الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
25 /
التحذير من الإلحاد في أسماء الله
كان الحديث في ما مضى عن قول الله تبارك وتعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وقد بقي معنا من معنى الآية تحذيرُ الله من الإلحاد في أسمائه، وتوعّده الملحدين فيها بأنَّه سيجازيهم على أعمالهم، ويُحاسبهم عليها أشدّ الحساب، فهو سبحانه يُمهِل ولا يُهمِل.
وقد تهدّد الله في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين:
الأول: صيغة الأمر في قوله: {وَذَرُوا} فإنَّها للتهديد.
الثاني: في قوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.
والإلحاد في اللغة هو الميل والعدول، ومنه اللّحد، وهو الشقّ في جانب القبر الذي مال عن الوسط، ومنه المُلحد في الدين، أي: المائل عن الحق إلى الباطل، قال ابن السِّكِّيت:"الملحد العادل عن الحق المُدخل فيه ما ليس منه"3.
والإلحاد في أسماء الله سبحانه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو أنواع عديدة يجمعها هذا الوصف، ولما حذّر الله في هذه الآية من الإلحاد في أسمائه هذا التحذير كان متأكّداً على المسلم أن يعرف الإلحاد في أسمائه وأنواعَه؛ لئلا يقع فيه كما قال الله
1 سورة: الأعراف، الآية:(180) .
2 انظر: أضواء البيان للشنقيطي (2/329) .
3 تهذيب اللغة للأزهري (4/421) .
تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} 1، أي: تتضحُ للناس فيكونون منها على حذر وحيطة، وقد قيل:
…
تعلَّم الشرَّ لا للشرِّ ولكن لتَوَقِّيه
…
فإنَّ من لم يعرف الشرَّ من النَّاس يَقَع فيه
والإلحاد في أسماء الله كما تقدّم أنواع 2:
أحدها: أن يسمَّى الأصنام والأوثان بها، كتسمية المشركين اللَاّت من الإله، والعُزَّى من العزيز، ومنَاةَ من المنَّان، وتسميتهم الصنم إلهاً، قال ابن جرير في تفسير قوله:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} : "يعني به المشركين، وكان إلحادهم في أسماء الله أنَّهم عدلوا بها عما هي عليه، فسمّوا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسمّوا بعضها اللَاّت اشتقاقاً منهم لها من اسم الله الذي هو الله، وسمّوا بعضها العزى اشتقاقاً لها من اسم الله الذي هو العزيز"3. ثم روى عن مجاهد في معنى الآية أنَّه قال: "اشتقوا العزى من العزيز، واشتقوا اللات من الله". اهـ.
فهذا إلحاد حقيقة فإنَّهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
النوع الثاني: تسمية الله بما لا يليق بجلاله وكماله، وأسماءُ الله الحسنى توقيفيةٌ لا يجوز لأحد أن يتجاوز فيها القرآن والسنة، ولهذا فإنَّ من أدخل فيها ما ليس منها فهو ملحدٌ في أسماء الله، قال الأعمش
1 سورة الأنعام، الآية:(55) .
2 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (3/169) .
3 جامع البيان (6/133) .
رحمه الله في تفسير الآية المتقدمة: "تفسيرها: يُدخلون فيها ما ليس منها"1. اهـ.
ومن ذلك تسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة إياه العلةَ الفاعلة بالطبع، وتسمية بعض أهل الضلال له بمهندس الكون ونحو ذلك، فكلُّ ذلك من الإلحاد في أسماء الله.
النوع الثالث: تعطيل الأسماء عن معانيها وجَحدُ حقائقها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"الإلحاد التكذيب"2، ولا ريب أنَّ من أنكر معاني هذه الأسماء وجحد حقائقها فهو مكذبٌ بها ملحدٌ في أسماء الله، ومن ذلك قول من يقول من المعطلة: إنَّها ألفاظٌ مجرّدةٌ لا تدل على معاني، ولا تتضمّن صفات، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع له، ولا بصر له، ولا رحمة، تعالى الله عما يقولون، وسبحان الله عما يصفون، ولا ريب أنَّ هذا من الإلحاد في أسماء الله، ثم إنَّ هؤلاء المعطلين متفاوتون في هذا التعطيل، فمنهم من تعطيله جزئيٌّ، بمعنى أنَّه يعطّل بعضاً ويثبت بعضاً، ومنهم من تعطيله كليٌّ، بمعنى أنَّه يعطل الجميعَ فلا يُثبت شيئاً من الصفات التي تدل عليها أسماء الله الحسنى، وكلُّ من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك، وحظّه من هذا الإلحاد بحسب حظِّه من هذا الجحد.
النوع الرابع: تشبيه ما تضمّنته أسماء الله الحسنى من صفاتٍ
1 رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/1623) .
2 رواه ابن جرير في تفسيره (6/134) .
عظيمةٍ كاملةٍ تليق بجلال الله وجماله بصفات المخلوقين، تعالى الله عما يقول المشبّهون علوًّا كبيرًا، والله يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1، ويقول سبحانه:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} 2، فالله سبحانه لا سميّ له ولا شبيه ولا مثيل، فهو سبحانه لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، والمشَبِّه كما يقول الإمام أحمد رحمه الله هو الذي يقول:"يد الله كيَدِي، وسمعه كسمعي، وبصره كبصري تعالى الله عن ذلك"3، أما من يُثبت أسماء الله وصفاته على وجه يليق بجلال الله وكماله فهو بريء من التشبيه، وسالم من التعطيل.
فهذه أنواعٌ أربعةٌ للإلحاد في أسماء الله الحسنى، وقد وقع في كل منها جماعات من المبطلين حَمَانا الله وإياكم، وَوَقَانا ووقاكم بمنّه وكرمه من كل ضلال وباطل، وقد برّأ الله أتباع رسله وورثته القائمين بسنته من ذلك كلِّه فلم يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لا لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتُهم برياً من التشبيه، وتنزيهُهم خليّا من التعطيل، كما قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
وبهذه الآية الكريمة نختم الحديث هنا حامدين لله، مُثنين عليه بما هو أهله، وبما أثنى به على نفسه، حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى.
1 سورة الشورى، الآية:(11) .
2 سورة مريم، الآية:(65) .
3 انظر: نقض التأسيس لابن تيمية (1/476) .