المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عن السعى بعد طواف الإِفاضة وإن لم يسع بعد طواف - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ٤

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: عن السعى بعد طواف الإِفاضة وإن لم يسع بعد طواف

عن السعى بعد طواف الإِفاضة وإن لم يسع بعد طواف القدوم لزمه السعى بعد طواف الإِفاضة. والطواف بالبيت العتيق صورة من أعظم صوَر العبودية للَّه عز وجل ومظهر من أبرز مظاهر الضراعة للحيى القيوم ومثال من أروع أمثلة الطاعة والانقياد للَّه عز وجل ولم يشرع اللَّه تبارك وتعالى الطواف حول مكان فى الأرض سوى بيته المحرم الذى جعله اللَّه تبارك وتعالى مثابة للناس وأمنا، وأقامه موئلا للتوحيد وإخلاص العبادة للَّه تبارك وتعالى، واختاره قبلة لجميع المسلمين. فلا يحل لمسلم أن يطوف حول قبر مهما كان صاحب القبر ولا حول مكان مهما كان هذا المكان سوى الكعبة المشرفة التى جعل اللَّه الطواف خاصا بها، ومن أعظم ما يعبد اللَّه عز وجل به حولها ولذلك قال عز من قائل:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وكما قال اللَّه عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وإلى حديث قادم إن شاء اللَّه تعالى والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

المدينة المنورة فى 18/ 11/ 1395 هـ.

‌الحلقة السابعة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم أيها الإِخوة المؤمنون.

ص: 254

السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أما بعد:

فقد أوضحت فى حديث سابق أن الأعمال التى يتحلل بها الحاج بعد نزوله من مزدلفة ثلاثة، من عمل اثنين منها حل التحلل الأول الذى يبيح له لبس الملابس المخيطة أى المحيطة والطيب وغيره من الأمور التى كانت محرمة عليه بالإحرام إلا النساء فإذا عمل الثالث حل له كلُّ شئ حتى النساء وهذه الأفعال الثلاثة هى رمى جمرة العقبة والحلق أو التقصر والطواف بالبيت العتيق ثم السعى لمن عليه سعى. أما نحر الهدى ممن عليه هدى فلا دخل له بالتحلل. والسنة ترتيب الأفعال الأربعة يوم العيد وهى رمى جمرة العقبة ونحر الهدى والحلق أو التقصير والطواف بالبيت ثم السعى لمن عليه سعى فيبدأ الحاج برمى جمرة العقبة ثم يذبح هديه إن كان متمتعا أو قارنا ثم يحلق رأسه أى يُقَصِّرُه ثم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا. أو كان قارنا أى مفردا ولم يسع بعد طواف القدوم فلو قدَّم الحاج واحدا من هذه الأربعة على الآخر ولم يعملها على هذا الترتيب فلا حرج لما روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقف فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح: فقال صلى الله عليه وسلم: "اذبح ولا حرج" فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى فقال: "ارم ولا حرج" فما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن شئ قُدِّم ولا أخِّر

ص: 255

إلا قال: "افعل ولا حرج" وفى لفظ لمسلم: "أتاه رجل فقال: "حلقت قبل أن أرمى قال صلى الله عليه وسلم: "ارم ولا حرج" فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمى فقال: "ارم ولا حرج" كما روى البخارى من حديث حبر الأمة وترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت فقال: "لا حرج" كما روى الترمذى من حديث على -رضى اللَّه عنه- أن رجلا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللَّه! إنى أفضت قبل أن أحلق؟ قال: "احلق أو قصِّر ولا حرج" وجاء آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمى؟ قال: ارم ولا حرج" وقد أوضح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الحلق أفضل من التقصير يعنى بالنسبة للرجال فقد روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال فى حجة الوداع: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال: "والمقصرين" وفى لفظ لمسلم من طريق يحيى بن الحصين عن جدته رضى اللَّه عنها أنها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة. ولا يكتفى فى التقصير بتقصير بعض الرأس بل لابد من تقصير جميع شعر رأسه أما المرأة فإنها تُقَصِّر من كل ضفيرة

ص: 256

عليها حلق شعر رأسها فى الحج أو غيره لما روى الترمذى من حديث علي وعائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها كما روى أبو داود من حديث عبد اللَّه ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على النساء الحلق إنما على النساء التقصير" وينبغى للحاج أن ينحر هديه بنفسه إن كان قادرا على ذلك لما روى مسلم فى حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما فى صفة حجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا رضى اللَّه عنه فنحر ما غبر -أى ما بقى- وأشركه فى هديه ثم أمر من كل بَدَنَة بِبَضْعَةٍ فجعلت فى قِدْر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. والتقرب إلى اللَّه تبارك وتعالى بالهدايا والذبائح هو دين جميع النبيين والمرسلين وإلى ذلك يشير اللَّه تبارك وتعالى فى كتابه الكريم حيث يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} كما أشار اللَّه تبارك وتعالى إلى أن الهدى إنما يكون من بهيمة الأنعام وهى الإِبل والبقر والغنم فى قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} كما أخبر الرب وتبارك وتعالى أن البدن من شعائر اللَّه فليس لأحد أن يدفع مكان الهدى قيمته ولذلك

ص: 257

لم يؤثر عن واحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا من أتباعهم بإحسان أن أفتى بجواز دفع قيمة الهدى وترك الذبح مهما كان، لما فهموا عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن إراقة دم الهدى مقصود شرعى لا تسد مسده النقود مهما كانت أو بلغت وإلى ذلك يشير الرب تبارك وتعالى حيث يقول:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} وقد بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن البدنة تكفى عن سبعة وأن البقرة تكفى عن سبعة كذلك فقد روى مسلم فى صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: نحرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وفى لفظ لجابر رضى اللَّه عنه فى البخارى ومسلم قال: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نشترك فى الإِبل والبقر كلٌ سبعة منا فى بدنة" وقد أوضحت الشريعة الإِسلامية أن الهدى إنما يجب على المتمتع أو القارن فإن اللَّه تبارك وتعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} كما

ص: 258

ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر هديه وكان قارنا. كما أشار اللَّه تبارك وتعالى إلى زمان ومكان نحر الهدى حيث يقول: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وقد بيَّن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم زمان ومكان نحر الهدى الذى أشارت إليه الآية الكريمة فيما رواه مسلم وأحمد وأبو داود من حديث جابر رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا فى رحالكم" كما رواه ابن ماجه أيضا وفيه: "وفجاج مكة طريق ومنحر" قال القرطبى رحمه الله فى تفسير قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الآية: قال: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بالإِجماع وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر ويستمر النحر إلى ثلاثة أيام من يوم النحر، وينبغى لصاحب الهدى أن يأكل منه وقد حض اللَّه تبارك وتعالى على ذلك فى غير موضع من كتابه الكريم فهو يقول:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ويقول: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} والبائس الفقير هو المضطر المحتاج. والقانع هو الفقير أى السائل والمعتر هو الزائر أى المتعرض لآكل اللحم. وفى ذلك توسعة على المسلمين ومخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم الأكل من الهدايا ولذلك حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأكل من هديه وهدى أزواجه رضى اللَّه عنهن وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قارنا وكانت أزواجه رضى اللَّه عنهن متمتعات. وإلى حديث قادم إن شاء اللَّه والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

المدينة المنورة فى 18/ 1395/11 هـ.

ص: 259