الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذهب القدرية والجهمية في الوعد والوعيد
قوله:
وأما المعتزلة، فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر: فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد وغلوا فيه مكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب، والإقرار بالوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج والحرورية، وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم. أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والمشركون شر من المجوس، فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد، والعلم والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر فلابد كل من الكلام في هذين الأصلين.
ش: بعد أن بين المؤلف رأي الجهمية القائلين بالتعطيل والجبر والإرجاء شرع في بيان مذهب المعتزلة كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأضرابهما فذكر أن القدرية وإن قاربوا جهما في التعطيل إلا أنهم يقولون أنه لا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا بالتوبة وأن أهل الكبائر مخلدون في
النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره زعما منهم أنه إذا أوعد عبيده فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده، كما يغلون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخلون تحت ستار ذلك الخروج على الأئمة، بينما الجهمية المرجئة لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر فلا يجزمون بثواب من تاب كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب، وبذلك يضعف جانب إثباتهم للأمر والنهي والجزاء على الأعمال، غير أن المعتزلة وأن عظموا جانب الأمر والنهي فهم مكذبون بقدر الله السابق ومعتقدون بأن العبد يخلق فعل نفسه، ومن هذه الجهة فهم مشركون في الربوبية، وإنكارهم للقدر وغلوهم في الوعد والوعيد وإن كان باطلا إلا أنه خير من إثبات القدر مع الغلو فيه، وحينئذ فأهل الكلام وأرباب التصوف المجبرة شر من المعتزلة ونحوهم كالشيعة القدرية فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقا متناولا لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته، وقد غلطوا في ذلك. أما أهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وهذا حسن وصواب لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى أفضى بهم ذلك إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} والقدرية يشبهون المجوس، وهؤلاء المتصوفة المجبرة يشبهون المشركين فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلا غير الله سبحانه فهؤلاء شابهوا المشركين والمشركون شر من المجوس فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم. أما إقرارهم على الجزية فجمهور العلماء على أن مشركي العرب لا يقرون بها وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من
المشركين بل قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" وبما ذكر من تقرير توحيد الشرع وبيان ارتباطه بالقدر اتضح أن هذا الأصل هو العمدة الذي يميز بين الأبرار والفجار والمسلمين والكفار، فهذا حقيقة التوحيد: شهودا بوحدانية لله وبرسالة رسول الله علما وعملا، خلافا لأرباب الكلام وأهل التصوف الذين يعتقدون أن مشاهدة الربوبية العامة والفناء في معرفتها هو الغاية في التوحيد وأن معنى الإله هو القادر على الاختراع. وحينئذ فلابد في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بأن لا يعبد إله غير الله، وشهادة أن محمدا رسول الله بأن لا يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله:"ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج والحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة":
يعني ومن أجل أن مقالة المجبرة شر من مقالة نفاة القدر نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يوجد في عهدهم من ينكر الأمر والنهي والوعد والوعيد، أما إنكار القدر فقد وجد من يقول به في أواخر عهد الصحابة، كما روى مسلم وأبوداود وغيرهما عن يحي بن يعمر، قال: "كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبدا الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلا في المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله
الله منه حتى يؤمن بالقدر"، وروى أحمد وأبوداود عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: "دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟، قال: تعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إنك إن مت ولست على ذلك دخلت النار" وهذا يدل على بشاعة الاحتجاج بالقدر وإنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، والبدعة إنما تقوى وتنتشر كلما بعد الناس عن نور الرسالة وضعف الدعاة إليها، ولما كان القدر من المسائل الشائكة ذات الخفاء والإشكال وجد من ينكره حتى في العهد القريب من نور الرسالة، وقد أنكرت هذه البدعة أشد الإنكار وحوربت أعظم المحاربة، والمجوس هم عبدة النيران القائلون: أن العالم صادر عن أصلين هما النور والظلمة، والمجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات والميم والنون يتعاقبان. والمجوس أقدم الطوائف وأصلهم من بلاد فارس، وقد نبغوا في علم النجوم، ومن جملتهم المانوية المنسوبون إلى أحد زعمائهم وهو مانىء بن فاتك الحكيم الذي ظهر فى زمان شابور بن أزدشير وذلك بعد عيسى عليه السلام. وقد استخرج مذهبه من المجوسية والنصرانية فهو ثنوي زنديق. ومنهم المزدكية المنسوبون إلى مزدك الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان، وقول المزدكية كقوة المانوية في الأصلين إلا أن مزدك كان يقول النور يفعل بالقصد والاختيار، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. قال الشهرستاني: "وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ"، قال في حاشية الملل نقلا عن ابن خلدون: "مزدك الزنديق كان
إباحيا وكان يقول باستباحة أموال الناس وأنها فيء وأنه ليس لأحد ملك شيء ولا حجزه، والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس لا يختص به أحد. وقد أمر مزدك أصحابه بتناول اللذات والعكوف على بلوغ الشهوات والأكل والشرب والمواساة والاختلاط وترك استبداد بعضهم على بعض. ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان"، وإذاً فمذهب المزدكية هو أصل الشيوعية الحمراء التي نادى بها كارل ماركس واحتضنها تلميذه لينين مؤسس الدولة الماركسية التي يغطي دخان جحيمها في هذه الأزمان سماء عدد من الأقطار المفتونة بمعسول قولها والمخدوعة ببريق دعايتها التي في ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب. والخوارج هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر الحكمين واجتمعوا بحروراء من ناحية الكوفة، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم ويحقر صيام أحدكم في جنب صيامهم ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم"، وهم المارقة الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: "سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، ويجمع طوائفهم القول بالتبرؤ من عثمان وعلي ويقدمون ذلك على كل طاعة ولا يصححون المناكحة إلا على ذلك. ويكفرون أصحاب الكبائر. وقوله: "غنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى" يعني أن هؤلاء المجبرة لم يكونوا موجودين في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن البدع إنما يظهر منها أولا فأولا الأخفى فالأخفى، كما حدث في آخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والشيعة. ثم في آخر عصر الصحابة بدعة المرجئة والقدرية، ثم في آخر عصر التابعين بدعة الجهمية معطلة الصفات. وأما هؤلاء المباحة المسقطون للأمر والنهي محتجين على ذلك بالقدر فهم شر من جميع هذه الطوائف، وإنما حدثوا بعد هؤلاء كلهم، وكان ظهور جهم ومقالته في تعطيل الصفات وفي الجبر والإرجاء في أواخر