الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 /
الأدلّة من السنة على فضل الحمد
وكما أنّ القرآن الكريم قد دلّ على فضل الحمد وعِظم شأنه بأنواع كثيرة من الأدلة سبق الإشارة إلى طرف منها، فكذلك السنة مليئة بذكر الأدلة على فضل الحمد وعِظم شأنه، وما يترتّب عليه من الفوائد والثمار والفضائل في الدنيا والآخرة، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وهذه مفخرةٌ عظيمةٌ ومكانةٌ رفيعةٌ حظيَ بها صلوات الله وسلامه عليه، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أول شافعٍ، وأوّل مشفّعٍ ولا فخر"1. فلمّا كان صلوات الله وسلامه عليه أحمدَ الخلائق لله، وأكملَهم قياماً بحمده أُعطي لواءَ الحمد، ليأوي إلى لوائه الحامدون لله من الأولين والآخرين، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث: "وما من نبيٍّ يومئذ آدم فمَن سواه إلاّ تحت لوائي"، وهو لواءٌ حقيقيٌّ يحمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده ينضوي تحته وينضمّ إليه جميعُ الحمّادين من الأولين والآخرين، وأقربُ الخلق إلى لوائه أكثرُهم حمداً لله وذِكراً له وقياماً بأمره، وأمّتُه صلى الله عليه وسلم هي خيرُ الأمم، وهم الحمّادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء، وقد رُوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أوَّلُ من يُدعى إلى الجنّة الحمّادون، الذين يحمدون الله في السرّاء
1 المسند (3/2)، وسنن ابن ماجه (رقم:4308) ، وسنن الترمذي (3615) .
والضرّاء"، رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك، لكن في إسناده ضعف، وقد رواه ابن المبارك في الزهد بسند صحيح موقوفاً على سعيد بن جُبير رحمه الله1.
وجاء في أثر يُروى عن كعب قال: "نجده مكتوباً محمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا فظٌّ ولا غليظٌ، ولا صخّابٌ بالأسواق، ولا يجزي بالسيّئة السيّئة، ولكنه يعفو ويغفر، وأمّتُه الحمّادون يكبِّرون الله عز وجل على كلِّ نجدٍ، ويحمدونه في كلِّ منزلة
…
"، رواه الدارمي في مقدّمة سننه2.
وفي الجَنّة بيتٌ يُقال له بيتُ الحمد، خُصَّ للذين يحمدون الله في السرّاء والضراء ويصبرون على مُرِّ القضاء، روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولَدُ العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدَك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجَنّة وسمُّوه بيتَ الحمد"3. فهذا حَمِدَ الله على الضرّاء فنال بحمده هذه الرتبة العلية، ولكن كيف يبلغ العبدُ هذه المنزلة، وكيف يصل إلى هذه الدرجة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والحمد على الضرّاء يوجبه مشهدان:
1 انظر: السلسة الضعيفة للألباني (2/94) .
2 سنن الدارمي (1/16) .
3 سنن الترمذي (رقم:1021)، وحسّنه العلاّمة الألباني في الصحيحة (رقم:1408) .
أحدهما: علم العبد بأنّ الله سبحانه مستوجبٌ ذلك، مستحقٌّ له بنفسه، فإنّه أحسنَ كلَّ شيء خلقه، وأتقن كلَّ شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم.
والثاني: علمُه بأنّ اختيارَ الله لعبدِه المؤمن خيرٌ من اختياره لنفسه، كما روى مسلمٌ في صحيحه وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلاّ كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكرَ فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيراً له "1، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السرّاء فهو خير له" 2. اهـ.
فإذا عَلم ذلك العبدُ وتيقّنه أقبل على حمد الله في أحواله كلِّها في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، ثم هو في حال شدّته لا ينسى فضلَ الله عليه وعطاءَه ونعمتَه.
جاء رجلٌ إلى يونس بن عبيد رحمه الله يشكو ضيقَ حاله، فقال له يونس:"أيسُرُّك ببصرك هذا مائةَ ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألفِ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفِ؟ قال: لا. قال: فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة".
1 صحيح مسلم (رقم:2999) بلفظ: "عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلَاّ للمؤمن
…
"، الحديث.
2 مجموع الفتاوى (10/43،44) .
وجاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنَّه قال: "إنّ رجلاً بُسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه، فجعل يحمدُ الله ويثني عليه حتى لم يكن له فراشٌ إلاّ بارِيَّةٌ1، قال: فجعل يحمدُ الله ويثني عليه، وبُسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب الباريّة: أرأيتك أنت على ما تحمد الله؟ قال: أحمده على ما لو أُعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطِهم إيّاه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتك بصرك، أرأيتك لسانك، أرأيتك يديك، أرأيتك رجليك "2.
وثبت في فضل الحمد ما رواه الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذِكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"3، فجعل صلوات الله وسلامه عليه حمدَ الله أفضلَ الدعاءِ، مع أنَّ الحمد إنّما هو ثناءٌ على المحمود مع حبِّه، ولهذا سُئل ابن عيينة رحمه الله عن هذا الحديث فقيل له: كأنّ الحمد لله دعاء؟ فقال: "أما سمعتَ قولَ أمية بن أبي الصلت لعبد الله ابن جدعان يرجو نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حباؤك إن شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يوما
…
كفاه من تعرضه الثناء
كريم لا يغيره صباحٌ
…
عن الخلق الجميلِ ولا مساءُ
1 الحصير المنسوج. القاموس المحيط (ص:452) .
2 ذكرهما ابن القيّم في عِدة الصابرين (ص:167) .
3 سنن الترمذي (رقم:3383)، وسنن ابن ماجه (رقم:3800) ، وحسّنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1104) .
فهذا مخلوقٌ اكتفى من مخلوقٍ بالثناء عليه، فكيف بالخالق سبحانه".
ويؤيّد هذا المعنى قولُ الله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 1، فجعل الحمدَ دعاء.
قال ابن القيّم رحمه الله: "الدعاء يُراد به دعاءُ المسألة ودعاء العبادة، والمُثنِي على ربّه بحمده وآلائه داعٍ له بالاعتبارين، فإنَّه طالبٌ منه، طالبٌ له، فهو الداعي حقيقة، قال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} 2") 3.
وممّا ورد في فضل الحمد وعِظم ثوابه عند الله ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطَهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصَّبرُ ضِياءٌ، والقرآن حجّةٌ لك أو عليك، كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقُها أو موبقُها"4.
فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن عظيم فضل الحمد وعظيم ثوابه، وأنَّه يملأ الميزان، وقد قيل: إنَّ المراد بملائه الميزان أي: لو كان الحمد جسماً لملأ الميزان، وليس بسديد، بل إنَّ الله عز وجل يمثّل أعمال بني آدم وأقوالهم صُوَراً يوم القيامة وتوزن حقيقةً، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في
1 سورة: يونس، الآية:(10) .
2 سورة: غافر، الآية:(65) .
3 صيغ الحمد المطبوع باسم مطالع السعد (ص:90) .
4 صحيح مسلم (رقم:223) .
الصحيحين: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"1.
فالحمد شأنُه عظيمٌ، وثوابُه جزيلٌ، ويترتّب عليه من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلاّ الله، وأهله هم الحَرِيُّون يوم القيامة بأعلى المقامات وأرفع الرُّتب وأعلى المنازل، فإنّ الله عز وجل يحبُّ المحامدَ، ويحبُّ من عبده أن يُثنيَ عليه، ويرضى عن عبده أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربَةَ فيحمده عليها، وهو تبارك وتعالى المانُّ عليهم بالنعمة والمتفضِّل عليهم بالحمد، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلبُ منهم الثناءَ بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحبُّ ذلك من عباده حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، فلله الحمد على نعمائه، وله الشكر على وافر فضله وجزيل عطائه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
1 صحيح البخاري (رقم:6049)، وصحيح مسلم (رقم:2694) .