الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
26 /
تدبّرُ أسماء الله وصفاته وعدم تعطيلها وعِظم أثر ذلك على العبد
لا يخفى أنَّ حاجة العباد إلى معرفة ربهم وخالقهم ومليكهم هي أعظمُ الحاجات، وضرورتهم إلى ذلك هي أعظم الضرورات، وكلما كان العبدُ أعرفَ بأسماء ربه وما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وما يتنزّه عنه مما يضاد ذلك من النقائص والعيوب كان حظُّه من الثناء ونصيبه من المدح بحسب ذلك، والسبيل إلى تحقيق هذا المطلب الجليل والمقصد النبيل أن يتدبّر العبد أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، ويتأمّلها اسماً اسماً، ويثبت ما دلّت عليه من معنى على وجه يليق بجلال الرب وكماله وعظمته، ويعتقد أنَّ هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويؤمن أنَّ كلَّ ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإنَّ الله تعالى منزّهٌ مقدّسٌ عنه، ويبذل ما استطاع من وسعه في معرفة أسماء الله وصفاته، ويجعل هذه المسألة العظيمة الجليلة أهم المسائل وأولاها بالعناية وأحقها بالتقديم ليفوز من الخير بأوفر نصيب.
روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سريّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك؟ "، فسألوه فقال: لأنَّها صفةُ الرّحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخبروه أنَّ الله يحبّه"1.
1 صحيح البخاري (رقم:7375)، وصحيح مسلم (رقم:813)
فهذه السورة الكريمة أُخلصت لذِكر أوصاف الرّحمن ونعوت كماله وجلاله، فأحب هذا الصحابي رضي الله عنه الإكثار من قراءتها، ولهذا لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ملازمته لقراءتها قال: لأنَّها صفة الرّحمن وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال: " أخبروه أنَّ الله يحبّه "، وفي رواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حُبُّك إياها أدخلك الجنة ".
فدل ذلك على أنَّ حب العبد لصفات الرحمن وملازمتَه تذكّرها واستحضار ما دلّت عليه من المعاني الجليلة اللائقة بكمال الرب وجلاله، والتفقّه في معانيها سببٌ عظيم من أسباب دخول الجنة، ونيل رضى الرب تبارك وتعالى ومحبته كما هو الحال في قصة هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه.
إنَّ الواجب على كل مسلم أن يقف مع جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة موقف الرضا والقبول والتسليم، كما قال الإمام الزهري رحمه الله:"مِن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"1. ولا يجوز لمسلم قَدَرَ الله حقّ قدْرِه أن يُقابل شيئاً منها برَدٍّ أو استنكارٍ أو تعطيلٍ أو نحو ذلك.
روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أنَّه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه"2.
1 أورده البخاري في صحيحه (13/503 ـ فتح) .
2 المصنف (11/423) ، وأورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد، وانظر شرحه في تيسير العزيز الحميد (ص:578) .
وصفات الله في القرآن والسنة من المحكم، إلا أنَّ هذا الرجل لقلة علمه وضعف تفريقه اشتبه عليه الأمر فبادر إلى الاستنكار، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنهما ذلك وأخبر أنَّ هذا الاستنكار سبيلُ هلكه.
فتبيّن بذلك أنَّ الواجب في الأسماء والصفات هو التسليم والقبول، وأن يحذر المسلمُ أشدّ الحذر من سبيل من يُلحدون في أسماء الله وصفاته إما بتعطيل لها، أو تكذيب لبعضها، أو تحريف لمعانيها، أو تمثيل لها بصفات المخلوقين، أو نحو ذلك من سبل الضلال، تعالى الله وتقدّس عن ذلك.
وأهل السنة والجماعة منهجهم في هذا الباب العظيم: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، ولا يتجاوزون في ذلك القرآن والحديث.
ولا ريب أنَّ لهذا المنهج العظيم آثاراً كثيرةً على العبد في صلاحه واستقامته وخوفه من ربّه ومراقبته له؛ إذ إنَّ العبد كلَّما كان بالله وبأسمائه وصفاته أعلم كان من الله أخوف، وله أطلب، وإليه أقرب.
أما من خالف هذا المنهج وتَنَكَّبَ هذه الجادة وسلك طرقَ أهل الزيغ في أسماء الله وصفاته فما أبعده عن معرفة ربه وخالقه، بل إنَّه يكون أضعف الناس معرفة بالله، وأقلّهم خوفاً وخشيةً منه.
ولذا يقول ابن القيم رحمه الله بعد أن بيّن أنَّ تفاوت الناس في معرفة الله يرجع إلى تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها والعلم
بفساد الشبه المخالفة لحقائقها: "وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم، الذي ذمّه السلف لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكُّنِ الشُّبه الباطلة من قلوبهم".
ثم بيّن رحمه الله أنَّ العوام أحسنُ حالاً من هؤلاء وأقوى معرفة بربهم منهم فقال: "وإذا تأملت حال العامة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم ـ أي عند أكثر المتكلمين ـ رأيتهم أتمّ بصيرةً منهم وأقوى إيماناً وأعظم تسليماً للوحي وانقياداً للحق"1 اهـ.
ولهذا وجب على كلِّ مسلم أن يكون في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين على سنن أهل السنة والجماعة ووَفْق منهجهم، وأن يحذر سبل الضلال كلَّها وأبواب الباطل جميعها، والتوفيق بيد الله وحده، فنسأله سبحانه أن يوفّقنا وإياكم لكل خير يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، إنَّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.
1 مدارج السالكين (1/125) .