُّع، وهو التّذلُّل والخضوع والاعتراف بالتّقصير ليتحقّق فيه ذِلَّة العبودية والانكسار لعظمة الرُّبوبيّة.

ثالثاً: أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف من المؤاخذة على التّقصير في العمل، والخشية من الرد، وعدم القَبول، قال الله تعالى في صفة المؤمنين المسارعين في الخيرات، السّابقين لأرفع الدّرجات:{وَالَّذِينَ يُؤُتونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} 2.

وقد ثبت في المسند وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنّها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق

1 سورة الأعراف، الآية:(205) .

2 سورة المؤمنون، الآية:(60) .

ص: 57

ويشرب الخمر ويخاف أن يُعذَّب؟ قال: "لا، يا ابنة الصِّدّيق، ولكنَّه الرجل يصلّي ويصوم ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه "1.

رابعاً: أن يكون دون الجهر؛ لأنَّه أقرب إلى حسن التفكُّر، قال ابن كثير رحمه الله:"ولهذا قال: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} وهكذا يُستحبُّ أن يكون الذِّكر، لا يكون نداءً وجهرًا بليغاً"2، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع النّاس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ياأيُّها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"3.

خامساً: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفادٌ من قوله:{وَدُونَ الجَهْرِ} لأنَّ معناه: ومتكلِّمًا كلامًا دون الجهر، ويكون المرادُ بالآية الأمرَ بالجمع في الذكر بين اللسان والقلب، وقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه بقوله بعد ذلك: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} إلاّ أنّ الأوّل هو الأصحّ كما حقّق ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيرُه من أهل العلم.

وقد نظر له رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربّه أنَّه قال: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"4، قال: وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه، فإنَّه

1 المسند (6/159،205) .

2 تفسير القرآن العظيم (3/544) .

3 صحيح البخاري (رقم:4205)، وصحيح مسلم (رقم:2704) .

4 صحيح البخاري (رقم:7405)، وصحيح مسلم (رقم:2675) .

ص: 58

جعله قسيمَ الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} ، والدليل على ذلك أنَّه قال:{بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ} ، ومعلوم أنَّ ذكر الله المشروعَ بالغدوِّ والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتي الفجر والعصر، والذِّكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم

وعلّمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النّهار بالغدو والآصال1.

سادساً: أن يكون بالغدوّ والآصال، أي في البكرة والعشيِّ، فتدلُّ الآية على مزيَّة هذين الوقتين، لأنَّهما وقت سكون ودعة وتعبُّد اجتهاد، وما بينهما الغالبُ فيه الانقطاع إلى أمر المعاش، وقد ورد أنَّ عمل العبد يصعد أوّل النّهار وآخره فطلبُ الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون"2.

سابعاً: النهي عن الغفلة عن ذكره بقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 3، أي: من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه، وفيه

1 انظر: الفتاوى لابن تيمية (15/33 ـ 36) .

2 صحيح مسلم (رقم:632) .

3 سورة الأعراف، الآية:(205) .

ص: 59

إشعارٌ بطلب دوام ذكره تعالى والاستمرار عليه، وأحبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُه وإن قلّ.

فهذه سبعةُ آداب عظيمة اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، ذكرها القاسمي في كتاب محاسن التأويل1، وللذكر آداب كثيرة أخرى سيأتي معنا شيء منها لاحقاً إن شاء الله.

ثم إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا حثّ على الذكر في هذه الآية ورغّب فيه وحذّر من ضدّه وهو الغفلة، ذكر عقبها في الآية التي تليها ما يقوي دواعي الذكر وينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 2.

والمراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي: الملائكة، وقد وصفهم الله في هذه الآية بعدم الاستكبار عن عبادة الله، وأنَّهم يسبّحونه وله يسجدون، وهذا فيه حثٌّ للمؤمنين وترغيب لهم في أن يقتدوا بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنَّه إذا كان أولئك وهم معصومون من الذنب والخطأ هذه حالهم في التسبيح والذكر والعبادة فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.

ولهذا يقول ابن كثير رحمه الله: "وإنما ذكرهم بهذا ليُتشبَّه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شُرِعَ لنا السجودُ ها هنا لمّا ذكر سجودهم لله عز وجل، كما جاء في الحديث: "ألا تصفُّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها، يتمّون الصفوف الأُوَل ويتراصّون في

(7/2936،2937) .

2 سورة الأعراف، الآية:(206) .

ص: 60

الصف"1، وهذه أوّل سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعيها السجود بالإجماع"2.

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "ثم ذكر تعالى أنَّ له عبادًا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة لتعلموا أنَّ الله لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلَّةٍ، ولا ليتعزّز بها من ذلَّةٍ، وإنما يريد نفع أنفسكم وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} من الملائكة المقرَّبين وحملة العرش والكروبيين {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربِّهم {وَيُسَبِّحُونَه} الليل والنهار لا يفترون {وَلَهُ} وحده لا شريك له {يَسْجُدُونَ} فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام وليداوموا على عبادة الملك العلاّم"3. اهـ كلامه رحمه الله.

والمقصود أنَّ الله تبارك وتعالى لما نهى عباده عن أن يكون من الغافلين ذكر بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة لِيُحْتَذَى ولِيَبْعَثَ على الجدِّ في طاعة الله وذكره، والحمد لله وحده.

1 صحيح مسلم (رقم:430) .

2 تفسير القرآن العظيم (3/544) .

3 تيسير الكريم الرحمن (3/68) .

ص: 61

أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبسُ به الألسن، ولا يشبعُ منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

إنَّ قدر القرآن وفضله هو بقدر الموصوف به وفضله، فالقرآن كلام الله وصفته، وكما أنَّه تبارك وتعالى لا سميَّ له ولا شبيه في أسمائه وصفاته، فلا سميَّ له ولا شبيه له في كلامه، فله تبارك وتعالى الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، لايشبهه شيء من خلقه، ولا يشبه هو تبارك وتعالى شيئًا من خلقه، تعالى وتقدّس عن الشبيه والنّظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، والفرق بين كلام الله وكلام المخلوقين هو كالفرق بين الخالق والمخلوقين.

قال أبو عبد الرحمن السُّلمي رحمه الله: "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الربِّ على خلقه، وذلك أنَّه منه"2.

وقد روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنّ رفعه لا يثبت كما أوضح ذلك الإمام البخاري رحمه الله في كتابه "خلقُ أفعال العباد"3 وغيرُه من أئمّة العلم. وأما معناه فحق لا ريب فيه، ولا ريب في حسنه وقوّته واستقامته وجمال مدلوله، وقد استشهد أهل العلم

1 سورة الشورى، الآية:(11) .

2 رواه البيهقي في الأسماء والصفات (1/504) .

(ص:162)، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (3/505) .

ص: 63

لصحّة معناه بنصوص عديدة، بل إنَّ الإمام البخاري رحمه الله جعله عنواناً لأحد تراجم أبواب كتاب فضائل القرآن من صحيحه، فقال في الباب السابع عشر منه:"باب فضل القرآن على سائر الكلام"، وأورد تحت هذا الباب حديثين عظيمين:

الأوّل: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثلُ الذي يقرأ القرآن كالأترُجَّةِ طَعمُها طيِّب وريحُها طيِّب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيِّب ولا ريح فيها، ومَثَلُ الفاجر الذي يقرأ القرآن كَمَثَل الرَّيحانة ريحها طيّب وطعمها مُرٌّ، ومَثَل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرٌّ ولا ريح لها "1.

قال ابن كثير رحمه الله في كتاب فضائل القرآن، وهو عبارة عن شرح مختصر وعظيم الفائدة لكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري:"ووجه مناسبة الباب لهذا الحديث أن طيب الرائحة دَارَ مع القرآن وجودًا وعدمًا، فدلّ على شرفه على ما سواه من الكلام الصادر من البر والفاجر"2.

والحديث الثاني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أجلُكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر ومغرب الشمس، ومثلكم ومثل اليهود والنّصارى كمثل رجل استعمل عمّالا، فقال: من يعملُ لي إلى نصف النّهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، فقال: من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر؟ فعملت

1 صحيح البخاري (رقم:5020)، وصحيح مسلم (رقم:797) .

2 فضائل القرآن (ص:101) .

ص: 64

النصارى، ثم أنتم تعملون من العصر إلى المغرب بقيراطين قيراطين، قالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء، قال: هل ظلمتكم من حقّكم، قالوا: لا، قال: فذاك فضلي أوتيه من شئتُ"1.

قال ابن كثير رحمه الله: "ومناسبته للترجمة أنَّ هذه الأمة مع قصر مدّتها فَضَلَت الأمم الماضية مع طول مدّتها، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2 وفي المسند والسنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم تُوفُّون سبعين أمّة، أنتم خيرُها وأكرمُها على الله "3، وإنَّما فازوا بهذا ببركة الكتاب العظيم: القرآن الذي شرّفه الله على كلِّ كتاب أنزله وجعله مهيمنًا عليه، وناسخاً له وخاتمًا له، لأنَّ كلَّ الكتب المتقدّمة نزلت إلى الأرض جملةً واحدةً، وهذا القرآن نزل مُنجَّماً بحسب بحسب الوقائع لشدّة الاعتناء به وبمن أنزل عليه، فكل مرّة كنزول كتاب من الكتب المتقدّمة.

وأعظم الأمم المتقدّمة هم اليهود والنّصارى، فاليهود استعملهم الله من لدن موسى إلى زمن عيسى عليهما السلام، والنّصارى من ثمّ إلى أن بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم، ثم استعمل أمّته إلى قيام الساعة، وهو المُشَبَّه بآخر النهار، وأعطى المتقدّمين قيراطًا قيراطًا، وأعطى هؤلاء قيراطين قيراطين، ضعفي ما أعطى أولئك، فقالوا: أيْ ربَّنا، ما لنا أكثر عملاً

1 صحيح البخاري (رقم:5021) .

2 سورة أل عمران، الآية:(110) .

3 المسند (5/3)، سنن الترمذي (رقم:3001) ، سنن ابن ماجه (رقم:4288) ، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2301) .

ص: 65

قل أجراً؟ فقال: هل ظلمتكم من أجرِكم شيئاً، قالوا: لا، قال: فذاك فضلي، أي: الزائد على ما أعطيتكم أوتيه من أشاء، كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 1") 2.

إنَّ الواجب علينا أن نعظّم القرآن الكريم، الذي هو مصدر عزِّنا وسبيل سعادتنا، ونحفظ له منزلته ومكانته، ونَقدرَه حق قدره، [ونعمل به] .

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان يحب أن يعلم أنَّه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحبّ القرآن فهو يحبُّ الله، فإنَّما القرآن كلام الله".

ويقول رضي الله عنه: "القرآن كلامُ الله، فمن ردّ منه شيئاً فإنَّما يردّ على الله".

والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ، فنسأل الله الكريم أن يعمر قلوبنا بحب القرآن وتعظيمه وتوقيره [والعمل به] ، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته.

1 سورة الحديد، الآيات:(28،29) .

2 فضائل القرآن (ص:102،103) .

ص: 66