المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الإحرام وما يتعلق به - فقه الإسلام = شرح بلوغ المرام - جـ ٤

[عبد القادر شيبة الحمد]

الفصل: ‌باب الإحرام وما يتعلق به

‌باب الإحرام وما يتعلق به

ص: 40

1 -

عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: ما أهَلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد" متفق عليه.

[المفردات]

الإحرام: هو الدخول فى النسك والاشتغال بأعماله قصدا يقال: أحرم إذا دخل فى النسك وحرم عليه بعض ما كان مباحا له كلبس المخيط أو المحيط بالنسبة للذكور وأخذ شئ من الشعر أو الأظفار أو مس الطيب بالنسبة للرجال أو النساء. وأبرز مظاهر الإحرام هى التلبية بعد التجرد من المخيط والمحيط لمن يجب عليه التجرد منهما، وهو شبيه بتكبيرة الإحرام فى الصلاة فإن بها يحرم بعض ما كان مباحا للإنسان قبلها، فلذلك ينبغى نصح العوام الذين يبدءون بالتلبية وهم فى طريقهم إلى الميقات قبل وصوله، أو يلبون وهم لا يقصدون الدخول فى النسك.

ما أهل: أى ما أحرم ولبَّى.

إلا من عند المسجد: أى مسجد ذى الحليفة.

[البحث]

سبب هذا الحديث أن بعض الصحابة رَوَوا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-

ص: 40

أحرم من البيداء وهى المفازة التى تقع بعد ذى الحليفة من جهة مكة. وإنما روى ذلك من رواه لأنه لم يكن قد رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ما أحرم ولبى من عند المسجد فروى ما رأى، وابن عمر رضى اللَّه عنهما رآه عندما لبَّى عند المسجد، فأنكر على من قال: إنه أحرم من البيداء، ففى لفظ مسلم من حديث سالم بن عبد اللَّه أنه سمع أباه رضى اللَّه عنه يقول: بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الإحرام من عند المسجد يعنى ذا الحليفة. وفى لفظ لمسلم من حديث سالم قال: كان ابن عمر رضى اللَّه عنهما إذا قيل له: الإحرام من البيداء قال: البيداء التى تكذبون فيها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره" ومعنى تكذبون فيها أى فى شأنها ونسبة الإحرام إليها بأنه كان من عندها وأنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها وهو لم يحرم منها وإنما أحرم قبلها من عند مسجد ذى الحليفة ومن عند الشجرة التى كانت هناك وكانت عند المسجد، وأفاد النووى بأن ابن عمر سماهم كاذبين لأنهم أخبروا بالشئ على خلاف ما هو عليه سواء تعمدوا ذلك أو غلطوا فيه أو سهوا، والعمدية إنما هو شرط لكونه إثما لا لكونه يسمى كذبا اهـ وقد روى أبو داود من طريق خصيف -وهو مختلف فيه عن سعيد بن جبير قال قلت لعبد اللَّه بن عباس يا أبا العباس: عجبت

ص: 41

لاختلاف أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى إهلال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أوجب. فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجب فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتونه أرسالا. فسمعوه حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهلَّ، وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهلَّ حين علا على شرف البيداء. وأيم اللَّه لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء. قال سعيد: فمن أخذ بقول عبد اللَّه بن عباس أهلَّ فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه، وقد ذكرت لك أن هذا الحديث من طريق خصيف وهو مختلف فيه وقد روى البخارى من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: أهلَّ النبى صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة" وفى لفظ لمسلم من حديث سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه رضى اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ ملبِّدًا يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات، وإن عبد اللَّه

ص: 42

ابن عمر رضى اللَّه عنهما كان يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات. كما روى البخارى ومسلم من حديث أنس رضى اللَّه عنه قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد اللَّه وسبَّح وكبَّر، ثم أهل بحج وعمرة. الحديث. وقد أشار البخارى إلى استحباب التلبية كلما هبط واديا فقال: باب التلبية إذا انحدر فى الوادى ثم ساق من طريق مجاهد قال: كنا عند ابن عباس رضى اللَّه عنهما. فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر فقال ابن عباس: لم أسمعه ولكنه قال: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر فى الوادى يلبى. وقد رواه مسلم كذلك.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن الاحرام إنما يكون من الميقات.

2 -

استحباب الاحرام من مسجد ذى الحليفة.

3 -

استحباب التلبية إذا ركب المحرم.

4 -

استحباب التلبية إذا علا المحرم على شرف ونحوه.

ص: 43

2 -

وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتانى جبريل فأمرنى أن آمر أصحابى أن يرفعوا

ص: 43

أصواتهم بالإهلال" رواه الخمسة وصححه الترمذى وابن حبان.

[المفردات]

خلاد بن السائب: هو خلاد بن السائب بن خلاد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة من بنى الحارث بن الخزرج الأنصارى قال ابن سعد فى الطبقات: وكان خلاد ثقة قليل الحديث. وقد صاحب أبوه النبى صلى الله عليه وسلم.

بالإهلال: يعنى بالتلبية.

[البحث]

رفع الصوت بالتلبية عنون له البخارى فى صحيحه فقال: "باب رفع الصوت بالإهلال ثم ساق بسنده إلى أنس رضى اللَّه عنه قال: صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا" أى بالحج والعمرة وحديث الباب قد قال فيه الحافظ فى الفتح: رجاله ثقات إلا أنه اختلف على التابعى فى صحابيه اهـ وهو يشير بذلك إلى أن بعض رواته قال: عن خلاد بن السائب عن أبيه وقال بعضهم عن خلاد ابن السائب عن زيد بن خالد قال البيهقى: الأول هو الصحيح. وكذلك صحح الترمذى الطريق الأول. قال الحافظ فى الفتح وروى ابن أبى شيبة بإسناد صحيح عن بكر بن عبد اللَّه المزنى قال: كنت مع ابن عمر فلبَّى حتى أسمع ما بين الجبلين. وأخرج أيضا

ص: 44

بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد اللَّه قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم. اهـ ولا شك أنه ينبغى للمرأة أن لا ترفع صوتها بالتلبية أما حديث: أفضل الحج العج والثج. فإنه لا يصح، وقد استغربه الترمذى، والعج رفع الصوت بالتلبية. والثج نحر البدن.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب رفع الصوت بالتلبية.

2 -

لا بأس بالمبالغة فى رفع الصوت بالتلبية إذا لم يكن فى ذلك ضرر.

ص: 45

3 -

وعن زيد بن ثابت رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل" رواه الترمذى وحسنه.

[المفردات]

تجرد: أى من المخيط والمحيط.

لإهلاله: أى لإحرامه.

[البحث]

أشار الحافظ فى التلخيص إلى أن هذا الحديث أخرجه أيضا الدارقطنى والبيهقى والطبرانى وذكر أن العقيلى ضعفه، والتجرد من المخيط والمحيط لمن أراد الإحرام لا يختلف أهل العلم فى وجوبه

ص: 45

على الرجال وقد تجرد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولبس الإزار والرداء وهو فى المدينة قبل أن يتوجه إلى ذى الحليفة فقد روى البخارى فى صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما قال: انطلق النبى صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما تَرَجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه. الحديث. وهذا التجرد ولبس الإزار والرداء من المدينة لا يجعل الإنسان محرما منها، فهذا العمل كالمتهئ للصلاة بالوضوء ولا يكون مصليا إلا إذا كبَّر تكبيرة التحريم للصلاة فكذلك التجرد ولبس الإزار والرداء لا يجعل الإنسان محرما، وإنما يكون محرما بالتلبية من الميقات. وأما الاغتسال للإحرام فأصح ما ورد فيه هو ما أخرجه مسلم فى صحيحه من طريق جابر بن عبد اللَّه رضى اللَّه عنهما قال: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: "اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى" وكذلك ما أخرجه مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة رضى اللَّه عنها فوجدها تبكى فقال: ما شأنك؟ قالت: شأنى أنى قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال: إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم فاغتسلى ثم أهلى بالحج ففعلت. الحديث.

وليس اغتسالها هذا اغتسال طهارة، فهى لا تطهر من نفاسها به،

ص: 46

وإنما هو غسل نظافة، وهذا يشعر بإستحباب الاغتسال للإحرام.

ص: 47

4 -

وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل: ما يَلْبَس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البَرَانِس، ولا الخِفَاف، إلا أحدٌ لا يجد النعلين فَلْيَلْبَس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسَّه الزَّعْفَرانُ ولا الوَرْس" متفق عليه. واللفظ لمسلم.

[المفردات]

أن رسول اللَّه سئل: لفظ مسلم: أن رجلا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولفظ البخارى: أن رجلا قال: يا رسول اللَّه.

ما يلبس المحرم: أى ما يجوز للرجل المحرم أن يلبس؟

القُمص: جمع قميص والمراد به ما يلبس على قدر البدن من المخيط فيدخل فيه الجبة والقباء.

العمائم: جمع عمامة وهى ما يلف على الرأس ويغطيه سواء كان مخيطا أو غيره.

السراويلات: جمع سراويل وسراويل جمع سروالة وعلى هذا فالسراويلات جمع الجمع وقيل جمع سروالة وقيل فارسية معربة شلوار.

ص: 47

البرانس: جمع برنس بضم الباء والنون وهو كل ثوب رأسه منه وقيل: هو قلنسوة طويلة وهو من البرس بكسر الباء وهو القطن وقيل إنه غير عربى.

الخِفاف: جمع خف وهو ما يلبس فى الرجل من الأحذية إذا غطى موضع الوضوء منها واحدها خُف. أما خف البعير فجمعه أخفاف.

إلا أحدٌ: أى إلا رجل أراد الإحرام.

لا يجد النعلين: أى لا يكون عنده نعلان ولا يتمكن من الحصول عليهما، والنعل الحذاء الذى لا يغطى موضع الوضوء من الرجل.

أسفل من الكعبين: أى حتى يكونا تحت الكعبين لينكشف الكعبان وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وهذا هو المعروف لغة.

ولا تلبسوا: النهى هنا للرجال والنساء. بخلاف ما تقدم فإنه خاص بالرجال.

مسه الزعفران: أى أصابه الزعفران وصبغ به والزعفران زهر نبت يصبغ به ويوضع فى بعض الأشربة والأطعمة فيكسبها طعما لذيذا، وهو من أنواع الطب وثوب مزعفر أى مصبوغ بالزعفران.

ولا الورس: بفتح الواو وسكون الراء وهو نبت أصفر

ص: 48

طيب الريح يصبغ به. قال الحافظ فى الفتح: وقال ابن البيطار فى مفرداته: الورس يؤتى به من اليمن والهند والصين وليس بنبات بل يشبه زهر العصفر ونبته شئ يشبه البنفسج.

[البحث]

ورد هذا السؤال بصيغة: ما يلبس المحرم وورد جوابه من أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص الخ الحديث. قال الحافظ فى الفتح قال النووى. قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وجزله لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أى ويلبس ما سواه انتهى ثم قال الحافظ: وقال البيضاوى: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر، وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض فى الإحرام المحتاج لبيانه إذ الجواز ثابت الأصل بالاستصحاب فكان الأليق بالسؤال عما لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم ويقرب منه قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} الآية. فعدل عن جنس المنفق وهو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم، وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر فى الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو

ص: 49

زيادة ولا تشترط المطابقة اهـ وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص ولا العمائم، ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف" هو وإن سيق فى صيغة الخبر لكن المراد به النهى عن أن يلبس المحرم شيئا من ذلك وهو يشمل كل مخيط أو محيط فصل على البدن كله أو بعضه، قال الحافظ فى الفتح: أجمعوا على أن المراد به هنا الرجل ولا يلتحق به المرأة فى ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر وإنما تشترك مع الرجل فى منع الثوب الذى مسه الزعفران أو الورس اهـ ثم قال الحافظ: وقال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر فى هذا الحديث لا يلبسه المحرم وأنه نبه بالقمص والسراويل على كل محيط وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى الرأس به مخيطا أو غيره وبالخفاف على كل ما يستر الرجل. انتهى. هذا ولو حمل شيئا على رأسه لحاجته لا لتغطيته فإنه لا يضر، وكذلك لو انغمس فى الماء، أو وضع يده على رأسه، فإنه لا يسمى لابسا فى شئ من ذلك. وليس للمرأة ثياب معينة للإحرام بل تلبس ما شاءت من اللباس ما دام لا يصف ولا يشف غير أنه لا يجوز لها أن تنتقب ولا أن تلبس القفازين، فقد روى البخارى فى صحيحه من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قام رجل فقال يا رسول اللَّه ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب فى الإحرام؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من

ص: 50

الكعبين، ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا الورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" أما سدل المرأة خمارها على وجهها عند الرجال الأجانب فأنه لا يضر، قال الحافظ فى الفتح: قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطى رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال اهـ.

[ما يفيده الحديث]

1 -

تحريم لبس القمص ونحوها للمحرم من الرجال.

2 -

تحريم لبس العمائم والبرانس على المحرم من الرجال.

3 -

تحريم لبس السراويل ونحوها للمحرم من الرجال.

4 -

تحريم لبس الأحذية التى تغطى موضع الوضوء من الرِّجْل على المحرم من الرجال.

5 -

تحريم لبس الثياب التى مسها الورس أو الزعفران على المحرم من الرجال أو النساء.

6 -

تحريم التطيب لمن كان محرما.

ص: 51

5 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كنت أطيِّبُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت". متفق عليه.

ص: 51

[المفردات]

أطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أى أضع الطيب عليه صلى الله عليه وسلم.

لإحرامه: أى لأجل تهيئته للإحرام.

قبل أن يحرم: أى قبل أن يتلبس بالنسك ويصير محرما.

ولحله: أى ولتحلله من الإحرام بعد رمى الجمرة والحلق.

قبل أن يطوف بالبيت: أى قبل أن يطوف طواف الإفاضة بالبيت العتيق.

[البحث]

هذا اللفظ الذى ساقه المصنف هنا هو لفظ مسلم أما لفظ البخارى فى باب الطيب عند الإحرام عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: كنت أطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم" الحديث. والمراد من قولها حين يحرم أى حين يريد الإحرام كما جاء فى لفظ للنسائى: حين أراد أن يحرم. وقد أخرج مسلم فى صحيحه هذا الحديث بعدة ألفاظ منها هذا اللفظ ومنها: قالت: طيبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" وفى لفظ: قالت: طيبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدى لحرمه حين أحرم ولحله حين أَحَلَّ قبل أن يطوف بالبيت. وفى لفظ: قالت: طيبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحله ولحرْمِه. وفى لفظ قالت: طيبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِيَدِى بِذَرِيرَةٍ فى حجة الوداع للحل والإحرام"

ص: 52

وفى لفظ عن عروة قال: سألت عائشة رضى اللَّه عنها بأى شئ طَيَّبْتِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند حُرمه؟ قالت: بأطيب الطِّيب. وفى لفظ قالت: كنت أطيِّبُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بَأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم. وفى لفظ قالت: طيبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحُرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت. وقد أشارت الصديقة بنت الصديق رضى اللَّه عنهما فى رواية عند البخارى ومسلم قالت كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم" ووبيص الطيب هو بريقه وتلألؤه ولمعانه، ومعنى مفارقه أى المكان الذى يفترق فيه الشعر فى وسط الرأس. وفى لفظ لمسلم قالت: لكأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يهل، وفى لفظ: وهو يلبِّى. وفى لفظ: قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيَّب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدُّهن فى رأسه ولحيته بعد ذلك. وهذه الروايات الصحيحة صريحة فى أن هذا الطيب الذى كان يتطيب به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يستمر أثره بعد الاحرام. ولا معارضة بين هذه الروايات الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتطيبه للإحرام، واستمرار أثر الطيب فيه بعد الإحرام وبين ما رواه البخارى ومسلم عن بن جريج عن عطاء من حديث صفوان ابن يعلى عن أبيه يعلى بن أمية أن يعلى قال لعمر رضى اللَّه عنه: أرنى النبى صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه! قال: فبينما النبى صلى الله عليه وسلم بالجعرانة

ص: 53

ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول اللَّه كيف ترى فى رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبى صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحى فأشار عمر رضى اللَّه عنه إلى يعلى، وعلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثوب قد أُظِلَّ به فأدخل رأسه فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يَغِطُّ، ثم سُرِّى عنه فقال: أين الذى سأل عن العمرة؟ فأتى برجل، فقال:"اغسل الطيب الذى بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع فى عمرتك كما تصنع فى حجتك" قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم" أقول لا معارضة بين هذا الحديث وحديث عائشة رضى اللَّه عنها لأن حديث يعلى كان بالجعرانة وهى فى سنة ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة كان فى حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، والقاعدة عند أهل العلم من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أنه يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، على أنه قد جاء فى بعض ألفاظ حديث يعلى: عليه جبة عليها أثر خلوق" وفى بعض ألفاظه عند مسلم: اغسل عنك أثر الصفرة أو قال: أثر الخلوق" والخلوق بفتح الخاء نوع من الطيب مركب فيه زعفران فيكون المأمور بغسله فى قصة يعلى إنما هو الخلوف لا مطلق الطيب بسبب ما في الخلوق من الزعفران وقد تقدم أنه جرم على الرجل أن يتزعفر محرما أو غير محرم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

استحباب الطيب عند الإحرام.

ص: 54

2 -

استحباب الطيب بعد التحلل الأول قبل الطواف بالبيت لمن تحلل التحلل الأول بالرمى والحلق.

3 -

لا بأس بالطيب عند الإحرام وإن بقى أثره بعد الإحرام.

ص: 55

6 -

وعن عثمان بن عفان رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا يَنكِح المحرم ولا ينُكح ولا يخطب. رواه مسلم.

[المفردات]

لا يَنْكِح: أى لا يتزوج.

ولا يُنْكَح: بفتح الكاف أى لا يزوجه غيره وبكسرها أى لا يزوج غيره والمشهور أنها بفتح الكاف مع ضم الياء.

ولا يخطب: أى خِطْبَة نكاح.

[البحث]

أورد مسلم فى صحيحه حديث عثمان هذا من طريق أبان بن عثمان بألفاظ منها هذا اللفظ الذى أورده المصنف ومنها: أن المحرم لا يَنْكِح ولا يُنْكَح. ومنها: المحرم لا ينكح ولا يخطب. ومنها لا يَنكِح المحرم، ثم أخرج مسلم من طريق ابن نمير عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبى الشعثاء أن ابن عباس أخبره أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. زاد ابن نمير: فحدثت به الزهرى فقال: أخبرنى يزيد بن الأصم أنه نكحها وهو حلال اهـ. ويزيد بن الأصم هو ابن أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية فأمه برزة بنت الحارث الهلالية كما أن ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنهما هو ابن أختها

ص: 55

رضى اللَّه عنها. ثم ساق مسلم من حديث يزيد بن الأصم قال: حدثتنى ميمونة بنت الحارث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال: وكانت خالتى وخالة ابن عباس رضى اللَّه عنهم وقد أخرج البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم" وزواج النبى صلى الله عليه وسلم بميمونة كان فى عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة، ولا شك أن حديث ابن عباس متفق عليه وحديث أبان بن عثمان عن عثمان رضى اللَّه عنه انفرد به مسلم، والأصل أنه إذا تعارض حديث متفق عليه مع حديث انفرد بإخراجه أحد الشيخين فأنه يقدم المتفق عليه على ما انفرد به أحدهما قال الحافظ فى الفتح: وقد اختلف فى تزويج ميمونة فالمشهور عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، وصح نحوه عن عائشة وأبى هريرة وجاء عن ميمونة نفسها أنه كان حلالا، وعن أبى رافع مثله وأنه كان الرسول إليها اهـ والمفروض أنه إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم العمل بالحاظر، والأصل فى المحرم أنه قد حظر عليه الجماع ودواعيه، ومقدماته، فالأحوط العمل بحديث عثمان رضى اللَّه عنه والطعن على حديث عثمان بأنه من طريق أبان بن عثمان وأن أمه كانت حمقاء هو طعن لا يليق بمن ينتمى للعلم، وأبان بن عثمان من خيار التابعين رحمهم الله، وقد وثقه ابن سعد وعده فى كبار التابعين المفتين بالمدينة مع سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن

ص: 56

هشام، رحمهم اللَّه تعالى. هذا وقد قال الحافظ فى الفتح فى كتاب النكاح: قال الأثرم: قلت لأحمد: إن أبا ثور يقول: بأى شئ يدفع حديث ابن عباس -أى مع صحته- قال: فقال: اللَّه المستعان. ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس، وميمونة تقول تزوجنى وهو حلال. ثم قال الحافظ: وقال ابن عبد البر: اختلفت الآثار فى هذا الحكم لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإِسناد ولكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح فى منع نكاح المحرم فهو المعتمد اهـ ثم قال الحافظ فى تأويل قول ابن عباس تزوج ميمونة وهو محرم. أى داخل الحرام أو فى الشهر الحرام قال الأعشى:

قتلوا كسرى بليل محرما

أى فى الشهر الحرام.

وقال الآخر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما: أى فى البلد الحرام.

وإلى هذا التأويل جنح ابن حبان فجزم به فى صحيحه، وعارض حديث ابن عباس أيضا حديث يزيد بن الأصم اهـ وأما ما ذكره الحافظ ابن حجر من قوله: فالمشهور عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم. وصح نحوه عن عائشة وأبى هريرة، فإن قوله: وصح نحوه عن عائشة وأبى هريرة فيه نظر فإن حديث عائشة معل بالإِرسال وحديث أبى هريرة فى إسناده كامل أبو العلاء

ص: 57

وهو ضعيف وقد أشار الحافظ إلى ذلك فى الفتح فى باب عمرة القضاء فذكر أن حديث عائشة أخرجه النسائى وأعل بالإرسال. وأن حديث أبى هريرة أخرجه الدارقطنى وفى إسناده كامل أبو العلاء وفيه ضعف. قال الحافظ: وأما أثر ابن المسيب الذى أشار إليه أحمد فأخرجه أبو داود، وأخرج البيهقى من طريق الأوزاعى عن عطاء عن ابن عباس الحديث قال: وقال سعيد بن المسيب: ذهل ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل. قال الطبرى: الصواب من القول عندنا أن نكاح المحرم فاسد لصحة حديث عثمان، وأما قصة ميمونة فتعارضت الأخبار فيها. ثم ساق من طريق أيوب قال: أنبئت أن الاختلاف فى زواج ميمونة إنما وقع لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان بعث إلى العباس لينكحها إياه فأنكحه، فقال بعضهم: أنكحها قبل أن يحرم النبى صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بعد ما أحرم، وقد ثبت أن عمر وعليا وغيرهما من الصحابة فرقوا بين محرم نكح وبين امرأته، ولا يكون هذا إلا عن ثبت. اهـ واللَّه أعلم. هذا وقد قال الصنعانى فى سبل السلام: قال القاضى عياض: لم يرو أنه تزوجها محرما إلا ابن عباس وحده حتى قال سعيد بن المسيب ذهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخارى اهـ. من سبل السلام. وفى قوله ذكره البخارى نظر ظاهر فإن البخارى لم يذكر أثر ابن المسيب هذا قط وإنما أخرجه أبو داود من طريق إسماعيل بن أمية عن

ص: 58

رجل عن سعيد بن المسيب قال: وهم ابن عباس فى تزويج ميمونة وهو محرم. وأخرجه البيهقى على الوجه الذى ذكرت. واللَّه أعلم.

ص: 59

7 -

وعن أبى قتادة الأنصارى رضى اللَّه عنه فى قصة صيده الحمار الوحشى وهو غير محرم، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين: "هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشئ؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا ما بقى من لحمه" متفق عليه.

[المفردات]

وكانوا محرمين: كان ذلك فى عمرة الحديبية.

أمره: أى أمر أبا قتادة بصيد الحمار الوحشى.

أو أشار إليه: أى لفت انتباه أبى قتادة للحمار الوحشى ليصيده.

[البحث]

قصة أبى قتادة فى صيده الحمار الوحشى رواها البخارى ومسلم من حديث أبى قتادة رضى اللَّه عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم، فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقى، فأخذوا ساحل البحر، فلما "انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمرَ

ص: 59

وحش، فحمل أبو قتادة على الحُمُر فعقر منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقى من لحم الأتان. فلما أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه إنا كنا أحرمنا، وقد كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقى من لحمها قال: "أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها؟ أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: "فكلوا ما بقى من لحمها" وقوله فى هذا الحديث "خرج حاجًّا" أراد الحج اللغوى وهو قصد البيت والإحرام على سبيل التوسع فى اللفظ لأنه لا شك أن هذه القصة كانت عام الحديبية كما جاء فى بعض ألفاظ الصحيحين، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد خرج معتمرا، فإطلاق الحج على العمرة جاء على سبيل التوسع وهو صحيح فى اللغة.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه يجوز للمحرم أكل صيد البر الذى صاده غير المحرم إذا كان المحرم لم يعن الحلال عليه بأمرأو إشارة أو نحوهما.

2 -

جواز اجتهاد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كانوا بعيدين عنه.

3 -

جواز تجاوز الميقات بدون إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة.

ص: 60

8 -

وعن الصعب بن جثامة الليثى رضى اللَّه عنه أنه أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء، أو بودَّان فرده عليه وقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُمٌ" متفق عليه.

[المفردات]

الصعب بن جثامة الليثى: هو الصعب بن جثَّامة واسمه يزيد بن قيس بن ربيعة بن عبد اللَّه بن يعمر الشداخ بن عوف ابن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبدمناة بن كنانة الكنانى الليثى وهو ابن أخت أبى سفيان بن حرب وكان النبى صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عوف بن مالك. وكان جثامة قد حالف قريشا، وكان الصعب ينزل وَدَّان والأبواء من أرض الحجاز وتوفى فى خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنهما.

الأبواء: قرية بين مكة والمدينة تقع شرقى قرية مستورة شمالى رابغ وهى على نحو منتصف الطريق بين مكة والمدينة وتسمى الآن "الخُرَيْبَة" وبينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا.

ودان: موضع بين الأبواء والجحفة يقع جنوبا من الأبواء وبينه وبين الجحفة ثمانية أميال فهو أقرب إلى الجحفة من الأبواء.

ص: 61

فردَّه عليه: أى لم يقبله منه.

لم نرده: أى لم نمتنع عن قبوله، قال فى الفتح: قال عياض: ضبطناه فى الروايات لم نردَّه بفتح الدال وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التى توجبها له ضمة الهاء بعدها. قال: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب فى الفصيح اهـ وقال النووى: إن دال لم نرده مفتوحة فى رواية المحدثين والصواب ضمها عند محققى النحويين لكونه مضاعفا مجزوما اتصل به ضمير المذكر اهـ.

حُرم: أى محرمون.

[البحث]

عنون البخارى رحمه الله فى صحيحه لهذا الحديث فقال: باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل" وساق هذا الحديث وليس فى هذا الحديث أنه كان حيا، ولا شك أنه إذا أهداه حيا يكون أدعى لرده لأنه يكون قد صاده من أجله ولأن المحرم لا يذبحه، قال الشافعى فى الأم: إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيا وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له، وقد أخرج مسلم حديث الصعب بن جثامة بعدة ألفاظ منها: عن ابن عباس عن

ص: 62

الصعب بن جثامة الليثى أنه أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: فلما أن رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما فى وجهى قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وفى لفظ لمسلم عن الصعب: أهديت له من لحم حمار وحش" وفى لفظ: رِجل حمار وحش. وفى لفظ: عجز حمار وحش يقطر دما. وفى لفظ: شق حمار وحش. وقد يجمع بين اللفظ الذى يدل على أنه أهدى حمار وحش والألفاظ التى تدل على أنه أهدى بعض حمار وحش إما بأنه أهدى له حمار الوحش أولا فرده ثم أهدى إليه بعضه فرده أيضا؛ ولما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصعب بن جثامة رضى اللَّه عنه بسبب رد هديته أخبره أنه لم يقبله منه بسبب أنه محرم، والمحرم لا يصيد صيد البر ولا يأكل ما صيد له منه، وكونه أهدى الحمار أولا ظاهر فى أنه إنما صاده من أجله، فلما ذبحه وأهداه بعضه لم يقبله منه كذلك لأنه ذبحه له وإمساك بعضه وإهداء البعض الآخر لا يغير كونه صيد من أجله قال الحافظ فى الفتح نقلا عن القرطبى: قال: ويحتمل أنه أهداه له حيا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه عنه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات اهـ وقد روى مسلم فى صحيحه من طريق معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمى عن أبيه قال: كنا مع طلحة بن

ص: 63

عبيد اللَّه ونحن حُرُم فأهْدِى له طير وطلحة راقد، فمنا من أكل ومنا من تورَّع فلما استيقظ طلحه وَفَّقَّ من أكله وقال: أكلناه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحديث أبى قتادة السابق يؤكد ما ذكره طلحة بن عبيد اللَّه رضى اللَّه عنه من جواز أكل المحرم من الصيد الذى لم يصد له ولم يصده محرم.

[ما يفيده الحديث]

1 -

لا يجوز للمحرم أن يأكل من صيد البر إذا كان قد صيد له.

2 -

لا يجوز للمحرم أن يصيد صيد البر.

3 -

جواز رد الهدية لعلة شرعية.

4 -

يستحب لمن رد هدية شخص يتأثر برد هديته أن يبين له سبب ذلك.

5 -

حرص الإسلام على تطييب القلوب.

ص: 64

9 -

وعن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خمس من الدواب كُلُّهن فواسق، يُقْتَلْن فى الحل والحرم، العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور" متفق عليه.

[المفردات]

من الدواب: المراد بالدواب هنا ما يشمل الحيوانات والحشرات

ص: 64

والطور فالعقرب حشرة والحدأة والغراب طير والفأرة والكلب حيوان ومن هذا الاستعمال قوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} الآية وقوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية وقد تستعمل الدابة فيما من شأنه أن يمشى على الأرض ويدب عليها، فلا تشمل الطير ومن ذلك قوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية. وقد تخص الدابة عرفا بالحمار، وبعض أهل العرف يخصها بالفرس. وبعضهم يخصها بذوات الأربع مطلقا.

فواسق: أصل الفسق الخروج ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، ومنه قوله تعالى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أى خرج، ويستعمل كثيرا فى الخروج عن حد الاستقامة وهو المراد هنا ووصفت هذه الخمس بأنهن فواسق لخبثهن وإفسادهن وشدة أذاهن.

فى الحل: أى فى غير الحرم وفى غير حالة الإحرام.

وفى الحرم: أى فى البلد الحرام وفى حالة الإحرام.

[البحث]

هذا اللفظ الذى ساقه المصنف هنا لم يتفق عليه البخارى ومسلم لا

ص: 65

من حديث عائشة رضى اللَّه عنها ولا من حديث غيرها. فلفظ البخارى من حديث عائشة رضى اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن فى الحرم: الغراب والحِدأ والعقرب والفأرة، والكلب العقور: وفى لفظ للبخارى عنها رضى اللَّه عنها: خمس فواسق. وفى لفظ عنها: الحديا" بدل: الحِدَأ. ولم يرد فى البخارى عنها لفظ: "الحل" أما مسلم فقد أخرج هذا الحديث عنها رضى اللَّه عنها بعدة ألفاظ منها: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحُدَيَّا.

وفى لفظ: قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن فى الحرم: العقرب والفأرة والحديَّا، والغراب، والكلب العقور" وفى لفظ عنها رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خمس فواسق يقتلن فى الحرم: الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور" وفى لفظ عنها رضى اللَّه عنها قالت: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق فى الحل والحرم: الفأرة الخ الحديث باللفظ الذى قبله. وفى لفظ عنها رضى اللَّه عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب كلها فواسق تقتل فى الحرم: الغراب والحدأة والكلب العقور والعقرب والفأرة" وأخرج مسلم من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خمس من قتلهن وهو حَرَامٌ فلا جناح عليه

ص: 66

فيهن: العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحُدَيَّا. وفى لفظ لمسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا جناح على من قتلهن فى الحَرم والإِحرام: الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور. وفى لفظ للبخارى من حديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قالت حفصة رضى اللَّه عنها: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن: الغراب والحدأة والفأرة. والعقرب والكلب العقور" وفى لفظ لمسلم عن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قالت حفصة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: خمس من الدواب كلها فاسق لا حرج على من قتلهن: العقرب والغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور" وقد نصت جميع هذه الروايات المتقدمة على لفظ خمس وجاء فى لفظ لمسلم من طريق عبيد اللَّه بن مقسم يقول: سمعت القاسم بن محمد يقول سمعت عائشةَ زوج النبى صلى الله عليه وسلم ورضى اللَّه عنها تقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أربع كلهن فاسق يقتلن فى الحل والحرم: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور قال: فقلت للقاسم: أفرأيت الحية؟ قال: تُقْتَلُ بِصَغْرٍ لها. ومعنى قوله: بِصغْرٍ لها أى بمذلة وإهانة كما جاء فى لفظ لمسلم من طريق زيد بن جبير قال: سأل: رجل ابن عمر ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم قال: حدثتنى إحدى نسوة النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة

ص: 67

والعقرب، والحديَّا، والغراب، والحية قال: وفى الصلاة أيضا وقوله: وفى الصلاة أيضا أى لا حرج على من قتلها وهو فى الصلاة وفى جميع الأحوال.

قال الحافظ فى الفتح: التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد وليس بحجة عند الأكثر وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أوَّلا ثم بيَّن بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها فى الحكم اهـ ولا شك أن ذكر الخمس لا يعارض ذكر الأربع لدخول الأربع فيه. وأما رواية ابن عمر رضى اللَّه عنهما التى ذكر فيها الكلب العقور والفأرة والعقرب والحديا والغراب والحية، فالظاهر أن جمع العقرب والحية تفسير وبيان لجنس واحد، ولذلك جاء فى بعض الروايات ذكر الحية ولم يذكر العقرب وفى بعضها ذكر العقرب ولم يذكر الحية. فهى تنبيه على قتل هذا النوع من الحشرات فى الحل والحرم، ولذلك فسر غير واحد من أهل العلم الكلب العقور بما يشمل الأسد والفهد والذئب ونحوها. ووصف الغراب بالأبقع فى بعض الروايات، وهو الذى فى ظهره أو بطنه بياض يجعل الأصل فيما يستحق القتل من الغِرْبان هو الأبقع لحمل المطلق على المقيد، لكن يلتحق بالأبقع ما شاركه فى الإيذاء من الغِرْبان ولم يخرج منها إلا غراب الزرع.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أنه لا جزاء على المحرم إذا قتل هذه الفواسق.

ص: 68

2 -

أنه يستحب قتلها فى الحل والحرم.

3 -

أن الحرم لا يجير فاسقا.

ص: 69

10 -

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم" متفق عليه.

[المفردات]

احتجم: أى استخرج بعض الدم منه صلى الله عليه وسلم بطريق الحجامة وقد مر تعريفها.

وهو محرم: أى متلبس بالإحرام وكان ذلك فى حجة الوداع وهو فى طريقه إلى مكة صلى الله عليه وسلم.

[البحث]

أخرج البخارى من حديث ابن بحينة رضى اللَّه عنه قال: احتجم النبى صلى الله عليه وسلم وهو محرم بِلَحْى جَمَل فى وسط رأسه. وأخرجه مسلم من حديث ابن بحينة رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه. ولحى جمل بفتح اللام -وتكسر- وسكون الحاء وبفتح الجيم والميم وهو موضع بطريق مكة ويقال لها: بئر جمل وقيل: هى عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا. ووقع فى سبل السلام: لحى الجبل بالباء وهو وهم كما وهم بعض الناس فحسبه فكى الجمل للحيوان المعروف وأنه كان آلة الحجم.

ص: 69

[ما يفيده الحديث]

1 -

جواز الحجامة للمحرم ولا فدية عليه.

2 -

جواز الفصد للمحرم ولا شئ عليه.

3 -

جواز إجراء الجراحة للمحرم ولا شئ عليه.

4 -

جواز قلع الضرس ونحوه للمحرم ولا شئ عليه.

5 -

جواز التداوى للمحرم بما لا طيب فيه ولا شئ عليه.

6 -

أن خروج الدم من المحرم لا يضر إحرامه ولا شئ عليه.

ص: 70

11 -

وعن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه قال: حُمِلْتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهى فقال: "ما كنت أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بك ما أرى! تجد شاة؟ " قلت: لا. قال: "فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصفُ صاع" متفق عليه.

[المفردات]

كعب بن عجرة: بضم العين وسكون الجيم بن أمية بن عدى ابن عُبَيْد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن مَرِى بن إراشة بن عامر بن عُبَيْلَة البلوى الأنصارى وقيل بل هو حليف الأنصار، صحابى جليل، شهد الحديبية مع

ص: 70

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى سرية غالب بن عبد اللَّه الليثى إلى بنى مرة بفَدَك سنة ثمان من الهجرة، وشهد غزوة تبوك مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحمل معه فى هذه الغزوة واثلة بن الأسقع رضى اللَّه عنه وكان واثلة قد قال: من يحملنى عُقبه وله سهمى فحمله كعب بن عجرة فلما جاء بسهمه إلى كعب أبى أن يقبله وقال: إنما حملتك للَّه. وقد نزل الكوفة وتوفى بالمدينة سنة إحدى وخمسين هجرية رضى اللَّه عنه.

القمل: هو دويبة صغرة ضعيفة مؤذية تمص دم الإنسان، تتوالد فى شعر الرأس وغيره من بدن الإنسان، وأصلها الصئبان، وقد أطلق عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنها من الهوام. قال فى النهاية فى حديث: أعيذكما بكلمات اللَّه التامة من كل سامة وهامة" الهامَّة كل ذات سمّ يقتل أما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور وقد يقع الهوامّ على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات ومنه حديث كعب بن عجرة: أتؤذيك هوامّ رأسك" أراد القمل اهـ والقمل اسم جنس جمعى يفرق بينه

ص: 71

وبين واحده بالتاء كنمل ونملة وتمر وتمرة وبقر وبقرة.

يتناثر على وجهى: أى يتفرق من رأسى متساقطا على وجهى.

أُرَى الوَجَع: بضم الهمزة أى أظن الألم والأذى.

بلغ بك ما أرى: بفتح الهمزة أى وصل بك إلى الحال التى أبصر.

تجد شاة: أى هل تستطع أن تنسك شاة؟

مسكين: أى فقير محتاج.

نصف صاع: يعنى مدين.

[البحث]

حديث كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه أورده البخارى فى كتاب الحج فى أربعة أبواب متتالية وهى باب قول اللَّه تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وهو مخيَّر فأما الصوم فثلاثة أيام ثم ساقه بلفظ: عن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعلك آذاك هَوَامُّكَ؟ " قال: نعم يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أوِ انسُك بشاة" ثم قال: باب قول اللَّه تعالى: -أو صدقة- وهى إطعام ستة مساكين ثم ساقه بلفظ: عن كعب بن عجرة قال: وقف علىَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسى يتهافت قملا

ص: 72

فقال: "يؤذيك هَوَامُّك؟ " قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك، أو احلق قال: فىَّ نزلت هذه الآية -فمن كان منكم مريضا أو به أذًى من رأسه- إلى آخرها فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَق بين ستة، أو نُسُكٍ مما تيسر" ثم قال البخارى: باب الإِطعام فى الفدية نصف صاع ثم ساقه بقريب من لفظ حديث الباب الذى ساقه المصنف ثم قال البخارى: باب النسك شاة ثم ساقه بلفظ عن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رآه وأنه يسقط على وجهه فقال: "أيؤذيك هوامُّك؟ قال: نعم. فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طَمع أن يدخلوا مكة، فأنزل اللَّه الفدية، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يطعم فَرَقًا بين ستة أو يهدى شاةً، أو يصوم ثلاثة أيام، ثم ساقه بلفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه. بمثل الحديث الذى قبله. وأورده البخارى أيضا فى المغازى والطب وكفارات الأيمان. أما مسلم فروى هذا الحديث أيضا بعدة ألفاظ منها: عن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه قال: أتى عَلىَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت قِدْرٍ لِى أو بُرمَةٍ لى، والقمل يتناثر على وجهى فقال: "أيؤذيك هوامُّ رأسك؟ قال: قلت: نعم. قال: "فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكةً" ومنها عن

ص: 73

كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه قال: فىَّ أنزلت هذه الآية -فمن كان منكم مريضا أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك- قال: فأتيته، فقال: ادْنهْ، فدَنَوتُ فقال:"ادْنُه" فدنوت، فقال صلى الله عليه وسلم:"أيؤذيك هوامُّك؟ قال ابن عون: وأظنه قال: نعم. تال: فأمرنى بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر. ومنها عن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقف عليه ورأسه يتهافت قملا، فقال: "أيؤذيك هوامك؟ " قلت: نعم. قال فاحلق رأسك" قال: ففِىَّ نزلت هذه الآية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فقال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَقٍ بين ستة مساكين أو انسك ما تيسر" وفى لفظ: أن النبى صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت قِدْر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال:"أيؤذيك هوامُّك هذه؟ " قال: نعم. قال: "فاحلق رأسك وأطعم فرَقًا بين ستة مساكين (والفرق ثلاثة آصُعٍ) أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة وفى لفظ: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ به زمن الحديبية فقال له: "آذاكَ هَوَامُّ رأسك؟ قال: نعم. فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نُسُكًا، أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين. ثم ساقه مسلم بقريب من لفظ

ص: 74

حديث الباب إلا أنه قال فيه: فنزلت هذه الآية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} قال: "صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين قال: فنزلت فىَّ خاصة وهى لكم عامة. وفى لفظ عن كعب بن عجرة رضى اللَّه عنه أنه خرج مع النبى صلى الله عليه وسلم محرما فَقَمِلَ رأسه ولحيته، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه، ثم قال له: "هل عندك نُسُكٌ؟ " قال: ما أقدر عليه. فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكينين صاع، فأنزل اللَّه عز وجل فيه خاصة {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} ثم كانت للمسلمين عامة. ولاشك أن الآية صريحة فى التخيير بين هذه الأنواع الثلاثة فبأى نوع منها كفَّر جاز ذلك وأكثر الروايات التى ساقها الشيخان على ذلك كذلك. وهى تؤكد أن قوله صلى الله عليه وسلم فى بعض هذه الروايات: "تجد شاة؟ " فقال: لا. وفى بعضها: هل عندك نسك؟ قال: ما أقدر عليه لا تفيد وجوب ذبح الشاة إن وجدها وأنها مقدمة على الصيام والإِطعام فإن العلماء يكادون يجمعون على أن الأمر على التخيير بين هذه الأنواع الثلاثة. ولعل سؤال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له عن النسيكة أوَّلا يدل على أنها أفضل الأنواع الثلاثة لا أنه لا يجزئ غيرها مع وجودها مع أن الآية قدمت الصوم. وقد جاء فى بعض ألفاظ مسلم: "أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" وهى كذلك لا تفيد تعيين التمر فى

ص: 75

هذه الكفارة، بل هو واحد من أنواع الطعام وقد جاء فى بعض ألفاظ مسلم: أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين" فذكر التمر فى بعض هذه الروايات إما لأنه أفضل أو أيسر والعلم عند اللَّه عز وجل.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن السنة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه لأن الصدقة فى آية الفدية مجملة فبينها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنها إطعام ستة مساكين. وكذلك الصيام بيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه ثلاثة أيام.

2 -

أنه يحرم حلق الرأس على المحرم.

3 -

أنه يرخص للمحرم إذا آذاه القمل أن يحلق رأسه ويفدى.

4 -

أنه إذا كان كشف رأس المحرم يسبب له بعض الأوجاع جاز له أن يغطه ويفدى.

5 -

حسن رعاية ولى أمر المسلمين لهم وتلطفه بهم ودفع الأذى عنهم.

6 -

جواز إطلاق اسم الهدى على دم الكفارة توسعا.

ص: 76

12 -

وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: لمَّا فتح اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى الناس فحَمِد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: "إن اللَّه حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تَحِلَّ لأحد كان قبلى، وإنما أحلَّتْ

ص: 76

لِي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدى. فلا يُنَفَّرُ صَيْدُها، ولا يختَلَى شوكُها، ولا تحِلُّ ساقطتها إلا لمُنْشِدٍ، ومن قُتلَ له قتِيلٌ، فهو بخيرِ النَّظَريْن" فقال العباس: إلا الإِذْخِر يا رسول اللَّه فإنا نجعله فى قبورنا وبيوتنا فقال: "إلا الأذخر" متفق عليه.

[المفردات]

لما فتح اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة: فى يوم العشرين من رمضان عام ثمان من الهجرة.

قام فى الناس: أى خطيبا الغد من يوم الفتح أى فى اليوم الثاني من فتح مكة وكان بعد الظهر فى اليوم الحادى والعشرين من رمضان.

حبس عن مكة الفيل: أى لم يمكنه من الدخول إليها وحجز أصحاب الفيل عنها وهم جيش أبرهة بن الأشرم.

وسلط عليها رسوله والمؤمنين: أى مكَّنهم من دخولها وفتحها.

لم تحل لأحد كان قبلى: أى لم يبح اللَّه لأحد قبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل أهلها. لأنها حرام بحرمة اللَّه يوم خلق السموات والأرض.

وإنما أحلت لى ساعة من نهار: أى أباح اللَّه لى قتال أهلها فى جزء من نهار واحد وهو الوقت الذى

ص: 77

تمكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه من فتحها. وكانت من طلوع الشمس إلى العصر.

وإنها لن تحل لأحد بعدى: أى وإن اللَّه عز وجل أعاد حرمتها بعد الفتح كحرمتها قبل الفتح فلا يجوز لأحد أن يقاتل أهلها إلى يوم القيامة.

فلا يُنَفَّر صيدها: أى فلا يصطاد أو لا يُهَيَّجُ من مكانه. وقد ذكر البخارى عن عكرمة قال: هل تدرى: ما لا يُنَفَّرُ صيدها؟ هو أن يُنَحِّيَهُ من الظل، ينزل مكانه اهـ وإذا كان التنفير عرما فالاصطياد والاتلاف من باب أولى، وهذا إذا لم يحصل من الصيد ضرر وأذى فإن حصل منه ضرر دفع بأخف الضررين.

ولا يختلى شوكها: أى ولا يقطع ولا يؤخذ وقد جاء فى لفظ: ولا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها" وهو يفيد تحريم قطع شجر الحرم سواء كان ذا شوك أو لا شوك فيه، وجاء فى لفظ للبخارى عن ابن عباس: "لا يختلى خَلاهَا" أى حشيشها الرطب قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس فى الحرم من بقل وزرع ومشموم، فلا بأس برعيه واختلائه اهـ.

ص: 78

ولا تحل ساقطتها إلا لِمنشد: أى ولا يحل ولا يجوز التقاط لقطة مكة إلا لمعرف لها لا لتملكها، بل للعمل على إرجاعها إلى أهلها. فالساقطة هنا اللُّقطَة، والمنشد المعرف.

فهو بخير النظرين: أى فولى القتيل بأفضل الأمرين عنده إما أن يأخذ دية القتيل وإما أن يقتل القاتل بعد حكم ولى الأمر. وقد جاء فى لفظ مسلم: إما أن يُفدى وإما أن يُقْتل يعنى القاتل. وجاء فى لفظ للبخارى: إما أن يُعْقَلَ، وإما أن يقاد أهل القتيل، أى أن يمكنوا من القود وهو قتل القاتل.

إلا الإِذخر: قال الحافظ فى الفتح: والإِذخر نبت معروف عند أهل مكة طيب الرج له أصل مندفن، وقضبان دقاق، ينبت فى السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار. قال: والذى بمكة أجوده، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسدون به الخلل بين اللبنات فى القبور، ويستعملونه بدل الحلفاء فى الوقود اهـ.

نجعله فى قبورنا: أى نسد به الخلل بين اللبنات فى القبور.

وبيوتنا: أى نسقف به البيوت بين الخشب.

فقال إلا الإذخر: أى فإنه يباح لكم أخذه فهو مستثنى مما

ص: 79

لا يختلى إذ هو فى الأصل داخل فى عموم قوله "ولا يختلى خلاها".

[البحث]

هذا الحديث ساقه البخارى فى باب كتابة العلم من صحيحه عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه أن خزاعة قتلوا رجلا من بنى ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه. فأخبر بذلك النبى صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال: إن اللَّه حبس عن مكة القتل أو الفيل -شك أبو عبد اللَّه- وسلَّط عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلى. ولم تحل لأحد بعدى، ألا وإنها حلت لى ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتى هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، فمن قتل فهو بخير النَّظرين: إما أن يُعْقَل، وإما أن يقاد أهل القتيل، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لى يا رسول اللَّه، فقال:"اكتبوا لأبى فلان" فقال رجل من قريش إلا الإِذخر يا رسول اللَّه فإنا نجعله فى بيوتنا وقبورنا فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إلا الإِذخر إلا الإِذخر" قال أبو عبد اللَّه: يقال: يقاد بالقاف، فقيل لأبى عبد اللَّه: أىُّ شئ كَتَبَ له؟ قال: كتب له هذه الخطبة. أما مسلم فقد ساق هذا الحديث فى كتاب الحج من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعى عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال: لما فتح اللَّه عز وجل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة قام فى الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: "إن اللَّه حبس

ص: 80

عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلى، وإنها أحلت لى ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدى، فلا يُنَفَّر صيدها. ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُفدى، وإما أن يُقتل" فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول اللَّه فإنا نجعله فى قبورنا وبيوتنا! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر" فقام أبو شاه رجلٌ من أهل اليمن فقال: اكْتُبُوا لى يا رسول اللَّه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبى شاه" قال الوليد: فقلت للأوزاعى ما قوله: اكتبوا لى يا رسول اللَّه؟ قال: هذه الخطبة التى سمعها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد روى البخارى ومسلم نحوا من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه عن أبى شُرَيح العدوى رضى اللَّه عنه وعبد اللَّه بن عباس رضى اللَّه عنهما أما حديث أبى شريح فإنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لى أيها الأمير أُحَدثْكَ قولا قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للغد من يوم الفتح، فسمعته أذناى، ووعاه قلبى، وأبصرته عيناى حين تكلم به، إنه حمد اللَّه، وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها اللَّه، ولم يحرمها الناسُ، فلا يحل لامرئ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يَسْفِك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد تَرَخَّصَ لقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن اللَّه أذِن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأسر، وليبلغ الشاهدُ الغائبَ" وفى لفظ لهما عن أبى

ص: 81

شريح قال العباس: يا رسول اللَّه إلا الإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، قال:"إلا الإِذخر" أما حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما فقد رواه البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد بعدى، وإنما أحِلَّت لى ساعة من نهار، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا تلتقط لقطتُها إلا لِمُعَرِّف" وقال العباس: يا رسول اللَّه! إلا الإذخر لصاغَتِنا وقبورنا، فقال:"إلا الإِذخر".

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن مكة بلد اللَّه الحرام لا يحل لمسلم أن يقاتل أهلها إلى يوم القيامة.

2 -

أن اللَّه رخص لرسوله صلى الله عليه وسلم فى قتال أهلها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كما كانت عليه.

3 -

أنه يحرم تنفير الصيد فى حرم مكة أو اصطياده.

4 -

لا يجوز قطع شجر الحرم ولا أخذ شوكه، ولا رعى حشيشه الرطب.

5 -

أنه يجوز أخذ الاذخر ولا شئ على من أخذه.

6 -

أنه لا يجوز التقاط لقطة فى مكة.

7 -

أنه من قتل له قتيل عمدا فإنه بالخيار أن يقبل الدية أو يستوفى القصاص.

8 -

أنه يجوز كتابة أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأن النهى عن كتابتها قد نسخ فى اليوم الثانى من فتح مكة.

ص: 82

9 -

أن ما استنبته الآدميون من المزارع والأشجار فى الحرم لا حرج على أهلها فى قطعها.

10 -

أن الصيد إذا آذى فى الحرم جاز دفعه بأخف الضرريين.

11 -

أن بعض أفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد تكون مختصة به صلى الله عليه وسلم.

12 -

يجوز أخذ الحشيش اليابس ورعيه من الحرم.

13 -

جواز مراجعة العالم فى المصالح الشرعية.

ص: 83

13 -

وعن عبد اللَّه بن زيد بن عاصم رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرَّم مكة، ودعا لأهلها، وإنى حرَّمت المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، وإنى دعوت فى صاعها ومدِّها بِمِثْلَىْ ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" متفق عليه.

[المفردات]

حرَّم مكة: أى أعلن أنها بلد حرام لا يجوز انتهاكها بقتال أهلها أو تنفير صيدها.

ودعا لأهلها: أى سأل اللَّه عز وجل أن يبارك لهم فى طعامهم وشرابهم، وحيث قال فيما ذكر اللَّه عز وجل عنه:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية. وكما قال عز وجل عن

ص: 83

إبراهيم أنه قال {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} .

حرمت المدينة: أى أعلنت أنها بلد حرام لا يجوز انتهاكها بقتال أهلها أو تنفير صيدها.

المدينة: هى علم على البلدة المعروفة التى هاجر إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبها مسجده وقبره صلى الله عليه وسلم وكانت تسمى يثرب قبل هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليها. ومن أسمائها طابة وطيبة، ولم يوجد فى الدنيا بلد عرف باسم المدينة غيرها، وهو شاهد على سبق مَدَنِيَّة الإِسلام.

وإنى دعوت فى صاعها ومدِّها: أى سألت اللَّه عز وجل أن يبارك فى صاعها ومدها أى فى مكيال أهلها الذى يكيلون به، والصاع أربعة أمداد والمراد البركة فيما يكال بهما.

بِمِثْلَى ما دعا به إبراهيم لأهل مكة: أى بِضِعْفَى ما دعا بِه إبراهيم لأهل مكة من البركة.

[البحث]

لا معارضة بين قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث: "إن إبراهيم حرَّم مكة" وبين قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه عن أبى شريح العدوى رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن

ص: 84

مكة حرمها اللَّه، ولم يحرمها الناس" وفى حديث ابن عباس عندهما: إن اللَّه حرم مكة" وفى لفظ: "حرَّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض" لأن المعنى أن إبراهيم أعلنه وأظهر أن مكة بلد حرَام بأمر اللَّه تعالى لا باجتهاده. أما تحريم المدينة فقد أعلنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد خيبر فقد روى البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث أنس رضى اللَّه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى طلحة: التمس غلاما من غلمانكم يخدمنى حتى أخرج إلى خيبر فخرج بى أبو طلحة مردفى وأنا غلام راهقت الحُلم فكنت أخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نَزَلَ، فكنت أسمعه كثيرا يقول: "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل والبخل والجبن، وضَلَع الدين وغلبة الرجال" ثم قدمنا خيبر، فلما فتح اللَّه عليه الحصن ذكر له حمال صفية بنت حيى بن أخطب، وقد قُتل زوجها، وكانت عروسا فاصطفاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلَغْنا سَدَّ الصَّهْبَاء حَلَّت، فبنى بها، ثم صنع حيسا فى نِطَع صغير، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آذن من حولك"، فكانت تلك وليمةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، قال: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَوِّى لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" ثم نظر إلى المدينة فقال: "اللهم إنى أُحَرِّمُ ما بين لابتيها بمثل ما حرم

ص: 85

إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم فى مدِّهم وصاعهم" وليس قوله فى حديث عبد اللَّه بن زيد: كما حرم إبراهيم مكة أن تحريم المدينة يشبه تحريم مكة من كل وجه حتى فى زمن التحريم لأنه لا يشترط أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه، فوجه الشبه بين تحريم مكة وتحريم المدينة أنه لا يُنَفَّر صيدها، ولا يقاتل أهلها ولا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها. أما حرمة مكة فهى ثابتة لها يوم خلق اللَّه السموات والأرض، ولذلك يقول اللَّه عز وجل:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} وكما قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وكما قال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} وقد روى البخارى ومسلم واللفظ للبخارى من حديث أنس رضى اللَّه عنه قال فى تحريم المدينة: لا يقطع شجرها كما روى البخارى من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه أنه كان يقول: "لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها" وفى لفظ لمسلم عن أبى هريرة: "لو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها كما روى مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة وإنى حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها" والعضاه شجر الشوك واحدتها عضاهة. كما روى مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنى أحرم

ص: 86

المدينة أن يُقطعَ عِضَاهُهَا أو يُقْتَلَ صَيْدُها" كما روى من طريق عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يَخْبِطُه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ اللَّه أن أرُدَّ شيئا نَفَّلَنِيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم" ومعنى سلبه أى أخذ جميع ما معه ما عدا ما يستر عورته. كما روى مسلم من طريق عاصم الأحول قال: سألت أنسا رضى اللَّه عنه أحرَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم هى حرام، لا يختلى خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين" كما روى مسلم من حديث أبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرَما، وإنى حرمت المدينة حراما ما بين مأزِمَيها أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تُخبَط فيها شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا فى صاعنا اللهم بارك لنا فى مدنا، اللهم بارك لنا فى مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن المدينة حرم مثل مكة.

2 -

أنه لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا يقاتل أهلها ولا ينفر صيدها.

3 -

أن اللَّه تعالى بارك مكة والمدينة بدعاء خليليه إبراهيم

ص: 87

ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

ص: 88

14 -

وعن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عَير إلى ثَور" رواه مسلم.

[المفردات]

حرم: أى لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا يقاتل أهلها ولا يصاد صيدها.

عير: جبل بالمدينة جنوبيها إلى الغرب قليلا، شرقى ذى الحليفة يفصل بينهما وادى العقيق. ويقال له أيضا: عائر.

ثور: جُبَيْل بالمدينة خلف جبل أحد من جهة الشمال بينهما خُطوات وهو منفرد مع صغره كانفراد أحد مع كبره، وقد صعدت فوته أكثر من مرة. ومن وراه من بُعْد يحسبه صغيرا جدا. ولذلك عرفه العلماء بأن جبيل صغير مدور. والواقع أنه ليس مدورا بل فيه استطالة إلى جهة الشرق والغرب.

[البحث]

ساق مسلم حديث على بن أبى طالب من طريق إبراهيم التيمى عن أبيه قال: خطبنا على بن أبى طالب فقال: من زعم أن

ص: 88

عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب اللَّه وهذه الصحيفة (قال وصحيفة معلقة فى قراب سيفه) فقد كذَب: فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرَم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدَثًا أو آوى مُحدِثا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صَرْفا ولا عَدْلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" وقد روى البخارى هذا الحديث أيضا من رواية إبراهيم التيمى عن أبيه عن على رضى اللَّه عنه قال: ما عندنا شئ إلا كتاب اللَّه وهذه الصحيفة عن النبى صلى الله عليه وسلم. وساقه بنحو سياق مسلم إلا أنه قال: المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، وقوله إلى كذا كناية عن ثور الذى صرحت به رواية مسلم، قيل: إنما أبهمه البخارى لأن جماعة من أهل العلم أنكروا أن يكون بالمدينة جبل ثور ومنهم أبو عبيد فقد قال: قوله: "ما بين عير إلى ثور" هذه رواية أهل العراق وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلا عندهم يقال له ثور. قال الحافظ فى الفتح: وقال النووى: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما غيره، وقال المحب الطبرى فى الأحكام بعد حكاية كلام أبى عبيد ومن تبعه: قد أخبرنى الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصرى أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور.

ص: 89

وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب أى العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك قال: فعلمنا أن ذكر ثور فى الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه قال: وهذه فائدة جليلة انتهى ثم قال الحافظ: وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبى فى شرحه: حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصرى أنه خرج رسولا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال قال: فلما وصلنا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير فسألته عنه، فقالت هذا يسمى ثورا قال: فعلمت صحة الرواية اهـ قال الحافظ: قلت وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك. وذكر شيخنا أبو بكر بن حصين المراغى نزيل المدينة فى مختصره لأخبار المدينة أن خَلَفَ أهل المدينة ينقلون عن سَلَفِهم أن خَلْف أُحُد من جهة الشمال جبلا صغرا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا. قال: وقد تحققته بالمشاهدة اهـ على إن إبهام البخارى له لا يضر فى ثبوته لأن البخارى لم ينفه بل كنى عنه وكأنه فعل ذلك احتياطا والعلم عند اللَّه عز وجل. وقد حدد حديث على رضى اللَّه عنه حدود حرم المدينة من الشمال والجنوب ولم يتعرض لحدوده من الشرق والغرب وقد بيَّن حدوده من الشرق والغرب حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه الذى أخرجه البخارى ومسلم أن رسول اللَّه

ص: 90

-صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين لابتيها حرام" واللابتان تثنية لابة وهى الحرة والمدينة يكتنفها من الشرق والغرب حرتان: الحرة الشرقية والحرة الغربية ومن العجيب قول الصنعانى فى سبل السلام: فحديث عير وثور يفسر اللابتين.

[ما يفيده الحديث]

1 -

أن المدينة حرم.

2 -

وأن حدود الحرم من الجنوب عير.

3 -

وأن حدود الحرم من الشمال ثور.

4 -

وأن حدود الحرم من الشرق الحرة الشرقية.

5 -

وأن حدود الحرم من الغرب الحرة الغربية.

6 -

وأن هذه الحدود داخلة فى المحدود.

ص: 91