الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صوارف الفتور والملل، ولكل جسم صلاح، ولكل نشاط مفتاح، ولا يخفى ذلك على الحريصين النبهاء.
لزوم الاشتغال بالمهم وتقديمه على غير المهم
قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: ((والعلم كالبحار المتعذر كيلها، والمعادن التي لا ينقطع نيلها، فاشتغل بالمهم منه، فإنه من شغل نفسه بغير المهم، أضر بالمهم)). انتهى.
وهذا ما أشار أليه العباس بن الحسن العلوي، - وكان أحد العلماء العقلاء النبهاء، والأذكياء البلغاء الشعراء، وكان في صحابة الخليفة هارون الرشيد والخليفة المأمون بعده (1) - في نصيحته الغالية التي أستحسن أن أوردها بتمامها، لما حوت من عميق الفكر وبليغ القول.
وصية العباس العلوي في تقديم الأهم على الهام
قال العباس رحمه الله تعالى: ((اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء، ففرغه للمهم. وأن مالك لا يغني الناس كلهم، فخص به أهل الحق. وأن كرامتك لا تطبق العامة - أي لا تعمهم وتتسع لهم -، فتوخ
(1) قال الخطيب في ((تاريخ بغداد)) 126:12 ((وهو من أهل المدينة، قدم بغداد في زمن هارون الرشيد، وأقام في صحابته، وصحب المأمون بعده، وكان عالما شاعرا فصيحا. - ولم يذكر سنة وفاته -، قال عبد الله بن مسلم: جاء العباس بن الحسن، إلى باب المأمون، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق، فقال له العباس: لو أذن لنا لدخلنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، ولو صرفنا لا نصرفنا، فأما اللفتة بعد النظر فلا أعرفها! ثم أنشد: وما عن رضا كان الحمار مطيتي ولكن من يمشي سيرضى بما ركب!)) ثم ذك ذكر الخطيب في ترجمته وصيته ونصيحته الآتية، وهي من أبلغ النصائح وأنفعها.
بها أهل الفضل. وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما، فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك من ذلك.
فإن ما شغلت من رأيك في غير المهم إزراء بالمهم (1)، وما صرفت عن مالك في الباطل، فقدته حين تريده للحق. وما عمدت من كرامتك إلى - أهل - النقص، أضر بك في العجز عن أهل الفضل. وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة، أزري بك في الحاجة)). انتهى.
هذه لمحات وقبسات من بيان قيمة الزمن، عند أولئك العلماء والأئمة الفضلاء، الذين اجتزأت بذكر بعضهم عن ذكر الكثير منهم، ولقد كانوا فخر الإسلام بل فخر الإنسانية.
أولئك قوم شيد الله فخرهم
…
فما فوقه وإن عظم الفخر
فليس لك بعد هذا - أيها القارئ الكريم - أن تستغرب إذا سمعت أو قرأت: أن للعالم الفلاني أكثر من مئة كتاب، وأن تآليفه قد شاركت في كل علم بأوفر نصيب، فإن مرد ذلك وسببه أنهم قد حفظوا الوقت، وتخلوا عن الفضول والغفلة عن مضي الزمان، فبادروا اللحظات والدقائق والساعات، فكانت لهم تلك المآثر الباقيات:
(1) قلت: وكثيرا ما يزين لطالب العلم ويحلو له أيام الإمتحان، قراءة العلم، الذي ليس مطالبا به في الاختبار، ويأتيه العزوف عن العلم المطالب به (المهم)، وهذا من مرض النفس وضعف الهمة والنشاط، فإن العلم المطالب به فيه تكليف وإلزام وتحمل وأداء، فهو ثقيل على النفس الوانية، والعلم غير المطالب به لا تكليف به، فهو خفيف على النفس، فليحذر العاقل الاستجابة لهوى نفسه، فإن هذا من سرقة الشيطان له وانحرافه به عن الصواب والمهم، والله الهادي.