الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فن الشعر
محاولة للتعريف - نظريات في فهم الشعر - كيف تكتب قصيدة الشعر - عناصر الإبداع الشعري
ليس من السهل تعريف الشعر، فقد كثرت المحاولات ولكنها لم تفض إلى نتيجة ملموسة، ذلك أن الشعر لغة العواطف والمشاعر والرؤى الممتزجة بالمواقف والأفكار، وهذه اللغة تركيبية تتمازج فيها الألوان والظلال، فهي ليست مجرد أوزان وقواف ولا صور وإيقاعات وألفاظ موحية ذات ظلال، بل هي كل ذلك في تشكيل ذي طابع خاص مؤشر يعيد صياغة التجربة ولا ينقلها.
وقد حاول كثير من الباحثين أن يلتمسوا السبل إلى منابع العبقرية الشعرية ولكنهم لم يبلغوا اليقين فوجدنا بعضهم يعزوها إلى الذكاء الفطري، والآخر يرجعها إلى حالة عصابية مرضية، وفريقًا ثالثًا يمزج بينها وبين أحلام اليقظة.
ولكنهم جميعًا يعزونها إلى طاقة فطرية كامنة يبلورها الاطلاع، ويفصح عنها المران والدربة ويفتقها الوعي والإدراك.
وقد أرجع أرسطو -صاحب أول فكر تنظيري منظم- الدافع الأساسي للشعر إلى علتين أساسيتين هما: غريزة المحاكاة أو التقليد، والثانية غريزة الموسيقى أو الإحساس بالنغم، وينفذ القاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" إلى جوهر الملكة الشعرية وطبيعتها حين يقول:"إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه"1.
1القاضي الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق أبي الفضل إبراهيم والبجاوي، القاهرة سنة 1945م ص15،14.
راجع محمد خلف الله أحمد: من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، دار العلوم الرياض سنة 1984م ص44.
وتظل هذه الإشارات في تحليل الموهبة الشعرية والاستعدادت الفطرية والمكتسبة قاصرة عن الغوص إلى مكامن الإبداع الشعري، ولكنها تخلص إلى حقيقة هامة وهي أن الشعر يستلزم وجود الموهبة أساسًا، ثم تنميتها بالقراءة والدربة.
وإذا كان النقاد والباحثون قد اختلفوا في تحديد المنابع الأساسية للشعر فقد شجر بينهم الخلاف أيضًا حول مهمة الشعر وغايته وفقًا لاختلاف المدارس والاتجاهات، ولعل أول من أدلى بدلوه في هذا الميدان على نحو واضح من الشعراء العرب المحدثين أحد رموز مدرسة الديوان وهو المازني في كتاب له صدرت الطبعة الأولى منه عام 1915م حيث يقول عن الشعر: "
إنه مرآة الحقائق العصرية لأن؛ الشاعر لا قبل له بالخلاص من عصره والفكاك من زمنه، ولا قدرة له على النظر إلى أبعد مما وراء ذلك بكثير فحكمته حكمة عصره، وروحه روح عصره"1.
ولا بد من أجل فهم أعمق لتطور النظر إلى فن الشعر من حيث طبيعته وغاياته من تتبع المدارس المختلفة وتعاقبها منذ أرسطو حتى الآن، وهذا أمر يصعب استيعابه ولكننا سنعمد إلى إيجاز القول فيه.
أولًا: نظرية المحاكاة:
وأول من لفت الأنظار إليها فلاسفة اليونان القدامى خصوصًا أفلاطون الذي يرى أن العالم الحقيقي موجود في ما أسماه عالم المثل، أما العالم المحسوس فهو انعكاس له، والشعر محاكاة للعالم المحسوس فهو يبعد عن الحقيقة مرتين، ولكن أرسطو أشار إلى أن المحاكاة تصوير الشيء كما ينبغي أن يكون، وظلت نظرية المحاكاة هذه أساسية حتى القرن التاسع عشر مع اختلاف في فهم المحاكاة
1 راجع د/ مدحت الجيار/ الشعر غاياته ووسائطه، نص كتاب المازني مع دراسة وتحليل، دار الصحوة للنشر، القاهرة، سنة 1986م ص35.
فهي تارة تُعنى بالأفكار والنماذج، وهي نقل عن الطبيعة تارة أخرى، وهي علاقة بين الفنان وجمهوره تارة ثالثة، وقد تطورت هذه النظرية عند الناقد الألماني "لسنج" الذي يصرح بأن الشعر رسم ناطق.
ثانيًا: نظرية التعبير:
كانت المحاكاة في طورها الأساسي تعني الصياغة الكلية للقيم الثابتة، فكانت القاعدة النظرية للمذهب الكلاسيكي الذي يعلي من شأن هذه القيم والآثار التي عكفت على تمثلها، حيث أصبحت الكلاسيكية تعني تقليد الأدب الإغريقي والروماني القديم، وقد انتهت نظرية المحاكاة إلى شيء من العقم والجفاف، فحدثت الثورة الرومانتيكية في محاولة للتغلب على الموات الذي انتهت إليه، وظهر المفكر الألماني "هردر" الذي ألح على معاني الولادة والنمو والفناء والبحث عن الأغنية البدائية مبينًا أن الشعر الأصيل هو الذي يعبر عن الشعور، فكانت نظرية التعبير هي الأساس الفلسفي للمدرسة الرومانتيكية.
من هنا كان التركيز على العاطفية، واختفى الغرض الوعظي والتعليمي الذي دعت إليه الكلاسيكية، وكان "لفيكو" العالم الاجتماعي دور في التمهيد للرومانتيكية حين اعتبر الشعور والعاطفة اللغة الأولى للعالم، ومن هنا عرَّف "وردزوورث" الشعر بأنه "فيض تلقائي لعاطفة قوية".
ثالثًا: نظرية الواقعية:
التي وجدت تمثيلًا قويًا لها في الفنون النثرية كالقصة والمسرحية، أما في الشعر فكانت نسبية تتمثل في بعض المظاهر غير الواضحة، وهي ترى أن الشعر، انعكاس للواقع.
رابعًا: نظرية الفن للفن:
ووجدت هذه النظرية التعبير عنها لدى البرناسيين الذين يعتمدون على
الترابط اللفظي ووقع الكلمات، وكانوا يرون أن الشعر دقة في التصوير، وقوة في الإيقاع، وهم يقتربون به من فن النحت.
خامسًا: النظرية الرمزية:
وقد مهد لها الشاعر والروائي الأمريكي "إدجار إلان بو" الذي أوضح أن الإنسان منقسم إلى ثلاث قوى: العقل والضمير والنفس، مبينًا أن العقل معني بالحقيقة والضمير بالأخلاق والنفس بالجمال، وهي مسئولة عن الشعر؛ فغاية الشعر الكشف عن الجمال، ولا علاقة به بالحقيقة والأخلاق، واعتبر "بو" آخر منظري الرومانتيكية حيث وصل بها إلى مرحلتها الأخيرة ممهدًا للرمزية، أما الرمزيون فقد ركزوا على الجانب الموسيقي، فقال أحد شعرائهم ومفكريهم: إن مهمة الشعر أن يسترد من الموسيقى ما سلبته منه.
كيث تكتب قصيدة الشعر؟ 1
هل يصح أن يوجه هذا السؤال بالفعل؟ وهل يمكن أن نقدم وصفة جاهزة لكتابة القصيدة؟ لا أظن ذلك ممكنًا، لأن؛ الشعر ضرب من ضروب الإبداع، والإبداع ينبثق عن ملكة قارة في النفس، وعن موهبة هي من عطاء الله وفضله، قد تكون هذه الموهبة مخبوءة أو مذخورة كالكنز؛ فهي بحاجة إلى من ينقب عنها ليزيل الركام، ويصقلها، ويبرزها للعيان، وكيفية البحث عن هذا الكنز تكون بجلاء القريحة، وشحذ الملكة هو الذي يمكن أن نلتمس الطريق إليه، ولكن قبل ذلك دعنا نبحث وننقب عن كيفية الإبداع.. كيف تنبثق القصيدة وتولد؟.
هل نسلم بالإلهام كتفسير لعملية الإبداع لدى الشعراء؟ إن القول بالإلهام هو أقدم النظريات التي تعلل الإبداع منذ أفلاطون، وإن كان الحدس "وهو
1 هناك فرع خاص من فروع علم النفس هو علم النفس الأدبي يبحث في تفسير ظاهرة الإبداع، وتتركز الأبحاث في هذا الفرع حول عاملين رئيسيين هما الفطرة "هبة الله سبحانه وتعالى" والذكاء العام جزء منها، والدافع ويقوم الإبداع بالإضافة إلى ذلك على قوة الإدراك والتخيل والتصور.
تعبير حديث وأهم من الإلهام" قد حل محله
…
فهناك من يرى أن الإلهام صدمة كالانفعال، إذ يصبح الملهم كمن يجذب انتباهه فجأة فيختل توازنه حيث ينقطع سير العمليات الذهنية وينهمر فيض فجائي من الأفكار والصور، من هنا كان الإلهام مصطلحًا يطلق على لحظات الإبداع الفجائية، وهي لحظات تكون مصحوبة بأزمات انفعالية بعيدة عن العقل والشعور.
والحدس بشكل عام يشير إلى معنى المعرفة الفجائية، ومهما يكن من أمر فإن التفسير الإلهامي لا يضيء أمامنا الطريق إلى الإبداع خصوصًا، وأنه يعزو هذه العملية برمتها إلى عوامل لا مرئية لا يمكن التحكم فيها أو الوصول إلى منابعها.
وحتى في أحسن الأحوال حينما يفسر الحدس بأنه نوع من الاستدلال اللاشعوري الذي يخفي وراءه معارف وخبرات غير مرئية، فإن سبل التحكم فيه أمر خارج عن السيطرة؛ غير أن الأمر يصبح أقرب إلى الضبط والسيطرة حين نسلم مع أولئك الذين يرون أن الإبداع الشعوري ليس إلهامًا أو حدسًا على إطلاقه، ولكن الحدس فيه لحظة معينة من الإبداع من ضمن لحظات متشابكة ومعقدة، إذ تظل الأهمية معلقة على الجانب الواعي الذي يشير إليه بعض المبدعين فيقول: قد تدهش إذا قلت لك: "إني صححت وعدلت وبدلت في كل مخطوطة قمت بتبييضها ونسخها بنفسي أكثر من أربع مرات....أجل
…
لكل مخطوطة عندي كبرت أو صغرت، أربع نسخ
…
مختلفة بخط يدي"1.
إن ثمة جهدًا يبذل أثناء كتابة القصيدة، يؤكد ذلك ما يخلفه الشعراء من مسودات لأعمالهم الإبداعية فهي تكشف عن معاناة مضنية أثناء الكتابة، أما ما يروى عن الشاعر الإنجليزي كولريدج من قصص تتحدث عن قصائد متكاملة ولدت أثناء النوم على شكل أحلام، فينقضه ما هو معروف عن طبيعة الأحلام التي تأتي في نسق غير مترابط، وقد شكك الباحثون في صحة هذه المرويات، فإن الشاعر قد خدع عن الجهد الذي بذله في تنسيق هذا الحلم المضطرب الذي
1 توفيق الحكيم: زهرة العمر، القاهرة ص 246.
جاء على شكل قصيدة؛ فالحلم بما فيه من شطحات وتحولات -كما يقول بعض الدارسين- لا يمكن أن يقود إلى العمل الفني من ألفه إلى يائه؛ فالأداء اليقظ المتمثل في كتابة القصيدة جوهر عملية الإبداع الشعري.
وقد كان الفيصل في تتبع عملية الإبداع الشعري هو الاستخبار الذي قام به الدكتور مصطفى سويف حيث وجه مجموعة من الأسئلة لعدد من الشعراء منهم شعراء معروفون مثل: خليل مردم بك، ومحمد بهجت الأثري، ومحمد المجذوب، ومحمد الأسمر، وعادل الغضبان، وأحمد رامي، فكانت النتيجة اتفاق عدد من الإجابات على أن معظم القصائد لا تبزغ فجأة دفعة واحدة دون أن يكون لها مقدمات، وبعضهم أشار إلى نوعين من الإبداع: أحدهما ابن ساعته وهو ما تفيض به النفس إثر حادث يهز النفس، وآخر تعيش فكرته في النفس فترة طويلة قد تبلغ عدة سنوات، والأول أقرب إلى صورة الإلهام، أما الثاني ففيه مجاهدة، وتتفق الإجابات كلها على أن أصحابها لا يكتبون وفقًا لخطة يضعونها ويبدعون أساسها، فمعظم تجاربهم الإبداعية لا تنطلق بطريقة إرادية وإنما بفعل قدرة خفية، وإن بعض المعاني والتراكيب والألفاظ تتوارد على الخاطر أثناء الكتابة.
كما يتفق الشعراء على أن خلو المكان يسهم في تدفق العملية الإبداعية، فلا بد من وجود جو خاص يساعد على الاستغراق في هذه العملية الإبداعية، كذلك فإن الاستسلام للهواجس وخطرات النفس يفسح للخيال مجالًا واسعًا، من هنا يبتدئ دور الإلهام في الكتابة الشعرية، ولكنه مرحلة من مراحل متعددة، وقد أفاد الشعراء أيضًا بأن التوتر يشكل عاملًا حيويًا في وحدة القصيدة، وفي لحظة انتهاء التوتر تنتهي القصيدة إلى حدودها المعلومة1.
1 استفدت في هذ المجال بشكل رئيسي من كتاب: الدكتور مصطفى سويف: الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، دار المعارف، القاهرة ط4 سنة 1981م.
وهناك شبه اتفاق على أن العمل الإبداعي الشعري يمر بمراحل ثلاثة:
أولًا: الحافز أو المثير الذي قد يكون على شكل تجربة أو موقف اجتماعي أو نفسي حيث تتفاعل في نفس الشاعر أمشاج متباينة.
ثانيًا: المرحلة الثانية تتمثل في تأمل التجربة واستيعابها وجدانيًا ونفسيًا وعقليًا، إذ تصبح الشغل الشاغل للشاعر، وهذه ما يطلق عليه مرحلة "الاختمار" وهي تتم بطريقة تلقائية.
ثالثًا: المرحلة الثالثة، وهي مرحلة المخاض حيث يعاني الشاعر انبثاق القصيدة، وتحققها أثناء الكتابة.
رابعًا: مرحلة التنقيح حيث تخضع القصيدة للمراجعة.
وقد حفلت كتب النقد القديم بوصايا متعددة للشادين في هذا المضمار الذين يهيئون أنفسهم ليكونوا شعراء، وهم إذ يقرون بأن الشعر طبع وموهبة، يؤكدون أن الشاعر ينبغي أن يلم بمجموعة من القوانين الأساسية، فالشعر له جانبان متداخلان: جانب فطري مرتبط بالحساسية التي يتميز بها الشاعر والتي تمكنه من إدراك ما لا يدركه الآخرون، وجانب آخر مرتبط بالتعليم والأصول المتعارف عليها، وبدون هذين الجانبين يغدو العلم بالشعر مستحيلًا، وتداخل هذين الجانبين يعني أن جانب التعليم يمكن أن يصحح جانب الطبع، كما أن جانب الطبع يمكن أن يرشد خطى التعليم1. وقد كان القدماء يقرون بضرورة التعليم والتلمذة كسبيل إلى إتقان الصنعة الشعرية، فقد كان كثيرعَزَّة قد تتلمذ على جميل بثينة، وأخذه جميل عن هدبة بن خشرم، وهدبة عن بشر بن أبي خازم، وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير، وأخذه زهير عن أوس بن حجر، وكذلك جميع الشعراء العرب المجيدين المشهورين، وقد علق على ذلك حازم القرطاجني وهو من كبار نقادنا القدامى، قال: "فإذا كان أهل ذلك الزمان قد
1 د/ جار عصفور: مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط2 سنة 1982م ص135.
احتاجوا إلى التعليم الطويل فما ظنك بأهل الزمان، بل أي نسبة بين الفريقين في ذلك"2.
وقد حدد بعض نقادنا القدامى كيفية نظم الشعر على النحو التالي:
"فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ الذي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه.... ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه، ونتجته فكرته فيستقصي انتقاده ويرم ما وهى منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة لينة.
وهذا الفهم للشعر يخالف ما تواضع عليه المحدثون من أن القصيدة في جوهرها تجربة لغوية، فهي في أبسط تصور لها لا تعدو أن تكون مجموعة من الألفاظ مرتبطة ومنسقة على نحو معين، ولكنها حين تكونت على هذا النحو تكون قد اكتسبت شخصية خاصة لها حيويتها وفعاليتها، وهذا الارتباط الخاص للألفاظ هو الذي يشيد العلاقات الجديدة التي تتمثل في صور التعبير المختلفة التي تظهر دائمًا في الكتابة الشعرية، وأعني بصفة خاصة تكوين "الصورة" فالألفلاظ في ارتباطها تكون في القصيدة مجموعة من الصور التي تنقل الشعور أو الفكر.
وحتى تبدو عملية إبداع الشعر أكثر وضوحًا لا بد من التعرف على عناصر الإبداع هذه2.
أولًا: التجربة الشعرية:
على الشاعر أن يتمثل تجربته الشعرية، وعليه أن يقف على إجرائها قبل أن
1 حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الكتب الشرقية تونس، سنة 1966 ص27.
1 راجع: عز الدين إسماعيل: فنون الأدب، القاهرة سنة 1955م ص115.
يشرع في الكتابة، والتجربة قد تكون ذات طابع نفسي أو اجتماعي أو إنساني، والبعد الفكري عنصر أساسي من عناصر التجربة الشعرية، ولكن للفكر طبيعة مختلفة في الشعر عن الحقائق الموضوعية المجردة؛ فالشعر يحول الحقائق الفكرية إلى حقائق نفسية، ولكن ينبغي أن لا يكون إبراز الفكرة هدفًا أساسيًا في الشعر، يقول ابن رشيق:"والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر فإن وقع فيه شيء منهما فبقدر، ولا يجب أن يجعلا نصب العين فيكونا متكئًا واستراحة؛ وإنما الشعر ما أطرب وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبني عليه، لا ما سواه"1، والصدق أساس في التجربة الشعرية، ولكن مفهوم الصدق هنا مختلف عما هو معروف خلقيًا، فالمقصود به صدق الشعور والإحساس بالموقف سواء عاناه الشاعر بنفسه أو لاحظه أو تخيله كما في قصيدة العمالقة للشاعر الرمزي "بودلير"، وقد يعبر الشعر عن الشوق إلى المثل العليا، فيكون غارقًا في واقع آسن منحرف، ثم يعبر عن حياة مثالية، فالشعر يعبر عن التطلع المثالي، وقد يكون موضوع الشعر قليل القيمة والأهمية، ومع ذلك يضفي عليه الشاعر من وجدانه وخياله ما يثريه ويبرز مذخوره الإنساني. ولابن الرومي أبيات رائعة في المشاهد العادية كوصفه للخباز مثلًا، وقد تأخذ التجربة الشعرية طابعًا جديًا وهزليًا، فإن ثمة فرقًا بين الجمال الطبيعي والجمال الفني، فقد يستخرج الشاعر مما قبح منظره من معان موحية بأجمل المشاعر فليس هناك موضوعات محددة للشعر، ولا بد أن تكون التجربة الشعورية استجابة لدوافع نفسية ووجدانية قوية، ولا يمكن الفصل بين التجارب الذاتية وإيحاءاتها الإنسانية، فقد ينفذ الشاعر من خلال المعاناة الذاتية إلى ما هو إنساني وواقعي، وقد تقوم التجربة على معاناة فكرة جوهرية ذات قيمة، ولكن الشاعر يقصر في صياغتها وإبرازها لتقوقعه داخل إطارها المجرد، كما نرى في كثير من أشعار العقاد، ويرى بعض علماء الجمال أن على
1ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، حققه محمد محي الدين، دار الجيل بيروت ط4، سنة 1982 ج1 ص128.
الشعراء أن يتزودوا بالاستسلام وقوة الروح كي يتقبلوا ويتحملوا اللحظات السامية.
والمطلوب من الشاعر أن يوجد في قصائده قدرًا من الوحدة العضوية "الفنية" ويمكن الوصول إلى ذلك بالتفكير في منهج القصيدة وفي الأثر الذي يراد إحداثه في سامعيه، وفي الأجزاء التي تتدرج في إحداث هذا الأثر بحيث تتمشى مع بنية القصيدة بوصفها وحدة حية، ثم في الأفكار والصور التي يشتمل عليها كل جزء بحيث تتحرك به القصيدة إلى الأمام لإحداث الأثر المقصود منها، فوحدة التجربة في أبعادها الوجدانية والعاطفية ووحدة الأثر يفضيان بالضرورة إلى وحدة القصيدة، وهذه الوحدة تقتضي ضربًا من التنامي الحيوي وليس التراكم الكمي، لذا ينبغي أن تنمو داخليًا لا أن تكون مجرد سمة خارجية أو رابطة شكلية.
ثانيًا: الصياغة والتشكيل:
اللغة الشعرية ذات خصائص متميزة، فهي تقوم على مبدأ المغايرة للنمط المعتاد في الكتابة النثرية، وكلما استطاع الشاعر الخروج على المألوف والمعتاد واستثمار خصائص اللغة بوصفها مادة التشكيل حقق التأثير المطلوب، فالجانب اللفظي هو لب العملية الإبداعية في الشعر؛ من هنا كان التفكير في عملية التشكيل والصيغة الميدان الحقيقي لعمل الشاعر، ويدخل في إطار ذلك الصورة التي يعبر عنه بعض النقاد بقولهم: إنها تشبه سلسلة من المرايا الموضوعة في زوايا مختلفة بحيث تعكس الموضوع، وهو يتطور في أوجه مختلفة، وهي لا تعكس الموضوع فقط بل تعطيه الحياة والنبض1.
والصورة في الشعر لا تقوم على علاقات عقلية برهانية، لأن؛ البرهان تقرير
1 سيسل دي لويس: الصورة الشعرية، ترجمة د/ أحمد نصيف الجنابي وآخرون، دار الرشيد للنشر، بغداد سنة 1982م.
وتصريح وليس إيحاء، والصورة المجردة تقوم على التوليدات العقلية الجافة غير أن هناك بعض أنماط من الصور ذات الطابع الاحتجاجي تشف عن منازع نفسية عميقة، ووظيفة الصورة في الشعر أنها تحول المشاعر والأحاسيس إلى مرئيات ومحسوسات، غير أنه لا يجوز التوقف عند مظاهر التشابه الشكلي الظاهري بين الأشياء، من هنا كانت الطرافة والمفارقة في الصورة أمرًا مستحبًا.
واستخدام الصورة في الشعر يستلزم وضعها في سياق الحركة الفنية والنفسية للتجربة الشعرية في القصيدة بحيث تسهم في تنمية هذه الحركة وتصاعدها، وحتى إذا كانت تعبر عن الانتقالات النفسية المفاجئة فإن هذه الانتقالات تتماشى مع السياق المتصاعد للقصيدة، لذا كان لا بد أن يكون هناك انسجام بين أجزاء القصيدة بحيث لا تبدو مضطربة أو متناقضة، وحينما تتعقد الصورة وتتكاثف، وتغمض - عند بعض الاتجاهات الحديثة - فإنها تكون موظفة في خدمة هذا التشكل المضطرد في اتجاه التطور والتسامي وفق ما يقولون.
ثمة خصيصة مهمة للصورة الشعرية وهي كلما كانت الصورة توحي وتنشر ظلالها النفسية؛ كانت أكثر وظيفية في الشعر من الصورة التي تقوم على الجانب الوصفي المحض، والعنصر القصصي مثلًا يوفر ظلالًا إيحائية، ويسهم في أحكام الوحدة الفنية ولا بد - حتى تتضح الصورة فيما يختص بالإبداع الشعري - من الإشارة إلى أن ثمة تيارين سادا في فهم نظرية الشعر، فهناك من يرى أن وظيفة الشعر هي إحداث أبلغ الأثر في نفس المتلقي، وكلما كان وقع هذا الأثر شديدًا كانت القصيدة ناجحة، ثم ما لبثت الحساسية الجمالية أن تغيرت في هذا العصر تبعًا لسنة الله في خلقه فاعتمد الشعراء لونًا جديدًا من ألوان البناء في القصيدة، والفرق بين البناء المألوف في القصيدة القديمة والقصيدة الحديثة أن الأولى تتكئ على تضاريس ثابتة لها نموذج مستقر بإطار مسبق، وهذ ما عمد بعض المحدثين إلى تسميته بالإطار المغلق الذي لا يقبل الزيادة أو النقصان، أما
القصيدة الحديثة فهي مشرعة الأبواب أمام الاجتهادات التقنية والجمالية، فلكل قصيدة أسلوبها وطرائقها في التعبير، فهي أشبه بالمغامرة اللغوية كما يقول أصحاب هذا الاتجاه في بناء القصيدة.
ويرى بعض الباحثين أن الفرق بين الاتجاه القديم والاتجاه الحديث في بناء القصيدة يكمن في أن القصيدة القديمة ما إن تشرع في بنائها حتى تتضح لك معالمها الجمالية ونموذجها المتحقق في عدد من القصائد السابقة من حيث البحر والقافية والروي، بينما تشرع في بناء قصيدة من النمط الجديد فلا تتضح معالمها وإطارها وإنما تتشكل وفقًا للتجربة، وتستدعي نهجها الخاص حتى إذا اكتملت؛ برزت تضاريسه وتكاملت، فالقصيدة القديمة لها تصور مسبق جاهز، وأما الجديدة فتسعى إلى الكشف وارتياد المجهول والتغلغل المتصل في باطن الأشياء، ويتلخص هذا النهج فيما سمي بجماليات التوقع في القصيدة القديمة، أي: أنك تستطيع أن تتنبأ بما سيأتي في مراحلها المتعددة، أما جماليات الإدهاش في القصيدة الجديدة فتقوم على مبدأ المفاجأة، فليس ثمة ما يساعد على توقع مراحلها القادمة، فأنت دائم التنبه واليقظة لاستقبال ما هو مفاجئ ومدهش، لهذا كان التطور المتلاحق في المنجزات الفنية في القصيدة الجديدة خلال حقبة زمنية قصيرة فكانت المرحلة الأولى تتسم بالتهيج العاطفي "الميلودراما"، والمرحلة الثانية قفزت إلى آفاق أوسع تمثلت في "الدراما"، وتعدد1 الصوت داخل القصيدة الواحدة، ثم قفزت إلى مرحلة ثالثة في أعقاب نكسة حزيران، ودخلت في عتمة الغموض فانكفأ الشعراء على ذواتهم يستنبطون دواخلهم ويتقوقعون في أقبيتها الكابوسية، ثم انتهت إلى جماليات التجريد حيث كادت تتحول القصيدة إلى مجرد تشكيل فني مقصود لذاته يبرأ من المفاهيم وينشغل بالصنعة في ذاتها ولذاتها.
1 راجع فيما يختص بهذا الأمر المحاضرة التي ألقاها الدكتور، عز الدين إسماعيل في النادي الأدبي بجدة تحت عنوان: جماليات القصيدة في الشعر العربي ص33.
المجلد الرابع، كتاب النادي الأدبي الثقافي 48 جدة 1408هـ-1988م.