الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما أدركت الشيخوخة وأمراضها أبا عثمان الجاحظ الأديب المشهور، كان ينشد هذين البيتين متحسرا متألما من تقاعد الضعف والكبر والمرض به:
أترجو أن تكون وأنت شيخ
…
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
…
دريس كالجديد من الثياب (1)
لا تكن سبهللا في أمر الدنيا أو أمر الدين
فالعاقل الموفق من يملأ كل لحظة وثانية من حاضر عمره ووقته بفائدة أو عمل صالح، وقد كره سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه التعطل والبطالة وإضاعة الزمن سدى! فقال: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا - أي فارغا - لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة!
الوقت أغلى مملوك وأرخص مضيع
!
ورحم الله الوزير الصالح والعلامة الفقيه الأديب الأريب: يحيى بن هبيرة، البغدادي الحنبلي، المولود سنة 449، والمتوفي سنة 560، شيخ الإمام ابن الجوزي، إذ يقول (2):
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
…
وأراه أسهل ما عليك يضيع!
مقالة للأستاذ أحمد أمين في حفظ الوقت وآثار ضياعه
وقد وقفت على مقالة للأستاذ أحمد أمين الكاتب الأديب المصري، المتوفي سنة 1373، بعنوان (أوقات الفراغ)، أوردها في كتابه ((فيض
(1) دريس: بال. والبيتان من ترجمته في ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي 219:12.
(2)
كما في ترجمته الحافلة في ((ذيل طبقات الحنابلة)) للحافظ ابن رجب 281:1.
الخاطر)) (1)، فرأيت إيرادها في ختام هذه الرسالة - باختصار مع تصرف وزيادة كلمات يسيرة - لمناسبتها المقام رجاء الانتفاع بها.
قال: ((في المنازل آلاف آلاف من طلبة المدارس، يقضون أربعة أشهر أو خمسة أشهر: إجازة صيفية، فهل تساءل الآباء كيف يقضى هذا الوقت الطويل فيما يعود بالنفع على جسمهم وعقلهم وخلقهم وبلادهم؟ وفي البيوت نصف عدد الأمة من النساء، فكيف يقضين أوقات فراغهن؟ إذا كان الزمن هو المادة (الخامة) لاستغلال المال، وتحصيل العلم، وكسب الصحة، فكم من كل ذلك؟! وكم أعمار تضيع في عبث؟! لا في عمل الدنيا، ولا في عمل آخرة!
ومن نتائج ضياع الزمن ضياع كثير من منابع الثروة، كان يمكن أن تستغل لولا إهمال الزمان والجهل باستعماله، فكم من الأراضي البور كان يمكن أن تصلح، ومن الشركات يمكن أن تؤسس، ومن المؤسسات المختلفة يمكن أن تنشأ وتدار بجزء من الزمان الفارغ.
وإن من نتيجة ضياع الزمن في عالمنا كساد الكتب وعدم قراءتها، والرضا بالجهل، فليس هناك نفوس تألم من الجهل! ولكن أجساد تخلد إلى الراحة. والشأن في عالم المال كالشأن في عالم الكتب، فهناك القناعة بالقليل، والرضا بالميسور، والنوم على الوظيفة والعمل الراتب الذي لا يدعو إلى جهد، ولا يبعث على تفكير. ثم هناك الفكر المضنى، وإفساح الطريق للأجنبي النشيط الذي يعرف كيف يستغل زمنه.
ولست أريد من المحافظة على الزمن أن يملأ كله بالعمل، وأن
(1) 67:3 من الطبعة الرابعة لمكتبة النهضة المصرية، دون تاريخ.
تكون الحياة كلها جدا ودأبا، لا راحة فيها ولا مرح، وأن تكون عابسة لا ضحك فيها ولا بشر، وإنما أريد ألا تكون أوقات الفراغ طاغية على أوقات العمل، وألا تكون أوقات الفراغ هي صميم الحياة، وأوقات العمل على حاشيتها وطرفها.
بل أريد أكثر من ذلك: أن تكون أوقات الفراغ خاضعة لحكم العقل كأوقات العمل، فإننا في العمل نعمل لغاية، فيجب أن تصرف أوقات الفراغ لغاية كذلك، إما لفائدة صحية كالألعاب الرياضية المشروعة، وإما للذة نفسية كالمطالعات العلمية، وأما لغذاء روحي كالقيام بقراءة القرآن والحديث الشريف ونوافل الطاعات والعبادات.
أما أن تكون الغاية هي قتل الوقت، فليست غاية مشروعة، لأن الوقت هو الحياة، فقتل الوقت قتل الحياة! فالذين يصرفون أوقاتهم الطويلة في نرد أو شطرنج أو لغو أو لهو غير مشروع، لا يعملون لغاية يرتضيها العقل، وكذلك الذين يتسكعون في المقاهي والأندية والطرقات، لا يطلبون إلا قتل الوقت، كأن الوقت عدو من أعدائهم!
ومفتاح العلاج لهذه المشكلة: الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يغير موضوعات حبه وكرهه كما يشاء، ويستطيع أن يغير ذوقه كما يشاء، فيستطيع أن يمرن ذوقه على أشياء لم يكن يتذوقها من قبل، وعلى كراهية أشياء كان يحبها من قبل، ففي استطاعة أغلب الناس - إذا قويت إرادتهم - أن يقسموا أوقات فراغهم إلى ما ينفعهم صحيا، وإلى ما ينفعهم عقليا، وإلى ما ينفعهم دينيا.
ومن الأسف أن عامة الناس يعتقدون أن قراءة القصص الحقيقة والمجلات الرخيصة كافية لغذاء عقولهم، فهم يلتهمونها التهاما،
ويكتفون بها في لذتهم العقلية، وهي ليست إلا مخدرا للعقل، أو منبها للغرائز الجنسية. وقليل من الصبر وقوة الإرادة يجعل المتعلم صالحا للدراسة الجدية والقراءة المفيدة.
وكل مثقف يستطيع أن يحرك في نفسه هوى لشيء جدي، في نوع من أنواع المعارف، يدرسه ويتوسع فيه ويتعمقه، سواء كان أدبا، أو حيوانا، أو أزهارا، أو ميكانيكا، أو تاريخ عصر من العصور، أو أي ضرب من ضروب المعارف الإنسانية. ثم يثير رغبته فيه، ثم يخصص جزءا من يومه لدراسته والاهتمام به:
فإذا هو إنسان آخر، له ناحية من نواحي القوة، وله شخصيته المحترمة، وله نفعه لنفسه ولأبناء جنسه وسواهم.
وإذا الأمة غنية بأبنائها في شتى فروع العلم والمعارف والفنون، تعتمد على كل فيما تخصص فيه من نواحي الحياة.
وإذا الناس في مجالسهم يرقى حديثهم، ويسمو تفكيرهم، وتنضر حياتهم، ويكتسب بعضهم من بعض ثقافة وعلما وأدبا وسلوكا وتقديرا للزمن.
وإذا الثقافة ارتقت، والعقول اتسعت، والحياة سمت، والقوة ازدادت، وسبل المعيشة تيسرت وازدهرت.
إذ ذاك يشعر الناس أن عليهم واجبا أن يغدوا عقولهم كما يغذون معداتهم، وأن لا حياة لهم بدون غذاء، ولا غذاء بدون محافظة على الزمن وكسبه والاستفادة المثلى فيه، وعندئذ يرتقي المجتمع وأهله بيئة وفكرا وصناعة وإنتاجا وعطاء ونفعاً.