الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِن فوائد الذِكر
لايزال الحديث موصولاً في بيان فوائد الذِّكر، وقد مرَّ معنا فيما سبق ذكرُ فائدةٍ واحدةٍ له وهي: أنّه حِرزٌ لصاحبه من الشيطان، فمن خلى من الذِّكر لازمه الشَّيطان ملازمة الظِّلِّ، والله يقول:{ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 1 ولا يستطيع العبدُ أن يُحْرِزَ نفسه من الشيطان إلاّ بذكر الله تعالى، وهذه فائدةٌ جليلةٌ من فوائد الذِّكر العديدة.
وكما مرَّ بنا فإنّ الإمام العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله عدّ في كتابه القيِّم الوابلُ الصّيِّب ما ينيف على السَّبعين فائدة للذِّكر، ونستكمل هنا بعضَ تلك الفوائد العظيمة، ممّا أورده رحمه الله في كتابه المُشار إليه آنفا2.
ـ فمن فوائد ذكر الله العظيمة: أنّه يجلُبُ لقلب الذَّاكر الفرَحَ والسرورَ والرَّاحةَ، ويورثُ القلبَ السكونَ والطُّمأنينةَ، كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} 3، ومعنى قوله تعالى:{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي: يزول ما فيها من قلقٍ أو اضطراب، ويكون فيها بدَلَ ذلك الأنسُ والفرحُ والرَّاحة، وقوله:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} أي: حقيقٌ بها وحَرِيٌّ أن لا تطمئنَّ
1 سورة الزخرف، الآية:(36) .
2 وانظر: الوابل الصيب (ص:84 ـ 100) و (ص:145) .
3 سورة الرعد، الآية:(28) .
لشيءٍ سوى ذكره تبارك وتعالى.
بل إنّ الذكرَ هو حياةُ القلب حقيقةً، وهو قوتُ القلب والرّوح، فإذا فقده العبدُ صار بمنزلة الجسم إذا حيلَ بينَه وبين قوتِه، فلا حياةَ للقلب حقيقةً إلاّ بذكر الله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"الذِّكرُ للقلب مثلُ الماء للسَّمك، فكيف يكون حالُ السَّمك إذا فارق الماء"1.
ـ ومن فوائد ذكر العبد لِلَّه: أنّه يورثُه ذكرَ الله له، كما قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 2.
وفي الصّحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: "من ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم"3.
ـ ومن فوائده: أنّه يحطُّ الخطايا ويُذهبُها، ويُنجّي الذّاكرَ من عذاب الله، ففي المسند عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدميٌّ عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى"4.
ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يترتّبُ عليه من العطاء والثّواب والفضل ما لا يترتَّبُ على غيره من الأعمال، مع أنَّه أيسرُ العبادات؛ فإنَّ حركة
1 انظر: الوابل الصيب لابن القيم (ص:85) .
2 سورة البقرة، الآية:(152) .
3 صحيح البخاري (رقم:7405)، وصحيح مسلم (رقم:2675) .
4 المسند (5/239) ، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم5644) .
اللسان أخفُّ حركات الجوارح وأيسرُها، ولو تحرّك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشقّ عليه غاية المشقّة، بل لا يمكنُه ذلك، ومع هذا فالأجور المترتِّبة عليه عظيمةٌ والثّوابُ جزيلٌ.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائة مرّة كانت له عدلُ عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيِّئة، وكانت له حِرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل ممّا جاء به إلاّ رجلٌ عمل أكثر منه"1.
وفي الصّحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " من قال سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر"2.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَن أقول سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشّمسُ "3، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه غِراسُ الجنَّة، فالجنّة كما جاء في الحديث قيعانٌ، وهي طيِّبةُ التُّربة، عذبة الماء، وغِراسُها ذكرُ الله، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال
1 صحيح البخاري (رقم:3293،6403)، وصحيح مسلم (رقم:2691) .
2 صحيح البخاري (رقم:6405)، وصحيح مسلم (رقم:2691) .
3 صحيح مسلم (رقم:2695) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقيتُ ليلةَ أُسريَ بي إبراهيمَ الخليل عليه السلام فقال: يا محمّد أَقرئ أُمَّتك منّي السلام، وأخبِرهُم أنّ الجنّة طيِّبةُ التُّربة، عذبةُ الماء، وأنّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر"، قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ من حديث ابن مسعود1.
ورواه الإمامُ أحمد من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه، ولفظه:" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به مرَّ على إبراهيم فقال: مَنْ معك يا جبريلُ؟ قال: هذا محمّد، فقال له إبراهيم: مُرْ أمتك فليُكثروا من غِراس الجنّة، فإنّ تربتَها طيِّبة وأرضَها واسعةٌ، قال: وما غِراسُ الجنَّة؟ قال: لا حول ولا قوَّةَ إلاّ بالله". فهذا شاهدٌ للحديث الّذي قبله2.
وروى الترمذي من حديث أبي الزُّبير، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من قال: سبحان الله وبحمده، غُرِست له نخلةٌ في الجنَّة"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح3.
ورواه الإمامُ أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من قال: سبحان الله العظيم، نبت له غرسٌ في الجنّة"4.
1 سنن الترمذي (رقم:3462)، وحسنه الألباني بما له من الشواهد في السلسلة الصحيحة (رقم:105) .
2 المسند (5/418) .
3 سنن الترمذي (رقم:3465)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم:6429) .
4 المسند (3/440) .
ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يكون نورًا للذَّاكر في الدنيا، ونورًا له في قبره، ونورًا له في مَعَاده، يسعى بين يديه على الصِّراط، فما استنارَت القلوبُ والقبورُ بمثل ذكر الله تعالى.
قال اللهُ تعالى: {أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1.
فالأوّل: هو المؤمن، استنار بالإيمان بالله ومحبَّته ومعرِفتِه وذكرِه.
والآخرُ: هو الغافلُ عن الله تعالى، المعرِضُ عن ذكره ومحبَّته.
والشَّأنُ كلُّ الشَّأن والفلاحُ كلُّ الفلاح في النّور، والشَّقاءُ كلُّ الشَّقاءِ في فَواتِه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من سُؤال الله تبارك وتعالى ذلك بأن يجعَلَه في كلِّ ذرّاته الظّاهرة والباطنة، وأن يجعلَه محيطًا به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاتَه وجملَتَه نوراً.
فقد خرّج مسلمٌ في صحيحه من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في ذكر دعاء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل قال: "وكان في دعائه اللهمّ: اجعلْ في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخَلْفي نوراً، وعظِّم لي نوراً "، قال كُرَيب ـ أَحَدُ رواة الحديث ـ: وسبعًا في التَّابوت. فلَقيتُ بعضَ ولَد العبّاس فحدّثني بهنَّ، فذكر: عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشَري، وذكر خصلتين2.
1 سورة الأنعام، الآية:(122) .
2 صحيح مسلم (رقم:763) .
فالذِّكرُ نورٌ لِقلب الذَّاكر ووجهِه وأعضائِه، ونورٌ له في دنياه وفي البرزخ وفي يوم القيامة.
ـ ومن فوائد الذِّكر: أنّه يوجبُ صلاةَ الله عز وجل وملائكتِه على الذّاكر، ومن صلَّى اللهُ عليه وملائِكتُه فقد أفلح كلَّ الفلاح، وفاز كلَّ الفوز، يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينِ رَحِيماً} 1.
1 سورة الأحزاب، الآية:(41،42،43) .