الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفقه اللغة يبحث في أصولها ودقائقها، وأسرارها فيما يتعلق بدلالات الألفاظ وتطورها، والأصيل والدخيل فيها، والمترادف والمتضاد منها، ويعرض لأبنيتها الصوتية ومخارج الحروف، وسلالة اللغة ومجموعاتها ولهجاتها، وقد أصبح علمًا له تقنيته الخاصة التي تستعين بالأساليب العملية الحديثة، كالمعامل الصوتية بأجهزتها المختلفة.
وإتقان هذه العلوم وما يتصل بها من وعي تام بأشكال الكتابة ورسومها يعتبر من المبادئ الأساسية للكتابة، والإجادة فيها، غير أن هناك مهارات أخرى تتعلق بإتقان الأداة غير تلك التي أشرنا إليها، وتختص بكل فن من الفنون على حدة، فكتابة الشعر تستلزم معرفة جيدة بعلم العروض والقافية، أي ببحور الشعر وأوزانه، وأسبابه وأوتاده، وزحافاته وعلله، ومصطلحاته المختلفة، وكتابة القصة بأنواعها تحتاج -بالإضافة إلى الموهبة افطرية الخاصة- إلى الإلمام بقواعد القصة وأصولها وأساليبها وكذلك المسرحية وغيرها.
هذا هو المقوم الرئيس في فن الكتابة وبدونه لا تستقيم ولا تجود.
ثانيًا-
التمرس بالأساليب الأدبية الرفيعة
لا يتأتى هذا الشرط إلا بالمطالعة الغزيرة الواعية للكتب الأدبية المشهورة، وقراءة الآثار النثرية والشعرية المتميزة، بما في ذلك الدواوين الشعرية التي أبدعها شعراء معروفون بموهبتهم وقدراتهم، مع العمل على تذوقها وتمثلها وفهمها. ومن شأن ذلك أن يسهم في تكوين ذائقة لغوية مدربة قادرة على التمييز بين الأساليب، والتمكن من اختيار الألفاظ المناسبة، وليس من شك في أن القاعدة الأساسي التي تبنى عليها القراءة والمطالعة هي دراسة كتاب الله دراسة عميقة، ومداومة الاطلاع على تفاسيره المعتمدة، فالقرآن الكريم هو المصدر والمرجع في فهم اللغة وتذوقها واستيعاب الأساليب وتمثلها، فلغته لغة البيان المعجز ومنهل الفصاحة والبلاغة، والإلمام بآي الذكر الحكيم يربي الذوق
ويصقل اللسان، ويؤسس ملكة الكتابة ويزود الكاتب بمدد لا ينقطع من الحجج والأسانيد، ويأتي الحديث الشريف في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم افتخَر بفصاحته حيث جاء في حديث " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر".
والحفظ من الضرورات التي لا غنى عنها لمن أراد أن يكون فارسًا مجليًا في ميدان الكتابة والتأليف، والذي يراجع وصايا الأدباء والشعراء للناشئة من المبدعين في كتب الأدب القديم كالعمدة لابن رشيق يقع على سرٍّ هامٍّ من أسرار الكتابة والإبداع، فهم يوصون بحفظ الدواوين والمأثورات فضلًا عن حفظ القرآن الكريم، ومعروف في هذا المقام أن الفرزدق كان قد قيد نفسه حتى حفظ كتاب الله كاملًا، كذلك فإن العديد من شعرائنا القدامى قد استظهروا عشرت الآلاف من أبيات الشعر الجيدة حتى إذا تهيأوا للكتابة، والنظم عملوا على نسيانها والتخلص من سلطانها بعد أن استقامت لغتهم واستوت قرائحهم، فالحفظ لا بد منه لإتقان الكتابة، ولكن للحفظ محاذير ينبغي أن ينتبه إلى خطورتها الكاتب وأهمها: الوقوع في أسر التقليد، والاغتراف من مخزون الذاكرة، والاعتماد عليها في الصياغة والأفكار، وبالتالي فإن ذلك يؤدي إلى ضعف القدرة على الإبداع والابتكار والوقوع في حلقة الحصار المحكمة التي تفرضها القوالب التعبيرية المحفوظة، ومن غير المنكور أو المستهجن أن يمر الكاتب في مرحلة التأثر بما يقرأ أو يحفظ فهذه مرحلة لا فكاك منها، ولكن الخطورة تكمن في استمراء هذا المنحى واستسهاله والاستسلام له، من هنا كان لا بد من الاحتراز والوعي باستبعاد المحفوظ، وإطالة التأمل في التجبة، وتمثلها قبل التعبير عنها، فلكل تجربة لغتها الخاصة وأسلوبها المتميز، وكلما انهمك الكاتب في تَمَلِّي تَجْرِبَتِهِ والإحاطة بها من جميع جوانبها كان أقدر على التخلص من حصار التقليد وسلطان النصوص المحفوظة.
وقد عقد ابن خلدون -في مقدمته المشهورة- فصلًا كاملًا عن أهمية الحفظ في تنمية ملكة اللسان والكتابة، وهو الفصل الثامن والأربعون تحت
عنوان "في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ". وهو يعني بالملكة هنا ملكية الكتابة والإبداع، وقد أشار ابن خلدون إلى أن شعر الفقهاء والعلماء قاصر في البلاغة نظرًا لأن محفوظهم غني بالقوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة. من هنا كانت الملكة الناشئة عن هذا المحفوظ غاية في القصور.
ويشير ابن خلدون إلى سر تفوق الإسلاميين على الجاهليين في خطبهم ومحاوراتهم فيرى أنه يعود إلى مدارسهم للطبقة العالمية من الكلام من القرآن الكريم والحديث الشريف فقد روض هذا الكلام ملكاتهم وسما بها1.
ويرى ابن الأثير أن الطريق إلى تعلم الكتابة على ثلاث شعب.
الأولى: الاطلاع على كتابة الأقدمين وتقليدهم. وهذا أدنى الطبقات.
الثانية: مزج كتابة المتقدمين باختيار الكاتب الخاص من وسائل تحسين اللفظ والمعنى، ويصف ذلك بأنه الطبقة الوسطى.
الثالثة: صرف النظر إلى حفظ القرآن الكريم وجملة مختارة من دواوين فحول الشعراء ومران النفس على المحاولة بالاقتباس والتجربة التي قد تصيب وقد تخطئ، ويصفها بأنها طريق الاجتهاد حيث يستقيم لصاحبها منهجٌ خاصٌّ في الكتابة فيصبح إمامًا في فن الكتابة إلا أنها مستوعرة جدًّا - كما يقول - ولا يستطيعها إلا من أوتي ملكة متميزة وموهبة فذة2.
وقد لا يكون الأمر على هذا النحو من التحديد والصرامة فقد استجدت نصوص واستحدثت معارف وألوان من المكاتبات والمخاطبات تحتاج إلى مطالعات أخرى، وتمرس بضروب من فنون القول لم تكن معروفة لدى فحول الشعراء، ولكن في هذا القول لابن الأثير إشارة إلى أسلوب حصيف، وتوجيه لطيف في الحث على التمرس بالنصوص الرفيعة.
1 ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، الفصل الثامن والأربعون.
2 ضياء الدين بن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب.