الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة (قل هو الله أحد) : هي نسب القرآن
…
قوله:
وقد تقدم أن نفي ما ينفي عنه سبحانه، نفي متضمن للنفي والإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا، لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة، وأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب، ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب، وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى:{اللَّهُ الصَّمَدُ} والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، أو هي الأصل في هذا الباب. وقال في حق المسيح وأمه:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى. والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل، إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل، وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك
وأسبابه. وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه، وبخلاف الفرح والغضب، فإنه من صفات الكمال. فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك.
ش: يقول الشيخ: قد تقدم يعني في القاعدة الأولى، أن جميع ما وصف لله به نفسه من النفي فهو متضمن لنفي أوصاف النقص وإثبات أوصاف الكمال. فنفي السنة والنوم واللغوب وكونه لا يؤوده حفظ السماوات والأرض ولا يعزب عنه شيء وكونه يرى ولا يحاط به رؤية، كل ذلك نفي متضمن لإثبات الكمال، ونفي ما يضاد هذه الحال، وهكذا القول في سائر ما ورد، وحينئذ فالنفي المحض ليس بشيء، ولهذا يوصف به المعدوم والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس ذلك مدحا له لأن مشابهة الناقص نقص بكل حال كما أن المماثلة لشيء من الموجودات فيه مشابهة ومماثلة للغير، وذلك نقص كما أن عدم المماثلة كمال. ولذلك يوصف الرب بأوصاف الكمال دون أضدادها كما يتنزه ويتقدس عن الشبيه والمثال. ثم سرد المؤلف أمثلة لأوصاف الكمال المستلزمة لنفي أضدادها، ونفي أوصاف النقص المستلزمة لإثبات أضدادها فقال:"وذلك أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه" إلى قوله: "والأكل والشرب فيه افتقار إلى موجود غيره" يعني ففي إثبات هذه الصفات نفي لأضدادها ولما يستلزم أضدادها. وقوله: "والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب " إلى قوله: "فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى" معناه: إذا عرف أن من اعتضد بغيره واستعان به في أن يحمله أو يقضي حوائجه فهو مفتقر إلى ذلك الغير، فمن يأكل ويشرب مفتقر إلى الأكل والشرب لتقوم به ذاته ويقوى به. والمصمت أكمل من الأجوف لعدم افتقاره إلى
وقوله: "وهذه السورة، هي نسب الرحمن أو هي الأصل في هذا الباب " يعني: كما أخرج الإمام أحمد وابن خزيمة والبيهقي في "الأسماء والصفات " عن أبي ابن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} "ليس شيء يولد إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث " {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} "لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله
شيء" وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا في سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟! فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال: أخبروه أن الله تعالى يحبه ".
قوله:
وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفء له ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات، ولا الكواكب ولا الهواء، ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم ولا غير ذلك بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر. فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما يجب لها: فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والغنى فيكون الشيء الواحد واجب بنفسه غير واجب بنفسه موجودا معدوما، وذلك جمع بين النقيضين. وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون بصر كبصري، أو يد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه، سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم.
ش: يعني أن العقل السليم يدرك أن الرب الخالق للكون بأسره لا بد أن يكون متصفا بالكمال ومنزها عن النقص، كما أن السمع قد ورد بذلك فيعلم بالضرورة من العقل والسمع أن ذات الله سبحانه ليست كذوات المخلوقين ولا صفاته كصفاتهم فليس كشيء من الموجودات من سماء أو ملائكة أو أبدان آدميين أو أرواحهم أو غير ذلك، ويعلم علما يقينيا أن مباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق، فإذا كان بعض الموجودات لا يماثل بعضا فالمباينة التي بين الخالق والمخلوق أعظم من ذلك. فإذا انتفت المماثلة بين مخلوق ومخلوق فانتفاؤها بين الخالق والمخلوق بطريق الأولى، والحقيقتان إذا تماثلتا جاز على إحداهما ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما وجب لها، فلو تماثل الخالق والمخلوق لجاز على الله ما يجوز على المخلوق من العدم والحدوث والافتقار، ووجب للمخلوق ما يجب للخالق من البقاء والقيومية والغنى المطلق ووجوب الوجود، وحينئذ فيكون كل منهما واجب الوجود ليس واجب الوجود، غني عما سواه غير غني عما سواه، باقيا ليس باقيا وهكذا. وحينئذ فيلزم الجمع بين النقيضين وذلك ممتنع، وبهذا يعلم أن قول المشبه: لله سمع وبصر ويد واستواء كسمعي وبصري ويدي واستوائي ونحو ذلك قول واضح الفساد، حيث يلزم منه أن يجوز على الخالق ما يجوز على المخلوق ويجب له ما يجب له، وليس القصد في هذه الرسالة المختصرة استيعاب طرق النفي والإثبات، فمحل بسط ذلك هو المطولات وإنما المقصود هنا لفت النظر إلى ضوابط وقواعد نافعة مع لفت النظر والتنبيه إلى طرق النفي والإثبات الواجبين لله، وإذا عرف هذا فما أثبته الشرع وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه وما سكت عنه فلم يثبته ولم ينفه فإن كان في العقل ما يثبته ككونه وصف كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه أثبتناه ضمن المثل الأعلى وإن كان في العقل ما ينفيه ككونه وصف نقص نفيناه ضمن المثل الأعلى أيضا، وإن لم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلم نثبته ولم ننفه والله جل وعلا متصف بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله وهو أعلم بما يستحقه مما علمنا وما لم نعلم من