المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى - التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية - جـ ٢

[فالح بن مهدي آل مهدي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الاعتماد على الاثبات المجرد عن نفي التشبيه طريقة المشبهة

- ‌معنى التشبيه عند المعطلة

- ‌المحذور الذي نفته الأدلة هو أن يكون لله شريك أو مثيل

- ‌من الصفاتيه من لا يصف الصفات بالقدم

- ‌اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه

- ‌فساد القول بتماثل الأجسام

- ‌معنى الأفعال الاختيارية

- ‌معنى الهيولى

- ‌قول الروافض لا ولاء الا ببراء

- ‌من دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما

- ‌بيان فساد طريقة المعطلة

- ‌من نفى اشتراك الموجودات في المعنى العام لزمه التعطيل المحض

- ‌الاشاعرة يجمعون بين الأمرين المتناقضين

- ‌اضطراب أساطين الكلام في المسائل الخمس

- ‌بيان فساد مسلك المعطلة في ردهم

- ‌أمور أربعة يتضح بهافساد مسلك المعطلة

- ‌الأعتماد على مجرد نفي التشبيه لا يكفي في إثبات الصفات

- ‌اعتراض المعتزلة على الأشاعرة

- ‌سورة (قل هو الله أحد) : هي نسب القرآن

- ‌اشارة الشارح إلى القاعدة السابعة

- ‌ الأصل الثاني من نوعي التوحيد

- ‌معنى حديث الأنبياء اخوة لعلاة

- ‌دين الأنبياء واحد وان اختلفو افي الشرعة والمنهاج

- ‌أول الرسل يبشر بآخرهم

- ‌تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى

- ‌ ما وقع من الغلط في مسمى "التوحيد

- ‌القرآن منزل غير مخلوق

- ‌اقرار المرء بأن الله خالق كل شيء لا يغني عنه إلا إذا نطق بالشهادتين

- ‌معنى الجبر

- ‌مذهب القدرية والجهمية في الوعد والوعيد

- ‌لابد من تحقيق الشهادتين

- ‌مراتب القدر

- ‌مجرد الأسباب لايوجب حصول المسبب

- ‌حديث ما منكم أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار

- ‌اتفاق الناس على ان الفعل يلائم الفاعل او ينافره يعلم بالعقل

- ‌المعتزلة لا يثبتون حكمة تعود إلى الله تعالى فيما خلقه وأمر به

- ‌خطأ من شهد الربوبية العامة فقط

- ‌قول بعض الصوفية أريدأن لا أريد

- ‌الفناء يراد به ثلاثة أمور

- ‌مخالفة الجبرية للعقل والقياس

- ‌المؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحذور

- ‌لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين

- ‌الأصلان اللذان لابد منهما في عبادة الله

- ‌الناس في عبادة الله والاستعانة به أربعة أقسام

- ‌دين الله هو ما بعث به رسله

- ‌اشارة الشارح إلى أن الرسالة التدمرية لم تشرح قبله

- ‌مراجع الكتاب

الفصل: ‌تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى

عده فتكون الطاعة للرسول الثاني طاعة للأول {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} ، وقال تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ! ومن فرق بين رسله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرا.

ص: 59

‌تنازع الناس في اسلام من تبقى من أمة موسى وعيسى

قوله:

وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى: هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فالإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة، بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء، ورأس الإسلام مطلقا: شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقال عن الخليل:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال تعالى عنه:{أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، وقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ، وذكر عن رسله كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال عن أهل الكهف:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} إلى قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .

ص: 59

ش: يقول الشيخ: اختلف العلماء في جواز إطلاق اسم الإسلام على من سبق الأمة المحمدية من الأمم. والخلاف في الحقيقة ما هو إلا لفظي. فإن الجميع متفقون على أن كل امة أطاعت رسولها الذي جاءها بشرع الله فهي مسلمة منقادة لأمر الله خاضعة لشرعه الذي شرعه على لسان ذلك الرسول المرسل. فإن الإسلام دين والدين مصدر دان يدين دينا إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده فأصله في القلب الخضوع لله بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما.

وأما الإسلام الخاص فهو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا لله وأن محمدا رسول الله.. الخ" رواه مسلم، وروى الإمام أحمد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: والله يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك فبالذي بعثك بالحق ما بعثت به؟، قال: الإسلام، قال: وما الإسلام؟، قال: أن تسلم قلبك لله وأن توجه وجهك إلى لله وأن تصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة أخوان نصيران لا يقبل الله من عبد أشرك بعد إسلامه.. الحديث"، وذكر الله تعالى عن موسى أنه قال:{يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} ! وأخبر تعالى عن السحرة أنهم قالوا لفرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إلَاّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وقال تعالى عن المسيح: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، وقال تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ، وكما قال عن نوح أنه قال لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ

ص: 60

فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، وقال تعالى عن إبراهيم:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، وقال تعالى عن يوسف الصديق:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، وقال عن بلقيس:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فالإسلام عند الجميع هو الاستسلام لله وهو الخضوع له والعبودية له، كما يقول أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، وحينئذ فرأس جميع الأديان هو الشهادة بوحدانية الله دون من سواه كما في آية النحل والأنبياء والشعراء والممتحنة، وآيتي الزخرف، ولقد أخبر الله تعالى عن كل رسول بأنه أمر قومه بعبادة الله وحده كما حكى ذلك عن نوح وهود وصالح، وإخوانهم من الأنبياء، قال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال سبحانه:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال عن شعيب:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وأخبر سبحانه عن أهل الكهف أنهم قالوا:{لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطا} ، والخلة أعلى مراتب المحبة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي جعل إبراهيم كلمة التوحيد باقية في ذريته بأن وصاهم بها كما في قوله سبحانه:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والكهف جمعه كهوف وهو الغار المتسع في الجبل {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي قويناها على قول الحق، {ولَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي قولا ذا شطط أي إفراطا في الكفر أن دعونا إلها غير الله.

ص: 61

قوله:

وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ذكر ذلك في موضعين من كتابه، وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب والشرك بالأصنام فقال عن النصارى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إله إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ومعلوم أن واحدا من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان ومريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال. بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلها مساويا لله في جميع صفاته وعامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله. بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له، سواء كان ملكا أو نبيا أو كوكبا أو صنما، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هولك، تملكه وما ملك، فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وقال: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع

ص: 62

الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك عن الثنوية الذين يقولون بالأصلين النور والظلمة وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور، وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه، فقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} إلى قوله {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلى قوله {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، وقال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .

ش: بعد أن بين الشيخ أن الإسلام بمعناه العام هودين جميع الرسل وأن من أطاع رسوله من الأمم السابقة، يقال له مسلم كما يقال ذلك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. بين بعد ذلك أن من صرف شيئا من أنواع العبادة لغير لله بأن تقرب إلى ملك أو نبي أو ولي أو كوكب، أو شجرة، أو حجر، فهو مشرك وقد قال الله جل وعلا في حق المشركين {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، وقال في الموضع الآخر من سورة النساء أيضا:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} ، ثم استشهد المؤلف بآية براءة وآية المائدة وآية آل عمران على ذم عابد العلماء والعباد والملائكة والأنبياء وبيان شركهم وكفرهم، وحكم الله عليهم بالكفر إنما

ص: 63

هو بسبب شركهم مع الله في عبادته ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكان المشركون من النصارى والعرب وغيرهم من أصناف الأمم الضالة، يعتقدون في الملائكة أو الأنبياء أو الشيوخ أنهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء إلى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون: من أراد أن يتقرب إلى ملك عظيم فلا ينبغي له أن يأتي إليه أولا، بل يتقرب إلى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه إليه قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، ذكر سبحانه هذا بعد قوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} وقد نفى هذه الشفاعة التي يزعمونها كما قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} ، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ، وقال سبحانه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} .

ص: 64

قال الشيخ: فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأما شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة فقد أخبر "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا، فإذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، قيل له أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فيقول أي رب؟ أمتي، فيحد له حدا فيدخلهم الجنة وكذلك في الثانية وكذلك في الثالثة، قال أبوهريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ليست لمن أشرك بالله ولا تكون إلا بإذن الله" وحقيقة الأمر أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص والتوحيد فيغفر لهم بواسطة دعاء الشافع الذي أذن له أن يشفع ليكرمه بذلك وينال المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، كما كان صلى الله عليه وسلم في الدنيا يستسقي لهم ويدعو لهم، فمقصود القرآن بنفي الشفاعة نفي الشرك وهو أن لا يعبد إلا الله ولا يدعى سواه ولا يسئل غيره ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة ولا غيرها، فليس له أن يتوكل على أحد في أن يرزقه وإن كان الله يأتيه بأسباب، وحينئذ فالمشركون جميعا لم يكونوا جاحدين يرب العالمين، ولا قال أحد قط من الآدميين أن الشمس أو القمر أو شيئا من الكواكب أبدع السموات أو غيرها بل عباد الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب يعبدونها كما يعبد عباد الأصنام الأصنام بل قد يجعلونها شفعاء ووسائط بينهم وبين رب العالمين كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} حتى الثنوية من المجوس يقولون أن العالم صادر عن أصلين، النور والظلمة، والنور عندهم هو إله الخير المحمود والظلمة هي الإله الشرير المذموم، وبعضهم يقول أن الظلمة هي الشيطان. ومنهم من قال إن الظلمة قديمة أزلية مع أنها مذمومة ليست مماثلة للنور ومنهم من قال بل هي حادثة، وأن النور فكر فكرة رديئة فحدثت الظلمة عن تلك

ص: 65

الفكرة الرديئة، وهؤلاء مع إثباتهم اثنين وتسمية الناس لهم بالثنوبة فهم لا يقولون أن الشر مماثل للخير، ومن ظن أن قوم إبراهيم الخليل كانوا يعتقدون أن النجم أو الشمس أو القمر رب العالمين أو أن الخليل عليه السلام لما قال هذا ربي أراد به رب العالمين فقد غلط غلطا بينا، بل قوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع وكانوا يشركون بعبادته كأمثالهم من المشركين. قال الله تعالى عن الخليل:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - إلى قوله- فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ! فأخبر الله تعالى عن الخليل أنه عدو لكل ما يعبدون إلا رب العالمين، وأخبر عنهم أنهم يقولون يوم القيامة {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يعني آلهتكم، فلم يكونوا جاحدين للصانع بل عدلوا به وجعلوا له أندادا في العبادة والمحبة والدعاء، وكذلك مشركو العرب وأمثالهم كانوا مقرين بالصانع وأنه خلق السموات والأرض، إذ كانوا مقرين بأن هذه السموات والأرض مخلوقة لله حادثة بعد أن لم تكن. وقد استشهد المؤلف على ذلك بآية العنكبوت وآية الزمر وآيات المؤمنون، ثم استشهد بما كان العرب يقولونه في تلبيتهم من الإقرار بربوبية الله الشاملة، كما ذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم عليه السلام: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي الخزاعي فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: تملكه وما ملك فإنه لا بأس بهذا فقالها ودانت بها العرب، وقد روى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار". ومن العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول المبيت، ويقال أنه جلبها من

ص: 66

البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام. قال الشيخ: ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم، فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكانوا سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليه الحج. فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب وأصل تحريم الحلال فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب الشرك بالله عز وجل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام وأقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه، وقوله فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني كما في الحديث الطويل الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أن رسول صلى الله عليه وسلم أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وكذلك عبادة الأحبار والرهبان لم تكن لاعتقادهم فيهم مشاركة الله في ربوبيته بل كان اعتقادهم كما قال الربيع بن أنس:"قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل، قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء: فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهوا عنه انتهينا، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم"، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم أو صاموا لهم، أو دعوهم من دون الله، وفى حديث عدي بن حاتم الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم" والصنم هو الوثن جمعه أصنام وهو ما قصد

ص: 67

بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد والتماثيل، يقول الخليل عليه السلام:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} مع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} ، وقوله:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون} فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام مما عبد من دون الله، وقيل الصنم هو ما صور على هيئة الإنسان وعبد من دون لله من خشب أو حجر أو ذهب أو فضة أو غير ذلك وقوله: وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات معناه أن الباحثين في الملل والمتحدثين عن الديانات مثل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل ومثل عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق". ومثل أبي محمد علي بن حزم الأندلسي. في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل " فقد تحدث هؤلاء وغيرهم عن نحل العا لم ولم يذكروا عن أحد إثبات شريك مشارك لله في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات.

وقوله سبحانه في آيتي النساء {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} معناه: أن ما دون الشرك بالله من سائر المعاصي فهو تحت المشيئة إن شاء الله عذب مرتكبه وإن شاء غفر له، ففي ذلك رد على كل من الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار، ولا يجوز أن يحمل قوله: سبحانه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ} على التائب فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهنا عم وأطلق، لأن المراد هنا التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به من لم يتب.

ص: 68