الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
50/
حقيقة الشكر ومكانته عند السلف
كان الحديثُ فيما مضى عن فضل الشكر وعِظم مكانته عند الله وتنوّع دلالاته في القرآن الكريم، وسنتحدّث هنا عن أصل الشكر وحقيقتِه والإشارة إلى مكانته عند السلف الصالح رحمهم الله.
أمّا أصل الشكر وحقيقتهُ فهو الاعتراف بإنعام المنعِم على وجه الخضوع له والذلِّ والمحبّة، "فمن لم يعرف النعمةَ بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرف النعمة ولم يعرف المنعِم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعِم ولكن جحدها كما يجحد المنكرُ لنعمته المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعِم وأقرّ بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع له وأحبّه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها"1.
وبهذا يتبيّن أنَّ الشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملُها فيما يكره، فهذه الخمسُ هي أساسُ الشكر، وبناؤه عليها، فمتى عدِم منها واحدةٌ اختلَّ من قواعد الشكر قاعدة، وكلُّ من تكلَّم في الشكر وحدِّه فكلامه إليها يرجع وعليها يدور2. وهو يكون بالقلب واللسان
1 طريق الهجرتين لابن القيم (ص:175) .
2 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/244) .
والجوارح، "يكون بالقلب خضوعاً واستكانةً [ومحبّة] ، وباللسان ثناءً واعترافاً، وبالجوارح طاعةً وانقياداً"1.
روى ابن أبي الدنيا في كتابه الشكر أنَّ رجلاً قال لأبي حازم سلمةَ ابن دينار: "ما شكرُ العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراًّ سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراًّ دفعته، قال: ما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاًّ لله عز وجل هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلُه طعاماً وأعلاه علماً، قال: ما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ} 2، قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إذا رأيت ميتاً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت ميتاً مقتّه كمقتهما عن عمله وأنت شاكرٌ لله عز وجل، فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجلٍ له كساءٌ فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر"3.
إنَّ نعمة الله على عبده في لسانه ويده وقدمه وجميع بدنه لا يمكن أن تحصى، وكلُّها تستوجب شكرَ المنعم بها، قال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم رحمه الله: "الشكر يأخذ بحزم الحمد وأصله وفرعه، فلينظر
1 مدارج السالكين لابن القيم (2/246) .
2 سورة المؤمنون، الآية (5 ـ 7) ، وسورة المعارج، الآية (29 ـ 31) .
3 الشكر لابن أبي الدنيا (رقم:129) .
في نعم من الله في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيءٌ إلَاّ وفيه نعمةٌ من الله، حقٌّ على العبد أن يعملَ بالنعم التي هي في بدنه لله عز وجل في طاعته، ونعم أخرى في الرزق حق عليه أن يعمل لله فيما أنعم به عليه من الرزق في طاعته، فمن عمل بهذا فقد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه"1.ا. هـ
ومن نعم الله العظيمة على عبده ما متّعه به من عافيته في سمعه وبصره وجميع بدنه، وكم لله في عبده من نعمة في عرق ساكن، والعافية نعمة تستوجب الشكر وتستحق الحمد، كان عبد الأعلى التيمي يقول:"أكثروا سؤال الله عز وجل العافية فإنَّ المبتلى وإن اشتدَّ بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلون اليوم إلَاّ من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلَاّ من أهل العافية اليوم، ولو كان بلاءٌ يجرُّ إلى خير ما كنا من رجال البلاء، إنَّه رُبَّ بلاءٍ قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة، فما يأمن من أطال المُقام على معصية الله جلّ وعزّ أن يكون قد بقي له في بقيّة عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة ثم يقول عند ذلك: الحمد لله الذي إن نعد نعمه لا نحصيها وإن ندأب له عملاً لا نجزيها وإن نعمر فيها لا نُبليها"2.
بل لو أنَّ العبد أُوتي عُمُر الدنيا، وقطع ذلك العمر مستغرقاً في
الشكر لابن أبي الدنيا (رقم:157) .
2 انظر: نتائج الأفكار في شرح حديث سيِّد الاستغفار للسفاريني (ص:311،312) .
طاعة الله وعبادته ولم يعصه في لحظة واحدة ولا لفظةٍ ما أدّى شكر عشر معشار نعمه سبحانه، بل لو أنفق كلَّ عمره مضاعفاً إلى ما لا نهاية من الأعمار ما أدّى شكر نعمة واحدة، كيف والشكر نعمة تحتاج إلى مثلها من الشكر، فلا سبيل إلى تأدية شكر عُشر معشار نعمه إلَاّ بالاعتراف بالعجز والتقصير، ولهذا جاء في سيِّد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلَاّ أنت". ولفظُ النعمة وإن كان مفرداً في هذا الدعاء لكنه مضاف فيعمّ كلَّ نعمة من الظاهرة والباطنة من نعمة الإيمان والوجود من العدم والسمع والبصر والعقل والعلم والصحة وغير ذلك من النعم اللاّتي أنعم الله بها على عباده1.
والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيَّدة.
فأما النعمة المطلقة فهي المتصلة بسعادة الأبد وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي النعمة التي أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصّهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول تعالى:{وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيِهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 2.
وأما النعمة المقيَّدة كنعمة الصحة وعافية الجسد وبسط الجاه وكثرة الولد وأمثال هذا، والنعمة المطلقة هي التي يُفرَح بها في الحقيقة،
1 انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص:2 ـ 4) .
2 سورة النساء، الآية (69) .
والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يحب الفرِحين، قال الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.
إنَّ الشكر لله على نعمه عموماً المطلقة والمقيَّدة واجبٌ على كلِّ مسلم ومتعيِّنٌ على كلِّ مؤمن، وهو السبيل لبقائها ودوامها ونموها، كما أنَّ عدم شكر النعمة سببٌ لزوالها واضمحلالها، وقد قيل: كلُّ شكرٍ وإن قلَّ ثمنٌ لكلِّ نوالٍ وإن جلّ، فإذا لم يشكر المرءُ فقد عرّض النعمة للزوال، وقيل أيضاً: الشكر قيدٌ للنعم الموجودة، وصيدٌ للنعم المفقودة، وقيل أيضاً: كفران النعم بوار، وهو وسيلة إلى الفرار، وكانوا يسمّون الشكر الحافظ؛ لأنَّه يحفظ النعم الموجودة، والجالب؛ لأنَّه يجلب النعم المفقودة2. وقيل أيضاً: النعمةُ إذا شكرت قرَّت وإذا كُفرت فرّت.
نسأل الله أن يوزعنا شكر نعمه وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع مجيب.
1 سورة يونس، الآية (58) .
2 انظر: عدة الصابرين لابن القيم (ص:155)، ونتائج الأفكار للسفاريني (ص:325) .