الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل" معناه: أن البالغ في التوحيد عندهم نهايته هو من يصل إلى هذه الحالة، ومعنى فناء المعرفة في المعروف، اضمحلال معرفته وتلاشيها في معروفه وهو الرب سبحانه بأن يغيب بمعروفه عن معرفته كما يغيب بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمحبوبه عن حبه وبمخوفه عن خوفه، قال ابن القيم رحمه الله وهذا: لا ريب في إمكانه ووقوعه فإن القلب إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره وأنت ترى الرجل يشاهد محبوبه الذي قد استغرق في حبه بحيث تخلل حبه جميع أجزاء قلبه أو يشاهد المخوف الذي امتلأ قلبه بخوفه فتراه دهشا عن شعوره بحبه أو خوفه، لاستيلاء سلطان المحبوب أو المخوف على قلبه وعدم اتساعه لشهود غيره البتة، لكن هذه حالة نقص لا حالة كمال والكمال وراء ذلك فإنه لا أحد أعظم محبة لله عز وجل من الخليلين عليهما الصلاة والسلام وكانت حالهما أكمل من هذه الحال وشهود العبودية أكمل وأتم وأبلغ من الغيبة عنها بشهود المعبود، فشهود العبودية والمعبود درجة الكمل والغيبة بأحدهما عن الآخر درجة الناقصين فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص. فالحق تعالى، مراده من عبده استحضار عبوديته لا الغيبة عنها فكيف يكون قائما بحقيقة العبودية من يقول إياك نعبد ولا شعور له بعبوديته البتة، فإن حقيقة إياك نعبد، علم ومعرفة وقصد وإرادة وعمل، وهذا مستحيل في وادي الفناء" انتهى كلامه رحمه الله، وسيأتي قريبا مزيد بيان لهذا البحث إن شاء الله تعالى.
معنى الجبر
قوله:
وكان جهم بن صفوان ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقولون بالإرجاء فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده، والنجارية والضرارية وغيرهم
يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات. والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات الفعلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية أيضا كما فصلت اقوا لهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة، والكلابية: هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته وأصحاب بن كلاب كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا.
فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل. والكراميه قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا. لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم وأما في الصفات والقدر والوعد، فهم أشبه بأكثر طوائف المتكلمين الذين في أقوالهم مخالفة للسنة.
ش: يعني أن رئيس أهل التعطيل وزعيم القائلين بأن العبد مجبور على أفعاله لا مشيئة له فيها ولا اختيار هو جهم، فقد كان يقول بذلك. وقاربه في هذا المذهب الشنيع طائفة النجارية وفرقة الضرارية فقد شابهت هاتان الطائفتان جهم في التعطيل وفي الغلو في إثبات القدر، والجهمية يشبهون المشركين حيث يقولون أن التدبير في أفعال الخلق كله لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش والعروق النابضة وحركات الأشجار، والمشركون يقولون: لو شاء الله ما أشركنا، فالكل مخاصم لله ومحتج بالقدر، لكن فرق ما بين الجهمية والمشركين أن الجهمية يؤمنون بما يأمر الله به من أوامر كإفراده بالعبادة وسائر الطاعات وما ينهى عنه من نواهي كالشرك وسائر المعاصي، وأثبتوا ما يترتب على ذلك من الجزاء ولكن يضعف إيمانهم بذلك قولهم بالإرجاء. والكلابية والأشاعرة خير من هؤلاء
الجهمية ومن قاربهم حيث أن أصحاب ابن كلاب والمنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري يثبتون لله الصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء والنزول والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك، كما أن زعماء هاتين الطائفتين يثبتون بالإضافة إلى الصفات الفعلية الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك كما قد بسط الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع. وهذه الطوائف جميعا يتشابهون في مسألة الأسماء كالفاسق والكافر والمؤمن كما يتشابهون في مسألة الحكم على بعض الناس بالإيمان والكفر والفسوق، كما يتشابهون أيضا في التخبيط في قدر الله السابق. والكلابية هم المنسوبون إلى أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان التميمي البصري المتكلم رئيس الطائفة الكلابية وهو من المنتسبين إلى السنة، كانت بينه وبين المعتزلة مناظرات في زمن المأمون. وتوفي سنة أربعين ومائتين. ويقال له ابن كلاب لشدة مجادلته في مجلس المناظرة، وهو لقب له مأخوذ من الكلاب الذي هو المهماز وهو الحديدة التي على خف رائض الخيل. لا أن كلابا جده. ولهذا يصح أن يقال الكلابي بدل ابن كلاب. وابن كلاب هذا الذي سلك الأشعري منهجه في كثير من الأقوال الكلامية حين جرى بينه وبين أستاذه الجبائي المعتزلي مناظرة في مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة فأيد مقالتهم بمناهج كلامية. ابن كلاب هذا خير في الأشعرية في مسائل الإيمان والصفات كما أنه أيضا خير منهم في مسائل الأسماء والأحكام والقدر، كما أن أصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأمثالهما من أصحابه هم أيضا خير من الأشاعرة في المسائل المذكورة. والضابط في هذا التفضيل، أنه كلما كان القول أقرب إلى الكتاب والسنة كان أعلى وأفضل من غيره، والكرامية لهم في مسألة الإيمان قول شنيع لم يسبقهم إليه أحد من الطوائف، وهو قولهم أن الإيمان يكفي فيه مجرد النطق باللسان وإن كان القلب غير مصدق، وعلى هذا فالمنافق عندهم مؤمن لكنهم يحكمون عليه بالخلود في النار فهو عندهم مؤمن في الاسم لا في الحكم، أما رأي الكرامية في مسائل
الصفات والقدر والوعيد فهو شبيه برأي كثير في طوائف المتكلمين الذين يوجد في آرائهم شيء من الصواب وشيء من مخالفة الشرع، والجبر: لفظ مجمل فإنه يقال جبر الأب ابنته على النكاح وجبر الحاكم الرجل على بيع ما له لوفاء دينه. ومعنى ذلك أكرهه ليس معناه جعله مريدا لذلك مختارا محبا له راضيا به، ومن قال أن الله تعالى جبر العباد بهذا المعنى فهو مبطل فإن الله أعلى وأجل قدرا في أن يجبر أحدا، وإنما يجبر غيره العاجز عن أن يجعله مريدا للفعل مختارا له راضيا به، والله سبحانه قادر على ذلك فهو الذي جعل المريد للفعل المحب له راضيا به فكيف يقال أجبره وأكرهه كما يجبر المخلوق المخلوق؟ وإذا أريد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات فهذا المعنى صحيح، قال الأوزاعي وغيره: ليس في الكتاب والسنة لفظ جبر وإنما في السنة لفظ (جبل) كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس لما قدم عليه وفد عبد القيس من البحرين: "إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل جبلت عليهما، فقال الحمد لله الذي جبلني على ما يحب " ومن أجل ذلك أنكر الأوزاعي والثوري وأحمد وغيرهم من السلف لفظ الجبر في النفي والإثبات، ومن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد والى ما يضرهم ولله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل، ليدحض به الحق. والإرجاء هو التأخير ولذلك سمي أصحاب هذا الرأي بالمرجئة لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، وأن الناس في الإيمان سواء فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء وأن الأعمال الصالحة ليست من الإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، وشبهتهم الواهية هي مثل قولهم الإيمان في اللغة هو التصديق والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لا بغيرها فيكون مراده بالإيمان التصديق، ثم قالوا والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو القلب فقط، فالأعمال ليست في الإيمان. قال الشيخ: والمرجئة ثلاثة أصناف: الصنف الأول من يقول الإيمان مجرد ما في القلب. والثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: من يقول هو تصديق القلب وقوة اللسان وهذا هو المشهور عن مرجئة الفقهاء. والحق أن الإيمان قوة وعمل، قول باللسان وإقرار واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي. وأهل الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. والخوارج والمعتزلة يقولون أن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، ومن أتى كبيرة كفر عند الحرورية وصار فاسقا عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وأما الحكم فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة فعندهم أن من أتى كبيرة فهو خالد مخلد في النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغير شفاعة، أما في الدنيا فالخوارج حكموا بكفر العاصي واستحلوا دمه وماله وأما المعتزلة فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر ولم يستحلوا منه ما استحله الخوارج، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم فقالوا ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية، فإن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان بل هو شيء واحد، والنجارية هم أصحاب الحسين بن محمد النجار وهم وإن اختلفوا أصنافا إلا أنهم لم يختلفوا في المسائل العامة، والضرارية هم أصحاب ضرار بن عمرو، الذي ظهر في أيام واصل بن عطاء، والحارث هو ابن أسد المحاسبي الزاهد الناطق بالحكمة صاحب المصنفات في التصوف والأحوال وهو أحد شيوخ الجنيد وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأبو العباس القلانسي هو أحد متكلمي أهل السنة في القرن الثالث، وله كتب ورسائل عديدة، والكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد ابن كرام الذي ظهر ونشر بدعته في أيام محمد بن طاهر بن عبد لله.