الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، الذي جعل إرادة بعض عباده،
من أسباب إنفاذ مراده، فهم بقوة الإرادة يمتازون، وبحسن توجيهها للمرادات
يتفاضلون، فلولا الإرادة الإنسانية العجيبة لَمَا أشرقت شموس العلوم والعرفان،
ولولاها لما ظهرت ثمراتها العملية في الأكوان، والصلاة والسلام على أفضل
مريد ومراد، وأكمل مظهر للمشيئة الإلهية في العباد، سيد المصلحين، وخاتم النبيين
والمرسلين، المرسَل - وهو الأمي - ليعلم الأميين والمتعلمين، والمبعوث وهو
العربي إلى جميع العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه
المتقين، ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة
1315 وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه، وهو مسائل كثيرة يجمعها
الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية هي ومَن يعيش معها، وتتصل
مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر
في كل قطر وكل عصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من
الخرافات إليه، وهو عمل قد ملأ في عالم الصحافة الشرقية فراغًا، وأشرع لطلاب
الارتقاء من الأمة منهاجا، كان (المنار) فيه - على رأيهم - سراجًا وهاجًا، ظهر
على شدة حاجة الأمة إليه، واستعداد هذا القطر لظهور مثله فيه، ولكنه على هذا
وذاك بدأ كالإسلام غريبًا، وممقوتًا من السواد الأعظم لا محبوبًا، يعشي نوره
خفافيش البدع والخرافات، الذين ألفوا تلك الظلمات، حتى قال لنا خاتمة شيوخنا
الأستاذ الإمام: (إن الحق يظهر في المنار عُريانًا في الغالب ليس عليه شيء من
الحُلي والحُلل التي تجذب إليه أنظار مَن لم يألفوا الحق لذاته) ، وكتب إلينا أول
شيوخنا الشيخ حسين الجسر في 28 ذي القعدة سنة 1315 ما نصه جوابًا عن كتاب:
(وصلني كتابكم الكريم بعد مضي أشهر من وصولكم لمصر معتذرًا عن
تأخره، فقبلت العذر ودعوت لكم بالتوفيق، وأعقب وصوله ظهور المنار ساطعًا
بأنوار غريبة مرغوبة، إلا أنها مؤلفة من أشعة قوية كادت تذهب بالأبصار)
…
إلى آخر ما كتبه، وفيه انتقاد لبعض المسائل أجبناه عنها، مبينين له ما عندنا من
الحجج عليها، وأنباء بمقاومة الحكومة العثمانية للمنار، وكان ذلك كما قال.
إنني لم أُنْشِئْ المنار ابتغاء ثروة أَتَأَثَّلها، ولا رتبة من أمير أو سلطان أتجمل
بها، ولا جاه عند العامة أو الخاصة أباهي به الأقران، وأباري به أعلياء الشان،
بل لأنه فرض من الفروض يرجى النفع من إقامته، وتأثم الأمة كلها بتركه، فلم
أكن أبالي بشيء إلا قول الحق والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فكنت إن أصبت هذا بحسب علمي واجتهادي فسيان رضي الناس أم
سخطوا، مدحوا أم ذموا، قبلوا المنار أم رفضوا.
طبعت من الصحف الأولى ألفًا وخمس مائة نسخة من كل عدد، وأرسلت
أكثرها إلى من عرفت أسماءهم في البلاد المصرية والسورية، وكذا في غيرها من
البلاد (وهو الأقل) ، فأعيد إليّ أكثر ما أرسلته إلى المصريين، وما نشبت الحكومة
الحميدة أن منعت ما يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، ثم جعلت عدد المطبوع
ألف نسخة، ولكن مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون على ثلث
الألف إلا قليلاً.
ما كان انتقاص عملي منتقصًا شيئًا من أملي، ولا زهد الأمة في المنار، باعثًا
على جعله طعامًا للنار، ولا لفائف لبضائع التجار، كما هي سنة أصحاب الصحف
في هذه الديار [1] ، بل كنت أحرص عليه، حاسبًا أن الناس سيعودون إليه.
وكان يمدني في أملي هذا ما أسمعه من بعض أهل الرأي والعلم بشؤون
الاجتماع، من القول بأن هذا المنار حاجة من الحاجات الطبيعية للمسلمين في هذا
العصر، لا يستغني عنه بيت من البيوت، فإن لم يفقهوه هذا اليوم فسيفقهونه في
يوم ما، وقد اتفق رجلان من غير المسلمين في كلمة حددا بها الأجل لذلك اليوم
المجهول، أحدهما إنكليزي كان يقرأ له المنار محمود سامي باشا البارودي والآخر
سوري من قرائه، قالا كلمتهما التي تواردت عليها خواطرهما، ولا تعارف بينهما،
قالا: (إن المسلمين سيبحثون عن هذا المنار ويعنون بإعادة طبعه بعد خمسين سنة) .
وإن أدري أكانا يظنان حين قالا كلمتهما أن المسلمين لا يستيقظون لطلب هذا
الإصلاح إلا بعد خمسين سنة، أم كانا يعنيان أن المنار لا بد أن يكون قد بطل في
هذه المدة بموت صاحبه أو عجزه، فيبحث الناس عنه؛ لأنهم في الغالب لا يعرفون
قيمة الشيء إلا بفقده، ولا يعترفون بقدر العامل إلا من بعده.
لعل المسلمين خير مما ظنا فيهم، ولعل الأجل الذي ضرباه أقرب مما حدده
رأيهما، فها نحن أولاء قد أعدنا طبع مجموعة السنة الأولى، ويوشك أن نعيد طبع
الثانية والثالثة أيضًا فقد قلّت نسخهما وغلا ثمنهما.
كانت السنة الخامسة للمنار (سنة 1320هـ) مبدأ رواجه وسعة
انتشاره، فمنذ ذلك العهد صار بعض طلاب الاشتراك يطلبون مجموعات السنين
الماضية، كما يطلبها بعض المشتركين السابقين رغبة في حفظ المنار من أوله،
وضنًّا به أن يضيع شيء منه، حتى إذا قلّت مجموعات السنة الأولى رفعت الإدارة
ثمنها حتى صارت تباع المجموعة الكاملة من تلك السنة بمائتي قرش، أي بأربعة
أضعاف ثمنها الأصلي، وبِيعت المجموعة الناقصة بضعة أعداد فأكثر إلى 12
و13 عددًا بمائة قرش، ولما لم يبقَ عندنا مجموعة معدة للبيع إلا وهي ناقصة أكثر
من 15 عددًا، وكثر الطلب واقترح علينا إعادة طبع السنة كلها، شرعنا في
طبعها في النصف الأول من سنة 1325، وهي السنة العاشرة، وقد تم الطبع في
النصف الأول من هذه السنة وهي السنة الثانية عشرة.
كان المنار في السنة الأولى من عمره جريدة أسبوعية ذات ثمان صفحات
كبيرة، وكنا ننشر فيه برقيات الأسبوع وبعض الأخبار التي ليست كلها ذات فائدة
تحفظ وتدخر وإن لم تخلُ من فائدة في وقت نشرها لبعض القراء. وقد أعدنا طبعه
بشكل المجلة التي هي عليه منذ السنة الثانية، ولم نحذف منه إلا البرقيات وبعض
الأخبار التي لا فائدة في تدوينها وحفظها، وأما الأخبار التي فيها عبرة دائمة أو
فائدة تاريخية أو غير تاريخية فقد أبقيناها، وحذفنا منه أيضًا نبذ رسالة (قليل
من الحقائق عن تركيا) المترجمة عن الإنكليزية لقلة الثقة بأخبارها. وسندقق
النظر فيها، فإن وجدناها حَريَّة بالحفظ والتخليد أثبتنا ما حذفناه من السنة الأولى في
الطبعة الثانية للسنة الثانية متصلاً ببقيته فيها، وإلا حذفنا باقيها من طبعة السنة الثانية
أيضًا، ومع هذا جاء المجلد الأول في حجم المجلدات الأخيرة يناهز ألف
صفحة.
طبعنا أعداد السنة على ترتيب الأصل، فمن أراد أن يقرأ المقالات المتسلسلة
في موضوع واحد (كالمقالات التي عنوانها: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67) متصلة، فالفهرس يجمع له متفرقها بسهولة.
وقد أشرنا إلى أوائل الأعداد في الهامش عند المقالات الافتتاحية وفي أعلى الصفحات
كما هو ظاهر.
المنار في سنته الأولى والمنار في سِنِيه الأخيرة شَرَعٌ، ولو جاز لي أن
أضرب له مثلاً شرودًا يُشعر بالمدح، لقلت: (والشمس رأد الضحى كالشمس في
الطفل) ، نعم، لا فصل بين أوله وآخره في موضوعه وغايته ومسائله، ولكنا كنا
نكثر في السنة الأولى من الخطابيات، لتنبيه الأذهان وإعدادها لما هو آت، ونكتفي
في أكثر المسائل بالإجمال، لتتهيأ النفوس لطلب التفصيل، وقلما جرينا فيها على
شيء ثم تَبيَّنَ لنا خَطَؤُنا فيه إلا ما أشرنا إليه في هوامش هذه الطبعة وأكثره في
المسائل السياسية، المتعلقة بحال الدولة العلية، ومن البديهي أننا ازددنا علمًا وخُبْرًا
في جميع المسائل بطول البحث والتمحيص والوقوف على آراء الناس وأحوالهم.
قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة
من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة - قوارع
تصخُّ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعُّ
العقول إلى إطالة الفكر في الخطْبين: الغائب والعتيد، والخطرين: القريب والبعيد،
وهما: عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب
الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية
أولئك المخاطَبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم
وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست
بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد،
يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
راجع تلك السور العزيزة لا سيما قصار المفصَّل منها ك ? {الْحَاقَّةُ *
مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1-2)، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ،
و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1)، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ،
و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار:1)، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)
و {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1)، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقاً} (النازعات: 1) .
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من
سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) ، {أَلَا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في
الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا
إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23)
…
إلى 37 منها، وقوله بعد إباحة
الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
تدبر هذا ثم أَجِلْ طرفك في فاتحة المنار الأولى، وفي أكثر المقالات
الافتتاحية [2] تجدها زواجر منبّهة، وبينات في الإصلاح مجملة، ترشد المسلمين
إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم الخطر المهدد لهم في استقبالهم، وتذكرهم بما
فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوا من مجد آبائهم الأولين،
تزعجهم إلى استرداد ما فقدوا، وإيجاد ما لم يجدوا، بطريق الإجمال، في أكثر
الأقوال، وما جاء في سائر السنين فهو من قبيل التفصيل، أو إقامة البرهان
والدليل، على تلك الدعوة الإجمالية، والمقالات الافتتاحية، وترى بهذا كله اقتباس
المنار لهدي الكتاب العزيز واتباعه لسنته في الترتيب كاتباعه له في المسائل
والأحكام، والحمد لله على ذلك.
كان لتلك المقالات الخطابية الاجتماعية والفلسفية تأثير عظيم في نفوس
القارئين: فمن مبالغ في الاستحسان، كأن يطالب بعد الإقلال منها أن نعود إليها [3] ،
ومن مبالغ في الاستهجان يقول: قد بين عيوبنا وجهلنا للأجانب، ويكتبون
إلينا أن نترك مثلها [4] ولكن لم يكن يسكت عن الجمهور غضبه علينا، ويقل خوضه
فينا، حتى رأينا كثيرًا من كُتاب المسلمين وخطبائهم قد تلوا تلونا، واحتذوا في
انتقاد حال المسلمين حذونا، حتى صار ذلك في الجرائد مألوفًا، وأصبح منكره عند
الأكثرين معروفًا، ولكن معظم كلامهم في الداء، من غير بيان للعلاج والدواء.
أما المنار فكان يصف العلاج لأمراض الأمة بالإجمال، ثم بالتفصيل
والاستدلال، والغرض من كل ذلك إعداد النفوس للعمل العظيم الذي نرجو أن يكون
قد قرب زمانه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 4-5) .
هذا ما أردت بيانه في مقدمة الطبعة الثانية للسنة الأولى. والله الموفق وبه
المستعان. وكُتب في رمضان سنة 1327.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مُنْشِئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
_________
(1)
يبيع أصحاب الصحف ما زاد عن حاجة المشتركين والمبتاعين من صحفهم إلى التجار وأصحاب الأفران! .
(2)
راجع مقالات القول الفصل ص 31 وصيحة حق ص 217 والمدارس الوطنية 256 وإلى أي تربية وتعليم نحن أحوج 278، والجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية 299، والعلم والحرب 341، والسلطتان الروحية والسياسية 404، والمقالات المفتتحة بالآيات في ص 585 و 606 وما يتبعها، ومقالات الإصلاح الديني والسياسي، وغير ذلك إلخ.
(3)
من أعظم هؤلاء قدرًا: السيد مهدي خان محسن الملك نواب بهادر وناظم مدرسة العلوم في عليكده بالهند رحمه الله .
(4)
من أشهر هؤلاء الشيخ أبو الهدى الصيادي والشيخ حسين الجسر رحمه الله .
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الأولى للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
وإليه أنيب.
أما بعد: فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين، ونداء حق يقرع مع سمع
الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين، ينادي من مكان قريب يسمعه الشرقي
والغربي، ويطير به البخار فيتناوله التركي والفارسي.
يقول: أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك
حسبك! فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماءً أو موتاً زؤاماً، تنبه من
رقادك، وامسح النوم عن عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بُدِّلت الأرض
غير الأرض، ودخل الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير.
فهذه الجمادات تتكلم بغير لسان، وتكتب من غير قلم ولا بنان، والوحوش
حُشرت مع الأنعام، والمراكب تجوب السهوب والفيافي وتفترع الأعلام، بل طارت
في الهواء تسابق الرياح، وتساهم ذوات الجناح، واستولى أخوك المستيقظ على
قوى الطبيعة، فقرن بين الماء والنار، وولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور
فاخترق بذلك الجبال، واختبر أعماق البحار، وعرف مساحة الهواء، ونفذت أشعة
بصره الكثائف، ووصلت أمواج صوته إلى كل مكان سحيق، فقرب أبعاد الأرض
وجمع بين أقطارها، بل عرج بهمته للقبة الفلكية فعرف الكواكب ومدارها، ومادتها
ومقدارها.
حسبك حسبك! هُب من سباتك واستيقظ من هجوعك، فقد ولت حنادس
الجهالة، وأشرقت شمس المعرفة، انظر وتأمل ماذا يفعل أخوك المستيقظ يدكّ
الحصون والصياصي، ويقوض المعاقل والهياكل، وهو متكئ على أريكته ينظر
إليها بالآلة المقربة للبعيد، ويقيم الحصون والأسوار، ويشيد البوارج والأبراج،
ولا يتعب له عضل، ولا يندى له جبين، ولا يحتاج في أمثال هذه الأعمال العظيمة
إلا إلى إشارة لطيفة، وحركة خفيفة، فالطبيعة تخضع لإشارته، وتسير طوع يمينه،
فيتم له كل ما يريد. لا يهولنَّك ما تسمع، ولا يروعنك ما ترى، واعلم أن هذا
العصر عصر العلم والعمل، فمن علم وعمل ساد، ومن جهل وكسل باد، {مَا
أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) .
كانت العلوم الطبيعية على عهد أسلافك أفكارًا متضاربة، وآراءً متناقضة،
وأقوالاً متعارضة، لم تأتِ عن امتحان وعمل، ولم يكد يُبْنَى عليها عمل؛ ولذلك
كثر ذامّوها، وقلّ مادحوها، وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته العمل، أو
بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه، لا يعول عليه، فالأعمال
تنمي العلوم، والعلوم تمد الأعمال، وشاهد ذلك عندك الحديث الشريف: (مَن عمل
بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) قاعدة وُضعت في الشرق، واهتدى للانتفاع
بعمومها أهل الغرب، والذين صدرت بلُغتهم لاهون غافلون. فلا تضيع أوقاتك
بالتخيل والتفكر، ولا تجعل حظك من حياتك الأماني والتشهي، ولا تدع للأوهام في
ذهنك مجالاً واسعًا ومكانًا فسيحاً {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء: 123) ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ
لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
فعليك بالعلم والعمل رُضْ بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حَلَّ من
لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراقُ
بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض
منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة مَن
تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم
التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله،
والقنوط من رحمته جل علاه - هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال،
فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، فالجريدة تكون وصلة بينهم وبين
الأمة، تبعث بإرشادهم روح الهمة في أفرادها، وتحيي ميت الغيرة من نفوس
آحادها. وتجاري الحُدَاة لدى السير في مناهج الترقي، وتنتصب (منارًا) في
أخرات الشبهات، ومجاهيل المشكلات.
وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء
والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة
والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة
في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي
مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم
الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل،
حتى صار الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً،
ومعرفة الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون
والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة
والمهانة تواضعًا، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضًا وتسليمًا، والتقليد الأعمى
لكل متقدم علمًا وإيقانًا.
تُشَخِّص هذه الأمراض الروحية وأشباهها، وتوضح عللها وتصف علاجها،
وتجتهد في تأليف القلوب المتنافرة، ووصل العلائق المتقطِّعة، وجمع الكلمة
المتفرقة ما استطاعت، وتحاول إقناع أرباب النحل المتباينة، والمذاهب المختلفة -
أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وأن المعارضة
والمناهضة، والمناصبة والمواثبة - تُفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على
هدي الأديان. وتحث على التمسك بالدين، وتبين أنه أساس السعادة وأن الكفر فساد
العمران، وتدرأ الشبه الواردة على الشريعة الإسلامية، وتدحض مزاعم مَن قال:
إنها حجاب كثيف، وسد حائل بين الآخذين بها وبين المدنية الصحيحة، لجهلهم بما
انطوت عليه من الحكم الرائعة، والأحكام العادلة، وترشد العاملين إلى أن محاولة
الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية جهل وحرمان، وأن مراعاة السنن
الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية - كافية بتوفيق الله تعالى لبلوغ كل مقصد،
ونيل كل مرام، وتنبه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران،
وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوربا في الفنون والصنائع، لا على الملوك
والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر
المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم، وتنشر
محاسن اللغة العربية بالتحلي بفرائدها واقتناص أوابدها، وتقييد شواردها، على
سبيل التدرج في الاستعمال. ولا تأتلي أن تذكر ما تفيد معرفته من أخبار السياسة
الخارجية، وتثبت ما يهم بيانه من الحوادث المحلية، مع انتقاء الصادق والاعتدال،
لا تميل مع ريح حزب من الأحزاب، ولا تتطرف لجانب تفريط أو إفراط،
بحسب ما يصل إليه الاجتهاد. لكنها عثمانية المشرب، حميدية اللهجة، تحامي عن
الدولة العلية بحق، وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصدق، وتتحامى المطاعن
الشخصية، والأماديح الشعرية، لكنها لا تني في تقريظ الأعمال العامة الموضوع،
وتقريض الكتب المؤلفة لإفادة الجمهور بالقول الصحيح، والانتقاد الرجيح، وتقبل
الانتقاد الأدبي من كل أحد، وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع
بدره، ومن أين انبلج فجره، وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت.
هذا ما توجهت إليه النفس واعتزمت عليه بعد تصحيح النية وإخلاص القلب،
ولا أجهل أنني حاولت أمرًا جليلاً، وحملت نفسي عبأ ثقيلاً، ينوء بالعصبة أولي القوة
ويعوز إلى تأليف لجنة أو عقد جمعية، لكنني مع ذلك أعلم أن للحق أنصارًا،
وللصالحات أعضادًا تستمد الجريدة من بحار أفكارهم، وتغتذي بالكلم الطيب من
مجاني عرفانهم، وتستقي مداد الحكمة من أنابيب أقلامهم، ومن جراء هذا أو ذاك
مر عليَّ حين من الدهر بعد تصور الموضوع والعزم على الشروع، وأنا بين إقدام
وإحجام، ويأس ورجاء يحركني الباعثان، ويتنازعني العاملان حتى أعملت الأمل،
ورجحت الإقدام على العمل وما أجدرني بموقف الحيرة بين بين، وقد أنذرني بعض
عظماء هذا القطر، بما صدقه به الابتلاء والخبر، من أن الجد مرغوب عنه، لا
مرغوب فيه، وأن السواد الأعظم من الأمة قد ثار حابلهم على نابلهم، وهضم
مفضولهم حقوق فاضلهم، فأصبحوا ومطامح أنظارهم انتقاد الحكومة المحلية،
ومطارح أفكارهم العداوات الشخصية، ولا يديرون ألحاظهم، أو يعيرون التفاتهم لما
وراء الغميزة والإزراء، إلا ما كان من نكتة هزلية، أو رواية غرامية، فإذا رأوا
جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير
في العمل المفيد عمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها
لأيدي الأغيار، من المهطعين للاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى، ويضربوا
بها عرض الحائط، لكنني وطنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام، ومعاضدة
الأخيار، نعم إن الكرام قليل، ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة
العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج، وبالله المستعان وعليه التكلان، {وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اصطلاحات كُتَّاب العصر
من القضايا المُسلَّمة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مندوحة عن مراعاة ما
يتواطؤ عليه الجمهور، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان
ومكان. وقد انطلقت ألسنة أهل هذا العصر، وجرت أقلامهم بألفاظ يريدون بها من
المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة أو في عرف العصور السالفة، ولهم ألفاظ
أخرى جاءتهم من الفنون الحادثة والاكتشافات الجديدة، والكثير منها مما لم تستعمله
العرب، فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين؛ لأن الكثير من
القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله، وبالمعنى الذي يفهمه العارفون،
وقد مر منها في فاتحة هذا العدد لفظ الطبيعة، والطبيعي، والنواميس الطبيعية ،
وقوى الطبيعة، والكفر.
أما لفظ (الطبيعة) : فقد كان فيما مضى مما لا يكاد يستعمله إلا الأطباء
والصوفية والفلاسفة، وأكثر من كان يستعمله الأطباء، ويطلق لفظ الطبيعة عندهم
على عدة معان: على الهيئة التركيبية، وعلى المزاج الخاص بالبدن، وعلى القوة
المدبرة، وعلى حركة النفس، وربما أطلقت (الطبيعة) على النفس الناطقة باعتبار
تدبيرها للبدن. والطبائع الأربع في عرف الأطباء والطبيعيين: الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة، وكان يطلق لقب الطبيعي على فرقة تعبد الطبائع الأربع،
وعلى من ينسب كل شيء للطبيعة، كما يطلق على صاحب العلم الطبيعي. وقد
عرف السيد الجرجاني (قدس سره)(الطبيعة) : بالقوة السارية في الأجسام، بها
يصل الجسم إلى كماله الطبيعي، وكان الصوفية يستعملونه في غير هذا المعنى
أيضًا، وليس بين يدي الآن شيء من كتبهم أراجعه في ذلك.
وأما لفظ (الطبيعة) اليوم فهو كثير الدوران على ألسنة جميع الكُتّاب في
الفنون العلمية والأدبية حتى الشعراء والمترسلين، ويجرونه على معناه اللغوي وهو:
المخلوقات أو الحالة التي هي عليها.
وبيان ذلك أن (الطبيعة) في اللغة بمعنى: الخلقة والخليقة والفطرة، فخلق
الله الأشياء وفطرها وطبعها بمعنى واحد، وإذا قلنا: إن هذا الشيء تقتضيه طبيعة
الاجتماع الإنساني، فهو كما إذا قلنا: تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها بلا
فرق، وحاصل القول: أن لفظ (الطبيعة) حيث أطلق فالمراد به الحالة التي طبع
الله الموجودات عليها أي خلقهم، وتطلق على الموجودات أنفسها، فيقال: تأمل
محاسن الطبيعة أي المخلوقات.
وأما (الطبيعي) فهو: المنسوب للطبيعة، كالخلقي نسبة للخلقة، ويستعمل
في مقابلة الصناعي، فيراد به ما لا صنع للبشر فيه أي في هيئته التركيبية،
كالأشجار والبحار، ويطلق على العالم بالفنون الطبيعية، وإن كان متديناً، ولا
يطلق على الملحد من حيث إنه ملحد، وإن نسب الأشياء للطبيعة واعتقد أنها مُوجِدَة
لها ومؤثرة فيها من دون الله تعالى، بل يطلقون على من هذا شأنه لفظ:(الكافر)
و (الدهري) و (المادي) (لأنه ينكر ما وراء المادة، فلا يعتقد بالإله ولا بالعالم
الآخر) وفي بلاد الهند يطلقون عليه لقب: (نيشري) ، وأكثر عامة بلادنا لا
يفهمون من لفظ الطبيعي إذا أطلق على إنسان إلا هذا المعنى الأخير، وهو الذي
حملنا على هذا البيان لئلا يحملوا كلامنا على ما يفهمون.
ويدور هذا اللفظ على الألسنة كثيراً في المحاورات المتعلقة بسائر الشؤون،
ويراد به مجرد التأكيد والتحقيق أو أن هذا الشيء ظاهر بالبداهة، تراهم عند سماع
شيء من المسلمات يقولون: هذا طبيعي، يعنون أنه بديهي أو محقق لا نزاع فيه،
وأما العلماء والكتاب فيعنون بقولهم: (هذا شيء طبيعي) : أن له سببًا طبيعيًّا يعلل
به.
وأما (النواميس الطبيعية) : فالمراد من الناموس: الطريقة الثابتة المطردة
التي يحكم الله تعالى بها على الكون، وهو محرف عن لفظ:(نومس) اليوناني،
ومعناه: الشريعة، وكثيرًا ما يدور على ألسنة الطبيعيين (شريعة الطبيعة)
و (الشرائع الطبيعية) ، ويستعمله كتاب العربية في المقالات الأدبية والسياسية،
مجاراة لهم وعملاً باصطلاحهم، وكان الأولى أن يترجم لفظ:(نومس) بالسنة،
فيقال: (سنة الطبيعة) و (السنن الطبيعية) ، وبعض الكتاب يستعمل هذا الحرف
وستراه كثيرًا في هذه الجريدة، وقد نعتاض عنه أحيانًا بقولنا:(سنة الكون)
و (السنن الإلهية) و (سنة الله في خلقه) .
وأما القوى الطبيعية فهي عبارة عما تسند إليه الآثار الطارئة على الأجسام من
حركة أو سكون، ومنها ما هو حقيقي كالقوة البخارية والكهربائية، وما هو فرض
كالجاذبية، فإن تعليل سقوط نحو الحجر من الهواء على الأرض بأنه سقط بقوة
الجاذبية التي في مركز الأرض يوهم أن هناك شيئًا موجودًا له هذا الفعل وأنهم
اطلعوا عليه وسموه بهذا الاسم، وليس كذلك، بل إن هذه القوة مفروضة، والتسمية
اصطلاحية، ولما كان الفعل الذي نُسِبَ إليها يَصْدُر عنها باطراد صح إطلاق لفظ
(الناموس) عليها فقالوا: (ناموس جاذبية الثقل) ، ومثل هذا كثير، وقد أطلنا في
البيان حتى كدنا نخرج عن المقصود.
وأما لفظ (الكفر) : فيطلق في عرف الكتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا
إليه في عرض كلامنا آنفًا، فمهما أطلقنا لقب (الكافر) أو اسم الكفر في كلامنا
فنريد به ما ذكرنا، ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل
الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا؛
لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره
علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر
في العصر الأول للملة على كل مخالف؛ فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا
الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة
ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه.
ذلك أن معنى (الكفر) في أصل اللغة: الستر والتغطية، وكانوا يسمون الليل
كافرًا؛ لأنه يغطي بظلامه الأشياء، وأطلقوا لفظ (الكافر) على طلع النخل،
وأكمام النور (الزهر) لما ذكر، وعلى البحر؛ لأن الشمس تغيب فيه بحسب
الظاهر، وعلى ثوب كانوا يلبسونه فوق الدرع يقولون له:(كافر الدروع) ، وقد
سمى القرآن العظيم الزراع كفارًا، كما هو المشهور في تفسير قوله تعالى {كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) وأمثال هذا في اللغة كثيرة، ويظهر
منها أن حقيقة الكفر تغطية المحسوس بالمحسوس، ثم أطلق على من لم يذعن للدين
ومن لم يشكر النعمة تجوزًا، وكل ما نقل من العبارات المستعملة من هذه المادة
يومئ إلى ما ذكرنا (راجع الأساس وغيره) .
وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على
صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) .
ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل
مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية
الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا
في الدين) ، وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة
بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر.
جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب
معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه) اهـ.
ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب
صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك
أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم
في كل حال، وسنفرد لهذه المباحث مقالات في الأعداد التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مشروع مفيد
سكة حديد بين بورسعيد والبصرة
افتتحت جريدة المؤيد الغراء عددها (2421) الصادر يوم الأحد الماضي
برسالة وردت عليها من محرر جريدة (وكيل) في بنجاب من العمالات الهندية،
ونشرتها تحت هذا العنوان.
فرأينا أن نلخص منها ما يلي:
قال الفاضل الهندي: (ربما لا يخفاكم أن شركة إنكليزية تبذل جهدها وتعمل
بكل همة سعيًا للحصول على امتياز من الباب العالي بإنشاء خط حديدي من
بورسعيد إلى البصرة أو الكويت عن طريق الجوف) .
وفي شهر ديسمبر أشار كاتب في جريدة (وكيل) إلى مشروع جليل وهو أن تشكل لجنة تحت حماية جلالة مولانا السلطان الأعظم لفتح اكتتاب من المسلمين في جميع العالم لدفع غرامة الحرب الأخيرة إلى روسيا دفعة واحدة، فتخلص بذلك
الدولة العلية من تداخلها في أحوالها، أما أنا فلم أوافق على هذا الرأي؛ لأنه لا يمكن
لروسيا أن تطلب أكثر من 320000 جنيه في السنة لمدة مائة عام، ولو فرضنا
أن اللجنة المذكورة تنجح في عملها وتجمع المبالغ اللازمة لدفع الغرامة الروسية مرة
واحدة للزمنا أن ندفع لها مبلغًا إيراده السنوي 120000 جنيه دائمًا، مع أنه لا يمكن
لروسيا أن تطلب سوى المبلغ المذكور قبل لمدة مائة سنة.
ولكنني بينما كنت أناقش ذلك الكاتب في اقتراحه إذ لاح لي مشروع، وقد
كلفت به. ذلك أن تؤلف لجنة عالية تحت رعاية ومراقبة جلالة الخليفة الأعظم
لإنشاء سكة حديدية من البصرة، ومنها عن طريق الموصل إلى حلب فالإسكندرونة
ثم ينشأ خط من حلب إلى الشام فالحجاز فاليمن.
وحيث إن نفوذ جلالة الخليفة المعنوي يزداد انتشارًا شيئًا فشيئًا في جميع
أرجاء العالم الإسلامي، فلا شك أن كل مسلم عاقل ينضم إلى هذا المشروع ويساعد
في نجاحه، وفضلاً عن استعمال اللجنة لهذا النفوذ بقدر ما يصل إليه صوتها فإنه
يلزمها أن تعلن وترسل مندوبين لها إلى جميع الجهات التي يقطنها مسلمون كمصر
ومراكش وتونس والجزائر وسكوتو والهند وإيران والصين وتركستان وسومتره
وجاوه وغيرها.
فإذا نجحنا في عمل مهم كهذا كان أفضل واسطة لاتحاد جميع مسلمي العالم
البشري المنتشرين في الأرض، بل كان واسطة لجمع مبالغ كثيرة لعمل مفيد.
وإن ألوفًا من شبابنا - الذين هم الآن بلا شغل وعمل - يتمكنون بهذا المشروع من
الاشتغال بمعاشهم بافتتاح ممالك فسيحة للتجارة والزراعة والاستعمار. وتكون
مواصلاتنا مع الحجاز تامة وبغاية السهولة، فضلاً عن المنافع السياسية والحربية
والتجارية التي تحصل للباب العالي من تنفيذ هذا المشروع الجليل.
ولقد سردت أبواب هذه الفوائد المهمة في مقالة نشرتها في جريدة (وكيل)
بتاريخ 27 ديسمبر سنة 1897 ص 54 وأشرت على المقالة بالحبر الأحمر في
جميع النسخ التي أرسلت إلى الجرائد المصرية والتركية، مؤملاً أن تفصح هاته
الجرائد عن أفكارها في هذا الشأن، وأنها إن استحسنت اقتراحي عضدتني فيه بما
تستطيعه، وطلبت أيضاً من قنصل الدولة العلية تعضيدي فيه.
ولكني أتأسف من أن ما كتبته ذهب كالنقش على الماء، فلم يلتفت إليه أحد. أليس من العار على المصريين والعثمانيين وسائر المسلمين أن يروا الأمم الأخرى تسعى في الحصول على امتيازات في أرجاء آسيا وأفريقيا، بل في تركيا نفسها،ونحن معاشر المسلمين في الأرض ننظر إليها نظر المتفرج بدون عمل ولا حركة،
كأنه لا يهمنا قط أن نكون في غبطة عيش ونعيم، وكأنه لا يهمنا أن تكون أمتنا
سعيدة بتدبير أحوال ممالكها الفسيحة وترقيتها.
وفي 21 فبراير كتبت مقالة في هذا الشأن ونشرتها في (الوكيل) اهـ، ثم
ذكر أنه دائب على تشويق أهل وطنه إلى هذا العمل العظيم، ورغب إلى صاحب
(المؤيد) أن يشوق المسلمين إلى ذلك في جريدته الشهيرة، وقد أجاب المؤيد دعاءه
ولبى نداءه، فذيل الرسالة بنبذة تنشيط ملخصها: أن ما يقترحه الكاتب أعظم
مشروع ينعش الحياة ويجدد السعادة للدولة، بل للملة الإسلامية.
وإن المسلمين إذا لم يبادروا لمثل هذا العمل فلا يبعد أن يأتي يوم يعجزون فيه
عن الإتيان بأي عمل.
فحبَّذا لو أن جلالة مولانا الخليفة الأعظم الذي اشتهر في العالم كله بحب جمع
شتات الإسلام حول عرشه استلم زمام هذا العمل العظيم بنفسه وأنفذه، ليكون الفاتح
والمجدد لعصر حضارة الإسلام على ما تقتضي ظروف الأيام اهـ.
(المنار)
لخصنا هذه المقالة لأمور منها بيان تعلق المسلمين بمولانا أمير المؤمنين -
أيده الله تعالى - في أقطار الهند، وآمالهم العظيمة في أن تقدم الأمة كلها منوط
بحكمته المشهورة ومساعيه المشكورة وخضوعهم لسلطته الروحية وسيادته الدينية.
ومنها: أن المشروع من الأعمال التي لا تقوم إلا بالشركات المالية، والحث
على الشركات المالية لأي عمل كان هو من أفضل الأعمال التي أنشئت الجريدة
لأجلها.
وأما هذا المشروع بخصوصه فلا ننكر عظيم فائدته لكننا نفوض النظر فيه
لحكمة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى) ، ولوزرائه الصادقين، فإن
لهم من المعرفة بمنافع الأمة ووسائل تقدمها ما ليس لنا، ورأينا أن سبب التقدم الذي
يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم في جميع
عناصر الأمة على طريقة واحدة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الغاية إلا بشركات
مالية تنشئ المدارس الوطنية وتختار لها المعلمين المهذبين وسنواظب على الحث
على هذا المشروع ونبين مزاياه فيما يأتي من الأعداد.
وإننا نفتخر بما لمولانا أمير المؤمنين من العناية بأمر المكاتب والمدارس حتى
أنه أنشأ من جيبه الخاص الكثير منها.
ولا ننكر ما لسمو عزيز مصر (عباس الثاني) من الاهتمام بأمر العلم،
والأزهر الشريف شاهد عدل، ورجاؤنا بأغنياء المصريين وسائر العثمانيين الاقتداء
بسلطانهم الأعظم وخديويهم المعظم في هذا الأمر الذي هو كل أمر والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجمل الأحوال السياسية
لم نَرَ عامًا كثرت مشاكله السياسية كهذا العام. فإنا نرى خلل الرماد وميض
نار ويوشك أن يكون لها ضرام، في الشرق والغرب، في العالم القديم
والعالم الجديد.
ففي مياه الصين تتجمع الأساطيل الأوربية، وتتكاثف تكاثف الغيوم قبل نزول الصواعق. وفي إفريقيا تزحف الجنود وتتسابق الحملات إلى أعالي النيل، تسابق
خيل الطراد، وفي الهند قد سُقِيَتْ الأرض بدم الإنسان وسمدتها فضلات النسور
والعقبان من جثث القتلى، فأخرجت في هذا الربيع نبتًا خصيبًا، وفي كوبا وراء
الأوقيانوس العظيم قد صارت الحرب بين الأسبان والأميركان قاب قوسين أو أدنى،
وفي كريت لا يزال السيف مصلتًا والإخوة العثمانيون يفني بعضهم بعضًا، وفي
النمسا استفحل الخلاف بين العناصر المختلفة، فصار البعض يتوقعون انتشار عقد
الوفاق وسقوط تلك المملكة العظيمة، وفي إيطاليا وفينسيا ساد الجوع إثر غلاء
الخبز وقلة الأعمال، فثار الشعب ينهب الأفران مقتحمًا حراب البوليس، وهجمت
النساء صارخات طالبات لهن ولأولادهن خبزاً، أما في فرنسا فقد مرت الزوبعة
السياسية مرور الزوابع الطبيعية على أعشاب الأرض تعبث بها ولا تجر ضرراً.
ويطول بنا المقال إن رمنا تفصيل تلك الحوادث السياسية الخطيرة. على أنه
لا بد من الإلماع إليها إلماعًا، يطلع قراء المنار على إجمال تفاصيلها الماضية،
ويكون توطئة للحوادث الآتية.
***
المسألة الصينية
قتل بعض أشقياء الصينيين بعض مراسلي الكاثوليك الألمان في البلاد
الصينية، فاتخذت ذلك ألمانيا وسيلة إلى احتلال ثغر من أهم الثغور الصينية يدعى
كياوتشو، أنفذت إليه أسطولها في الشرق الأقصى فاحتله بلا حرب ولا نزاع؛ لأن
الحامية الصينية غادرته حين علمت بقصد الجنود الألمانية. ثم احتل الأسطول
الروسي بورت آرثر مقابل احتلال الألمان لكياوتشو، فأرغت اليابان وأزبدت،
وقامت إنكلترا وقعدت، وأنفذت الدول بوارجها إلى مياه الصين تباعًا، حتى حسب
الناس أن الحرب صارت أقرب من حبل الوريد وظنوا أنه قد حان تقسيم تلك
المملكة الواسعة.
ثم بان أن الدول لا تنوي التقسيم، لما يحول دون ذلك من الموانع السياسية،
وطلبت الصين قرضًا، فتنازع روسيا وإنكلترا عقد هذا القرض، واشترطت إنكلترا
على الصين شروطًا أهمها: فتح تاليان وان، فأثار ذلك تأثر روسيا، وآذنت الصين
بأنها إن هي فتحت (تاليان وان) أساءت الروسية معاملتها، فتنازع الصين عاملان
قويان، فباتت لا تعلم أيهما تعمل، حتى جاء يوم قيل فيه: إن إنكلترا أرجأت
البحث في فتح (تاليان وان) إلى فرصة أخرى. وقد وافت الرسائل البرقية في
الأسبوع الماضي تقول: إن الصين إجابة لطلب اليابان سألت روسيا عما إذا كان
ينسحب أسطولها من بورت آرثر في فصل الربيع، فأجابت روسيا: إن في
احتلالها بورت آرثر مصلحة للصين وكوريا معًا. ثم جاء أن روسيا تلح على
الصين بأن تؤجر هاربورت آرثر وتاليان وان إلى 99 سنة، كما أجرت ألمانيا ثغر
كياوتشو وأنظرتها خمسة أيام، فإذا انقضت ولم تجبها الصين إلى طلبها عملت
روسيا في الصين عملاً عسكريًّا. فقامت التيمس بعد هذا الإنذار تقول: إن إنكلترا
منذ حرب القريم لم تكن يومًا أفرغ صبرًا مما هي الآن، وخطب ناظر البحرية في
مجلس العموم عند عرضه ميزانية البحرية فقال: إن الأسطول في غاية الاستعداد
فإن بقيت السلم كانت سلمًا شريفة، وإن نشبت الحرب (لا قدر الله) خرج
الأسطول ظافراً. أما ناظر الخارجية الإنكليزية فقد صرح أنه لا يرى دليلاً على ما
قيل من أن روسيا قدمت للصين إنذارًا. والله أعلم بمصير المسألة الصينية.
***
المسائل الإفريقية
قلنا: (المسائل الإفريقية) لا المسألة؛ لأن المشاكل في إفريقيا متعددة. أولها
حملة مصر على الدراويش. ثم الحملة الفرنساوية في النيل الأعلى. ثم ثورة أوغندا
ثم مسألة النيجر بين الفرنساويين والإنكليز. ثم مسألة الترنسفال بين البوير
والإنكليز أيضًا.
أما الحملة المصرية، فسنفرد للبحث في أمورها مقالات خصوصية، وأما
الحملة الفرنسية السائرة في مجاهل إفريقيا بقيادة الضابط الباسل مرشان، فلا يعلم
أحد الغرض الذي ترمي إليه حتى الآن. والمشهور أنها زاحفة لاحتلال الأراضي
التي وراء بحر الغزال في أعلى النيل، وبما أن تلك الأراضي هي غرض إنكلترا
أيضاً فالمنتظر أن تقوم قائمة الخلاف والنزاع بين الدولتين بشأن تلك الأصقاع في
وقت قريب. وقد أنفذت إنكلترا من جهة أوغندا إلى أعالي النيل من شهور عديدة
حملة إنكليزية بقيادة الماجور مكدونالد، غير أن تلك الحملة ما قطعت مسافة قصيرة
حتى ثار رجالها وهم من السودانيين على القائد مكدونالد، فتحصنوا في حصن هناك،
فحاصرهم الماجور قمعًا لثورتهم وإرغامًا لأنوفهم، ولطلب المدد تشديدًا للحصار،
غير أن السودانيين رأوا من المحاصرين غفلة، ففروا من الحصن ونجوا بأنفسهم،
فرجع مكدونالد أدراجه، ولم يزل مرشان يغذ السير إلى غرضه بخطى واسعة.
وأشيع يومئذ أن حملة مرشان قد ذبحت عن آخرها، غير أنه ظهر بعد ذلك أن هذا
الخبر كان مكذوبًا. هذا ويرى البعض أن احتلال فرنسا أعالي النيل سيكون بداية
فتح المسألة المصرية.
وأما الخلاف الذي بين فرنسا وإنكلترا بشأن النيجر فهو ناشِئ عن طمع كل
من الدولتين في تلك الأراضي واختلافهما على تحديد أملاكهما فيها. ويقول
الفرنسيون: إن شركة النيجر منشأ ذلك الخلاف كله، وقد عقدت في باريس من عهد
قريب لجنة من الإنكليز والفرنسيين للبحث في دعاوى الطرفين وحل تلك المشاكل
بالطريقة الودية. وقد أضيف في الأسبوع الماضي مشكلة جديدة إلى تلك المشاكل
القديمة، فإن حملة الفرنسيين اجتازت نهر النيجر وحاولت الزحف على أرض تقول
إنكلترا: إنها تحت حمايتها، وقد أمدت إنكلترا سلطان تلك الأرض بجند يساعده
على إرجاع الفرنساويين على أعقابهم، ولم يرد بعد ذلك نبأ جديد.
وأما الخلاف بشأن الترنسفال فمَنْشَؤُهُ طموح إنكلترا إلى تقييد تلك الجمهورية
الصغيرة بقيود سيطرتها، وقد نظم دكتور إنكليزي يدعى جمسن حملة هجم بها على
تلك الجمهورية على حين غفلة، فالتقتها سيوف البوير ونالت منها ما نالته سيوف
الأحباش في موقعة عدوه من الطليان، ولا يزال مستر شامبرلين وزير المستعمرات
الإنكليزية يؤكد لتلك الجمهورية، حتى الآن أنها تحت الحماية الإنكليزية. ولعمر
الحق إن إمبراطورية الأحباش وجمهورية الترنسفال قد أظهرتا بأسلوب عجيب
مقدرة الشرقيين على الدفاع عن حريتهم واستقتالهم في سبيل ذلك الدفاع
الشريف.
وسنتكلم فيما يلي من الأعداد على بقية المشاكل السياسية.
***
الحبشة
بنى السيف في القرن التاسع عشر إمبراطوريتين عظيمتين؛ الأولى:
الإمبراطورية الألمانية، والثانية: الإمبراطورية الحبشية.
فإن تسليم سيدان وباريز ألبس غليوم الأول تاج الإمبراطورية الألمانية،
وانتصار الأحباش على الطليان في موقعة عدوه أنال منليك رئاسة الحبشة وجعله
إمبراطورًا على ملوكها المتحدة.
والحبشة أمة شرقية، قد أيقظها دوي مدافع الطليان من سباتها العميق، فهبت
إلى دخول التمدن من أبوابه، ولا يبعد أن نراها بعد خمسين سنة تضاهي شقيقتها
اليابان الشرقية قوة ومنعة وعزًّا. وإذا بلغت الحبشة مبلغ اليابان كان ذلك دليلاً ثانيًا
على استعداد الشرقيين للتقدم العصري والارتقاء، وعلى قابليتهم للانتظام ومقدرتهم
على الثبات خلافًا لما يشيعه عنهم الأخصام.
وليس غرضنا الآن تبيان ما بلغته الحبشة وما ستبلغه من التقدم إن استمرت
على سيرها الحثيث.
وانما غرضنا ذكر حديث جرى في بورسعيد بين أحد مكاتبي الجرائد
الأوروبية والمسيو أتوجوزف سكرتير منليك الخاص، فإن في ذلك الحديث بعض
اللذة والفائدة، وهو بصور السؤال والجواب.
س: هل تحب مصر؟
ج: لا أحبها لأنها بلاد قوم لا يحبوننا، فهم يزعمون أن الحبشي ملك يدهم،
لذلك يسمونه " عبدا "
س: وما رأيك في الإنكليز؟
ج: لا نخشى لهم بأساً وحسبهم الآن الدراويش خصمًا. وإنا لا نحذر غير
الفرنساويين، ولو أنا انكسرنا في حربنا مع الطليان لبتنا طعمة للفرنساويين.
س: وما صنعتم بأسرى الطليان؟
ج: لقد عاملنا الجميع بكل رفق وتؤدة؛ لأن قوانين الحبشة تنهى عن مضايقة
الأسرى أو تعذيبهم، وقد أطلقنا سراحهم جميعهم، فرحل البعض بسلام إلى بلادهم،
وعلق البعض نساءنا فاستحبوا الإقامة عندنا. وقبل أن يطلق الطليان أسرانا سمعنا
أنهم أساءوا معاملتهم، فلم يحملنا ذلك على مقابلة الإساءة بالإساءة؛ لأنا نعتبر
الأسير مقدسًا، لا يجب أن يمس بسوء.
س: ما قولك فيما شاع من أن إنكلترا ستمنحكم زيلع على أن تلتزموا الحياد
في الحرب التي بين مصر والدراويش؟
ج: لا أعلم في ذلك شيئًا؛ لأني أجهل حوادث بلادي منذ سبعة أشهر، علمًا
أني لا أرى أفضل من الحياد في مثل هذا الظرف، فإن المتحاربين مسلمون، ولا
أرى ما يوجب علينا اختراط الحسام دفاعًا عن المسلمين.
س: وهل تحمل لجلالة الإمبراطور كثيرًا من الهدايا؟
ج: لقد بعث معي جلالة السلطان فرسين من الخيل الجياد، ونيشانًا باهرًا،
وبعث جلالة القيصر كلبي صيد وسيفًا ثمينًا وغير ذلك من الهدايا.
س: هل لك أن تتفضل عليّ بوصف هيئة الحكومة في بلادكم؟
ج: لا عندنا مجالس شورى ولا دستور ولا نواب، فإن جلالة الإمبراطور هو
الحاكم الأعلى وله مجلسان: عقلاء الشيوخ يستدعيهم عند الاقتضاء، وهناك محكمة
فيها قاض واحد لا يحكم في قضية إلا عند شهادة رجلين، أما القاتل فجزاؤه القتل،
وإن شاء الإمبراطور أن يعفو عن القاتل كان لعائلة المقتول أن تعترض على ذلك العفو
ولعائلة المقتول أن تنفذ بيدها حكم الإعدام.
س: وهل الملكة نبيهة متهذبة؟
ج: اسم جلالتها تايتيس أعني الشمس وهي نبيهة وشديدة الاهتمام بالآداب
العمومية.
س: بما أنك ذكرت لي معنى اسم الملكة فأرجو أن تذكر لي ما معنى اسم
(منليك) ؟
ج: إن تاريخ هذه الكلمة قديم، فقد جاء في التقاليد القديمة أن ملكة سبأ سمعت
بحكمة سليمان الحكيم، فوفدت عليه. ثم وضعت منه غلامًا فراعها ذلك فصاحت:
(ماذا يقول سليمان) . فقولها: (ماذا يقول) ترجمته في اللغة الحبشية (منليك) ،
ولذلك سمي به ابن ملكة سبأ.
س: ما عدد سكان الحبشة؟
ج: عددهم خمسة ملايين من الأحباش المسيحيين ومليونان ونصف من
المسلمين، واثنا عشر مليونًا من الوثنيين.
س: وهل يعيش هؤلاء كلهم براحة وسلام؟
ج: يعيشون بالراحة الممكنة على أن الأرض مخصبة والهواء معتدل والحرية
مطلقة للجميع. أما الآداب العمومية فنقية؛ لأن الاهتمام بها عظيم. وفي المدن
الكبرى مدارس للفرير تربي الأولاد أحسن تربية.
س: نسيت أن أسألك عن نظام البوليس؟
ج: لا بوليس في الحبشة. فإن كلاًّ منا يحترم ملك الغير وحقوقه، وعنواننا
كلنا: (أغلق شفتيك وافتح بابك) - يريد: قلة الكلام وكثرة الضيافة. انتهى
على أن تلك الأمة الخارجة من غياهب الهمجية خروج الزهور من أكمامها، لا
تزال في ظلمة التعصب الديني والجهل الوخيم، لذلك لا تُحْسِن معاملة المسلمين من
رعاياها، على أنها ستعلم خطأها حين يسقط عن عينيها برقع الجهل والغباوة وما
سبب التعصب الذميم إلا الجهل الوخيم. اهـ من ترجمة بعض الكتاب.
هذا ما اخترناه من العدد الأول وما بعده إلا (الأخبار المحلية) وبرقيات
الأسبوع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________