الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعده إلَاّ هالك، و "لا ريب أنَّ الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحرّاه المتحرِّي من الذِّكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبِّر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان، وما سواها من الأذكار قد يكون محرَّماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون فيه شرك ممَّا لا يهتدي إليه أكثرُ الناس، وهي جملة يطول تفصيلها"1.
فالمشروع للمسلم هو أن يذكرَ الله بما شرع، وأن يدعوَ بالأدعية المأثورة، وقد نهى الله عن الاعتداء في الدعاء، فينبغي لنا أن نتبّع فيه ما شُرع وسنَّ، كما أنَّه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، وأنْ لا نعدل عن ذلك إلى غيره "ومن أشدِّ الناس عيباً من يتّخذ حزباً ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان حزباً لبعض المشايخ، ويَدَعُ الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيِّد بني آدم، وإمام الخلق وحجّة الله على عباده"2، فالخير كلُّه في اتباعه، والاهتداء بهديه، وترسُّم خطاه، فهو القدوة والأسوة صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان أكملَ الناس ذِكراً لله وأحسنَهم قياماً بدعائه سبحانه.
ولهذا فإنَّه إذا اجتمع للعبد في هذا الباب لزومُ الأذكار النبوية والأدعية المأثورة مع فهم معانيها ومدلولاتها، وحضورِ قلبٍ عند الذِّكر فقد كمل نصيبُه من الخير.
1 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/510،511) .
2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/525) .
قال ابن القيّم رحمه الله: "وأفضل الذِّكر وأنفعُه ما واطأ القلبُ اللسانَ، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذَّاكر معانيه ومقاصده"1.
ولَمّا كان الأمر بهذه المنزلة وعلى هذا القدر من الأهمية نشأ عندي رغبةٌ في أنْ أعدَّ وأقدِّم ـ مع الاعتراف بالعجز وعدم الأهلية ـ دراسةً في الأذكار والأدعية النبوية في بيان فقهها وما اشتملت عليه من معان عظيمة، ومدلولات كبيرة، ودروس جليلة، وعِبرة مؤثّرة، وحِكم بالغة، واجتهدتُ في جمع كلام أهل العلم في ذلك، فاجتمع عندي من ذلك بحمد الله فوائدُ كثيرةٌ ولطائفُ عديدةٌ وتنبيهاتٌ دقيقةٌ من كلام أهل العلم المحقّقين، ولا سيما الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، ثمَّ نظَّمتُ ما اجتمع عندي من ذلك وألّفتُ بينه، وجعلته بعنوان:
"فقه الأدعية والأذكار"
وقد أُذيع جزءٌ كبير منه في حلقات عبر الإذاعة المباركة، إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية ـ حرسها الله ـ ولا يزال مستمرًّا عرضُه حتى الآن، وقد رغِب غيرُ واحد من مشايخي وإخواني أن أقوم بنشره مطبوعاً ليتنوّع مجالُ نفعه، ولتكثر فائدته، فأجريت عليه تعديلات يسيرة في أسلوبه ليكون مناسباً للنشر، وجعلتُ لكلِّ حلقة عنواناً خاصاً يدلُّ على مضمونها، ويُرشد إلى موضوعها، وسوف يصدر ـ بإذن الله ـ في مجموعات متناسبة الحجم والموضوع، وهذا هو القسم الأول منه، وإني لأرجو الله الكريم أن يتقبَّل مني هذا العمل
1 الفوائد لابن القيم (ص:247) .
وسائر أعمالي، وأن يُبارك فيه، وأن يجعله نافعاً لعباده المسلمين، فهو سبحانه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، وهو حسبنا نِعم الوكيل.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدّم بالشكر الجزيل لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله تعالى، الذي تفضَّل مشكوراً بقراءة هذا الكتاب والتعليق عليه1 والتقديم له على كثرة أعماله، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسناته وأن يجزيه عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء، إنَّه سميع مجيب.
وكتب: عبد الرزاق البدر
غفر الله له، وعفا عنه، ورحمه، ووالديه وجميع المسلمين.
1 وقد جعلتُ تعليقاته حفظه الله بين معقوفين [] في داخل المتن.
1 /
أهميّةُ الذِّكر وفضله
غيرُ خافٍ على كلِّ مسلم أهميّةُ الذكر وعظيمُ فائدته؛ إذ هو من أجلِّ المقاصد وأنفع الأعمال المقرِّبة إلى الله تعالى، وقد أمر الله به في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، ورغّب فيه، ومدح أهله وأثنى عليهم أحسن الثناء وأطيبه.
يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1، ويقول تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكَمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكَمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 2، ويقول تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 3، ويقول تعالى:{وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 4.
فأمر تعالى في هذه الآيات بذكره بالكثرة، وذلك لشدّة حاجة العبد إلى ذلك وافتقاره إليه أعظم الافتقار، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأيُّ لحظة خلا فيها العبدُ عن ذِكر الله عز وجل كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظمَ ممّا ربح في غفلته عن الله، وندم على ذلك ندماً شديداً عند لقاء الله يوم القيامة.
1 سورة الأحزاب، الآية:(41) .
2 سورة البقرة، الآية:(200) .
3 سورة آل عمران، الآية:(191) .
4 سورة الأحزاب، الآية:(35) .
بل لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في شعب الإيمان للبيهقي، والحلية لأبي نعيم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّه قال:" ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلاّ تحسّر عليها يوم القيامة"1.
والسُّنّةُ مليئةٌ بالأحاديث الدّالة على فضل الذِّكر، ورفيع قدره، وعلوِّ مكانته، وكثرةِ عوائده وفوائده على الذّاكرين الله كثيرًا والذّاكرات.
فقد أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذّهبي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئُكم بخير أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعها في درَجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهبِ والورِق، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله"2.
وروى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"سبق المُفرِّدون، قالوا: وما المُفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذّاكرون الله كثيراً والذّاكرات"3.
1 شعب الإيمان (رقم:508) ، الحلية (5/362)، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:5720) .
2 سنن الترمذي (رقم:3377) ، سنن ابن ماجه (3790) ، والمستدرك (1/496)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:2629) .
3 صحيح مسلم (رقم:2676) .
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَثلُ الذي يذكُرُ ربَّه والّذي لا يذكرُ ربّه مثَلُ الحيِّ والميِّت"1.
والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، ولعلّ من المناسب هنا والحديث ماضٍ بنا في فضل الذكر أن ألخِّص بعض ما ذكره أهلُ العلم من فوائد لذكر الله تعالى يَجنيها الذّاكرون في حياتهم الدُّنيا ويوم القيامة، ومن أحسن من رأيتُه تكلَّم في هذا الموضوع وجمع أطرَافَه، ولمَّ شَتاتَه الإمامُ العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله في كتابه العظيم الوابل الصيِّب من الكَلِمِ الطيِّب، وهو مطبوعٌ طبعاتٌ كثيرةٌ، ومُتَداوَلٌ بين أهل العلم وطلاّبه، فقد قال رحمه الله في كتابه المذكور2: وفي الذِّكر أكثرُ من مائة فائدة
…
، ثمّ أخذ يعدِّد فوائد الذِّكر، فذكر ما يزيد على السبعين فائدة، كلُّ واحدة منها بمفردها كافيةٌ لحفز النُّفوس وتحريك الهِمم للاشتغال بالذِّكر، كيف وقد اجتمعت تلك الفوائد الكُثار والعوائد الغِزار، والأمر فوق ما يصفه الواصفون، ويعدُّه العادُّون {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهْمْ مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.
1 صحيح البخاري (رقم:6407) .
(ص:84) .
3 سورة السَّجدة، الآية:(17) .
ولعلّي أذكر لك أخي المسلم هنا فائدةً واحدةً من فوائد الذِّكر مما ذكره رحمه الله، على أن أستكمل لك بعض هذه الفوائد إن شاء الله، مع وصيَّتي لك باقتناء الكتاب المذكور والانتفاع به، فهو حقًّا كتابٌ عظيم النَّفع، كبيرُ الفائدة.
ـ فمن فوائد الذِّكر: أنّه يطردُ الشيطان ويقمعُه ويكسِرُه1، يقول الله تعالى:{وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2، ويقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 3.
وثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، ومستدرك الحاكم وغيرها بإسناد صحيح، من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنّ اللهَ سبحانه أمر يحيى بن زكريّا بخمس كلمات، أن يعمل بها، ويأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنّه كاد أن يُبطّئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إنّ الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمُرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها فإمّا أن تأمرهم وإمّا أن آمُرَهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يُخسفَ بي أو أعذب، فجمع النّاسَ في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنّ اللهَ أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ وآمرَكم أن تعملوا بهنَّ
…
"4.
1 انظر: الوابل الصيّب (ص:84) .
2 سورة الزُّخرف، الآية:(36) .
3 سورة الأعراف، الآية:(201) .
4 المسند (4/202)، سنن الترمذي (رقم:2863) ، المستدرك (1/117، 118، 421)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1724)
فذكر أمرَهم بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصّدقة، ثمّ ذكر الخامسةَ فقال: "وآمُرُكم أن تذكروا اللهَ، فإنّ مَثَلُ ذلكَ كمَثَلِ رجُلٍ خرج العدوُّ في أثَرِه سراعاً حتى إذا أتى على حِصنٍ حصينٍ فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يحرزُ نفسَه من الشَّيطان إلاّ بذكر الله تعالى
…
"، إلى آخر هذا الحديث العظيم.
وقد وصفه العلاّمةُ ابن القيِّم رحمه الله بأنَّه حديث عظيمُ الشَّأن، وينبغي لكلِّ مسلم حِفظُهُ وتعقُّلُه1.
فهذا الحديث مشتملٌ على فضيلةٍ عظيمةٍ للذِّكر، وأنّه يطرُد الشيطان، ويُنجي منه، وأنّه بمثابَة الحِصن الحصين والحِرز المكين الّذي لا يحرزُ العبدُ نفسَه من هذا العدوِّ اللّدود إلاّ به، وهذه ولا ريب فضيلة عظيمة للذِّكر؛ ولهذا يقول ابن القيّم رحمه الله: "فلو لم يكن في الذّكر إلاّ هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتُرَ لسانُه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهِجا بذكره، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوِّه إلاّ بالذِّكر، ولا يدخل عليه العدوُّ إلاّ من باب الغفلة، فهو يرصُدُه، فإذا غفل وثب عليه وافترسَه، وإذا ذكرَ اللهَ تعالى انخنس عدوُّ الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذّباب، ولهذا سُمِّيَ (الوسواسُ الخنَّاس)، أي: يوسوس في الصدور فإذا ذكرَ الله تعالى خنس أي كفَّ وانقبضَ.
1 الوابل الصيّب (ص:31) .
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: الشَّيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنَس"1.
فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من شرِّ الشيطان وشِركِه، ومن همزِه ونَفخِه ونفثِه، إنّه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ.
1 الوابل الصيب (ص:72) .