الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 /
بيان فساد الذِّكر بالاسم المفرد مظهَراً أو مضمَراً
كان الحديث فيما مضى في بيانِ فضل كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وأنَّها خيرُ ما ذَكَر به الذاكرون ربَّهم، وأفضلُ ما لهجت به ألسنتهم، وهي كلمةٌ يسيرٌ لفظها، عظيمٌ معناها، وحاجةُ العباد إليها هي أعظم الحاجات، وضرورتُهم إليها هي أعظم الضرورات، بل إنَّ حاجتهم وضرورتهم إليها أعظمُ من حاجتهم وضرورتِهم إلى طعامهم وشرابهم ولباسهم وسائر شؤونهم، ولما كان بالناس ـ بل بالعالم كله ـ من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له ولا حَدَّ كانت من أكثر الأذكار وجودًا وأيسرها حصولاً وأعظمها معنى وأجلِّها مكانة، ومع هذا كلِّه إلا أنَّ بعض العوام والجُهال يعدلون عنها وينصرفون إلى دعواتٍ مبتدعةٍ وأذكارٍ مخترعةٍ ليست في الكتاب ولا في السنة، وليست مأثورةً عن أحد من سلف الأمة1.
ومن ذلك ما يفعله بعض الطرقيَّة من أهل التصوّف في أذكارهم، حيث يذكرون الاسم المفرد مظهرًا فقط، فيقولون:(الله، الله) ، يكرِّرون لفظ الجلالة، وربما أتى بعضهم بدل ذلك بالاسم المضمر (هو) مكرّرًا، وقد يغلو بعضهم في ذلك فيجعل ذكر كلمة التوحيد لا إله إلا الله للعامة، وذِكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الاسم المضمر لخاصة الخاصة، وربما قال بعضُهم: لا إله إلا الله للمؤمنين، والله للعارفين، وهو للمحققين، فيفضِّلون بذلك ذكرَ الاسم المفرد مظهرًا، أو ذكره
1 انظر: فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص:45) .
مضمرًا على كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها أفضلُ الذِّكر، وأنَّها أفضلُ ما قاله عليه الصلاة والسلام هو والنبيّون من قبله، وقد سبق أن مرَّ معنا بعضُ الأحاديث الدالة على ذلك، هذا مع أنَّ ذِكر الاسم المفرد مظهرًا أو ذِكره مضمرًا ليس بمشروع في الكتاب ولا في السنة، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من سلف الأمة، وإنَّما لهَج به قوم من ضلاّل المتأخرين بلا حجة ولا برهان.
وقد فنَّد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعاوى هؤلاء في ذكرهم المحدث هذا، وبَيَّن فساد ما قد يتشبّثون به لنصرته وتقريره، قال رحمه الله:"وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك واستدل عليه تارةً بوَجدٍ، وتارةً برأيٍ، وتارةً بنقلٍ مكذوبٍ، كما يروي بعضُهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لقّن عليَّ بن أبي طالب أن يقول: "الله، الله، الله، فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم أمر عليّاً فقالها ثلاثاً"، وهذا حديثٌ موضوعٌ باتفاق أهل العلم بالحديث، وإنَّما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذِّكر المأثور عنه، ورأس الذكر لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي عرضها على عمِّه أبي طالب حين الموت، وقال: "يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله"، وقال: "إنِّي لأعلمُ كلمةً لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا وجد روحُه لها رَوْحاً"، وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، وقال: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله"، والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا المعنى.
ثم قال: فأما ذكر الاسم المفرد فلم يُشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه، وأمَّا ما يتوهّمه طائفةٌ من غالطي المتعبدين في قوله تعالى:{قُلِ اللهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ} 1، ويتوهّمون أنَّ المراد قولُ هذا الاسم، فخطأ واضحٌ، ولو تدبّروا ما قبل هذا تبيّن مرادُ الآية، فإنَّه سبحانه قال:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ ولَا آبَآؤُكُمْ قُلِ اللهُ} 2، أي قُلْ الله أنزلَ الكتاب الذي جاء به موسى، فهذا كلامٌ تامٌّ، وجملةٌ اسميّةٌ مركّبةٌ من مبتدأ وخبر، حُذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب، وهذا قياس مطَّرَد في مثل هذا في كلام العرب
…
وذكر أمثلة على ذلك، إلى أن قال رحمه الله: وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنَّه غير مستحب ـ أي الذكرُ بالاسم المفرد من غير كلام تام ـ وكذلك بالأدلية العقلية الذوقية، فإنَّ الاسم وحده لا يُعطي إيماناً ولا كفراً، ولا هدى ولا ضلالاً، ولا علماً ولا جهلاً
…
إلى أن قال: ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أنَّ الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملةً تامة ولا كلاماً مفيداً، ولهذا سمع بعضُ العرب مؤذِّناً يقول: أشهد أنَّ محمداً رسولَ الله، قال: فعل ماذا؟ فإنَّه لما نصب الاسمَ صار صفةً، والصفةُ من تمام الموصوف، فطَلَبَ بصحة طَبْعِه الخبرَ المفيد، ولكن المؤذِّن قصد الخبر
1 سورة الأنعام، الآية:(91) .
2 سورة الأنعام، الآية:(91) .
ولَحَن، ولو كرّرَ الإنسان اسم الله ألف ألف مرّة لم يَصِر بذلك مؤمناً، ولم يستحقّ ثوابَ الله ولا جنّتَه، فإنَّ الكفار من جميع الأديان يذكرون الاسم مفردا، سواءً أقرّوا به وبوحدانيتِه أم لا، حتى إنَّه لما أمرنا بذِكر اسمه كقوله:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} 1، وقوله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} 2، وقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} 3، وقوله:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 4، ونحو ذلك كان ذكرُ اسمه بكلام تام مثل أن يقول: باسم الله، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك، ولم يُشرع ذكرُ الاسم المجرّد قط، ولا يحصل بذلك امتثالُ أمرٍ، ولا حِلُّ صيدٍ ولا ذبيحةٍ ولا غير ذلك.
إلى أن قال رحمه الله: فثبت بما ذكرناه أنَّ ذكر الاسم المجرّد ليس مستحباً، فضلاً عن أن يكون هو ذِكر الخاصة، وأبعدُ من ذلك ذكر الاسم المضمر، وهو: هو، فإنَّ هذا بنفسه لا يدل على معيّن، وإنَّما هو بحَسَب ما يُفسِّره من مذكورٍ أو معلومٍ فيبقى معناه بحَسَب قصد المتكلّم ونيّته"5.
وقال في موضع آخر: "والذِّكرُ بالاسم المضمر المفرد أبعدُ من
1 سورة المائدة، الآية:(4) .
2 سورة الأنعام، الآية:(121) .
3 سورة الأعلى، الآية:(1) .
4 سورة الواقعة، الآية:(74) .
5 مجموع الفتاوى (10/556 ـ 565) .
السنة وأدخلُ في البدعة وأقربُ إلى إضلال الشيطان
…
إلى أن قال: والمقصود هنا أنَّ المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامّة، وهو المسمّى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقربُ إلى الله ومعرفتُه ومحبّتُه وخشيتُه، وغيرُ ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصّة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصوُّرات فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد
…
، وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلاّ الله ولا نعبده إلاّ بما شرع لا نعبده بالبدع"1. اهـ كلامه رحمه الله، وفيه من التحقيق والبيان ما لا يدَعُ مجالاً للتّردد في الأمر، والحقُّ أبلج.
إنَّ تكالب هؤلاء على هذه الأذكار المحدثة، التي لا أصل لها في دين الله، ولا أساس لها من شرعه، وتركهم في مقابل ذلك السُّنن الصحيحة، والأذكار الشرعيّة، ليثير في المسلم تساؤلات وتساؤلات، ما الذي حمل هؤلاء على الانصراف عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم والرغبة عن سنّته، إلى أمورٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأذكارٍ ليس عليها في الشرع أيُّ دليل ولا برهان، ثمّ مع هذا يعظِّمونها غاية التعظيم ويفخِّمون شأنها، ويقلّلون من شأن الأدعية النبويّة والأذكار الشرعيّة التي كان يقولها سيِّد الخلق أجمعين، وخير الأنبياء والمرسلين، وإمام وقدوة المخبتين الذّاكرين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
1 مجموع الفتاوى (10/227 ـ 134) .