الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك إذا وجد السحاب لم ينفذ شعاعها إلى ما تحته فلابد من وجود جسم ينعكس عليه شعاعها مع انتفاء الموانع، وحينئذ فليس وجود السبب كافيا في حصول المسبب بل لابد مع ذلك من انتفاء الموانع. والسمندل هوى كما قال في القاموس المحيط:"طائر بالهند لا يحترق بالنار"، والياقوت هو من الجواهر معرب أجوده الأحمر الروماني. وقد ذكرنا فيما سبق أن أهل الإلحاد يدخلون في مسمى الواحد عندهم نفي أوصاف الرب جل وعلا، فقولهم:"واحد لا قسيم له" مثل قولهم: "الواحد لا يصدر عنه إلا واحد"، ومن المعلوم أنه ليس في كلام العرب بل ولا عامة أهل اللغات أن الذات الموصوفة بالصفات لا تسمى واحدا، بل المنقول بالتواتر عن العرب تسمية الموصوف بالصفات واحدا ووحيدا قال تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وهو الوليد بن المغيرة وقال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فسماها وهي امرأة متصفة بالصفات واحدة ويقال إنه أحد الرجلين، ويقال للأنثى إحدى المرأتين ويقال للمرأة واحدة، وللرجل واحد ووحيد، ولم يعرف أنهم أرادوا بهذا اللفظ ما لم يوصف بالصفات أصلا، قال الشيخ: وهذا مما يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين (أحدهما) فاعل كالنار (والثاني) قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإشعاعها مشروط بالجسم المقابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك.
حديث ما منكم أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار
…
قوله:
والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس:"هو نظام التوحيد" فمن وحد الله وآمن بالقدر، تم توحيده، ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص توحيده، ولابد من
الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه، والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز له بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده فلا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أصدق الأسماء حارث وهمام" وهو معنى قولهم "متحرك بالإرادات" فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار وهل يصلحه أو يفسده وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفه بالاستدلال الذي يهتدون إليه بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانها وهدايتهم لهم.
ش: يعني والحاصل مما تقدم أنه لابد من الإيمان بقدر الله السابق وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وأن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، كما أنه لابد من الإيمان بما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله من أوامر ونواهي ووعد ووعيد وأن ذلك هو النهج الصحيح والسبيل المستقيم، وأنه لا حجة لأحد على الله في ترك مأمور أو فعل محظور، كما روى البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد في جنازة فقالت: "ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. فقالوا: يا رسول لله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ قوله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، وفي الصحيح أيضا أنه قيل له:"يا رسول الله أعُلم أهل الجنة من أهل النار؟، فقال: نعم، فقيل له: ففيم العمل؟، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، قال الشيخ في بيان معنى هذا الحديث:"فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب ويدَعو العمل كما يفعله الملحدون وقال: "كل ميسر لما خلق له" وإن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة وهذا من أحسن ما يكون من البيان وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وقد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له زرع بما يسيقه من الماء ويبذره من الحب، فلو قال إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى بذر كان جاهلا ضالا لأن الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها، وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا شقيا في الآخرة، قلنا: ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى: {لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه ومن اتبع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين: "قال الله أعلم بها كانوا عاملين" يعني أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية، وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به
وطاعته فمن قدر أن يكون منهم يسَّره للإيمان والطاعة، فمن قال إني داخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة، ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه، وإذا قدر للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء. وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب، يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب فإن الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج بل كم من أنزل ولم يولد له بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع، وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة بل هو سبب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول لله. قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، أما قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ونحوها من النصوص فهذه (باء السبب) أي بسبب أعمالكم والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم: (باء المقابلة) كما يقال: اشتريت هذا بهذا، فالمعنى ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته فبعفوه يمحو السيئات ورحمته يأتي بالخيرات وبفضله يضاعف البركات، وقد سبق آنفا نظير لهذا البحث فيما نقلناه عن الشيخ رحمه الله تعالى، وحينئذ فالإيمان بالقدر أحد دعائم الإيمان فمن لم يؤمن بقدر لله لم يوحد الله، وفي هذا المقام يقول حبر الأمة فيما صح عنه:"القدر نظام التوحيد" يعني قوامه الذي يرتكز عليه، ولما كان الإنسان مضطرا في دروب سيره إلى الله وفي معاشه وفي حياته إلى نور يضيء له
السبيل: "اقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين ولمن أجابهم مبشرين ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها" قال في شرح الطحاوية: "ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم، ولهذا سمى الله ما أنزل على رسوله روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه ونورا لتوقف الهداية عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} ، وإذا فشرع الله هو الشفاء من كل داء وهو عدله بين عباده الملائم لأحوالهم في أي زمان وفي أي مكان، والأمم المتناحرة في هذه الأزمان والتي لا تخرج من فتنة إلا لتدخل في مثلها أو تزيد لا نجاة لها من تخبطها وتعثرها إلا بالرجوع إلى نور الله وشرعه وصراطه المستقيم، يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه جاهلية القرن العشرين: "لا مخلص للناس من جاهليتهم وضلالهم وحيرتهم، وقلقهم واضطرابهم وتمزق حياتهم وأفكارهم ومشاعرهم إلا بالإسلام ولم يكن للناس مخلص من الجاهلية في تاريخهم كله إلا بالإسلام بمعناه الواسع الشامل الإسلام الذي جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وقد اكتمل الإسلام في دين الله الأخير:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} ، وهذا الإسلام في صورته الأخيرة المكتملة: هو العلاج الوحيد لكل جاهليات الأرض ولهذه الجاهلية الحديثة على وجه التخصيص، إن الإسلام هو الذي يعطي الوضع الصحيح لكل ما انحرفت به الجاهلية في التصور والسلوك، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، في الأخلاق والفن وعلاقات الجنس وكل شيء في حياة
الإنسان" انتهى. ووجه اضطرار الإنسان في حياته الدنيا إلى الشرع ليميز به بين ما يضره وما ينفعه: أن الله قد خلقه وركبه على صورة لا تصلح حياتها وبقائها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، فله تفكير وهمة وقدرة يستطيع بها على العمل، وحركته وإرادته يحتاج معهما إلى التوجيه السليم فلا يمكن لأحد من بني ادم أن يعيش عيشة هانئة مستقرة إلا باتباعه لشرع الله الذي يعرفه بمصالحه، ويحرضه على هدايته ويأخذ بحجزه عن النار ويدله على طريق النجاة، وليس المعنى أن الشرع إنما يحتاج له المجتمع بشكله العام في فض منازعات العباد وتنظيم أحوالهم من حيث أنه لابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طبائعهم الحيوانية من العدوان والظلم، بل كل فرد محتاج إلى نور الله وهدايته في تحصيل منافعه ودفع مضاره، ولإضاءة السبيل له حتى يفرق بين ما يصلح شأنه وما يفسده من معاملات وعبادات. فالشرع هو الذي يميز له بين الأمرين، على أن هناك من الأمور التي يحتاج لها الناس في معاشهم ما قد يعرفه الإنسان بمقتضى فطرته التي خلق عليها كمعرفته كيف يبذر وكيف يحصد وكيف يلقح، وكما يعرف الصبي ثدي أمه ويتناول الغذاء منه، ومنها ما قد يعرف عن طريق التجارب والاستدلال بالأقيسة العقلية على حصول النتائج ومنها ما لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي من كتاب أو سنة، وحينئذ فالإنسان بما جبله الله عليه وما ركبه فيه من طبائع محتاج إلى الأخذ بيده إلى ما ينفعه وحجزه عما يضره فإنه متحرك مريد وحارث وهمام، وحديث أصدق الأسماء حارث وهمام أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجثمي ولفظه: "تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة".