الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربط بواسطة الحروف بشكل عام
تتعدد أنواع الحروف في اللغة العربية، وتتغاير وظائفها وفقًا لموقعها من الكلام، ولسوف نلجأ إلى دراسة حروف الربط وفقًا لمعانيها، لأن ذلك هو المدخل الملائم لهذا البحث المهم من مباحث الكتابة والتحرير:
أولًا: حروف التفسير:
وهي "أنْ" و"أيْ"، أمّا "أنْ" فشرطها أن تأتي بعد جملة متضمنة معنى القول، فهي تربط بين ما قبلها وما بعدها ربطًا تفسيريًّا توضيحيًّا، تكشف عما أُجْمِلَ في الجملة السابقة نحو قولنا: ناديته أن احذر النار.
أما "أي"، فهي أشمل وأعمُّ لأنها تأتي تفسيرًا للجملة وتفسيرًا للمفرد نحو قولنا: زارني القائد "أي سعيد"، ما بعدها يأتي مطابقًا لما قبلها في حركته، وقد ذهب البعض إلى أنها من حروف العطف، ومن أمثلة تفسيرها للجملة قولنا:"قام محمد بواجبه" أي "أتم كتابة ما طلب منه".
ثانيًا: حروف التفصيل:
أمَّا: حرف فيه معنى الشرط والتوكيد دائمًا والتفصيل غالبًا الشرط نوع من أنواع الربط بين الجمل، فهو يربط بين جملتين ربطًا معنويًّا قد يستلزم أداة ربط أخرى كالفاء وفقًا للشروط النحوية الخاصة بذلك. وبالنسبة "لأما" فلابد من وجود الفاء في جوابها كقول الله سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاًْ} الآية [البقرة:26]
ويتضح معنى التفصيل في الآيات القرآنية الكريمة:
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}
…
وأما الغلام....وأما الجدار
…
[الكهف 80،79،78] .
وقد يستغنى عن تكرارها كقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء:175] أو يذكر كلام الله بعدها كقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم.
ويجب دخول الفاء على جواب أما، ولا تحذف هذه الفاء إلا إذا دخلت على قول حذف اكتفاء بمقول القول عندئذ يجب حذفها:{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران:106] فالمحذوف عبارة فيقال لهم: أكفرتهم ولا تحذف في غير ذلك إلا لضرورة شعرية، وتأتي أو للتقسيم أو التفصيل كقول الله سبحانه وتعالى:{قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:35] أي إما هودًا أو نصارى.
ثالثًا: حروف الاستئناف:
والمقصود بالاستئناف متابعة الكلام من منطلق جديد لا يربط في الحكم الإعرابي بين ما قبل الحرف وما بعده، ومن حروف الاستئناف الواو كقول الله سبحانه وتعالى:{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج:5] .
كقول الشاعر:
على الحكم المأتي يومًا إذا قضى
…
قضيته أن لايجورَ ويقصدُ
فالواو هنا ليست عاطفة، لأنه لو عطف لجعل جملة يقصد شريكًا في النفي الأمر الذي يؤدي إلى التناقض.
وتأتي الفاء للاستئناف على قلة، كما في قول الله سبحانه وتعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} بالرفع ما ذكر السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن ص "167".
رابعًا: حروف العطف:
الواو: وهي أكثر حروف الربط أهمية ولذلك اعتبرت مدار الحديث عن الفصل والوصل كما أسلفنا.
والواو هي أصل حروف العطف ومعناها "إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول" وليس فيها دليل على أيهما كان أولًا، وتأتي بمعنى الفاء أي تفيد الترتيب وذلك في الخبر كقولنا أنت تأتي وتسلم على، وفي الاستفهام إذا استفهمت عن أمرين جميعًا نحو هل يأتي أخي وأراه قد تحدثنا عنها في بحث الفصل والوصل.
والفاء: تفيد الترتيب المعنوي كأن نقول دخل محمد فعلي والترتيب الذكري هو عطف مفصل على مجمل كقول الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] .
وكقول الله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] .
وتفيد التعقيب وهو في كل شيء بحسبه فقد يكون التعقيب بعد فترة حيث يتراخى الزمن كقولنا: تزوج محمد فوُلِدَ له، أو يكون مباشرة دون فاصل زمني يذكر مثل دخل محمد فسعيد.
وتفيد السببيه وذلك في الجملة أو الصفة.
أما الجملة فمثل قول الله سبحانه وتعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] .
وفي الصفة: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:54،53] .
وحتى نتبين دقة استعمال حروف العطف، وهي أهم أدوات الربط يمكننا أن نتسعرض بعض مواقعها في القرآن الكريم مجلى البلاغة وذروتها:
قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام يخاطب قومه قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:75-81] .
فيما يتعلق بالواو نجدها في الآيات الكريمة السابقة جاءت عاطفة للسقى علي الطعام لتنفيذ مطلق الجمع، حيث يمكن تقديم الطعام على الشراب أو الشراب على الطعام دون أن يؤثر ذلك في المعنى، أو في دائرته الدلالية، ولكن الفاء جاءت عاطفة للشفاء على المرض لأن الشفاء يعقب المرض مباشرة فأفادت هنا الترتيب والتعقيب وإشارة إلى فضل الله سبحانه وتعالى على المريض.
أما ثم فقد استخدمت لعطف الإحياء على الإماتة لأن البعث تالٍ للموت مع مرور وقت بينهما من هنا كانت "ثم" دالة على الترتيب والتراخي، ولو عطفت جميعها بالواو لما كان في ذلك ضير، ولكن هذا النظم الدقيق أليق ببلاغة القرآن الكريم كما يقول ضياء الدين بن الأثير في "المثل السائر".
ومنه قول الله سبحانه وتعالى:
ويتضح في هذه الآية الكريمة الترتيب الدقيق لمراحل خلق الإنسان من خلال النظم المعجز بواسطة الفاء وثم، فجاء استخدام كل حرف منهما دالًا على المعنى المقصود بدقة، فالتراخي بين خلق الإنسان من الطين وتكوينه على شكل نطفة اقتضى استخدام "ثم" كذلك فإن تحويل العلقة إلى مضغة، فعظام إلى آخر ما جاء في الآية متعلقًا بتكوين الجنين اقتضى استخدام الفاء التي تفيد التعقيب، والدليل على هذه الأحكام واقتضاء بعضه لبعض في حتمية مقدرة من رب العالمين توقع "معاذ بن جبل" لما جاء من تذييل في آخر الآيات حين قال:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} حيث ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع هذه العبارة من معاذ، ولما سأله معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: بها ختمت.
من ذلك أيضًا قول الله سبحانه وتعالى في قصة مريم وعيسى عليهما السلام {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:22-23] .
فقد استدل المفسروهن بموقع الفاء بين الحمل والانتباذ والمخاض على أن حملها بعيسى علي السلام ووضعها إياه كانا متقاربين.
ومن الأمثلة قول الله تعالى:
وهناك بعض المواقع التي يلتبس فيها مكان الفاء والواو، لأن ما اصطلح على تسميته بفعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء، دون الواو تقول: كسرته فانكسر، حيث يكون الفعل الأول متعديًّا والثاني لازمًا- يحدث كاستجابة للفعل الأول، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى من سورة الكهف:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] .
فقول الله سبحانه وتعالى: {أغفلنا قلبه} في الآية الكريمة أتى بمعنى "صادفناه غافلًا" ولو كان من غفل لكن معطوفًا عليه بالفاء، لذاجاءت الواو لتميز بشكل حاسم بين المعنيين.
ومن المواقف اللافتة في استخدام الواو والفاء في القرآن الكريم ما جاء في سورة البقرة [آية35] : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} .
وقوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف [آية:8]{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} .
فالمقصود بالسكنى في الآية الكريمة الأولى مطلق الإقامة، ولهذا كان الجمع بين الإقامة والأكل غير مرتبط بترتيب معين، أما في الآية الكريمة الثانية فإن السكنى تدل على معنى اتخاذ مكان السكن، الأكل بعد السكن والاستقرار اقتضى استخدام الفاء للترتيب والتعقيب والإقامة ذات زمن ممتد أما اتخاذ المسكن فلا يستلزم وقتًا طويلًا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا قول الله تعالى في قصة بني إسرائيل:
وقد تأتي في الجملة والصفة لمجرد الترتيب {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:7،6] ونحو قول الله تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات:32،22] .
ثم: تفيد التشريك في الحكم، والترتيب، والتراخي مثل قول الله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22،21،20] .
وقد توضع موضع الفاء كقول الشاعر:
كهز الرديني تحت العجاج
…
جرى في الأنابيب ثم اضطرب
فهناك تفيد التعقيب والتريب كالفاء1.
وقصة الكسائي مع أبي يوسف الرشيد من الأمثلة الواضحة على دلالة كل حرف من حروف العطف السالفة الذكر، فقد سأل الرشيد أبا يوسف في رجل قال لامرأته أنت طالق طالق قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق وطالق، قال واحدة، قال: فإن قال له أنت طالق ثم طالق، قال واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق، قال واحدة، قال الكسائي: يا أمير المؤمنين أخطأ يعقوب في اثنتين، وأصاب في اثنيتن، أما قوله: أنت طالق طالق طالق فواحدة، لأن الثنتين الباقيتين توكيد، وأما قوله أن طالق أو طالق أو طالق، فهذا شك؛ فوقعت الأولى التي تتيقن، وأم قوله أنت طالق ثم طالق ثم طالق، فثلاث لأنه نسَّق، وكذلك قوله أنت طالق وطالق وطالق2.
وقد رأيت أن أكتفي بهذه الحروف؛ لأهميتها إذ لا داعي للحديث عن الحروف الباقية.
1 راجع فيما يتعلق باستخدام حروف العطف في القرآن الكريم كتاب: الدكتور عبد الفتاح لاشين: من أسرار التعبير في القرآن حروف القرآن عكاظ للنشر والتوزيع، سنة 1403هـ، 1983 من ص 68 إلى ص 93.
2 نزهة الألباب للأنباري، ص 67.