الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
39/
تسبيحُ جميع الكائنات لله
إنَّ الله تعالى لكمال عظمته، ولتمام ملكه وعزَّته، تسبِّحُ له جميعُ الكائنات، من سماء، وأرض، وجبال، وأشجار، وشمس، وقمر، وحيوان، وطيرٍ، وإنْ مِن شيءٍ إلاّ يُسبِّح بحمده.
يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1، ويقول تعالى:{ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرُ} 2، ويقول تعالى:{وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3، وقال تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرِاقِ} 4، فهذه النصوص العظيمة تدلُّ دلالة ظاهرة أنَّ جميعَ الكائنات تسبِّح اللهَ عز وجل، فالحيوانات تسبِّح لله، والنباتات تسبِّح لله، والجمادات تسبِّح لله، وإنْ مِن شيءٍ خلقه الله إلاّ يسبِّح بحمد الله عز وجل، وإنْ كُنّا لا نفقه تسبيحه، وهو تسبيحٌ حقيقيٌّ يصدر من هذه الكائنات بلسان المقال، وليس بلسان الحال كما يدّعيه بعضهم، واللهُ جلّ وعلا يجعل لهذه الكائنات إدراكات تسبِّح بها يعلمها هو جلّ وعلا ونحن لا نعلمها، كما قال سبحانه:{وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} 5.
1 سورة الإسراء، الآية:(44) .
2 سورة سبأ، الآية (10) .
3 سورة الأنبياء، الآية:(79) .
4 سورة ص، الآية:(18) .
5 سورة الإسراء، الآية:(44) .
قال الإمام أبو منصور الأزهريُّ رحمه الله في كتابه تهذيبُ اللغة: "وممّا يدلُّك على أنَّ تسبيح هذه المخلوقات تسبيحٌ تُعُبِّدت به، قول الله جلّ وعزّ للجبال: {يَاجِبَالَ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر} 1، ومعنى أوِّبي أي سبِّحي مع داود النّهار كلّه إلى الليل، ولا يجوز أن يكون معنى أمر الله جلّ وعزّ للجبال بالتأويب إلاّ تعبُّداً لها، وكذلك قوله جلّ وعزّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 2، فسجود هذه المخلوقات عبادة منها لخالقها لا نفقهها عنها كما لا نفقه تسبيحها، وكذلك قوله: {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} 3، وقد علم الله هبوطها من خشيته، ولم يعرّفنا ذلك، فنحن نؤمن بما أعلمنا ولا ندّعي بما لم نكلّف بأفهامنا، مِن عِلْمِ فِعلِها كيفيّةً نحدّها"4 اهـ. كلامه رحمه الله، وهو كلام عظيم وتقرير حسن.
وقال النووي رحمه الله بعد أن أشار إلى ما قيل في المراد بالتسبيح، قال:"والصحيح أنَّه يسبِّح حقيقة، ويجعل الله تعالى فيه تمييزاً بحسبه"5.
1 سورة سبأ، الآية:(10) .
2 سورة الحج، الآية:(18) .
3 سورة البقرة، الآية:(74) .
4 تهذيب اللغة (4/340) .
5 شرح صحيح مسلم (15/26)
وهذا القول هو القول الحق في هذه المسألة بلا ريب، فالله تبارك وتعالى هو الذي بيده أزمّةُ الأمور، وهو القادرُ على كلِّ شيء، وهو سبحانه الذي أنطق كلَّ شيء، لا يتعاظمه أمر، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء، إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وأمّا قولُ من قال: إنَّ هذا التسبيح ليس حقيقياً وإنَّما هو تسبيح بلسان الحال فقط فهو قول مجانبٌ للحقيقةِ، بعيدٌ عن الصواب، ولا يعضُدُه دليل، بل الأدلّةٌ صريحةٌ في عدم صحّتِه.
وليس هذا الأمر بأعجب من تسبيح الحصا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبيحُ الطعام وهو يُؤكل، وقد كان يسمع ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنّا نعدُّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فقلَّ الماءُ، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماءٌ قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل "1.
فلله ما أعظمها من آيةٍ تدلّ على كمال المرسِل سبحانه، وصدق المرسَل صلواتُ الله وسلامُه عليه.
وروى الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في دلائل النبوة عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إنّي لشاهدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة وفي يده
1 صحيح البخاري (رقم:3579) .
حصى فسبَّحن في يده، وفينا أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، فسمع تسبيحهنّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فسبّحن مع أبي بكر، سمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثمّ دفعَهنَّ إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنَّ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عمر فسبَّحن في يده، وسمع تسبيحَهنَّ مَن في الحلقة، ثم دفعهنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفّان فسبَّحن في يده، ثمّ دفعهنّ إلينا فلم يسبِّحن مع أحد منّا"1.
ولا شكّ أنَّ تسبيح الحصى الصغار والطعام أعجبُ وأبلغُ من تسبيح الجبال، ولذا فإنَّ المعجزة لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك أبلغُ من المعجزة لنبيِّ الله داود عليه السلام في تسبيح الجبال معه.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وأمّا تسبيح الطّير مع داود عليه السلام فتسبيح الجبال الصمّ أعجبُ مِن ذلك، وقد تقدّم في الحديث أنّ الحصا سبّح في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حامد: وهذا حديثٌ معروفٌ مشهورٌ، وكانت الحجارُ والأشجارُ والمدرُ تسلِّم عليه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: "لقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل" يعني بيد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكلّمه ذراعُ الشّاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبُوَّته الحيواناتُ الإنسيّة والوحشيّة، والجمادات أيضاً كما تقدّم بسط ذلك كلِّه، ولا شكّ أنَّ صدور التسبيح من الحصا الصغار الصمّ التي لا تجاويف فيها أعجبُ مِن
1 المعجم الأوسط (رقم:1244) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/555)، وانظر: دلائل النبوة لأبي القاسم التيمي (1/404 وما بعدها) ـ بتحقيق: الشيخ مساعد الراشد ـ قوله: "فصل في تسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم".
صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنَّها وما شاكلها تردّد صدى الأصوات العالية غالباً كما قال عبد الله بن الزبير كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزَرُود، ولكن من غير تسبيح، فإنَّ ذلك من معجزات داود عليه السلام، ومع هذا كان تسبيح الحصا في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أعجب"1 اهـ. كلامه رحمه الله.
والشّاهد مِن ذلك كلِّه هو أنَّ هذه الكائنات تسبِّح الله تعالى تسبيحاً حقيقاً لا يفقهه النّاس ولا يسمعونه، وقد يشاء الله فيُسمِع بعض ذلك من يشاء مِن عباده كما في النصوص المتقدّمة.
ولا ريب أنَّ في هذا أَعظمَ عبرةٍ وأجلَّ عِظةٍ للنّاس إذ تدبّروا في حال هذه الجبال وهي الحجارة الصلبة والصخور الصّمّاء كيف أنَّها تسبِّح بحمد ربِّها وتخشع له وتسجد وتشفق وتهبط من خشيته، وكيف أنّها خافت من ربِّها وفاطرها وخالقها على شدّتها وعِظم خلقها من الأمانة إذ عرَضَها عليها وأشفقت من حملها.
قال ابن القيِّم رحمه الله وهو يتحدّثُ عن هذا الباب العظيم: "فسبحان من اختصَّ برحمته من شاء مِن الجبال والرِّجال
…
هذا وإنَّها لَتعلمُ أنَّ لها موعداً ويوماً تنسف فيها نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمه، فهي مشفقةٌ من هول ذلك الموعد، منتظرةٌ له
…
فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقّتُها وخشيتُها وتدكدكها من جلال ربِّها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنَّه لو أنزل
1 البداية والنهاية (6/286) .
عليها كلامه لخشعت ولتصدّعت من خشية الله. فيا عجباً من مضغة لحمٍ أقسى مِن هذه الجبال تسمع آيات الله تتلى عليها ويُذكرُ الرّبُّ فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب
…
"1.
فنسأل الله جلّت قدرته وتبارك اسمه أن يحييَ قلوبَنا بالإيمان، وأن يعمُرَها بذكر الكريم الرحمن، وأن يعيذنا من الرّجيم الشيطان، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
1 مفتاح دار السعادة (2/89) .