الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7/
تنوّع الأدلّة الدّالة على فضل الذِكر
مرّ معنا فضيلةُ الذِّكر وعظيمُ أجره، وبيان ما أعدّه الله لأهله من جميل الثّواب، وكريم المآب، وحُسن العاقبة، وهناءة العيش، ومرّ معنا شيءٌ يسيرٌ من فوائده العطِرة، وثماره الكريمة اليانعة، وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة.
ولمّا كان الذِّكر بهذه المنزلة الرّفيعة والدّرجة العالية، فإنّ دلالات النصوص المبيِّنة لفضله جاءت متنوِّعة، وكان مجيئه في القرآن الكريم على وجوه كثيرة، وهي بمجموعها وأفرادها تدلُّ على عظيم شأن الذِّكر وجليل قدره.
وقد ذكر الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه مدارج السّالكين1: أنَّ الذِّكر ورد في القرآن الكريم على عشرة أوجه، ذكرها مجملة، ثمّ أورد بعد ذلك تفصيلها. قال رحمه الله:
الأوّل: الأمرُ به مطلقاً ومقيّداً.
الثاني: النّهي عن ضدّه من الغفلة والنسيان.
الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته.
الرّابع: الثناء على أهله، والإخبار بما أعدّ الله لهم من الجنّة والمغفرة.
الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره.
السادس: أنّه سبحانه جعل ذكره لهم جزاءً لذكرهم له.
السابع: الإخبار بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء.
1 انظره (2/424 وما بعدها) .
الثامن: أنّه جعله خاتمة الأعمال الصالحة، كما كان مفتاحها.
التاسع: الإخبار عن أهله بأنّهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنّهم أولو الألباب دون غيرهم.
العاشر: أنّه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح.
ثم قال رحمه الله في بيان تفصيل هذه الأوجه العشرة:
ـ أمّا الأوّل: وهو الأمر به مطلقاً ومقيّداً، فكقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهََ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1، وقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضُرُّعاً وَخِيفَةً} 2.
ـ وأمّا النهي عن ضدّه فكقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} 3، وقوله:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 4.
ـ وأمّا تعليق الفلاح بالإكثار منه فكقوله: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5.
ـ وأمّا الثناء على أهله وحسن جزائهم فكقوله: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ
1 سورة الأحزاب، الآية:(41،42،43) .
2 سورة الأعراف، الآية:(205) .
3 سورة الأعراف، الآية:(205) .
4 سورة الحشر، الآية:(19) .
5 سورة الجمعة، الآية:(10) .
أَعَدَّ اللهُ لَهْمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.
ـ وأمّا خسران من لها عنه فكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 2.
ـ وأمّا جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له، فكقوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونَ} 3، وذكر العبد لربِّه محفوف بذكرين من ربِّه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكورًا، فذكر الربّ لعبده نوعان: نوعٌ قبل ذكر العبد لربِّه، ونوعٌ بعده.
ـ وأمّا الإخبار عنه بأنّه أكبرُ من كلِّ شيء، فكقوله تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} 4.
ـ وأمّا ختم الأعمال الصالحة به، فكما ختم به عمل الصيام بقوله:{ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 5، وختم به الحجّ في قوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 6، وختم به الصلاة بقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ
1 سورة الأحزاب، الآية:(35) .
2 سورة المنافقون، الآية:(9) .
3 سورة البقرة، الآية:(152) .
4 سورة العنكبوت، الآية:(205) .
5 سورة البقرة، الآية:(185) .
6 سورة البقرة، الآية:(200) .
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} 1، وختم به الجمعة بقوله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2، ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخرُ كلام العبد أدخله الله الجنة.
ـ وأمّا اختصاص الذّاكرين بالانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول، فكقوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم} 3.
ـ وأمّا مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنّه روحها، فإنّه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 4، وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه، بل هو روح الحج ولبِّه ومقصوده، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنّما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله". وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران، ومكافحة الأعداء فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 5.
فهذه وجوهٌ عشرةٌ ورد فيها الذِّكر في القرآن الكريم، وذُكِرَ لكلِّ
1 سورة النساء، الآية:(103) .
2 سورة الجمعة، الآية:(10) .
3 سورة آل عمران، الآية:(191) .
4 سورة طه، الآية:(14) .
5 سورة الأنفال، الآية:(45) .
وجه منها بعضُ أمثلة من الآيات القرآنية، والقرآن الكريم مليءٌ بالآيات المندرجة تحت هذه الأنواع، وهي يسيرة الحصول، قريبة المتناول لمن قرأ القرآن الكريم وتدبّر آياته، وما أحسن وأروع ما قاله الإمامُ الشَّوكاني رحمه الله في سياق آخر وهو ينطبق على سياقنا هذا تمام الانطباق حيث قال رحمه الله:"واعلم أن إيراد الآيات القرآنية على إثبات كلِّ مقصد من هذه المقاصد لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم، فإنّه إذا أخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في أيِّ موضع شاء، ومن أيِّ مكان أحبَّ، وفي أيِّ محلٍ أراد، ووجده مشحوناً به من فاتحته إلى خاتمته"1. اهـ كلامه رحمه الله.
بل إنَّ القرآن الكريم كلّه كتابُ ذكرٍ لله، فذكر الله تعالى هو لبُّ القرآن وروحُه وحقيقته وغايةُ مقصوده، يقول الله تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} 2، وقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 3، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهْمْ أَجْراً كَبِيراً} 4، وقال تعالى:{فَذِكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد} 5، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
1 إرشاد الثقات (ص:4) .
2 سورة ص، الآية:(29) .
3 سورة ق، الآية:(37) .
4 سورة الإسراء، الآية:(9) .
5 سورة ق، الآية:(45) .
وقد سمّى الله سبحانه وتعالى كتابَه العزيز ذكرًا فقال: {وَهَذَاذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} 1، وقال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وقال تعالى:{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ} 3، وقال تعالى:{أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} 4، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5، وقال تعالى:{ص وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} 6، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 7.وفي هذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم.
قال سفيان الثّوري رحمه الله: "سمعنا أنّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به"8. وروى الطبري بإسناده إلى عون بن عبد الله قال: أتينا أمّ الدرداء نتحدّث إليها، قال: ثمّ قلتُ: يا أمَّ الدرداء لعلّنا أمللناكِ؟ قالت: "أمللتموني والله، لقد التمستُ العبادة في كلِّ شيء فما وجدتُ شيئاً أشفى لنفسي من مجلس ذكرٍ، قال: ثمّ اختبأت، ثمّ
1 سورة الأنبياء، الآية:(50) .
2 سورة النحل، الآية:(44) .
3 سورة آل عمران، الآية:(58) .
4 سورة الأعراف، الآية:(63) .
5 سورة الحجر، الآية:(9) .
6 سورة ص، الآية:(1) .
7 سورة فصلت، الآية:(41،42) .
8 أورد هذا الأثر والذي بعده القرطبي في التذكار في فضل الأذكار (ص:55،59) .
قالت لرجلٍ: اقرأ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1 ") .
رحم الله أمَّ الدرداء، ورحم الله السّلف الصّالح أجمعين، كيف حفظوا أوقاتهم وأعمارهم وعمروها بذكر الله وما يقرِّب إليه، ولم تتردّد رحمها الله عندما سألها: لعلّنا أمللناك؟ أن تقول: نعم أمللتموني والله، فهي الحافظة لوقتها الحريصة على كمال دينها وتمامه، فلله ما أزكاها من ألفاظٍ صادقة، وأنفاسٍ عَطِرة، وإيمانيّات مؤَثِّرة، وخير متدفّق، والله المستعان وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
1 سورة القصص، الآية:(51) .