الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
13/
آدابُ حملة القرآن
لقد مرّ معنا بيان فضل القرآن الكريم، كلام ربّ العالمين وعظم شأن تلاوته وتدبّره، وما يترتّب على ذلك من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ وخيراتٍ عميمةٍ في الدنيا والآخرة، وسيكون الحديثُ هنا بإذن الله عن أخلاق حملة القرآن التي ينبغي أن يتحلوا بها، وآداب وصفات أهله التي ينبغي أن يتأدّبوا بها، ولا ريب في شرف هذا الموضوع وعظم شأنه وحاجتنا دائماً إلى تذاكره ومدارسته.
وقد كان أهلُ العلم وأئمّة الفضل والخير يولون هذا الموضوع عنايةً خاصةً ويعتنون به عنايةً فائقةً، إذ به تأتي ثمرة القرآن، وينال ما يترتّب عليه من أجورٍ عظيمةٍ وثوابٍ وإحسانٍ، وبدون هذه الآداب لا ينال التالي الثمرة المرجوة، ولا يحصل الخير العظيم والثواب الجزيل المأمول، بل ربَّما كان القرآن حجّةً عليه، وخصيماً له يوم القيامة.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "والقرآن حجّة لك أو عليك "، وكلاهما في صحيح مسلم1.
فالقرآن حجَّةٌ لمن عمل به وتأدّب بآدابه، وأمّا من ضيّع حدوده وأهمل حقوقه، وفرّط في واجباته فإنَّ القرآن يكون حجّةً عليه يوم القيامة.
ولهذا يقول قتادة رحمه الله: "لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام
1 صحيح مسلم (رقم:817)، (رقم:223) .
عنه بزيادة أو نقصان"1. أي: بزيادة في الإيمان والخير إن عمل به، أو نقصان من ذلك إن أهمله وضيّع حقوقه.
لقد كتب أهلُ العلم في هذا الموضوع آدابِ وأخلاقِ حملة القرآن كتاباتٍ عظيمةً، وألّفوا في هذا الباب مؤلّفاتٍ قيِّمةً نافعةً، وهي عديدةٌ ومتنوِّعةٌ إلَاّ أنَّ من أحسنها وفاء بهذا الموضوع كتاب "أخلاق حملة القرآن" للإمام العلاّمة أبي بكر محمّد بن الحسين الآجري المتوفّى سنة (360هـ) ، فهو كتابٌ عظيمُ القدر، جليل الفائدة، وحريٌّ بكل حافظ للقرآن الكريم بل بكل مسلم أن يقف عليه ويفيد منه.
وقد تحدّث فيه مؤلّفه رحمه الله قبل بيانه لآداب حملة القرآن عن فضل حملة القرآن، وفضل من تعلّم القرآن وعلّمه، وفضل الاجتماع في المسجد لدرس القرآن، وقصد رحمه الله من البدء بهذه الأبواب الترغيب في تلاوة القرآن والعمل به والاجتماع لمدارسته، ثم شرع بعد ذلك في بيان آداب حملة القرآن مستدلاًّ على كل ما يقول بالنّصوص القرآنية والأحاديث النبويّة والآثار المرويّة عن سلف الأمّة.
ولعلّنا نأتي هنا على جملةٍ طيِّبةٍ من هذه الآداب الكريمة والخلال العظيمة التي ينبغي أن يتحلّى بها أهل القرآن وحملته، بل ينبغي أن يتحلّى بها المسلمون جميعهم.
فمن هذه الآداب2: أن يتحلّى صاحب القرآن بتقوى الله في سرِّه وعلنه، ويقصد بعلمه وعمله وجه الله تعالى، ويريد بتلاوته
1 رواه الآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:73) .
2 انظر: أخلاق حملة القرآن للآجري (ص:24 وما بعدها) .
وحفظه القرب منه سبحانه.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أنَّ أحدًا يتعلّم القرآن يريد به إلاّ الله عز وجل، فلمّا كان هاهنا بأخرةٍ خشيتُ أنَّ رجالاً يتعلّمونه يريدون به النّاس وما عندهم فأريدوا اللهَ بقراءتكم وأعمالكم".
ومن هذه الآداب: أن يتخلّق بأخلاق القرآن الشريفة، ويتأدّب بآدابه الكريمة، ويجعل القرآن ربيعًا لقلبه يعمر به ما خرِب من قلبه، ويصلح به ما فسد منه، يؤدّب نفسه بالقرآن ويصلح به حاله ويقوّي به إيمانه، يقول الله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} 1.
فحاملُ القرآن يجعل القرآن دليله إلى كلِّ خير، ورائده إلى كلِّ خُلُقٍ حسنٍ جميلٍ، حافظًا لجميع جوارحه عمّا نهى الله عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، وإن تكلّم تكلّم بعلم، وإن شرب شرب بعلم، وإن أكل أكل بعلم، يتصفّح القرآن ويقرؤه ليؤدّب نفسه، وليهذّب به سلوكه، وليزيّن به عمله، وليقوِّيَ به إيمانه.
لهذا أُنزل القرآن الكريم، ولم ينزل للقراءة والتّلاوة فقط بدون العلم والعمل، قال الفضيل رحمه الله:"إنّما أنزل القرآن ليعمل به فاتّخذ النّاس قراءته عملاً"2.
1 سورة طه، الآية:(124، 125) .
2 رواه الآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:43) .
ومعنى قولِه: لِيُعْمَلَ به: أي ليُحِلُّوا حلالَه ويحرِّموا حرامَه، فاتّخذ النّاس قراءته عملاً، أي لا يتدبّرونه ولا يعملون به.
ومن هذه الآداب: أن تكون همّة من يقرأ القرآن ايقاع الفهم لما ألزمه الله من اتّباع ما أمر والانتهاء عمّا نهى، ليس همّته متى أختم السورة، وإنّما همّته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصادقين، متى أعرف قدر النِّعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أتوب من الذنوب، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أكون بزجر القرآن متّعظًا، متى أكون بذكر الله عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحبُّ ما أحبَّ وأُبغض ما أبغضَ، فهذه همّته عند تلاوة القرآن.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من أجلّة التّابعين، يصف بعض قرّاء زمانه وهو بصدد بيان أهمّيّة تدبّر القرآن والتفقه فيه، يقول:"أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إنَّ أحدهم ليقول: إنّي لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القرّاء مثل هذا، لا كثَّر الله في النّاس مثل هؤلاء"1.
1 رواه عبد الرزاق في المصنف (3/363)، والآجري في أخلاق حملة القرآن (ص:41) .
هذه بعض آداب حملة القرآن ممّا أورده الآجريُّ رحمه الله في كتابه المشار إليه، وقد أنهى ذكره لتلك الآداب بقوله:"فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذّره مولاه حذره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة"1.
واللهَ المرجو أن يوفّقنا وإيّاكم لذلك ولكلِّ خير والله وحده المستعان.
1 أخلاق حملة القرآن (ص:29) .