الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجرائد
(وظائف أصحابها)
حالها في الشرق والغرب
لأصحاب الجرائد ثلاث وظائف لم تجتمع لطبقة من طبقات الناس، وهي التعليم
العام والخطابة العامة والاحتساب (الأمر بالعروف والنهي عن المنكر) وموضوع
تعليمهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم الأمة، حاكمها ومحكوميها، عالمها وجاهلها،
صانعها وزارعها وتاجرها. فهم الذين ينهجون للساسة طرق السياسة المثلى،
وينصبون لهم الأعلام والصُّوى، كيلا يضلوا في مجاهلها ويغتالوا في معاميها
وأغفالها، وهم الذين يبينون للقضاة والحكام خفايا القضايا وحقائق الواقعات،
مقرونة بما ينطبق عليها من أحكام الشرائع والقوانين، وهم الذين يصحبون أمراء
العساكر في إقامتهم، ويرافقون قواد الجيوش في غزواتهم فيشرحون لهم في الحل
والترحال حال جنودهم، وما يلزمها ويكونون لهم عيونًا يتجسسون لهم أخبار
أعدائهم، ويطلعونهم على خفايا أعمالهم، ويرسمون لهم (خرائط) البلاد التي
يطرقونها، ويصورون لهم طرقها ومضايقها وموارد المياه فيها، فالملوك والسلاطين
والقضاة والحكام والأمراء والقواد، في حاجة إليهم يقتبسون من علومهم ويغترفون
من عيالمهم (بحارهم) .
وهم الذين يرشدون الأساتذة والمعلمين إلى طرق التعليم القريبة، وأساليب
البحث المفيدة، ويوصلون إليهم ما اهتدى اليه أبناء صنفهم من الاستنباطات الحديثة
والاكتشافات الجديدة، وينتقدون مصنفاتهم، فيظهرون غثها من سمينها ويميزون
بين فاسدها وصحيحها، فيساعدونهم بذلك على تمحيص الحقائق وإظهار الدقائق،
فالعلماء والأساتذة تلامذتهم والمؤلفون عيال عليهم. وشأنهم مع الزراع والصناع
والتجار كشأنهم مع الأمراء والحكام والعلماء سواء بسواء.
وهم الذين يهدون الآباء والأمهات والقائمين على التربية إلى فضائل الأخلاق
وكرائم السجايا، وكيفية طبع النفوس عليها لتكون ملكات راسخة، كما يهدونهم إلى
كيفية التوقي من الصفات الذميمة والاحتراز من غوائلها والتملص من حبائلها، فهم
أساتذة الأمة في مجموعها وأصنافها وأفرادها، وهم الوصلة فيها بين الهيئة الحاكمة
والهيئة المحكومة لها يبينون لكل فريق الحقوق التي له والواجبات التي عليه بإزاء
الفريق الآخر، فصناعتهم أشرف الصناعات وعملهم أفضل الأعمال.
يتسع نطاق هذه الصناعة في الأمم باتساع عمرانها ورواج أسواق العلوم
والمعارف فيها وذلك ما نشاهده في الممالك الغربية، اتسع نطاق الصحافة فيها حتى
صار لكل صناعة ولكل فن جرائد مخصوصة لا تبحث إلا فيها وفيما هو من لوازمها،
وبديهي أن جريدة تقصر أبحاثها على موضوع واحد لا بد أن تبلغ منه غاية لا
يمكن أن تبلغها مع تعدد المواضيع وكثرة الأبحاث المختلفة، ومن هنا يتجلى أن هذه
الصناعة في الشرق أصعب منها في الغرب. ولو فرض أن القائمين عليها أكفاء
وفي درجة واحدة في الإنشاء والتحرير والمعارف، ومع أن البعد بين أصحاب
الجرائد في الخافقين كالبعد بين أممهما في العلوم والفنون. ترى هذه الصناعة عند
الغربيين تزداد ترقيًا وإتقانًا عامًا عن عام، حتى عزموا في هذه الأيام على أن
يجعلوا لمن يتصدى لإنشاء الجرائد دراسة مخصوصة، حتى إذا ما أتمها وأخذ
الشهادة المدرسية بها يؤذن له بالتصدي لهذا العمل العظيم.
هذه إشارة إلى ما عند القوم في ترقي هذه الصناعة، وأما عندنا فهي كما قيل:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
…
كلاها وحتى سامها كل مفلس
في بلاد الدولة العلية لا يعطى الامتياز إلا لقوم يشترط أن يكونوا في سن
مخصوصة، وعلى مقدرة مالية مخصوصة وسيرة أدبية معلومة، وهي شرائط
يحسن مراعاتها وإن كانت غير كافية، إلا أن المصيبة في سيرة القائمين على تنفيذ
القانون، فإنهم لا يعجزهم جعل المستحق غير مستحق وحرمانه من امتياز الجريدة
إذا طلبه، وإعطاؤه لغير المستحق له، فالشروط هناك ترجع إلى شرط واحد وهو بذل
الدراهم والدنانير، ولهم أعذار في رد طلب من يمسك يده عنهم: بعضها له شبهة
قانونية، وبعضها لا ينطبق على عقل ولا قانون، ولكنهم ليسوا بمسئولين، ومن
غريب هذه الأعذار ما وقع لمدير جريدتنا، فإنه طلب امتياز مطبعة وجريدة تسمى
(الفيحاء) في طرابلس الشام، وبعد استيفاء المعاملات القانونية لدى حكومة طرابلس
أعطي مضبطة من مجلس إدارة اللواء بأنه مستحق للامتياز قانونًا، وقد أخذت عليه
العهود اللازمة ورفعت أوراقه لوالي بيروت لأجل إعطائه أمرًا بما تقتضيه
المضبطة ليرفع الجميع إلى الآستانة العلية، فتربص الوالي بالأمر مدة طويلة لم
ير في غضونها إلحاحًا بالطلب
…
ثم بعد ذلك أجاب بأن إعطاء امتياز بالمطبعة لا مانع منه، وأما الامتياز
بالجريدة فهو غير جائز! (لأن طرابلس فيها جريدة فإذا صار فيها جريدة ثانية
يتعب المراقب لتلك الجريدة - السنسور - حيث يصير مكلفًا بمراقبة جريدتين!)
وهكذا اقتضت رحمة عطوفتلو رشيد بك وشفقته على المراقب الطرابلسي أن يحرم
الطالب من نيل رغيبته، وهو نسيب المراقب فياليت هذه الرحمة كانت عامة من
عطوفة الوالي لجميع الرعية، ولقد كان هذا الإفراط في الرحمة على رجل واحد
مدعاة الاستغراب من جميع الذين سمعوا العذر واختلفوا في العلة الحقيقية، فقال
بعضهم: إنها تقصير طالب الامتياز وعدم إرضاء الوالي. وقال آخرون: إن
صاحب جريدة طرابلس قد شق عليه وجود جريدة مزاحمة لجريدته في بلده فاتخذ
الوسائل التي لا ترد عند عطوفة الوالي لمنع إجابة الطلب، وعلى ذلك فقس.
وأما في مصر فقد أهملت بالنسبة للمطبوعات القوانين، وصار الناس فيها
فوضى، فهجم على إنشاء الجرائد من ليس في العير ولا في النفير، فصار
كالعرض المباح لكل أحد، ولا شك في أنه شر من العرض الذي يباع ويستأجر؛
لأن الأخير لا يخلو من بعض الصون والعزة، والتفاوت بهذا الاعتبار لا ينافي
ترقي بعض الجرائد في مصر عن الجرائد في سوريا، وفي الآستانة عمومًا، ولذلك
سببان:
أولهما: أن شدة الضغط هنالك على المطبوعات عامة وعلى الجرائد خاصة
واحتياج طالب امتياز الجريدة إلى ارتكاب جريمة الرشوة يصرف أفاضل الناس عن
الإقدام على هذا الأمر، فيبقى في غير أهله.
وثانيهما: أن فقد الحرية والإغراق في المراقبة والأخذ على الأيدي والإكراه
على مدح المذموم وذم الممدوح من شأنه إفساد الأخلاق وإضعاف الاستعداد،
والهبوط بالمعارف والفضائل إلى أسفل درك الانحطاط، وأَنَّى ينمو علم من هو
مضطر إلى كتمانه والعلم - كما قال سلفنا - لا يزكو إلا بالإنفاق؟ وكيف تبقى فضيلة
من هو مجبر على الكذب والنفاق، مع أن العمل هو الذي يطبع الملكات في النفوس؟
وإننا نعلم أن بعض من ابتلوا بهذه الصناعة (وأكثرهم ابتلي بها قبل هذا الضغط
الشديد) أصحاب فضائل، وهم يجاهدون أنفسهم ويودون التملص من هذا البلاء،
ولقد حاول صاحب جريدة الثمرات الفاضل ترك جريدته أكثر من مرة ولكن كان
يُلزمه بالصبر والثبات بعض أفاضل القارئين لها، وأشهد أنها أقرب الجرائد
السورية إلى الصدق وأبعدها عن التملق والنفاق، ولقد عهد في إدارتها وكتابتها
أخيرًا إلى من لم يخرج بها عن خطتها الأولى من التحري بقدر الإمكان.
هذا بعض نتائج الضغط وفقد الحرية، ولا يقل عنه الإفراط في الحرية،
فخير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. إن إهمال أمر المطبوعات في
مصر وترك الناس وشؤونهم فيها قد جاء بنتائج خسيسة، منها: تهجم السفهاء على
أصحاب المقامات الرفيعة بحق وبغير حق، ونشر الكلام المخل بالآداب والمضلل
للأفكار، حتى ارتفعت الثقة من كل جريدة تحدث ما لم يكن لها عون وظهير من
وجهاء البلاد. والنفور على أشده من الجرائد السياسية، وعسى أن يكون عن ترق
في الفكر فيدعو إلى الإعراض عما لا ينبغي والإقبال على ما ينبغي.
تردد بعض الجرائد الشكوى وتظهر التبرم من الحكومة؛ لأنها حكمت على
الكثيرين من أصحاب الجرائد في الدعاوي التي أقيمت عليهم، ولم تراع حقوق هذا
المنصب الشريف الذي هو إرشاد الأمم وهداية الشعوب، ولم تحفظ كرامة أصحابه.
والصواب: أن الحكومة المصرية مقصرة في تربية أصحاب الجرائد الذين تطفل
أكثرهم على هذا المنصب الشريف على غير استعداد فصيروه خسيسًا، فهم أهل
غواية وإغواء لا أهل هداية وإرشاد. جعلوا الجرائد سبابة شتامة كذابة أفاكة مذاعة
خداعة، يشترون بهذه الرذائل ثمنًا قليلاً. حتى صارت الجرائد العربية محتقرة
مرذولة، قال بعض الظرفاء الأذكياء: إن أصحاب الجرائد والمشتركين بها يصدق
عليهم قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) الأول
للأواخر، والآخر للأوائل. وقال صاحب السعادة مصطفى ذهني باشا متصرف
بولي (في ولاية قسطموني) عندما كان متصرفا في طرابلس الشام: إن الله تعالى
يكره لنا الاشتراك في الجرائد وابتياعها بدليل حديث البخاري الشريف (ويكره لكم
قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) وهذه المكروهات الثلاثة تجتمع في
الجرائد. ولكن إضاعة المشترك المال وأكل صاحب الجريدة السحت قد قل كل
منهما في هذا الوقت، فإننا نرى أكثر الجرائد تشكو من مماطلة المشتركين وليّهم في
الدفع، وإن كانوا واجدين.
فنسأل الحكومة المصرية مع السائلين أن تتلافى هذه الفوضى في المطبوعات
وتضع لها قانونًا عادلاً يوقف القائمين عليها عند حدودها، ويغل أيدي العابثين الذين
شوهوا وجهها ومثلوا بها شر تمثيل، فلا يليق بحكومة قانونية أن تترك أهم المصالح
الوطنية وأشرفها ألعوبة للاعبين وسخرية للساخرين، وإن وقعت الأمة من ذلك في
ضلال مبين.
_________
الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي
تقويم الأفكار
لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي
إن جهل الناس بكنه الحقائق لمما يقودهم إلى التخبط في السير والعماية في
الأفعال، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأحوال والارتباك في الأفكار، وبقدر ما يفيد
معرفة الحقيقة في الناس تعظم أهميتها ويكون الجهل بها من أشد الأضرار على
الأفراد ومن أقوى عوامل الانحطاط. لهذا كان من اللازم على كل أمة ناشئة أن
تجعل من أهم واجباتها تبيان الحقائق، خصوصًا ما كان منها متعلقًا بالنظام.
والجرائد بما لها من الانتشار وتعميمها الجهات المختلفة والأصقاع المتباعدة هي
التي تقوم ببث تلك الحقائق وكشف الغموض عنها، ولا سيما وأن الناس يألفون
مطالعتها وتشتاق نفوسهم إلى تلاوتها، ولا فرق في ذلك بين العامة منهم والخواص،
وهذه هي حكمة إنشاء الجرائد في الأمم، بيد أنه يلزم أن يكون القائمون بأمرها من
أحسن الناس سيرة في الأخلاق والصفات، وأوسعهم اطلاعًا في المعارف
والمعلومات، وأن يكونوا أكثر الناس اختبارًا بأحوال الأمم وأطوارها، هذا مع قوة في
التعبير وبلاغة في التحرير حتى يكون لكلامهم أثر في النفوس وسطوة على الأرواح،
فأرباب الجرائد في الحقيقة وعاظ الأمة ومرشدوها إلى ما يلزمها وما تحتاج إليه من
آداب وإصلاح حال، أما إذا تقلد بالأمر في الجرائد قوم سفهاء جهلاء، فإنهم يقودون
الأمة إلى مهاوي الجهالة، ويثبِّتون فيها عوامل الفساد والسفاهة، ويكونون أشد نكبة
على الناس، فإن العامة ببركة ما طبعوا عليه من السذاجة في الطباع يعتقدون أن ما
يقال في الجرائد هو حق مهما تنكر على نفوسهم، وأنه صواب مهما كان خطؤه
ثابتًا في قلوبهم، لهذا كان ما ينشر فيها من الباطل يظنونه حقًّا، وتتغير في عقولهم
معالم الحقائق، ويتخبط في خيالهم تصور اليقين، ويصبحون لا يصيرهم غير
التضليل والتمويه.
فالواجب على الأمة التي تطلب ارتقاءً أن يكون لمطبوعاتها قانون يوقف كل
فرد عند حده، وتحجر على المتطفلين على موائد التحرير أن يخطوا خطًّا واحدًا،
وتُعاقِب بأشد العقوبات من اقترف جناية التحرير إذا كان من غير أهلها؛ فإن الجناية
على الأخلاق لأشد مفسدة منها على الأجسام.
ما أحوج بلادنا اليوم إلى مثل هذا القانون! فإن الفساد الذي ظهر في أخلاق أمتنا هذه الأعوام سببه إطلاق السراح لبعض السفهاء في إنشاء الجرائد لكسب
الدراهم، وأصبح الفقير اللئيم الذي لا حيلة له في نيل معيشته يستعملها لجلب قوته،
فهو يهجو ويهذي ويهتك الأعراض ويقدح في الأديان لجلب القرش والدينار. فمثل
هؤلاء الأنذال يجب قطع دابرهم واستئصال شأفتهم وإبعادهم عن الأوطان كي لا
يضلوا الناس ويفسدوا الطباع. أين مقام هذه الجرائد السافلة من مقام الجرائد
الحقيقية التي تدعو الناس إلى التمسك بالفضائل، وتنبيهم إلى ترك الرذائل،
وترشدهم إلى استقامة الطباع والتمسك بالآداب، وتهديهم إلى إصلاح الأحوال وتنوير
الأفكار؟ هذه هي الجرائد التي يجب أن تنشر بين أفراد الأمة لتجني ثمارها وتنتفع
بآرائها وتعمل على هداها.
في بلادنا ثلاث حقائق عامة هي: الوطنية والحرية والسياسية، قد اختلفت
فيها أفهام الناس وتغيرت مُثلها في الخيالات، وما علموا إلى اليوم ماهياتها، اللهم إلا
اذا كانوا من الخواص والمتعلمين، وهذا جزء في الأمة قليل، وكان على أصحاب
الجرائد الصادقة اللهجة أن يجعلوا تبيانها للناس نصب أقلامهم، حتى يقف الناس
على مفهوماتها تمام الوقوف ولا يضلوا عن مبانيها ولا ينحرفوا في العمل عن جادتها.
فحقيقة الوطنية هي أن يحب الإنسان وطنه وبني جنسه إلى حد يحمله على
تفضيل فوائدهما على منافعه الشخصية، فالوطني هو الذي يجاهد بنفسه في إتيان ما
يفيد الوطن وأهله، وقد تغيرت حقيقة الوطنية في أذهان بعض الناس وتشكلت
بصور مختلفة. يعتقد بعض الناس أن الوطنية هي عبارة عن ألفاظ وأقوال لا يخرج
مؤداها عن دائرة أفواههم، فإذا دعوا إلى عمل يفيد الوطن وكان القيام بأعبائه يمس
دراهمهم قالوا: إنما نحن فقراء والله يتولى غنى الناس!! وإن دعوتهم إلى سعي
مبرور يعود بالفائدة على أفراد ملتهم ودينهم أطلقوا ألسنتهم على من طُلب السعي له
وقالوا: إنه غير جدير بالمساعدة ولا مستحق لها!! همم خامدة وقلوب محشوة
بالحِقد والنفرة لبني جنسهم، وأميال لا تلوي على شيء فيه نفع لبني جلدتهم، ومع
هذا يدَّعون أنهم الوطنيون وغيرهم المنافقون، أليس هذا من أشنع الجهل وأشد العار؟
هل هؤلاء فهموا معنى الوطنية؟ كلا فإن المعرفة الكاملة بالشيء تؤدي إلى تشبع
الذهن به، ومتى صار كذلك أصبح عقيدة راسخة تؤثر في حركات الجسم والحواس
فتجرى الأميال على ما تقتضيه تلك العقيدة، وإن ادعوا أنهم فهموا معنى الوطنية
وعملوا بضد ما يفهمون وقعوا في شر ما هم فيه؛ لأنهم حينئذ يسمون منافقين
وتكون أقوالهم وألفاظهم آلة لتنبه الناس إلى أنهم وطنيون وهم في الحقيقة مموهون،
وبعض الناس يعتقد أن الوطنية يكفي فيها تأليف جمعية يبثون فيها الأفكار ويذكرون
عن الوطن شيئًا وعن الآداب أشياء، ثم هم لا يلبثون أن تنحل رابطتهم ويتفرق
شملهم، وهؤلاء وإن كانوا يعملون شيئًا مفيدًا إلا أن انحلالهم سريع، وهم - في
الغالب - غير أَكْفَاء للقيام بأمر الجمعيات، فإن هذه تستلزم شروطًا لا تتوفر إلا في
أكابر الأمة وعظمائها، والقائمون بأمرها يلزم أن يكون لهم مادة غزيرة في العلوم
والآداب وصناعة في الخطابة والإلقاء، وأصحاب جمعياتنا ليسوا من هذه الطبقة،
ولا أتعرض في كلامي إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فإنها جمعية خارجة عن
موضوع كلامي بمقتضى موضوعها، فإن موضوعها مادي خيري، وحضرات
الأعضاء من كبار الأمة وعظمائها، لا يوجه إليهم طعن ولا يجوز عليهم لوم، وإنا
ندعو الله أن تدوم إلى ما شاء الله.
فالوطنية - على ما قدمنا - هي أن يكون الشخص غيورًا على بني جنسه،
محبًّا لخيرهم، معينًا لهم، يسعى في تقدمهم كما يسعى لنفسه، ويرقي في شؤونهم
كما يتمنى لأهله، ومتى جُمعت هذه الصفات وما شابهها في شخص عد وطنيًّا كاملاً
مفيدًا لوطنه.
الحقيقة الثانية: هي الحرية - يعتقد العامة أن الحرية هي إتيان الموبقات
جهاراً، وأن هذا كمال من الكمالات الأوروبية التي يجب أن يتحلوا بها! لهذا ترى
كثيرًا من الآداب التي كانت قبل شيوع هذا اللفظ قد انتهكت حرمتها وأصبح فساد
الطباع عامًّا في أخلاقهم، وأصبح هذا المعنى عقيدة من عقائدهم وقوي في أذهانهم،
وكم جر هذا إلى نقض الآداب وأدى إلى فقد رأس الخصال البشرية اللازمة للهيئة
الاجتماعية ونظام الإنسانية وهو خصلة الحياء، ولو علموا أن الحرية هي تخويل
الشخص الاختيار في أداء ما له وما عليه ليس إلا، لبُدل فساد الطباع بالارتقاء في
المدارك، وكانت الآداب اليوم راقية أوجها الأسمى، وطهارة الأخلاق مطمئنة في
برجها الأعلى، وكانت الناس في سعادة بدل هذا الشقاء. فترى من ذلك أن جهل
الناس ببعض الحقائق أدى بهم إلى الاعوجاج في الطباع والانقلاب في الأخلاق
وضياع الآداب، فلو قامت الجرائد الصادقة اللهجة تذكر الناس بما طرأ عليهم
وتنصحهم بتبيان المعاني التي جهلوها وأفسدت أحوالهم، حتى يقفوا على الحقيقة،
لكان خيرًا للناس وأفيد مما يسمعونه ويتلى عليهم، نعوذ بالله من الغواية ونسأله
الهداية، وسيأتي الكلام على معنى السياسة إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________