المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 جمادى الأولى - 1316ه - مجلة المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌التعريف بالمجلة

- ‌ترجمة صاحب المنار

- ‌التعريف بمنهج المنار

- ‌المجلد رقم (1)

- ‌شوال - 1315ه

- ‌مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار

- ‌فاتحة السنة الأولى للمنار

- ‌اصطلاحات كُتَّاب العصر

- ‌مشروع مفيد

- ‌مجمل الأحوال السياسية

- ‌29 شوال - 1315ه

- ‌محاورة في سعادة الأمة [

- ‌مجمل الأحوال السياسية

- ‌اليهود في فرنسا وفي مصر

- ‌7 ذو القعدة - 1315ه

- ‌التمدن

- ‌التعصب

- ‌الطبيب الدجال

- ‌ذو القعدة - 1315ه

- ‌تبصرة وذكرى لقوم يعقلون

- ‌سؤال وجواب

- ‌21 ذو القعدة - 1315ه

- ‌الموالد أو المعارض [*]

- ‌المنار في بلاد الشام

- ‌الشرقين الأدنى والأقصى

- ‌28 ذو القعدة - 1315ه

- ‌منكرات الموالد [*]

- ‌صدمة جديدة على اللغة العربية(1)

- ‌خبر واعتبار

- ‌رئيس الولايات المتحدة والحرب

- ‌5 ذو الحجة - 1315ه

- ‌كيف السبيل

- ‌صدمة جديدة على اللغة العربية(2)

- ‌رواية اليتيم

- ‌19 ذو الحجة - 1315ه

- ‌الأدب الصحيح [*]

- ‌سعي مشكور

- ‌26 ذو الحجة - 1315ه

- ‌ما أكثر القول وما أقل العمل [*]

- ‌الشعر والشعراء(1)

- ‌اكتشاف

- ‌الحرب

- ‌إحصاء الحجاج سنة 1315 [*]

- ‌منار عجيب

- ‌أنيس التلميذ [*]

- ‌المحرم - 1316ه

- ‌الاعتبار بما هو جار

- ‌الشعر والشعراء(2)

- ‌تونس

- ‌11 المحرم - 1316ه

- ‌كتاب الإسلام [*]

- ‌الشعر والشعراء(3)

- ‌18 المحرم - 1316ه

- ‌بهتان عظيم [*]

- ‌البوفيه وما فيه

- ‌دار السعادة

- ‌25 المحرم - 1316ه

- ‌صيحة حق [*]

- ‌القوة في المال

- ‌بيع سكك الحديد السودانية

- ‌رسالة التوحيد

- ‌أهم أخبار العدد (13)

- ‌2 صفر - 1316ه

- ‌النميمة والسعاية [*]

- ‌الدين والمدنية في الشرق

- ‌أخبار الآستانة

- ‌أهم الأخبار المحلية

- ‌9 صفر - 1316ه

- ‌المدارس الوطنية في الديار المصرية [*]

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة

- ‌الحرب بين أمريكا وأسبانيا

- ‌مراكش

- ‌مشاكل الدول

- ‌خلاصة البهجة

- ‌اختيار الوزراء

- ‌16 صفر - 1316ه

- ‌إلى أي تعليم وتربية نحن أحوج

- ‌محاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية

- ‌وظيفة الرسل عليهم السلام

- ‌إيران

- ‌تعصب اليونان واعتداؤهم على المسلمين

- ‌قضية البرنس أحمد سيف الدين بك

- ‌23 صفر - 1316ه

- ‌الجيوش الغربية المعنويةفي الفتوحات الشرقية [*]

- ‌الشعر العصري

- ‌المنار في سوريا

- ‌الحرب

- ‌30 صفر - 1316ه

- ‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة [*]

- ‌رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية

- ‌7 ربيع الأول - 1316ه

- ‌العلم والحرب [*]

- ‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

- ‌من نحالف

- ‌مقتبسات من الجرائد

- ‌14 ربيع الأول - 1316ه

- ‌نهضة مسلمي الهند(1)

- ‌مناقشة

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌طول الحيوة

- ‌شؤونات إسلامية

- ‌مراقبو الجرائد في سوريا

- ‌كريت

- ‌21 ربيع الأول - 1316ه

- ‌بارقة نجاح

- ‌نهضة مسلمي الهند(2)

- ‌تأثير الاعتقاد في العمل

- ‌رواية الفتاة الشركسية

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تقريظ المنار

- ‌مشائخ الطرق

- ‌هكذا فليكن

- ‌28 ربيع الأول - 1316ه

- ‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

- ‌ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [[*]

- ‌الشعر العصري

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌5 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

- ‌حالنا

- ‌الإسلام في الصين

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌12 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌عيد الجلوس الهمايوني [*]

- ‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

- ‌رأي في موضوع المنار

- ‌نصيحة في معالجة فضيحة

- ‌19 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌سجايا العلماء [*]

- ‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

- ‌العقيدة الإسلامية

- ‌مأثرة جليلة

- ‌26 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌التعصب [*](1)

- ‌اقتراح القيصر

- ‌ثورة السودان

- ‌متفرقات

- ‌3 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌التعصب [*](2)

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تصريح إنكلترا بامتلاك السودان

- ‌10 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌مقدمة كتاب الحكمة الشرعيةفي محاكمة القادرية والرفاعية [*]

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌17 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌الاتحاد [*]

- ‌التشبه والاقتداء

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تعصب أوربا على الدولة العلية

- ‌24 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌ما لا بد منه [*]

- ‌رسالة الحاسد والمحسود(للجاحظ)

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌2 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [[*]

- ‌رسالة الحاسد والمحسود(للجاحظ)

- ‌الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌9 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [[*]

- ‌الرسالة الحاتمية

- ‌(سوانح وبوارح)

- ‌رسالة التوحيد

- ‌جرائد سوريا المستعبَدة

- ‌المسلمون في جاوا

- ‌16 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌اليأس والرجاء في مصر

- ‌الإنصاف من مزايا الأشراف

- ‌عبرةالمنار وجريدة طرابلس

- ‌23 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌الجرائد(وظائف أصحابها)

- ‌أدبيات

- ‌شذرات علمية

- ‌كريت

- ‌5 رجب - 1316ه

- ‌ظلم الدول للمسلمين في كريت

- ‌الموسوعات

- ‌أدبيات

- ‌ما أشبه اليوم بالأمس

- ‌12 رجب - 1316ه

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌الإباء والصدق

- ‌آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس

- ‌انتقاد

- ‌19 رجب - 1316ه

- ‌فلسفة التربية الحقة [*]

- ‌شبهة وجوابها

- ‌المنار في بلاد البرازيل

- ‌الإصلاح في الدولة العلية

- ‌أخبار تونسيةملخصة من جريدة الحاضرة الغراء

- ‌26 رجب - 1316ه

- ‌الإصلاح المطلوب [*]

- ‌السعادة الحقيقية

- ‌الشعر العصري

- ‌عجيبة عجيبةأو العدل في القضاء

- ‌اقتراح على مجلس إدارة الأزهر الشريف

- ‌مدارس الخرطوم

- ‌3 شعبان - 1316ه

- ‌الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

- ‌ليلة المعراج

- ‌السعادة الحقيقية

- ‌الشعر العصري

- ‌تاريخ دول العرب والإسلام

- ‌إحياء سنة أو سننوإماتة بدع

- ‌10 شعبان - 1316ه

- ‌الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

- ‌الغرب الأقصى

- ‌خطبة ناظر خارجية ألمانيا

- ‌17 شعبان - 1316ه

- ‌مستقبل الإسلام [*]

- ‌عالم قريشالإمام محمد بن إدريس الشافعي

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌24 شعبان - 1316ه

- ‌محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر [*]

- ‌انتشار الإسلام

- ‌خطاب اللورد كرومر

- ‌وميض لمع في ظلمات بدع

- ‌2 رمضان - 1316ه

- ‌رمضان المبارك [*]

- ‌سيرة الإمام الشافعي

- ‌موافقة وانتقاد

- ‌الاستعمار الأوربي

- ‌9 رمضان - 1316ه

- ‌بسمارك والدين [*]

- ‌الجزية والإسلام

- ‌الاختلاف والتفرق في الدين

- ‌شكوى الزمان

- ‌أيها المسلم

- ‌الحكم بالشريعة في السودان

- ‌بغداد والتجارة

- ‌التقاريظ

- ‌16 رمضان - 1316ه

- ‌مَن المسئول الحكومة أم الشعب

- ‌الجزية والإسلام

- ‌اسطقس الحق

- ‌مصاب مصر بالسودان

- ‌23 رمضان - 1316ه

- ‌الوعظ والوعاظ [*]

- ‌الإسلام والترقي

- ‌اسطقس الحق

- ‌الاعتقاد بالجمادات

- ‌عجائب أمريكا

- ‌الشعر عند الإنكليز

- ‌الجنسية العثمانية المصرية

- ‌المدرستان الروسيتان بطرابلس الشام

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌8 شوال - 1316ه

- ‌الصنائع والتربية والتعليم [*]

- ‌صلاة الجمعة في جامع عمرو

- ‌دمشق الشام

- ‌وعود فرنسا في تونس

- ‌فرنسا والسودان

- ‌إنكلترا والسودان

- ‌الصوم والفطر

- ‌تنازع أوربا الممالك الإسلامية

- ‌سلطانا العثمانيين والمغرب الأقصى

- ‌15 شوال - 1316ه

- ‌القوة والقانون [*]

- ‌حجة ناهضة وشبهة داحضة

- ‌ملوك المسلمين والتاريخ

- ‌ولي العهد للخديوية المصرية

- ‌ليلة الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌حرية الجرائد في السودان

- ‌22 شوال - 1316ه

- ‌الأُخوَّة والصداقة [*]

- ‌الاشتراكية والدين

- ‌الإصلاح الإسلامي والجرائد

- ‌منتدى سمر

- ‌خاتمة السنة الأولى للمنار

الفصل: ‌3 جمادى الأولى - 1316ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، الذي جعل إرادة بعض عباده،

من أسباب إنفاذ مراده، فهم بقوة الإرادة يمتازون، وبحسن توجيهها للمرادات

يتفاضلون، فلولا الإرادة الإنسانية العجيبة لَمَا أشرقت شموس العلوم والعرفان،

ولولاها لما ظهرت ثمراتها العملية في الأكوان، والصلاة والسلام على أفضل

مريد ومراد، وأكمل مظهر للمشيئة الإلهية في العباد، سيد المصلحين، وخاتم النبيين

والمرسلين، المرسَل - وهو الأمي - ليعلم الأميين والمتعلمين، والمبعوث وهو

العربي إلى جميع العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه

المتقين، ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة

1315 وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه، وهو مسائل كثيرة يجمعها

الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية هي ومَن يعيش معها، وتتصل

مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر

في كل قطر وكل عصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من

الخرافات إليه، وهو عمل قد ملأ في عالم الصحافة الشرقية فراغًا، وأشرع لطلاب

الارتقاء من الأمة منهاجا، كان (المنار) فيه - على رأيهم - سراجًا وهاجًا، ظهر

على شدة حاجة الأمة إليه، واستعداد هذا القطر لظهور مثله فيه، ولكنه على هذا

وذاك بدأ كالإسلام غريبًا، وممقوتًا من السواد الأعظم لا محبوبًا، يعشي نوره

خفافيش البدع والخرافات، الذين ألفوا تلك الظلمات، حتى قال لنا خاتمة شيوخنا

الأستاذ الإمام: (إن الحق يظهر في المنار عُريانًا في الغالب ليس عليه شيء من

الحُلي والحُلل التي تجذب إليه أنظار مَن لم يألفوا الحق لذاته) ، وكتب إلينا أول

شيوخنا الشيخ حسين الجسر في 28 ذي القعدة سنة 1315 ما نصه جوابًا عن كتاب:

(وصلني كتابكم الكريم بعد مضي أشهر من وصولكم لمصر معتذرًا عن

تأخره، فقبلت العذر ودعوت لكم بالتوفيق، وأعقب وصوله ظهور المنار ساطعًا

بأنوار غريبة مرغوبة، إلا أنها مؤلفة من أشعة قوية كادت تذهب بالأبصار)

إلى آخر ما كتبه، وفيه انتقاد لبعض المسائل أجبناه عنها، مبينين له ما عندنا من

الحجج عليها، وأنباء بمقاومة الحكومة العثمانية للمنار، وكان ذلك كما قال.

إنني لم أُنْشِئْ المنار ابتغاء ثروة أَتَأَثَّلها، ولا رتبة من أمير أو سلطان أتجمل

بها، ولا جاه عند العامة أو الخاصة أباهي به الأقران، وأباري به أعلياء الشان،

بل لأنه فرض من الفروض يرجى النفع من إقامته، وتأثم الأمة كلها بتركه، فلم

أكن أبالي بشيء إلا قول الحق والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، فكنت إن أصبت هذا بحسب علمي واجتهادي فسيان رضي الناس أم

سخطوا، مدحوا أم ذموا، قبلوا المنار أم رفضوا.

طبعت من الصحف الأولى ألفًا وخمس مائة نسخة من كل عدد، وأرسلت

أكثرها إلى من عرفت أسماءهم في البلاد المصرية والسورية، وكذا في غيرها من

البلاد (وهو الأقل) ، فأعيد إليّ أكثر ما أرسلته إلى المصريين، وما نشبت الحكومة

الحميدة أن منعت ما يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، ثم جعلت عدد المطبوع

ألف نسخة، ولكن مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون على ثلث

الألف إلا قليلاً.

ما كان انتقاص عملي منتقصًا شيئًا من أملي، ولا زهد الأمة في المنار، باعثًا

على جعله طعامًا للنار، ولا لفائف لبضائع التجار، كما هي سنة أصحاب الصحف

في هذه الديار [1] ، بل كنت أحرص عليه، حاسبًا أن الناس سيعودون إليه.

وكان يمدني في أملي هذا ما أسمعه من بعض أهل الرأي والعلم بشؤون

الاجتماع، من القول بأن هذا المنار حاجة من الحاجات الطبيعية للمسلمين في هذا

العصر، لا يستغني عنه بيت من البيوت، فإن لم يفقهوه هذا اليوم فسيفقهونه في

يوم ما، وقد اتفق رجلان من غير المسلمين في كلمة حددا بها الأجل لذلك اليوم

المجهول، أحدهما إنكليزي كان يقرأ له المنار محمود سامي باشا البارودي والآخر

سوري من قرائه، قالا كلمتهما التي تواردت عليها خواطرهما، ولا تعارف بينهما،

قالا: (إن المسلمين سيبحثون عن هذا المنار ويعنون بإعادة طبعه بعد خمسين سنة) .

وإن أدري أكانا يظنان حين قالا كلمتهما أن المسلمين لا يستيقظون لطلب هذا

الإصلاح إلا بعد خمسين سنة، أم كانا يعنيان أن المنار لا بد أن يكون قد بطل في

هذه المدة بموت صاحبه أو عجزه، فيبحث الناس عنه؛ لأنهم في الغالب لا يعرفون

قيمة الشيء إلا بفقده، ولا يعترفون بقدر العامل إلا من بعده.

لعل المسلمين خير مما ظنا فيهم، ولعل الأجل الذي ضرباه أقرب مما حدده

رأيهما، فها نحن أولاء قد أعدنا طبع مجموعة السنة الأولى، ويوشك أن نعيد طبع

الثانية والثالثة أيضًا فقد قلّت نسخهما وغلا ثمنهما.

كانت السنة الخامسة للمنار (سنة 1320هـ) مبدأ رواجه وسعة

انتشاره، فمنذ ذلك العهد صار بعض طلاب الاشتراك يطلبون مجموعات السنين

الماضية، كما يطلبها بعض المشتركين السابقين رغبة في حفظ المنار من أوله،

وضنًّا به أن يضيع شيء منه، حتى إذا قلّت مجموعات السنة الأولى رفعت الإدارة

ثمنها حتى صارت تباع المجموعة الكاملة من تلك السنة بمائتي قرش، أي بأربعة

أضعاف ثمنها الأصلي، وبِيعت المجموعة الناقصة بضعة أعداد فأكثر إلى 12

و13 عددًا بمائة قرش، ولما لم يبقَ عندنا مجموعة معدة للبيع إلا وهي ناقصة أكثر

من 15 عددًا، وكثر الطلب واقترح علينا إعادة طبع السنة كلها، شرعنا في

طبعها في النصف الأول من سنة 1325، وهي السنة العاشرة، وقد تم الطبع في

النصف الأول من هذه السنة وهي السنة الثانية عشرة.

كان المنار في السنة الأولى من عمره جريدة أسبوعية ذات ثمان صفحات

كبيرة، وكنا ننشر فيه برقيات الأسبوع وبعض الأخبار التي ليست كلها ذات فائدة

تحفظ وتدخر وإن لم تخلُ من فائدة في وقت نشرها لبعض القراء. وقد أعدنا طبعه

بشكل المجلة التي هي عليه منذ السنة الثانية، ولم نحذف منه إلا البرقيات وبعض

الأخبار التي لا فائدة في تدوينها وحفظها، وأما الأخبار التي فيها عبرة دائمة أو

فائدة تاريخية أو غير تاريخية فقد أبقيناها، وحذفنا منه أيضًا نبذ رسالة (قليل

من الحقائق عن تركيا) المترجمة عن الإنكليزية لقلة الثقة بأخبارها. وسندقق

النظر فيها، فإن وجدناها حَريَّة بالحفظ والتخليد أثبتنا ما حذفناه من السنة الأولى في

الطبعة الثانية للسنة الثانية متصلاً ببقيته فيها، وإلا حذفنا باقيها من طبعة السنة الثانية

أيضًا، ومع هذا جاء المجلد الأول في حجم المجلدات الأخيرة يناهز ألف

صفحة.

طبعنا أعداد السنة على ترتيب الأصل، فمن أراد أن يقرأ المقالات المتسلسلة

في موضوع واحد (كالمقالات التي عنوانها: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67) متصلة، فالفهرس يجمع له متفرقها بسهولة.

وقد أشرنا إلى أوائل الأعداد في الهامش عند المقالات الافتتاحية وفي أعلى الصفحات

كما هو ظاهر.

المنار في سنته الأولى والمنار في سِنِيه الأخيرة شَرَعٌ، ولو جاز لي أن

أضرب له مثلاً شرودًا يُشعر بالمدح، لقلت: (والشمس رأد الضحى كالشمس في

الطفل) ، نعم، لا فصل بين أوله وآخره في موضوعه وغايته ومسائله، ولكنا كنا

نكثر في السنة الأولى من الخطابيات، لتنبيه الأذهان وإعدادها لما هو آت، ونكتفي

في أكثر المسائل بالإجمال، لتتهيأ النفوس لطلب التفصيل، وقلما جرينا فيها على

شيء ثم تَبيَّنَ لنا خَطَؤُنا فيه إلا ما أشرنا إليه في هوامش هذه الطبعة وأكثره في

المسائل السياسية، المتعلقة بحال الدولة العلية، ومن البديهي أننا ازددنا علمًا وخُبْرًا

في جميع المسائل بطول البحث والتمحيص والوقوف على آراء الناس وأحوالهم.

قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة

من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة - قوارع

تصخُّ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعُّ

العقول إلى إطالة الفكر في الخطْبين: الغائب والعتيد، والخطرين: القريب والبعيد،

وهما: عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب

الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية

أولئك المخاطَبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم

وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست

بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد،

يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.

راجع تلك السور العزيزة لا سيما قصار المفصَّل منها ك ? {الْحَاقَّةُ *

مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1-2)، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ،

و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1)، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ،

و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار:1)، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)

و {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1)، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ

غَرْقاً} (النازعات: 1) .

تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من

سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) ، {أَلَا إِنَّهُمْ

يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا

يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في

الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا

إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23)

إلى 37 منها، وقوله بعد إباحة

الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا

ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً

وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .

تدبر هذا ثم أَجِلْ طرفك في فاتحة المنار الأولى، وفي أكثر المقالات

الافتتاحية [2] تجدها زواجر منبّهة، وبينات في الإصلاح مجملة، ترشد المسلمين

إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم الخطر المهدد لهم في استقبالهم، وتذكرهم بما

فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوا من مجد آبائهم الأولين،

تزعجهم إلى استرداد ما فقدوا، وإيجاد ما لم يجدوا، بطريق الإجمال، في أكثر

الأقوال، وما جاء في سائر السنين فهو من قبيل التفصيل، أو إقامة البرهان

والدليل، على تلك الدعوة الإجمالية، والمقالات الافتتاحية، وترى بهذا كله اقتباس

المنار لهدي الكتاب العزيز واتباعه لسنته في الترتيب كاتباعه له في المسائل

والأحكام، والحمد لله على ذلك.

كان لتلك المقالات الخطابية الاجتماعية والفلسفية تأثير عظيم في نفوس

القارئين: فمن مبالغ في الاستحسان، كأن يطالب بعد الإقلال منها أن نعود إليها [3] ،

ومن مبالغ في الاستهجان يقول: قد بين عيوبنا وجهلنا للأجانب، ويكتبون

إلينا أن نترك مثلها [4] ولكن لم يكن يسكت عن الجمهور غضبه علينا، ويقل خوضه

فينا، حتى رأينا كثيرًا من كُتاب المسلمين وخطبائهم قد تلوا تلونا، واحتذوا في

انتقاد حال المسلمين حذونا، حتى صار ذلك في الجرائد مألوفًا، وأصبح منكره عند

الأكثرين معروفًا، ولكن معظم كلامهم في الداء، من غير بيان للعلاج والدواء.

أما المنار فكان يصف العلاج لأمراض الأمة بالإجمال، ثم بالتفصيل

والاستدلال، والغرض من كل ذلك إعداد النفوس للعمل العظيم الذي نرجو أن يكون

قد قرب زمانه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 4-5) .

هذا ما أردت بيانه في مقدمة الطبعة الثانية للسنة الأولى. والله الموفق وبه

المستعان. وكُتب في رمضان سنة 1327.

...

...

...

...

مُنْشِئ المنار

...

...

...

... محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

يبيع أصحاب الصحف ما زاد عن حاجة المشتركين والمبتاعين من صحفهم إلى التجار وأصحاب الأفران! .

(2)

راجع مقالات القول الفصل ص 31 وصيحة حق ص 217 والمدارس الوطنية 256 وإلى أي تربية وتعليم نحن أحوج 278، والجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية 299، والعلم والحرب 341، والسلطتان الروحية والسياسية 404، والمقالات المفتتحة بالآيات في ص 585 و 606 وما يتبعها، ومقالات الإصلاح الديني والسياسي، وغير ذلك إلخ.

(3)

من أعظم هؤلاء قدرًا: السيد مهدي خان محسن الملك نواب بهادر وناظم مدرسة العلوم في عليكده بالهند رحمه الله .

(4)

من أشهر هؤلاء الشيخ أبو الهدى الصيادي والشيخ حسين الجسر رحمه الله .

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الأولى للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت

وإليه أنيب.

أما بعد: فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين، ونداء حق يقرع مع سمع

الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين، ينادي من مكان قريب يسمعه الشرقي

والغربي، ويطير به البخار فيتناوله التركي والفارسي.

يقول: أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك

حسبك! فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماءً أو موتاً زؤاماً، تنبه من

رقادك، وامسح النوم عن عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بُدِّلت الأرض

غير الأرض، ودخل الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير.

فهذه الجمادات تتكلم بغير لسان، وتكتب من غير قلم ولا بنان، والوحوش

حُشرت مع الأنعام، والمراكب تجوب السهوب والفيافي وتفترع الأعلام، بل طارت

في الهواء تسابق الرياح، وتساهم ذوات الجناح، واستولى أخوك المستيقظ على

قوى الطبيعة، فقرن بين الماء والنار، وولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور

فاخترق بذلك الجبال، واختبر أعماق البحار، وعرف مساحة الهواء، ونفذت أشعة

بصره الكثائف، ووصلت أمواج صوته إلى كل مكان سحيق، فقرب أبعاد الأرض

وجمع بين أقطارها، بل عرج بهمته للقبة الفلكية فعرف الكواكب ومدارها، ومادتها

ومقدارها.

حسبك حسبك! هُب من سباتك واستيقظ من هجوعك، فقد ولت حنادس

الجهالة، وأشرقت شمس المعرفة، انظر وتأمل ماذا يفعل أخوك المستيقظ يدكّ

الحصون والصياصي، ويقوض المعاقل والهياكل، وهو متكئ على أريكته ينظر

إليها بالآلة المقربة للبعيد، ويقيم الحصون والأسوار، ويشيد البوارج والأبراج،

ولا يتعب له عضل، ولا يندى له جبين، ولا يحتاج في أمثال هذه الأعمال العظيمة

إلا إلى إشارة لطيفة، وحركة خفيفة، فالطبيعة تخضع لإشارته، وتسير طوع يمينه،

فيتم له كل ما يريد. لا يهولنَّك ما تسمع، ولا يروعنك ما ترى، واعلم أن هذا

العصر عصر العلم والعمل، فمن علم وعمل ساد، ومن جهل وكسل باد، {مَا

أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) .

كانت العلوم الطبيعية على عهد أسلافك أفكارًا متضاربة، وآراءً متناقضة،

وأقوالاً متعارضة، لم تأتِ عن امتحان وعمل، ولم يكد يُبْنَى عليها عمل؛ ولذلك

كثر ذامّوها، وقلّ مادحوها، وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته العمل، أو

بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه، لا يعول عليه، فالأعمال

تنمي العلوم، والعلوم تمد الأعمال، وشاهد ذلك عندك الحديث الشريف: (مَن عمل

بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) قاعدة وُضعت في الشرق، واهتدى للانتفاع

بعمومها أهل الغرب، والذين صدرت بلُغتهم لاهون غافلون. فلا تضيع أوقاتك

بالتخيل والتفكر، ولا تجعل حظك من حياتك الأماني والتشهي، ولا تدع للأوهام في

ذهنك مجالاً واسعًا ومكانًا فسيحاً {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء: 123) ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ

لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .

فعليك بالعلم والعمل رُضْ بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حَلَّ من

لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراقُ

بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض

منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة مَن

تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم

التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله،

والقنوط من رحمته جل علاه - هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال،

فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، فالجريدة تكون وصلة بينهم وبين

الأمة، تبعث بإرشادهم روح الهمة في أفرادها، وتحيي ميت الغيرة من نفوس

آحادها. وتجاري الحُدَاة لدى السير في مناهج الترقي، وتنتصب (منارًا) في

أخرات الشبهات، ومجاهيل المشكلات.

وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء

والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة

والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة

في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي

مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم

الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل،

حتى صار الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً،

ومعرفة الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون

والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة

والمهانة تواضعًا، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضًا وتسليمًا، والتقليد الأعمى

لكل متقدم علمًا وإيقانًا.

تُشَخِّص هذه الأمراض الروحية وأشباهها، وتوضح عللها وتصف علاجها،

وتجتهد في تأليف القلوب المتنافرة، ووصل العلائق المتقطِّعة، وجمع الكلمة

المتفرقة ما استطاعت، وتحاول إقناع أرباب النحل المتباينة، والمذاهب المختلفة -

أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وأن المعارضة

والمناهضة، والمناصبة والمواثبة - تُفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على

هدي الأديان. وتحث على التمسك بالدين، وتبين أنه أساس السعادة وأن الكفر فساد

العمران، وتدرأ الشبه الواردة على الشريعة الإسلامية، وتدحض مزاعم مَن قال:

إنها حجاب كثيف، وسد حائل بين الآخذين بها وبين المدنية الصحيحة، لجهلهم بما

انطوت عليه من الحكم الرائعة، والأحكام العادلة، وترشد العاملين إلى أن محاولة

الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية جهل وحرمان، وأن مراعاة السنن

الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية - كافية بتوفيق الله تعالى لبلوغ كل مقصد،

ونيل كل مرام، وتنبه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران،

وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوربا في الفنون والصنائع، لا على الملوك

والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر

المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم، وتنشر

محاسن اللغة العربية بالتحلي بفرائدها واقتناص أوابدها، وتقييد شواردها، على

سبيل التدرج في الاستعمال. ولا تأتلي أن تذكر ما تفيد معرفته من أخبار السياسة

الخارجية، وتثبت ما يهم بيانه من الحوادث المحلية، مع انتقاء الصادق والاعتدال،

لا تميل مع ريح حزب من الأحزاب، ولا تتطرف لجانب تفريط أو إفراط،

بحسب ما يصل إليه الاجتهاد. لكنها عثمانية المشرب، حميدية اللهجة، تحامي عن

الدولة العلية بحق، وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصدق، وتتحامى المطاعن

الشخصية، والأماديح الشعرية، لكنها لا تني في تقريظ الأعمال العامة الموضوع،

وتقريض الكتب المؤلفة لإفادة الجمهور بالقول الصحيح، والانتقاد الرجيح، وتقبل

الانتقاد الأدبي من كل أحد، وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع

بدره، ومن أين انبلج فجره، وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت.

هذا ما توجهت إليه النفس واعتزمت عليه بعد تصحيح النية وإخلاص القلب،

ولا أجهل أنني حاولت أمرًا جليلاً، وحملت نفسي عبأ ثقيلاً، ينوء بالعصبة أولي القوة

ويعوز إلى تأليف لجنة أو عقد جمعية، لكنني مع ذلك أعلم أن للحق أنصارًا،

وللصالحات أعضادًا تستمد الجريدة من بحار أفكارهم، وتغتذي بالكلم الطيب من

مجاني عرفانهم، وتستقي مداد الحكمة من أنابيب أقلامهم، ومن جراء هذا أو ذاك

مر عليَّ حين من الدهر بعد تصور الموضوع والعزم على الشروع، وأنا بين إقدام

وإحجام، ويأس ورجاء يحركني الباعثان، ويتنازعني العاملان حتى أعملت الأمل،

ورجحت الإقدام على العمل وما أجدرني بموقف الحيرة بين بين، وقد أنذرني بعض

عظماء هذا القطر، بما صدقه به الابتلاء والخبر، من أن الجد مرغوب عنه، لا

مرغوب فيه، وأن السواد الأعظم من الأمة قد ثار حابلهم على نابلهم، وهضم

مفضولهم حقوق فاضلهم، فأصبحوا ومطامح أنظارهم انتقاد الحكومة المحلية،

ومطارح أفكارهم العداوات الشخصية، ولا يديرون ألحاظهم، أو يعيرون التفاتهم لما

وراء الغميزة والإزراء، إلا ما كان من نكتة هزلية، أو رواية غرامية، فإذا رأوا

جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير

في العمل المفيد عمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها

لأيدي الأغيار، من المهطعين للاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى، ويضربوا

بها عرض الحائط، لكنني وطنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام، ومعاضدة

الأخيار، نعم إن الكرام قليل، ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة

العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج، وبالله المستعان وعليه التكلان، {وَمَن

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .

_________

ص: 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اصطلاحات كُتَّاب العصر

من القضايا المُسلَّمة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مندوحة عن مراعاة ما

يتواطؤ عليه الجمهور، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان

ومكان. وقد انطلقت ألسنة أهل هذا العصر، وجرت أقلامهم بألفاظ يريدون بها من

المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة أو في عرف العصور السالفة، ولهم ألفاظ

أخرى جاءتهم من الفنون الحادثة والاكتشافات الجديدة، والكثير منها مما لم تستعمله

العرب، فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين؛ لأن الكثير من

القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله، وبالمعنى الذي يفهمه العارفون،

وقد مر منها في فاتحة هذا العدد لفظ الطبيعة، والطبيعي، والنواميس الطبيعية ،

وقوى الطبيعة، والكفر.

أما لفظ (الطبيعة) : فقد كان فيما مضى مما لا يكاد يستعمله إلا الأطباء

والصوفية والفلاسفة، وأكثر من كان يستعمله الأطباء، ويطلق لفظ الطبيعة عندهم

على عدة معان: على الهيئة التركيبية، وعلى المزاج الخاص بالبدن، وعلى القوة

المدبرة، وعلى حركة النفس، وربما أطلقت (الطبيعة) على النفس الناطقة باعتبار

تدبيرها للبدن. والطبائع الأربع في عرف الأطباء والطبيعيين: الحرارة والبرودة

والرطوبة واليبوسة، وكان يطلق لقب الطبيعي على فرقة تعبد الطبائع الأربع،

وعلى من ينسب كل شيء للطبيعة، كما يطلق على صاحب العلم الطبيعي. وقد

عرف السيد الجرجاني (قدس سره)(الطبيعة) : بالقوة السارية في الأجسام، بها

يصل الجسم إلى كماله الطبيعي، وكان الصوفية يستعملونه في غير هذا المعنى

أيضًا، وليس بين يدي الآن شيء من كتبهم أراجعه في ذلك.

وأما لفظ (الطبيعة) اليوم فهو كثير الدوران على ألسنة جميع الكُتّاب في

الفنون العلمية والأدبية حتى الشعراء والمترسلين، ويجرونه على معناه اللغوي وهو:

المخلوقات أو الحالة التي هي عليها.

وبيان ذلك أن (الطبيعة) في اللغة بمعنى: الخلقة والخليقة والفطرة، فخلق

الله الأشياء وفطرها وطبعها بمعنى واحد، وإذا قلنا: إن هذا الشيء تقتضيه طبيعة

الاجتماع الإنساني، فهو كما إذا قلنا: تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها بلا

فرق، وحاصل القول: أن لفظ (الطبيعة) حيث أطلق فالمراد به الحالة التي طبع

الله الموجودات عليها أي خلقهم، وتطلق على الموجودات أنفسها، فيقال: تأمل

محاسن الطبيعة أي المخلوقات.

وأما (الطبيعي) فهو: المنسوب للطبيعة، كالخلقي نسبة للخلقة، ويستعمل

في مقابلة الصناعي، فيراد به ما لا صنع للبشر فيه أي في هيئته التركيبية،

كالأشجار والبحار، ويطلق على العالم بالفنون الطبيعية، وإن كان متديناً، ولا

يطلق على الملحد من حيث إنه ملحد، وإن نسب الأشياء للطبيعة واعتقد أنها مُوجِدَة

لها ومؤثرة فيها من دون الله تعالى، بل يطلقون على من هذا شأنه لفظ:(الكافر)

و (الدهري) و (المادي) (لأنه ينكر ما وراء المادة، فلا يعتقد بالإله ولا بالعالم

الآخر) وفي بلاد الهند يطلقون عليه لقب: (نيشري) ، وأكثر عامة بلادنا لا

يفهمون من لفظ الطبيعي إذا أطلق على إنسان إلا هذا المعنى الأخير، وهو الذي

حملنا على هذا البيان لئلا يحملوا كلامنا على ما يفهمون.

ويدور هذا اللفظ على الألسنة كثيراً في المحاورات المتعلقة بسائر الشؤون،

ويراد به مجرد التأكيد والتحقيق أو أن هذا الشيء ظاهر بالبداهة، تراهم عند سماع

شيء من المسلمات يقولون: هذا طبيعي، يعنون أنه بديهي أو محقق لا نزاع فيه،

وأما العلماء والكتاب فيعنون بقولهم: (هذا شيء طبيعي) : أن له سببًا طبيعيًّا يعلل

به.

وأما (النواميس الطبيعية) : فالمراد من الناموس: الطريقة الثابتة المطردة

التي يحكم الله تعالى بها على الكون، وهو محرف عن لفظ:(نومس) اليوناني،

ومعناه: الشريعة، وكثيرًا ما يدور على ألسنة الطبيعيين (شريعة الطبيعة)

و (الشرائع الطبيعية) ، ويستعمله كتاب العربية في المقالات الأدبية والسياسية،

مجاراة لهم وعملاً باصطلاحهم، وكان الأولى أن يترجم لفظ:(نومس) بالسنة،

فيقال: (سنة الطبيعة) و (السنن الطبيعية) ، وبعض الكتاب يستعمل هذا الحرف

وستراه كثيرًا في هذه الجريدة، وقد نعتاض عنه أحيانًا بقولنا:(سنة الكون)

و (السنن الإلهية) و (سنة الله في خلقه) .

وأما القوى الطبيعية فهي عبارة عما تسند إليه الآثار الطارئة على الأجسام من

حركة أو سكون، ومنها ما هو حقيقي كالقوة البخارية والكهربائية، وما هو فرض

كالجاذبية، فإن تعليل سقوط نحو الحجر من الهواء على الأرض بأنه سقط بقوة

الجاذبية التي في مركز الأرض يوهم أن هناك شيئًا موجودًا له هذا الفعل وأنهم

اطلعوا عليه وسموه بهذا الاسم، وليس كذلك، بل إن هذه القوة مفروضة، والتسمية

اصطلاحية، ولما كان الفعل الذي نُسِبَ إليها يَصْدُر عنها باطراد صح إطلاق لفظ

(الناموس) عليها فقالوا: (ناموس جاذبية الثقل) ، ومثل هذا كثير، وقد أطلنا في

البيان حتى كدنا نخرج عن المقصود.

وأما لفظ (الكفر) : فيطلق في عرف الكتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا

إليه في عرض كلامنا آنفًا، فمهما أطلقنا لقب (الكافر) أو اسم الكفر في كلامنا

فنريد به ما ذكرنا، ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل

الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا؛

لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره

علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر

في العصر الأول للملة على كل مخالف؛ فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا

الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة

ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه.

ذلك أن معنى (الكفر) في أصل اللغة: الستر والتغطية، وكانوا يسمون الليل

كافرًا؛ لأنه يغطي بظلامه الأشياء، وأطلقوا لفظ (الكافر) على طلع النخل،

وأكمام النور (الزهر) لما ذكر، وعلى البحر؛ لأن الشمس تغيب فيه بحسب

الظاهر، وعلى ثوب كانوا يلبسونه فوق الدرع يقولون له:(كافر الدروع) ، وقد

سمى القرآن العظيم الزراع كفارًا، كما هو المشهور في تفسير قوله تعالى {كَمَثَلِ

غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) وأمثال هذا في اللغة كثيرة، ويظهر

منها أن حقيقة الكفر تغطية المحسوس بالمحسوس، ثم أطلق على من لم يذعن للدين

ومن لم يشكر النعمة تجوزًا، وكل ما نقل من العبارات المستعملة من هذه المادة

يومئ إلى ما ذكرنا (راجع الأساس وغيره) .

وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على

صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) .

ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل

مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية

الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا

في الدين) ، وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة

بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر.

جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب

معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه) اهـ.

ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب

صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك

أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم

في كل حال، وسنفرد لهذه المباحث مقالات في الأعداد التالية إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 14

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع مفيد

سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

افتتحت جريدة المؤيد الغراء عددها (2421) الصادر يوم الأحد الماضي

برسالة وردت عليها من محرر جريدة (وكيل) في بنجاب من العمالات الهندية،

ونشرتها تحت هذا العنوان.

فرأينا أن نلخص منها ما يلي:

قال الفاضل الهندي: (ربما لا يخفاكم أن شركة إنكليزية تبذل جهدها وتعمل

بكل همة سعيًا للحصول على امتياز من الباب العالي بإنشاء خط حديدي من

بورسعيد إلى البصرة أو الكويت عن طريق الجوف) .

وفي شهر ديسمبر أشار كاتب في جريدة (وكيل) إلى مشروع جليل وهو أن تشكل لجنة تحت حماية جلالة مولانا السلطان الأعظم لفتح اكتتاب من المسلمين في جميع العالم لدفع غرامة الحرب الأخيرة إلى روسيا دفعة واحدة، فتخلص بذلك

الدولة العلية من تداخلها في أحوالها، أما أنا فلم أوافق على هذا الرأي؛ لأنه لا يمكن

لروسيا أن تطلب أكثر من 320000 جنيه في السنة لمدة مائة عام، ولو فرضنا

أن اللجنة المذكورة تنجح في عملها وتجمع المبالغ اللازمة لدفع الغرامة الروسية مرة

واحدة للزمنا أن ندفع لها مبلغًا إيراده السنوي 120000 جنيه دائمًا، مع أنه لا يمكن

لروسيا أن تطلب سوى المبلغ المذكور قبل لمدة مائة سنة.

ولكنني بينما كنت أناقش ذلك الكاتب في اقتراحه إذ لاح لي مشروع، وقد

كلفت به. ذلك أن تؤلف لجنة عالية تحت رعاية ومراقبة جلالة الخليفة الأعظم

لإنشاء سكة حديدية من البصرة، ومنها عن طريق الموصل إلى حلب فالإسكندرونة

ثم ينشأ خط من حلب إلى الشام فالحجاز فاليمن.

وحيث إن نفوذ جلالة الخليفة المعنوي يزداد انتشارًا شيئًا فشيئًا في جميع

أرجاء العالم الإسلامي، فلا شك أن كل مسلم عاقل ينضم إلى هذا المشروع ويساعد

في نجاحه، وفضلاً عن استعمال اللجنة لهذا النفوذ بقدر ما يصل إليه صوتها فإنه

يلزمها أن تعلن وترسل مندوبين لها إلى جميع الجهات التي يقطنها مسلمون كمصر

ومراكش وتونس والجزائر وسكوتو والهند وإيران والصين وتركستان وسومتره

وجاوه وغيرها.

فإذا نجحنا في عمل مهم كهذا كان أفضل واسطة لاتحاد جميع مسلمي العالم

البشري المنتشرين في الأرض، بل كان واسطة لجمع مبالغ كثيرة لعمل مفيد.

وإن ألوفًا من شبابنا - الذين هم الآن بلا شغل وعمل - يتمكنون بهذا المشروع من

الاشتغال بمعاشهم بافتتاح ممالك فسيحة للتجارة والزراعة والاستعمار. وتكون

مواصلاتنا مع الحجاز تامة وبغاية السهولة، فضلاً عن المنافع السياسية والحربية

والتجارية التي تحصل للباب العالي من تنفيذ هذا المشروع الجليل.

ولقد سردت أبواب هذه الفوائد المهمة في مقالة نشرتها في جريدة (وكيل)

بتاريخ 27 ديسمبر سنة 1897 ص 54 وأشرت على المقالة بالحبر الأحمر في

جميع النسخ التي أرسلت إلى الجرائد المصرية والتركية، مؤملاً أن تفصح هاته

الجرائد عن أفكارها في هذا الشأن، وأنها إن استحسنت اقتراحي عضدتني فيه بما

تستطيعه، وطلبت أيضاً من قنصل الدولة العلية تعضيدي فيه.

ولكني أتأسف من أن ما كتبته ذهب كالنقش على الماء، فلم يلتفت إليه أحد. أليس من العار على المصريين والعثمانيين وسائر المسلمين أن يروا الأمم الأخرى تسعى في الحصول على امتيازات في أرجاء آسيا وأفريقيا، بل في تركيا نفسها،ونحن معاشر المسلمين في الأرض ننظر إليها نظر المتفرج بدون عمل ولا حركة،

كأنه لا يهمنا قط أن نكون في غبطة عيش ونعيم، وكأنه لا يهمنا أن تكون أمتنا

سعيدة بتدبير أحوال ممالكها الفسيحة وترقيتها.

وفي 21 فبراير كتبت مقالة في هذا الشأن ونشرتها في (الوكيل) اهـ، ثم

ذكر أنه دائب على تشويق أهل وطنه إلى هذا العمل العظيم، ورغب إلى صاحب

(المؤيد) أن يشوق المسلمين إلى ذلك في جريدته الشهيرة، وقد أجاب المؤيد دعاءه

ولبى نداءه، فذيل الرسالة بنبذة تنشيط ملخصها: أن ما يقترحه الكاتب أعظم

مشروع ينعش الحياة ويجدد السعادة للدولة، بل للملة الإسلامية.

وإن المسلمين إذا لم يبادروا لمثل هذا العمل فلا يبعد أن يأتي يوم يعجزون فيه

عن الإتيان بأي عمل.

فحبَّذا لو أن جلالة مولانا الخليفة الأعظم الذي اشتهر في العالم كله بحب جمع

شتات الإسلام حول عرشه استلم زمام هذا العمل العظيم بنفسه وأنفذه، ليكون الفاتح

والمجدد لعصر حضارة الإسلام على ما تقتضي ظروف الأيام اهـ.

(المنار)

لخصنا هذه المقالة لأمور منها بيان تعلق المسلمين بمولانا أمير المؤمنين -

أيده الله تعالى - في أقطار الهند، وآمالهم العظيمة في أن تقدم الأمة كلها منوط

بحكمته المشهورة ومساعيه المشكورة وخضوعهم لسلطته الروحية وسيادته الدينية.

ومنها: أن المشروع من الأعمال التي لا تقوم إلا بالشركات المالية، والحث

على الشركات المالية لأي عمل كان هو من أفضل الأعمال التي أنشئت الجريدة

لأجلها.

وأما هذا المشروع بخصوصه فلا ننكر عظيم فائدته لكننا نفوض النظر فيه

لحكمة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى) ، ولوزرائه الصادقين، فإن

لهم من المعرفة بمنافع الأمة ووسائل تقدمها ما ليس لنا، ورأينا أن سبب التقدم الذي

يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم في جميع

عناصر الأمة على طريقة واحدة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الغاية إلا بشركات

مالية تنشئ المدارس الوطنية وتختار لها المعلمين المهذبين وسنواظب على الحث

على هذا المشروع ونبين مزاياه فيما يأتي من الأعداد.

وإننا نفتخر بما لمولانا أمير المؤمنين من العناية بأمر المكاتب والمدارس حتى

أنه أنشأ من جيبه الخاص الكثير منها.

ولا ننكر ما لسمو عزيز مصر (عباس الثاني) من الاهتمام بأمر العلم،

والأزهر الشريف شاهد عدل، ورجاؤنا بأغنياء المصريين وسائر العثمانيين الاقتداء

بسلطانهم الأعظم وخديويهم المعظم في هذا الأمر الذي هو كل أمر والله الموفق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مجمل الأحوال السياسية

لم نَرَ عامًا كثرت مشاكله السياسية كهذا العام. فإنا نرى خلل الرماد وميض

نار ويوشك أن يكون لها ضرام، في الشرق والغرب، في العالم القديم

والعالم الجديد.

ففي مياه الصين تتجمع الأساطيل الأوربية، وتتكاثف تكاثف الغيوم قبل نزول الصواعق. وفي إفريقيا تزحف الجنود وتتسابق الحملات إلى أعالي النيل، تسابق

خيل الطراد، وفي الهند قد سُقِيَتْ الأرض بدم الإنسان وسمدتها فضلات النسور

والعقبان من جثث القتلى، فأخرجت في هذا الربيع نبتًا خصيبًا، وفي كوبا وراء

الأوقيانوس العظيم قد صارت الحرب بين الأسبان والأميركان قاب قوسين أو أدنى،

وفي كريت لا يزال السيف مصلتًا والإخوة العثمانيون يفني بعضهم بعضًا، وفي

النمسا استفحل الخلاف بين العناصر المختلفة، فصار البعض يتوقعون انتشار عقد

الوفاق وسقوط تلك المملكة العظيمة، وفي إيطاليا وفينسيا ساد الجوع إثر غلاء

الخبز وقلة الأعمال، فثار الشعب ينهب الأفران مقتحمًا حراب البوليس، وهجمت

النساء صارخات طالبات لهن ولأولادهن خبزاً، أما في فرنسا فقد مرت الزوبعة

السياسية مرور الزوابع الطبيعية على أعشاب الأرض تعبث بها ولا تجر ضرراً.

ويطول بنا المقال إن رمنا تفصيل تلك الحوادث السياسية الخطيرة. على أنه

لا بد من الإلماع إليها إلماعًا، يطلع قراء المنار على إجمال تفاصيلها الماضية،

ويكون توطئة للحوادث الآتية.

***

المسألة الصينية

قتل بعض أشقياء الصينيين بعض مراسلي الكاثوليك الألمان في البلاد

الصينية، فاتخذت ذلك ألمانيا وسيلة إلى احتلال ثغر من أهم الثغور الصينية يدعى

كياوتشو، أنفذت إليه أسطولها في الشرق الأقصى فاحتله بلا حرب ولا نزاع؛ لأن

الحامية الصينية غادرته حين علمت بقصد الجنود الألمانية. ثم احتل الأسطول

الروسي بورت آرثر مقابل احتلال الألمان لكياوتشو، فأرغت اليابان وأزبدت،

وقامت إنكلترا وقعدت، وأنفذت الدول بوارجها إلى مياه الصين تباعًا، حتى حسب

الناس أن الحرب صارت أقرب من حبل الوريد وظنوا أنه قد حان تقسيم تلك

المملكة الواسعة.

ثم بان أن الدول لا تنوي التقسيم، لما يحول دون ذلك من الموانع السياسية،

وطلبت الصين قرضًا، فتنازع روسيا وإنكلترا عقد هذا القرض، واشترطت إنكلترا

على الصين شروطًا أهمها: فتح تاليان وان، فأثار ذلك تأثر روسيا، وآذنت الصين

بأنها إن هي فتحت (تاليان وان) أساءت الروسية معاملتها، فتنازع الصين عاملان

قويان، فباتت لا تعلم أيهما تعمل، حتى جاء يوم قيل فيه: إن إنكلترا أرجأت

البحث في فتح (تاليان وان) إلى فرصة أخرى. وقد وافت الرسائل البرقية في

الأسبوع الماضي تقول: إن الصين إجابة لطلب اليابان سألت روسيا عما إذا كان

ينسحب أسطولها من بورت آرثر في فصل الربيع، فأجابت روسيا: إن في

احتلالها بورت آرثر مصلحة للصين وكوريا معًا. ثم جاء أن روسيا تلح على

الصين بأن تؤجر هاربورت آرثر وتاليان وان إلى 99 سنة، كما أجرت ألمانيا ثغر

كياوتشو وأنظرتها خمسة أيام، فإذا انقضت ولم تجبها الصين إلى طلبها عملت

روسيا في الصين عملاً عسكريًّا. فقامت التيمس بعد هذا الإنذار تقول: إن إنكلترا

منذ حرب القريم لم تكن يومًا أفرغ صبرًا مما هي الآن، وخطب ناظر البحرية في

مجلس العموم عند عرضه ميزانية البحرية فقال: إن الأسطول في غاية الاستعداد

فإن بقيت السلم كانت سلمًا شريفة، وإن نشبت الحرب (لا قدر الله) خرج

الأسطول ظافراً. أما ناظر الخارجية الإنكليزية فقد صرح أنه لا يرى دليلاً على ما

قيل من أن روسيا قدمت للصين إنذارًا. والله أعلم بمصير المسألة الصينية.

***

المسائل الإفريقية

قلنا: (المسائل الإفريقية) لا المسألة؛ لأن المشاكل في إفريقيا متعددة. أولها

حملة مصر على الدراويش. ثم الحملة الفرنساوية في النيل الأعلى. ثم ثورة أوغندا

ثم مسألة النيجر بين الفرنساويين والإنكليز. ثم مسألة الترنسفال بين البوير

والإنكليز أيضًا.

أما الحملة المصرية، فسنفرد للبحث في أمورها مقالات خصوصية، وأما

الحملة الفرنسية السائرة في مجاهل إفريقيا بقيادة الضابط الباسل مرشان، فلا يعلم

أحد الغرض الذي ترمي إليه حتى الآن. والمشهور أنها زاحفة لاحتلال الأراضي

التي وراء بحر الغزال في أعلى النيل، وبما أن تلك الأراضي هي غرض إنكلترا

أيضاً فالمنتظر أن تقوم قائمة الخلاف والنزاع بين الدولتين بشأن تلك الأصقاع في

وقت قريب. وقد أنفذت إنكلترا من جهة أوغندا إلى أعالي النيل من شهور عديدة

حملة إنكليزية بقيادة الماجور مكدونالد، غير أن تلك الحملة ما قطعت مسافة قصيرة

حتى ثار رجالها وهم من السودانيين على القائد مكدونالد، فتحصنوا في حصن هناك،

فحاصرهم الماجور قمعًا لثورتهم وإرغامًا لأنوفهم، ولطلب المدد تشديدًا للحصار،

غير أن السودانيين رأوا من المحاصرين غفلة، ففروا من الحصن ونجوا بأنفسهم،

فرجع مكدونالد أدراجه، ولم يزل مرشان يغذ السير إلى غرضه بخطى واسعة.

وأشيع يومئذ أن حملة مرشان قد ذبحت عن آخرها، غير أنه ظهر بعد ذلك أن هذا

الخبر كان مكذوبًا. هذا ويرى البعض أن احتلال فرنسا أعالي النيل سيكون بداية

فتح المسألة المصرية.

وأما الخلاف الذي بين فرنسا وإنكلترا بشأن النيجر فهو ناشِئ عن طمع كل

من الدولتين في تلك الأراضي واختلافهما على تحديد أملاكهما فيها. ويقول

الفرنسيون: إن شركة النيجر منشأ ذلك الخلاف كله، وقد عقدت في باريس من عهد

قريب لجنة من الإنكليز والفرنسيين للبحث في دعاوى الطرفين وحل تلك المشاكل

بالطريقة الودية. وقد أضيف في الأسبوع الماضي مشكلة جديدة إلى تلك المشاكل

القديمة، فإن حملة الفرنسيين اجتازت نهر النيجر وحاولت الزحف على أرض تقول

إنكلترا: إنها تحت حمايتها، وقد أمدت إنكلترا سلطان تلك الأرض بجند يساعده

على إرجاع الفرنساويين على أعقابهم، ولم يرد بعد ذلك نبأ جديد.

وأما الخلاف بشأن الترنسفال فمَنْشَؤُهُ طموح إنكلترا إلى تقييد تلك الجمهورية

الصغيرة بقيود سيطرتها، وقد نظم دكتور إنكليزي يدعى جمسن حملة هجم بها على

تلك الجمهورية على حين غفلة، فالتقتها سيوف البوير ونالت منها ما نالته سيوف

الأحباش في موقعة عدوه من الطليان، ولا يزال مستر شامبرلين وزير المستعمرات

الإنكليزية يؤكد لتلك الجمهورية، حتى الآن أنها تحت الحماية الإنكليزية. ولعمر

الحق إن إمبراطورية الأحباش وجمهورية الترنسفال قد أظهرتا بأسلوب عجيب

مقدرة الشرقيين على الدفاع عن حريتهم واستقتالهم في سبيل ذلك الدفاع

الشريف.

وسنتكلم فيما يلي من الأعداد على بقية المشاكل السياسية.

***

الحبشة

بنى السيف في القرن التاسع عشر إمبراطوريتين عظيمتين؛ الأولى:

الإمبراطورية الألمانية، والثانية: الإمبراطورية الحبشية.

فإن تسليم سيدان وباريز ألبس غليوم الأول تاج الإمبراطورية الألمانية،

وانتصار الأحباش على الطليان في موقعة عدوه أنال منليك رئاسة الحبشة وجعله

إمبراطورًا على ملوكها المتحدة.

والحبشة أمة شرقية، قد أيقظها دوي مدافع الطليان من سباتها العميق، فهبت

إلى دخول التمدن من أبوابه، ولا يبعد أن نراها بعد خمسين سنة تضاهي شقيقتها

اليابان الشرقية قوة ومنعة وعزًّا. وإذا بلغت الحبشة مبلغ اليابان كان ذلك دليلاً ثانيًا

على استعداد الشرقيين للتقدم العصري والارتقاء، وعلى قابليتهم للانتظام ومقدرتهم

على الثبات خلافًا لما يشيعه عنهم الأخصام.

وليس غرضنا الآن تبيان ما بلغته الحبشة وما ستبلغه من التقدم إن استمرت

على سيرها الحثيث.

وانما غرضنا ذكر حديث جرى في بورسعيد بين أحد مكاتبي الجرائد

الأوروبية والمسيو أتوجوزف سكرتير منليك الخاص، فإن في ذلك الحديث بعض

اللذة والفائدة، وهو بصور السؤال والجواب.

س: هل تحب مصر؟

ج: لا أحبها لأنها بلاد قوم لا يحبوننا، فهم يزعمون أن الحبشي ملك يدهم،

لذلك يسمونه " عبدا "

س: وما رأيك في الإنكليز؟

ج: لا نخشى لهم بأساً وحسبهم الآن الدراويش خصمًا. وإنا لا نحذر غير

الفرنساويين، ولو أنا انكسرنا في حربنا مع الطليان لبتنا طعمة للفرنساويين.

س: وما صنعتم بأسرى الطليان؟

ج: لقد عاملنا الجميع بكل رفق وتؤدة؛ لأن قوانين الحبشة تنهى عن مضايقة

الأسرى أو تعذيبهم، وقد أطلقنا سراحهم جميعهم، فرحل البعض بسلام إلى بلادهم،

وعلق البعض نساءنا فاستحبوا الإقامة عندنا. وقبل أن يطلق الطليان أسرانا سمعنا

أنهم أساءوا معاملتهم، فلم يحملنا ذلك على مقابلة الإساءة بالإساءة؛ لأنا نعتبر

الأسير مقدسًا، لا يجب أن يمس بسوء.

س: ما قولك فيما شاع من أن إنكلترا ستمنحكم زيلع على أن تلتزموا الحياد

في الحرب التي بين مصر والدراويش؟

ج: لا أعلم في ذلك شيئًا؛ لأني أجهل حوادث بلادي منذ سبعة أشهر، علمًا

أني لا أرى أفضل من الحياد في مثل هذا الظرف، فإن المتحاربين مسلمون، ولا

أرى ما يوجب علينا اختراط الحسام دفاعًا عن المسلمين.

س: وهل تحمل لجلالة الإمبراطور كثيرًا من الهدايا؟

ج: لقد بعث معي جلالة السلطان فرسين من الخيل الجياد، ونيشانًا باهرًا،

وبعث جلالة القيصر كلبي صيد وسيفًا ثمينًا وغير ذلك من الهدايا.

س: هل لك أن تتفضل عليّ بوصف هيئة الحكومة في بلادكم؟

ج: لا عندنا مجالس شورى ولا دستور ولا نواب، فإن جلالة الإمبراطور هو

الحاكم الأعلى وله مجلسان: عقلاء الشيوخ يستدعيهم عند الاقتضاء، وهناك محكمة

فيها قاض واحد لا يحكم في قضية إلا عند شهادة رجلين، أما القاتل فجزاؤه القتل،

وإن شاء الإمبراطور أن يعفو عن القاتل كان لعائلة المقتول أن تعترض على ذلك العفو

ولعائلة المقتول أن تنفذ بيدها حكم الإعدام.

س: وهل الملكة نبيهة متهذبة؟

ج: اسم جلالتها تايتيس أعني الشمس وهي نبيهة وشديدة الاهتمام بالآداب

العمومية.

س: بما أنك ذكرت لي معنى اسم الملكة فأرجو أن تذكر لي ما معنى اسم

(منليك) ؟

ج: إن تاريخ هذه الكلمة قديم، فقد جاء في التقاليد القديمة أن ملكة سبأ سمعت

بحكمة سليمان الحكيم، فوفدت عليه. ثم وضعت منه غلامًا فراعها ذلك فصاحت:

(ماذا يقول سليمان) . فقولها: (ماذا يقول) ترجمته في اللغة الحبشية (منليك) ،

ولذلك سمي به ابن ملكة سبأ.

س: ما عدد سكان الحبشة؟

ج: عددهم خمسة ملايين من الأحباش المسيحيين ومليونان ونصف من

المسلمين، واثنا عشر مليونًا من الوثنيين.

س: وهل يعيش هؤلاء كلهم براحة وسلام؟

ج: يعيشون بالراحة الممكنة على أن الأرض مخصبة والهواء معتدل والحرية

مطلقة للجميع. أما الآداب العمومية فنقية؛ لأن الاهتمام بها عظيم. وفي المدن

الكبرى مدارس للفرير تربي الأولاد أحسن تربية.

س: نسيت أن أسألك عن نظام البوليس؟

ج: لا بوليس في الحبشة. فإن كلاًّ منا يحترم ملك الغير وحقوقه، وعنواننا

كلنا: (أغلق شفتيك وافتح بابك) - يريد: قلة الكلام وكثرة الضيافة. انتهى

على أن تلك الأمة الخارجة من غياهب الهمجية خروج الزهور من أكمامها، لا

تزال في ظلمة التعصب الديني والجهل الوخيم، لذلك لا تُحْسِن معاملة المسلمين من

رعاياها، على أنها ستعلم خطأها حين يسقط عن عينيها برقع الجهل والغباوة وما

سبب التعصب الذميم إلا الجهل الوخيم. اهـ من ترجمة بعض الكتاب.

هذا ما اخترناه من العدد الأول وما بعده إلا (الأخبار المحلية) وبرقيات

الأسبوع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 23

الكاتب: محمد رشيد رضا

القول الفصل

‌محاورة في سعادة الأمة [

1]

نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر

التأمل والاعتبار، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها، من

بداوة وحضارة، وهمجية ومدنية، وقوة وضعف، وصعود وهبوط، وغلبة

وانغلاب، ونحو هذا من الصفات المتقابلة، والشؤون المختلفة، فحدا بهمته النظر

بعين البصيرة إلى طلب النظر بعين البصر، والسير في الأرض لمشاهدة آثار

العالمين، وتطبيق ما يرى على ما علم، فضرب في الأرض شرقاً وغربًا، وخالط

الأمم عجمًا وعربًا، واكتنه الأخلاق، واختبر العادات، وشاهد سير العلوم والفنون،

ووقف على أمهات الصنائع والأعمال، وسبر قوى العقول والأفكار، ثم شرع في

المقابلة والتنظير، فتجلى له أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم

واحدة وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك، والتفاوت في الاستعداد

وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات، ويخرج من عداد الإنسان،

ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور

عارضة وظروف خارجية. وأعمل فكره في معرفة مناشئ هذه العوارض، وعلل

هاته الطوارئ، وارتقى في الأسباب الكثيرة، وتبصر في تأثيرها، فعرف كيف

يمكن اتقاء العوارض المضرة، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم

فأخرتها، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي، والقوى

القدسية التي منحها الله للإنسان. ثم رجع هذا العاقل إلى وطنه وقد أوتي الحكمة

وفصل الخطاب، وصار من أطباء النفوس القادرين على مداواة أمراض أمته،

وعجب لإغفال الجماهير من قومه هذا النظر وهذه السياحة، حتى كأنهم عميان،

وصار يردد في نفسه هذه النصوص {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} (ق: 6){أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (الأعراف: 184) ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ

آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ثم وجه عنايته لتنبيه قومه على ما استفاد في سياحته {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .

ولما أن جاء البشير القوم للسلام عليه سألوه عن رحلته من حيث سهولة السفر

ومشقته وما كان طعامه وشرابه فيه، وعن منتزهات البلاد التي زارها، فعذلهم

بلطف على هذه الأسئلة، واعتذر لهم عن نسيانه لهذه الأمور، وطفق يحدثهم عن معارف البلاد لا عن معازفها، وعن مصانعها لا عن مراقصها، وأطال في الكلام

عن الأمم المتمدنة وعما رأى فيها من موارد الراحة السائغة وبرود النعمة السابغة

حتى أدهشهم، وكان يتكلم عن انفعال وتأثر، ويشوب كلامه بالتأوه والتحسر،

فأثرت حالته في نفوسهم، وحركت منها كوامن الغيرة، وأحب فريق منهم أن يبحث

معه في سعادة الأمم وشقائها، وشدتها ورخائها، وهبوطها وارتقائها، فاعترضه

آخرون قائلين: إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال، ويزعج الخاطر، وهو عبث لا يفيد شيئًا، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم، ولا

لأعمالهم أثر في منافعهم، بل ليس لهم إرادة أيضًا، بل هم في الحقيقة كالريش في

الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به، ولا إرادة ولا اختيار، نستغفر

الله، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة، ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين:

(سُني في الظاهر جَبري في الباطن) فأجابهم أولئك قائلين: إنكم تؤمنون بلفظ

الاختيار دون معناه وكأنكم ترون أن حركة اللسان بلفظ الاختيار هي الفصل الذي

يخرجكم من عداد طائفة الجبرية الذين اتفق أساطين علماء الملة على فسوقهم من

الاعتقاد الحق، ونبذهم بلقب الابتداع في الدين.

أما علمتم أن الألفاظ لا تدخل في ماهية العقائد وحقيقة المذاهب وأن الخلاف

في إطلاق اللفظ على معنى متفق عليه يرجع إلى الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

أتزعمون أنه لا واسطة بين الجبر والقدر، وأن الذين يسمون أهل السنة هم جبرية

في الحقيقة، لكنهم لما عجزوا عن الجواب على ما يستلزمه هذا المذهب من تخطئة

تشريع الشرائع وإنزال الكتب تستروا بلفظ الكسب والاختيار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا

لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) . حاشاهم حاشاهم، ونستغفر الله من هذا الضلال

البعيد.

فأجابهم السائح العاقل: على رسلكم، فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية،

ولكن عموم الجهل جعلهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية.

كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر

ويقول: (هو بيدنا إيه) وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا

ويقول: (شو طالع باليد) وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف

{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 58) .

كلمة حق أريد بها باطل، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل، أرأيت إن ألمت ملمة

بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب، بل ويتعدون

الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها

الشرع وينبذها العقل، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين،

والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم

ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح، ويستنفرون أولئك

بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر، ويستنبئون عن حقيقة الأمور

بخطوط الرمل أو الطرق بالحصا وحبوب الفول، ويتعرفونها من الدجاجلة

والعرافين.

فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها

وتباينها، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط، فهم جبرية بإزاء

المصالح العامة، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة.

وقد نظرت في التاريخ سير العلوم واختبرت حالتها اليوم فرأيت العلماء

الباحثين في مسائل الجبر والقدر والكسب قصروا أنظارهم على مفهومات هذه

الألفاظ، وتفلسفوا فيها، ولم يلتفتوا إلى ما تحدث هذه العقائد في الإرادة من الآثار،

وما يتبع تلك الآثار من الأعمال، وما ينشأ عن تلك الأعمال من ضعف أو قوة،

فينبهوا الأمة عليه.

ألّفوا فيها المتون والشروح، وعلقوا عليها الحواشي والتقارير، فما زادت

الأمةَ تآليفُهُمْ إلا حيرة وإشكالاً، وكانوا كجواب المجاهيل يغذ أحدهم السير سحابة

نهاره وعامة ليله ثم لا يدري هل أراد بسيره قربًا أو بعدًا (سيفرد المنار مقالة

مخصوصة لهذه المسألة) .

وأما الذين لم يبلغ الجهل منهم مبلغ إنكار الوجدان والقول بالجبر الصراح،

فهم يعلمون أن الأخذ بالأسباب عملاً واعتقاد ارتباطها بالمسببات بحيث لا تتخلف

عنها إذا تمت شروطها، ولا تحصل إلا معها هو الحق، وأن انكشاف الخطوب على

أيدي الآخذين بأسبابها التي سنها الله تعالى لها لا يقتضي أنهم عاندوا الإرادة الإلهية

وكانوا هم الكاشفين لها من دون الله تعالى.

فخجل المحتجون بالجبر عند هذا البيان، واتفق القوم كلهم على البحث مع

السائح العاقل في شؤون ترقية أمتهم، وعن الأسباب التي ينبغي الأخذ بها للحصول

على هذه الأمنية الشريفة. وأجمعوا على أن يكون البحث على طريق السؤال

والجواب؛ لأنه أدعى إلى إلقاء السمع وتوجيه الفكر، وأقرب إلى التنبه والتبصر

وأن يكون السائح هو السائل؛ لأنه أعلم بحاج الأمم؛ لما أفاده العلم والاختبار، ثم

إذا اختلفوا في الأجوبة يحكمونه فيما شجر بينهم، ويكون بقوله العمل وعليه الفتوى.

فقال: إنني ملقٍ عليكم مسائل متعددة في مواضيع مختلفة، وكلها تتعلق بسعادة

الأمم، وأطلب عليها كلها جوابًا واحدًا يؤدى بكلمة واحدة. فقالوا له: يشبه أن يكون

كلامك هذا من الألغاز والأحاجي فكيف السبيل إلى حل معماه، وكشف مخباه،

وكيف يكون الجواب عن الأسئلة في المواضيع المختلفة واحدًا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ

عُجَابٌ} (ص: 5) .

فقال: لا عجب، فإن كل كثرة لا بد أن تجمعها جهة وحدة، فكما أن الوحدة

التي نسميها سعادة الأمة لا تحصل إلا بأمور كثيرة ترجع إلى شيء واحد وهو

(سعادة الأمة) ، كذلك وسائل هذه الأمور الكثيرة التي منها تستمد مسائلي تئول إلى

شيء واحد. (وسيلة ترجع إليها جميع الوسائل، وسبب يجمع كل الأسباب) وهو

الجواب الذي سأشرحه لكم، ثم أنشأ يسرد الأسئلة فقال:

(س) ما هو الناموس الذي يحصل به الجذب والانجذاب بين العناصر

المتفرقة، ويحكم الالتصاق بين أفرادها فيكوِّن المجموع أمة واحدة، وبماذا

توجد الرابطة التي تجعل مدار هذا المجموع على محور واحد؟

(س) أي شيء يمحو من نفوس أفراد الأمة الأثرة والاختصاص بالمنافع

دون قومهم، ويثبت فيها حب الوطنية والجامعة الجنسية، بحيث يرى كل واحد أن

منفعته في منفعة أمته ومضرتها عين مضرته، بل ما هي الروح التي تنفخ في

آحادها، فتحيا بعد مماتها، وتجتمع بعد شتاتها، وتكون جسدًا واحدًا إذا اشتكى له

عضو تداعى له سائر الجسد، فإنني أرى هذا الروح هو المدبر لبعض الأمم، وكأنه

فقد من أمتنا بالكلية فانتثر عقد اجتماعهم، وانحل تركيب بنيتهم، وتفرقت كلمتهم،

ورُزِئُوا بالتخاصم والتنازع، والتباغض والتحاسد، وأصبحوا و {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ

شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} (الحشر:14) ،

وأَنَّى يفقهون معنى هذه الحياة الجنسية، وسر هاته الجامعة الوطنية، وكيف

تحصل لهم، وبماذا توجد فيهم، وأنَّى يجتمعون في صعيد واحد مع اختلاف

منابتهم وتقطع وشائجهم؟

(س) إذا اعتقدت الأمة بأفرادها انحطاط المدارك وضعف العقول وعدم

الاستعداد الفطري لاحتذاء الأمم الأخرى فيما جاءت به من عجائب الصناعات، وما

استنبطته من دقائق العلوم والفنون؛ لأنها شاهدت الآثار التي انتهت إليها وهي في

غيبة عن مبدئها، وكيفية نموها، فأنى يكون تنبيهها إلى ما أودع فيها من

القوى الطبيعية والقدر الوهبية الكامنة في أرواحها، ككمون النار في الحَجَر أن

قَدَحْته أورَى، وإن تركته توارى، وإنه ليس عليهم في إبراز آثار هذه

القوى إلا استعمالها فيما خلقت كما استعملها الآخرون؟

(س) إذا تمكن في النفوس اليأس من التقدم، والقنوط من الترقي؛ لاعتقاد

أن زمن التدارك قد فات، وأنه لا يمكن مجاراة المتخلف لمن بلغ الغاية، وإن كان

الاستعداد واحدًا، فغلت لذلك الأيدي عن العمل، كأنما هي مشلولة، ووقفت الأرجل

عن السعي حتى كأنها مقطورة. (أي محبوسة في المقطرة، وهي خشبة

مثقوبة توضع فيها أرجل المحبوسين) ، فبماذا تنزع الأغلال، وتكسر المقاطر،

وتنعم تلك النفوس بحلاوة الرجاء بعد مرارة اليأس، وتندفع اندفاع الجياد القرّح

إلى طلب المجد المؤثل الذي تطلبه بحق وتجري فيه على عرق؟

(س) إذا حاول بعض أهل الثراء أن يحتذي شاكلة السابقين، ويتلو

تلو الشعوب المتمدنة، فأنشأ يقلدهم في أحوال معيشتهم التي انتهت بهم إليها

طبيعة بسطة الملك وسعة الثروة، فشيد القصور، ونقش الجدران وزينها

بالأرائك والزرابي والسجوف والمصابيح، وسائر أنواع الآنية والماعون النفيس،

الذي يجلبه من بلاد تلك الشعوب، فكيف يمكن إقناع هؤلاء بأن هذا التقليد تذفيف

على جرح الأمة، وإجهاز على حياتها، وبه ينضب معين ثروتها، على أنه

ليس لديها من أمواه الثروة إلى بقية وشل. وإن التقليد النافع إنما يكون في

خدمة المعارف، والسير في طرقها التي سار فيها أولئك، وفي الأعمال

النافعة التي هم لها عاملون؟

(س) كيف تحافظ الأمم على أديانها ولغاتها وعوائدها النافعة إذا كانت مهددة

من أمم أخرى بحكم ناموس تنازع البقاء، وكيف ظلت اللغة العبرانية محفوظة في

ألسنة الإسرائيليين مع ما ابتلوا به من فقد السلطة والشتات في الأقطار، وما رُزِئُوا

به من جور الحاكمين، واضطهاد الظالمين، ولماذا فسدت ملكة اللغة العربية من

ألسنة أربابها مع نمو عمرانهم وامتداد سلطانهم؟

تسمع ولدان اليهود في روسيا وألمانيا وأوستريا وفرنسا وإنكلترا وأسبانيا

وإفريقية وأميركا يتكلمون بلسان كتابهم (التوراة) على نحو ما كان يتكلم به

آباؤهم الأولون. ولم يصدهم عن حفظه معرفة لغات الشعوب الذين هم عائشون في

بلادهم. وشيوخ العلم في مصر والشام والعراق والمغرب، بل وفي الحجاز

واليمن يكتفون بوجود لغة (القرآن) في مطاوي الكتب وبطون الدواوين؟ !

(س) كيف يمكن التفلت من إشراك العادات الرديئة وأحابيلها. والتفصي

من عقل التقليدات المضرة التي أوقفتنا عن السير، وأحدثت فينا قناعة البهم،

وبغضت إلينا كل جديد، وإن كان فيه سعادتنا، وقد استحكمت بتوالي الأيام وكرور

السنين. وقويت على سلطان العقل وإرشاد الدين، حتى اعتقد الآخذون بها حسنها،

وأنكروا على من أخل بشيء منها {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) ، أما والله لو أن أجسادنا هذه تدبرها أرواح

كأرواح آبائنا الأولين لكنا نحن السابقين إلى كل ما يسمى اختراعًا واكتشافا وعملاً

نافعًا؟

(س) إننا نرى كثيرًا من الأخلاق والعادات لها وجهة للخير ووجهة للشر،

يجتني نفعها أناس ويصاب منها بالضرر آخرون. فكيف يتفرع عن الأصل الواحد

فروع مختلفة وآثار متباينة. وبماذا اهتدى الأوربيون للانتفاع من اختلاف رجال

العلم ورجال السياسة وتنازعهم، وتبينوا من هذا الاختلاف والتنازع محجة الصواب

وحقيقة الأمر، حتى كأن نور الحقائق العلمية والمصالح السياسية لمعان البرق،

لا يظهر إلا بين الإيجاب والسلب.

ولماذا كان الاختلاف والتنازع في الشعوب الشرقية حجابًا على وجه الحقيقة،

وغشاوة على عين البصيرة، تضيع فيه المصالح، وتندرس رسوم المنافع، حتى

كان تصادم أفكارهم تصادم القوارير؟

(س) ما هو الغاسول المطهر للأذهان من أقذار الوساوس والأوهام التي

توقع في الخوف مما لا يخيف، ورجاء ما لا يفيد، وبماذا يكون ترميج (إفساد

السطور المكتوبة) ما سطر في ألواح النفوس من أساطير الخرافات أو محوه بالكلية

ورسم آيات الحكمة وإثبات نقوش الحقائق على هذه الألواح الشريفة القدسية؟

(س) بماذا يعرف المجد الصحيح من المجد الباطل، والكمال الحقيقي من

الكمال الوهمي، فتتحول مجاري نفقات الأفراح والأحزان من الولائم والوضائم وما

يتبعها إلى التعليم والتربية، ويستبدل تشييد المكاتب والمدارس الوطنية بتشييد

القصور على القبور (الأحواش) الذي استن المصريون فيه بسنة (خوفو)

و (خفرع) و (منكورع) الذين شادوا الأهرام لحفظ جثثهم الشريفة؟

(س) ما هو العلاج الذي يستأصل جراثيم الفساد، والدواء القاتل

(لميكروب) الأدواء الروحية، الشافي من الأمراض القلبية التي تتولد عنها المآثم

والموبقات؟

(س) متى تقل الأمراض الجسدية، ويتزين مجموع الأمة ببرود الصحة

الضافية، ويلقون عن وعواتقهم أسمال الأمراض وأخلاق الأسقام، ويقل فيهم فتك

الأوبئة إذا لم يكن محو هذه المصائب بالكلية؟

(س) بماذا تحصل الثروة للأمم؛ فإننا نرى بعض الشعوب استولى عليها

الفقر المدقع، فلا يوجد فيها من الأغنياء إلا أفراد قلائل، والكثير منهم ما نال

الثروة بطرق مشروعة وأعمال شريفة، والسؤال إنما هو عن ثروة الأمة من الطرق

الشريفة المشروعة. ولو وزعت ثروة من ذكرنا على الأمة بالتعديل لم تخرج من

عداد الأمم الفقيرة؟

(قال السائل الحكيم) : وإذا قلتم: زراعة، صناعة، تجارة، فإنني لا أعتد

ذلك جوابًا، بل هو يحملني على التفصيل بإلقاء أسئلة أخرى في موضوع الثروة

فأقول:

(س) ما الوسيلة إلى تحسين حالة الزراعة بحيث تفيض الأرض بالخيرات

والبركات التي هي كنوزها الحقيقية. ولماذا كان أهالي فرنسا، بل وأهالي زيلندا

(جزيرة في البحر المحيط) أكثر ثروة زراعية من أهالي مصر بالنسبة لمساحة

الأرض، مع أن أرض مصر أخصب تربة، ورجالها أكثر جلدًا على العمل،

وعندهم النيل الذي ليس له في زيلندا ولا في فرنسا نظير؟

(س) ما الذريعة إلى إتقان الصناعة وتوسيع دائرتها، والتفنن في تنويعها

بحيث تكتفي بها الأمة وتحفظ ثروتها عن اغتيال الأجانب لها، وجعلها عالة عليهم

ثم تكفي غيرها من الأمم التي أصابها مرض الجهل والكسل فأقعدها عن الأعمال؟

(س) ما هي الطريقة للتصرف بأساليب التجارة التي عليها مدار الثروة

الأكبر، والتي هي من الصناعة والزراعة كالقوة المتصرفة من المعلومات

والمدركات. أو كالشرايين والأوردة لدم الإنسان والحيوان؟

(س) كيف تسنى لأفراد من طلاب الكسب الأجانب احتكار ماء النيل وماء

نهر الكلب (نهر في لبنان تجره إلى بيروت شركة أجنبية) ، كما تحتكر السلع

وعروض التجارة، وبيعه لأهل البلاد بالمال. ومَن كان (لولا المشاهدة) يصدق

أن الأمة تنحط إلى دركة لا يمكن للوطني معها أن يتناول جرعة من ماء بلاده إلا إذا

اقتضى الأجنبي منه ثمنها المعلوم عن رضى واختيار، (أما وسر العلم والاجتهاد لو

وجد مثل هذا الخبر في كتب تاريخ الأمم القديمة لعد من هذيان القصاص المولعين

بتلفيق الأكاذيب للإعجاب والإغراب) ؟

(س) بماذا تحرز الأمم القوة والمنعة، وتعقد على ألويتها الغلبة والظفر،

وكيف استولت إنكلترا على ممالك الهند وعلى أستراليا والكاب والنيجر وكندا،

وكيف استولت فرنسا على بلاد الجزائر وتونس والسنغال ومدغسكر وأنام

وكمبوديا وكوشين صين وتونكين، وكيف استولت هولندا على كذا وألمانيا على

كذا؟

(س) كيف يسهل على نفر قليل الاستيلاء على شعب كبير، يصرفونه في

مصالحهم ويستخدمون أفراده في منافعهم، ويستعملونه كما تستعمل الدواب والأنعام،

بل يديرونه كما تدار الآلة الصماء، وهو لا يدري علة هذه السلطة ولا وقوف

لأفراده على حقيقة أسبابها، ولعله لا يتفكر فيها أيضًا، كأنما فقد كل إحساس وشعور؟

(س) كيف أمكن للأميركانيين إلقاء السلطة الإنكليزية عن عواتقهم وطرح

أوزار سيطرتها عن كواهلهم، واتحاد ولايات بلادهم تحت لواء واحد، تستضيء

بنجومه أمم، ويخشى من شهبه آخرون. حتى إن أوربا تحذر منه على ما بقي لها

في العالم الجديد، وتتوقع تنفيذ قول مونرو:(أميركا للأميركيين) ؟

وبالجملة:

(س) ما هي الآلة الرافعة للمتطوحين في عواثير التعاسة والشقاء،

والمتدهورين في مهاوي الخذلان. وما هي المدارج التي ترقى فيها الأمم إلى المدنية

الصحيحة، والمعارج التي تصعد عليها إلى مراتب الكمالات الصورية والمعنوية،

من دينية ودنيوية، وما هو النور الذي يستضاء به في ظلمات الجهل والغباوة،

والمنار الذي يهتدى به في مَهَامِهِ الحيرة ومجاهيل الخطوب؟

فلما فرغت المسائل، وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنَى (جمع بنية)

الأمم، وينفخون فيها روح الوحدة. وينشقونها نسيم الحياة الوطنية. ويمدون فيها

جداول الثروة، بما يمهدون من طرق الكسب ويحفرون من الترع ويبنون من

المعامل والمصانع، ويهيئون من الآلات والأدوات إلخ ما أشرتم إليه من أسباب

السعادة.

فرد عليه السائل قائلاً: إذا فرضنا أن الحكومة غنية مع فقر الأمة وأمكنها أن

تعمل كل هذه الأعمال فهل في استطاعة الحاكم أن يقتلع من نفوس الأمة جراثيم

الأخلاق الذميمة، وينقي منها بذور العادات الرديئة التي تنجم عنها الأفعال المضرة،

ويغرس فيها أشجار الأخلاق الفاضلة والسجايا الجميلة التي تثمر الأعمال النافعة؟

كلا إن من يلقي التبعة كلها على الحكام مخطئ في حكمه، وإنني رأيت أكثر الأمم

الشرقية لا يرون لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام، ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها

ورشادها وصحتها ومرضها وغناها وفقرها، بل ومحياها ومماتها كل ذلك بيد الحاكم

حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل شيء وهو يجير لا يجار عليه، وكأن هذا الوهم

متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258) وعهد

من قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) ، وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً

من الأمة، وأن الحاكمية مازادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية،

بل ربما أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه، (كما شوهد في البعض) ، والصواب أن

إصلاح الأمة لا يكون من الحاكم، نعم إن الحاكم إذا ساعده يكون أسرع سيراً وأقرب

نجاحًا.

ثم انبرى آخر للمجاوبة وقال:

إن الطريق الوحيد لإنهاض الأمة من ضعفها وإقالة عثرتها وإقامتها في مصاف

الأمم القوية إنما هو تسليم أزمة أمورها الكلية إلى رجال من ساسة تلك الأمم،

يقيمون فيها القسط، ويرفعون لواء العدل والمساواة، ويغلون أيدي المتسلطين عن

التعدي، ويجتثون شجرة الرشوة الخبيثة من أصولها، ويعممون فيها الأمن،

وينشئون المعامل والمصانع، ويسهلون الطرقات، ويقربون الأبعاد بما يمدون من

السكك الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، ويوسعون دائرة الاكتساب بإنشاء

الشركات المالية التي هي أسس جميع أنواع التقدم من زراعة وصناعة وتجارة،

وينشرون المعارف الصحيحة التي لا توجد إلا في لغاتهم، فلا يمضي على الأمة

أربعون سنة حتى تنشأ خلقاً جديدًا.

فقال السائل وقد اضطربت نفسه وانفعلت روحه وتبيَّغ دمه حتى كان يتفصد

من وجهه:

اذا استشفيت من داء بداء

فأقتل ما أعلك ما شفاكا

لقد أخطأ ظنك يا أخي واستحوذ عليك شيطان الوهم، ولقد نثرت الملح على

جرحي بجوابك هذا، أما علمت أن ساسة تلك الأمم الذين أشرت إلى تسليم كليات

الأمور اليهم قد تربوا في بلادهم على حب أوطانهم ووقف حيلتهم على نفع أمتهم،

وقد تطبعوا على ذلك عملاً فصار ملكة راسخة في نفوسهم تصدر عنها جميع

حركاتهم وسكناتهم من غير روية ولا تكلف.

وإن جميع ما يبرز من أعمالهم مفيدًا للأمة التي يتولون إصلاحها في الظاهر،

لا بد أن يكون في باطنه منفعة لأمتهم، فإن المنفعة هي القطب الذي تدور عليه

رحى أعمالهم، فلا ينشرون من المعارف في البلاد إلا ما يشرب القلوب حبهم،

واعتقاد عظمتهم ويفسد على الأهلين لغتهم وعوائدهم وتقاليدهم التي كانوا بها أمة

ممتازة عن غيرها مستقلة في وجودها.

ولا يوسعون دائرة الكسب إلا للعارفين بأساليبه من أبناء طينتهم، فتسهيل

طرق الثروة حسية ومعنوية، وتعميم الأمن، والضرب على أيدي المتسلطين، كل

ذلك وسيلة لتمكنهم في الأرض، وسد أَثْبَاج الثروة عن أبناء الوطن، وتحويل

تلك الأثباج والمجاري إلى الآخرين.

نعم إن الوطنيين يتمتعون منها بقليل من الراحة التي تزيد في كسلهم

ونقاعدهم، حتى يئول الأمر إلى امتلاك الأغيار لأراضيهم الواسعة ويتخذونهم

أجراء ومزارعين، فيعلمون كيف دس لهم السم في الدسم حين لا ينفعهم العلم.

سألت عما ينهض بالأمم، فأجبتني بما يقذفها في تيهور العدم، ويهبط بها إلى أسفل

سافلين.

ثم تصدى للجواب رجل ثالث فقال: إن الجرائد الحرة هي التي تنبه أفكار

الأمة وتنير عقولها بنشر المعارف، وترشدها إلى التحلي بالفضائل، والتخلي

عن الرذائل، وتدلها على أساليب المدنية، وتزعجها إلى العمل بها تارة

بالترغيب والتنشيط، وطورًا بالترهيب والتحذير من عواقب التفريط، وتحرك من

نفوسها كوامن الغيرة التي تدعو إلى المنافسة والمباراة، إلى غير ذلك من الفوائد

التي لا تعزب عن علمكم.

فقال السائل: إن الجرائد وإن كان لها الشأن العظيم عند الأمم المُمَدَّنَة والأثر

المشهود في سير مدنيتهم التي تعتبر الجرائد كالحداة له، إلا أنها ليست هي

الموجدة لتلك المدنية. فإذا لم يوجد في الأمة سير إلى المدنية الفاضلة فلماذا يكون

الحداء.

نعم، ينبغي أن تنشأ عندنا جرائد لأجل الحث على الاجتماع وتعيين الغاية التي ينبغي أن تقصد، والوجهة التي يجب أن تولى، ثم الحث على السير إلى تلك الغاية في الطرق الطبيعية التي سنها الله تعالى لها، وهدانا إلى سلوكها، ثم الحداء الذي يسهل على السائرين احتمال المتاعب وقطع المسافة مع النشاط والارتياح.

ولا أقول: إن الجرائد هي المصلحة لحال الأمة، بل هي مساعدة على

الإصلاح إذا صدقت وأخلصت، وأفضل عملها إيصال أفكار الطبقة العاقلة من الأمة

إلى سائر الطبقات تحت مبدأ واحد شريف، فإنما المدار على الوحدة كما أشرنا أولاً.

ثم التفت إلى القوم فقال: هل بقي عندكم شيء من الأجوبة؟ فأجابوا بلسان

واحد: لا، وإننا نطلب الجواب من حضرة السائل الحكيم.

فقال: إن الجواب الذي قلت: إنه وسيلة لسعادة الأمة تجمع كل الوسائل،

وسبب يرجع إليه جميع الأسباب هو (تعميم التربية والتعليم) ، وهذا اللفظ تلوكه

الألسنة كثيرًا إلا أن معناه لم يُعْطَ حقه من التبصر والتأمل. فإن كنتم في ريب

مما قلت فإنني مستعد لإقناعكم. وإنْ أذعنتم ولم توجهوا كل قواكم العقلية والمالية

للحصول على هذه الرغيبة، فأنتم العاملون على ضياع أوطانكم وخائنون

أمتكم وملتكم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

نشرت في فاتحة العدد الثاني الذي صدر في يوم الثلاثاء 29 شوال سنة 1315هـ.

ص: 31

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مجمل الأحوال السياسية

ألمعنا في العدد الماضي إلى أمهات السياسة الحاضرة، وتكلمنا على بعضها،

ووعدنا بالكلام على باقيها فيما يأتي من الأعداد، وإنجازًا للموعد نأتي على

بيانها بالإجمال على الوجه الذي يوجب العظة والاعتبار مبتدئين بتمهيد في بيان

الاستعمار الذي هو منشأ هذه الأحوال فنقول:

من طبيعة العمران البشري استيلاء القوي على الضعيف، ومن هنا كان طلب

الفتوح والتغلب طبيعيًّا في البشر. ولم يكن في العصور الأولى طريق للفتوح

والتغلب إلا الحرب العوان، التي لم يُلْقِ الإنسان أوزارها عن عاتقه في دور من

الأدوار، ولقد انطبعت الأنفس عليها بالعمل المتكرر وحتى كادت تكون مقصودة

لذاتها، أعني الفتك المجرد عن ملاحظة المنفعة التي عليها مدار جميع أعمال

الإنسان. وأول تغيير مهم حصل في تاريخ الحرب فخفف ويلاتها وجعلها في ضمن

دائرة معقولة ما جاء به الدين الإسلامي، وإن لم يجر عليه المسلمون في بعض

حروبهم وغزواتهم [1] ، وسنفرد للكلام على تاريخ الحروب فصلاً مخصوصًا،

ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى (آية الجهاد) وما يتلوها من

الآيات المبينة حكمة الحرب، وسبب الإذن فيه، وما يشترط في المحاربين

إثباتًا لقولنا وهي:

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا

مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ

لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن

يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا

الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) .

وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة

المحاربين (بفتح الراء) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة

التعليم، لا بواسطة الجبر والإلزام، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم،

حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة.

وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل

مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم، وفتح أبواب الرزق لأممهم، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك

سبيلاً. والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك، وهو أساس مدنيتهم ودعامة

قوتهم: الاقتصاد وتوفير الثروة، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات

التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم، ونشر لغات

أممهم وآدابها، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا، واكتفوا بالقبض على

زمام السلطة بالفعل، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها؛ ففي

الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين: نواب (الأمير المسلم) ، وراجا (الأمير الوثني) ،

وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون

بأوامره (إلا قليلاً منهم) .

وتبارت تلك الأمم في الاستعمار، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث

المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا

السيل المنهمر، فمنها ما أدركته بوادره، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وبالجملة لم

تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه، فإن لم يصبها وابل فطل، هذا

هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة، ومثار الخلاف بين

الأمم، ومولد الفتن بين الدول، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل، وإليك بيان

بعض آخر.

***

الهند

مستعمرة عظيمة شرع الإنكليز في تأسيسها عندما أحسوا بخيال الحرية يطوف في أذهان الأميركيين الذين استعمروهم من قبل، وعلموا أن التربية الصحيحة وتعلم

الفنون العقلية والعملية لا بد أن ينفخَ فيهم روح الثورة، فيهبوا إلى طلب الحرية

والاستقلال.

ولقد صدق الظن ووقع ما كانوا يحذرون واستغنوا بممالك الهند الفسيحة عن

ولايات أميركا التي اتحدت على محاربتهم، فتسنى لها الظفر عليهم واستقلت،

فسميت (الولايات) ، وهم يحذرون اليوم من الهنود ما لاقوه من الأميركيين من قبل،

وإن كانت وسائل التربية عند هؤلاء ضعيفة، والعلوم لم تنشر إلى الدرجة التي

ينشأ عنها مثل تلك الأعمال التي صدرت من الأميركيين، لكن الأمة الإنكليزية

الحكيمة تبني حياطها على أسس الاحتياط، ولذلك عملت على إنشاء مستعمرة

عظيمة في إفريقية تستغني بها عن الهند إذا أتيح لها التفصي من عُقُلها، والتملص

من سلطتها بواسطة انتشار التعليم، أو بمساعدة دولة روسيا الطامعة فيها، ومع هذا

لم تأل جهدًا في سبيل المحافظة عليها، فقد جعلت لها السلطة على ترعة السوسي

التي هي طريق الهند بحرًا واكتفت بالسد المنيع الذي بينها وبين روسيا من جهة

الشمال، وهو الأمة الأفغانية التي لا تجهل روسيا قوتها ومنعتها، وحفظت بريطانيا

العظمى لهذه الإمارة الصغرى حقوق الجوار وساعدتها على تقوية بلادها بالمال

والرجال، وعقدت معها المحالفة، كما هو الشأن بين الأكفاء والأمثال.

ثم لما شعرت بدبيب الروس نحو تلك الحدود، حاولت امتلاك المضايق

وشعاب الجبال، والاستيلاء على جميع المراكز الحربية، وساعد الأمة على ذلك

قبض حزب المحافظين على زمام الحكومة، ومن سياسة هؤلاء توسيع دائرة السلطة

في كل آن، خلافًا لحزب الأحرار. وفي العام الماضي تحرشت العساكر الهندية

الإنكليزية بالقبائل المستقلة في الحدود الهندية الأفغانية ابتغاء إدخالها تحت الحماية

البريطانية، فنفرت تلك القبائل خفافًا وثقالاً، ودافعوا عن استقلالهم، واستنفروا مَنْ

في جوارهم من القبائل، واستفحل أمر الفتنة، وكانت الحرب سجالاً، بل دارت

الدائرة في الأكثر على الإنكليز، فجهزوا جيشًا عرمرمًا يربي على السبعين ألفًا،

فجاء الشتاء ولم يقووا معه على إطفاء نار الثورة، فأرجئوا الحرب إلى فصل الربيع.

ونادَى اللورد سالسبري رئيس الوزارة بعدم الحاجة إلى توسيع نطاق الملك،

وقالت التيمس بعد بحث طويل في حرب الحدود: إن إنكلترا لا تعوزها الأراضي

الآن، فيجب أن تغض الطرف عن المضايق التي تسعى لامتلاكها إلا مضيق خبير.

ثم قالت بعد: إن قبائل الإفريدس أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم الأمانة، فإذا

وكل إليهم حراسة ذلك المضيق قاموا به أحسن قيام.

ولا يخفى أن هذه القبائل أشد الثائرين شكيمة، فقول التيمس ينبئ عن تعسر

إخضاع العصاة أو تعذره. وقد أعلن قائد الجيش الهندي أخيرًا أنه مستعد لإخضاعهم

بالقوة إذا لم يستسلموا بأنفسهم، ويتوقع إعادة الكرة قريبًا والله أعلم بمصير الأمور.

وقد منيت الهند في العام الماضي بالطاعون، وعاودها في هذه السنة، ففتك

فيها فتكًا ذريعًا. وهو الآن آخذ بالتناقص لذهاب البرد. وقد اتخذت الحكومة وسائل

صحية مخالفة لعادات أهل البلاد وتقاليدهم، فثار بعضهم على الحكومة، واعتصب

عمال المرافئ كلهم في الاحتجاج عليها، فراجعت الحكومة نفسها وأباحت أمورًا

كانت حظرتها، كما ترى في الأخبار التلغرافية [2] .

***

كوبا

أما جزيرة كوبا فهي أكبر جزائر الأنتيل، وسكانها زهاء مليون ونصف،

وعاصمتها هافانا. وهي من مستعمرات الأسبان، وقد ثار سكان الجزيرة على

الأسبان يطلبون الحرية، فأرسلت إسبانيا الجنرال ويلر لإخضاعهم بعد إخضاعه

جزائر فيلبين في بحر الصين التي انتقضت عليها أيضا. فسلك الجنرال ويلر مع

الكوبيين مسلك القسوة والشدة، فازدادت نار الثورة احتدامًا. فأنفذت إسبانيا المرشال

بلانكو مكان الجنرال ويلر، فعامل الكوبيين أحسن معاملة، واضعًا السيف في

موضع السيف، والرفق في موضع الرفق، وقد أجاب طلب الكوبيين فأنالهم برضى

الحكومة الأسبانية حكومة مستقلة تتولى إدارة الجزيرة، ففرح الكوبيون وظن الناس

أن الثورة قد خمدت نارها، غير أن هذا الاستقلال الإداري لم يرق للجنة الثورة

التي في نيويورك، فإن غرض هذه اللجنة إنالة كوبا تمام الاستقلال، ويزعم

البعض أن للولايات المتحدة يدًا في تحريك تلك اللجنة حملاً لها على رفض ما

عرضته إسبانيا عليهم من الاستقلال الإداري طمعًا في تمام الاستقلال.

وزعمهم هذا مبني على رغبة أميركا في تحرير كل المستعمرات الأوروبية في

الأقطار الأميركية عملا بقانون مونرو. والمقصود من قانون مونرو قسمة الكرة

الأرضية إلى قسمين: تسوسه الممالك الأوربية فلا تمد إليه أميركا يدا، وقسم تسوسه

الولايات المتحدة فلا تمد له أوربا يدا. وبمقتضى هذا القانون يجب أن تتخلى

الدول الأوربية للولايات المتحدة عن جميع مستعمراتها في الأقطار الأميركية.

فأضرمت اللجنة المذكورة نار الثورة ثانية، فساد الهرج في عاصمة الجزيرة،

فأنفذت أميركا إلى مياه تلك العاصمة الدارعة (ماين) ، وهي أضخم دوارعها،

فساء ذلك الحكومة الأسبانية، حيث حسبته عدوانًا أو تشديدًا لعزم الثائرين،

فأخبرتها حكومة الولايات أن القصد من إرسال الدراعة ماين إلى هافانا حماية

رعية الولايات المتحدة وتودد للأمة الأسبانية. فأجابتها إسبانيا: وأنا أيضًا سأنفذ

إحدى دوارعي إلى مياه نيويورك توددًا للأمة الأميركية.

ثم أخلد الثائرون إلى الاستكانة، فهدأت الخواطر، وشهدت الصحف الأوروبية أن الدولة الأسبانية قد صنعت كل ما يمكنها صنعه، ومنحت الثائرين مع انتصارها

عليهم فوق ما كانوا يطلبون. غير أنه لم يطل وقت السكينة حتى نشرت لجنة

الثورة في نيويورك كتابًا خصوصيًّا كتبه سفير إسبانيا في واشنطون وسرقه أحد

الكوبيين، وقد جاء في الكتاب ما خلاصته: إن رئيس الولايات المتحدة يعد في

السياسة من الطبقة السفلى، وهمته في استرضاء رعاع الأميركان. فأكبرت

الولايات المتحدة هذا الكتاب، وطلبت عزل السفير إلا أن السفير كان قد قدم

استعفاءه عندما علم بنشر الكتاب.

ولم تكد تسكن الخواطر إثر هذا الحادث حتى تلاه حادث أقام الأمة الأميركية

وأقعدها، وهو انفجار الدارعة ماين انفجارًا ذهب بها في لحظة إلى قاع البحر،

فقتل من بحارتها زهاء المائتين، ولم يسلم منهم غير القليل.

وحسب الأميركان أن الانفجار كان مسببًا عن نسف خارجي أقدم عليه الأسبان

تشفيًا وانتقامًا، فقامت الجرائد تثير خواطر الأمة، وثارت الأمة تطلب الحرب،

فأنفذت الحكومة الأميركية إلى موضع الانفجار لجنة لتحقيق تلك الحادثة المحزنة.

فوصلت اللجنة إلى موضع الحادثة، وشرعت في التحقيق وهي تكتم ما تتحققه كل

الكتمان إلى أن تقدم باكتشافاتها تقريرًا مفصلاً.

على أن الدولة الأميركية تجد في الاستعداد للحرب، فاضطرت إسبانيا إلى

مجاراتها في ذلك الاستعداد. وقد قررت الحكومة الأميركية خمسين ألف ألف دولار للدفاع، وابتاعت طرادين، وحصنت القلاع والحصون التي على الشطوط،

وحشرت عليها نحو مائة ألف من الجنود. وقد نقل البرق في هذا الاسبوع أن

إسبانيا أبلغت أميركا أن الحرب لمثل تلك الأسباب جناية على الإنسانية.

وقد أرسلت إسبانيا من قبلها لجنة لتحقيق حادثة الدارعة ماين، فقررت

اللجنة الأسبانية المذكورة أن الانفجار كان من الداخل لا من الخارج، وستتمسك

إسبانيا بذلك على ما روته الرسائل البرقية. على أن جميع العالم المتمدن في

انتظار تقرير اللجنة الأميركية. فإن جاء فيه أن الدارعة ماين نسفت من الخارج

بخيانة شبت نار الحرب بين الأمتين، وإن جاء فيه أن الانفجار كان عرضًا بقيت

كأس السلم صافية، والله أعلم.

_________

(1)

راجع ص 455 من المجلد 4 و297 من 6 و768 من 7 و865 من 9.

(2)

لم ننشر الأخبار التلغرافية في هذه الطبعة لعدم الحاجة إليها.

ص: 46

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اليهود في فرنسا وفي مصر

قبل أن يلبَس بونابرت تاج الإمبراطورية كانت حجته القوية لدى الشعب

الفرنساوي: دفاعه عن الحرية العمومية، وخدمة المبادئ الجمهورية. غير أنه بعد

ارتقائه العرش الإمبراطوري لم يألُ جهدًا في محو تلك الحرية، ودوس تلك المبادئ

الدستورية.

وهذا شأن الإنسان في كل آن، يطلب الحرية مرءوسًا، ويكرهها رئيسًا،

يستنجد العدالة مظلومًا، وينبذها ظالمًا، إلا مَن وفقه الله وقليل ما هم.

لقد شاعت أنباء المشاكل السياسية الداخلية التي قامت في فرنسا إثر

مسألة دريفوس، وقضية زولا، وما قاساه اليهود فيها من الإهانة والاضطهاد

وسوء المعاملة، ولا يحسب القراء أن هذا الاضطهاد قد نشأ عن تعصب ديني في

الأمة الفرنسوية، وكيف وهي أقرب إلى وهن العقيدة منها إلى التعصب الذي مثاره

الغلوّ في الدين. أما مصدر هذا الاضطهاد: فالتعصب الجنسي والحسد الذميم،

أثارهما في صدور الأمة فئة من أرباب الجرائد المعادين لليهود الطامعين بما في

أيديهم من خزائن الأموال.

على أن تلك الحوادث القبيحة لو جرى مثلها بين الشرقيين لطبق السماءَ

صراخُ تلك الجرائد، وسلقت الشرقيين وآدابهم بألسنة حداد، وأقلام أنفذ من السهام.

بل لو كانت تلك الجرائد في بلاد تكون فيها ضعيفة الجانب ضعف اليهود

في فرنسا - لكانت أسرع الناس طلبًا للحرية المطلقة، والعدالة العامة للبشر

على اختلاف أجناسهم ، وهذا معنى قولنا: يستنجد الإنسان بالعدالة مظلومًا وينبذها

ظالمًا.

ومن الغريب أن داء الجرائد الإفرنسية قد سرى إلى بعض الجرائد المصرية.

فقامت تُصْلِي اليهود نارًا حامية، وتأخذ عليهم في مهارتهم في الكسب، وتفننهم

في أساليب الربح، أما نحن فرأينا أن الحرية العمومية ليست مختصة بفريق دون

فريق. فإن التمدن الصحيح، والعدالة الحقيقة يفرضان المساواة المطلقة بين جميع

بني الإنسان في المنافع العمومية. والعمل والكسب بالطرق الشرعية فضيلة من

الفضائل الاجتماعية وللإنسان أن يعمل ويربح بالطرق المشروعة ما استطاع إلى ذلك

سبيلاً، ومن يعترضه في ذلك فقد اعترض مبدأ الحرية العمومية.

ولذلك لا ترى عاقلاً من عقلاء الأمة الإفرنسية راضيًا عما نال اليهود في

فرنسا من الاضطهاد قديمًا وحديثًا. وقد سمى ذلك بعض كبار فلاسفتهم مرضًا من

الأمراض العارضة، وأمل ذهابه بتقدم المدنية والآداب العمومية.

فالمأمول أن لا يُدْخِل الكُتّاب في هيئتنا الشرقية عاملاً جديدًا للنزاع والشقاق،

فحسبنا ما لدينا من تلك العوامل القبيحة، وإنا الآن أحوج إلى عوامل الاتفاق منا إلى

عوامل الشقاق.

وعسى أن يستفيد إخواننا الشرقيون - لا سيما المسلمون منهم - بما نقصّ

عليهم من أحوال الأمم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

اهـ ما اخترناه من العدد الثاني.

_________

ص: 53

الكاتب: محمد رشيد رضا

التربية والتعليم

ذكرنا في العدد السابق من جريدتنا مقالة مضمونها: أن مَن ينظر في تاريخ

الأمم ويكتنه شؤونها يتجلى له أن القوة والمنعة والغنى وبسطة الملك وسائر موارد

السعادة مناطها تعميم التربية والتعليم على الوجه الذي ينبغي.

وهذا الأمر وإن كان بديهيًّا عند العارفين بالتاريخ؛ لأن الوجود الإنساني كله

شاهد به ودليل عليه، فالسواد الأعظم من أمتنا غافل عنه لا يرجع إليه طرفًا، ولا

يصيخ له سمعًا، والمتنبهون أفراد قلائل يرددون الصيحات والنبآت، ولا ملبي ولا

مجيب {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) .

وإن تعجب فعجب قول من سمع الصيحة منهم: إن هذا لا ينفع ولا يفيد.

ويحتجون بحجج داحضة، ذكرنا في المحاورة السابقة منها: حجة الجبر وسلب

الاختيار، وأتينا على تزييفها بما يقطع ألسنة المثرثرين بها بقدر ما يحتمله المقام،

وبقي لهم حجج أخرى واهية، تنبئ عن قلة الاختبار. وإننا قبل بسط الكلام على

التربية والتعليم نورد ما يثرثر به الكثير من الناس في الاحتجاج على عدم الفائدة

منهما، ونبين فساده؛ ليكون ذلك أدعى إلى تأمله والنظر إليه بعين الاعتبار، ومن

الغريب أن ما ادعيناه في المقالة السابقة [*] من أن سعادة الأمة في التربية

والتعليم مبني على المشاهدة والاختبار التام، وكذلك شبه هؤلاء على عدم فائدتها

تستند على اختبار ومشاهدة، لَكِنْ ناقصين غير تامين، وإنني مورده عليك

فاستمع لما يتلى.

احتجاجهم على عدم فائدة التعليم في إصلاح الأمة:

قالوا: إنا رأينا كثيرًا ممن درج في حجر المكاتب، ثم عرج منها إلى حجرات

المدارس العالية، فتلقى العلوم والفنون، وظهرت عليه أمارات النجابة، حتى صار

قبلة آمال الوطن، ومنتهى رجاء أهله، ثم لما ألقيت إليه مقاليد الأمر فيه كان كلاً

على كاهله، وقذى في عينه، بل كان جائحة متلفة لثماره، وصاعقة منقضة على

دياره، لا يسعى إلا لمنفعة شخصه، وتنمية ماله وإن تلفت في سبيله مصالح

العالمين.

ومنهم من كان عونًا للأجنبي، وعتادًا على امتلاك بلاده، يمهد له الصعاب،

ويزيل من أمامه العواثير والعقاب، ويسهل احتمال سلطته على النفوس، بل منهم

من باع للأجنبي بلاده بثمن بخس (وكل ثمن تُباع به الأوطان فهو بخس) ، أو

وعد بأن ينيط به بعض الوظائف، أو يكون مقربًا من جنابه الرفيع. فما أغنت

التربية عن أمثال هؤلاء، وماذا أفادهم التعليم، أما والله لو لم يتعلموا لما تسنى لهم

اقتراف هذه المنكرات، ولما فطنوا لأساليبها واهتدوا إلى طرقها، ولكانت مضراتهم

محصورة في دائرة ضيقة مخصوصة بنفر قليل.

هذا بالنسبة للذين تعلموا العلوم السياسية والحقوقية، وأما الذين تعلموا العلوم

الشرعية الإسلامية، فإننا نرى الكثير منهم أيضًا قد اتخذها فخًّا لصيد الدنيا. يحتال

ويعلم الناس الحيل لهضم حقوق الله وحقوق العباد، وإذا تبوأ منصبًا (كقضاء

أو إفتاء) ، أو صار محاميًا، لا يأتي أن يجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، ليشتري

به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وياليتهم لم يكونوا من المتعلمين.

والجواب عن هذا واضح: وهو أن هؤلاء وإن تلقنوا بعض الفنون إلا أنهم لم

يتربوا تربية صحيحة، يغارون بها على دينهم ووطنهم، والعلم من حيث إنه إدراك

لصور المعلومات لا تقتضي العمل، ولئن اقتضى العمل فهو لا يستلزم أن يكون في

وجوه الخير والمنفعة لبلاد العامل إلا إذا تربى على ذلك. ثم ما يدريك أن المعلمين

لهؤلاء الخائنين والمربين لهم في المدارس كانوا من الأجانب أو ممن اصطنعهم

الأجانب فصبغوهم بصبغتهم، وجذبوا أعنة قلوبهم فقادوها إلى محبتهم، وعلموهم

كيف يعملون لمنفعتهم، أو غرسوا في نفوسهم اعتقاد عظمتهم وقدرتهم، وأنه لا

يتعاصى عليهم أمر، ولا يعز عليهم مطلب، فذللوهم بذلك واستعملوهم كما تستعمل

السوائم من الأنعام، أو أقنعوهم بأن السعادة لا تنال إلا بأيديهم، وأن الإصلاح لا

يأتي إلا على أيديهم، وأن قطرًا لم يحتلوه محروم من المدنية ورفاهة العيش، لا

ترى فيه القصور المشيدة، والسرر المنضدة، والطرق الفسيحة، ولا تنشأ فيه

الحانات والمواخير (أي مواضع الريبة، وليس هذا من التهكم؛ فإن السكر والفحش

من لوازم التمدن الحديث) ، إلى غير ذلك من المحسنات فعملوا ما عملوا بناءً على

هذا الاقتناع، فهم مجتهدون بأنهم ينفعون أمتهم من حيث ينتفعون بأنفسهم، وفي كل

صورة من هذه الصور ترى أن التربية والتعليم أفادا المعلم والمربي، فاجتنى بهما

ثمرات المنافع من خصمه ومناصبه، فكيف يكون أثرهما من مجانسه ومناسبه،

لعَمْرك إنه لعظيم.

احتجاجهم على عدم الفائدة من التربية:

قالوا: نرى كثيرًا من الولدان يهمل أمر تربيتهم الوالدان، فلا ينتهرونهم،

ولا يضربونهم، ومع ذلك ترى عندهم الدعة ولين الجانب والدماثة والصدق والوفاء

والأمانة، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق والأعمال، وبعكس ذلك نرى بعض

الناس يعامله والده بالشدة والغلظة، ولا يضحك في وجهه، ولا ينبسط له، وإذا

عمل عملاً قبيحًا صب عليه سوط عذاب، أو كما يقول بعض العامة في بلاد الشام:

(لعب العصا بجلدو) ، ومع ذلك تراه كذوبًا مرائيًا شرسًا أحمقَ خائنًا ماكرًا فاحشًا

متفحشًا سبابًا لعانًا، وبالجملة: منغمسًا في الرذائل، ملطخًا بحمأة المقاذر،

مسترسلاً في الفجور، ولولا الاعتناء بتربيته لما بلغ هذا المدى، ولا انتهى في

الفساد إلى هذه الغاية.

والنتيجة من هذه المشاهدات: أن الأخلاق مواهب وحظوظ،

وليست بالتربية. وأن التربية ربما عادت على صاحبها بالخذلان، وكانت كالدواء

لم يصادف محله فأودى بمتناوله وأورده مورد الهلكة.

فموسى الذي رباه فرعون مُرْسَل

وموسى الذي رباه جبريل كافر

والجواب عن هذا في غاية الظهور وإليك البيان: إن معاملة الوليد باللين

والرفق وأخذه بالرأفة والحلم، وعدم إهانته بالسب والشتم، كل ذلك من أفضل

أساليب التربية وأنجعها وأنجحها، إذا لم ينتهِ إلى حد الإهمال وإرسال الحبل

على الغارب، وإن الشدة والقسوة والإهانة بنبز الألقاب، وضروب الإيلام

مفسدة للأخلاق، ومدعاة للشرور والفجور، وإن أمهات الرذائل كالكذب

والخيانة والمكر والاحتيال والمداهنة لا تتولد إلا من الظلم والضغط على

الحرية الشخصية، كما سنوضحه فيما بعد.

فهذه الحجة دليل على نفع التربية وفائدتها، لا على ضررها، على أن

زمام التربية ليس بأيدي الوالدين والمعلمين دائمًا، بل ربما كان بأيدي

الخلطاء والمعاشرين أكثر مما هو بأيديهم. وهناك أمر آخر حقيق بالاعتبار، وهو

ناموس الوراثة، وكل ذلك سنفصله تفصيلاً.

وأما قولهم: فموسى الذي رباه فرعون

إلخ، البيت المار فهو من حجج

الشعراء التي لا يتبعهم عليها إلا كل غوي مبين. ويعنون بموسى الذي رباه جبريل

السامري الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل، ودعواهم تربية جبريل له باطلة وأفيكة،

انتحلها هذا الشاعر الغوي الذي جعلوه قدوة لهم ولعمري إن فيها غميزة بمقام روح

القدس وأمين الوحي عليه السلام. والحق أن جبريل إنما ربى موسى الرسول؛ لأنه

هو الروح الذي يؤيد الله تعالى به الرسل والأنبياء، لا الغواة الأشقياء (نعوذ بالله

من غلبة الجهل) .

ويا ليت شعري هل يقولون بأن تربية فرعون لموسى كان لها دخل في ارتقائه

إلى مقام الرسالة، لا وإنما يحتجون بذلك على عدم وجود فائدة للتربية بالكلية،

وجَهِلَ هؤلاء الحمقى أن الذين اجتنوا فوائد التربية من أهل أوربا وثبتت لديهم

بالاختبار والمشاهدة، اللذين هما أقوى الأدلة والبراهين، قد جعل بعض ملاحدتهم

كلام الشاعر شبهة على الطعن بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وزعموا أن

نشوءه في بيت الملك، وتربيته في حِضْن السياسة والشريعة المصرية قد نبها فكرته

للقيام بتلك الدعوة التي حرر بها أمته، وأن ما جاء به من الشريعة مقتبس من

شريعة المصريين، مع تنقيح وتحوير يناسب حال شعب إسرائيل (نعوذ بالله من

هذا الضلال البعيد) ، وليس المقام هنا مقام رد شبه الملاحدة، ولكن لا بد من كلمة

تحول دون تمكن الشبهة من فكر الجاهل، وهي إذا جاز أن يأخذ موسى (عليه

السلام) شريعته من شريعة المصريين، فهل يجوز أن يكون ما جاء به من

المعجزات التي أدهشتهم وأبطلت السحر الذي كانوا يخدعون به الناس مأخوذًا من

المصريين، كلا بل سول لهم الكفر ما يأفكون.

ثم إن التربية والتعليم متلازمان بمعنى: أن الثاني لازم للأول، لا يتم إلا به

بل هو جزء منه؛ لأن التربية على ثلاثة ضروب: تربية الجسم، وتربية النفس،

وتربية العقل، وهذا الأخير هو عين التعليم، ثم كل منها يحتاج للعلم والتعليم،

ولكننا نفرد للتعليم مقالات مخصوصة نبين فيها وظائف المعلم والمتعلم، وكيفية

التعليم، ويدخل في هذا البحثُ في المصنفات وأساليبها، ونبدأ بالكلام على القسم

المهم من التربية، وهو: تربية النفس، المعبر عنه بتهذيب الأخلاق، وموعدنا

الأعداد الآتية، إن شاء الله تعالى.

_________

(*) نشرت في فاتحة العدد 3 الذي صدر في 7 ذي القعدة سنة 1315 - 1 مارث سنة 1898.

ص: 56

الكاتب: محمد عبده

‌التمدن

لبعض فضلاء المصريين [*]

ما وصلت إليه الأمة إلا وحط عن كاهلها جميع الأتعاب والبلايا والاضطهادات

والرزايا. ولا رقي إليه شعب إلا وأمن غائلة الإعنات والاعتساف. وتحصنت

أعماله من جائحة السلب والاعتداء. فصاحبه هو الساكن في منازل الرغد والهناء،

واللابس حلة الإسعاد، نقول ولا مغالاة في الحق: إنه الضامن لتوطيد أركان

العمران، والكفيل بتشييد دعائم الاجتماع، كيف لا وهو الحقيقة الجامعة لكل فرد

من أفراد الكمالات، من غير فرق بين أن يكون أدبيًّا أو ماديًّا، حسيًّا أو معنويًّا،

فالتفنن في الصنايع فصل من فصوله، والتسابق في ميادين العلوم باب من أبوابه،

والتجافي عن مواضع النقيصة جزء من أجزائه، والتجميل بالأخلاق الفاضلة نبذ من

جواهره، فإذًا لا بدع إذا قلنا: إن صاحبه هو السعيد والواطئ بنعله غرف النعيم،

جد في طلبه من أدرك نتيجته من الأمم، فجنى ثمره اليانع، نراه يتقلب على بساط

العز، ويتدرج في معارج الإجلال والجمال، عمرت دياره بعد أن كانت قاعًا

صفصفًا بالأبنية العالية، وتزينت بالأسواق الفسيحة والصنائع العديدة، وصارت

محط رجال السياسة، ومطمح أنظار النبلاء، ضاق بسيطها عن القيام بنفقاته

الواسعة فطار على جناح العلم يستطلع بقاعًا خربتها الجهالة، وثلمتها يد البغي،

ليكون فيها هو الوارث بعد بنيها، يستخرج منها الكنوز بحكمته، ويفجر منها

الينابيع بقدرته، ليجني وأهلها الغارسون، ويقضي وهم المطيعون. تسمع أهل تلك

الديار صدى صوته في العشي والإبكار، والغدو والآصال، ولكن يغالطون الحس

ويكابرون بإنكار البداهة، ويسلون أنفسهم بأن هذا الأجنبي لا سطوة له ولا حكم،

وإنما هو غريب، دعته الحاجة للتجول في البلاد لطلب الرزق، ثم تحثهم

خواطرهم بأننا أرفع شأنًا من أولئك الغرباء، وأسبق منهم يدًا في المدنية، ولئن

تأخرنا عنهم حينًا من الزمن لكنا لحقنا بهم في انتظام الهيئة، وحسن السلوك، وهذه

قصورنا المشيدة، وثيابنا الملونة، وقدودنا المجملة، وأطعمتنا المتنوعة تشهد بأننا

قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالثروة، ونهجنا الصراط المستقيم.

يحسبون تلك الأوهام حقائق تجعلهم من ذوي النعمة واليسار، والعزة والكمال

اعتمادًا على كونها سنة الأمم المثرية، والشعوب المتنورة. وايم الله إنها بالنسبة

لأولئك البسطاء لداعية الفقر المدقع، ومجلبة الشر، وإن هذه الصور الظاهرية التي

يظنونها تمدنًا كسحابة حُشِيَتْ بالصواعق، يتوهم الغافل من بريقها ولمعانها أنها

تأتي بوابل ينعش البقل ويحيي الموات، ولكن إذا حل الأجل أمطرت ما يذهب

بالحياة ويبدد الأجسام، وذلك لأن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد

القصور وتزيين الملابس وتحسين الأثاث إلى غير ذلك من المصارف، فإنما يَكُون

على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات

الجميلة، والمخترعات الجمة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة،

وقدرًا رفيعًا. ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص

عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم،

فكلها مؤسسة على قاعدة جلب المصلحة ورفع الحاجة.

تدخل منزل الرجل منهم ترى غرفه ومخادعه مشغولات بأمتعته وبضائعه

ونقوده، وليس فيه قدر شبر عُمِّرَ لغير حاجة، حتى حديقته، ولا يشتري ثوبًا له أو

لزوجته وأولاده إلا بقدر العوز، وحلي آل بيته ثلاثة أرباعه من النحاس مهما كثرت

ثروته، وليس في إصطبله سوى عربة أو حمار للركوب، لا يجمع بينهما إلا نادرًا،

وفرشه وغطاه لا يخرج عن نوعي القطن والصوف كثيابه. أما أهل تلك الديار

الذين يزعمون أنهم قوم متمدنون (وهم في ذلك مخطئون) ، فقد ركبوا الشطط

وحملوا أنفسهم ما لا يطيقون من النفقات الباهظة، يصرف الواحد منهم آلافًا من

النقود في سبيل تعمير أرض فسيحة، وربما كفاه ما لا يبلغ العشر من مساحتها،

ويفرشها من أعلى أنواع الفرش، ويزينها بأبهج أصناف الزينة، فتبقى غرف

المنزل بلا ساكن، يعلو التراب على ما فيها من الأثاث والفرش المغشاة بالفضة

والذهب حتى يبيدها، وربما لا يستعملها مرة في العام. يتختم في إصبعه بما تجاوز

قيمته عقد الألوف من الفرنكات، ولدى زوجته من الألماس والجواهر ما يكفي ربحه

لنفقات بيته أو يزيد، لو استعمل ثمنه في شيء يتجر به (إذا كان ممن يفقهون)

إلى غير ذلك من المصارف التي يضيق بنا المقام عن تفصيلها، وما حمله عليها

سوى الطيش والانهماك في الشهوات والسفه المفرط الذي بلغ مرتبة الجنون. فإن

رجعنا إلى سيرهم في طرق جلب المنافع، وتخفيف أتعاب المعيشة، وتحسين

وسائل الاكتساب، رأيناهم واقفين على نقطة واحدة من آلاف من السنين. فإيراداتهم

الآن واقفة عند الحد الذي كانت عليه قبل أن كانوا يسكنون المنازل المصنوعة من

اللبن الأخضر، المفروشة بقصب (الحَلْفاء) ، المعرشة بقضبان شجر (الجميز)

وجذوع النخل، مكتفين من الثياب بما يستر البشرة، ومن الطعام بما يذهب النهمة

فمزروعاتهم الآن هي على ما كانت عليه في تلك الأيام، لم تغير أشكالها، ولم

تتبدل أصنافها، نعم قد زادت حاصلاتها نظرًا للتسهيلات التي أجريت في طرق

الري (هذا في بلاد الكاتب) ولكن هذا النمو لا ويعادل في الحقيقة الضعف الذي يلم

بتجارة أبناء البلاد، فقد كان يوجد قبل ورود الغريب إليهم في القرية الصغيرة

أشخاص عديدون يتجرون في جميع أصناف المزروعات وغيرها من الأقمشة

والمأكولات، يربحون من ذلك مالاً عظيمًا. أما بعد ذلك فلا ترى بَنِيهِمْ إلا يتضورن

جوعًا، ويئنون تحت أحمال المشقات، لبوار التجارة وكسادها واختصاصها بيد

النزيل. ويتبع ذلك سقوط صنعة النجارة والحدادة والحياكة، وغيرها من أصناف

الحرف اللاتي نسختها متحدثات الأمم المتمدنين. وربما ينتهي بهم الأمر لو استمروا

على الجهالة والسفه إلى خلو أيديهم من الزراعة أيضًا؛ لوجود من يحسنها سواهم.

ولا عجب بعد هذا إذا رأينا هؤلاء السفهاء واقعين في وهدة الفاقة والاضمحلال،

يئنون تحت أثقال الديون التي تستغرق جميع ما في حوزتهم من الأملاك، وهذا

يجعلهم حقراء أذلاء في قبضة الدائن الذي يكونون رهنوه أملاكهم، يتصرف فيهم

بما يريد فيلاقون منه شمماً لا تقدر على تحمله النفوس، ولا تستطيعه الطباع،

وربما كان الدائن من سفلة قومه، والمدين من أعيان بلاده، ولا تغني عنه يومئذ

قصوره العالية ولا ثيابه المزركشة ولا أثاثاته الخَزِّية والحريرية، وهذا فضلاً عما

يعتريه من البلبال، وكثرة الوساوس والأفكار، يبيت ليله يتقلب على الفراش ولا

تقلبه على جمر الغضا، يقدر محصولات زراعته قبل بذرها وينسبها لمقدار

المطلوب في إبان الحصاد، فإذا وجدها على قدره حصل له نوع من الاطمئنان

ذاهلاً عما عساه يحدث من الغرق أو الشرق أو الأندية المتساقطة من الجو، حتى إذا

حل الأجل ولم يجد لديه ما يفي بالمطلوب لإصابة الزرع بأحد الأسباب التي ذكرناها

ضرب كفًّا على كف، واسود وجهه، وساءت حالته، وتسول الناس ليكفلوه عند

عميله (دائنه) إذا لم يف ما عنده بالرهن، فلا يجد مجيبًا ولا نصيرًا. لعمر الحق

إن المفترش للحصا، المتوسد لحجر الصخر، المستكن في منازل الحيوانات،

المتكفف في معيشته، خير من هؤلاء الناس الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم

بال (ومما يسوؤنا أن نراهم أكثر من الكثير في بلادنا) ، أهذا ما حسبوه تمدنًا

وزعموه نعيمًا مقيمًا. كلا، بل هو الشقاء الأبدي الجالب للفقر المدقع والعذاب الأليم.

هذه مشاربهم في أحوالهم المعاشية، تحزن المحب، وتفرح قلب العدو،

ولعلمنا بأن تلك الحالة لا يرضاها الشرع ولا القانون جئنا بهذه النصيحة، آملين أن

تنفع الذكرى، فينهج هؤلاء صراطًا مستقيمًا، وما ذلك على الله بعزيز.

_________

(*) هذا في الأصل وهي من مقالات الأستاذ الإمام في الوقائع المصرية.

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

اصطلاحات كُتَّاب العصر

‌التعصب

مادة (عصب) تدل في أصل اللغة على الليّ والشد، يقال: عصب الشيء،

إذا لواه وشده، وعصب الشجرة: ضم ما تفرق من أغصانها، وهو مأخوذ من الشد

بالعصابة، فمعنى عصب وتعصب في الحقيقة: شد العصابة، ومنه العصبة لقوم

الرجل وقرابته، وكان جمع عاصب (اسم فاعل) ككَمَلَة جمع كامل، والعصبية

نسبة للعصبة، والتعصب: ميل أفراد العصبة بعضهم إلى بعض وتشددهم في

المدافعة عمن يتصل بهم بجامعة العصبية التي كان مناطها عند العرب القرابة

والعشيرة.

ولم يكن يطلق اسم التعصب على التشدد في الدين والغلو فيه، بل كانت

العرب تسمي هذا تحمسًا، وكُتاب العصر اشتهر بينهم إطلاق اسم التعصب على

الإفراط في التشدد في الدين إلى درجة يؤذي بها المتعصب مخالفه فيه، وأجدر بهم

أن يسموه: تحمسًا، لولا أن الناقلين له عن لغات الإفرنج إلى العربية لم يتنبهوا

للفظ التحمس. ويطلقون التعصب أيضًا على الميل للجنس والإفراط في الحماية له

والمحافظة على شرفه، واتساع سلطانه، وإن غمط حقوق سائر الأجناس، وهضم

جانبهم، ويخصون هذا الضرب من التعصب بالمدح والإطراء، والأول بالغميزة

والهجاء، ولا يخفى أن الأوروبيين سرى بينهم رأي نابليون في أن مناط الجنسية

هو اللغة، فكانت هذه الاصطلاحات وبالاً علينا نحن العثمانيين، فإذا كانت سعادة

الأمة في وحدتها، والوحدة لا بد لها من جامعة تلتف عليها عناصرها وترتبط بها

هاماتها ولَهازِمها فما هي الجامعة العامة والرابطة القوية لهذه الأمة المختلفة في

الأديان واللغات؟ ، والجواب: إن سعادتنا تتوقف على رفض مذهب الأوربيين في

الجنسية واتفاقنا على أن يكون مناط جنيستنا هو العثمانية، ولا أظن أحدًا من

العناصر المستظلة بظل الدولة العلية العثمانية يرفض هذا ويرتضِي اصطلاح أوروبا

في الجنسية، وإننا لبيان هذه المهمات ننشئ مقالة في التعصب والجامعة العثمانية

في عدد تالٍ (إن شاء الله) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 66

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطبيب الدجال

كلنا في الهوى سوا

لدينا قصة نقصها على إخواننا الغربيين الذين يستوقفهم عند أرصفة الأزبكية

اجتماع بعض الجهلاء على أحد الدجالين أو العرافين فيقفون ساخرين منهم

مستهزئين بالأمم الشرقية كلها، حاسبين أنها على شاكلة أولئك الجهلاء.

ذلك أن رجلاً دجالاً سيق إلى المحاكمة في إحدى عواصم أوروبا لإقدامه على

التطبيب بلا رخصة من الحكومة. ولما وقف أمام المحكمة سأله القاضي بصرامة:

ما حملك أيها الرجل على مخالفة القانون؛ أما علمت أن العقاب مفروض على كل

طبيب لا يكون في يده شهادة قانونية؟

فلم يحر الدجال جوابًا، ولكنه مد يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة كبيرة ثم قال:

إليك شهادتي القانونية أيها القاضي، فإنني ممن أتموا دروسهم الطبية في كلية

باريس، وقد نلت منها لقب دكتور في الطب كما ترى في هذه الشهادة. ولما أن

أنهيت دروسي خيل لي أنى بلغت أوج السعادة. فاستأجرت منزلاً ونقشت على

نحاسة وضعتها على بابه هاته الكلمة: (دكتور في الطب) ، ثم لبثت أنتظر وفود

الناس علي للمعالجة، فمرت الأسابيع والشهور ولم يأتني أحد مستشفيًا. فصرت إلى

الفقر المدقع وعلمت أن تمسكي بتلك الشهادة لا يغني عني فتيلاً. فألقيت بها إلى

جانب، وكسرت الأمَارة النحاسية، وتحولت إلى منزل صغير، وتظاهرت بمظهر

الأطباء الدجاجلة، فتقاطر عليَّ الناس للاستشفاء من كل الجهات، ووفد عليَّ ذوو

العلل فعالجتهم وربحت أموالاً عظيمة. ومازلت على ذلك حتى ألقى الشرطي القبض

عليَّ ظنًا منه أنني من الدجالين. وقد علمتم أن الذي ألجأني إلى إخفاء شهادتي ولقبي

رغبتي في اكتساب ثقة الشعب، فأطلب الآن إلى المحكمة أن تحكم ببراءتي.

فأَدْهَشَ السامعين هذا الحديثُ وبرأت المحكمة الرجل بالحال!

قالت الجريدة - التي نقلنا عنها هذه القصة -: إن هذه الحادثة عار على العلم

وعلى الشعب. قلنا: عار على العلم؛ لأنه قد عجز إلى الآن عن تنوير أذهان

العامة واكتساب ثقتهم. وعار على الشعب؛ لأنها تدل على جهله وإيثاره أوهام

الدجاجلة على الحقائق العلمية الثابتة. وإلا فما معنى إعراض الشعب عن ذلك

الرجل دكتورًا، وإقبالهم عليه دجالاً؟ ! هذا، ولا يبعد أن يفقد الرجل ثقة الشعب

فيه حين يظهر لهم أنه من الأطباء القانونيين، وإذا وقع ذلك كان منتهى الجهل

والغباوة.

ونتيجة ما تقدم أنه لا يصح إطلاق القول في ذم شعب أو مدحه استنادًا على

اختبار بعض أفراده. وإن لنا أن نعير الغربيين بأولئك الأغمار الذين لا يثقون إلا

بالدجاجلة، إذا عُيِّرْنَا بالأغمار الذين يجتمعون في أرصفة الأزبكية لضرب الرمل

واستنطاق الحصى، فلا يسخرن أحد من بسطائنا وجهلائنا، فإن لهم في الأمم

الأوروبية أقتالاً وأمثالاً من البسطاء (وكلنا في الهوى سوا) . اهـ ما اخترناه من

الجزء الثالث.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تبصرة وذكرى لقوم يعقلون

في بيان أن سعادة الأمة في التهذيب

تلك آيات من الحكمة، تتلى على مجتمع هذه الأمة، تنبه فكر الناسي، وتبعث

همة الآسي، وشذرات من معدن العلم السماوي، تُهْدَى إلى معمل الفكر الإنساني،

ليصوغ منها عقودًا، ويضرب منها نقودًا، تتحلى بها أجياد العقائل العواطل،

وتعامل بها أكف المُثْرِي والعائل، لعلهم يفلحون.

إذا تأملت في تاريخ هذا الإنسان رأيت أبناءه قد وقع منهم الاختلاف في كل

شيء {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) اختلفوا

في العقائد والمذاهب، والعادات والمشارب، وجرى هذا الخلاف منهم في مدركات

الحس، كما سرى في مدارك العقل، ألا ترى أن بعضهم لا يستطيب أكل اللحوم

ذوقًا، كما أن بعضهم يستقبحها عقلاً، أما سمعت أن منهم مَن أنكر مظاهر الوجود

وحقائق الأشياء زعمًا أنها خيالات وأوهام تتراءى للحواس ولا تحقُّق لها في نفسها.

ومن رام حصر مواد الاختلاف والافتراق بين الأمم والشعوب. وبين الآحاد

والأشخاص فقد رام عبثًا وحاول شططًا، وفيما أشرنا إليه من النموذج بلاغ لقوم

يفقهون.

إن أصالة الخلاف والمنابذة وتمكُّنهما من نفوس أفراد هذا النوع قد جعلته من

الخواص اللازمة أو الفصول المقومة لذاته والمقسمة لجنسه، بحيث يصح أن يعرف

الإنسان بأنه (حيوان مخالف) ، أفلا يجدر بنا أن نعجب بعد هذا إذا رأينا جميع

الناس أو أمة منهم قد اتفقوا على شيء، وأجمعوا على شأن؟ ألا يجب علينا أن

نغتنم ذلك الشيء فنتخذه ذريعة لجمع كلمتهم واتفاق وجهتهم، الذي لا قوام لحياتهم

على الوجه الذي ينبغي إلا به؟ بلى ولكن أَنَّى لنا الظفر بهذه الرغيبة المفقودة،

والاهتداء لهاته الضالة المنشودة، وكيف لنا أن نطمع بما يكاد يخرج به الإنسان عن

كونه الخاص به فلا يكون إنسانًا؟ ولعل قائلاً يقول: إنا لا نرتاب في أن الاختلاف

المطلق لا ينفك عن البشر، لكن ذلك لا ينافي الاتفاق على بعض الشؤون، فهل

تعلم لنا شيئًا لا تخالف فيه ولا تنازع، وهو مما يقصد بالعمل ويتوصل إليه بالسعي،

لنجعله معقدًا للارتباط، إذا أخذنا في الدعوة إلى الاجتماع على أصول العلم

الصحيح؟

والجواب: نعم، إن هؤلاء الناس مهما تباينوا في الوسائل واختلفوا في

المقاصد فهم متفقون على شيء واحد يصح أن يكون علة غائية لكل حركة وسكون

يصدران منهم، ألا وهو: التخلص من البؤس والشقاء والظفر بهناء العيش ونعمة

البال عاجلاً أو آجلاً، وإن شئت قلت: هو دفع المؤلم واجتلاب الملائم إما لنفس

العامل فقط، وإما له ولمن يشاركه في المنزل أو الوطنية أو الجنسية. وما نشاهده

من سعي الكثير منهم إلى ما يبلسهم للهلكة، ويتجافى بهم عن مضاجع الراحة والهناء

فإنما هو لإِخطاء النهج وضلال الطريق القصد.

يظهر هذا في سيرة المحكوم والحاكم، والجاهل والعالم، والتاجر والصانع،

والحارس والزارع، والمنفق والممسك، والحليم والسفيه، والشجاع والجبان،

والعفيف والشره، كل يسعى لما يرى أن فيه راحته ونعيمه. لكن ربما خفي على

البعض في نحو الجاني والمنتحر، ويظن أن الجاني على غيره بما يعود على ذاته

بالضرر أو التلف، والمتعمد إزهاق روحه بيده لا يقصدان بعملهما ما ذكر، والحق

أن عملهما هذا ليس إلا تخلصًا من بلاء؟ أو توصلاً إلى نعماء؟ بحسب ما وصل

إليه الاجتهاد. فالإنسان حريص كل الحرص على تحصيل العيشة الراضية والحياة

الطيبة، وكل سعي أفراده إنما هو في هذه السبيل. وكما يطرد هذا في سعي طالبي

الحياة الدنيا يطرد أيضًا في سعي مريدي الآخرة، فالصائم والقائم، والزاهد والعابد،

إنما يقصدون السعادة الأبدية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا

دَانِيَةٌ} (الحاقة: 21-23)، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) .

فقد تبين أن الناس متفقون مبدأ وغاية (في الجملة) ، وإنما وقع الاختلاف

بينهم في الأفكار والأعمال (غالبًا) من الخطأ في تصور الغاية بتصور ما ليس

بسعادة سعادة الذي يتبعه الخطأ في اختيار المبدأ الذي يستند اليه العمل - كأن يتصور

أن سعادته في تحصيل الثروة بأية وسيلة ومن أي طريق، ويختار المبدأ لاكتساب

المال السرقة وأمثالها. وقد يكون تصور الغاية صحيحًا ويقع الخطأ في اختيار المبدأ

فيختل العمل المترتب عليه: كأن يتصور أن السعادة في كسب المال من الطرق

الشريفة في الوجوه المشروعة، ويرى أن المبدأ لذلك صناعة الكيمياء (الكاذبة)

بتحويل المعادن إلى ذهب، كما يجوز أن يعرقل العمل مع صحة المبدأ والغاية لعدم

السلوك إليه من طريقه والدخول عليه من بابه: كأن يختار التجارة مبدأً للكسب

ويتهجم على العمل بغير علم بأساليبها ولا اختبار أو لعدم توفر دواعي النجاح من

الخارج، أي من الأمور التي لا تنالها يد الكاسب - كأن يختار التجارة أو الزراعة،

ويأتي بجميع أسبابها مستوفياً شروطها فتنزل بالزرع جائحة أو تذهب بالتجارة

الأنواء ويحطم السفين اعتلاج الأمواج.

فعلينا أن نبحث في الطريق الموصل إلى صحة الغاية ومبادئها وانتظام أمر

العمل، بحيث ينطبق على المبدأ ويؤدي إلى الغاية من غير خطأ ولا ضلال،

وبالنتيجة في انتظام أمر المعاش والمعاد بما تصل إليه يد الإمكان، ويدخل في

اختيار الإنسان. وهو أشرف الأبحاث وأفضلها، لا ينطق لسان ولا يجري يراع

بأفضل من الكلام فيه. ولا غرو فإن البحث فيما يوصل الإنسان إلى الراحة والهناء

في الدنيا والمثوبة الحسنة في العقبى لَهُوَ أَجَلّ ما يتحدث فيه المتحدثون، ويتنافس

فيه المتنافسون، فألقِ إليه السمع وأنت شهيد.

أنت تعلم أن قوام الدنيا والدين بالعمل. والعمل لا يكون إلا عن علم، فالأحرى

أن نقول بالعلم والعمل (وكلكم حارث - كاسب وعامل - وكلكم همَّام) ، يهم بالأمر

فيعمله - لكن الهم مختلف والكسب مختلف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ

الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) ، ثم كل من القسمين طبقات، فمنهم السائد

والمسود والقوي والضعيف والغني والفقير إلى غير ذلك من الطبقات المتقابلة. ولا

سبيل إلى المساواة بين الناس بجعلهم في رتبة واحدة، كما ينزع إليه بعض الملاحدة

في هذا العصر؛ لأن مُبْدِع العالَم (تعالى) فضَّل بعضهم على بعض في الرزق

وغيره، كما اقتضته حكمته في طبيعة الكون، وجرت به سُنته {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) ، وإنما السبيل الذي نقصده والطريق الذي توخينا

البحث عنه: هو الذي إذا سلكه العالم الإنساني على اختلاف الطبقات وتنوع

المراتب، فاز بالعيشة الراضية والحياة الطيبة ألا وهو: تهذيب الأخلاق، وكماله لا

يكون إلا بالاستناد إلى الدين المبين.

التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات

سعادة الحياة وحياة السعادة، شهد بذلك التاريخ الصحيح وصدقه العقل السليم. لا

راحة لفرد من الأشخاص في نفسه إلا بتهذيب أخلاقه في نفسه، ولا في منزله إلا

بتهذيب أهل المنزل، وعلى هذا النحو أهل المدينة والمملكة العظيمة. فكما أن

التهذيب الشخصي هو مدار انتظام معيشة الشخص الواحد، كذلك التهذيب العمومي

هو مدار انتظام معيشة الأمة كلها إذ ليس المهذب إلا من يقوم بحقوق نفسه وحقوق

غيره على صراط العدل المستقيم.

وإذا كان انتظام أمر الحياة معلولاً لتهذيب الأخلاق، فبالضرورة يكون

وجوده بوجود علته وعدمه لعدمها، إذ لا معنى لكونه معلولاً إلا هذا، ومن هنا نفهم

السر في اختلال معيشة الأفراد وانتظامها وانفصام عرى الاتحاد بين الجماعات

والتئامها وصعود بعض الأمم أعلى درج الارتقاء، وهبوط بعضها إلى أسفل درك الانحطاط ووقوف البعض بين بين، تتنازعه عوامل العلتين، حتى يأتي أمر الله

واعتَبِرْ ذلك في سير الإنسان من يوم علم تاريخه إلى الآن تلقه صحيحًا

مطرداً.

ربما خفي على البعض الارتباط بين الأخلاق والأعمال، فلم يسلم بأن

حسنها لحسنها، وقبحها لقبحها، مع تسليمه بأن سعادة الدارين إنما هي بالأعمال،

وهذا الخفاء لا يكون إلا عن الجهل بمعنى لفظ الأخلاق وما هو المراد منه، فإذا فهم

ما هو المعنى منه انجلى له ذلك الارتباط كالشمس ليس دونها سحاب.

الأخلاق جمع خُلُق (بالضم) ، وهو صفة النفس، كما أن الخَلْق (بالفتح)

صفة الجسد، وقد عرفه علماء التهذيب بأنه: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها

الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى روية ولا تفكر. وبيان ذلك أن مما يناجي الإنسان

به وجدانه، ويوحي إليه إحساسه أنه لا يصدر عنه عمل اختياري، فعلاً كان أو

تركًا، إلا عن داعية من النفس، وإن جميع جوارحه مسخرة لخدمة سلطان الروح،

وإن إرادة هذا السلطان التي لا ترد مهما جاءت بالجزم إنما ينفذها إلى الجوارح بريد

الفكر والخيال. وإذا دقق النظر رأى أن جميع إرادات السلطنة الروحية تصدر عن

داعيتين:

الأولى: انفعال وتأثر - كالجوع يدعو إلى الأكل - ومحلها الطبع.

والثانية: إدراك وتصور - كتصور خطر المرض يدعو إلى تناول الدواء -

ومستندها العقل.

وهاتان الداعيتان آلتان لتحريك الأعضاء للعمل والآلة لا تتحرك بنفسها، واليد

المحركة لهاتين الآلتين: خلق حسن أو خلق سيئ، إذ لا تخلو الداعية للعمل من

مصاحبة أحد أمرين:

إما الجور بتفريط أو إفراط؛ كالأكل زيادة عن الشبع شرهًا وجشعًا أو ترك

الشبع وما يناسب المزاج من الطعام حرصًا وبخلاً، وكالامتناع عن شرب الدواء

عند الاحتياج استبشاعًا لطعمه، أو تناوله مع الاستغناء عنه وسوسة ووهمًا.

وإما العدل، بإمضاء ما فيه المصلحة مع التجافي عن طرفي الإفراط والتفريط

والجور والعدل جنسان لأنواع الأخلاق الفاضلة والذميمة، فإذا أصيب ملك

الروح برزيئة الجور فأمر بما لا ينبغي ونهى عما ينبغي، ورعية الجوارح لا

مندوحة لها عن طاعته، لا تلبث مملكة البدن أن يسرع إليها الفساد ويحل بها

الدمار. وهذا واضح في مملكة البدن، كما هو واضح في المملكة الظاهرية، بل

هو في مملكة البدن أشد وضوحًا وظهورًا. وأما إذا تحلى بفضيلة العدل فيستقيم -

ولا ريب - نظام المملكة، وتبلغ من الانتظام غاية الكمال.

من فهم ما قلناه من أن جميع الأعمال إنما تصدر بإرادة الروح عن داعيتين،

وأن الروح في ذلك لا تخلو عن العدل أو الجور، وعلم مع ذلك أن العدل هو غاية

تهذيب الأخلاق، بل هو المحور الذي تدور عليه سيارات الفضائل، وأن الجور

ضده، فهم وجه الارتباط بين الأخلاق والأعمال، وأذعن لتفاوتها بحسبها ضعة

وخسة ورفعة وشممًا، وإذا لاحظ بعد هذا ما قلناه أولاً من أن الحصول على رغائب

الدنيا والآخرة موقوف على العمل لا على الأماني والتشهي، انكشف له مقدار تأثير

الأخلاق في المجتمع الإنساني صلاحًا وفسادًا.

كيف لا يكون الخلق المهذب أفضل الفضائل وغاية الكمال، وهو ثمرة الأديان

السماوية والشرائع الإلهية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم

مكارم الأخلاق) ، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا. نعم، أكثر آيات القرآن

الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق (كالعدل، والقسط في الأمور كلها،

والبر والإحسان لجميع الناس، والصبر، والحلم، والحياء، والرفق، والرحمة،

والوفاء، والصدق، والتواضع، والعفو، والأمانة، وأمثالها) ، وينهَى ويحذر من

سفسافها (كالجور، والجزع، والغلظة، والبخل، والجبن، والكبر، والرياء،

والكذب، والنفاق، والخيانة، والوقاحة، والسفه وأشباهها) ، وفي حكاية أحوال

المهذبين مع الثناء عليهم للاقتداء بهم، وحكاية أحوال فاسدي الأخلاق في معرض

الذم والتقريع للاعتبار والتنفير، كما في قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم.

وحسبك مع هذا قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ

عَظِيمٍ} (القلم: 4) : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلقه القرآن.

وقد ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ما لا يكاد يحصى، فدونك حاصل بعضها.

وهو (إن أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) . و (إن الخلق الحسن خير ما منح الله تعالى به العبد) . و (إن أحب الناس إلى النبي وأقربهم منه مجلساً أحاسنهم

أخلاقًا) . و (إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)(انظروا وتأملوا) ، و (إنه

يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد) . و (إن العبد ينال بحسن خلقه

الدرجات العلى مع ضعفه في العبادة) . و (إن سوء الخلق يقذفه في أسفل درك

جهنم) . و (إنه يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) . و (إن الله تعالى قوَّى الإيمان

بحسن الخلق، وقوَّى الكفر بسوء الخلق) . وأبلغ من ذلك ما روي أن سائلاً جاء

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من بين يديه وسأله: ما هو الدين؟ فقال: (حسن

الخلق) ، ثم جاءه عن شماله، ثم من وراء ظهره وسأله هذا السؤال، وأجابه بهذا

الجواب. ويقرب منه ما روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - أنه قال:

لكل بنيان أساس وأساس الإسلام: حسن الخلق.

فإذا تبين أن خلق الإنسان هو دعامة سعادته وعمادها، وعليه مدار صلاح

أموره الدينية والدنيوية وفسادها، فيجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يوجه قواه

العقلية والمالية للحصول على هذه المنقبة الكبرى والسعادة العظمى، وعلى العلماء

أن ينبهوا الأغنياء، ويعقدوا معهم الجمعيات للقيام بهذا العمل الجليل، ولا عذر في

التهاون والوَنَى تلقاء هذا المقصد الشريف، إلا لمن تخبطه شيطان الجهل، فأمسى

لا يميز الكمال من النقص، ولا يزيّل بين السعادة والشقاء، وكفاه عذره ذنبًا. وأما

من كان صحيح الفكر، وتلا أو تلي عليه ما ذكرناه، ثم لم يعره أذنًا صاغية، ولا

نفساً واعية، رغبة في جمع الحطام، والتلذذ بالشراب والطعام، واشتغالاً بمفاخرة

الأقران، وقهر الأخصام، فلتهنأ له الحياة الحيوانية في {ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لَا

ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} (المرسلات: 30-31) . والسلام على الإنسانية

وذويها، والفضيلة ومحبيها، في كل زمان ومكان.

_________

ص: 69

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سؤال وجواب

كتب إلينا غير واحد يسألنا عما جاء في مقالة: (القول الفصل) المدرجة في

العدد الثاني من جريدتنا، من تخطئة الذين يستعينون بالأموات من العلماء والصلحاء

على قضاء المصالح واجتناء المنافع، وقولنا في هذا البحث: (ويستنهضون هممهم

بالصياح والصراخ، وتقديم هدايا الفواتح) هل يتضمن هذا القول إنكار كرامات

الأولياء أو يلحق بهم شيئًا من الغضاضة، هل فيه إنكار لقراءة الفاتحة أو غيرها من

القرآن للأموات؟

والجواب:

معاذ الله أن نرمي بكلامنا إلى غمط حقوق أولياء الله تعالى أو ننكر ما أكرمهم

الله تعالى به من فضله. وليس كلامنا ذلك في هذا الموضوع، وإنما هو بحث في

الأسباب التي بها أناط الله تعالى أمور الكون، ولا شك أن الاستعانة بالأموات على

قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك، ولم يقل أحد من أئمة

الدين ولا من العقلاء بسببيته، أما نبذ العقل له فظاهر، وأما رفض الشرع له فيدل

عليه الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله

تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا

بالله تعالى، ومن السنة بخبر (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) ،

وأما سيرة السلف الصالح فلم يُنْقَل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر

النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة ويقولون: يا رسول الله أهلك

فلانًا عدوي، وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء

قريبي، وقرب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد

البدوي وقبر الإمام الحسين (رضي الله تعالى عنهما) ، بل إن المطالب التي تصدر

من هؤلاء تتجاوز هذا الحد، فإنهم يطلبون من الأولياء المستحيلات العقلية،

والمنكرات الشرعية التي لا يجوز أن تطلب من الله تعالى. وقد أدى بهم الإهمال

وعدم اشتداد العلماء بالإنكار إلى مروق بعضهم من الدين، كما يمرق السهم من

الرمية. وكل ذلك معلوم عند السائلين. وأما قولنا: (ويستنهضون هممهم

إلخ)

فهو تمثيل لحالتهم التي يحاكون بها معاملتهم للحكام الظلمة بتقديم الهدايا والرّشى أمام

أعراضهم، وقد فاتنا أن نقول: ويرشونهم بالشموع والدراهم ونحوها.

وأما مسألة قراءة الفاتحة ونحوها للأموات، فليست مما نحن فيه، وخلاف

العلماء في انتفاع الأموات بالقراءة مشهور، وأكثرهم يقول بعدمه؛ لقوله تعالى:

{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، وبعضهم يقول بإثباته؛ لأدلة

قامت لهم، ولا مجال هنا للجولان في هذه المسألة، ثم لا شك أن الأولياء والصلحاء

لا يرضون بهذه المنكرات التي يأتيها المعتقدون بهم من غير علم ولا بصيرة، سواء

كانوا أحياءً أو أمواتًا، ومن انتصر للشريعة فعرف المعروف وأنكر المنكر فهو

المحبوب المرضي عندهم، وسكوت الكثير من المتسمين بسمة العلم والصلاح عن

الإنكار لزعمهم أنه أدب مع الأولياء، لا ينهض حجة على أن المنكر صار معروفًا،

فإن إمامنا السنة والقرآن، لا صاحب الأردان الواسعة والطيلسان، وإن لنا لعودة

إلى هذه المباحث نفصل فيها ما أجملنا، ونسهب بما أوجزنا، ولعل الموعد يكون

قريبًا. اهـ ما اخترناه من العدد الرابع.

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الموالد أو المعارض [*]

(بمصر كثير من المضحكا

ت ولكنه ضحك كالبكا)

نعم، إنها أمور تضحك منها السفهاء، وتبكي من عواقبها الألباء، أمور

ينظرها الضاحك كما ينظر الصور والتماثيل، ويبصرها الباكي كما يبصر

الصواعق والبراكين، أمور تقام لها المعارض في كل صقع، وتحشر إليها الخلائق

من كل فج، فيحضرها العالم والجاهل، والأمير والصعلوك، والغني والفقير،

والناسك والفاتك، والواهب والسالب، وإن شئت قلت: يحضرها جميع الأصناف

من جميع الطبقات، وتعرض منهم وفيهم وعليهم المضحكات المبكيات، معارض

تقفل لأجلها بعض مدارس العلم. وتعطل لبعضها مجالس الحكم، وتبطل الزراعة،

ويكون حيث تقام أعظم المساجد سوقًا ومرقصًا (بالو) ، وملعبًا وملهى وقهوة وفندقًا

(لوكاندة) ، ومستشفى (اسبتالية لكنها روحية) ، وصيدلية (أجزاخانة) ،

وماخورًا (موضع الريبة) ، كل ذلك في وقت واحد، معارض قد اشتبهت على

العامة حقيقتها فلا يعلمون هل هي دينية أو دنيوية، نافعة أو ضارة.

لا شك أن كل مصري يعرف من هذه الأوصاف ما هو المعرض الذي يقام في

بلاده، وإن كان يسميه مولدًا لا معرضًا.

وأما من لم يكن مصريًا ولا شاهد هذه المعارض في ديار مصر، فإن العجب

يأخذ منه مأخذه عندما يقرأ فاتحة هذه المقالة، وربما خيل له أنها كلام سري أو

ضرب من الألغاز؛ لأنه يرى الأوصاف لا تنطبق على ما سمع أو رأى من

المعارض في البلاد المتمدنة التي يسمع أن مصر ضمت معها في كل سهم، وأخذت

من أنواع تمدنها أوفر نصيب.

لا تغتر أيها السامع عن تمدن مصر وتقدمها بما ينقله إليك أهل السذاجة أو

تموه به عليك الجرائد، فليس في مصر من التمدن والتقدم إلا بعض قصور

وحوانيت كلها أو جلها للأجانب، وبعض طرق فسيحة لم تنشأ إلا لجولان مركباتهم،

وتِرْكَاض خيولهم ودراجاتهم، وذلك في العاصمة وبعض البلاد الكبيرة (البنادر)

فقط. وتوجد أيضًا الطرق الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، إلا أنها ليست من

صنع أبناء البلاد، وإنما هي من صنع الأجانب الذين يجتنون معظم ثمراتها، وهي

التي ملكتهم زمام التجارة والمراباة في القطر، فاستنزوفوا ثروة أهله، وامتصوا

دماءهم، ثم تخطوا ذلك إلى امتلاك رقبة أراضيهم الواسعة واتخذوهم فيها أجراء

ومزارعين.

لو أن أحدًا طار في منطاد (بالون) ونزل في الأزبكية وطاف فيما يقرب منها

لقال: إن هذه المدينة هي أخت باريس، أو بنتها، وإذا سار إلى القرافة ورأى

القصور المشيدة على القبور يذهب به الوهم إلى أن مصر قد عادت لها مدنيتها

القديمة، وعما قليل يبني أمراؤها أهرامًا كأهرام الجيزة ويتخذونها قبورًا لهم، ولكنه

إذا جال في أنحاء القطر وأرجائه ورأى بيوت السواد الأعظم من الشعب تحاكي

زرائب الغنم، ومعاطن الإبل في سائر البلاد التي تفتخر بمصر ويفتخر عليها بعض

أهل مصر (كسوريا ولبنان) ، بل هي أقل وأحقر، وإذا خالط مع ذلك هؤلاء

المساكين ورأى حالة معيشتهم في مأكلهم وملبسهم حكم حكمًا جازمًا (وربما لم يكن

بعيدًا من الصواب) بأن الشعب المصري هو أنكد الشعوب عيشًا وأشدهم بؤسًا

وأكثرهم غباوةً وجهلاً، فقد عمل بعض عقلاء المصريين حسابًا للفلاح المصري

فوجده ينفق في مدار سنته كلها على أكله ولبوسه: سبعين قرشًا أميريًّا.

ولا تحكم على القطر بمثل هذا العاقل، وهذا العالم، وذلك المثري، فإنما

كلامنا في الشعب لا في الأفراد، وسننشِئ مقالة مخصوصة في (تمدن مصر) في

عدد آخر، ونكتفي الآن ببيان مجمل عن المجتمعات الكبيرة التي تقام في مصر

ويسمونها (الموالد) ، فإن مجتمعات كل أمة هي مثال تمدنها وآدابها وعلمها وعملها،

وإنني أذكر ذلك بعبارة انتقادية لعله يبعث على تلافي الخلل ومداواة العلل وأبدأ

بالكلام عنها من الجهة الدينية فأقول:

الموالد

إن مصر تلقب بأم العجائب، وما أجدرها بهذا اللقب وأحقها بهذا الاسم، وما

أكثر وجوه التفسير والتأويل فيه. وأعجب أولاد هذه الأم شكلاً، وأغربهم وصفًا

وفعلاً، هو ما يسمونه:(الموالد) ، اسم يرمي إلى مسمى لم يلاحظ في الأصل

مدلوله اليوم، ولم يعرف واضعه إلى أي حد ينتهي.

ويظن اللغوي لأول وهلة أن إطلاق المولد على هذا الاجتماع

الخاص المعروف ليس له مجاز إلى اللغة، ولا يمس حقيقتها. لكنه لا يلبث ريثما

يرجع الطرف إلى المجتمع في مسجد السيد البدوي (رضي الله تعالى عنه) في

مثل الأسبوع الفائت إلا وينجلي له وجه للتسمية وجيه. ذلك أنه يرى المجتمع تتولد

فيه البدع والمنكرات والسفه والجهالة، وكل فعل مذموم مشؤوم.

تدخل المسجد فترى سوادًا عظيمًا وتسمع جلبة وضوضاء. ترى أناسًا قد

وضعوا في أعناقهم السلاسل والأغلال، بعضهم عار وبعضهم يلبس الأخلاق

والأسمال، وقد تجسدت عليهم الأدران والأقذار، ولبدوا شعورهم المضفورة حتى لا

ينفذها الماء، والحشرات ترتع في أجسادهم، تطوف في أطواء مرقعاتهم وأهداب

قبعاتهم، وقد قاموا إلى ما يسمونه الذكر {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ

المَسِّ} (البقرة: 275) وما كان ذكرهم إلا همهمة ودمدمة، وحمحمة وجمجمة،

تشوبها صيحات ونَبْآت، وتخالطها شهقات وزفرات، ويعلوها مُكاء (صفير)

وتصدية (تصفيق) ، ويتخللها أوامر ونواه ودعاو طويلة عريضة، وتهذار وهذيان

(كلام لا يعقل ولا يفهم كالذي يصدر من المريض) ، ويعقبها نوبات صرع وإغماء،

يشترك في ذلك كله النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، هذا هو حزب

(الأولياء) الذاكرين، وثَمَّ أحزاب أخر فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فمنهم

المتصدرون للرقي والتمائم، وشفاء الأمراض والأدواء، ومنهم العرافون

المتصدون لبيان ما غاب علمه عن الناس من مصالحهم الدنيوية، المبشرون

البائسين بزوال بؤسهم والانتصار على أعدائهم، وسائر أرباب الحاجات بقضاء

حوائجهم إذا هم رضخوا لهم بشيء من الفلوس. ولهم أعمال دون ذلك هم لها

عاملون.

ثم ارجع الطرف إلى مقصورة السيد - قدس الله تعالى سره - عن الرضا بهذه

البدع والمنكرات، فإنك ترى أن قبره كعبة ثانية، تطوف بها الناس كما تطوف

بالكعبة، ويزيدون على ذلك الدعاء وطلب الحوائج من السيد نفسه معتقدين أنه هو

الذي يفعل ذلك بنفسه، لما تلقوه من القصص والحكايات في ذلك، التي منها: أن

رجلاً أضل جاموسة له أو سرقت منه، فجاء إلى قبر السيد وطلبها منه، فلم يجئه

بها، فأغلظ عليه في القول وأهانه بالكلام وهدده بانتقام الحكومة منه، فلم يلبث بعد

ذلك إلا قليلاً حتى رأى القبر يضطرب، وسمع خوار الجاموسة من تحت الستار

الذي على القبر، ثم خرجت الجاموسة من القبر وتمثلت بين يديه، فأخذها من

المسجد وانصرف. فمثل هذه الأساطير التي ترويها الآباء للأبناء، ويقرهم عليها

شيوخ العلم والإرشاد هي التي قادتهم بسلاسل التقليد إلى الاعتقاد بأن السيد يفعل ما

يشاء، ويحكم ما يريد، وتفضيله على الأنبياء، بل نقل عن اثنين من الجهلة كانا

يتساءلان عن المفاضلة بين السيد والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال أحدهما

للآخر: (اسكت يا واد دا السيد أفضل من ربنا) ! ! ! (تعالى الله عن ذلك علوًا

كبيرًا) ، وهذه الحكايات سارت بها الركبان، وعرفها أهل الشرق والغرب، كل

هذا والعلماء ساكتون حذرًا من الوقوع في إنكار الكرامات، والاعتراض على

الأولياء الذي يخشى معه أن يتصرفوا بهم ويوقعوهم في الرجز الأليم.

ثم إن للوليات من هؤلاء أعمالاً غير التي أشرنا إليها، ذلك أنهن يفضن

الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند

ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق.

رأى كاتب هذه الكلمات بعينه ولية منهن صبيحة الوجه، وفي معصمها أَسْوِرَة،

وفي أصابعها خواتيم، وفي عنقها عقود، وقد جمع رأسها إلى رأسَيْ رجلين

والتفَّت الأيدي على الأعناق، فكان عناقا مثلثاً

ورأى منهن فتاة مدت يدها

لمصافحته فأعرض عنها، فوثبت عليه كالثعبان وقبَّلته في وجهه قبلات متتابعة.

وفعلت ذلك مع غيره أيضًا. كل هذا يجري في بيت الله على مرأى من العلماء

ومسمع، وهم له مقرون، وبه راضون، يحذرون أن يغضب عليهم السيد إذا

غضبوا لله وانتصروا لدينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

إن سكوت العلماء بل مشايعتهم لعاملي هذه الأعمال بترك دروس العلم وتخلية

المسجد لهم، وغشيانهم مجالسهم من غير نهي ولا إنكار وتهنئتهم بهذا الموسم

الشريف والدعاء لهم بالحياة لمثله أعوامًا وأحوالاً - كل ذلك وأمثاله أوقع في أذهان

العامة أن هذه الأعمال من مهمات الدين التي تضاعف بها الحسنات وتمحى معها

السيئات، فلقد أنكرت بعض المحرمات التي رأيتها على عصابة ممن في المسجد

فأجابني بعضهم قائلاً: (أبو فراج ساحتو واسعة) فسألته الإفصاح عن هذه العبارة

وبيان معناها فقال: (يعني ما علهشي هم العلماء قالوا: إن لمس المره في أيام

المولد ما ينقضشي الوضوء) ولعمري إنه جدير بأن يقول هذا، فإن لديه كل حجة

لو عرضها على منبر جامع السيد أمام الآلاف المحشورة فيه من شيوخ العلم

والطريق وغيرهم لظلت أعناقهم لها خاضعين. ولم ينبس أحد ببنت شفة في تكذيب

روايتها أو بيان أنها لا تفيد المطلوب على تقدير ثبوتها، وما هي إلا حكاية من

الحكايات التي تروى عن كرامات السيد وتؤخذ مسلمة، سواء كان راويها عدلاً أم

فاسقًا عاقلاً أم مجنونًا. وهذه من المزايا التي يميز الجماهير بها ما يؤثر عن

الأولياء من العجائب والخوارق على ما يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من

الحكم والأحكام. وتلك الحكايات كثيرة، وكلها ترجع إلى شيء واحد، وهو أن من

يعترض على منكر يحصل في مولد السيد فلا بد أن ينكب بنكبة أو يصاب بمصيبة،

وقد غلا بعضهم غلوًا كبيرًا حيث زعم أن في ذلك خطراً على العقيدة، وأن

المعترض لا يكاد يموت على الإيمان، وجهل القائلون بهذا والمصدقون به أن هذا

الخطر من الاعتراض لا يحيق إلا بهم؛ لأنهم هم الذين نقصوا السيد حيث جعلوه

زعيم الفاسقين، وقواد الفاجرين، ورئيس العاملين على هدم الدين. (نعوذ بالله من

هذا الجهل الفاضح) ، أما والله لقد طاشت سهامهم، وامتلخت أحلامهم (انتزعت

عقولهم) ، وضل رشادهم، وعظم فسادهم، فإذا حدثتهم بما ينابذ الشرع والعقل

قبلوه، وإذا جئتهم بما يؤيدهما رفضوه ولم يتقبلوه.

وأهون ما يحكون عمن اعترض على ما يحصل في مسجد السيد أيام مولده ثم

رجع إلى الإقرار، وانضوى إلى أهل الرضى والتسليم: أن رجلاً من المغرب جاء

لزيارة السيد في أيام المولد، فشاهد من المنكرات ما ضاق له صدره، وعظم عليه

أمره، فترك الزيارة، وخرج مغاضبًا ومنكرًا ولاية السيد، إذ لم يتصرف بهؤلاء

العصاة الذين ينتهكون حرمة حماه، ويأتون المحرمات في مشهده ومغناه، فلما انتهى

إلى البحر بالت بغلته في الماء فتأثر ذلك (أي خرج إثره) رجل خرج من الماء

وقال للمغربي: يا رجل قد نجست الماء، فأجابه، وهل ينجس البحر، فقال له:

وهل السيد إلا بحر، فكيف يعكره أو ينجسه ما رأيت؟ فرجع المغربي يحدث بما

رأى، وقد أيقن أن الذي خرج من الماء وكلمه بهذا القول الهراء هو السيد البدوي.

وأنا أروي لهم رواية صحيحة المتن والسند، فهل يقبلها منهم أحد، أم

يرفضونها، لأنها أليق بمحاسن الدين، وفيها تعظيم صحيح للأولياء والصالحين،

وهي: كان بعض طلبة العلم العقلاء يحضر العلم في الجامع الأحمدي في طنطا من

نحو 30 سنة، ولما كانت أيام المولد أراد أن يصلي مع بعض أشياخه في جامع

السيد، فقام الشيخ وتوضأ من ميضأة الجامع وهي متغيرة اللون والطعم والريح من

النجاسة، فأبى أن يأتم به تلميذه وكان جاء المسجد متوضئًا، بل صرح له بالإنكار

وبأن صلاته مع النجاسة والوضوء بالماء النجس غير جائزة، فأتم الشيخ به، ولما

فرغا من الصلاة قال له الشيخ: لا بد أن تصاب بنكبة لاعتراضك وأنا لولا أن نفسي

تعاف الشرب من ماء مجاري كنف جامع السيد لشربت منها، فقال له التلميذ: إذا

كان السيد وليًا لله، بل إذا كان مسلمًا حقيقيًّا (وهو كذلك) فإنه يغار على الدين،

ويكون ما قلته أنا هو المرضي عنده، وإذا كان غير ذلك فلا أبالي برضاه وسخطه،

وهذا إذا فرضنا أنه رقيب ومهيمن على الأعمال، يرضى لحسنها ويسخط لقبيحها،

وإنني أخاف عليك أيها الأستاذ أن تصاب ببلاء لاستهانتك بمراعاة الشريعة وإقدامك

على مخالفتها، وأقول هذا مع الأسف لاحتياج مثلي إلى إرشاد مثلك، وتفارقا وفي

اليوم التالي حاول التلميذ العاقل الاجتماع بشيخه حيث كان يلقاه في المسجد، فلم

يجده وبعد السؤال علم أنه مريض في إحدى الخيام، فذهب لعيادته فألفاه مثقلاً بالدثر

الغليظة، وهو يرتعد من الحمى مع لفح الهجير واتقاد السعير حيث كان ذلك في

المولد الكبير (في أغسطس) ، وأخبره أنه منذ فارقه بعد الصلاة جاء ذلك المكان

فعاجلته الحمى فيه، فقال له التلميذ: وها أنا ذا صحيح مُعافًى، فمن الذي عوقب

على الاعتراض والإنكار؟ ثم نقله من خيمته واعتنى بخدمته.

فيا معاشر الناس إن كنتم تعتقدون أن الأمراض والمصائب تأتي من ارتكاب

الخطايا واقتراف المعاصي، فالمعاصي والخطايا هي ما ترونه وتأتونه في مسجد

السيد، وإن كنتم تعتقدون أن الله تعالى يعاقبكم في الدنيا والآخرة على إنكار المنكر

والأمر بالمعروف والعمل به، إذا حصل ذلك في جوار السيد فقد نبذتم دين الله تعالى

وراء ظهوركم، كما أنكم تنكبتم طريق العقل، وأساطيركم التي تسمونها كرامات

وتعدونها من الآيات البينات أيضًا ليس فيها على ما تدعون برهان مبين، ولا تقوى

على سلطان العقل والدين المبين، لا سيما وهي معارضة بحكايات أصح منها رواية

وأقوى دراية عن الذين أنكروا هذه المنكرات وأثّموا فاعلي هذه السيئات، ولم

يصابوا على ما عملوا بسوء، ولا صب عليهم العذاب، ومنهم من كشف عنه السوء

واكتنفته النعمة، بل منهم من ابتلي إثر التهاون بحقوق الشريعة الشريفة وترك

الإنكار على من أخل بها بالمرض، كما سمعت في الحكاية الواقعة التي قصصتها

آنفًا فاعتبروا يا أولي الأبصار.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نُشرت في فاتحة العدد السادس الذي صدر في 28 ذي القعدة سنة 1315 - 9 أبريل سنة1899.

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المنار في بلاد الشام

جاءنا في رسالة خصوصية من طرابلس أن صاحب العطوفة والي ولاية

بيروت الجليلة أصدر أمرًا إلى متصرفية طرابلس بوجوب جمع العدد الثاني من

جريدتنا (المنار) وإعدامه، فوقع عندنا الريب في شأن هذا الخبر، فإن المنار قد

عاهد الله تعالى على خدمة الدولة والملة بالصدق والأمانة، في ظل أمير المؤمنين

السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وخطته علمية تهذيبية من أفضل أعمالها تأليف

القلوب وجمع كلمة العناصر المؤلف منها جسم الأمة العثمانية تحت لواء جلالة

السلطان الأعظم، وقد حمد مبدأه هذا جميع العقلاء والفضلاء ومحبو خير الدولة

العلية. وليس في العدد الثاني منه سوى مقالة تهذيبية خلاصتها: أن سعادة الأمة لا

تكون إلا في تعميم التربية والتعليم بواسطة الشركات المالية الوطنية التي تنشئ

المكاتب والمدارس، وتعهد بها للعقلاء والفضلاء. وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد،

فإن أعداء الدولة العلية الذين يطعنون بجهل شعوبها وهمجيتهم يلقون تبعة ذلك على

مولانا السلطان الأعظم، مع أنه باذل قصارى همته الشريفة وموجه قواه المقدسة

إلى ترقية معارفها فكم أنشأ من المكاتب والمدارس على نفقة الجيب الهمايوني

الخاص [*] ، لكن يستحيل أن تكفي خزينة أي ملك أمة عظيمة كالأمة العثمانية،

وعليه فلابد لأغنياء الأمة من التأسي بمليكهم والاقتداء بإمامهم. هذا ما قاله المنار،

وأثبت أيضًا أن تقدم الأمة وسعادتها لا يأتي من مداخلة الأجانب واستلامهم زمام

الأحكام ولا من حرية الجرائد، وكل هذا مما يكثر الثرثرة به أعداء الدولة. والمنار

قد رد عليهم فخدم الدولة ونصح للأمة. وفيه أيضًا مقالة تبين أن الاستعمار الذي

يدعي الأوربيون خدمة الإنسانية به لا توجد حقيقته إلا في الديانة الإسلامية التي

بينت في آية الجهاد أن الحكمة في الإذن للمسلمين بالقتال هو:

(1)

اضطهاد المشركين لهم وإخراجهم من ديارهم (مكة) بغير حق إلا

أنهم يعبدون الله تعالى دون الأصنام.

(2)

وكون المدافعة تحفظ الأديان السماوية، وتمنع من هدم البيع (معابد

النصارى) ، والصلوات (معابد اليهود) ، والمساجد (معابد المسلمين) .

(3)

وقيام المسلمين إذا مكنوا في الأرض بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعليم

الناس عمل المعروف وترك المنكر. وليس في ذلك العدد وراء ما ذكرنا إلا

أخبار مجملة عن الهند وكوبا واليهود في فرنسا والسودان وبعض أخبار تلغرافية

نشرتها جرائد الآستانة العلية وجرائد سورية فضلاً عن جرائد مصر التي لم تمنع

من بلاد الدولة العلية. فليس بعد هذا إلا احتمال أن يكون الأمر صادرًا بجمع جريدة

غير جريدة المنار، وذكر اسم المنار غلطًا، أو أن بعض السعاة المَحَّالين أراد أن

يبيض وجهه بسواد الكذب فكتب للحكومة السنية أن في العدد الثاني من المنار ما لا

ينبغي نشره، وهو في هذا إما متوقع جائزة على عمل ضار في صورة نافع، وإما

عدو للدولة والأمة، يريد أن يعرقل عمل من يخدمها بصدق ومشرب صحيح يرجى

نفعه، وكان بعض العقلاء في بلاد الشام فطن إلى أن مثل هذا العمل الشريف لابد أن

يعرض له عثرات، وتقام في طريقه عقبات، فقد جاءنا في البريد الأخير كتاب من

بعض فضلاء الأمراء في تلك البلاد يقول فيه ما نصه بالحرف:

(اطلعت على العدد الأول والثاني من جريدتكم الغراء فوجدتها وايم الله من

أحسن الجرائد لهجة، وأنبلها مقصدًا، وأسماها غاية وأصدقها حديثًا، وأفصحها

لسانًا، وأكثرها بيانًا، وظهر لي أن وراءها رأيًا صائبًا، وفكرًا ثاقبًا، وعلمًا واسعًا،

وحكمة بالغة، ونظرًا دقيقا، وقد راق في عيني إفصاحها عن مواضع الداء،

ومواطن الخلل بما ليس معه زيادة لمستزيد، أو انتقاد لمنتقد أو استفهام لمُسْتَفْهِم،

مما جعلنا نوطد الآمال على انتفاع الأمة بها انتفاعًا عظيمًا، واهتدائها بهديها نهجًا

قويمًا وصراطاً مستقيمًا، سائلين المولى لكم التوفيق والثبات في هذا الطريق وأن

يقيها شر الحاسد وكيد المفسدين الذين يرمونها بالترهات ويقيمون في سبيلها

العقبات) . اهـ.

وعندنا من قبيل هذه الشهادة في المنار شهادات كثيرة. فإذا كانت الخطة التي

ذكرناها وذكرنا نموذج شهادة العقلاء والفضلاء لها خطة ضرر وعداء، فما هي

الخطة النافعة التي يجب انتهاجها في خدمة الدولة والأمة؟ ليفدنا عنها الطاعنون،

ونحن لهم شاكرون، وإلا فليمعنوا في التبصر والانتقاد قبل رفعه إلى أولياء الأمور،

لئلا يقعوا في إيذاء الأبرياء، والإساءة إلى المحسنين. ونحن نقول: لا بأس

بالمراقبة على الجرائد التي تشوش الأفكار، وتنشر ما لا يليق بحالة الأمة نشره،

لكن نرجو من أولياء الأمور أن ينيطوا بهذا الأمر جماعة من أهل الفضل والصدق

والاستقامة، ليعطوا كل شيء حقه وبالله التوفيق.

_________

(*) هذا ما كنا نعتقد؛ إذ كنا قريبي العهد بتلك البلاد التي لا يقرأ فيها أحد في الجرائد ولا يسمع من الناس عن السلطان غير هذا.

ص: 88

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشرقين الأدنى والأقصى

إن زل بالجمل منسم، فهوى إلى الأرض صار نهوضه متعسرًا لضعف

قوائمه، وقد ينكسر له في سقوطه عضو، فلا يبقى لدائه دواء غير سكين الجزار،

وهذا الذي جرى للصين من حين أن زلت بها قدمها في حربها مع اليابان. وقد

سقطت قبلها بروسيا تحت ضربات نابليون وفرنسا تحت سيوف الألمان، إلا أنهما

نهضتا نهوض الجياد من عثراتها، لما في جسم الأمتين من الحياة الأدبية، أما

الصين فهيهات أن يتسنى لها النهوض لخلوها من تلك الحياة.

ما عمرت الصين هذا العمر الطويل إلا بانغلاق أبوابها دون أوروبا، واجتنابها

مخالطة الأوربيين، حتى قد كان في شرائعها أن الصيني الذي يخرج منها لا يعود

إليها، على أن هذا الانغلاق الذي كان سبب حياتها فيما مضى يكاد يكون سبب موتها

في هذا الزمان، فإن السبب الكلي في هجوم أوروبا عليها هو فتحها للتجارة

والصناعة الأوروبية. فلو أن الصين انفتحت من تلقاء نفسها، واقتبست فضائل

التمدن الحديث، نابذة رذائله، وسارت سيرة الدول المتمدنة في طريق العمران،

لكفت نفسها شر الوقوع في أيدي الأمم الأوروبية، ولكانت بما فيها من مئات

الملايين من السكان مرهوبة الجانب عزيزة المكان.

ويجدر بسائر الأمم الشرقية أن ترى العبرة في غيرها فتعتبر. فإن الغرب

زاحف بقوة وشدة على الشرق، فإن لم يجاره الشرق ويقابله بعزم وطيد، وبأس

شديد، صار لقمة في فيه، وباتت خيراته مطمعًا لبنيه.

وأول أمة شرقية أدركت هذه الحكمة الدولة العلية والأمة اليابانية. أما اليابان

فمذ بان لها خطر الوقوع في يد الغرب تهافتت على اقتباس تمدنه لمدافعته بسلاحه

فما مضى عليها زهاء 50 أو 60 عامًا حتى اقتعدت في المجد مقعدًا قصيًّا وأصابت

وسادًا مثنيًا. وأصبحت وهي لا تخشى للغربيين بأساً ولا ترهب لهم بطشًا.

وأما الدولة العلية - أيدها الله -، فقد أخذت تنحو هذا النحو، واندفعت إلى

اقتباس فضائل التمدن العصري، رغبة في الوصول إلى وسائل القوة والسعادة،

فأنشأت دور الفنون والعلوم والمكاتب في كل جهات المملكة، والمستشفيات،

وملاجئ العجزة، وانصرفت إلى الاهتمام بالزراعة والصناعة، ولا تزال تسعى في

تلك الحلبة سعيًا حميدًا.

وقد تجرأ بعض الكتاب على تشبيه الشرق الأقصى بالشرق الأدنى وهو تشبيه

يدفعه عقلاء الغربيين أنفسهم ووجه الشبه عندهم أن في الشرقين خللاً واحدًا والدول

راغبات في التهامهما رغبة واحدة.

نقول: أما رغبة الدول فمما لا يجب البحث فيها، وهن قد يرغبن في تناول

النجم إذا استطعن إليه سبيلاً، وأما الوجه الثاني: فمما يقتضي دقة النظر وإمعان

الفكر.

الصين أمة قديمة مغلقة، لا يعلم عنها ما هو كاف للحكم عليها، فقد يكون في

باطن تلك الولايات الشاسعة المغلقة قوة وبأس وحياة، وقد يكون فيها عفن وظلمة

وانحطاط شنيع، غير أنه قياسًا على بلدانها المفتوحة، لا نظن بلدانها المغلقة أصلح

حالاً وأنعم بالاً، وبيانًا لحال البلدان المفتوحة حسبنا أن نقول: إن ألمانيا احتلت

كياوتشو بلا حرب ولا نزاع، ولما نزلت الجنود الألمانية إلى المدينة أخلتها الجنود

الصينية على الفور، خارجة منها بخوف وهلع، خروج الغنم من صيرها، فأين

هؤلاء من أبطال ملونا ودوموكو. أين تلك الشعوب الجاهلة البليدة من هذه الأمم

المتعددة الصاعدة في مراقي التمدن في الشرق الأدنى تحت أكناف الدولة العثمانية.

زر بيروت وأزمير والآستانة، ألا ترى نفسك في بلاد متمدنة. إن أمم الشرق

الأدنى خارجة من ظلمة الماضي خروج الزهور من أكمامها وما يشبهها بالشرق

الأقصى إلا كل من يريد أن يتمحل عذراً لأطماعه فيها.

والخلاصة: أن الشرق الأقصى لا يشبه الشرق الأدنى، كما ذهب إليه بعض

كتاب الغرب ونقله عنهم بعض كتابنا. ونحسب إهانة للأمة التركية والمصرية

والسورية والعربية تشبيههم بالأمة الصينية. وكفى فارقًا بين الأدنى والأقصى كون

الأول مستيقظًا عاملاً على اقتباس التمدن الحديث، مجاراة لمقتضيات العصر وعنده

من القوة ما يقاوم به أخصامه، والثاني نائمًا ببلادة وكسل فوق فوهة الهاوية.

...

...

...

...

... (ف)

_________

ص: 91

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منكرات الموالد [*]

ألمعنا في العدد الماضي من جريدتنا إلى كثير من البدع والمنكرات التي

تحصل في المسجد الأحمدي في طنطا في إبان الموسم الذي يسمونه: (مولد السيد) ،

أتينا عليها في عرض القول وإطواء الكلام، وإننا نعد منها الآن ما يعن لنا نشره

سردًا مع إجمال من الشرح، ثم نبحث في إزالته فنقول:

(الأول) من تلك المنكرات: إبطال قراءة العلم وإفادة المتعلمين، تخلية

للمسجد لتلك الجمعيات التي شرحنا بعض حالتها بحيث يصح أن يقال لنا على ذلك

باختيارهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) .

(2)

ترك صلاة الجماعة الراتبة التي يحضرها أهلها المواظبون عليها في

ذلك المسجد، نعم، إن تلك الجمعيات يتخللها بعض صلوات تقام بين عزف

العازفين وصراخ الصارخين ومدافعة المارين، إلى غير ذلك مما يخرجها عن

صورتها الشرعية الكاملة.

(3)

التشويش على المصلين بدق الطبول والدفوف، والنفخ بالشبابات

والمزامير، وصراخ المستصرخين بالسيد (قدس سره العزيز) ، وصياح المنادين

له، وجلبة الذاكرين، وضوضاء الوفود والجموع الذين يموج بعضهم في بعض

ومرور الجم الغفير بين يدي المصلي، حتى لا يدري ماذا يعمل.

(4)

الصلاة إلى قبر السيد (رضي الله تعالى عنه) الذي يلجئ إليه

الازدحام مع الجهل، نعم إن هذه البدعة السيئة لا تختص بأيام الموالد، ولكنها تزيد

فيها، وإزالتها من أهم مهمات الدين، فقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم

الدنيا، وهو يحذر منها، ويبين أن الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

من الأمم السالفة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.

(5)

الطواف بقبر السيد (رحمه الله تعالى) كما يطاف بالكعبة سواء

بسواء. وتمثيل هيئة أي عبادة مشروعة منهي عنه كما هو معروف في الفقه،

والزيارة لا تتوقف على هذا الطواف.

(6)

تقبيل أعتاب المقصورة التي فيها قبر السيد (سقى الله لحده) ، ولمس

قفصه والتمسح به وتقبيله " وكل ذلك بدع منكرة إنما يفعلها الجهال "، كما قال

السبكي وغيره من الأعلام.

(7)

طلب الحوائج والمصالح من السيد (تغمده الله تعالى برحمته) ينادونه

بصريح القول: يا سيد اشفِ مريضي، يا أبا فراج فرج كربتي، يا شيخ العرب

تصرف بعدوي، إلى غير ذلك من المهمات التي تعرض للناس، ومنها ما لا ينبغي

ذكره، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلاء أنهم يستنهضون همة السيد ويتقربون إليه

لقضاء مصالحهم بالدراهم، فقد وضع بجانب القبر صندوق كبير مخروق سطحه

خرقًا مستطيلاً بحيث يلقى منه كل نوع من النقود المتداولة، وبنذور أخرى تحار

العقول في فهمها وفي سفاهة من ينذرها ويتقرب بها. منها: أن المرأة تنذر أن

تلبس لبوس الرجال وتركب فرسًا وتطوف بالأسواق والشوارع الغاصة بالناس في

يوم المولد، وكذلك يفعلن. ترى كثيرات متسرولات بالسراويل الرسمي (البنطلون) ،

ومرتديات بالكساء المعروف (بالبالكو) ، ومتلفعات فوق (الطربوش) بمنديل

من النوع الذي يسمى (الشال) ، وراكبات على الخيول بين الجموع والوفود،

ومنهن من تنذر الوقوف مع الذاكرين في الحلقات، وغير ذلك مما يُستحيا من ذكره.

ومن سفهاء المعتقدين من يتغوث ويستنصر بالسيد مدلاًّ عليه بألفاظ البذاء والهجر

والتهديد والوعيد، لاسيما إذا طلب منه حاجته بلطف ورفق، ولم تقض عن قريب.

ولا سبيل إلى حصر وسائلهم الجهلية ومقاصدهم الجاهلية، كما لا سبيل إلى تعميم

الحكم على نذورهم المالية بالفساد. لعدم إمكان استقراء جميع الأفراد. ولكن كلامنا

في المنكرات الظاهرة للعيان. التي لا ينكرها ولا العميان.

(8)

تقذير المسجد وتنجيسه، لا سيما من الأطفال الصغار الذين يكون

المسجد ملعبهم ومبيتهم، وقد نص بعض الفقهاء على أن تنجيس المسجد ردة ومروق

من الدين، ولعله محمول على ما إذا قصد به الإهانة، ومهما كان من أمر الحكم

بالكفر والمروق. فلا خلاف في العصيان والفسوق، يشترك فيه أولياء الولدان

وأولياء الشيطان الذين يغشون مجالسهم في العشي والإبكار، ويستبدلون الإقرار

بالإنكار.

(9)

تمكين الأحداث والمعتوهين من تبوء المسجد والتمكن منه، وقد جاء

في الحديث الصحيح: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) .

(10)

اختلاط النساء بالرجال في كل نوع من أنواع الاجتماع، حتى في

النوم وما يسمونه: (الذكر) . تبصر النساء في الليل مضطجعات على جنوبهن،

ومستلقيات على ظهورهن يتخللهن كثير من الرجال (اللهم إنهن مستترات) ،

وتتخطاهن جموع الوفود الذين يردون المسجد ذهابًا وإيابًا. وتراهن في الذكر

قائمات قاعدات. وإن شئت قلت: متثنيات أو راقصات. ومنهن من يأخذها

اضطراب وارتجاف وانتفاض وقشعريرة، كما يحدث للمحموم والمصروع.

رأيت (شيخة) منهن تضطرب جميع أعضائها وتتخبط تخبط من أخذته

نوبة عصبية، وقد أمسك بها ثلاث كيلا تقع على الأرض، وأحدق بها الناس

والممسكات بها مزدهيات معجبات، قريرات العين بإقبال الناس على هذه الأسرار

والكرامات، وربما كانت المرأة مصابة بالهستيريا وجاءتها النوبة في المسجد،

وربما كان كل ذلك تعملاًّ وتصنعًا. (وأما كرامة الله لأوليائه فهي أجلّ من هذا

الهزء والجنون الذي لا ينخدع به إلا الجاهلون) .

(11)

العزف والتطريب في الذكر بضرب الدفوف والطبول، والنفخ في

الشبابات والمزامير، وقرع الصنوج وغيرها، إلى ما يلتحق بذلك من الأغاني

الغرامية.

(12)

إحياء ما أماته دين الإسلام من المكاء والتصدية الذي كان في عهد

الجاهلية قال تعالى {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ

بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35) ، تراهم يصفقون في الذكر وينفخون

ويصفرون.

(13)

العرافة والتكهن (الإخبار عن شؤون الإنسان الخفية الماضية

والمستقبلة) ، يتصدى لذلك أفراد من الشيوخ والشيخات فيلقون بكلامهم الفتن بين

الناس والعداواة والبغضاء بين الأقارب والأصدقاء، لما يأتون به من العبارات

المجملة والكلمات المبهمة، التي تذهب النفس بتأويلها كل مذهب، ويسهل على

معتقدها حملها على شؤونه وأحواله في كل زمان ومكان. ذلك أنهم يقولون للمستنبئ:

إن لك عدوا من أهلك طويل القامة، وفي بدنه علامة، يهيئ لك المهالك، ويوعر

أمامك المسالك، إن الذي سرق متاعك رجل أسمر اللون، واسع العينين، نحيل

القوام، قليل الكلام، سوف تقبل عليك السعادة، ويصدها عنك جماعة يظهرون

ودك، ولا يحفظون عهدك، تصدقهم وهم كاذبون، وتأمنهم وهم خائنون. وأمثال

هذه الجمل التي تثير رواكد الأوهام وتبعث على سوء الظن بالأبرياء، وتوقظ عين

الفتنة بين الأهلين والجيران وتمثل الأصدقاء الأبرار، بصور الأعداء الأشرار، ولا

تسل عن عاقبة الجاهلين.

(14)

الدجل والتمويه بادعاء الولاية الذي قال فيه بعض العارفين: إنه

يورث سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، ويتبع هذا المنكر منكرات منها:

(15)

التعويذ والتنجيس (تعليق خرق أو عظام نجسة للوقاية من الجن)

يخدع الناس هؤلاء المعوذون المنجسون بتمائم وتعاويذ وتناجيس يوهمونهم أنها

تجعل العاقر ولودًا، والعقيم منتجاً، وتقي من الجن والشياطين، وتحفظ من كيد

العادين والظالمين، وتمنع الحرث والنسل من الجوائح السماوية، والهوام الأرضية.

وتجذب قلب المعشوق إلى العاشق، وتنفر به عن صحبة العذول المماذق، وتشفي

من الأمراض المزمنة، والأدواء المستحكمة إلخ إلخ، ومنها.

(16)

تشويه الخلقة ولباس الشهرة، وقد ألممنا بشرحه في مقالة العدد

السابق ومنها.

(17)

أكل أموال الناس بالباطل، فإنهم إنما يأكلون بدينهم، وقد فصل

الإمام الغزالي القول في حظر هذا الأمر أحسن تفصيل.

(18)

مَسَن الرجال، وفُتوك النساء (أي مجونهما) ، وما هو إلا مداعبة

وملاعبة. وهجر وبذاء يتحاماه المتدين ويأباه كل مهذب، وقد أشرنا إلى شيء من

ذلك في العدد السابق.

(19)

البيع في المسجد: يباع فيه الأكل واللبوس من نسيج وأكسية والكتب

والسبح والأمشاط والأعطار وأنواع من الأدوية وغير ذلك. ويرون أن ما يشترى

من المسجد له فضيلة وبركة. وبعض العلماء لا يحرم البيع في المسجد إذا وقع

عرضًا ونادرًا، ولم يشغل المصلين ولم يضيق المسجد ولم يكن فيه امتهان له بجعله

كالحانوت. وأظن أنه لا يبيحه أحد بالصورة التي تحصل الآن في الجامع الأحمدي.

(20)

الإنفاق من مال الوقف على إضاءة المسجد الليل كله لأجل هذه

الأعمال الممزوج حلالها بحرامها، والغالب قبحها على حسنها. وربما كانت هذه

النفقات من النذور أو بعضها من الوقف وبعضها من النذر، ومهما كانت هذه

الأعمال محظورة وواجبة المنع فالوقوف والنذر عليها غير صحيحين.

هذا ما تذكرناه الآن مما علق بذهننا من منكرات الموالد وهو أشدها نكرًا،

ومن هذه المنكرات: ما يحصل في غير أيام الموالد، لكنه يزيد فيها. ونحن إنما

ننكر الأفعال المخالفة لهدي الدين، لا الموالد نفسها؛ لأن المولد عبارة عن اجتماع

الناس من أرجاء القطر وأنحائه في بقعة واحدة لأعمال مخصوصة. والاجتماع له

فوائد مادية وأدبية لا تنكر، بل ليست المدنية إلا الاجتماع للتعارف والتآلف والتعاون

على الأعمال النافعة للأمة. وبحثنا في المنكرات بمناسبة الموالد إنما هو لكثرتها

فيها. ونمسك الآن عن الخوض في فوائد هذه المجتمعات التجارية والأدبية، حتى

نقف عليها بالاختبار في المولد الكبير، إن أمهلنا الزمان، ونطلب الآن من علماء

الشريعة وأنصار الدين أن يوجهوا أنظارهم الشريفة لإبطال هذه البدع والمنكرات،

وينتصروا للدين الذي ائتمنوا عليه، فإنهم هم المسؤلون عن ذلك عند الله تعالى،

ولا يغني عنهم التأفف في بيوتهم، والحوقلة والاسترجاع في زوايا خلواتهم،

والتبرؤ من الحول والقوة إذا طلب منهم السعي والعمل فإن لهم بالله قوة على تلافي

ذلك كله، فقد أعطاهم سلطة روحية على شعب عظيم، هو أشد الشعوب خضوعًا

وانقيادًا إلى رؤسائه، وبذلك كان أعظم الشعوب قابلية للتربية والتهذيب.

إن سكوت العلماء في مصر على هذه الطامات الكبر، مع بروزها بالصبغة

الدينية لمما يوقع في الدهشة والعجب. يقرون في دروسهم أنه يكره المواظبة على

بعض السنن والمستحبات لئلا تتوهم العامة أنها واجبة، (ولو اعتقدوها واجبة ما

زادتهم إلا إيمانًا) ، ولا يبالون باعتقاد العامة أن تلك البدع والمنكرات من الدين،

مع أن في استحلال بعضها ردة ومروقًا منه. إذا هان على بعض المتسمين بسمة

العلماء الذين لم يرسخ علم الدين في قلوبهم، ولم يملك القرآن أعنَّة نفوسهم أن

يتهاون في شؤون هذه المنكرات بحيث يغشى مجالسها ويهنئ المقترفين لها (وهم

الذين نددنا بهم في المقالة السابقة) ، فلا نرتاب في أن الراسخين في العلم يتململون

من اجتراح الأمة لهذه السيئات، كما يتململ السليم، ويودون أن تقلع عنها. لكنهم

يظنون أن هذه العادات رسخت بكرور السنين، فلا ينجع في الآتين بها وعظ واعظ،

ولا تنبيه منبه. وهذا هو السبب في سكوتهم وسكونهم، لا الرضا والتسليم، أو

الخوف من تصرف السيد (قدس الله روحه) فيهم إذا انتصروا للدين، وتواصوا

بالحق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. بخلاف الذين يشاركون العامة في

أوهامها، ويشايعونها على أفعالها، وهم الذين أطلقنا القول في العدد الماضي

بالانتقاد عليهم.

والذي نستلفت [1] إليه أنظار هذا الفريق من العلماء الذين وصفهم الله تعالى

بخشيته أن يسلكوا في إبطال هذه البدع والمنكرات طريقين اثنين؛ أحدهما: قريب،

والآخر: بعيد، ولابد منهما كليهما. فأما الطريق القريب: فهو أن تؤلف لجنة

برئاسة الأستاذ الأكبر مفتي الإسلام وشيخ الجامع الأزهر ويدعى إليها الأستاذ الكبير

شيخ الجامع الأحمدي، وتقر على ما يظهر لها بعد المذاكرة أنه أقرب الوسائل لمنع

كل ما يخالف الشرع، ويخل بالآداب الإسلامية في المسجد الأحمدي، ولو أدى ذلك

إلى إقفاله في أيام المولد، إلا في وقت الصلاة مع مراعاة الحكم الشرعي في ذلك،

وعندنا أن أنجح الذرائع لإبطال ما ذكر أن ينشر قبل المولد بأيام (إعلان) في

الجرائد يصرح فيه بمنع الناس من كل ما اعتادوا فعله في المسجد إلا الصلاة، وأن

شيخ الجامع يقيم على أبوابه خفراء يمنعون النساء والأطفال والباعة والمشعوذين

وأصحاب المعارف من الدخول إليه ومن كل عمل غير مشروع فيه. يفصلون ذلك

في الإعلان بحيث يفي بالغرض، ثم ينفذون ذلك فعلاً في أيام المولد. ولا شك أن

شيخ الجامع إذا طلب من الحكومة نفرًا من الأعوان والشرط لأجل هذا العمل

الشريف، فإن الحكومة تجيب طلبه، لاسيما إذا كان يطلب عن قرار لجنة العلماء،

أو كان الطلب من اللجنة نفسها. وأما طلب إبطال الموالد بالكلية، فربما لا تجيب

الحكومة طلب الشيخ أو العلماء فيه؛ لأنه ليس من الأمور الدينية المنوطة بهم

بخلاف ما يحصل في المسجد.

وأما الطريق البعيد: فهو طريق الوعظ والتعليم، وهو الإصلاح الحقيقي الذي

يجب الاجتهاد به من كل من له غيرة على الأمة والدين، وهذا الطريق يتشعب منه

ثلاثة شعاب وهي:

(1)

الخطابة.

(2)

تدريس علم الأخلاق والآداب الدينية الصحيحة.

(3)

التصوف أو الإرشاد المنوط بأهل الطريق. وكل شعب من هذه

الشعاب ركن عظيم لسعادة الأمة في الدين والدنيا. وقد أهمل الاعتناء بها في كل

البلاد الإسلامية فآل الامر بالمسلمين إلى ما نرى. وسنتكلم عليها في العدد الآتي

كلامًا موجزًا يتعلق بحالة الموالد. وندع الخوض فيها من سائر الوجوه للفرص

المناسبة وبالله التوفيق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نُشرت في فاتحة العدد السادس الذي صدر في 28 ذي القعدة سنة 1315 من 9 أبريل سنة 1899.

(1)

لم تُسمع هذه الصيغة وورد لفته عن رأيه (كضرب) صرفه.

ص: 93

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صدمة جديدة على اللغة العربية

(1)

كان من مقتضى ناموس الارتقاء أن تبلغ اللغة العربية الشأو الأعلى من التقدم

بعد ظهور الإسلام، لكن هذه اللغة لم تخط مع تقدم الإسلام إلا بعض خطوات، حتى

اعتورتها العثرات، وانتابتها الصدمات، ولولا أن الله تعالى قيَّض لها قومًا من

الأخيار تداركوا الخرق قبل اتساعه لمحيت رسومها، وطمست حدودها، ولم يبق

منها إلا ما بقي من بعض لغات الأمم البائدة - كالكلدانيين والآشوريين -، ولكن

علماء المسلمين مع عنايتهم الكبرى في علوم اللغة، واشتغالهم بها عن علوم كثيرة

كانوا في حاجة إلى التوسع فيها لم يتنبهوا في أكثر عصورهم للطريقة المثلى في

التعليم التي تحفظ ملكتها في الألسنة، وتجري في ميدانها فرسان الأقلام، فخرجوا

بالعلوم العربية عن الغرض منها، وسلكوا في قواعدها ومسائلها مسلك العلوم

النظرية من: التعليل والتدقيق، حتى صار تحصيل ملكة هذه العلوم غير تحصيل

ملكة اللغة في القول والكتابة، ثم اعتاصت الكتب المؤلفة فيها على الأفهام؛ لدقتها

التي أشرنا إليها، والإيجاز المخل في متونها، والخلط في شروحها وحواشيها بين

الفنون وكثرة الآراء التي ليست من الفن في شيء. فآل الأمر إلى قلة الطالبين لها،

ثم إلى قلة من يحصل ملكة الفن من هؤلاء الطالبين، بل صار قصارى ما يصل إليه

الطالب أن يحصل ملكة الفهم في كتبها، وعند ذلك يسمونه عالمًا أو علَاّمة في

العربية (صاحب كرّاس) ، وإذا اتفق لأحد تحصيل ملكة الفن فإن ذلك لا يفيده في

تقويم لسانه بالكلام العربي الفصيح، ولا يقتدر معه على الكتابة العربية البليغة؛ لأن

ملكة هذه الفنون لابد في الحصول عليها من سلوك طريق آخر كما ألمعنا. ولقد تنبه

جماعة من عقلاء هذا العصر وفضلائه إلى إحياء اللغة التي يئس الجماهير من

إحيائها، وذلك بإصلاح كتب الفنون وطريقة التعليم (اللتين صارتا عقبة في طريق

العربية) ، وبالتنبيه على الطريقة التي تطبع ملكة اللغة في النفوس بحيث تقتدر

على الإتيان بالكلام العربي الصحيح من غير روية ولا تكلف. لكن الدهماء من

أبناء أهل هذا اللسان لم يلتفتوا إلى هذا الإصلاح، بل منهم من يستنكره ذهابًا مع

العادة أو ترفعًا واستنكافًا من الاستفادة. والساعون في إماتة هذه اللغة الشريفة

مجدون في سيرهم، ثابتون في جهادهم، يقيمون العقبات، ويوالون الصدمات،

والصدمة الجديدة التي أشرنا إليها في عنوان هذه المقالة هي: إحياء اللغة العامية

المصرية، بجعلها لغة كتابة، لكن أتدري بماذا تكتب؟ تكتب بحروف إفرنجية

اخترعت لها، والهمة مبذولة في نشر ذلك وتعليمه للمصريين.

لهفي على اللغة العربية المقدسة. ألم يكفها تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين

ينشؤون الجرائد باللغة العامية؟ كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة

تكون من أنجح وسائل إحيائها، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة)

و (الشيطان) تعارض الإسلام، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار، بل

سقطت مجلة البيان الفصيحة، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه) ، ألم يكفها هذا

حتى قام جماعة يسعون لتعميم تعليم اللغة العامية بحروف إفرنجية يقربون بها

المصريين إلى تناول لغاتهم من حيث يبتعدون عن لغة علومهم ودينهم التي فيها

عزهم وشرفهم.

ومما يضحك الثكلى ويبكي المسْتَيْئِس الذي جاءته البشرى: قول صاحب

الكراسة في بيان فوائد هذه الحروف: (والذين يرتئون استعمال هذه الحروف

الجديدة لكتابة اللغة المصرية العامة التي يتكلمها سكان مصر على اختلاف طبقاتهم

يحسبون أن نتيجة ذلك ستكون خيرًا عظيمًا على القطر المصري) . وقوله بعد

بيانها: ونتيجة ذلك كله جعل الأمة المصرية أمة متعلمة عزيزة الجانب متحدة الكلمة.

فليت شعري ما هي العلوم والآداب المودعة في هذه اللغة العامة التي ينتج حفظها

في الكتابة الإفرنجية هذه العزة والمنعة، ويمنحها هذا الاتحاد في الكلمة، ومع من

يكون هذا الاتحاد، هل هو مع سائر إخوان المصريين في اللغة من الحجازين

والسوريين والمغاربة والعراقيين أم مع غيرهم؟ ؟

مَن أعطى هذه الخلابة بعض حقها من النظر تجلى له أن أهل هذا الاختلاب

يعتقدون فينا الجنون والاختبال، وأننا فقدنا الإدراك والشعور بوجوه المنافع

والمضار، فلا نفرق بين الخير والشر، ولا نميز بين الإصلاح والإفساد؛ فإن

الغوائل التي أبرزها صاحب الكراسة في صورة الفوائد لا يمكن أن ينخدع بها عاقل

مهما كانت مموهة الظاهر، وهي أربع، أشير إليها هنا إجمالاً، ثم أفصل الكلام في

المناقشة عليها تفصيلاً في العدد التالي إن شاء الله تعالى، وهي:

(1)

تسهيل التجارة.

(2)

تعميم التعليم.

(3)

حفظ اللغة العربية (العامية) ، ولم يخجل مؤلف الكراسة عند ذكر

هذه الفائدة من بيان أن اللغة العربية الصحيحة آخذة في الاضمحلال بتعلم اللغة

الإنكليزية واللغة الفرنساوية، وأنه ينبغي الاعتياض عنها بلغة العامة.

(4)

قلة نفقات الطبع وتوحيد اللسان بين الوطنيين والأجانب، وأن ذلك مما

يقوي الوطنية (انتهت الفوائد) .

وأنت ترى أنه ألحق بالفائدة الرابعة فائدة أخرى أهم منها، ولعله إنما عدهما

فائدة واحدة، وجعل توحيد اللسان وقوة الوطنية تابعًا لقلة نفقات الطبع مع عدم

المناسبة بينهما؛ لشدة ظهور الخلابة والخديعة في دعواه " قوة الوطنية بتوحيد

اللسان العامي بين الأوربي والمصري ". وأي شيء يكون أوضح من بطلان دعوى

من يدَّعي أن الشمس مظلمة، والطاعون الجارف نعمة، والعسل قوي المرارة،

والحنظل شديد الحلاوة.

وهَبْني قلت هذا الصبح ليل

أيعمى العالمون عن الضياء

وإذا صح هذا التعليل فإننا نشكر لحضرة المخترع اعتقاده أنه ربما يوجد عند

البعض منا قليل من الفهم والتمييز يفطن به لخلابته هذه فأوردها في عرض القول

وأخريات الكلام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 101

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خبر واعتبار

جاء في باب المسائل من مجلة المقتطف المفيدة (جزء 4 مجلد 22) الصادرة

في غرة أبريل الجاري سؤال وجواب فيما تحدثت به جرائد العالمين من إجلاء

اليهود عن الممالك التي تضطهدهم ومهاجرتهم إلى فلسطين، فرأينا أن نبين ذلك

للقراء ونذيله بما يعنّ لنا بشأنه من التنبيهات الموجبة لليقظة والاعتبار وها هو

بحروفه:

(س) فرنكفورت على نهر الماين: أ. س. جودا، لا بد أنكم سمعتم عن

الحركة التي حدثت فجأة منذ ستة أشهر بين اليهود في بلاد النمسا وألمانيا وإنكلترا

وأمريكا وهي المعروفة باسم الصهيونية. ويظهر من الجرائد الأوروبية أن غاية

الصهيونيين إنشاء مساكن في فلسطين لليهود المضطهدين في روسيا وبلغاريا

ورومانيا وبلاد الفرس والمغرب، وذلك بإذن الدولة العلية وكفالة الدول الأوروبية

وتحت حمايتهن. ومرادهم تعمير أراضي فلسطين بالفلاحة والصناعة، فيعيشون

آمنين في ظل الحضرة الشاهانية، ويقل عدد الفقراء في أوروبا وتتسع أسباب

التجارة بين الشرق والغرب، وقد أسهمت الجرائد الشهيرة كالتيمس والدايلي

كرونكل والديلي تلغراف وأشهر جرائد النمسا في استحسان هذا الرأي وقالت: إنه

قريب المنال؛ لأن الدولة العثمانية ترغب في عمار بلادها، والدول الأوروبية لا

تمنع فقراء اليهود من ترك بلادهن والانتقال إلى البلدان الشرقية لكي ينشروا فيها

المعارف ويوسعوا التجارة والصناعة، لا سيما وأن اليهود قد اشتهروا بولائهم للدول

التي تحميهم وتحسن إليهم، فتجد الدولة العثمانية منهم كل ولاء وأمانة. وأريد أن

أعلم من المقتطف: هل اعتنت الجرائد العربية في مصر وسورية بهذا الأمر، وما

ورائكم في إمكان إجرائه؟

(ج) لا يظهر لنا مما نطالعه من الجرائد العربية أنها اعتنت بهذا الأمر

اعتناءً خاصًا، وإنما ذكره بعضها مع سائر الأخبار التي يذكرها. واليهود الذين أتوا

فلسطين حتى الآن أهل صناعة وتجارة كما تقولون، وقد أفلحوا فيها وقبضوا على

أكثر فروع التجارة والبيع والشراء، وإذا زاد عددهم قبضوا على كل موارد التجارة

وأساليب الصناعة، أما الفلاحة فلا نظن أنهم يعكفون عليها، لأنهم ليسوا أهل فلاحة

في بلاد من البلدان التي هم منتشرون فيها. وقد صار كل شيء ممكنًا لأهل المال،

فلا يستحيل عليهم أمر إذا بادروه وعقدوا النية عليه، فإذا اتفق أغنياء اليهود في

أوروبا على ابتياع الجانب الأكبر من أراضي فلسطين ونقل إخوانهم الفقراء إليها لم

يتعذر عليهم ذلك، ولم يتعذر على هؤلاء الفقراء أن يعيشوا في فلسطين بالراحة

والرخاء؛ لأن الأرض وسيعة وخيراتها كثرة، وكانت تمون أضعاف سكانها

الحاليين، ولكن بين ما يمكن للإنسان وما يقدم عليه بونًا شاسعًا، فإن الناس إذا

عملوا أعمالهم عن اختيار لا عن اضطرار جروا في الطرق التي يلاقون فيها أقل

المقاومات، وأغنياء اليهود لا يرون أنفسهم مضطرين إلى نقل إخوتهم إلى فلسطين،

ولا هذا النقل من الهنات الهينات، نعم إنه تقوم بينهم أحيانًا أناس محسنون أهل

غيرة وحمية، كالبارون هرش، فينفقون النفقات الطائلة على نقل جماهير كبيرة من

إخوانهم إلى بلاد يبتاعونها لهم ويسكنونهم فيها، ولكن ذلك نادر، ونقل اليهود إلى

فلسطين وابتياع الأرض من الحكومة ومن أصحابها أصعب من نقلهم إلى أرجنتين،

ولذلك نستبعد نجاح الصهيونيين، ونحسب أن السعي لدى حكومات روسيا ورومانيا

والبلغار في إصلاح شأن اليهود فيها أقرب منالاً، لا سيما وأن طلب كفالة الدول

الأوروبية وحمايتهن لليهود الذين يراد نقلهم في فلسطين عقبة كبيرة في سبيل هذا

الغرض، لأن الدولة العثمانية لا ترضى بها. اهـ بحروفه.

(المنار)

قد أوردنا هذه المسألة لعدة فوائد:

(1)

أن المضطهدين في جميع ممالك الأرض يرغبون الجلاء إلى بلاد

الدولة العلية ليكونوا في مأمن من الظلم والاضطهاد في ظل الحضرة السلطانية

الظليل. وما ذلك إلا لاعتقادهم أنه ليس في بلاد الدولة من الغلو في التعصب وإيذاء

المخالف ما في سائر الممالك التي يرغبون الجلاء عنها، كروسيا وبلغاريا، والتي

لا يودون الجلاء إليها كبقية ممالك أوروبا، ولا التفات لقول القائل: تحت حماية

أوروبا؛ لأننا نرى جميع اليهود في بلاد الدولة العلية سواء لا يرون فيها ثورة ولا

شغبًا، ولا يمنعون حرفة ولا كسبًا، ودانية عليهم ظلالها، ومساوية بينهم أحكامها،

نعم إن المرجح لاختيار اليهود فلسطين كونها بلادًا مقدسة وموضع آمال منتظرة.

ولكن الأمن والراحة شرط للاختيار.

(2)

توجيه الأنظار وتحويل الأفكار إلى ما فيها من مطارحات الجرائد

ومداولات الساسة في أوروبا بشأن تعمير فقراء اليهود لبلاد فلسطين، وبث المعارف،

وتوسيع التجارة والصناعة في ربوعها، لعل أهل بلادنا تجيش في نفوسهم مراجل

الغيرة، فتندفع إلى طلب ما تتوقف عليه سعادة أوطانهم من علم وعمل، ولا شك

أنهم لا يعدمون عند الطلب رشادًا.

(3)

إيقاظ قوم قد رُزئوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم إلى

الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار، وكيف

يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم، ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف

الجبال. ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم

والدينار، الذي يحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل.

فيا أيها القانعون بالخمول أقنعوا رءوسكم (ارفعوها) ، وحدقوا أبصاركم

وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم. أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون

أن يسجل في جرائد جميع الدول أن فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع

الحكومات من بلادها هم من العلم والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقدرون

على امتلاك بلادكم واستعمارها، وجعل أربابها أجراء وأغنيائها فقراء

تفكروا

في هذه المسألة واجعلوها موضوع محاورتكم، لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة،

صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم

وملتكم، فانظروا وتأملوا وتفكروا وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر

فهو أخلق بالنظر من اختلاق المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء،

وأَحْرَى بالمحاورة من التذقح والتجني على إخوانكم، فإن في الخير شغلاً عن الشر،

وفي الجد مندوحة عن الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

_________

ص: 105

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رئيس الولايات المتحدة والحرب

يتشوف العالم الآن للوقوف على ما عساه يحدث بين الولايات المتحدة وأسبانيا والأنظار كلها شاخصة إلى مستر ماكنلي رئيس جمهورية الولايات المتحدة،

وكتاب السياسة يقولون: إن الحرب والسلم بين يديه، وربما يخطر في بال القارئ

أن حكومة تلك البلاد جمهورية، والحكم في البلاد الجمهورية للأمة، والرئيس ليس

إلا منفذًا لما يقرره نواب الأمة وشيوخها. ونحن ننقل من القانون الأميركي ما يتعلق

بسلطة الرئيس؛ ليعلم القراء أن ما يقوله الكتاب هو عين الصواب، فنقول: إن

شرائع جمهورية الولايات المتحدة تختلف عن شريعة الجمهورية الفرنساوية وغيرها

اختلافًا كثيرًا. ذلك أن السلطة في تلك الولايات موزعة على أصحابها توزيعًا لا يدع

للبعض حق المداخلة في شؤون البعض الآخر. وغني عن البيان أن السلطات في

هيئة كل حكومة ثلاث: (تشريعية - وتنفيذية - وقضائية) ، فكل واحدة من هذه

السلطات منفصلة في أميركا عن الآخرين انفصالاً تامًّا، ولا يد لها ألبتة في غير

شؤونها الذاتية. فرجال السلطة التشريعية يضعون القوانين، ورجال السلطة

التنفيذية ينفذونها، ورجال القضاء يراقبون سير السلطتين. فلا يجوز مثلاً للوزراء

المداخلة بالشؤون التشريعية، كتقديم مشروع قانون إلى مجلسي الأمة، أو البحث في

أمر من أمورهما، بل ليس لهم دخول ذينك المجلسين ألبتة. وكذلك لا يجوز لرئيس

الجمهورية أن يعرض مشروع قانون على المجالس أو المداخلة بشؤونها التشريعية،

فإنه مع الوزراء أصحاب السلطة التنفيذية ولا يد لهم في الأمور التشريعية.

وقد يظن البعض بناء على ما تقدم أن رئيس الجمهورية آلة بيد المجالس

النيابية، والحقيقة أن له من السلطة القانونية ما ليس لكثير غيره من رؤساء

الحكومات الجمهورية.

فهو إذا أراد وضع قانون لم يقدم به مشروعًا إلى المجالس من عند نفسه، بل

يوعز إلى أحد أنصاره السياسيين من أعضاء مجلس الأمة أو السنات فيقترح هذا

العضو على المجلس الاقتراح المطلوب، فيضعه المجلس موضع البحث والمناقشة،

وبذلك يتم ما أراده الرئيس.

فهو إذًا قادر على اقتراح وضع القوانين، إن لم يكن مباشرة فضمنًا، وهذا ما

جرى أمس في مشروع العشرة ملايين جنيه التي قررتها المجالس للدفاع عن الوطن،

فإن الرئيس أوعز إلى صديقه النائب مستر كنون أن يقترح ذلك على المجلس،

فتم ذلك على ما نقلته إلينا الرسائل البرقية.

أما وقد علمنا الآن أن للرئيس حيلة في وضع النظامات التي يرى

لزومها، بقي لنا أن نعلم مقدار ما للرئيس من السلطة وما يكون من أمره عند

خروج أحد المجلسين عن سواء السبيل بتقريره ما لا ينطبق على المصلحة العامة،

وسياسة الرئيس.

نقول: إن للرئيس - والحالة هذه - سلطة الاعتراض على المجلس فيما قرره

وإرجاع قراره إليه ليعيد النظر فيه مشفوعًا برسالة منه يظهر فيه وجه الخطأ ورأيه

في الوجهة التي يجب على المجلس قصدها، مراعاة للحق أو للصالح العام. وعلى

الرئيس حينئذ أن يطبع صورة ذلك القرار والرسالة التي بعث بها إلى المجلس

وينشرها في البلاد، لتطلع الأمة عليها، وتبدي رأيها فيها. وعند بحث المجلس في

هذا القرار المردود لا يكون تقرير رفضه أو قبوله إلا بأكثرية ثلثي الأعضاء، وبعد

قراءته ثلاث مرات في المجلس، فإن بقي المجلس مصرًّا على قراره كان للرئيس

إرسال ذلك القرار للمجلس الثاني بالصورة الأولى بعد نشره، ونشر آرائه فيه،

لتقف الأمة عليها وتكون الحكم فيها. وغني عن البيان أن المجلسين لا يستطيعان في

هذه الحال أن يحكما حكمًا لا يرضاه الرأي العام؛ لأن الشعب لهما بالمرصاد وهو

الحكم الأعلى في تلك البلاد المتمدنة.

ومن المعلوم أن إشهار الحرب مختص بالمجلسين لا برئيس الجمهورية. غير

أن للرئيس حق الاقتراح ضمنًا، وحق الاعتراض مباشرة كما ذكرنا، فإن أراد

المجلسان إعلان الحرب الآن كان له أن يقترح على أنصاره الأعضاء أن يقاوموا

مريدي الحرب أشد مقاومة. فإن غلبوا على رأيهم وتقرر إشهار الحرب، كان

للرئيس أن يرد ذلك القرار للمجلسين ليعيدا فيه النظر، ويقرره بأكثرية ثلثي

الأعضاء لا بأكثرية قليلة بعد أن ينشر سلامة آرائه في المسألة. ولا يعدم حينئذ من

عقلاء الأمة الأميركية من يرون رأيه الصحيح في إيثار السلم على الحرب، والتمدن

على البربرة، فيتكاتفون على الوقوف في وجه من يريدون إضرام نار الحرب

للتشفي والانتقام، أو للربح من وراء المضاربة والالتزام.

ففيما مر بك تفسير لما رواه روتر من عزم أسبانيا على استرجاع سفيرها من

الولايات المتحدة حين تصديق الرئيس مكنلي على قرار مجلس الأمة. ذلك أنها ترى

في تصديق الرئيس إعلانًا للحرب، وقطعًا للأمل في السلم، أما تقرير المجلس فلا

تعبأ به إذ للرئيس مكنلي أن يرده بالصورة الآنفة.

إذًا صدق مَن قال بأن السلم والحرب بين يدي مستر مكنلي رئيس الجمهورية،

فحبذا لو يحقق آمال محبي السلام في تغليب الحلم والعقل على الطيش والجهل وحب

الانتقام.

...

...

...

...

...

(ف)

_________

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كيف السبيل

؟! [*]

قلنا: إن الطريقة المثلى لإبطال منكرات الموالد (وغيرها) إنما هي طريقة

الوعظ والتعليم، وقلنا: إن ذلك على ثلاثة ضروب: الخطابة - وقراءة علم

الأخلاق والآداب - وسلوك طريق التربية عملاً وتحققًا وهو المعبر عنه بالتصوف.

ولا شك أن هذه الثلاثة لو أعطيت حقها من العناية لنهضت الأمة نهضة

الأسود، فاستردت مفقودًا، وحفظت موجودًا، وبعثها الله مقامًا محمودًا، هذه

الثلاثة هي الأركان التي قام عليها بناء الإسلام، وحفظ مجده بمراعاتها إلى أجل

مسمى، وما انثلمت هذه الأركان في مكان إلا انثلم شرف الإسلام، وما تقوض

صرح عزة في قطر إلا بعد أن تقوضت هذه الأركان الثلاثة، يشهد بهذا تاريخ هذه

الأمة لمن نظر بعين التأمل والاعتبار. ولا نطلق للقلم العنان للجري في هذا

المضمار، كما يشاء، فقد وعدنا أن نخص القول فيما يتعلق بمنكرات الموالد،

ووفاء بالوعد نقول:

الركن الأول: الخطابة

يمكن للجنة العلماء التي تجتمع للمذاكرة في إبطال المنكرات أن تكلف أحد

أعضائها الفصحاء بإنشاء خطب تزجر عن هذه المنكرات زجرًا مفصلاً، لا يغادر

صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وتبني للناس حقيقة التوحيد، وأن الأولياء أحياءً

وأمواتًا {لَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً} (الفرقان: 3) ، بل توضح لهم أن القرآن صرح بأن النبي (بله الولي) بشر مثلنا

وإنما يتميز على سائر الناس بما منحه الله به من الوحي الذي يعمل به على الوجه

الأكمل، ويعلمه الناس، وأنه ليس عليه إلا البلاغ والتعليم، فلا يقدر على هداية

أحد من نفسه {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272) {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، وإذا كانت الهداية التي جاء لأجلها

لا يقدر على إيصالها للناس، وإنما عليه بيان طريقها فقط، فهو لا يقدر على

إيصال المنافع الدنيوية إليهم بالطريق الأولى (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، إلا ما يكون

مما يتعاون به الناس بعضهم مع بعض، وتنبه على أن المعجزات والكرامات ليست

من الأسباب التي تناط بها مصالح المعاش، وتبنى عليها الأعمال الكونية، بل هي

من الأمور النادرة التي لا يبنى عليها حكم، وليست مما يحصل بقدرة من تصدر

على يديه وإرادته، كالأفعال الاختيارية التي يتمكن من فعلها متى شاء، بل لا

يجريها الله تعالى على أيدي أصفيائه إلا لحكمة بالغة، كإقامة الحجة على صدق

الأنبياء في دعواهم النبوة، وتشرح لهم أن الله تعالى تفضل على عباده فجعل لكل

شيء يحتاجه الإنسان في حياته أسبابًا تؤدي إليه، وهدى الناس إلى اتباع هذه

الأسباب، فجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرونه باستعمالها فيما خلقت

له على الوجه الذي تجتنب فيه المضار، وتجتلب المنافع، وإذا هم شكروه

باستعمالها زادهم نعمًا بهدايتهم إلى ما لم يكونوا يعلمونه من أسباب السعادة بما علموه

وعملوا به منها: (من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) ، وإذا هم كفروا

النعمة بإهمال أسباب السعادة التي أنعم عليهم بها تكاسلاً، أو اعتمادًا على الخوارق

وإبطال سنة الله تعالى في الكون، فإن الله يعذبهم بالحرمان من السعادة، كما هو

منصوص في الكتاب السماوي ومشاهد في كتاب الكون الإنساني {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ

لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) ، وكفى بكتاب

الله تعالى حجة، وبمشاهدة سنته في خلقه عبرة (ولكن أكثر الناس لا يعقلون) .

بمثل هذه المواضيع تنشأ الخطب ويوحى إلى الخطباء أن يخطبوا بها لا بمدح

الأيام والشهور، وذكر المواسم التي يعرفها الجمهور، بل والناس أجمعون. فإذا

أنشأت اللجنة خطبًا منبهة على الحق، منذرة بخطر الانحراف عنه في الدنيا وفي

الآخرة، وعهدت بها إلى خطباء القطر في جميع البلاد، فلا شك أن الخطباء تلبي

طلبها وتمتثل أمرها ويكون لذلك أثر ظاهر {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .

ثم إن الخطابة لا تنحصر بمنابر المساجد فينبغي للعلماء الأتقياء الذين يغشون

مجامع الناس في الموالد أن يخطبوا فيهم في كل مجتمع، ويحذروهم من اجتراح

السيئات واقتراف المنكرات، ويبينوا لهم ما نزل إليهم بعبارة واضحة، يسهل عليهم

فهمها، وإذا كانت عامية أو قريبة منها يكون حسنًا. أما وسر الحق لو انتهج أهل

العلم هذا المنهج مع العامة لما رأوا منهم إلا إقبالاً وقبولاً، فإنهم قوم لا يتمارون

بالنذر، ولا يستنكفون عن الخضوع للحق، لا سيما إذا جاء بعنوان الدين على لسان

العلماء والصالحين. إن الذي يستمسك بالباطل إذا توهمه دينا كيف يكون حاله إذا

سطع نور الحق في قلبه بالإرشاد والتعليم الصحيح، لا جرم أن استمساكه به يكون

عظيمًا. انظر تاريخ الشعب المصري وتأمل حالته اليوم. تراه في جميع الطوارئ

وأدواره خاضعًا لرؤسائه، لا يفتات عليهم، ولا يستبد دونهم بشيء. فجميع ما طرأ

على هذا الشعب وجميع ما هو فيه الآن إنما مبدؤه ومصدره الرؤساء سواء كان ذلك

في الأمور الدينية أو الشؤون الدنيوية. ربما أضر هذا الخُلُق (الخضوع والانقياد)

بالمتخلقين به في بعض الأطوار. لكنه يكون في طور الإصلاح والإرشاد أكثر

للخير إسراعًا وأشد في مضماره إيجافًا وإيضاعًا.

دخل كاتب هذه الكلمات إحدى الخيام في المولد فرأى شيخًا من البهاليل

المعتقدين، وقد التفت عليه النساء، وأحدق بهن الرجال، والبعيد من هؤلاء وهؤلاء

يجتهد في أن تصل أطراف بنانه إليه فتلمسه، وعند ذلك يرى نفسه سعيدًا، وقد

شبرق القوم من التجاذب ثيابه، يرجون بركة ذلك وثوابه، فسألت مَن في حاشية

المجتمع عن الشيخ فقيل لي: هو الشيخ عبد الغني أبو الغيط، وهو من الأولياء

الذين يفيضون البركات، ويكشفون الكربات، فأنشأت أبين لهم معنى الولي، وأنه إنما

يمتاز عن الدهماء بالعلم والعرفان، وتقوى الله تعالى في السر والإعلان

إلخ. ثم

بينت لهم غلوهم في الأولياء، وغرورهم وانخداعهم بالدجل، أمزج الكلام في ذلك

بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومنثورات مما يؤثر عن الصالحين، فأقبل القوم علي

بعد إنكار قليل، وتركوا الولي والنساء، ثم أجلسوني وأحاطوا بي، وطفقوا يسألون

وأجيب. وألقيت عليهم في خلال ذلك ما يجب اعتقاده في الله تعالى، وأطلت بعض

الإطالة في بيان الوحدانية، ثم أفهمتهم معنى سلوك الطريق، وأن جماهير المنتسبين

للصوفية اليوم منحرفون عما كان عليه أسلافهم من الحق والاعتصام بالكتاب والسنة،

وأدخلوا في الطريق بدعًا وعادات لم يكن يعرفها الأولون. فسلموا بجميع ما قلته لهم

تسليمًا، ورغبوا إلى أن أسلكهم الطريق على وفق الكتاب والسنة، كما حكيت لهم عن

سلف الأمة، فاعتذرت لهم وفارقتهم وهم آسفون، وما كادوا يسمحون لي بمغادرتهم

حتى أظلنا الليل وشيعوني باحتفال حافل، وتقبيل أنامل.

هؤلاء هم المصريون، إن شئت قل في سوادهم الأعظم: إنه من شر الشعوب

حالة في الدنيا والدين، وإن شئت قلت: إنه خير الشعوب وأفضلها؛ لأن خير ما

يمتاز به الإنسان هو قوة قابليته للتربية والتعليم. وللشعب المصري من ذلك السهم

الأوفر والقدح المعلى، وإنما قصر بهم الأساتذة والمعلمون.

فيا هداة الأمة ويا وُرَّاث الرسل أدركوا هذا الشعب بالإرشاد والتعليم الصحيح

الذي يهديهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. أدركوا قومكم من قبل أن يخرج أمرهم

من أيديكم، فإن آراء وتعاليم أخرى تدب إلى نفوسهم من حيث لا يشعرون. إن

الخرافات التي يتراءى للبعض أنها تعطيهم قوة وصلابة في الدين، حيث قد أخذت

بعنوان الدين، هي التي يخشى أن تكون العاملة على هدم الدين وتلاشيه، إذا تنبهوا

لفسادها، وحالة العصر تقضي أن سيتنبهون.

إن الحق لا يأتي من طريق الباطل، وإن الهدى لا يحتاج في حفظه إلى

الضلال. فأدركوا الأمة قبل أن تفقدوها، فأنتم عنها مسؤولون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ

يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

الركن الثاني: قراءة علم الأخلاق والآداب الدينية

هذا العلم هو الذي يعرّف الإنسان حقيقة الدين، ومنه تستمد الخطابة والوعظ.

فإن من درس هذا العلم ومارس أحكامه وتوسع فيها يعطيه ذلك قوة على الوعظ

والإرشاد، وإذا حاول الوعظ وزاوله وثابر عليه حينًا من الدهر انطبعت في نفسه

ملكة صحيحة وصار خطيبًا حقيقيًّا (في هذا الموضوع) ، فنرجو من سادتنا علماء

الأزهر الشريف أن يعطوا هذا الفن حقه من الاعتناء، ليخرج الطلاب من هذا

الجامع متفقهين في الدين عارفين بحقيقته عاملين على إحيائه في بلادهم وأوطانهم

{وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .

إلا أن قراءة أحياء العلوم خير من قراءة الكتب التي تميتها - كحاشية الصبان

ونحوها - من الكتب المملوءة بالآراء التي هي أمشاج وأخلاط من فنون شتى، بل

ليست بشيء من الفنون. وإن البحث عما يطبع ملكات الفضائل في النفس، أفضل

من التفرقة بين اسم الجنس وعلم الجنس، وإن معرفة أمراض الروح وعللها وكيفية

معالجتها والأدوية التي تعيد إليها صحتها هي أحرى بالعناية وأجدر بالتوسع

والتطويل من التوسع في معرفة علل الكلام، والتطويل بالقيل والقال، لا سيما على

الوجه المعروف الذي يفسد الأذهان، ولا يقوِّم اللسان، بل إن إشغال الوقت في

عرفان طريق التخلية عن الحسد والعجب والكبر، والترفع عن الكذب والخيانة

والوقاحة وسائر الرذائل التي تفسد أعمال الإنسان، وتهبط بذويها إلى أسفل درجات

الذل والهوان، هو أولى من إشغاله السنين الطوال بمعرفة دقائق أحكام المدبر

والمكاتب وأمهات الأولاد، ونوادر الفروع في الجنايات، والحدود والعقوبات وما

أشبه هاتا من المسائل الفقهية التي أهملها أهلها، فصارت آثارًا تاريخية. فما بالك

بالأبحاث العقيمة لذاتها، التي يهبها الإنسان عمره النفيس جزافًا بلا عوض،

كالبحث في الماهيات هل هي مجعولة أو غير مجعولة. وعن الجعل البسيط

والمركب، والهيولي والصورة، والوجود هل عين الموجود أو غيره، والجزء الذي

لا يتجزأ، وعن مناكحة الجن، وصحة الاقتداء بهم، ونجاستهم إذا تشكلوا بصورة

حيوان نجس أم لا، وعن الحيوان المتولد بين نوعين مختلفين، وغير ذلك

المستنبطات التي وصلوا بها إلى حد فرض المستحيلات العقلية والمادية (كما صرح

بعضهم) والتي بها عاب الإمام حجة الإسلام فقهاء عصره، وبيَّن أنهم أهملوا الفقه

في الدين (التهذيب) ، واشتغلوا عنه باستنباط مسائل تمضي الأعمار ولا يحتاج إلى

شيء منها. ولا أطيل في القول فإن كل من لاحظ أن العلم إنما يراد للعمل وأن

العمل ينتج السعادة يعلم علم اليقين أن علم تهذيب الأخلاق هو أحق بالعناية من سائر

العلوم، وأولى بالتقديم على ما سوى العقائد، بل قال بعض الأئمة (وأظنه إمام

الحرمين) : (إن الأخذ بتهذيب الأخلاق علمًا وعملًا هو أول ما ينبغي أن تتحلى به

نفس الإنسان) . وقد بينا في العدد الرابع: أنه سعادة الدنيا والآخرة في التهذيب،

وأيدنا ذلك بالآيات العقلية والنقلية، وقد صرح الفقهاء بأن هذا العلم من الفروض

العينية التي يجب على كل مكلف من ذكر وأنثى معرفتها، فكيف لا يكون أحرى

بالعناية من فنون اللغة ومعاملات الفقه الواجبة على سبيل الكفاية.

لم يغفل عن هذا مجلس إدارة الأزهر فقد حتم (أيده الله تعالى) في قانون

التدريس إقراء هذا الفن الجليل، ومن الأسف أن نرى الجماهير غير ملتفتة إليه،

وعسى أن يروا في الامتحان ما يحملهم عليه. ولنمسك عنان القلم، فقد جمح بنا

حتى خرجنا عن الشرط الملتزم.

الركن الثالث: التصوف أو سلوك الطريق

ليس من غرضنا الآن البحث في اشتقاق لفظ التصوف أو بيان تاريخه، ولا

شرح حدوده ورسومه، وإنما نقول: إن التصوف في الإسلام هو عبارة عن التخلق

بالأخلاق الفاضلة، وما تتبعه من أعمال البر والتقوى، وذلك هو الإسلام الحقيقي

الذي كان عليه سلف الأمة الصالح، ولما حدثت الفتن في المسلمين وطفق الناس

ينحرفون عن الدين، تميز المتمسكون بما كان عليه السلف الصالح بأخلاق وأعمال

صاروا بها فرقة مستقلة، ثم مازجت كتبهم تعاليم غريبة، وحدثت لهم اصطلاحات

خاصة، حتى عدهم بعض مؤرخي الإفرنج فرقة من الفرق التي انفرقت من الإسلام،

ثم طرأت عليهم أحوال، وصدمتهم من المخالفين أهوال، فرقت شملهم، ونثرت

عقد انتظامهم، حتى صار الصوفي كالعنقاء، إن كان موجودًا فتحت حجاب الخفاء

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم: 59)

وجعلوا طريق القوم شارات وإشارات، وهم الذين يعرفهم القارئ بأنهم مصدر تلك

المنكرات، ومعهد هاتيك الموبقات (إلا من حفظه الله تعالى) ، والذي ينفسح لنا

مجال القول فيه الآن مما يتعلق بإصلاحهم: هو استلفات أنظار شيخ الشيوخ صاحب

السماحة السيد محمد توفيق البكري إلى منع الجهلة والدجالين من التصدي لإسلاك

الطريق، وإناطة ذلك برجال من أهل العلم والتقوى، يعرفون كيف يستأصلون

البدع، ويزيلون المنكرات، ولقد ذاكرنا سماحته في هذا الموضوع فأفادنا أن ذلك

من مطامح رغبته ومرامي همته، وعسى أن يكون العمل قريبًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نُشرت في فاتحة العدد السابع الذي صدر في 5 ذي الحجة سنة 1315 هـ - 16 أبريل سنة 1898.

ص: 112

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صدمة جديدة على اللغة العربية

(2)

ألمعنا في العدد السالف من جريدتنا إلى أن الساعين في محو اللغة العربية

الصحيحة من الوجود قد استنبطوا لهذه الغاية حروفًا لإحياء اللغة المصرية العامية،

حروفًا إفرنجية تقرب من يتعلمها من اللغات الإفرنجية، وتقصيه عن لغة كتابه

ودينه وأسلافه الذين يفتخر بهم، ويباهي بعلومهم وآدابهم، وتقطع النسبة بينه وبين

مشاركيه في الدين واللغة من أهل البلاد الحجازية المقدسة، وسائر البلاد العربية

التي تكتنف البلاد المصرية وترجو أن يلمع نور إحياء العربية من ربوع مصر

وأكنافها، فيستضيء به كل من ينطق بالضاد.

جاء في أول الكراسة التي ألفت في بيان فوائد هذا الاختراع أن الذي (استنبط

هذه الحروف (ولهلم سبتَّا) بك أمين الكتباخانة الخديوية، اللغوي الألماني المحقق،

الذي توفي سنة 1883، وهو في الثلاثين من عمره. وقد استعد لذلك بدرس

حروف الهجاء وأساليبها في كل لغات الأرض، ولا سيما تغييرات حروف الهجاء

اللاتينية المستعملة الآن في أوروبا وأمريكا) .

وجاء فيها أيضًا ما نصه: (وألف سبتا بك كتابًا ألمانيًّا في صرف هذه اللغة

العربية المصرية ونحوها، وهو الكتاب العلمي الوحيد الذي وضع للغة من اللغات

العربية العامة. وجمع كتابًا أيضًا في الأمثال العامة، وقصصًا في اللغة العربية

المصرية، وترجمها إلى اللغة الفرنسوية. وكان عارفًا تمام المعرفة باللغة المستعملة

في كل القطر المصري، ومحبًا للمصريين، وغيورًا على مصلحتهم ومهتماً بخيرهم

ونجاحهم) . اهـ.

أما هذه المحبة والغيرة فإن آثارها تشبه آثار العداوة والبغضاء. متى وجد

غربي يسعى في خير الشرق للشرق؟ أما إنه لم يوجد إلا أناس تظاهروا بأعمال

مفيدة لأهل الشرق، فساعدهم عليها أهل الشرق، لكنهم لم ينالوا منها إلا الحرمان،

واجتنى ثمارها دونهم العاملون (تأمل ترعة السويس وغيرها)

إنهم ليختلبون عقولنا بالقول المموه الظاهر الذي ينخدع به المعتقدون

عظمتهم، والمشاهدون صدقهم في بلادهم، ولبني أوطانهم، ولكن أصحاب البصائر

يعرفونهم في لحن القول، ويتنسمون أغراضهم في مطاوي الكلام، بل يتهمونهم في

كل ما يدعون، وإن لم يظهر فيه وجه للخديعة، عملاً بالقاعدة العامة التي

عرفوها بالاختبار، وهي أن الغربي لا يعمل عملاً إلا لمنفعة وطنه وأمته. على

أن بعض دعاويهم الكاذبة لإصلاح الشرقيين هي من الظهور بحيث يراها العميان،

ولا تخفى على الصبيان (نعم إنها تخفى على الخشب المسندة) ، كالمسألة التي نحن

فيها الآن. أما حجج صاحب الكراسة الأربع، فهي داحضة عند من يبصر

ويسمع، وإنَّا نشرح ذلك بالتفصيل الذي يسمح به المقام على ما وعدنا في العدد

السالف، فنقول:

قال مبين فوائد الاختراع ومؤلف الكراسة (ولا ندري مَنْ هو ولا سبب إخفاء

اسمه، ولعله للإخلاص في هذه الخدمة) : إن نتيجة ذلك ستكون خيرًا على القطر

المصري:

أولاً: أن استعمال هذه الحروف يفيد تجاريًّا؛ لأنه إذا قدر التجار الأجانب

والعملاء الذين يرسلونهم إلى القطر المصري أن يتعلموا اللسان المستعمل هنا

بحروف سهلة التعلم، فكثيرون منهم يتعلمون هذا اللسان فيصير التاجر المصري

قادرًا على المعاملة معهم بلسانه من غير أن يتعلم اللغة الإنكليزية أو اللغة

الفرنسوية، فتسهل المعاملة التجارية والاجتماعية على كل طبقات الناس.

(المنار)

إن سهولة المعاملة التجارية على الأوربيين وتعميمها في القطر هي نكبة شديدة

على المصريين، بل جائحة تتلف عليهم ثمار أعمالهم، بل تنتزع منهم جميع ما

بأيديهم من مال وعقار، وجعلهم أجراء للسادات الذين يمتلكون بلادهم، بما لهم من

المهارة في الكسب والحذق في استعمار الأرض، ثم يعم بلادهم الفجور والخمور

التي تسلبهم ما ينقده لهم السادة المالكون من الأجور على أعمالهم اليومية، وتكون

فائدتهم أنهم خرجوا من كل شيء، وفقدوا كل شيء، وانقطع أملهم من كل شيء إلا

الحركة الدائمة في خدمة سادتهم العظام، كسائر الدواب والأنعام. والسعادة لمن يفوز

بدوام خدمتهم، فإنهم إذا تمكنوا في الأرض يستغنون بالآلات الصناعية عن العمال

والصناع إلا قليلاً منهم، ويضطر أهل البلاد الأصليون إلى المهاجرة والجلاء، إلا

من يلتصق بهم، ويتجنس بجنسيتهم، لغةً وديناً.

لا مبالغة في القول، فهذه طبيعة الوجود الإنساني، تنطق بكل لسان بأن العالم

يستخدم الجاهل، والقوي يستولي على الضعيف، ما وجد الأول للوصول إلى الآخر

سبيلاً، وليس بعد المشاهدة معاندة، ومع العيان لا يحتاج إلى برهان.

قال مختلق الفوائد: (ثانيًا) : إن لاستعمال هذه الحروف فائدة كبيرة في

التعليم؛ فإن عامة المصريين مثل عامة الشعوب الأخرى، لا يمكن تعليمهم ما لم

يتعلموا في المدارس اللغة التي يتكلمونها، ويتعلموها بواسطة حروف هجائية بسيطة

سهلة المأخذ

إلخ.

(المنار)

إن الغرض من تعليم وتعلم القراءة والكتابة هو نشر العلوم والفنون، فأي علم

وضعت فيه المصنفات، وأي فن دونت فيه الدواوين باللغة العامية المصرية،

فيسهل تناوله من كثب، على من قرأ وكتب، يوجد في اللغة العربية الصحيحة

ألوف وألوف ألوف من كتب العلوم والفنون في اللغة وآدابها، وفي الدين من عقائد

وأخلاق وشريعة، وفي جميع الفنون القديمة والحديثة، فهل يكون صعود المصريين

في مراقي التعليم إلى قنة السعادة العليا بترك هذا كله، وتعلم اللغة العرفية في

المدارس بحروف إفرنجية؟ ! أظن أن الكتابة بالحروف الإفرنجية تكون عزاءً لهم

عما فقدوا، وعزًا وشرفًا فيما وجدوا؛ لأنها إفرنجية.

لعل الساعي بنشر هذا الاختراع يقول في تمويهه وخلابته: إن المصريين إذا

أقبلوا على تعلم هذا الخط، وعم أرجاء القطر، يتعلم الأجانب لغتهم، وإذا تعلموها

ومازجوا أهلها كمال الممازجة، يحملهم حب الإنسانية على تأليف كتب بها في جميع

الفنون، فيصبح القوم في جنة من المعارف عالية، قطوفها منهم دانية.

ويسهل علينا أن نقول في جوابه:

(أولاً) - إن هؤلاء الأجانب لا يحبون منفعة أحد من العالمين إلا أبناء

جنسهم. ومن يوجد منهم محبًا للإنسانية لا تتناول محبته أهل الشرق؛ لأنه يعتقد

خروجهم من نوع الإنسان.

(ثانيًا) - إذا سلمنا أنهم محبون لكل إنسان، ومخلصون بنشر المعارف في

كل مكان، فلا نسلم أنهم يقتدرون على إبراز علومهم في قوالب هذه اللغة السخيفة،

وإلباسها هذه الخلقان الضيقة، كيف وهم يزعمون أن اللغة العربية (سيدة اللغات)

لا تفي ببيان مخترعاتهم، وقاموسها المحيط لا يحيط ببعض مكتشفاتهم، وأنها هي

التي قصرت ببنيها عن التوسع في العلوم والفنون العصرية، كذب الخالبون إن اللغة

العربية ما قصرت، لكن قصرت الهمم، وإن الأمم لا ترتقي بلغاتها ولكن اللغات

ترتقي بالأمم، والوجود أعدل شاهد، لا ينكره إلا مكابر أو معاند.

(ثالثًا) - إذا فرضنا أنهم يقدرون على جعل هذه اللغة الفقيرة لغة علوم

وفنون، وأنهم بعد أن يتعلمها الشعب المصري بحروفهم يتعلمونها ويؤلفون فيها

الكتب المطلوبة - فهل يكون هذا إسراعًا في ارتقاء المصريين، مع أن الشروع به

لا يمكن إلا بعد عشرات من السنين؟ كلا، إن قوله: (إن المصريين لا يمكن

تعليمهم ما لم يتعلموا في المدارس لغتهم التي يتكلمون بها بحروف سهلة كهذه

الحروف) ، قول جاء على خلاف الحقيقة، والصواب: أنهم إذا اقتصروا على تعلم

لغتهم هذه يحرمون من كل علم، سواء كان تعلمها بحروف إفرنجية، أم بحروف

سماوية، وإذا تعلموها مع غيرها من اللغات التي يمكن تحصيل العلم بها، كلغة

أجدادهم، أو لغات الطامعين فيهم، فإنها تكون عائقًا لهم عن التعلم والتحصيل؛

لأنها تزاحم العلوم النافعة، وتأخذ زمنًا من وقتها، فإذا قيل: إنه لا يمكن تعلمها هي

(اللغة العامية) إلا بمثل هذه الحروف السهلة. قلنا: إن نهيق (الحمارة)

وصلصلة (اللجام) وتزيب (الغزالة) وبغومها (صوتها) يكذب هذا القول؛ فإن

لم يقنع قائله سلطت عليه (الشيطان)[*] ، فهو أولى بإقناعه من الحيوان.

نعم، يعسر تعلم العامية بالحروف العربية إذا كان مشروطًا معه عدم تعلم شيء

من العربية (كما هو المقصود) ، ولكن هذا ضرر على المصريين، لا نفع لهم،

فليكن متعذرًا لا متعسراً.

قال مبتدع الفوائد: (ثالثًا) إن استعمال هذه الحروف يحفظ اللغة العربية

(أي العامية) ، فإن كل تلميذ في المدارس العليا يتعلم الآن الإنكليزية أو الفرنسوية،

ولا تمضي مدة طويلة حتى يشيع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية أيضًا،

في المدن والأرياف، فيضطر أغلب السكان إلى تعلم لسان أجنبي، فكم تبقى اللغة

العربية بعد ذلك، سواء كانت معربة أو غير معربة؟ كم بقي إلى الآن من اللغة

القبطية، وقد كانت اللغة العامة في هذا القطر؟ وكم تبقى عربية أهل الجزائر،

حيث صارت المدارس فرنسوية؟ فالطريق الوحيد لحفظ اللغة العربية - مما حل

باللغة القبطية - هو حفظ اللسان الحي من الضياع باستعمال حروف هجائية يُكتب

بها.

(المنار)

إن هذه النصيحة (لو كتبت - كما قال ألف ليلة وليلة - بالإبر، على آماق

البصر، لكانت عبرة لمن اعتبر) ، إذا كان أدهى الناس وأشدهم حذقا في الخلابة

والخديعة هو الذي يستطيع أن يبرز المضرة في صورة المنفعة، ويقيم من الخزي

والشقاء مثالا للفوز والسعادة، فلا جرم أن من ينخدع له يكون أحمق الناس وأرسخهم

قدمًا في البلادة والهمجية. لقد وضع صاحب هذه الكراسة أصلاً صحيحًا وبنى عليه

حكمًا باطلاً. الأصل الصحيح: هو أن اللغة العربية معرضة للتلاشي والإمحاء من

القطر المصري الذي يتبعه سائر الأقطار؛ لأن من سنة الله تعالى في الكون أن

الضعيف يقلد القوي، والمغلوب يحتذي مثال المتغلب عليه في سائر شؤونه، وبذلك

انتشرت اللغة العربية في بلاد الروم والفرس والبربر، وانتشرت اللغة الإنجليزية

في أميركا وأستراليا

كانت هذه السنة جارية مع عدم مجاراة المتغلبين لها ومساعدتها بقهر

المغلوبين وإجبارهم على تقليدهم، وانتحال عوائدهم ودينهم ولغتهم، أو بأخذهم

بالتربية والتعليم اللذين يفيدان ما لا يفيد الإلزام والإكراه، كما تعلم من تاريخ دولتي

الإسلام العظيمتين العربية والتركية. فكيف يكون سيرها إذا ساعدها المتغلب عن

عقل وحكمة، فسهل أمامها الطرق، ومهد لها العقبات؟ إن المعارضة كما تكون

في القواعد الفكرية والشرعية، تكون أيضًا في السنن والنواميس الطبيعية،

ويمكن للإنسان في هذه أن يقوي المرجوح، ويضعف الراجح، بما يهديه إليه

العلم، فيختلف الترجيح.

كانت اللغة العربية سائرة على سنن الطبيعة مع فتوحات الإسلام، فعارضها

ما أوقف سيرها في بلاد الفرس وغيرها، ثم أرجعها القهقرَى، ولو كان لها

أنصار عارفون بعلم طبيعة الكون لأمكنهم إزالة تلك العوارض، وجعلها لغة جميع من

أظله لواء الإسلام. إن الأمم الغربية هي التي أفادها العلم الطبيعي ما تقدر به على

محو كل لغة تبوأت أرض أهلها إذا لم يعارضها أهل تلك اللغة بما يدفع تيارها عن

علم وبصيرة. وما يقال في اللغة يأتي في الدين، وفي سائر الشؤون. هذا هو

الأصل الصحيح الذي جاء به صاحب الكراسة، وأشار إلى إثباته بشهادة التاريخ وقد

زدناه بيانًا وإيضاحًا.

وأما الفرع الباطل الذي بناه على هذا الأصل فهو: أنه يجب معارضة

الناموس الطبيعي الذي ذكره بنبذ اللغة العربية ظهريًّا، وتعلم العامية (التي سماها:

عربية) بحروف إفرنجية، أيها الأحمق، بل العاقل المستحمق لجميع المصريين،

إذا كانت لغة العلم والدين لا تقوى على صد هذا التيار المنحدر، ولا يمكنها البقاء

معه (كما زعمت) ، فأنى يمكن بقاء هذا الهذر والخطل والكلام المعسلط (الذي لا

نظام له) ، ألا إنك تعلم أن ما قلت: إنه يحفظ العربية، هو إجهاز سريع عليها،

ولكنك غوي مبين.

لا ريب أننا في أشد الحاجة إلى تغيير طريقة التعليم التي عليها أهل الأزهر

وسائر المدارس العربية، وإلى إعصار فيه نار تحرق الكتب المملوءة بالآراء

والخلافات والشكوك والظنون والخرص والتخمين والإيجاز المخل والتطويل الممل

وإلا فلا يمكن أن نخطو خطوة، أو ننهض من كبوة، والبحث في هذا من أهم ما

أنشئ له المنار ولكل قدر أجل، ولكل وقت عمل.

قال منتحل الفوائد: (رابعًا) : إن هذه الحروف تقل بها نفقات الطبع،

فيسهل تأليف كتب جديدة متقنة للتعليم، ويزول بها خليط الألسن المستعمل الآن في

القطر المصري؛ لأنها تسهل على الأجانب تعلم لسان السكان، فيصيرون

يستعملونه في مخاطبة الأهالي بدل لغتهم المتخلفة، ويسهل بها استعمال آلة الخط.

(المنار)

أما قلة نفقات الطبع، فلا شك فيها، بل إن الطبع ينعدم بالكلية إلا من الأجانب؛

لأن هذه اللغة لا يمكن أن تكون لغة علم، ولا هي لغة دين، فلا حاجة لكتب تطبع

فيها، إلا ما يتعلم به الخط المخترع، ويكفي له الكراسة التي ألفها وأمثالها من

الرسائل الصغيرة التي يمكن طبعها في المطابع الإفرنجية (وهي كثيرة في مصر) ،

وتنطمس رسوم المطابع العربية بتعميم هذا التعليم، ويستغنى عما طبع وعما كتب

بالحروف القديمة واللغة البائدة، ويكون ذلك من الاقتصاد وتقليل النفقات التي

تستفيدها البلاد المصرية! ! (نعوذ بالله من الوقاحة ومن غمط الحق واحتقار

الناس) .

أما قوله: (ويزول بها خليط الألسن

إلخ) فهو مما لا ريب فيه أيضًا،

ومما يحسن التنبيه عليه: أن اللغة العامية التي لأجلها استنبط هذا الخط المخترع

(كما زعم) هي مما يزول قبل اللغة العربية الصحيحة؛ لأن هذه تتوكأ على الدين،

فلا تمحق بالكلية حتى لا يبقى له بقية (والعياذ بالله تعالى) ، كما هو شأن

اللغة اللاتينية في البلاد الأوربية. يزول هذا الخليط كما قال ولا يبقى إلا لغة أو ثنتان

من اللغات الأجنبية، وهذه هي العلة الغائية للاختراع، والاهتمام في نشره.

وقوله: (وتقوى الرابطة الوطنية بين كل طوائف السكان) يصدق بالوطنية

الأجنبية الطارئة، فإنها هي التي تبقى ويزول كل ما عداها، فمن أمكنه أن يلتصق

بها كان من أهلها، وينقرض باقي الأمة، كما انقرضت هنود أميركا، وبهذا الشرح

تفهم النتيجة التي استنتجها حق الفهم، كما يفهمها هو لا كما يريد أن يفهمها

المصريون وهي قوله: (ونتيجة ذلك جعل الأمة المصرية أمة متعلمة عزيزة

الجانب متحدة الكلمة) ، ولا يكون ذلك إلا بقطع كل علاقة ورابطة بينها وبين ما

يتصل بها من الأقطار، وتعميم لغة أجنبية فيها ليتمكن أهلها في الأرض، ويكونوا

هم الوارثين. عند ذلك تكون الأمة التي تتبوأ مصر عزيزة الجانب كما هي عزيزة

الجانب في سائر الأقطار والأمصار! ! !

إذا أُلْقِيَ ما شرحناه على المتحذلقين من المصريين، يُنغضون رءوسهم،

ويحدجون بأبصارهم ويقولون: (إكبار وتهويل، وصياح وعويل، وما هو إلا كلام

بكلام) .

أما العقلاء فيعلمون أنه كلام حق، وأن الإفرنج إذا قالوا فعلوا، وإذا عملوا

أدركوا، وأنهم ما دخلوا قرية، ولا خالطوا أمة، إلا أفسدوا كيانها، {وَجَعَلُوا

أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34) .

إن نفوس سكان الولايات المتحدة نيف وسبعون مليونًا، وليس فيهم هندي من

السكان الأصليين. لا أُبعد عليك في المثال، هذه بلادك التي تسكنها أيها الغافل،

انظر فيها إن كان لك بصر، واعقل إن كان لك لب، ثم ارجع إلي باللوم والتفنيد،

أو بالشكر والتحبيذ [**] .

_________

(*) الحمارة والجام والشيطان: أسماء جرائد كانت تصدر باللغة العامية، وقد فسرناها في هامش هذه الطبعة؛ لأن أكثرها نسي.

(**) إنني لم أقرأ هذه المقالة بعد كتابتها إلا عند إعادة طبعها الآن، أي بعد عشر سنين تقريبًا، ويظهر أنني كتبتها في حال انفعال شديد، وأنا أرى الآن أن الكلام في الأوربيين شديد، وفيه مبالغة، وأعترف بأن فيهم كثيرين يحبون الخير لذاته، وأن منهم مَن يحب الشرقيين ويود الخير لهم.

ص: 120

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رواية اليتيم

إن قراءة القصص المعروفة (بالروايات) من أنجح الذرائع في نشر الأفكار

الصحيحة بين جميع طبقات القرّاء، ومن أكبر وسائل التهذيب. ولها الشأن العظيم

في البلاد المتمدنة. وقد انتشرت الروايات بيننا باللغة العربية، ما بين منشأة

ومعرَّبة، لكن أكثرها غرامي، يشرح أحوال العشاق، ويبين طرقهم ومذاهبهم،

بحيث لا يكاد يلتفت القارئ لما عساه يوجد في الرواية من الفوائد التي وراء ذلك،

لا سيما إذا كان في سن الصبا، ولسنا الآن بصدد شرح فوائد الروايات وبيان

مساوئها ونسبة ما عندنا منها لما في البلاد المتمدنة، فنؤجل ذلك لفرصة أخرى،

ونكتفي الآن بأن نقول: إن أفضل موضوع تؤلف فيه الروايات هو ما ينبه الشبان -

عمومًا - وتلامذة المدارس - بوجه خاص - على حب بلادهم وأوطانهم، وجعل

غرضهم من حياتهم خدمة مِلَّتهم وأمتهم على الوجه الذي تقتضيه حالة العصر،

ويبين لهم أن ذلك لا يتم إلا بالتمسك بالأعمال والفضائل التي يوجبها الدين، ومعرفة

الفنون التي عليها مدار المدنية الصحيحة. وقد أهدانا الشاب المهذب أحمد حافظ

أفندي عوض الدمنهوري رواية من تأليفه سماها: (رواية اليتيم) أو: (ترجمة

حياة شاب مصري) ، تدخل في هذا الموضوع الشريف الذي ذكرناه، ويظهر من

كلامه أنها قصة واقعية لا مخترعة. ولا بُعْد في ذلك، فقد تصفحناها فلم نر فيها ما

يستبعد وقوعه، إلا ما كان من حال عشق الفتى (المترجم) لبنت جاره وصديق

والده، فإنه ذكر أنهما كانا يجتمعان في حديقة الدار منفردين يتشاكيان الغرام،

ويعرف باجتماعهما والدا الفتاة ويرضيان به، بل كان الفتى يجلس مع الفتاة ووالديها

على المائدة، مع أنه يصف أهل بيته وبيت الفتاة بالاعتصام بالدين والتمسك بالعوائد

الإسلامية. وأستبعد أن يكون التهاون في الحجاب سرى في هذه الطبقة (التي

وصفها في الرواية) من المصريين إلى ذلك الحد. إلا أن يقال: إن هذه الواقعة

نادرة، وإن إرخاء العِنان للفتيان من والديهما كان سببه ثقتهما بحسن تربيتهما، فقد

نشآ من سن الطفولية معًا كأخوين. ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.

ومما تفضُل به هذه الرواية كثيرًا من الروايات المتداولة أن ما يذكره فيها من

الغرام لا يخرج عن حدود الأدب والعفاف والنزاهة والشهامة. وأكثر وقائع الرواية

حوادث محزنة وفجائع مشجية، ينفطر لها القلب الرقيق، وتنهمل من تصورها

العبرات، ومن أحسن ما جاء فيها من التنبيهات المفيدة قوله في وصف حالة أبناء

المدارس الخارجية (الذين يقيمون خارج المدرسة) ما نصه: (وجدنا أغلبهم - إن

لم نقل جميعهم - فاسدي الأخلاق، وذلك من عدم انشغالهم بالدروس، بل بأشياء

أخرى، وخصوصًا الذين يأتون من البلاد خارج القاهرة فإنهم لعدم وجود من يقوم

بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من جهة المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مُضرّة

بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم

وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل،

يقود المرء إلى كل منكر وفاسد، هذا فضلاً عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه

بأصول الدين الذي هو أس الفضائل يجعل الشبان لا يعبأون بالآداب، ويرتكبون

المحرمات ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم

وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعًا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج

التعليم بالآداب والفضائل) .

وقوله في الشبان الذين يرجى بتعلمهم رفعة الوطن، وإعلاء مناره (وذلك من

جملة وصية ونصيحة) : (ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي

ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من

وهدة الدمار والانحطاط. فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون

لصالحها، كما يسعون لصالح أنفسهم، مُتّحدين مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق

بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم،

وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛

لتقوّم بكم ما اعوجّ من أمورها فكونوا معها لا عليها) .

وقوله في وصية أخرى: (إن تقدم بلادكم مرتبط بكم وأنتم زهرة مصر،

فانشروا رائحتها الذكية، يشمها القاصي والداني، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها

استخفافًا بأنفسكم أو استصغارًا لقدركم. ولا أخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما

أعرفه وزيادة، وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تُسألون عنه كما يُسأل أكبر الكبراء،

وأثرى الأغنياء، وأفقر الفقراء، والقوي والضعيف، فكونوا في أمتكم بمثابة

الخطباء المذكرين بمجد أجدادهم، حاثّين على اتباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك

تقوى عصبيتكم، وتجدون من أهل بلادكم من ينشّطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج

إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، ولا تفرَّقوا فتذهَبَ ريحكم، ودونكم

تاريخ الأندلس وكيف تفرَّقوا شذَرَ مذَرَ، كأن القوم ما كانوا، حين انقسموا طوائفَ

طوائفَ ودبت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدين وراء ظهورهم، ففتك بهم

الغير بما تشق له المرائر، وتفتت الأكبدة، وانظروا إلى كتب الفرنساويين الابتدائية

كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: (الإلزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على

كل فرنساوي أن يردها إلى بلاده) . ومثل ذلك من العبارات الوطنية ليغرسوا في

قلوب الناشئين حب بلادهم، والسعي وراء الحصول على ما أخذ من حقوقهم.

وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جَدّ وَجَدَ،

ومن لَجَّ وَلَجَ، ومن سار على الدرب وصل) .

وقوله في الانتقاد على تلامذة المدارس وبيان مغامزهم: (لا يعرفون

للمنتديات العلمية فائدة، ولا يقبلون على الجمعيات الأدبية، ولا يعرفون إلا اليسير

عن جغرافية بلادهم، حتى يضعها الغريب أمام أعينهم، وهذا ما يجعلني أعتقد أن

السفر إلى الخارج بالنسبة للشبان المصريين لا يفيد الأمة، فالأَوْلى أنهم يتجولون في

بلادهم لا لكي ينظروا الآثارات فقط، بل لكي يعرفوا القرى وعوائد الفلاح المصري

في الوجهين القبلي والبحري، ليكونوا على بصيرة من أحوال أمتهم، ودرجتها في

الهيئة الاجتماعية، والعالم المتمدن، ليضعوا أمام أعينهم رفع شأنها بالطرق المفيدة

لها، وأنا أؤكد لك أن بعض الشبان الذين حازوا الشهادات العالية في المدارس لا

يعرفون كيف يُزرع القمح، ولا القطن، بل لا يعرفون محصولات بلادهم، ونحو

ذلك، مع أنك لو سألته عن محصولات مملكة أجنبية لذكرها لك، وعَدَّد لك شهرة

كل مدينة، وتِعداد أهلها، وإذا رأى فلاحًا مصريًّا هزأ به وظنه بهيمًا، مع أن ذلك

الفلاح العاري الصدر والرجلين هو عماد البلاد، ومنه تتكون معظم الأمة المصرية،

حتى إن بعض هؤلاء الشبان يظن أن الأمة المصرية هي الفئة التي تجلس على

القهاوي تدخن النرجيلة، وتلعب النرْد والشِّطْرَنج والورق وتقرأ الجرائد وتتكلم في

السياسة، لكن مع ذلك فأنا أبشر حضرتكم أن الوقت أخذ في التحول، وأن بعض

الشبان عرفوا واجب بلادهم وتولد عندهم حب العمل والنشاط، اقتداء بأميرهم،

والناس على دين ملوكهم) . اهـ.

فنحثّ الكتبة على إنشاء الروايات في هذا الموضوع المفيد، وعسى أن

يواصل مؤلفها الأديب الجري في هذا المضمار، مع مراعاة حسن السبك وسلامة

العبارة مع سلاستها التي هي فيها، فما أجدر المعنى الصحيح، بالأسلوب الفصيح،

ونرجو أن يقبل القراء على روايته فينشطوه على متابعة العمل، فبالعمل يحقق كل

أمل. اهـ من العدد السابع.

_________

ص: 129

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأدب الصحيح [*]

رغَّب إلينا غير واحد أن نكتب في جريدتنا بعض نبذه في الأدبيات، يعنون

بذلك ما عليه الجماهير من أن الأدب هو عبارة عن: الشعر والأمثال والنوادر

والأفاكيه، وإلا فإن معظم ما نشرناه في الجريدة هو من المباحث التي تنظر إلى

تهذيب النفوس وتحليتها بالفضائل، بعد تطهيرها من أدران الرذائل، وليس الأدب

الصحيح إلا هذا، فقد قال العلماء: إن الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يَشينه.

ولا ريب أن أية رذيلة من الرذائل تَشين الإنسان إذا تلبّس بها واقترف ما تدعو إليه

من الأفعال المنكرة. فإن قيل: إن القوم يريدون بالأدب أدب اللسان وهذا التعريف

إنما هو لأدب النفس أَقُلْ: إن أدب النفس لا يكون كاملاً إلا بأدب اللسان، فالأول

يستلزم في كماله الثاني، وكان كلا القسمين متحققاً في فضلاء سلف الأمة من أهل

الصدر الأول.

ولما وضعت العلوم والفنون باتساع عمران الأمة، وانفرد بكل نوع منها طائفة

من الناس، اختص الباحثون بأدب النفس علمًا وتخلقًا باسم الصوفية، وسمي علمهم:

(التصوف) . وخص الباحثون بأدب اللسان باسم: (الأدباء) ، وسمي مجموع

فنونهم أو ثمرتها: (بعلم الأدب) على إطلاقه، ولقد كان لكل من الفريقين حظ من

أدب الفريق الآخر. لكن الأدبين كليهما معًا لم يكملا إلا لأفراد منهما. وإننا نقتدي

بالقوم في التسمية، ونبحث في الأدب بحثًا نبين به العلاقة بين أدب اللسان وأدب

النفس والجنان؛ لأن سعادة الأمة لا تتم إلا بهما كليهما فنقول:

كان الأدب عند أسلافنا عبارة عما يحترز به عن الخطأ في كلام العرب قولاً

وكتابة، وأصوله عندهم: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان

والعروض والقوافي وقَرْض الشعر والإنشاء والمحاضرات والتاريخ، وربما أطلقوا

الأدب على ثمرة هذه الفنون وهي: الإجادة في المنظوم والمنثور في كل موضوع،

ولابد في هذا من وقوف الأديب على كل فن من الفنون المتداولة في عصره. ومن

ثم قال الفيلسوف العربي ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب في مقدمته: (هذا

العلم لا موضوع له، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في

فنَّيْ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم) ، إلى أن قال: (ثم إنهم إذا

أرادوا حدَّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل

علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية، من حيث متونها فقط،

وهي القرآن والحديث؛ إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب

إليه المتأخرون عند كَلَفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسّلهم

بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات

العلوم ليكون قائمًا على فهمها) . اهـ.

وأمَسّ الاصطلاحات العلمية بالأدب: اصطلاحات علم الأخلاق، بل هو

الجدير باسم علم الأدب دون غيره؛ لأن أدب اللسان ثمرة من ثمرات أدب النفس،

وقد لاحظ أدباء العرب هذا في أيام نهضتهم العلمية، لذلك ترى كتبهم الأدبية ملأى

بالكلام على الأخلاق والسجايا وأعمال ذويها من حيث هي ممدوحة أو مذمومة (وإن

كانوا أفردوا للأخلاق مصنفات يبحثون بها عنها من حيث هي قوى نفسية تنشأ عنها

الأعمال البدنية، وهو المسمى بالفلسفة الأدبية أو العملية أو علم تهذيب الأخلاق) .

فمن لا يقدر على الكلام الفصيح في التنفير عن الرذائل والترغيب في الفضائل وفي

سائر المواضيع المتعلقة بمنافع الأمم ومصالحها، قولاً وكتابة لا يكون أديباً.

ويستمد علم الأدب اليوم من ينابيع لم تكن مفجّرة في أرض أسلافنا من قبل،

ويحتاج في تحقيق نتيجته التي علمت إلى فنون كثيرة لم تكن في العصور الأولى أو

كانت لكن على غير هذه الحالة التي هي عليها اليوم، كالتاريخ الذي كان مجموع

قصص وأساطير لا تكاد تفيد غير التسلية والتفكّه، وهو اليوم علم من أفيد العلوم

التي عليها مدار العمران.

ذكر بعض المؤلفين في الأدب أن الكاتب والشاعر يحتاجان في كمال صناعتهما

(الأدب) إلى معرفة كل ما في العصر من الفنون والصنائع في الجملة؛ ليقتدروا

على مخاطبة كل صنف من الناس بما يناسب ذوقه، ويتصرفوا في كل موضوع بما

هو أمسّ بحالة أهله. نعم هذه سنة الذين خلوا من قبل، كانوا لا يمنحون لقب

الأديب إلا لمثل ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي وبديع الزمان

والحريري. فمَن ذا الذي يستحق هذا اللقب اليوم؟ ! لا جرم أن من يأخذ هذا

اللقب بحق لا بد أن يكون أعلم من هؤلاء وأكْتَب، وأشْعَر وأخْطَب، لأن هذا

العصر قد زخرت بحار فنونه، وكثر التشعب في أفانينه، ومع هذا فإنك ترى

الدهماء لا يتحامون إطلاق لقب الأديب على كل مَن يلفق كلمات موزونة، أو يأتي

بسجعات ولو كانت ملحونة، بل ابتذل هذا اللقب الشريف حتى صار يلفظ به إلى من لا لقب له من ألقاب الحكومة التي تشير إلى رتب الشرف المعلومة، وليس

مستلاًّ من سلالة الأمراء، أو من الصنف الذي يدعى ذووه بالعلماء، وقد سُجِّلَ

هذا مع أمثاله من (التشريفات) الكاذبة في جرائد التملق والنفاق، وصحف المَين

والاختلاق، حتى صار محب الصدق في حيرة، إن أرضى نفسه أسخط غيره،

وحتى صار يمقت هذا اللقب، من لديه رَسّ (طرف أو ذرو) من علم الأدب،

وأجدر به أن يتقذره وهو مبذول للعامة، والجرائد تحلي من لا أدب عنده بلقب عالم

أو علاّمة، مما لم يكن يطلق إلا على الراسخين في المعقول والمنقول كالشيرازي

والتفتازاني وأضرابهم. هذه حال أمتنا اليوم تركوا صدق أسلافهم للأوربيين واستبدلوا

الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن صَدَقهم النصح حَمَلوا كلامه على الإهانة ونبذوه

ظِهّريا (وقد يستفيد الظَّنة المُتنصّح) .

يحْسَب قوم أن إعطاء الألقاب الشريفة لغير أهلها ليس إلا من جزئيات الكذب

التي لا ينجم عنها ضرر، ولا يتأثرها خطر، وغفلوا عن كون منح ألقاب الفضل

والكمال لغير مستحقها، كمَنْح رتب الشرف والوسامات لغير الجدير بها، وإن كلا

الأمرين من أرزاء الأمم التي تودي بحياتها الأدبية والسياسية، وتقذفها في مهاوي

الجهل والضعف.

وليس هذا من موضوع كلامنا الآن، فلنغضّ عنه الطرف ولنرسل أشعة نظره

إلى رياض الآداب، لعله يجتني شيئًا من أرطابها وثمارها اليانعة وأزاهيرها البهيجة

العطرة، يهديها لقوم كان لهم من الآداب النفسية واللسانية جنتان، {فِيهِمَا مِن كُلِّ

فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن: 52) ، فطوّحت بهم الطوائح، واجتاحت ثمارهم

الجوائح، وصوّحت رياضهم البوارح، وبدلوا {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ

وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: 16) . يهديها لهم لعلها تبعث هممهم إلى إحياء

الموات، واسترجاع ما فات، واحتذاء مثال الأمم القوية، التي جعلت آدابها معارج

لمنافعها الصورية والمعنوية، فيعود للعربية بهاؤها، وللأمة مجدها وسناؤها، في

ظل مليكنا الأعظم، ونصير المعارف الأعصم، أيَّده الله تعالى، وزاده عظمة

وجلالاً.

لعمرك قد طفت المعاهد كلها، واستسقيت وابلها وطَلّها، فلم أر كلامًا في

الأدب حكيمًا، قد انتهج صاحبه صراطًا مستقيمًا، ونبه الناس على الطريقة المثلى،

وأرشدهم إلى المرتبة الفضلى، إلا ما جاء في (العروة الوثقى) التي لا انفصام

لتعاليمها تحت عنوان (نصيحة في الأدب) منسوبة لحضرة الفاضل مولوي عبد

الغفور شهباز بمدينة كلكتا. وإنَّا نوردها بنصها وهي:

(ليس الأدب كما يظن بعض الناس: مجموع قصص تتلى للفكاهة، أو

أساطير تنقل في المسامرات، أو منظوم من القريض يمتاز بحسن الاستعارة ورقة

التشبيه، مع مراعاة المحسنات اللفظية والمعنوية، من التورية والجناسات ونحوها

من فنون البديع، أو منشآت ورسائل تتضمن إطراء في المدح أو مغالاة في القدح،

فإن جميع هذا بمجرده لا يتصل بمعنى من معاني الأدب. وإنما الأدب في كل أمة

هو الفن الذي يقصد به تهذيب عاداتها وتلطيف إحساسها وتنبيهها إلى خيرها لتجتلبه،

وإلى ما يخشى من الشر فتجتنبه، فالأدباء في الحقيقة هم ساسة أخلاق الأمم، بل

هم أجنحتها، تطير بهم إلى ذروة فلاحها، فإنهم بما يعلمون من طرق التفهيم يمكنهم

أن يقربوا إلى العقول ما يبعد عن إدراكها، ويسهلوا على الأذهان ما يعسر عليها

النظر فيه، ويعبروا عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة، فتستفيد منه العامة، ولا

تنكره الخاصة، فيأخذون على الظالم ظلمه ويعظونه بسوء عواقب الظلم، وينكرون

على الفاجر فجوره، ويحذرونه مَغَبّة الفجور، حتى يردّوا كلاعن غَيّه بما يروضون

من طبعه بدون أن يقولوا له: إنك ظالم أو فاجر. وإذا رأوا في أمتهم عوائد يأباها

سليم الذوق، أو وجدوا منها أخلاقًا وأعمالاً لا تنطبق على شريعة الفضل، وقوانين

الشرع، عمدوا إلى تغيير العوائد، وتطهير الأعراق، وأخذوا في ذلك سبلاً متنوعة

في إنشاءاتهم، تارة بالقصص والحكايات التي تمثل شناعة الرذيلة وبهاء الفضيلة

وما آل إليه أمر المتدنسين بالأولى وما ارتقَى إليه حال المتحلّين بالثانية، وتارة

بقريض الشعر، يخيلون فيه ما يحرك الهمم ويبعث الأفكار وينبه خواطر الكمال،

وإحساسات الشرف الصحيح، لا بما يوقظ الشهوة ويقوي الغرور ويخرج الأنفس

عن أطوارها، والأخذ به من وجهه، والدخول إليه من بابه هو الذي صعدت به

الهند الأولى إلى أوج المجد، وبلغ به العرب أقصَى غايات الرفعة، وهو الذي

وصل بالأمم الأوربية إلى ما وصلوا إليه مما لا يخفى على ذي بصيرة، وإنا لنأسف

على ما نراه من أدباء المسلمين وشعرائهم، فإنهم يقصرون منشآتهم وأشعارهم على

ما يكوّن عد الصفات، إما مذمومة أو محمودة، ونسبتها إلى شخص يريدون مدحه

أو ذمه، ويحصرون رواياتهم في حكايات مضحكة وقصص هزيلة وبعض تواريخ

ماضية، بدون أن يلاحظوا تأثير ما يكتبون وما ينقلون في أفكار الأمة وأطوارها،

ورجاؤنا فيهم أن يسلكوا مسالك أدباء الأمم المتقدمة أو المعاصرة لهم، حتى يكون

للأمة الإسلامية نصيب من فوائد ذكائهم وفطنتهم، وسعة بيانهم، وطلاقة ألسنتهم،

وأن يأخذوا في منشآتهم وأشعارهم طريقاً ينهضون فيه الهمم الخوامد، ويحركون

القلوب الجوامد، ويحيون مكارم الشيم، ويوردون الأمة موارد سابقيها من الأمم،

وإننا نرى بداية هذا المنهج الحميد في بلادنا ونسأل الله حسن ختامه) . اهـ.

ونحن أيضاً نقول: إن بعض أهل بلادنا قد انتهج هذا المنهج، كما أومأنا إلى

ذلك عند تشبيه حالتنا الأدبية الحاضرة {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ

وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: 16) فقد عنينا بالسدر القليل - الذي هو من الثمار

الطيبة -: بعض الأفاضل من ذوي الأدب الصحيح. وثمرات أدواحهم ظاهرة في

جنات الجرائد والمصنفات الحديثة النافعة، ومنها يُعلم أن الترقي في المنشور أكثر

منه في المنظوم، ويدخل في المنظوم فن الأغاني، وهو من مهذبات الأمم، ولم

يترق في بلادنا، بل هو في حالة ضارة غير نافعة؛ لأنه مقصور على العشق

والغرام. وسنتكلم على الشعر والشعراء في العدد الآتي إن شاء الله، وندع الكلام

على الأغاني لفرصة أخرى، والله الموفق.

_________

(*) فاتحة العدد الثامن الذي صدر في 19 ذي الحجة سنة 1315.

ص: 133

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سعي مشكور

تألفت لجنة للسعي في جمع إعانة لجرحى الجيش المصري وعائلات قتلاه،

وقد بعث لنا كاتب سر اللجنة الفاضل برَقِيم يذكر فيه تأليف اللجنة مصحوباً بمنشور

الدعوة إلى هذا العمل المبرور، فنشرناهما بحروفهما وهما:

حضرة الفاضل المحترم صاحب جريدة المنار:

في يوم الثلاثاء 26 أبريل سنة 1898 اجتمع بمنزل صاحب السعادة أحمد

سيوفي باشا بالعباسية حضرات أمين فكري باشا ناظر الدائرة السنية، ومحمد ماهر

باشا محافظ مصر، والأستاذ الشيخ محمد عبده القاضي بمحكمة الاستئناف،

ويوسف سليمان بك رئيس نيابة مصر والشيخ عبد الرحيم الدمرداش، وسيدي الحاج

محمد الحلو وكيل دولة المغرب الأقصى، وأحمد بك أرناود، وعبد الرحيم بك

حجازى من أعيان العاصمة والخواجه شمعون أربيب وأحمد فتحي زغلول بك

رئيس محكمة مصر، وشكلوا منهم لجنة للقيام بفتح اكتتاب عام لمساعدة جرحى

الجيش وعائلات قتلاه وأيتامهم في الوقائع الأخيرة تحت رعاية الجناب العالي

الخديوي، وانتخبوا حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده رئيساً، وسعادة أحمد سيوفي

باشا أمينًا للصندوق، وحضرة أحمد فتحي زغلول بك كاتب سر اللجنة، وقرروا

إرسال منشور لأهل الخير وأولي البر والإحسان.

وفي يوم الخميس تشرف وفد من اللجنة بمقابلة سمو الأمير المعظم، عرضوا

ما قرروه على مسامعه الشريفة، فلقوا من جنابه العالي كل رعاية وتلطف، فكان

أول المكتتبين، وجرى على ذلك أيضًا صاحب العطوفة مصطفَى فهمي باشا رئيس

مجلس النظار وحضرات النظار، واجتمعت اللجنة بعد ذلك بمنزل سعادة أمين

الصندوق بالغورية وبعد تحرير المنشور والإقرار عليه كلف كاتب السر بإرساله إلى

الجرائد.

فقيامًا بما تقرر أبعث لحضرتكم بصورة المنشور رجاء نشره في جريدتكم

لتعليم العلم به، واقبلوا مزيد تحياتي.

...

...

...

... كاتب سر اللجنة

7 مايو سنة 1898

...

...

... أحمد فتحي زغلول

16 ذي الحجة سنة 1315

(المنشور)

قد عرف الكافة ما جاء به الجند المصري الذي سِيقَ على البلاد السودانية،

مما يخلّد له ولبلده المجد والفخار، ولم يَخْفَ على أحد ما أصاب تلك الجنود في

الأيام الأخيرة، من قَتْل بعض ضباطهم وأفراد عساكرهم، وجَرْح عدد كثير منهم وإن

كان ما أصابهم قليلاً في جانب الظفر الذي نالوه بمعونة الله وثباتهم وشجاعتهم.

ومن المعلوم أن من قتل منهم ترك أيتامًا وأهلاً فيهم الضعفاء وذَوُو البأساء،

ومن جرح قد يعجز عن الكسب لو شفي ويحتاج إلى ما يقيم أوده ولو إلى أجل،

ومكان هؤلاء الشجعان من أهالي البلاد هو مكان الأخ الكريم من أخيه، أو العضو

الشريف من البدن السليم، ولا يسمح أخٌ ذو مروءة أن يدع أخاه في مثل هذا

المصاب يذهب فريسة الحاجة، والبدن السليم لا بد أن يألم لما يصيب أعضاءه،

ولهذا كان لأنباء ذلك المصاب هزة في قلوب الكثير من أهل الإحساس الطاهر في

جميع الطبقات، وأفاض كثير من الجرائد في استنهاض الهمم لمساعدة أولئك الرجال

أو أهليهم، وكان لكل واحد من سكان القطر المصري أن يبتدئ بدعوة باقيهم إلى هذا

العمل المجيد، والبادئ في الخير الداعي إليه هو في الحقيقة خادم لمن يستنهضه،

فإنه إنما يفتح سبيلاً لظهور كرم السجية، وسطوع ضوء الحَمِيّة، وقد قام بعض

الأعيان من أهل العاصمة بتأليف لجنة للسعي في جمع إعانة لمساعدة أولئك الجرحى

وأهالي القتلى، وعرضوا ما أرادوا الشروع فيه على الجناب الخديوي الفخيم؛

ليكون العمل تحت رعايته، فتفضّل جنابه السامي بقبول ذلك على جاري سننه

الشريفة في تعضيد الأعمال الخيرية، فاجتمعوا في يوم الثلاثاء 5 ذي الحجة سنة

1315 الموافق 26 أبريل سنة 1898 بمنزل صاحب السعادة أحمد سيوفي باشا،

وانتخبوا الداعي رئيسًا، وسعادة أحمد سيوفي باشا أمين صندوق للإعانة، وحضرة

أحمد فتحي زغلول بك كاتب سر اللجنة، ثم عرض الأمر على الجناب السامي فسُرَّ

به، وكان أول من شرّف العمل بالاكتتاب وتفضّل به، وكذلك اكتتب صاحب

العطوفة رئيس مجلس النظار وبقية حضرات النظار، ثم أخذت اللجنة تتابع أعمالها

في دعوة أهل الخير للاشتراك في مساعدة إخوانهم، وحيث إن حضراتكم من أهل

الفضل وذوي الهمة والمروءة رأيت أن أبعث إليكم بهذا رجاء أن يرى لهمتكم الأثر

الجليل في هذا العمل الجميل، مع العلم بأن من يتفضل بدفع شيء من المعونة

لإخوانه المصابين، فإنما يفعل ذلك لمحض الشفقة والمرحمة، وصدوراً عن الهمة

والمروءة، ومن المعلوم أنه لا ينقُص مال من صدقة، ولن تُخذل أمة كان التعاون

من سجاياها، فأرجو أن تساعدوا بما استطعتم، وأن تقبلوا المساعدة ممن يليكم

ويقرُب منكم، وما يجتمع لديكم تتفضلون بإرساله إلى سعادة أمين الصندوق أحمد

سيوفي باشا بمصر، ويرسل لكم الإيصال حسْب العادة، والله لا يضيع أجر

المحسنين.

رئيس اللجنة محمد عبده (اهـ من العدد الثامن) .

_________

ص: 140

الكاتب: محمد عبده

‌ما أكثر القول وما أقل العمل [*]

لحضرة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير

من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره على

ما ضل هو عنه، وأن يَعِيب على الناس ما لا يَعِيبه هو على نفسه، وذلك أن مَنْ

كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه ومعترِف بنقصه من وجه آخر، وخبيث

المقصد دنيء الهمة من الوجه الثالث.

أما جهله: فلأنه إذا ادّعى بما ليس فيه من علم أو فضل مع كون الناس لا

يرون أثرًا ظاهرًا لعلمه أو فضله بمعنى أنه لم يؤلف تأليفًا نفيسا مثلاً ينتفع به عموم

الناس، ويعترف بنفاسة ما فيه العقلاء والمتبصرون من أي أمة، ولم يكشف حقيقة

ولم يحل مشكلة، وإذا اعتقد أن سامعيه يصدقونه فيما يدعيه فقد جهل أن النفوس

مجبولة على تطبيق المسموعات على المشاهدات وواقع الأمر، فإن لم تجدها مطابقة

رمت بها في وجه قائلها، فتنقلب دعواه مقتًا عليه، ويسقط من قلوب الناس أجمعين،

إذ لم يروا له أثرًا يفيدهم سوى أن يخبر عن نفسه بأوصاف لا حقيقة لها. وكذلك

إذا أرشد إلى غاية هو متوجه صوب ضدها، ويظن أن الناس يسترشدون بإرشاده،

فهو لا محالة مُطْبِق الغفلة مركَّب الجهل، إذ يعلم أن الأفعال تؤثر في النفوس

أضعاف ما تؤثر الأقوال، فإن القول عند النفس يحتمل التصديق والتكذيب، فتتردد

في مفهومه، فلا يقودها إلى العمل إلا بعد تكرار وتذكار، أما الفعل فهو أمر مشهود

ينطبع في النفس أشد انطباع فتندفع إليه خصوصًا إن كانت فيه لذة معجَّلة. وإن

عاب على غيره وصفاً هو موجود فيه، فقد جهل أن ذكره لعيب الغير ينبه الأذهان

للنقص القائم بنفسه، فإن المتكبر مثلاً إذا ذم الكبر في غيره فقد ذم نفسه من حيث

هو لا يشعر، فهو جاهل بنفسه وما يعود عليها وهو ظاهر.

وأما اعترافه بنقصه وعجزه: فإنه لم يصدر عنه ذلك (أي الدعوى بما ليس

فيه، وترغيب الناس فيما لا يرغبه لنفسه، أو فيما ليس بمتصف به، بل هو

منحرف عنه وذكره لمثالب الغير وهي فيه) إلا لأجل أن يبين للسامعين كماله

وفضله، ويظهر لهم وصولهم لما يهديهم إليه، وخلوه من النقص الذي يلوم عليه

الغير، حتى يعظّموه ويقوموا له بقضاء بعض حاجته، حيث علم أن الكمال الذي

يدعيه هو مَناط التعظيم وجلْب المنافع، وكأنه بذلك ينادي على نفسه بأنه لم يبلغ من

ذلك شيئاً؛ لأنه لو بلغ الكمال الذي يدعيه لكانت نتائج ذلك الكمال ناطقة برفعة قدره،

شاهدة بعلو مقامه، سواء ادّعى ذلك عن نفسه أو لم يدّع، وسواء نقص غيره أو

كمل، ولم يكن هناك داع لمدحه نفسه أو ذمه لغيره، بل تكون آثار فضله فاعلة في

النفوس جاذبة لها إليه بذاتها، فمن تكلف الإطراء على نفسه بوصف من الأوصاف

الفاضلة أو رَامَ إظهار كماله بالحط من قدر غيره، فذاك معترِف بأنه خال من

الفضيلة، حيث لم تشهد له الحقيقة، فاضطر إلى النداء بالكذب ليقنع السامعين بأنه

كذلك.

وأما خبث مقصده ودناءة همته: فلأن مَن هذه صفته لا يريد أن يكون ذا

فضيلة قط، ولا يبتغي الوصول إلى كماله، ولكنه يطلب عيشاً حيثما اتفق، فإذا

جلس إلى بعض البسطاء أو غيرهم طلب التلبيس على عقولهم، ليقرر في نفوسهم

أنه متصف بالصفة التي يذكرها عن نفسه أو يرشد إليها، وأنه خالٍ من العيب الذي

يسبّ به غيره ليوقّروه، فيكتسب منه مساعدة على بعض أغراضه الخسيسة، أو

يستفيد منهم حطامًا يسد به بابًا من أبواب نَهْمَتِهِ وشَرَهِهِ، فهو في ذلك بمنزلة

المشعبذين أو المختلسين أو السارقين، ونحو ذلك من كل ذي حياة خسيسة لجلب

الأموال، ولا يختلف عن هؤلاء، لا بالاسم فقط حيث يقال: إنه غش الناس بحكاية

الكذب، وهو المسمى في عرفنا (بالفشْر، ويقال لصاحبه: فشّار) .

فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر

بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن هذا الوصف يوجد في كثير

من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلاً جدًّا

(وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا

عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكّر به لعله تنفع الذكرى) .

إننا إن طرقنا المجالس الخصوصية في بواطن البيوت والأندية العمومية في

الأماكن العامة لا نعدم قائلاً عن نفسه: إنه قرأ من العلوم معقولها ومنقولها، وطالع

الكتب العالية، ووقف على المباحث الجليلة، وكشف بواطن الدقائق الخفية،

واستطلع الأسرار، وكان مع ذلك مشهورًا في زمن الاشتغال بالفطنة والذكاء، ووَقْد

الفكرة، وقوة الحافظة، ونحو ذلك. وآخر يقول: إنه بلغ من الاقتدار على الإقناع

في الجدل، والإفحام عند المخاصمة، وتفهيم الطالب عند الاستفادة حدًّا لا يصل

العالمون إلى غباره، وإن له من طرق الإقناع والإفهام ما لا يتيسر لغيره معرفتها،

وإنه يُحْيِي بكلامه الأذهان الميتة، ويحشر إليها صور المعلومات، ويودع فيها

أسرار الكائنات.

ولو سألت كل واحد من الذين يظن فيهم وصف العلم والتعليم لرأيته يحدث عن

ذاته بكل الذي قلناه ويقول: لو كان الناس يسلكون هذا المسلك الذي أسلكه لانتشر

العلم وعمت المعرفة.

لكننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر رأينا أن التآليف والتصانيف مفقودة،

وإن وجد منها شيء كان ناقصًا، إما من جهة المعنى، وإما من جهة اللفظ، بحيث

لا تدل عبارته على ما قصد منه، فيكون كعدمه، والطالبون للعلوم على اختلافهم

قاصرون عن إدراك ما أضاعوا عمرهم فيه، ودليلنا على ذلك: احتياجهم دائماً إلى

غيرهم، وعدم قدرتهم على الاستقلال بعمل يعملونه في نفس العلم أو الصناعة التي

تعلموها، فتارة يحتاجون إلى الأجانب، وأخرى إلى بعض الوطنيين (وربما نبيّن

هذه الجملة في وقت آخر) .

ومن الناس من إذا ذاكَرْته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح

غوامضها ويبيّن الواجب فيها والطرق الموصِّلة إلى جلب النافع ورفع الضار،

والوسائل المؤدية إلى تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها، من رفع منار العدالة وبث

روح العلم، وتقرير المساواة، وما شاكل ذلك، ثم إذا فُوّض إليه أمر من تلك

المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير، وأقربهم إلى الشر، واستنكف من المساواة

واستهجن معنى العدالة، وإن كان يعبر من نفسه بلفظها، وسار مع أغراضه

وشهواته، وجعلها قانونًا يُتّبع، ويعد كل ذلك حقًّا، وهو في درجة وعظه الأولى لم

يخجل ولا يتلعثم له لسان في النصح ودعوى معرفة الحق، ولو أن أحدًا عارضه

بحق في أي جزئية عقب ترغيبه في قبول النصح والمساواة لرأيته يتذمر ويتضجر

ويود أن يفتك بمَن يناقضه في بعض آرائه، ويهدي إليه نُصحًا في بعض أعماله.

ومنهم من يقول: إن كل مصيبة ألمت بالنوع الإنساني لم يكن منشؤها إلا

التباغض والتحاسد، وتفرق الكلمة والميل إلى المنافع الشخصية وعدم الاكتراث

بمنافع العامة ، ونحو ذلك من الأقوال الصحيحة المسلّمة، ولو أنك لاقيت كل يوم

ألف شخص لرأيته يُقرّ بذلك ويعترف به، مدعيًا أنه يميل كل الميل إلى الاتحاد

والائتلاف، وإنما تأتي النفرة من غيره، ثم لو أتى إليه مُطالب بحق في وقت

المذاكرة لرأيته يعد هذه المطالبة أمرًا كبيرًا، وإن كانت بغاية من اللطف والإنسانية،

والْتَوى من الغيظ التواء الثعبان. ولو دعي إلى إغاثة ملهوف أو إزالة مكروه عن

بعض إخوانه أو الداخلين تحت إمرته رأيته يتعلل ويعتذر، أو يتمنع ويستكبر ويقول:

(ليس هذا من اختصاصي) ، ولو طلب إلى تأسيس أمر خيري يفيد الزراعة أو

الصناعة، أو يساعد على التربية الحقة، وجدته يستصغر ذلك ويُسفّه آراء طالبيه

ويقول: ماذا يعود على شخصي من ذلك، وما لي وللعامة، دعهم في شأنهم يرزقهم

الله من غيري. كأن جنابه يظن أن المحبة والاجتماع والألفة التي يدّعيها ويميل إليها

يجب أن تكون له من الغير لا في مقابلة منفعة ولا جزاء لدفع مضرة، بل لا بد أن

ينفعه الناس وهو لا ينفعهم! ! وما أجهلَ أمثال هؤلاء السفهاء وأضلَّ رأيهم (ومن

العجب أنهم كثير جدًّا) .

ومنهم من يُرشد إلى العدل ويدعو إلى الإنصاف، ولكن إذا عرض له حق في

طريق منفعة خاصة له داس الحق برجله طلبًا للوصول إلى غايته، وكأنه يعد ذلك

من قبيل الإنصاف الذي يدعيه أو أضربَ عن النصح والرشاد إلى وقت آخر.

ومنهم من ينتقد على الظَّلَمة ومرتكبي الجرائم وفاسدي الإدارة وسيئي التدبير،

ثم تراهم واقعين فيما ينتقدونه على الغير، كأن محل الانتقاد أن يكون الفعل صادرًا

عن سواهم، أما إذا كان صادرًا عنهم فقد اكتسب الحسن من ذواتهم المقدسة.

فأمثال هؤلاء الذين ذكرتهم لا يعرفون في العالم قبيحًا ولا حسنًا ولا صحيحًا

ولا فاسدًا، وإنما هي ألفاظ ورثوها نطقًا ولا يتفهمونها حق الفهم، وأَلِفُوا استعمالها

في مواقع مخصوصة، فهم يستعملونها كما سمعوها بدون أن يعلموا لها حقيقة،

ووجودهم في الهيئة الاجتماعية شؤم عليها، وهم في رتبة الحيوانية الأولى، لا

يعترفون بالحقائق الثابتة، بل لا يرون حسنًا إلا ما يصل إلى إحساساتهم الظاهرة من

اللذائذ الوقتية، فإذا مضى وقتها ذهلت أذهانهم عنها، ولا ينتبهون لحسنها إلا إذا

وردت عليهم مرة أخرى وهكذا، ولا يرون قبيحًا إلا ما يصل إلى إدراكاتهم من

المؤلمات الوقتية، كذلك فإذا زال ألمها غفلوا عنها كأنها لم تمسهم، فإن رأوها لاحقة

بغيرهم لم يعدوها مؤلمة ولم ينظروا إليها نظر الآسف المستنكر، فيختلف عندهم

حسن الشيء وقبحه، بالإضافة إلى أنفسهم تارة وإلى غيرهم تارة أخرى، وليس

عندهم صورة ثابتة لماهية الحسن وماهية القبيح، ولا حقيقة النافع أو حقيقة الضار،

وإنما هي أهواؤهم يعبّرون عنها بالألفاظ المطنطنة كالمصلحة العامة والمنفعة

العمومية والحقوق الوطنية، وما شاكل ذلك من المحفوظات الخالية عن المعاني،

يلوكونها بألسنتهم، ومع ذلك فهم لا يَسْلَمون من شر ما يقولون، فجهلهم لا محالة

يعود عليهم بعاقبة بئست العاقبة.

ولكنا لا نحب ذلك ونود أن يكون الفعل أكثر من القول، وأن يكون كل شخص

من أبناء بلادنا صغيرًا كان أو كبيرًا مُجِدًّا في نيل الفضيلة الثابتة التي يلهج

بتحسينها، وإجراء مقتضاها حتى تكون بذاتها شاهدًا، عدلاً على أهلية صاحبها لما

يقول، وتنتشر الأعمال الصالحة المنطبقة على الشرائع الحقّة، فتسير المصالح على

صراط مستقيم، وينال كل شخص حظه الحقيقي من ثمرات أتعابه الآتية على وجه

منتظم، فيعود النفع على العامة والخاصة، أما الفخفخة وكثرة اللغو، فإنها من شدة

العجز لا تعيد ولا تبدي والله الموفق.

_________

(*) هي المقالة الافتتاحية للعدد التاسع وهي من مقالات الوقائع.

ص: 142

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعر والشعراء

(1)

الشعر ضرب من ضروب الكلام، يمتاز عن سائره بأوزان وأساليب

مخصوصة وتصرُّف في التخيل، بحيث يؤثر في نفس المنشد والسامع، فيحرك

انفعال النفس، ويؤثر في عاطفتها. ويوجد في جميع اللغات وعند كل الأمم هو

معيار أفكارها، وقسطاس مداركها.

يتوهم قوم أن اشتراط التأثير في النفوس غير صحيح بالنسبة للشعر العربي،

وإنما هو للشعر اليوناني الذي يذكر في المنطق، ومَن وقف على سيرة شعراء

العرب، ولاحظ أغراضهم ومقاصدهم، تجلى له أنها دائرة بين ترغيب وترهيب،

واستماحة واستعطاف، وتشويق وتنفير، وإثارة شجون، وتسهيل حزون وما

أشبهها. يشهد لهذا قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (الشعر

جزل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، ويطفأ به النائرة، ويبلغ له القوم في

ناديهم) نعم، إن هذا لا يطابق ما عليه المتطفلون على موائد هذه الصناعة في هذه

الأيام وقبلها بأحوال وأعوام الذين:

يجهلون الصواب منه ولا يَدْ

رُونَ للجهل أنهم يجهلونا

ولا يوجد عند هؤلاء من الشعر إلا صورته وتَمثاله. فإن كانت صورة الإنسان

تسمى إنسانًا، فأجدر بكلامهم الذي ليس فيه غير الوزن أن يسمى شعرًا. ويُؤذن بما

ذهبنا إليه قول ابن رشيق الذي وفَّى هذه الصناعة الشعرية حقها من البيان في كتابه

(العمدة) كما يعلم من مقدمة ابن خلدون حيث قال من قصيدة:

إنما الشعر ما تناسب في النظم

وإن كان الصفات فنوناً

فأتى بعضه يشاكل بعضًا

وأقامت له الصدور المتونا

كل معنى أتاك منه على ما

تتمنى لو لم يكن أن يكونا

فتناهى من البيان إلى أن

كاد حسنًا يبين للناظرينا

فكأن الألفاظ منه وجوه

والمعاني ركبن فيها عيوناً

إلى أن قال بعدما ذكر المدح ثم الهجاء:

فجعلت التصريح منه دواء

وجعلت التعريض داء دفيناً

وإذا ما بكيت فيه على العا

دين يومًا للبين والظاعنينا

حلت دون الأسى وذللت ما كا

ن من الدمع في العيون مصونا

ثم إن كنت عاتبًا جئت بالوعد

وعيدًا وبالصعوبة لينا

فتركت الذي عتبت عليه

حذراً آمنًا عزيزًا مهينًا

وذكر بعضهم مذاهب الشعر في قصيدة قال فيها:

وإذا بكيت به الديار وأهلها

أجريت للمحزون ماء شؤونه

وإذا أردت كناية عن ريبة

باينت بين ظهوره وبطونه

فجعلت سامعه يشوب شكوكه

بثبوته وظنونه بيقينه

وأنت ترى أن هؤلاء صرحوا بأن التأثير في النفوس من مقاصد هذه الصناعة

ولك أن تجعل ذلك شرط كمال، وترمي من أَخَلَّ به بالنقص والاختزال.

الشعر ديوان العرب، وينبوع الأدب، وقد ورد فيه من الحديث الشريف (إن

من الشعر لحكمًا) قيل: إن سبب الحديث أن أحد جرحى الصحابة تعسر عليهم

إمساك دمه، حتى جاء حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فأشار بالكافور، وأنه

يمسك الدم أن يسيل، فكان كما قال، فسأله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: من

أين أخذه؟ فقال: من قول امرئ القيس:

فكرت ليلة هجرها في وصلها

فجرت مدامع مقلتي كالعندم

فطفقت أمسح مقلتيَّ بخدها

إذ عادة الكافور إمساك الدم

فقاله. ولا يصدّ عن قبول هذا أن إطلاق الحكمة على الطب عرف حادث،

فقد كان يراد من الحكمة العلم النافع، والطب منه بلا خلاف.

كان الشعر عند العرب يتناول جميع معارفهم وحكمهم وأخبارهم، في حروبهم

ومعايشهم وسائر شؤونهم، ولولا الشعر لما تسنى لعلماء الملة ضبط العربية كما

ضبطوها؛ لأن المحفوظ من المنثور قليل لا يفي بالغرض.

إن الصنائع القولية والعلمية تنمو بنمو الأمم، وترتقي بارتقائها. والشعر

صناعة من الصناعات اللفظية، لكنها لم ترْقَ مع رقي العرب في مدنيتهم التي

أفادها لهم الإسلام إلا قليلاً، حتى هبطت من أوج عزها وكادت تندرس رسومها

وتُمحى أطلالها بالكلية، صدمها بعد صدمة اللغة المعروفة صدمة أخرى خاصة بها،

أوقفتها في موقف ضيّق حرج، وهو وصف الأناسي أحياءً (بالمدح والهجاء)

وأمواتًا (بالرثاء) إلى ما يلتحق بذلك من الغزل والنسيب، الذي يستهلون به قصائد

المديح.

وبيان ذلك أن اللسان لما ملكت عليه أمره العجمة الطارئة (وهي الصدمة

الأولى) ، ووضعت الفنون لضبط العربية، صار تحصيل ملكة الشعر عسيرًا،

والعسير لا تتوجه النفس لطلبه إلا بباعث قوي، وتصور فائدة توازي العناء في

تحصيله، ولم يكن يتوقع منتحل الشعر فائدة في غير ما ذكرنا من أنواعه، لما كان

الملوك والأمراء من المستعربين والعجم يسنون من الجائزة على المدح دون سائر

ضروب الشعر التي كان يجاز عليها في أيام دولة بني أمية وصدر دولة بني العباس،

حبًا بالشعر نفسه، وإحياءً لسنة العرب الذين هم من صميمهم، بل كانوا يجيزون

النَّقَلَة والحُفَّاظ، حرصًا على تعرف أخبار العرب وآثارها، وإحياء لغتها. صار

الغرض من الشعر: الكدية والاستجداء (الشحاذة) ، وكثر فيه الكذب (في المدح)

والبذاء (في الذم) ، فأنف منه أهل الهمم، وترفع عنه أرباب المراتب، فهبط

بمنتحليه في مهواة عميقة مظلمة ضيقة.

سنذكر في العدد القابل ما ينبغي أن يكون عليه الشعر والمقابلة بين قديمه

وحديثه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 150

الكاتب: محمد أفندي رحيم الطرابلسي

‌اكتشاف

جاءتنا رسالة من صديقنا العالم الفاضل الشيخ محمد أفندي رحيم الطرابلسي

سماها: (اكتشاف مسألة جديدة من الجغرافيا الرياضية، أي علم هيئة الأرض)

يدعي فيها: (أنه لا بد وأن يوجد على وجه الكرة الأرضية نقطة معينة يكون اليوم

في الأماكن التي في جهتها الغربية غير اليوم في الأماكن التي في جهتها الشرقية في

أكثر الدورة اليومية، بل يكون ذلك في المكانين الملاصقين لها من جهتيها دائماً

تقريبًا، وكلما بعدت الأمكنة التي في جهتين من تلك النقطة عن بعضها قل مقدار ما

بينها من الاختلاف، فلو كان في المكان الملاصق لتلك النقطة من جهة الغرب زوال

يوم الإثنين، يكون في المكان الملاصق لها من جهة الشرق مضي لحظة لطيفة من

زوال يوم الأحد، وفي المكان الذي يبعد عنها درجة نحو الشرق مضي أربع دقائق

من زوال يوم الأحد، وفيما يبعد (15ْ) نحو الشرق مضي ساعة من زوال يوم

الأحد وهكذا، وحينما يكون في المكان الذي يبعد عن تلك النقطة (15ْ) نحو

الغرب زوال يوم الإثنين يكون في المكان الملاصق لتلك النقطة من جهة الشرق

مضي ساعة واحدة من زوال يوم الأحد، وفيما يبعد عنها (15ْ) نحو الشرق مضي

ساعتين من زوال يوم الأحد وهكذا) .

ثم بيّن علة وقوع هذا الاختلاف على وجه الأرض والناحية المرجح وجود ذلك

الاختلاف فيها، وأقام على دعواه أدلة أوضحها بأشكال هندسية في غاية الضبط

والإتقان. ومعلوم أن الذين طوّقوا الأرض بالسياحة كانوا عندما يرجعون إلى المكان

الذي ابتدأوا منه سيرهم يظهر لهم اختلاف بيوم عن حسابهم الذي جروا عليه

بالاستصحاب من أول سياحتهم. وقد يتوهم من لم يقرأ الرسالة بإمعان أن هذا عين

ما يدّعيه مؤلفها المكتشف، وليس كذلك، بل هو يدَّعي أن الاختلاف واقع فعلاً بين

موقعين من الأرض معينين بذاتهما، وإن كانا غير معروفين له جزمًا، وأن سكان

هذين الموقعين (إن كان فيها سكان) حاصل عندهما الاختلاف المذكور باعتبار

البعد الذي حرره.

وقد طلب في مقدمة رسالته وخاتمتها من علماء الهيئة أحد شيئين: إما بيان

محل الاختلاف الذي يدعيه إن كان مصيبًا، أو الرد عليه إن كان مخطئا، وقد اطلع

عليه الدكتور روبرت وست أستاذ مرصد المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت وهو

الذي انتهت إليه رئاسة هذا الفن في بلاد سوريا فكتب لمؤلفها كتابًا يقول فيه بعد

رسوم المخاطبة: (اطلعت وفقًا لإشارتكم على رسالتكم الموسومة باكتشاف مسألة

جديدة من الجغرافيا الرياضية، أي علم هيئة الأرض، فلم أجد غب ترجمتها لي ما

يعترض به عليها فإن مبدأها الأساسي وما ذكرتموه من وجود الاختلاف على سطح

الأرض صحيح لا يشك فيه وفقًا للمعروف المقرر من الحقائق الفلكية، وكذلك

الأشكال التوضيحية التي أثبتموها فإنها في غاية الضبط، وفقًا لما أردتم إيضاحه

)

اهـ.

وليس هذا كل ما يريده المصنف، بل هو يريد تعيين محل الاختلاف.

وحيث كان لهذا التعيين فوائد كثيرة من أهمها: اتفاق سكان الأرض كلهم على

تعيين نقطة واحدة مبدأ للطول ومبدأ لنصف النهار، نستلفت أنظار علماء هذا الفن

المدققين للوقوف على تلك الرسالة، وإعطائها حقها من النظر وإجابة طلب مصنفها

الفاضل، إما التعيين والبيان، وإما التخطئة بالبرهان، والرسالة تطلب من إدارة

جريدة المنار في مصر القاهرة، ومن حضرة مؤلفها في طرابلس الشام.

_________

ص: 153

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب

لا تغادر الجرائد اليومية من أخبار الحرب متردمًا، بل تكاد الرسائل البرقية

أن تحيط بجزئيات أخبارها وكلياتها، والجرائد إنما تضع لها الشروح وتضيف إليها

الأبحاث بحسْب مشاربها وأهوائها التي تساعدها عليها أهواء شركتَيْ روتر وهافاس،

إذ الأُولى تتحزب للولايات المتحدة والثانية لأسبانيا، كما يظهر من استقراء رسائلهما

في غير جريدتنا؛ لأننا لا نكاد نذكر ما هو موضوع خلاف من تلك الرسائل، وإننا

ننظر الآن في هذه الحرب من جميع وجوهها، ونلم بشيء من أخبارها فنقول:

الحرب والتمدن:

تلهج الأمم المتمدنة بلفظ السلام عالمها وجاهلها، وحاكمها ومحكومها،

ويخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت من بينهم أوزارها،

وغلب أولياء العقل والفلسفة أولياءها وأنصارها، حتى بلغت منهم هذه الخِلابة أن

قالوا: إن جميع الاستعدادات الحربية برية وبحرية إنما هي لأجل منع الحرب من

العالم، ثم ترقوا في مدارج الاختلاب (الخِلابة والاختلاب: الخديعة بالقول)

فقالوا: (إن الحرب نفسها لأجل السلام) . قال ذلك الرئيس السياسي لأعظم أمة

متمدنة بعيدة عن الطمع بالنسبة لغيرها، وهي الأمة الأميركية، ورئيس آخر من

رؤساء الدين فيها! يفتحرون الكلام (أي يأتون به من عند أنفسهم ولا يطاوعهم

عليه أحد) ، وينفذونه بالقوة لا بالإلزام.

إذا أمكن النزاع بالاستدلال على كذبهم في دعواهم حب السلم، والسعي إليها

بوقوع الحرب فعلاً، فهل يمكن النزاع في الاستدلال على ذلك بحالة مجموع أممهم

في جميع طبقاتها؟ ألم تر أن الجنس اللطيف قد ألف أسرابًا من الغادات الحسان

عرضن أنفسهن للانتطام في سلك الجنود، كما ينتظم اللؤلؤ والمرجان في العقود،

وستسمع ما نهض له النساء في أسبانيا.

أما علمت أن المدارس الجامعة، كمدرسة هرفرد، ومدرسة يال (في أميركا)

وغيرهما قد ترك التلامذة فيها دروس العلم للخوض في معامع الحرب. وأن بعض

تلك المدارس أقر مديروها على أن كل تلميذ من الصف الأخير ينتظم في سلك

الجيش البري أو البحري يعامل معاملة من أتم مدة المدرسة، ويأخذ الشهادة، وأما

سائر التلامذة فيمتحنون امتحانًا خصوصيًّا بعد العود من الحرب للمدرسة، وأن

كثيرًا من شعراء الولايات المتحدة وكتابها قد تطوعوا للخدمة العسكرية ليشاهدوا

بأعينهم آيات الخراب والدمار، وآثار الفتك والانتقام، ثم ينظموها في عقود القصائد

والقصص لتكون مفخرًا لهم إذا انتصروا، ومهيجًا لأمتهم على أخذ الثأر إذا هم

انكسروا، ولقد كان من شأن طلاب العلم الأسبانيين مثل ما كان من أخصامهم

الأميركانيين، فقد جاء في أخبار رومية: إن تلامذة الأسبان الذين يتعلمون فيها

اجتمعوا وأجمعوا على ترك المدارس والذهاب لأسبانيا للانخراط في العسكرية. ألم

تقرأ بأن التطوع للحرب عم جميع الطبقات، حتى إن الإسرائيليين والسوريين قد

تطوع جماعة منهم في الولايات المتحدة.

وجاء في بعض الأنباء أن المتطوعين في الولايات المتحدة بلغوا (700)

ألف رجل، ومنهم كثير من النزلاء، لا سيما الإنكليز، ألم يأتك نبأ الأطباء الذين

عرضوا أنفسهم لخدمة الجيش الأميركي وهم (1200) طبيب.

الحرب والدين:

أهدى إمبراطور ألمانيا وسامًا للفيلسوف سبنسر الشهير، فأبى قبوله قائلاً:

إنني أنا مقاوم للحرب وقائل بوجوب إبطالها، فقبولي الوسام من رئيس حربي من

أعظم قواد الحرب دليل على رضاي منه.

فليت شعري هل الديانة النصرانية ديانة سلم أم ديانة حرب؟ يقول الآخذون

بها: إنها ديانة سلم، لكن هؤلاء المحاربين وأمثالهم مخالفون لهديها، فإذا سلمنا لهم

قولهم تصديقًا لقول القس لوازون الخطيب الشهير: (إن ظِل الديانة قد تقلص من

أوروبا) - وأميركا مثلها - أو ذهابًا مع القول العام: (إن السياسة لا دين لها) ،

فهل يسوّغ لنا أن نقول: إن ذلك الظل قد تقلص، حتى عن قلانس القسوس وقباب

الكنائس والهياكل الدينية، أو إن تلك الهياكل مدارس سياسية ورجالها خطباء

الحروب، ومسهلو الكروب؟ وكيفما كان الحال، فليس في كلامنا إيماء للاعتراض

على الديانة النصرانية، سواء كانت حربية أم سلمية. وإنما هو مسوق لبيان أن

جميع الطبقات في الأمم الإفرنجية تؤيد الحروب، وأن المحاربين لا يرون أنهم

منحرفون بخوض معامع الحرب عن دينهم، بل يرون أنهم يسعون في سبيل الله،

ويبتغون مرضاته.

ذلك أنهم يواصلون البِيَع والكنائس، ويقيمون فيها الصلوات، ويكرون

الدعوات بأن يهبهم الله النصر على الأعداء، ويعقدون التحالف في الهياكل العظمى

على الاستبسال والاستماتة.

وأكثر المظاهرات الدينية في هاته الحرب يقع من أسبانيا ومن أخبارها أن

الأميرال فيلاميل قائد أسطول الحراقات (التوربيد) زار هو وبحارته هيكل

العذراء وخطب فيهم خطبة حماسية. ثم استحلفهم على الاستبسال فركعوا أمام

المذبح وأقسموا أغلظ الأيمان أنهم لا يعودون إلا ظافرين.

ومنها: أن نساء الأشراف أنشأن جمعيات دينية برئاسة رؤساء الدين لإقامة

الصلاة ليلاً ونهارًا، والدعاء إلى الله بنصر أسبانيا.

ومنها: أن أسقف مدريد أصدر منشورًا عن الحرب أمر الكهنة أن يتلوه في

جميع الكنائس التابعة لإبرشيته، وهو يلقي التبعة على الولايات المتحدة.

ولا تحسبنَّ الأميركانيين لم يصبغوا حربهم هذه بصبغة الدين وأنهم لم يقيموا

لها الصلوات، ويرفعوا للاستنصار أكف الدعوات، فمن أخبارهم أنه لما اجتمع

مجلس الأمة لسماع رسالة الرئيس عن الحرب قام أحد القسيسين وصلى صلاة حارة،

طلب فيها من الله أن يشدد قوى الولايات المتحدة وقال: (لتحلّ نعمتك على الآباء

والأمهات الذين طلب منهم أن يقدموا أبناءهم للحرب، وليكن عزاؤهم أن ضحاياهم

إنما هي لخدمة الإنسانية والتمدن، أَرْشِدْ الرئيس ومشيريه بحكمتك ليعززوا قواتنا

في البر والبحر، حتى تنتهي الحرب سريعًا بخدمة العدل والحرية والسلام الدائم)

(تأمل) .

ولما أن جاءت بشرى انتصار الأسطول الأميركاني في منيلا اجتمع مجلس

الشيوخ وجيء بالقسيس، فوقف وصلى صلاة الشكر، وهي: (نشكرك على

الأخبار الحسنة التي وافتنا من البحر، وعلى النصر الذي أوليتنا وكللت به هام

ضباطنا في أسطولنا الآسيوي، ونحمدك لأنك أوقفتنا موقف فخر لم يسبق له مثيل،

وهو موقف أمة تحارب لا طمعًا بأرض ولا مال ولا بقوة ولا انتقام، بل دفاعًا عن

المساكين المحتاجين المظلومين) .

ولا يجهل جناب القس أن أمته حضت نار الفتنة في كوبا، وحضت الثوار

على مواصلة القتال، ومنّتهم بالمساعدة على الاستقلال، ولولا ابتغاء الفتنة لدفعت

بالتي هي أحسن، ولما عمدت إلى شفاء الداء بما هو أدوأ، ولو أن حضرات

القسوس يرون الحرب مأثمًا لتأثّموا من مُثافَنة أهلها، والافتخار والتبجح بتمكنهم من

إزهاق الأرواح، وتقويض معالم العمران، والدعاء لهم بالحصول على هذه

المقاصد، ولكان شأنهم في ذلك شأن الفيلسوف سبنسر الذي لم يقبل الوسام الذي

أهدي له على خدمته للعلم والفلسفة؛ لأنه من رجل حربي. فالأصل أن تكون

الأعمال الاختيارية منبعثة عن التأثرات والاعتقادات القلبية.

والخلاصة: أن الحرب ليست لأجل الدين، لكنها مؤثرة حتى على رجال

الدين [*] .

الحرب والدول:

أجمعت جرائد الممالك على الطعن في سياسة الولايات المتحدة وإظهار

الاستياء منها، ما عدا جرائد إنكلترا، وقد أظهر الكثير من الدول ضلعًا مع أسبانيا،

وإن كن اعتزلن رسميًّا، وقد طلب كثير من فرنسا وغيرها التطوع في الجيش

الأسباني، فحال دون ذلك أن القانون لا يجيزه، وقد بذل الإمبراطور فرنسوا

يوسف خمسمائة ألف فرنك في الإعانة التي تُجمع لتقوية الأسطول الأسباني،

وبلغ مجموع الاكتتاب في سفارة أسبانيا في باريس أربعمائة ألف فرنك، كما جاء في

بريد أوروبا الماضي.

وروي أن البورتغال أرسلت في 23 أبريل الماضي 900 صندوق من المِيرة

والذخيرة من لسبون عاصمتها إلى الأسطول الأسباني الذي كان في سنت فنسنت

(قريبًا منها) ، وأن الهياج في المكسيك شديد، والأهالي يطلبون من الحكومة الاتحاد

مع أسبانيا والانتصار لها فعلاً. وألفوا لجنة برئاسة بعض الوزراء فجمعت 12

مليون فرنك. ويقال: إن اللجنة التي تنقل المال لأسبانيا مأمورة بعقد المحالفة (مع

أن المكسيك أعلنت العزلة رسميًّا) ، وأن الولايات المتحدة عززت حاميتها على

حدود المكسيك.

وروت الطان: أن الجمهوريات الصغيرة في أميركا الجنوبية يميلون لمساعدة

أسبانيا، وإن كانوا لا يودون بقاء سلطتها على كوبا؛ ذلك أنهم يرون أن الولايات

المتحدة تريد الاستيلاء على كوبا؛ لأنها مفتاح خليج المكسيك، والبوغاز الذي

سيصل بين المحيطين (الأتلانتيكي والباسفيكي) ، وذلك مقدمة لاستيلائها على

أميركا الجنوبية كلها.

وقد أظهر الفرنسويون غيرة على أسبانيا أكثر ممن عداهم، حتى صرح

بعضهم بأن فرنسا لو لم تكن جمهورية لساعدت أسبانيا فعلاً. وذكرت جرائد أوروبا

أن حكومة الولايات المتحدة اعترضت على الإمبراطور فرنسوا يوسف، وعلى

البورتغال في مساعدة أسبانيا.

أما الدولة الإنكليزية التي لا تعلم كيف تستفيد من كل حادث عظيم، فقد

أظهرت الميل التامّ للولايات المتحدة، فتوَهّم بعض الناس أن ذلك للموافقة في

المذهب، وزعم قوم أن العلة فيه اتحاد اللغة والحنين إلى الأصل.

والمحنكون في السياسة يعرفون أن المنفعة هي الأصل الذي تبنى عليه جميع

أعمال هذه الدولة، لكنهم اختلفوا في هذه المنفعة، فذهب البعض إلى أنها تطمع في

أخذ جزيرة فيلبين من أميركا؛ لأن استيلاءها عليها مرجح، ويظهر من سياق

الحوادث الأخيرة أن الغرض من هذا الولاء والتقرب هو المحالفة بين الدولتين، فإن

حوادث الشرق الأقصى الأخيرة انكشفت لإنكلترا عن الحاجة لمحالفة دولة قوية، فقد

اشتدت المناظرة لها من الدول الكبرى المتحالفة، حتى تتعذر مقاواتهن ومقاومتهن

مع الوحدة.

ومن الأنباء الواردة في ذلك أن مكاتب التيمس اجتمع بالرئيس مكنلي وتكلما

في حياد الدول ووداد إنكلترا، ثم في إمكان التحالف بينهما، فقال الرئيس: ذلك

أمر طبيعيّ، ولكن الساعة لم تأتِ للإقرار على شيء نهائي بهذا الشأن.

(راجع الرسائل البرقية) .

الحرب والمتحاربون:

تشترك الأمتان المتحاربتان بالتهيج وإظهار الحميّة الوطنية، أو الجاهلية،وإن الأسبانيين أرسخ عرقًا في ذلك من الأميركانيين، وأكثر صخبًا وشغبًا، بل

أربى غلواء وهم في الطيش على ما كان من حمقى اليونان، حتى حاولوا الفتك بسفير

الولايات المتحدة عندما بلغ مدينة فلادولين مسافرًا من مدريد. ولما صدتهم الشرطة

(البوليس) عن الدمور (الدخول بغير إذن) في مركبة القطار الحديدي طفقوا

يقذفونها بالأحجار، حتى كسروا زجاج النوافذ، فأصابت شظية مكاتب جريدة

باريسية. ولا تسل عما يأتونه في مدريد ليلاً ونهارًا.

بلغ عدد الشاغبين في إحدى الليالي (6000) آلاف طافوا معاهد العاصمة،

وألمّوا بالسفارة الفرنسوية وبدار الوزير سغستا، وأحرقوا هناك الراية الأميركية

بصراخ وهتاف، ثم ساروا إلى المراسح وخطبوا الخطب الحماسية.

ويمتاز الأميركيون بأن الثوار في كوبا وفيلبين لهم ضلع معهم فهم عون لهم

على أسبانيا، كما هو شأن ثوار كريد مع اليونان، وأن داخليتهم في مأمن من الفتن

والشغب على الحكومة والقحط، والأسبانيون بخلاف ذلك. قال الوزير سغستا في

خطبته: (يسوءني أن الأسبانيين ليسوا متّحدين كلهم في الأحوال الحاضرة) . وقال

ناظر داخلية أسبانيا: أعلنت الأحكام العرفية في مدريد لأن البعض حاولوا اتخاذ

مصائب البلاد وسيلة لإثارة الأحزاب السياسية ولم يقفوا لجهلهم عند حد لوم الحكومة

على تقصيرها في الاستعداد للحرب، بل يتحدثون بقلبها واستبدال الجمهورية بها.

واندلعت نيران الشغب إلى سائر البلاد الأسبانية، فقد اعتصب العمال في مرشيا،

وساعدهم الغوغاء فقطعوا أسلاك التلغراف وأضرموا النار في المحاكم، فأحرقت

الدفاتر والأوراق، وأطلقوا سراح المسجونين، وقطعوا السكة الحديد، ونهبوا محلاً

فيه ديناميت، وفرقوا ما فيه على أنفسهم. وزد على ذلك أن أميركا تنفق من

خزائنها، وأسبانيا تجمع الإعانة من بلادها وبلاد أوروبا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لم يرد: أثَّر عليه: فيما عُلم، وقد سرى إليَّ هذا الاستعمال من الجرائد المصرية.

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إحصاء الحجاج سنة 1315 [*]

بلغ عدد الحجاج الذين مروا من قنال السويس جائين من طريق بورسعيد أو

الإسكندرية 8352 عثمانيًا و 1113 إيرانيًّا، والذين جاءوا عن طريق البصرة إلى

السويس ومروا من القنال 190، والذين لم يمروا منه 153.

وبلغ عدد الحجاج من بوسنة وهرسك 86، ومن مغاربة الجزائر 27،

(وذلك لأن فرنسا أحصرت مسلمي بلادها منذ خمس سنوات) ، ومن مغاربة الدولة

العلية 141، وبلغ عدد الروسيين الذين جاءوا عن طريق الإسكندرية 209، وبلغ

عدد المصريين 4541، سافر زيادة عن ثلثيهم في وابورات الشركة المخصوصة

العثمانية، والباقي في وابورات البوسطة الخديوية والوابورات النمساوية. وزد على

ذلك 240 حاجًا من المغاربة والدكارنة والسودان سافروا في وابورات الشركة

العثمانية مجانًا؛ لأنهم فقراء. ذكر المؤيد هذا الإحصاء بزيادة تفصيل، وقال: إنه

أضبط إحصاء حصل للحجاج.

بلغ عدد الحجاج الذين غادروا مِنًى بعد التضحية مائتي ألف نفس (السلام) .

_________

(*) من أخبار العدد التاسع بغير عنوان.

ص: 163

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منار عجيب

قد أقام الأميركيون منارًا عجيب التركيب لمراقبة حركات الأعداء بحرًا في

مكان يقال له ساندي هوك يصيّر الليل نهارًا، ويقصد بهذا المنار مشاهدة حركات

الأعداء الحربية فيما لو تسنّى لها تعطيل كل أو بعض نساف الاستحكامات، ففي

ظروف كهذه يعرّض سفن الأعداء ومراكبهم لنار مدفعية حامية السواحل التي بسببها

يجبرون على التقهقر والخيبة. واخترعوا أن يعطوا إشارة بالمشاعيل من حصن

لآخر (ما هو معروف عند العرب بنار الأسد، أو نار الحرب) . ولم يقصد بالمنار

أولاً مراقبة حركات الأعداء، بل استعمل لنقل الرسائل بالإشارة لإبلاغ المرصد

الفلكي النيويوركي من ذروة صرح في ساندي هوك، وقد تمكن بعضهم من قراءة

كتاب على مسافة ثمانية أميال منه، وقوة نور المنار هي عبارة عن

(194000000)

شمعة، وبواسطة الكهربائية يمكن إخراج نور يغني عن مائتي

مليون شمعة.

فسُرَّ رجال الحرب من هذا الاختراع الذي هو من أكبر الوسائط في مراقبة

حركات الأعداء ليلاً. فسبحان مَن علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم.

...

...

...

...

كوكب أميركا

_________

ص: 163

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنيس التلميذ [*]

جريدة أسبوعية علمية فكاهية أدبية لمديرها ومحررها حضرة الكاتب موسى

أفندي بنروبي، انتهجت أسهل منهج في الإفادة وهو إيراد المسائل العلمية في ضمن

القصص الواقعية. وهذه الطريقة أول من اختطها فقهاء الإسلام في الصدر الأول،

حيث كانوا يوردون الأحكام في ضمن الواقعات. فنحث التلامذة ومحبي الفنون على

الإقبال عليها، وعسى أن تتوجه عناية حضرة محررها لتصحيح عبارتها إتمامًا للفائدة.

***

أخبار سوريا

تطوع خمسون رجلاً من السوريين في جيش الولايات المتحدة.

_________

(*)(اهـ من العدد التاسع الذي صدر في 26 ذي الحجة 1351) .

ص: 164

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاعتبار بما هو جار

الحرب والتهذيب:

يقولون: إن القوة بالرجال، والرجال بالمال، فأية دولة كثر مالها مُكّن لها في

الأرض، وأمكنها أن تنال منها ما تشاء ما لم تعارضها دولة أخرى تساويها أو تربي

عليها في كثرة المال، الذي هو مناط جميع الأعمال. ويقولون: إن المال لا ينمو

إلا في بلاد أظلها العدل، فحجب عنها هجير الجور الذي يحرق المال، ويجتاح

ثمار المكاسب، ويمني بالشرور والمصائب، وهؤلاء إذا رأوا في بلاد فقرًا مدقِعًا،

أو ضعفًا مُطْمِعًا، نَحَوْا على حكامها باللوم والتعنيف، والعذل والتأنيب، بل ربما

لجأوا للشتم والسباب، وسعوا بالهدم والانقلاب، وذلك شأن الأمة الأسبانية اليوم

يسعى بعض الأحزاب فيها إلى ثل عرش الملك، واستبدال الجمهورية بالملكية،

والذي نراه نحن كما يراه أكثر العقلاء هو أن لوم الحكومات وعذلها لا يكاد يفيد

شيئًا، وأن العدل في الحاكم والثروة في الأمة، وجميع أسباب القوة من حسية

ومعنوية ترجع إلى التربية والتهذيب، وانتشار العلوم والفنون في جميع طبقات

الأمة، وبين جميع أفرادها من ذكرانها وإناثها. واعتَبِرْ ذلك في حال الأمتين

المتحاربتين لهذه الأيام يظهر لك جليًّا واضحًا.

قد سمعت صدى الأحزاب السياسية في أسبانيا، وكيف اتخذوا مصائب البلاد

ذريعة إلى قلب هيئة الحكومة. وعندك نبأ من الثورات الداخلية التي أدت إلى إعلان

الأحكام العرفية في تلك البلاد. أما أهل الولايات المتحدة، فقد كانت الحرب وسيلة

إلى جمع كلمتهم، واتفاق وجهتهم، فصافح شرقيهم غربيهم، وصافى شماليهم

جنوبيهم، بعمد حقد وعداء، ومناهضة ومناصبة، استلّتْ الحرب سخائمهم،

ونزعت ما في صدورهم من غل وجعلتهم إخوانًا متقابلين، كأنهم في جنات النعيم.

علمت من قبل أن نساء الأشراف في أسبانيا أنشأن جمعيات دينية، لأجل

استمداد القوى الروحية، والاستنصار بالأسباب الغيبية أما الأميركيات فقد اتفق

بعض جمعياتهن على عدم ابتياع شيء من بضائع الأمة الفرنسوية؛ لأنها

أظهرت الميل عن الولايات المتحدة إلى أسبانيا. فقل لي بعيشك كيف تكون

تربية أمثال هؤلاء النساء لأبنائهن، وبأية درجة يكون حبهم لوطنهم؟ بل كيف

تكون حالة أبناء أولئك اللواتي رغبن الانتظام في سلك الجيش من حب الفنون

العسكرية والاستماتة في المدافعة عن الوطن العزيز؟

لا جرم أن شأن أبنائهن يكون كشأن أزواجهن الذين يبذلون النفس والنفيس في

المدافعة عن بلادهم، بل يكون أعلى وأرقى؛ لأن الترقي سُنَّة من سنن الله في

خلقه، سار فيها أولئك القوم فنهضوا وارتقوا، وصاروا هم الأعلون، وتنكبها الذين

أرشدهم إليها الكتاب السماوي، بل عَمُوا عنها فأنكروها وزعموا أن الإنسان دائمًا في

تدلٍّ وهبوط، وأن كل يوم شر مما بعده، فهبط بهم اعتقادهم هذا حتى صاروا

يعدّون الفنون الحربية والأعمال العسكرية من المصائب، وبذل المال للمدافعة عن

الوطن من المغارم.

تبصرْ حال النساء في هذا القطر وكثير من الأقطار عندما تؤخذ أبناؤهن

للخدمة العسكرية! يعقدن المآتم ويأخذن المآلي (جمع مِئلاة وهو مِنديل النائحة) ،

ويواصلن النواح، ويرددن النشيج، كما يفعلن لو اخترمته المنية من غير فرق.

فإذا كان الفرق بين الأميركيات والأسبانيات عظيمًا، فإن الفرق بين هؤلاء وبين

المصريات والسوريات أعظم. نعم إن نساء سوريا اليوم آنس بالعسكرية منهن منذ

بضع عشرة سنة، وإن نساء مصر أشد منهن في ذلك ابتآسًا وأبعد استئناسًا.

لاحظ ناظر بحرية أسبانيا السنيور (موري) أن العمل على قلب هيئة

الحكومة لا يزيد الأمر إلا فسادًا، وأن الفائدة منحصرة في التهذيب، ولقد احتج بهذا

على الحزب الجمهوري المتطرف عندما فَوَّقَ على الحكومة سهام الملام، فكان سهم

حجته أفلج. وإنني مورد قوله الذي صفقت له الأحزاب، وهتفت له جموع النواب،

وهو: (إذا كنتم لا تصلحون الرجال ولا تحسنون التهذيب الاجتماعي والسياسي

فماذا يفيد تغيير الحكومات، فإن ثورة أخرى وعاملاً آخر من عوامل الضعف كافيان

لاضمحلال جسم أمتنا الضعيف وسقوط جدارها المتداعي، ولا حاجة للحكومة في

زمن الحرب إلا إلى أمر واحد، وهو إرشاد مجلس حكومتها إلى طرق السداد، وإلا

فلا نفع منه للبلاد) .

صدق الوزير، ولقد رمى عن قوس الحكمة فأصاب كبد الحقيقة، ولو أن كل

النواب ورؤساء الأحزاب مثله لما حدثت تلك المشاغب السياسية التي جاءت فوق

الحرب والقحط ضِغثًا على إبالة.

التطوع والتبرع في الحرب:

إن تطوع الإنسان بنفسه وتبرعه بماله في سبيل الأمة والوطن هما أفضل

الفضائل عند الأمم الغربية المتمدنة، ولذلك ترى التطوع والتبرع في الولايات

المتحدة وأسبانيا يزدادان يومًا فيومًا على نسبة المدنية في الأمتين. يستوي في ذلك

النساء والرجال، والأغنياء والفقراء استواءهما في الوطنية. ومن أخبار الأميركيين

في التطوع أن المتطوعين مائة ألف أو يزيدون استولى قيادتهم ثلاثة من أمراء

العسكرية منهم المستر تيودور روزفلت معاون ناظر البحرية سابقًا أو نائب ناظر

الحربية (خلاف) .

وروي أن هذا لما تطوع جعل قائد آلاي من الفرسان، ولما علم بتطوعه

أصحابه والعارفون به نفر كثير منهم للتطوع خفافاً وثقالاً، ومنهم كثير من الشرطة

(البوليس) الذين كان رئيساً عليهم، وكثير من رعاة البقر في الولايات الغربية

التي كان فيها، وقد صار الكل تحت لوائه سواء، لا فرق بين الأمراء، ورعاء

البقر والشاء، (هكذا تكون الوطنية وهكذا يكون التهذيب) .

ذكرنا في العدد الماضي أن كثيرًا من أبناء المدارس الكلية في أميركا، قد

تطوعوا، وقد جاء في بعض الجرائد أن أولاد الأغنياء من أولئك التلامذة المنغمسين

في الترف والتنعم يأتون في البوارج المِهَنَ المهينة، والأعمال المتعبة، كحمل الفحم

على كواهلهم، وإيقاد النار، وتعهد آلات البوارج التي تطوعوا فيها، (فليعتبر

أغنياء بلادنا الذين يتفادون من الخدمة العسكرية بالاحتيال، وإن لم تَفْدِهم الحيل

الكاذبة فبالمال) ، ومن أخبارهم في التبرع أن المستر أستور تبرع بتجهيز فرقة

(أورطة) من المدفعية بعشرة آلاف جنيه، وبنقل الجنود ومِيرتهم وذخائرهم على

سككه الحديدية، وأنه عرض يخْته على نظارة البحرية، وبالختام تبرع بنفسه وبذلها

للجهاد في سبيل الوطن. وقد تبرعت الفتاة العذراء هيلانة بنت غولد المُثري بمائة

ألف ريال، وروي أن الحكومة لم تقبل ذلك منها فجهزت به فرقة من الفرسان

لتنضم إلى الثائرين في كوبا. هذا بعض من حال تلك البلاد وحال حكومتها في

الثروة، ولذلك يقول العارفون بالسياسة: إن التقاء الأسطولين (الأميركي

والأسباني) المنتظر لا يكون خاتمة الحرب إلا إذا كانت الغلبة فيه للأميركيين؛ لأن

هؤلاء إذا غلبوا فإن لديهم من المال ما يقتدرون به على استئناف القتال، فإذا فرغت

خزائن الحكومة فإن خزائن الأمة لا تفرغ، وقد جاء في بعض الجرائد الأميركية:

أن أعضاء إدارة الرسومات تداولوا في تخصيص ستمائة مليون ريال للحرب، فأين

الأسبانيون من هذه المبالغ. إن وطنية هؤلاء لا تنكر، ولكنهم مُقِلّون في الأكثر؛

ولذلك لم يرو عنهم من التبرع ما يستحق الذكر إلا ما كان من الأسبانيين الذين في

جمهورية الأرجنتين بأميركا الجنوبية، فقد نقل أنهم أرسلوا للحكومة مليوني فرنك،

مليونًا في أول الحرب ومليونًا في أثنائها.

فعسى أن يتنبه الشرقيون مما يساق إليهم من أخبار الأمم إلى الفضائل الحقيقية،

ويميزوا بين الإسراف والتبذير، وبين الكرم والسخاء، فقد تلاشى الكرم الشرقي من

بلاد الشرق أو كاد. وليس من الكرم ما يأتيه محبو المحمدة الباطلة والمجد الكاذب

من إنفاق الألوف من الدراهم والدنانير في عرس ونحوه، بل ذلك من السفه الذي

يتبرأ من صاحبه الدين والفضيلة، ويمقته العقلاء والفضلاء، وإنما يظهر الكرم في

مثل إعانة التأسيسات العسكرية وإعانة جرحى حرب السودان التي تجمع في هذه

الأوقات، وفي نحو ذلك من الوجوه التي تعود بالخير على الوطن وأهله، كإنشاء

المكاتب والمدارس. ومن الأسف أن نرى أغنياء بلادنا لا يلتفتون إلى الأعمال التي

تفيد البلاد إلا قليلاً منهم، وفي قليل من الأعمال، بل يكلون ذلك كله للحكومة، ثم

ينسبونها للتقصير وهم يعلمون أن جميع وارداتها لا تكاد تفي بحاجة الأمة من ذلك.

فكم أنفق مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى من جيبه الخاص على المعارف

فوق ما تنفقه الحكومة، وكم للحكومة الخديوية من العناية في ذلك لا سيما في

عصر العباس حفظه الله تعالى. ولكن لا يقوم بحاجة البلاد إلا أغنياء البلاد، فنسأل

الله أن يوفقهم لعقد الجمعيات المالية، لمثل هذه الأعمال الخيرية، إن ربي سميع

مجيب.

_________

ص: 165

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعر والشعراء

(2)

وعَدْنا في العدد السابق أن نبين في هذا العدد ما ينبغي أن يكون عليه الشعر،

والمقابلة بين قديمه وحديثه، وإنجازاً للموعد نذكر المادة التي تبنى منها بيوت الشعر

بوجه عام، ثم نقابل بين بناء المتقدمين والمتأخرين بالنسبة للشعر العربي فنقول:

مادة الشعر وبناؤه:

قلنا: إن الشعر ضرب من ضروب الكلام، ووظيفة الكلام تمثيل المعلومات

بصورة محسوسة، إما بحاسة السمع إذا كان الممثل لها اللسان، وإما بحاسة البصر

إذا كان المصور لها القلم (فإن المكتوب يسمى كلامًا) ، وإنما يكون المرء شاعرًا

إذا كان يجول بكلامه المنظوم في جميع المعلومات التي تأتي من الحس الظاهر، من

مسموع ومرئي ومشموم ومذوق وملموس، أو من الحس الباطن وهي: الوجدانيات،

كالشعور باللذة والألم مهما كان مثارهما، أو من العقل، كالمسائل التي ينتزعها

الفكر من المعلومات الحسية ويبني عليها أحكامًا لا تبنى على مقدماتها. نعم، إن من

المعلومات ما لا يتعلق به غرض الشعر، كاصطلاحات الفنون الوضعية المحضة،

التي لا تشرح شيئًا من الحقائق الكونية، ولا تحكي عن العوارض الطبيعية،

كمصطلحات النحو والبيان وسائر فنون اللغة، وإن كان المتأخرون من الشعراء

المستعربين تناولوا بعضًا من ذلك وأودعوه أشعارهم، وهو ما يسمونه بالتوجيه.

وأَمسّ المعلومات بالشعر وأعلقها به يدًا: قوى النفس وأخلاقها وملكاتها

وعواطفها وانفعالاتها، من الحب والشوق والكراهة، والبغض والسرور والحزن،

والخوف والجبن والشجاعة، والعفة والحياء والخجل والحلم والوقاحة والجهل، إلى

غير ذلك، ثم نواميس طبيعة العوالم الأخرى (أي غير الإنسان) علوية سفلية.

أما المادة اللفظية فهي العلم بحقيقة اللغة ومجازها وكنايتها وتصريحها.

والوقوف على مناهج التركيب والتأليف، وطرق الترتيب والترصيف، ومَناحِي

الانتقال، مع التناسق في الأقوال، من كمل له كل هذا وكان ذا قريحة صحيحة

وسليقة قويمة ملك زمام الشعر (كما ملك زمام النثر أيضًا) ، وسَلِسَتْ له صعابه،

وانقادت له جوامحه، وتمكن من الجري في كل مجال، والانطلاق في كل فج،

وكلما ارتاض بالسير قويت شرة جياده، ولم تخرج عن مراده، حتى يشرف على غايات هذه الصناعة.

علم مما قررنا أن الشعر في مادته اللفظية والمعنوية يتبع العلم، فمن كانت

مادته في العلوم وفي اللغة أغزر، كانت قدرته على التصرف في ضروب الشعر

أكبر، أما الوزن فهو مما اهتدت إليه الأمم بالفطرة، وتنوع بالترقي، كما هو الشأن

في غيره، ويوجد منه عند أمة ما لا يوجد عند أخرى، وربما اتفقت أمتان أو أكثر

في بعض الأوزان. ونحن نرى في أشعار عامة المستعربين أوزانًا لا تدخل في

أوزان العرب المعروفة. ومن أراد الشعر العربي، فلابد له من معرفة أوزانه

وأحسن طابع يرسم في نفسه تلك الأوزان: كثرة قراءة الشعر المنظوم في أسلاكها،

وقد وضع لها أدباء الأمة فنًا مخصوصًا (هو العروض والقوافي) ، والنظر فيه

مزيد كمال في ذلك.

ما شرحناه في مادة الشعر وبنائه يكفي في بيان ما ينبغي أن يكون عليه الشعر

إذا لوحظ معه ما وصفناه به من قبل، وقد آن لنا أن نقابل بين قديمه وحديثه بالنسبة

إلى الشعر العربي فنقول:

طبقات الشعراء أربع:

جاهليون: وهم الذين لم يدركوا الإسلام كامرئ القيس وعنترة وطرفة.

ومخضرمون: وهم الذين أدركوا الإسلام وأسلموا كحسان وكعب ولبيد

(رضي الله تعالى عنهم) .

ومولدون: وهم الذين تولدوا من العرب في الإسلام ونشأوا بينهم كعمر بن

أبي ربيعة وذي الرمة وجرير.

ومحدثون: وهم الذين نشأوا بعد فساد اللغة فتعلموها من الفنون المدونة في

الكتب والدفاتر كالبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار وهلُمّ جرًّا إلى هذا

العصر.

أما النظر في أساليب هذه الطبقات ودرجاتها في البلاغة فقد كان الأوائل من

الإسلاميين أطول في ذلك باعًا، وأرسخ قدمًا، وقد كان في القرون المتوسطة من

ناهز المقدمين لكنهم أفراد قلائل، يعدون على الأنامل، وفي المتأخرين المجيد

بالنسبة لأهل عصره، ولم يدرك أحد منهم للسالفين شأوًا، أو يشق لهم غباراً، وأما

النظر في تصرف الطبقات في المعاني، والجَوَلان في ميادين المعلومات، فقد كان

الجاهليون ينظمون جميع ما يعلمون من أحوال الخليقة، يتناولون بأشعارهم السماء

وكواكبها، والجو وأرواحه، والأرض وما عليها من معدن ونبات وحيوان،

والإنسان وسائر شؤونه الحيوية والاجتماعية، ويضربون في فجاج التصورات،

ويطيرون في جو الخيالات، فلا يغادرون مدركًا من المدركات حقيقيًّا كان أو وهميًا

إلا نظموا دره في أسلاكهم، ووضعوا حجره ومدره في بناء أبياتهم، وإنا موردون

ههنا مثالين من أشعارهم؛ أحدهما في حال من الأحوال الاجتماعية، وثانيهما في

وصف مجلي من المجالي الطبيعية.

المثال الأول:

كان لقيط بن يعمر الإيادي كاتبًا في ديوان كسرى، فعزم كسرى يومًا على

غزو إياد، فلما رآه لقيط مجمعًا على غزو قومه كتب إليهم قصيدة ينذرهم فيها

بطشته، ويرشدهم السبيل القصد في مُدافعته، ولقد وقعت القصيدة في يد كسرى،

فقطع لسان لقيط وغزا إيادا (الذي غزا إيادا من الأكاسرة هو سابور ذو الأكتاف،

وكل من ملك الفرس كان يلقب بكسرى كما هو مشهور) ، ومما جاء في تلك

القصيدة قوله بعد أبيات:

بل أيها الراكب المزجي مطيته

إلى الجزيرة مرتادًا ومنتجعا

أبلغ إيادًا وخلل في سراتهم [1]

أني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا

يا لهف نفسي إن كانت أموركم

شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا

إني أراكم وأرضًا تعجبون بها

مثل السفينة تغشى الوعث والطبَعا [2]

ألا تخافون قومًا لا أبا لكم

أمسوا إليكم كأمثال الدَّبى سرعا [3]

أبناء قوم تأووكم على حنق [4]

لا يشعرون أضر الله أم نفعا

أحرار فارس أبناء الملوك لهم

من الجموع جموع تزدهي القلعا [5]

فهم سراع إليكم بين ملتقط

شوكا وآخر يجني الصاب والسلَعا [6]

لو أن جمعهم راموا بهدته

شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا [7]

في كل يوم يسنون الحراب لكم

لا يهجعون إذا ما غافل هجعا

ثم وصف من يقظة العدو وأنهم لا يشغلهم عن الاستعداد للحرب ما يشغل قومه

من الحرث واستدرار اللقاح والانهماك في موارد العيش، وقال:

وتلبسون ثياب الأمن ضاحية

لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا

وقد أظلكم من شطر ثغركم

هول له ظلم تغشاكم قطعا

ما لي أراكم نيامًا في بُلَهْنِيَةٍ [8]

وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا

فاشفوا غليلي برأي منكم حصد [9]

يصبح فؤادي له ريان قد نقعا

ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعًا

إذا يقال له أفرج غمة كنعا [10]

ثم أوصاهم بالاستعداد للحرب في أنفسهم وفي سلاحهم وجيادهم، وحذرهم من

الاشتغال عن ذلك بتثمير مال يؤول للعدو إذا تغلب عليهم، ثم قال:

يا قوم إن لكم من إرث أولكم

مجدًا قد أشفقت أن يفنى وينقطعا

ماذا يردّ عليكم عز أولكم

إن ضاع آخره أو ذل واتضعا

يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا

على نسائكم كسرى وما جمعا

يا قوم بيضتكم لا تُفجعن بها

إني أخاف عليها الأزلم الجذَعا [11]

هو الجلاء الذي يجتث أصلكم [12]

فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا

قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم

ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا

ثم وصف قائد الحرب وما يعتبر فيه من الصفات فقال:

وقلدوا أمركم لله دركم

رحب الذرع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده

ولا إذا عضّ مكروه به خشعا

لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه [13]

همّ يكاد سناه يقصم الضلعا

مسهد النوم تعنيه أموركم

يروم منها إلى الأعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبعًا طورًا ومتبعا

حتى استمرت على شزر مريرته [14]

مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرِعا

وليس يشغله مال يثمره

عنكم ولا ولد يبغي له الرِّفعا

ثم ختم شعره بقوله:

لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل

فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا

هذا كتابي إليكم والنذير لكم

لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا

المثال الثاني:

قال عبيد بن الأبرص يصف عارضًا فيه برق وينتهي بمطر:

يا من لبرق أبيت الليل أرقبه

في عارض كبياض الصبح لماح

دانٍ مسفٌّ فويق الأرض هيدبه [15]

يكاد يدفعه من قام بالراح

فمن بنجوته كمن بمحفله

والمستكن كمن يمشي بقرواح [16]

كأن ريقه لما غلا شطبا [17]

[18] أقراب أبلق ينفي الخيل رماح

فالتجّ أعلاه ثم ارتجّ أسفله [19]

وضاق ذرعًا بحمل الماء مُنصاح [20]

كأنما بين أعلاه وأسفله

رَيْط [21] منشرة أو ضوء مصباح

كأن فيه عشارًا جُلة شُرُفا [22]

شعثًا لهاميم قد همت بإرشاح

بُحّا حناجرها هُدْلاً مشافرها

تسيم أولادها في قرقر ضاح [23]

هبت جنوب بأولاه ومال به

أعجاز مزن يسح الماء دلاح [24]

فأصبح الروض والقيعان ممرعة

من بين مرتفق فيه ومنطاح [25]

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

خلل: خصص، وسراتهم: سادتهم.

(2)

الوعث: أرض رطبة مسترخية تغوص فيها الأقدام، والطبع: النهر، ومن معانيه الدنس والصدأ.

(3)

الدَّبى: الجراد قبل أن يطير والنمل.

(4)

أوى المكان وتآواه: نزله بنفسه نهارًا أو ليلاً أو سكنه ومال إليه.

(5)

تزدهي: تستفز وتستخف، والقلع: كف الراعي، والدم: كالعلق وجمع قلعة للحصن فوق الجبل (ولعله المراد) .

(6)

الصاب والسلع: شجران مران، كني بهما عن أسباب الحتوف كالسلاح.

(7)

الشماريخ والشناخيب رءوس الجبال، وثهلان: جبل.

(8)

بُلَهْيِنَة العيش: رخاؤه وسعته.

(9)

حَصِد (ككتف) : محكم الفتل شبهه بالحبل القوي.

(10)

كنع إليه: خضع، وعن الأمر هرب وجبن، واكتنع الليل حضر ودنا، والقوم: اجتمعوا.

(11)

الأزلم الجَذَع: الدهر الشديد الكثير البلايا ومعناه: الحدث الذي لا يهرم، وأصل الأزلم من الإبل والشاء: المقطوع طرف الأذن، يفعلون ذلك بكرام المال، والجَذَع من الإبل: ما استكمل خمسًا ومن الشاة ما نمت له سنة.

(12)

يجتث: يقتلع.

(13)

الريث: الإبطاء ومقدار المهلة من الزمن.

(14)

يقال: استمرّت مريرته ومريره عليه: أي استحكم عليه وقويت شكيمته، والمريرة: طاقة الحبل الشديد الفتل، والشزر الفتل عن اليسار والقحم: الهرم، والضرع: الرجل الضعيف.

(15)

مُسفّ: شديد الدنو من الأرض، وهيدبه: ما تدلى منه.

(16)

النجوة: ما ارتفع من الأرض، والمحفل: مجتمع الماء ومجتمع القوم والمراد الأول، والقرواح: الأرض المختصة للزرع والغرس، يقول: إنه عام يستوي فيه المقيم في كنه ومن برز إلى الأرض المستوية التي لا كنّ فيها ومن في النجوة والمحفل.

(17)

ريق الشيء: أوله وأفضله، وغلا: زاد وارتفع، وشطب: مأخوذ من شطب السيف وهي خطوط وطرائق تلمع في متنه من شدة صفاء فرنده.

(18)

الأقراب: جمع قرب، وهو الخاصرة أو من الشاكلة إلى مراق البطن، والأبلق ما فيه سواد وبياض، والمحجل إلى الفخذين، وينفي الخيل يطردها، ورماح رفاس شبه هيئة العارض الأسود يلمع منه البرق متتابعًا بأقراب الفرس السود يتحرك بجانبها قوائمه البيض بالتتابع لكثرة الرفس.

(19)

التجَّ: صَوَّتَ، ويروى فثج: أي سال، وارتج: اضطرب.

(20)

منصاح: منشق بالماء أو بالبرق.

(21)

جمع ريطة، وهي الملاءة تكون قطعة واحدة من النسيج.

(22)

العشار: اسم للنوق ينتج بعضها وينتظر نتاج البعض الآخر ولما مضى لحملها عشرة أشهر،والجلة والشرف: النوق المسنة، واللهاميم: جمع لهموم، وهي الغزيرة اللبن، والأرشاح: الرشح، وأرشحت الناقة: اشتد فصيلها وقوي على المشي معها.

(23)

الهدل: المسترخية، وتسيم: ترعى، والقرقر: الأرض المطمئنة اللينة، والضاحي: البارز، والعرب تشبه السحب بالنوق، قال ابن دريد في المقصورة:

لم تر كالمزن سوامًا بهلا

...

تحسبها مرعية وهي سدى.

(24)

صفة لمزن، والدلاح: الكثير الماء، ومثله الدلوح، والدلح: المشي بتثاقل، والسحاب: الممتلئ بالماء يتخزل في سيره تخزلاً: أي يسير بطيئًا.

(25)

المرتفق فيه: المحبوس ليرتفق به، وارتفق الإناء: امتلأ، والمنطاح: السائل لم يكن له ما يمسكه.

ص: 170

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تونس

اطلعنا في جريدة الحاضرة الغراء على الخطاب الذي ألقاه الوزير المقيم العام

(الفرنسوي) لأعضاء الجمعية الشوروية الفرنسوية في مأدبة أدبها لهم في (دار

السفارة) ، وقد وصفته الحاضرة بأنه موضح للمحجة التي سلكتها إدارة الحماية في

ذلك القطر، ويصح أن يكون معياراً لهم في الظروف الحالية.

فرأينا أن نثبت في جريدتنا عيونه، ليقف عليها من لم يعرف سير الفرنسويين

في ذلك القطر فنقول:

بدأ جناب الوزير كلامه بعبارات الابتهاج بخصب القطر التونسي في هذا العام

إثر جدب سابق، ثم قال: (وقد لحق العطب بالتجارة لغضاضة مغرسها، وقلة

الرميات (كذا) ، ولذلك يتأكد علينا أن نعلق الأمل على تنقيح قانون 1890

الكمركي لإحداث صناعات، وجلب الأموال وتحرير مصالحنا التجارية من قيود

المعامل العمومية (الأجنبية) التي نستمد منها المصنوعات. ولقد قاومتم بشهامة

تيار الرياح المضادة، وأقمتم برهانًا جديدًا على حياة الأمة الفرنسوية بالإيالة

التونسية) .

ثم ذكر من مودته لهم: وإن على فرنسا أن تفتخر بهم، وبين العلة بقوله:

ذلك أنكم جبلتم على سداد الأفكار، ولم تنقادوا لتلك الأميال الناشئة عن عدم التبصر

التي تحير وجه قطرنا بدون أن تبلغ طبقاته العميقة (ما هي تلك الأميال والطبقات

العميقة يا ترى) ، ولقد لازمتم الرزانة أثناء انبثاق البغضاء بين الأجناس، وهو

أثر من آثار السلف السابق، والقرون الحالية، دفعته ريح عاصفة من أصقاع فرنسا

والجزائر (تأمل) ، ولما ظهرت بأقسام الحاضرة التونسية الأهلية شائبة

الاضطراب أمكن بتمام سداد آرائكم إخماد تلك الشرارة في يومين، ولولا ذلك بأن

نفختم في رمادها لتسعرت نيرانها (وهل ذلك من شأن أمثالهم؟ نعم إذا اقتضه

السياسة) ، فأشكركم على مؤازرتكم للحكومة، وإعانتكم لها على إبلاغها مقصودها.

(ومن علامات السعادة في هذا القطر: خلوه من المحترفين بالسياسة، وهم

أناس انحصرت أسباب تعيشهم في السياسة، وإن شئت قلت: في الصخب والجلبة

والنفير (كذا) ، والعبارات الخالية من المعاني، والرشوة في الانتخاب، فالناس

كلهم في هذه الديار منكبّون على الشغل، فأعضاء الجمعية الشوروية مثلاً كل منهم

له حرفة وصناعة، وكل منهم يتكلم بخصوص مصالح مهمة أتقن معرفتها ودرس

أسرارها (هكذا فليكن) ، وهو ما يستحيل تصوره في جهة أخرى، نفق فيها سوق

السياسة) .

ثم فضل الخطيب الفرنسويين في إيالة تونس على أمثالهم في نفس فرنسا،

ودفع ما يرمون به من قلة السعي والحزم بأنهم أسسوا مدينة حادثة بجميع فروعها

في أقطار مهملة، ومن قلة الشركات بأن الشركات ملأت الطبقات، ثم ذكر أن

القطر التونسي قامت فيه الإدارة بأعمال جسيمة بقليل من الموظفين الفرنسويين،

وبأن الحكومة والنزلاء على وفاق إذا تنازعا، فبمجرد الفراغ من المناقشة يتصافح

المنافسون، يردّ بذلك على من يقول إن الفرنسوي ميال للوظائف لأجل الراحة وإن

عادة الفرنسويين مُنَاصَبة الحاكم للمحكوم. ثم قال:

(وأحثكم في ختم هذه البدع الجليلة (كذا) على نبذ التحزب الفاشل (لعله

يريد الموقع في الفشل) بمعنى ترك التعصب الأعمى على بقية الأجناس، والمِلل

المتمدنة (تأمل) ، فإن طلبتم منا الثبات والحزم فاطلبوا منا أيضاً الإنصاف مع

أبناء البلاد، ولا تصمموا عن فرط تسرع، كدار لا يدوم إلا كما يدوم السحاب

(هكذا) فلا تستنتجوا من سرقة أعرابي بقرة مؤامرة عموم المسلمين (انظر إلى هذا

الإفراط في الحذر) ، ولئن لحقكم الأذَى من جهل بعض المسلمين أكثر من مكرهم

فلا تلومونا على السعي في تنوير عقولهم بأنوار المعارف، ولكن لا تسألونا

الصرامة والحدة أكثر مما أنتم عليه معهم. ولقد أصبحتم قائمين في هذه الديار بمهمة

حفت بالمشاكل، ولكنها كللت بالمفاخر وأسست على دعامة التمدن، حسًا ومعنًى،

تلقاء التربة والنوع البشري بخلاف المعمّر في أقطار أميركا وأستراليا، فإن همته

إنما صُرفت للأرض خاصة لا لتثقيف العقول وتهذيب النفوس، وحضارة أمة

شريفة النسب جليلة المدنية وتغذية نفوسها بلبان الحضارة الفرنسوية، حتى يكون

أفرادها من أعوانكم طبعًا (لينظر الجهلاء المنكرون فوائد التربية والتعليم وأن

عليهما مدار العمران) ، فكل عمل من أعمال يدنا وتساهلنا يكون موضوع تأويل

وشروح لا تحصى، فهو بمنزلة حبة تسفيها الرياح، وربما أنبتت سنابل في شاسع

الأقطار كأقطار بحر السودان وبحيرة شاد، وفي كل مكان خفق فيه العلم الفرنسوي،

إزاء العلم الإسلامي المهلل (كذا في الأصل ومعناه المتقوس أي المنحني، ولعل

مراده المهلهل أي الرقيق! !) ، بالمصلحة وأحسنهن خبرة بكشف غوامض أسرار

تلك الأقاليم المجهولة وأكثرهن تحقيقًا للعلوم وأعلاهن كلمة وأوفرهنَّ رغبة! !

أيها السادة، طوبى لمن جبل على الخير، وأشفق على الغير، وتوجع حنانا

لمن لحقه الضير، وتنازل تواضعًا لسماع نداء الفقير، وتلقى شكاية الجاهل الحقير،

وويل لمن غرته علياؤه، وعجبه وخيلاؤه، ففي التواضع قوة عظمى تمتد بها

الكلمة ويعلو بها الشأن، وربما عاد ذلك بأخذ الثأر في مستقبل الأجيال، فإنه وإن

حالت ظروف تاريخية لا تخفى دون مساعينا في الاستعمار المبني على حب الأثرة

والأنانية، وهو الاستعمار الذي قوامه القوة المادية، فلا غرو إن كان تقدمنا في

إفريقيا وآسيا ناتجًا عن خصال يشاركنا فيها مُحالِفُونا الروس، وهي حسن

المعاشرة وكرم الأخلاق) . اهـ. (انظر إلى غرضه من نصائحه وحثه على

التساهل والتواضع ترى أنه حسن الذكر المساعد على امتداد السلطة في شعوب

داخل أفريقية المسلمين) .

ثم ذكرت جريدة الحاضرة الغراء أن أعضاء الجمعية أَدَبوا مأدبة فاخرة للوزير

عمدة الجمهورية، وعند إدارة كئوس المدام بعد تناول الطعام أَلْقى كاتب سر اللجنة

خطابًا أثنى فيه على جناب الوزير بأعماله المفيدة للنزلاء لا سيما (حل مسألة

الكمارك المهمة الدالة على تأييد مبدأ الحماية) و (بعنايته بترقي شبان التونسيين في

مدارج المعارف بما تقتضيه ضرورياتهم) فأجابه الوزير عن ذلك بخطاب قال فيه:

(ولقد سررت جداً إذ رأيت كاتب سر الجمعية أبدى ملحوظات فائقة في شأن

تهذيب الأهالي وتثقيف عقولهم بالمعارف، فإن تلك الملحوظات موافقة كمال الموافقة

لمقاصد الحكومة ولرغبة جميع أهل الصلاح من المسلمين، فإنهم على رأينا في عدم

استحسان ترشيح من لم تستكمل معارفهم، فيشردون وهم أناس نبذوا عوائدهم

وعقائدهم فأصبحوا من سقط متاع الأوروباويين. وجمهور القوم متمسكون بدينهم

ولهم الحق أن يتمسكوا به، ونحن على رأي أكثرهم معرفة واستنارة في أن هذا الدين

لم يَنْهَ عن تحصيل المعارف الثابتة وعلوم التحقيق. أما صرف وجهة المسلمين في

التهذيب للصنائع النافعة فيمكن أن يقال: إنه من شواغل مدير العلوم والمعارف. أما

الأوامر الصادرة في معاوضات وأَكْرِيَة الأوقاف فهي حديثة عهد بالصدور، ولا

يمكن الحكم عليها الآن، بل لا بد من كرّ الزمان للتأنس بالعمل بهذه الطريقة الجديدة،

على أننا نتلقى باهتمام كل تحسين وتنقيح جزئي يرد لنا في هذا الخصوص بشرط

أن لا يمس ذلك بجوهر هذه المصلحة الدينية) . اهـ

ما أردنا نشره محافظين فيه على الأصل في الأكثر كما رأيت.

_________

ص: 176

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الإسلام [*]

للكونت هنري دي كاستري

يعلم مَن له وقوف على التاريخ الحديث أن الحروب الصليبية هي مبدأ جميع

المشاكل بين المسلمين وبين أوروبا، بل بين هذه وبين جميع الشرق، ولقد كان مبدأ

تلك الحروب تحمسًا وغلوًا في الدين وتعصبًا من أوروبا على الإسلام، وما كانت

لتهب تلك الأمم كلها وتندفع على الممالك الإسلامية وتعمل على إبادة الإسلام وهي

تعتقد أنه دين قيم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحفظ العهد والذمة، ويقيم

القسط في بلاد كان له السلطان عليها، إذ لا يجوز اتفاق أمم كثيرة على حب الشر

وكراهة الخير، والرغبة في محوه واصطلامه وإن جاز أن يجنح إلى ذلك أفراد أو

جماعات من الناس نشئوا على الشرور، وتربوا على الفساد، أو أعمتهم الحظوظ

وشهوات النفوس من حب الرياسة وغيره، وإنما طوح بأمم أوروبا إلى ذلك أن قوماً

من أرباب الهواء مثلوا لهم الديانة الإسلامية بتمثال مشوه، اجتمعت فيه المعايب

والرذائل المتفرقة في العالم كله، وزايلته جميع المحامد والفضائل والمحاسن إلى ما

لا محل لشرحه هنا.

تفجر طوفان تلك الفتن، فجرف ما جرف، وفاضت بحار الانتقام، فغشي

الناس من اليم ما غشيهم، أعقب ذلك الجزر إلى أجل مسمى، ثم فاض نائب تلك

البحار باسم جديد، وتلون بألوان المدنية الحديثة المدهشة ببهاء منظرها وغرابة

مخبرها، مدنية روحها الثروة، وجسدها الثروة، قرب طلاب الكسب فيها الأبعاد،

وخالطوا جميع الأمم حتى كادت الأرض تكون مدينة واحدة.

بهذا أمكن لأهل أوروبا الوقوف على حالة المسلمين في سيرتهم الدينية، ولكن

بعدما (دب إليهم داء الأمم السابقين) و (اتبعوا سَنَن من قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا

بذراع) ، فكان لمن رآهم بعين السخط دليل من أنفسهم على ما رماهم به الطاعنون،

حتى بما يسمونه (عبادة القديسين) ، كما هو منصوص في كتبهم، ومسموع من

كلمهم، ومنهم من نظر بعين الإنصاف، فرأى من أعمالهم حسناً وقبيحاً، وتبين له

أن قومه مفرطون في ذمهم للإسلام، وغالون في تحزبهم وغمطهم للمسلمين.

ومن هؤلاء من ذهب به حب اكتشاف الحقيقة إلى النظر في القرآن وغيره من

كتب الدين، حتى أدى به البحث إلى الإعجاب به، ثم اعتناقه أو الثناء عليه.

ومن المثنين على الإسلام في مصنفاتهم (الكونت هنري دي كاستري) كتب

كتابًا سماه: (الإسلام خواطر وسوانح) ، بحث فيه عن صدق سيدنا محمد صلى

الله تعالى عليه وسلم في نبوته، ففند مزاعم قومه فيه، لا سيما أصحاب (أغاني

الإشارات) ، التي كانت السبب في الحروب الصليبية، وتكلم على الإسلام في زمن

الفتح وما بعده، وعلى القضاء والقدر، وغير ذلك من المسائل التي يطعن بها أهل

أوروبا على الإسلام، وتكثر المباحث بها في هذه الأيام، لا سيما من المستشرقين

في أوروبا، ويستشهد في كلامه بالقرآن العزيز ويحتج بآياته.

كل هذا وعلماء المسلمين لا يدرون في الغالب ماذا يقال في دينهم مدحاً ولا ذمأ،

بل تركوا الأمر لأهل أوروبا يفتاتون عليهم بما يشاؤون، وكيف يدرون، وهم لا

يعرفون لغات القوم، ويذمون في الأكثر من يتعلمها، ويختبر حالة أهلها، وينظر

في كتبهم، وربما طعنوا في دينه من جراء ذلك، حتى كادت الطبقة العارفة بلغات

أوروبا والناظرة في فنونها تكون منفصلة عن الطبقة المشتغلة بعلوم الدين انفصالاً

تامًا. ولا مجال هنا لبيان الضرر في ذلك على الأمة الإسلامية، وإنما نقول: إنه

يوجد في علماء الدين من يعلم وجه حاجتنا إلى علوم أوروبا حق العلم، ويوجد في

العارفين بعض لغات الأوروبيين والناظرين في فنونهم من يحب خدمة الملة والدين

بعلمه، ومن هذا الفريق العالم القانوني الفاضل عزتلو أحمد فتحي بك زغلول رئيس

محكمة مصر الابتدائية، فإنه يختلس الفرص من أشغاله القضائية الكثيرة لترجمة

الكتب النافعة، ولقد ترجم غير كتاب، ولا يزال يدأب في هذه الخدمة. وآخر كتاب

نقله للعربية وطبعه كتاب: (الإسلام) للكونت دي كاستري المشار إليه آنفاً.

أحب القاضي الفاضل أن يعرف قومه ماذا يقال عنهم، رجاء أن تنهض هممهم

للمدافعة عن أنفسهم بالاستدلال وإصلاح الحال، فإننا إذا أقنعنا أوروبا بأن ديننا دين

علم وتهذيب (وهو الواقع) يوشك أن يتغير فيها الرأي العام فينا، ولنا في ذلك من

المنافع العلمية والسياسية ما لا يجهل.

وقد أحببت أن أتحف قراء المنار بمقدمة حضرة المترجم؛ لما فيها من الفائدة،

والتنبيه لما ينبغي أن تتوجه إليه أفكار المسلمين، لا سيما العلماء منهم، فإننا نحن

المسلمين نعتقد أن القرآن هو أول كتاب سماوي أَلَّفَ بين الدين والعقل، وجمع بين

مصالح الدنيا والآخرة بالعدل، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم مكارم

الأخلاق، ويضع حدود الفضائل والآداب، وأوروبا ترمينا نقيض ذلك كله، ونحن

نكاد نصدقها بأعمالنا وأحوالنا، حيث نعرض عن الفنون العصرية، ولا نكذبها

بأقوالنا، حتى قام منها من يدافع عنا، فكان أولى بنا منا، ولو كنا نحن المناضلين

عن أنفسنا لكانت الفائدة أتم، والمنفعة أعم، فعسى أن يلتفت إلى هذا الأمر الجليل

أهل الرشاد، كيلا نكون مع مناظرينا كالنعامة مع الصياد.

مقدمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه

ومن والاه، أما بعد: فإنى عثرت على كتاب فرنساوي ألفه حضرة الكونت هنري

دي كستري في الدين الإسلامي سنة 1896 ميلادية، ولما فرغت من قراءته

وجدتني منساقًا إلى ترجمته، فلم يدركني ملل ولا نصب حتى أتيت على آخر

الكتاب، وعدت فراجعت الترجمة فإذا هي تكاد أن تكون حرفاً بحرف، ثم توجهت

الفكرة إلى طبع هذه الترجمة ونشرها على الناطقين بالعربية، فاعترضني بعض

الأصدقاء بعد أن أريته شذرات من الترجمة، وكان من رأيه عدم النشر بالطبع،

واحتج بأن الكتاب غاية في التدقيق قاصدًا نهاية التحقيق غير أنه اضطر إلى ذكر ما

كان وإن كان يعتقده أو يتوهمه مسيحيو العصر الخالية في الدين الإسلامي من

الشناعات والسباب، وذكر مثل هذه الأشياء وإن كان على سبيل الرد عليه ربما

اشمأزت له النفوس، ووقع من المطلعين عليه موقع الاعتراض وعدم القبول، فهو لا

يروق من هذه الجهة جماعة المسلمين، وإنني لم يكن ليخطر ببالي مثل هذا

الخاطر، ولم يدر في خلدي أن يعترض واحد على ذكر هذه الأشياء في الكتاب،

وهي لم تذكر من المؤلف وهو مسيحي على أنها حقائق، بل أوردها على أنها أوهام

علقت بأذهان المسيحيين من تلك الأعصر، وترتب عليها ارتسام المسلمين في

مخيلاتهم بالصور الشنعاء، وأراد المؤلف محو هذه الصور من مخيلات

الأجيال الحاضرة، فبرهن وأقنع واستدل بالحجة القاطعة على أن تلك موهومات

لا نصيب لها من الحقيقة، وذكر أسباب إيجادها في النفوس، ورغب إلى قومه

أن يستبدلوا تلك الصور المشوهة بصورة الإسلام الحقيقي، وما يدعو إليه من خير

وإصلاح، فلذلك لم أعول على استشارة ذلك الصديق في التأخر في الطبع، إلا

أنه أوجب عندي استشارة غيري وغيره، فرأيت أمام الصديق المعارض

أصدقاء موافقين وغيرهم مستحسنين وغيرهم آمرين، وبالطبع غلب رأي

الأكثرين رأي الواحد، خصوصًا وأنه لم يستند إلا على شيء قال: ربما يحصل،

ونحن نقول: ربما لا يحصل، وإن حصل فهو من عدد قليل، وأنه لو لم يذكر

المؤلف ما ذكره من تلك الموهومات ونبه على فساده وبرهن على خلافه، لبقي

مركوزاً في أذهان قومه، وبقينا ونبينا عندهم على ما توهمه السابقون منهم، أما وقد

فعل فلا شبهة في أنه خدم ما استطاع، ووجب علينا شكره ما استطعنا، ومن تمام

شكره إعلام قومنا بكتابه، ولكنا لم نرد أن نأخذه بدون إذنه واستمنحناه الإذن فيه،

فتفضل بالإجابة وكان له بذلك الشكر والامتنان.

على أن إمكان اشمئزاز البعض مما جاء في هذه الكتاب من الأقوال التي ردها

المؤلف ودل على خطئها بالبرهان، لا يقابل الفائدة التي نراها من نشره، والذي

يقصد الفائدة ويتحرى مآخذها لا ينبغي له أن يلتفت إلى ما عساه يكون من تقزز

بعض القراء، فإنهم لو أنصفوا لما نفروا.

هذا وإن قومي لعلى علم تام من أن مقصد مثلي حسن، وغرضي إنما هو

التنبيه على أنه قد وجد من غيرنا من قام للدفاع عنا بذكر الحقائق، وسرد الوقائع

التاريخية الصادقة، فسفه رأي قومه فينا، وأبان لهم وجهي الخطأ والصواب، ومن

الواجب علينا أن نعرف ما قيل، وما دفع به الدافعون وليتهم كانوا منا، وأن نتعرف

صاحبي الرأيين، فنعرف المخطئ، ولا ندع له باباً آخر للطعن علينا، ونعرف

لذي الصنيعة صنعه الجميل، فنزيده اعتقاداً باستحقاقنا لما صنع. وفينا كتاب الله

أعظم مرشد لهذا السبيل، فقد حكى بعض المذاهب بنصها وفصها، ورد عليها بغاية

الإيضاح والتبيين، وعندنا كتب سادتنا الأولين في علوم الأصول والكلام، وكأنها

تحكي المذاهب الباطلة مفصلة، وترد عليها، ومن علمائنا السابقين من يوجب

حكاية المذهب الفاسد، ليتمكن المطلع من الرد عليه بالدليل، فإذا كان هذا هو الحال

في المذاهب التي قررها أصحابها، ويخشى حقيقة من انتشارها؛ لأنها مبرهنة بنوع

من البرهان، وإن كان فاسد المقدمات، فما الظن بما حكاه الغير عنا على وجهه،

إما غلطاً أو قصداً لغرض مخصوص. أظن أنه لا يختلف اثنان في أنه من ألزم

الواجبات حكاية ما حكوه، وإشهار ما قالوه، وإذا كان الغرض في القسم الأول هو

الرد عليه، فليكن الغرض من هذ القسم معرفة ما رمينا به، وهذا بلا ريب ينتج

الرسوخ في العقيدة عندنا، وينتج أيضًا اقتناع الواهمين بضد ما توهموه، وهذه

النتيجة تقصد لكبار العقلاء، ويحبها أفاضل العلماء.

وفوق هذا فإنا بذكرنا ما قالوه قدحاً علينا أو طعناً في ديننا أو صاحبه عليه

الصلاة والسلام نرجع إلى أنفسنا، ونبحث عما إذا كان لأقوالهم من إهمالنا منتزع أم

لا، فإن كان لهم منها منتزع علمنا كما هو الصواب أنه ليس من أصل الدين، فلا

نلبث أن نتباعد عنه، ونرجع لأصل الدين القويم، ولا نحيد عن العمل به في أي

حال من الأحوال، وإن لم يكن لهم من أعمالنا منتزع أدركنا أن لهم غرضاً

مخصوصاً، وعملنا على ما يزيل هذا الوهم من أنفسهم، أو يدفع بهم إلى تغيير

غرضهم فينا، وهم لا شك مجتنبوه إذا رأوا منا ذلك المنهج المعتدل، والسير على

الصراط المستقيم، فإن مقاومة الوهم بمثله لا تفيد.

ثم إنه لا ينكر أن في همتنا قصوراً عن البحث فيما يعتقده الناس فينا، فإذا

قيض الله لنا من بحث بدلنا ورد الشبه عنا فما أجدرنا بقبول عمله وإظهار الرضا به،

وما أولانا بنشر تحقيقاته بيننا، حتى تعم فائدتها جميعاً، وربما جرنا هذا إلى

الاشتغال بأنفسنا، فإنه ما حك جسمك مثل ظفرك، ولا أحسن من أن يتولى الإنسان

مصالحه بيده مع حفظه حق مرشديه وعدم إنكار صنيعهم الجميل.

ولقد رأيت للمؤلف من التثبت في العقل والاعتدال في الحكم واستعمال الذوق

في الرد وإعمال العقل في النقد وطريقه والاستشهاد بالوقائع التاريخية، ما فاق به

سواه من مؤلفي زمانه، فبان لي أن غرضه الحقيقة أيًّا كانت، ولا أؤاخذه في بعض

مواضع كتابه، مما لم يطابق نقله الأحكام الشرعية، إذ ربما اعتمد فيه على قول

بعض النقلة، وربما كان نقله صحيحًا على بعض المذاهب التي لم أقف أنا عليها،

ولذا لم ألاحظ عليه في الهامش ملاحظات مستقلة، وفضلاً عن هذا فإنني رأيت أن

تكون الترجمة نقلا للأصل برُمّته؛ ليعلم ماذا قصد وماذا كتب، ويكفينا منه أنه

طالب للحق، وإن جاء في بعض آرائه ما عساه يحمل على الخطأ، مثل الذي له

في التأويل والحكاية عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعماله واعتقاداته،

على أنه لا يفوت قراء الترجمة أن الكتاب كتب لينشر بين قوم المؤلف، وكان لابد

له من ملاحظة أفكار المكتوب إليهم وأحوالهم، وربما اضطر في ذلك إلى إبراز

بعض الحقائق الثابتة عنده في صورة الاحتمال والإمكان، كما يشير إليه كتابه إليَّ

إيذانًا بنشر ترجمته، كذلك لم أشأ أن أكون معه من المجادلين، لئلا تضيع الحقيقة

أو ينجر الأمر إلى الإنكار على صاحب مقصد حميد.

هذا وإني تارك هنا ما نحن عليه من وقوف حركة النظر، ومن تعطيل قوة

البحث في العلوم، ومن ترك ما دعينا للعمل به من قواعد الدين، ومن الابتداع فيه

وعدم العمل بزواجره واجتناب نواهيه، ومن إغفال ما حثنا عليه من العلوم النافعة

والتربية الناجعة، فإن ذلك وإن كان له مساس بما نحن بصدده إلا أنه يقتضي الشرح

الطويل مما لا يحتمله هذا المقام، لكننا نقول قولة مجملة بأن الإسلام يأمر بالمعروف

وينهى عن المنكر، ولا يرضى منا بالغفلة عن المنافع والمصالح، ويطالبنا بدفع

المفسدة، ويحثنا على مكارم الأخلاق، ويبين لنا أن كل بدعة ضلالة وأن كل ضلالة

في النار، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن العلم يطلب ولو في

الصين، وأن لا شيء من العلم بضار، ولا شيء من الجهل بمفيد، وأن من أحدث

في الدين ما ليس منه فهو رد عليه. هذه هي تعاليم الإسلام إلا أن الأعصر الحاضرة

قد خرجت بالدين إلى ما ليس منه، فعطلت شعائره الحقيقية، ودخلت فيه البدع،

وتغلبت المعتقدات الفاسدة على القواعد الصحيحة، وتمسك الناس بالبدع وتركوا

الفروض والواجبات، وكاد القرآن يتلى مع الآلات المطربة، والصلاة تؤدى في

الحانات، واندثر العلم وانحلت العزائم، وقعدنا عن تحصيل القليل من ضرورياتنا،

وتأخرت التربية، ففسدت الأخلاق، وتناكرت النفوس، فاختلفت المساعي،

وتعاكست المقاصد فتفرقت المنافع، وانحل عقد نظام المسلمين فأصبحوا أشتاتًا،

يمقتهم الناس ويرمونهم بالانحطاط ويعيرونهم بما تنزه عنه شرعهم، ولكنهم ألفوه

وبالغوا في التمسك به، حتى تبدلت الأحوال، وصار كما قال صحاب المنار:

الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة

الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم

بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة

تواضعًا، والخضوع للذل والاستبسال للضيم رضى وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل

متقدم علمًا وإتقانًا، نعم، كان هذا كله وأكثر منه مما نمسك عنه، وإنما سقنا ما

ذكرناه معذرة لمن يفهم من الأجانب أن سوء حالنا آتٍ من جهة ديننا، وأن رضوخنا

للجهالة إحدى دعائمه، كما يتبين من عرض أفكارهم في هذا الكتاب، والدين براء

منه. وكيف نطلب منهم حسن الاعتقاد في الإسلام وهم يرون المسلمين يأتون من

الأعمال ما لا ينطبق على عقل، ولم يقل به شرع، اللهم إلا إذا كان كما فهموه منا.

إنهم في الحقيقة معذورون إذا نسبوا أعمالنا هذه إلى الدين، فإنهم لا يفرقون بين ما

هو منه وما هو بعيد عنه، وليس لهم إلا أن يعتقدوا بأن عملنا مأمور به لا منهي

عنه.

إلى هنا نمسك القلم ونترك القول للمؤلف، سائلين أن يستصحب القارئ معه

في قراءة هذه الترجمة ما قدمنا من الملاحظات، وبالله الاستعانة وعليه الاتكال في

صلاح الأعمال. اهـ.

_________

(*) فاتحة العدد الحادي عشر الذي صدر في 11 المحرم سنة 1316.

ص: 182

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعر والشعراء

(3)

التراكيب اللفظية كالأجساد، والمعاني أرواحها، وكأين من ذي جسد مليح لا

تشويه في جثمانه، لكن صفاته الروحية مشوهة، فهو لذلك يُمْقَت من كل ذي طبع

سليم وفطرة صحيحة.

والشكل والخفة في الأرواح

أملح ما يعشق في الملاح

كذلك الكلام منظومًا ومنثورًا لا تكمل محاسنه إلا بحسن معانيه، ومتانة مبانيه،

ولقد جئنا بمجمل من البيان عن حالة الشعر من حيث مبانيه ومعانيه في العدد التاسع

والعاشر من جريدتنا، وأبنّا أن شعراء الجاهلية كانوا يتصرفون بأشعارهم في جميع

معلوماتهم، وأرجأنا الكلام على بقية طبقات الشعراء إلى هذا العدد. والآن نقول:

إن المخضرمين لا فصْل (فرق) بينهم وبين الجاهليين، إلا بما كانوا به أغزر

علماً، وأفلج سهماً، لما أعطاهم القرآنُ الكريم والحديثُ الشريف اللذان تقاصرت

عنهما من أولئك أعناق العتاق السبق، وَوَنت دونهما خُطى الجياد القرح، لكنهم مع

قدرتهم السامية، ومعارفهم العالية، كانوا أقل نظماً من الجاهليين، كان لهم شاغل

من عبادة الله تعالى ونصرة دينه عن الشعر، وكان أكثر شعرهم في مدح النبي

صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وفي الذَّبّ عنه وعن الإسلام، وأشعار حسان

في ذلك مشهورة، ولغيره من أكابر الصحابة أشعار تدخل في الطبقة العالية، لكنها

لم تشهر، وإليك هذه الأبيات، الأبيّات من قصيدة سيدنا الصديق الأكبر رضي الله

تعالى عنه، نسبها له سليله سيدي مصطفى البكري صاحب ورد السحر، ونسب له

غيرها خلافًا لمن قال من المؤرخين: إنه لم يقل الشعر قط، على أنه مروي عن

عائشة رضي الله تعالى عنها، أما الأبيات فهي:

أمن طيف سلمى في البطاح الدمائث [1]

أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى في لؤي فرقة لا يردها

عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا

عليه وقالوا لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا

وهرّوا هرير المحجرات اللواهث [2]

فكم قد متتنا فيهم بقرابة

وترك التقى شيء لهم غير كارث [3]

فإن يرجعوا عن كفرهم لعقولهم

فما طيبات الحل مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم

فليس عذاب الله عنهم بلابث [4]

ونحن أناس من ذؤابة غالب

لنا العز منها في الفروع الأثائث [5]

يميناً برب الراقصات عشية

جراجيج تخدى في السريح الرثائث [6]

كاذم ظباء حول مكة عُكّف

يردن حياض البئر ذات النبائث [7]

لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم

ولست إذا آليت قولاً بحانث [8]

لتبتدرنهم غادرة ذات مصدق [9]

تحرم أطهار النساء الطوامث

يغادرن قتلى تعصب الطير حولهم

ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث

فأبلغ بني سهم لديك رسالة

وكل كفور يلتقي الحرب باحث

فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم

فإني عن أعراضكم غير شاعث [10]

وأما المولدون فقد أكثروا من النسيب والمديح والهجاء، وأقلوا من غيرها،

مع قبضهم على جميع أزمة القول، ومعرفتهم بطرقه وأساليبه، واتساع معارفهم

العلمية والأدبية والمادية والمدنية، ثم جرى المحدثون على آثارهم، وساروا

منحرفين عن محجة العربية الفصحى، حتى بعدوا بها عن معاهدها، وملكت العجمة

عليهم ألسنتهم، حتى صار أمرهم إلى ما علمت، أعرضوا عن النظر في كلام

الأقدمين، وقصروا همهم على محاكاة المعاصرين، ولم يبق لديهم من النسيب

والغزل إلا تشبيه سواد عقائص الشعر بأساود الحيات، والعيون السود ببيض

المرهفات، والقدود بسمر الرماح، والرضاب بالضرَب والراح، والثنايا بالدرر

والإقاح، والجبين بالهلال والصباح، والخدود بالورود وشقائق النعمان، والثدي

بحقاق العاج والرمان، إلى ما يلتحق بهاتا من ذكر الهجر والوصال، والتيه

والدلال، وغير ذلك مما هو مشهور عنهم من الكلام في الغراميات، وربما قرنوا ذلك

بذكر الوقوف على الديار واستنطاق الرسوم والآثار.

وأما المديح فما بقي منه إلا ألفاظ يفيضونها من مكارمهم على كل ممدوح،

كالمجد والسعد، والسخاء والرفد، والفضل والكمال، والرفعة والجلال، والشرف

والعلاء، والسناء والبهاء، والمعارف والعوارف، والفضائل والفواصل، والسماحة

والرجاحة، والبلاغة والفصاحة، يجعلون الممدوح أسخى من حاتم، وإن كان أبخل

من مادر، ويقولون: إنه أفصح من سحبان وائل، وإن كان أعيا من باقل،

ويزعمون أنه أصدق من القطا، وهو أكذب من مسيلمة، وأنه أحلم من أحنف

وأذكى من إياس، وهو أحمق من هَبَنَّقة وأبلد من الذباب، وإذا أخذوا في الرثاء

يقدمون على ذكر هذه الأوصاف تهويلاتهم المشهورة، كقولهم: إن الشمس كسفت،

والنجوم انكدرت، والجبال تصدعت، وعيون الدموع تفجرت، وألسنة العوالم

استرجعت، وقلوب الخلائق تفطرت، وأبواب الجنان فتحت، والحور في القصور

تزينت، ونحو هذا مما ملته الأسماع، وسئمته الطباع، ويكاد يحيط به كل إنسان.

وحاصل القول في الشعر والشعراء: أن العرب كانوا مندفعين إلى الشعر من

طبيعتهم، فكانوا يتناولون بشعرهم كل ما في الطبيعة، وما ينتزعه الذهن منها،

كالخيالات والأوهام. وإن الجاهليين بلغوا به قبيل عصر النبوة الشأو البعيد،

والغاية التي لا وراءها بالنسبة لمعارفهم، وإن الإسلاميين ارتقت في أول الإسلام

ملكاتهم في البلاغة على ملكات الجاهليين، فكان كلامهم في المنظوم والمنثور أحسن

ديباجة وأرصف مبنى وأعلى معنى، لكن لم يلبث الشعراء أن حصروا كلامهم في

مواضيع قليلة (كما علمت ولما علمت) برز فيها أفراد من كل عصر، وما كانوا

يخرجون عنها إلا أحيانًا. وأنه جاء في القرون المتوسطة - لا سيما الثالث والرابع

والخامس - من ساهم السابقين، وخاطر المقرمين، وناهيك بابن دريد المتوفى

في أوائل القرن الرابع، فلقد ضربت مقصورته بكل سهم، وطرقت كل باب، ولا

تنس حكم أبي تمام، وأبي الطيب، وفلسفة أبي العلاء، لكن طرق هؤلاء كانت

عقيمة، ومذاهبهم دارسة، لا سيما مذهب أبي العلاء في فلسفة الأفكار؛ فإنه كان

فيه نسيجَ وَحْدِهِ، لم يحذُ فيه مثال أحد، ولم يتلُ تِلْوه فيه أحد. وإن المتأخرين

هبطوا بالشعر إلى أسفل الدركات، وإن كلامهم في الأكثر خَطَل (فاسد فاضطرب)

وعسلطة (لا نظام له) ، وإنه لا يكاد يوجد المجيد، ولو في موضوع واحد إلا

نادراً. وكان في القرن الماضي (الثالث عشر) عبد الباقي العمري، له شعر

رصين متين في مدح آل البيت عليهم السلام والرضوان.

هذا ما نبه أفكار الفضلاء وأهل الغيرة على الآداب العربية، وحدا بهممهم إلى

حَلّ الشعر العربي من عُقُله وإطلاقه من قيوده فأرشدوا الناس إلى التصرف في المعاني

الجديدة والنظم في المواضيع الشريفة على ما تقتضيه حالة هذا العصر.

طَرَقَ هذا التنبيه مسامع منشئ هذه الجريدة في أوائل طلبه للعلم من أستاذنا

العلامة الشهير الشيخ حسين أفندي الجسر، فجنحت النفس للعمل، وكان أول نظم

نظمته في ذلك قصيدة أشرت فيها إلى مذاهب المتأخرين في الشعر بصيغة الإنكار،

وشيبت ذلك بالمعاني الجديدة التي تعطيها الفنون والصناعات العصرية. القصيدة في

تهنئة صاحب السعادة محمد باشا نجل الأمير عبد القادر الجزائري الشهير يوم صار

ياور حرب لمولانا السلطان الأعظم، أيده الله تعالى، وهي نحو من مائة وعشرين

بيتاً، نأتي على بعضها هنا على سبيل النموذج فنقول:

(مطلع القصيدة)

نصرت دولة المهى التركية

بلحاظ قامت بها العصبية

ثم ذكرت من حرب دولة الحسان المشبهات بالمهى أن لديها عوالي القدود

السمهرية، وحراب السواعد، وخناجر الحواجب، وزدت على هذا تشبيه غدائر

الشعر الملتوية أطرافها بالبنادق ثم قلت:

أي حسن نرى بهذي الغواني

كل عضو كآلة حربيه

ما لنا نحسب الحسان ظباء

ولها فتكة بنا قسوريه

ونسمي خدر الفتاة كناسًا

ونرى الغاب يدعي الأولويه

ونذوق الغرام عذبًا وإن كا

ن عذابًا لدى النفوس الأبيه

يا رقيقًا لذات خصر رقيق

برئت منك ذمة الحريه

قد أذلتك نسوة يتبرجن

دلالاً تبرج الجاهليه

تلك سلوى أن التخيل يدعو

رقة العقل رقة طبعيه

(ومنها)

كم تناجي الدجى وما أنت ممن

يفتري عن ضاوعة المفريَّه

وتبيح الرياح كل غدوّ

ورواح شؤونك السريه

وتصيخ الآذان تسترق السمع

جوابًا يأتي من العامريه

قد أقامت لك الأماني سلكًا

لأداء الرسائل البرقيه

ولكم أنت في عتاب وشكوى

لحبيب دياره مقصيه

إن نأى يدنه الخيال من التمثيل

في آلة له رصديه

وعلام الوقوف حول رسوم

دارسات ما ثَمَّ منها بقيه

تمطر السحب من عيونك ما ثار

بخارًا عن نارك القلبيه

بحر دمع وفُلْك جسمك فيه

سيرته أنفاسك الصدريه

(ومنها)

خل عنك التمويه بالغيد وأسلم

إنما الحب لذة وهميه

قد أقامت على الحقائق سترًا

فاستسرت نجومها الدريه

حجبت عنك شمسها بسحاب

ظله قام صورة شمسيه

ومنها في إثبات أن الحب اختياري في مبدئه:

أنت أشعلت نار قلبك بالتحديق

نحو الحدائق الحسنيه

صاد رسم الحبيب طرفك منها

بانعكاس الأشعة النوريه

فسرى من زجاجة العين للقلـ

ب شعاع كجذوة ناريه

ومنها في مدح مولانا السلطان المعظم:

جر ذيلاً عن المجرة إذ جا

وز هام الجوزاء بالفوقيه

ما علاه نبتون والعقل كم كذب

حكم المشاعر الحسيه

نافذ الرأي مسقب كل ناء

من عويص المشاكل الفكريه

يومض الذهن من تلاق لإيجا

بية الحكم فيه والسلبيه

فكأن السداد والحزم فيه

برلمان أقيم أو جمعيه

حرر الملك بعد رق فقرت

فيه عين الإسلام والحريه

أيد الملة الحنيفية السمحة

فيه والشرعة الحنفيه

فهو والملك إذ تولى عليه

فتوالت نعمى وولت رزيه

شبح صافحته أم لهيم

فسرت فيه قوة روحيه

فأباح العمران سر الترقي

لنفوس الجمعية البشريه

فأفاضت ماء الزراعة عين

أيقظتها الصنائع العمليه

وأقامت لها التجارة سوقًا

أحرزت في مجالها السبقيه

وبغيث العلوم أينع روض

صوحته البوارح الدهريه

فيه شمنا شمس الهدى وشممنا

منه عرف المعارف الحكميه

ووجدنا جسم الوجود صحيحًا

بارتقاء الصناعة الطبيه

ورياضي فكره ظل يبدي

من زوايا الفنون كل خبيه

وتدلت زهر النجوم إلينا

بل عرجنا للقبة الفلكيه

هل كعبد الحميد يلفى مليك

أو تولى من عهد آل أمية

عُمريٌّ عدالةً علوي

سطوةً والسمات عثمانيه

سار في نهج ملكه وكلاء

مثلوا نور عدله للرعيه

بالشمس نظامها فيه دارت

واستنارت سيارة بشريه

ومنها بعد ذكر وفود أصناف الناس على المابين حتى الملوك، وكان ذلك عقب

زيارة إمبراطور ألمانيا الآستانة.

فكأن المابين والناس ما بين

مجدّ سعيًا وذي بطئيه

كعبة والحجيج من كل فج

ينتحيها أو مركز الجاذبيه

ومنها في مدح الأمير وهو ختامها:

لم أقل إنني خصيص علاه

فهي دعوى بمدحتي ضمنيه

وكفاني قرب القرابة أنّا

بوأتنا البنوة النبويه

وبكلي له تسلسل ود

دار فيه كالدورة الدمويه

يا عريقا بالمكرمات فليست

هبة تستردّ أو عارِيّه

هاك بكراً جاءت بمبتكرات

من مجاني جناتها معنويه

أشربت رقة الحضارة لكن

رويت بالجزالة البدويه

أعجبت بالمديح فيك فقامت

تتهادى كأنها حوريه

رامت الحلي في الثناء فلبتـ

ها عقود الكواكب الدريه

فبدت تنتحي علاك وناهيك

بباد أوفى على المدنيه

تستميح الرضى لكي تغتدي را

ضية عند ربها مرضيه

_________

(1)

الدَّمْث: السهل اللين، وأصله للمكان، ويقال: خلق دمث، جمعه دمائث.

(2)

الهرير: ما دون النباح من صوت الكلب، واللواهث: جمع لاهثة، واللهث معروف عند العامة، ويقولون: لهت بالمثنّاة، وأظن أن المحجرات إناث الخيل، ويحتمل أن يراد بها الكلاب، وليس لدي نص في هذا وذاك، والسياق لا يأبى شيئاً منهما، والأقرب: الأول؛ لأن من مادته الحجر، وهى أنثى الخيل.

(3)

الكارث: من كرثه الغم إذا اشتد عليه.

(4)

اللابث: المقيم، أي أن العذاب لا يظل مقيماً دونهم، بل لابد أن يحل بهم.

(5)

الذُّؤَابة: الناصية، وغالب: جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ، والفروع الأثائث: هي الشعور العظيمة الملتفة، كنى بها عن الشرف والرفعة.

(6)

الراقصات: هي النوق، والجراجيج: جمع جرجوج، وهي الناقة الطويلة على وجه الأرض أو الشديدة أو الضامرة الوقادة القلب، وتَخدي: تسرع (ثلاثي)، وأخدى: مشى قليلاً قليلاً، " والسريح كأمير الخرق والجلود البالية تشد على أخفاف النياق إذا دميت، والرثائث البالية والرثيث: كالرث الخلق المبتذل ".

(7)

النبائث: الأنرية التي تخرج من البئر والنهر أو التي حولهما.

(8)

آليت: حلفت.

(9)

المصدق: الصدق، يقال للرجل الشجاع والفرس الجواد إنه لذو مصدق، أي صادق الحملة، وصادق الجري.

(10)

شعت عرضه ومن عرضه: أي انتاشه ونال منه.

ص: 191

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بهتان عظيم [*]

رمى بعض السفهاء سهمًا فأصاب أمته وملته، فحملنا ذلك على كتابة التذكرة،

ورأينا أن نفتتحها بنبذة بليغة جاءت في العروة الوثقى الشهيرة تصف أخطارها،

حتى كأنها وضعت لها فنقول:

أسف يصهر الجسم، ويذيب الفؤاد، وحسرة تفلذ الأكباد، على قبيل من أمة،

أو شخص منها ذي همة، يستعين الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يرجع إليها

بمنفعة، ثم يوجد له في وجهة عمله من تلك الأمة من ينجم، كقرن المعز، ليفقأ

عين العامل الفاضل، فيقطع عليه أسباب العمل، ويعرقله عن القصد، ليكسب

مدحة باطلة، أو منفعة عاجلة، وإنما مثل من يكون على هذه الصفة في الأمة،

كمرض السكتة في البدن، أو الصرع في الرأس، أو الخبل في العقل، أو الشجي

في الحلق، أو القذى في العين، هؤلاء هم الذين يقعدون بكل صراط يوعدون

ويصدون عن سبيل الله والحق، ويبغونها عوجًا.

لو كان لهؤلاء العضال الطباع (الأعصل المعوج في صلابة) بقية من

الإنسانية أو أثر من العقل، يدركون به ما ينشأ من أعمالهم الجزئية من المضار

الكلية، ويشعرون بهذا الجرم العظيم الذي يدك الرواسي ويهد الشامخات، لذابوا

خجلاً، واستتروا عن الناس بحجاب العدم، وتمنوا لو محيت أسماؤهم من لوح

الوجود، ولكن يظهر من جرأتهم على خطيئتهم أنهم ذهلوا عن أنفسهم، فلا يعلمون

ماذا يعملون. هذا العمل الصغير الذي يجلب على الأمة شراًّ كبيرًا، ويحرمها من

خير عام، ليس في وسع حكيم من البشر أن يحدد درجته من الخسة والسفالة، ولا

في طوعه أن يحيط بكُنْه الفساد الذي ضرب في طبع شخص يقدم على مثله، ولا

توجد كلمة ولا جملة ولا كتاب يفي ببيان حاله سوى أن يقال: خائن ملته ووطنه.

أولئك أشخاص كثيرًا ما يوجدون في الأمم المعتلة، يشبه أن يكون منهم أصحاب

النهج الأعوج [1] والسبيل الملتوي، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،

فيتذقحون ويتجرمون على البرآء (تذقح له وتجرم عليه أي: تجنَّى، وادعى عليه

الجرم باطلاً) ، يقولون كذباً، ويخلقون إفكاً، ويحرفون الكلم عن مواضعه،

يطفئون بذلك نار الحسد، أو يشترون به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم

وويل لهم مما يكسبون.

إن للتجرُّم والتجنى ضروبًا كثيرة، وأشدها ضررًا على الأمم ما كان من ذلك

على علماء الأمة وعقلائها، الذين يسعون في إعلاء شأنها، ورفع منارها،

ويرشدونها إلى جوادّ المجد، ويعرجون بها في معارج الشرف والكمال، وقد مضت

سنة الأولين في هؤلاء الأخيار بأن التجني عليهم كان أكثر، والبهتان في حقهم كان

أعظم، بل سكت السواد الأعظم من أهل القرون الخالية عن الطعن بدين الذين ملئوا

كتب الدين والعلم بالكذب على الله ورسوله، ومزجوها بالخرافات والأساطير،

وطعنوا بالأئمة الأربعة المجتهدين، ووضعوا في ذلك الأحاديث، وكفّروا ناصر

السنة الإمام أبا الحسن الأشعري، وطلبوا جثته عند موته ليحرقوها، فمنعتهم

الحكومة وأخفت قبره لذلك، وكفّروا الإمام حجة الإسلام الغزالي، وذمّوا كتابه:

(إحياء علوم الدين) الذي لم يؤلف مثله في الإسلام، بأنه مزج فيه الفلسفة بالدين،

وأحرقوه في العراق ومصر والأندلس، وحكموا على الإمام السبكي مراراً بالكفر.

هذا بعض ما كان من شأنهم مع أئمة الشرع وأنصار السنة، وأما الحكماء

وعلماء المعقول فلم يبقوا على أحد منهم حتى جعلوا الدين عدو العقل، قال ابن

الوردي المؤرخ في ترجمة العلاّمة كمال الدين بن معية الذي فضَّله أثير الدين

الأبهري على الغزالي ما نصه: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتُّهِمَ في دينه،

وهذه هي العادة) ، فتأمل قول المؤرخ: وهذه هي (العادة) - تعلم ما كان من

عداوة الدَّهْمَاء من الأمة للعقل، ومن عجيب ما يروى عنهم في ذلك، ما نقله ابن

الوردي في ترجمة ابن معية هذا قال: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي سأل كمال

الدين أن يقرأ له المنطق سراً، فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال: يا فقيه، المصلحة

عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن؛ لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون

كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم، ولا يصح لك من

هذا الفن شيء! اهـ

هذا ما كان من شأن الجماهير أيام كانت سوق العلم رائجة وتجارته رابحة،

فكيف يكون شأنهم في هذا العصر الذي كسد فيه ما كان رائجًا، وخسر ما كان

رابحًا، وفسدت التعاليم، وانحرف الكثيرون عن الصراط المستقيم.

انتدب بعض مَن آتاهم الله نصيباً من الحكمة، وحظًّا من فصل الخطاب،

وحبس نفسه على إنارة العقول بالعلوم العالية، وتنبيه الأفكار إلى طرق التعليم

المفيدة [2] ، فعقد مجلساً في الجامع الأزهر لقراءة علم الكلام الأعلى، فازدحم عليه

لشهرته الألوف، وضاق الرواق العباسي، حيث يقرأ بالطالبين، وتوقع أعداء

العقل في الأستاذ تأييد مذاهب الفلاسفة وترجيحها على مذهب المتكلمين؛ لأنه

فيلسوف، وأذكوا عليه العيون والجواسيس، ووقفوا لكلامه بالمرصاد، فبدا لهم منه

ما لم يكونوا يحتسبون، وألفوا أن مذهبه في العقائد مذهب السلف الصالح، وأنه

يرى مزج كتب الكلام بأقوال الفلاسفة مضرًّا في التعليم، كما يضر مزج أي فن من

الفنون بآخر. ولما لم يجدوا مجالاً للطعن، ولا مساغاً للقدح، لجئوا إلى الانتحال

والاختلاق، وصمموا على الإفك والبهتان، وألقوا في مسامع العامة أن فلانًا أنكر

وجود الله تعالى أو وحدانيته، ونفثوا في روع الذين يدعون بالخاصة أن الشيخ قال:

إنه يستغنى بلفظ (الرحمن) عن لفظ (الرحيم) ، وإن ذلك كان في الجامع الأزهر

على رءوس الأشهاد! !

ما أسرع سريان الباطل، في الشعب الجاهل، لم يمضِ بعض أيام، حتى

انتشرت الكلمة الخبيثة (إنكار الوجود أو الوحدانية) في مصر، وكادت تعم سائر

أنحاء القطر، فرددها أصحاب المحفل والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي، حتى

إن من يتلقفها من أفواه الناس يتوهم أنها منقولة بالتواتر، وإنما مرجعها أفاك أثيم،

ألقاها لبعض السفهاء من أصحاب الوغم واللغم (الإخبار بالشيء عن غير يقين)

فأذاعوها، وساعد على انتشارها شهرة من نسبت له مع غرابة الخبر في نفسه وفي

مكانه.

ورب قائل: هل من شبهة في كلام الأستاذ كانت متكأ لمن أذاع ذلك عنه أم

اختلقوا عليه إفكاً؟

والجواب عن هذا يُعلم مما أقصه في المسألة، وهو أصدق القصص فيها؛

لأنني كنت حاضراً مجلسه الذي يحضره مع الطلاب كثير من المدرسين.

كان المتجرم عليه يشرح لحاضري مجلسه أن طريقتهم التي هم عليها في

تحصيل العلم عقيمة، وأن دعواهم أنها تشحذ الأذهان وترهف حد الفكر فيقوى على

الفهم غير مُسَلَّمة بالنسبة لمسائل العلم. وأن قوة الذهن في إيراد الاحتمالات

والمحاورة في أساليب الكتب غير مفيدة، بل هي مضيعة للعلم نفسه، ولذلك لا نكاد

نرى محصلاً لثمرة الفنون العربية، وهي فهم الكلام العربي الفصيح والإتيان بمثله،

ولا لثمرة العلوم العقلية، وهي الاقتدار على الاستدلال الصحيح، وإنما قصارى ما

عند القوم: حكاية ألفاظ الكتب التي بين أيديهم، قال: وإنني أعطي مائة جنيه لمن

يفسر لي منكم (يعني طلاب العلم) آية من القرآن الكريم، أو يقرر لي مبحثاً من

مباحث المنطق على فهم تام، أو يقيم لي برهانًا عقليًّا على وحدانية الله تعالى،

يثبت مقدماته ويدفع عنها الشبه التي ترد عليها قبل أن يسمع ذلك مني، وكان كل

حاضر في ذلك المجلس يعلم أن غرض الأستاذ أن يقرر لطلاب العلم تقصيرهم،

يستنهض بذلك همتهم، ويثير حميتهم لتكميل أنفسهم بسلوك الطريقة المثْلَى لتحصيل

العلم. فحرف المتذقح الكلم عن مواضعه، وأشاع قطع الله لسانه أن الأستاذ ينكر

الوحدانية، حيث ينكر إمكان إقامة الدليل عليها، واشتبه على قوم الوحدانية بالوجود،

فوقع الخلاف في الإشاعة، فقال جماعة: إنه أنكر الوحدانية، وآخرون: إنه

أنكر الوجود.

ولو كان لهؤلاء الغوغاء عقل يرجعون إليه، أو علم بالدين يحكّمونه في القول،

لعلموا أنه لا يمكن لعاقل أن يصرح بعقيدته الفاسدة على ملأ من الناس في أشهر

المساجد ومدارس العلم الديني، وأنه لو فرض أنه قال: لا يمكن إقامة برهان عقلي

على وحدانية الله تعالى، فلا يقتضي ذلك إنكاره الوحدانية، لجواز اكتفائه بالدليل

الشرعي، ولأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أن الأستاذ المتجرَّمَ

عليه قد أقام على الوحدانية أقوى البراهين العقلية في رسالته التي يقرؤها في الأزهر،

وهي بين الأيدي، ونسخها تعد بالألوف، وقد قرر في الدرس ذلك البرهان

وأوضحه بأجلى بيان.

ويل للأفاك الأثيم، أراد أن يطعن بمحسوده، فطعن بدينه، فقد وصلت أفيكته

إلى القسوس الدعاة إلى النصرانية، فطفقوا يحتجون على عوام المسلمين بأن أحد

أكابر علمائكم قد قال في أشهر جوامعكم ومدارسكم على ملأ من شيوخكم ورؤساء

دينكم: لا يمكن إقامة دليل على وحدانية الله تعالى، ومن أقام على ذلك حجة

قيمة فأنا أعطيه مائة جنيه. وقد عجزوا عن إجابته أجمعون.

كبرت كلمة هو قائلها، فقد جاءت كلمته مصداقًا للحديث الشريف (إن الرجل

لَيتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً) .

وأما الكلمة الأخرى، فقد كانت اختلافًا بحتًا، وبهتانًا محضًا، فإن الأستاذ بيَّن

وجه إثبات (الرحيم) مع (الرحمن) بما هو أقوى من المشهور في الكتب المتداول

بين أهل العلم فقال ما مثاله: أن صيغة (فعلان) تدل في اللغة على الصفات

العارضة، كعطشان وغرثان وغضبان، وصيغة (فعيل) تدل على الصفات الثابتة

الراسخة، كعليم وحكيم ورحيم. وكلام القرآن جاء بالأسلوب العربي، حتى في

الحكاية عن صفات الله تعالى التي تتنزه عن مشابهة صفات المخلوقين من العروض

والزوال، ومن مقتضى الأسلوب العربي عدم الاستغناء في مقام المدح بالصيغة التي

تدل على الوصف العارض، عن الصيغة التي تنبئ عن النعت الثابت، وإن كان

في الأولى زيادة في المبنى، تدل على زيادة في معنى الصفة. ولا يخفى على

بصير أن هذا أوجه من قول الجمهور: إن (الرحمن) هو المنعم بجلائل النعم،

و (الرحيم) هو المنعم بدقائقها، إذ يمكن أن يقال فيه: إن المنعم بالجلائل يكون

منعمًا بالدقائق بالأولى، وإن ردوه بما لا مقنع فيه. على أن بعض العلماء قال: إن

(الرحيم) تأكيد (للرحمن) . ولكن المتقدم يجب التأويل له وإن صادم الحقائق،

والمتأخر يجب الطعن فيه وإن أظهر الدقائق، وباب الاحتمال يسع جميع الغابرين،

ولا يجوز أن يلجه واحد من المعاصرين، بل يُتجنى على المعاصر وإن لم يجن،

ويُتجرَّم عليه إذا لم يجرم، هذا هو مذهب علماء السوء في كل عصر، وهذه

شنشنتهم في كل قرية ومصر، وبمثل هذا القيل والقال يفسدون اعتقاد العامة،

ويرفعون من نفوسهم الثقة بالعلماء، ولعمر الحق إننا قد شاهدنا عند هذا الأستاذ

(المتقوَّل عليه ما مر) من الأدب مع القرآن، ما لم نر مثله في هذا الزمان،

حتى إنه لينهر طلاب العلم كل يوم عن إساءة الأدب في الأسئلة عن كلام الله تعالى

وصفاته، ولقد أنب من قال له يستغنى بوصف (الصراط المستقيم) عن قوله تعالى

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) ووبخه أشد التوبيخ على سوء أدبه،

وإن كان غرضه الاستفهام لا الجزم، ويعرف هذا كله جميع من يحضر درسه وليسوا

بالقليل.

فالله الله في العلم والدين، واعلموا أن مضرة الفتن في هذا العصر تربو وتزيد

على مثلها في العصور السالفة، وعداوة العقل والعقلاء، والطعن بالفلاسفة والحكماء

تتعدى غميزته للدين، لاسيما إذا كان بعنوان الدين.

ونحن نفتخر بديننا أنه أرشد الناس إلى استعمال العقل، وحث على

النظر والاستدلال، وجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وتمم مكارم الأخلاق، فما لنا

نتذقح ونتجنى على علمائنا وعقلائنا، ونغش أنفسنا بأننا ننصر بذلك ديننا ونرضي

ربنا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *

وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور: 16-18) .

_________

(*) فاتحة العدد الثاني عشر الذي صدر في 18 المحرم سنة 1316.

(1)

إشارة إلى جريدة كان اسمها: " النهج القويم " وهذا ابتداء كلام المنار.

(2)

هو الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.

ص: 199

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البوفيه وما فيه

مراتب الرذائل والشرور خمس:

(الأولى) : أن يقترف الجاهل ما تدعوه إليه صفاته الرذيلة من الفواحش

والمنكرات وراء الستر وحيث لا ترمقه عيون الناس.

(الثانية) : أن يأتيها حيث تعنّ له سرًّا أو جهراً، فلا يبالي أطار اللوم أم

وقع!

(الثالثة) : أن يدعو إليها ويرغب فيها، وأهل هذه المرتبة هم الذين أطلق

عليهم القرآن العزيز لقب الشياطين {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ

غُرُوراً} (الأنعام: 112) .

(الرابعة) : أن يفتخر ويتبجح باجتراح السيئات وارتكاب المنكرات،

ويباهي بها الأقران، وينافس فيها الأقتال، وأهل هذه المرتبة هم شر الأشرار على

الإطلاق، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء.

(الخامسة) : أن يعتقد أن ما هو فيه فضيلة وكمال، بحيث يود البقاء

وينتقص من يخالفه فيه، وأصحاب هذه المرتبة هم الأخسرون أعمالاً والأرذلون

أخلاقًا، هم أصحاب الدرك الأسفل من الجهالة وسفاهة العقل وأفن الرأي. وليس

كل مجاهر بالقبيح أو داعٍ إليه يعتقد حسنه ونفعه، ويحقر المحسنين الأخيار، بل لا

يصدر هذا إلا من المسخاء الذين انسلخوا من الإنسانية، وهبطت بهم تربيتهم

السوأى إلى مرتبة جمعوا فيها بين شهوة البهائم وخبث الشياطين، ولا يمكن للقلم أن

يصف شناعة هذه المرتبة، ويحيط بنقائص ذويها، وإنما يمكن أن يحكم حكمًا جازمًا

بأن يشتق لهم صيغة (أفعل) من كل نقيصة ورذيلة، ويعجبني في هذا الموضوع

قول الفيلسوف أحمد بن مسكويه الرازي رحمه الله تعالى في كتابه (تهذيب الأخلاق) ،

حيث قال:

(ثم ارجع إلي القهقرَى إلى النظر في الرتبة الناقصة التي هي أدون مراتب

الإنسان، فإنك تجد القوم الذين تضعف فيهم القوة الناطقة، وهم القوم الذين ذكرنا -

أنهم في أفق البهائم، تقوى فيهم النقائص البهيمية، حتى يرتكبوها، ولا يرتدعوا

عنها، وبقدر ما يكون فيهم من القوة العاقلة يستحيون منها، حتى يستتروا منها

بالبيوت، ويتواروا بالظلمات إذا هموا بلذة تخصهم، وهذا الحياء منهم هو الدليل

على قبحها، فإن الجميل بالإطلاق هو الذي يتظاهر به، ويستحب إخراجه وإذاعته،

وهذا القبح ليس بشيء أكثر من النقصانات اللازمة للبشر، وهي التي يشتاقون

إلى إزالتها، وأفحشها هو أنقصها، وأنقصها أحوجها إلى الستر والدفن، ولو سألت

القوم الذين يعظمون أمر اللذة ويجعلونها الخير المطلوب والغاية الإنسانية: لم

تكتمون الوصول إلى أعظم الخيرات عندكم، وما بالكم تعدون موافقتها خيراً ثم

تسترونها؟ أترون سترها وكتمانها فضيلة ومروءة وإنسانية، والمجاهرة بها

وإظهارها بين أهل الفضل وفي مجامع الناس خساسة وقحة؟ ، لظهر من انقطاعهم

وتبلدهم في الجواب ما تعلم به سوء مذهبهم، وخبث سيرتهم، وأقلهم حظًّا من

الإنسانية إذا رأى إنسانًا فاضلاً احتشمه ووقره، وأحب أن يكون مثله، إلا الشاذ

منهم، الذي يبلغ من خساسة الطبع ونزارة الإنسانية ووقاحة الوجه إلى أن يقيم

على نصرة ما هو عليه من غير محبة لرتبة من هو أفضل منه) اهـ.

ومن الأسف العظيم أن ما عدَّه هذا الحكيم شاذًّا من شواذ الأشرار الذين هم في

المرتبة السفلى من مراتب الإنسانية، بل في أفق البهيمية قد أصبح في زماننا هذا

كثيراً جداً، ومعظم ذويه من الطبقة العالية (بحسب العرف العام) في هذه البلاد.

{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19)

تنظر أحدهم فتراه مرآة لرذائل الغرب، وتصغي لكلامه فتسمع (فونغراف)

هجر الشرق، أضاع فضائل أسلافه الأولين، ولم يحفظ شيئاً من فضائل أئمته

الآخِرين،] إن هذا لهو البلاء المبين [.

كثرت شكوى فضلاء البلاد من هؤلاء المتفرنجين، لعلمهم أن سيرهم هذا هو

الذي يؤدي إلى خراب البلاد، ويودي بحياتها الصورية والمعنوية، ولما رأوا

(المنار) قائمًا على سواء الصراط (بعون الله تعالى وتوفيقه) ، يدعو الناس إلى

السير في الجادة، وينهاهم أن يتبعوا إلى السبل المتفرقة، وأن يسلكوا الشعاب

المضلة، طفقوا يقترحون علينا أن نندد بمضار التفرنج، وننتقد عادات مدعي

التمدن، لا سيما الدعوات والمآدب التي يقيمونها على الطراز الإفرنكي، وقد

استمهلناهم في العدد التاسع ريثما نختبر ذلك فلم يمهلوا، وجاءنا عن جماعة منهم

إفصاح عن الدعوة إلى ما يسمى (بوفيه) ، وما فيها من المجاهرة بالمنكر،

والمنافسة في الرذيلة. وإننا نذكر الآن ملخص رقيمين وردا إلينا من ذلك:

(الرقيم الأول)

حضرة الأستاذ الفاضل منشئ جريدة المنار الغراء حفظه الله تعالى.

بعد تقديم واجبات الاحترام، نرجو التكلم في موضوع التقاليد القبيحة التي

صارت عند المسلمين في مصر المحروسة عادة يأتيها معظم أهل الطبقة العليا، لا

سيما التظاهر بالمحرمات في الولائم والدعوات.

تنقسم الدعوة إلى قسمين، سواء كان سببها زواجًا أو ختانًا أو نذرًا:

القسم الأول: أطعمة اعتيادية. والقسم الثاني - ويقال له: (ذواتي) ، يعد له

أحسن محل في المنزل يسمى عندهم: (بوفيه) ، يحتوي على أصناف من

المسكرات والفواكه، وما يلزم شرب الخمر حسب العادات الإفرنجية، يتباهون

بإتقانها، ويحسبونها عادة مباحة، ويسمونها تمدنًا جديداً.

والمصيبة (الكبرى) في الليالي التي يتلى فيها القرآن الشريف، يجعلون

التلاوة في محل الخدم، وأما المحلات المفتخرة فيضعون فيها (البوفيه) ، ويفتح

بابه الساعة 9 مساء (إفرنكي) بمعرفة أعز الأحبة باحتفال كبير، بنطلونات

وعمائم، ومنهم المكلفون بتهذيب الأخلاق وتربية الأطفال في المدارس وغيرها،

ولا تجد مستمعًا للقرآن الشريف إلا الخدم وقليل من الأصاغر الطاعنين في السن،

أما سادتنا المتمدنون (على زعمهم) ، فإنك تجدهم منكبين على معاقرة الراح

ومنادمة الصباح.

إذا تأخر أحد الموجودين عن الدخول في قاعة (البوفيه) يقولون: (إنه عديم

الذوق) ، وقد فسدت أخلاق الذرية من مشاهدة هذه الأعمال اهـ.

(الرقيم الثاني)

(وهو من جماعة)

حضرة السيد الفاضل منشئ المنار الأغر:

كنا نظن أن بدعة التفرنج محصورة في مصر، ويُخشى من انتشارها في

جميع القطر في بضع سنين، وأنه إذا تكلمت الجرائد المعدة لخدمة الأمة والدين مثل

المنار في الإنكار على ذويها - ربما تتلاشى أو تقف محصورة في قليل من الناس،

ويعلم الأجانب أن هذه البدعة مغايرة للدين، وأنه ينهى عنها، وإن كانت صادرة من

وجهاء وأفاضل متنورين، ويا ليتها كانت من مجاذيب مولد السيد رضي الله تعالى

عنه؛ لأنها حينئذ لا تتعداهم (حيث لا يُقتدى بهم) ، وتحسب من ضمن أمورهم

المخالفة للشريعة الغراء، ولكن هذه المفسدة إنما تصدر من حضرات المعوّل عليهم

في الهيئة الاجتماعية.

وبينما نحن وكثير من الناس منتظرون همة أمثال حضرتكم، وإذ قد ظهر أن

المصيبة عمت أغلب جهات القطر، ومن الاطلاع على تذكرة الدعوة بإسكندرية

والتلغراف الخصوصي المرسل من الزقازيق إلى المؤيد (الواصلين لفا) ، تعلم

حضرتكم أن هذه البدعة صارت عادة يفتخر بفعلها في الجرائد، وتعلم أيضاً سرعة

سيرها في أقرب وقت، ولا يخفى ما ينتج عنها في المستقبل، فهل بعد هذه مصيبة

يلتفت إليها انتصارًا للدين القويم اهـ.

أما التلغراف المرسل ضمن الرقيم فخلاصته أن وجهاء مركز منيا القمح

احتفلوا بمأدبة فاخرة على النمط الإفرنكي الذي تقدم شرحه في الرقيم الأول، فويل

لأولئك الوجهاء مما كسبت أيديهم ويا خسارتهم في دينهم ووطنهم، ويا ضيعة فخرهم

بالفسق الذي أذاعوه بلسان البرق. وأما رقعة الدعوة فهي مشتملة على هذه الأبيات

مطبوعة.

سنة الهادي تنادي

آل ودي بالحضور

عندنا القرآن يتلى

فهو نور فوق نور

شرفونا يا أحبه

للتهاني والسرور

وظاهر الأبيات أن الدعوة إلى شيء من الفضائل الدينية التي تسن إجابتها

شرعًا، وأن تلاوة القرآن تضاف إليها فتكون نوراً على نور، ولا يختلج في الذهن

أن ذلك الداعي الأثيم إنما يدعو الناس لمعاقرة الراح ومنادمة الصباح ويستهزئ

بالدين القيم الذي يتبرأ منه بافترائه على الله، وجرأته على رسوله صلى الله عليه

وسلم، بزعمه أن سنته تدعو لحضور مجالس الشراب، واحتساء الكئوس والأكواب

وقرنه بين نور القرآن، وظلمة الدِّنان، مشايعة لشاعر الفجور، في تسميتها

بالنور.

كُتب على ظهر الرقعة التي أرسلها أصحاب الرقيم (أن المدعو بها توجه ليلاً

إلى دار الداعي فرآه غاصًا بأًولياء الشيطان، من الأحباب والخلان، وأكواب الخمر

تدار على الجميع جهاراً، لا يخشون عاراً، ولا يتوقعون إنكارًا، فسأل عن المشايخ،

فقيل له: إنه استعار لهم قاعة في دار جاره، فوافاهم هناك وهم عشرة من

المعتبرين، والمستمعون للقرآن الشريف ثلاثة ليس غير، ولدى الاستفهام من

الداعي عن علة هذا الخلط المنكر أظهر تأسفه وألقى ذلك على عاتق أكثر إخوانه

الذين وضعوا هذا الترتيب الإفرنكي محاكاة لليالي المتمدنين في مصر) .

ويظهر من هذه الكتابة أن هذا الداعي لم تتمكن منه البدعة تمام التمكن، وأنه

إنما أجاب طلب قرناء السوء، ووافق رغبتهم حياء منهم (تأمل كيف انقلب الأمر

وانعكس حتى صار يستحى من ترك القبيح) في أن يكون من الذين يعملون السوء

بجهالة، ثم يتوبون من قريب، وأن لا يتمادى مع هؤلاء الأشرار الذين يتلفون عليه

دينه وماله، ويوهمونه أنه يكون بذلك متمدناً، فوالله إن أمثال هؤلاء هم الذين

يهدمون بنيان المدنية، ويقوضون سروحها، حيث يفيضون ثروة البلاد على

الأجانب، يستبدلون بها ألقاباً لا تصدق عليهم، وأسماء لا مسميات كلقب:(التمدن)

و (المتمدن) .

ليس التمدن تقليد الأوروبي

فيما انتحاه من العادات والزي

ولا التقدم في رفع القصور ولا

نقش الجدار ومبثوث الزرابي

إن المقلد لا ينفك معتنقاً

للضعف يخبط في ليل دجوجي

بل التمدن ملزوم التقدم مدعاة

الرفاهة منفاة الألاقي [1]

روح شريف به تحيا الشعوب بما

يبث فيها من العلم الحقيقي

حتى ترى كثرة الأفراد راجعة

لوحدة والفرادى كالأثابي [2]

والاختلاف بآراء الرجال لأجل

الاتفاق على نيل الأماني

روح يفاض بأرض الكاملين على

جسم الوجود من الجود الإلهي

قوم قد انفردوا من بين أمتهم

لخدمة الكل في الشأن العمومي

هذا هو التمدن، لا تقليد مترفي الإفرنج في تشييد القصور ومعاقرة الخمور

والمجاهرة بالفجور تحت اسم الحرية والتمدن.

إن هذه الخبائث وإن كانت موجودة عند القوم، إلا أنها ليست ممدوحة عند

فضلائهم وعقلائهم، ويعتبرونها من آفات مدنيتهم لا من مقوماتها، وهي آخذة

بالنقصان، لا سيما السكر، فقد أثبت المقتطف الأغر في بيان تاريخ المسكرات أن

السكر قَلَّ في أوروبا بالنسبة لما كان منذ ستين عاماً، مع أن أوروبا تستحل الخمر،

وشدة البرد فيها يدعو إلى السكر، وقد ألفوا جمعيات للسعي في إبطاله، ولم نسمع

أنهم بلغوا من التفنن بالفسق والاستهانة بالدين أنهم يشوبون مجالس الشراب بقراءة

الكتاب أو يدعون إلى معاقرة الراح باسم الإنجيل. أهذا هو الدين الذي فقدته أوروبا

وحرص عليه الشرق؟ أهذا هو الاعتناء بشأن القرآن الذي تفتخر به مصر على

جميع البلدان؟ فاتقوا الله أيها الوجهاء في دينكم فلا تنتهكوه، وفي وطنكم فلا

تضيعوه، فقد حكم غير واحد من عقلاء أوروبا بأن انقراض الأمم المتوحشة سيكون

على يد الأشربة الروحية، ولا يعنون بالأمم المتوحشة إلا أنتم وأمثالكم من الذين

فرطوا في حقوق أوطانهم، فغلبهم عليها أهل الجد والتشمير، ولا يخرجنكم من

الهمجية سرركم المرفوعة، وأكوابكم الموضوعة، بل ذلك مما يسجل عليكم الجهل

والغباوة، فإنكم بعتم الدنيا والدين بهذا العرض الحقير. اتقوا الله في أبنائكم وبناتكم،

وتبصروا في تأثير اجتماعاتكم في نفوسهم ترون أن الصبوح والغبوق، يطبع

عليها بطابع الفسوق، من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر من أهله

وعياله، ثم من سائر الناس، والتمسوا الشرف من وجوهه الصحيحة التي تخضع

لها قبعات الأوربيين وبراطلهم، كما يعترف بها العالم بأسره، وما هي إلا الشركات

المالية لإنشاء المكاتب والمدارس لتعليم أبنائكم وبناتكم، لقد مزق إنذار الوقائع غشاء

آذانكم، وكادت تفقأ عبر الحوادث عيونكم، فمتى تسمعون، وأَنَّى تبصرون، إنا لله

وإنا إليه راجعون.

_________

(1)

الألاقي: هي الدواهي.

(2)

الأثابي: الجماعات مفرد أثبية.

ص: 206

الكاتب: كاتب تركي كبير

‌دار السعادة

ورد إلينا من بعض أفاضل الكتاب في الباب العالي كتاب بليغ يقرّظ به

(المنار) ، فعهدنا إلى بعض العارفين باللغة التركية من كتاب العربية البلغاء

بترجمته، فترجمه ببعض تصرف لتناسب الترجمة الأصل في بلاغته، وإننا

ننشرهما بنصهما لما فيهما من التنبيه.

(الأصل)

فضيلتبناه أفندم:

منار واصل يد افتخار أولدي؛ محاكمة انتقاد أيله أو قودم، أو قدر بكندم كه

ملكمزده هنوز مثلى نشر أو لنمد يغنه حكم ايتدم. بلاغتي حكمتله مزج ايدوب بر

سحر حلال ابداع ايتمشسكزكه ذوق آشنيايان ومعنى شناساني مفتون ومسحور

ايتمامك قابل دكلدر. ملتك احوالنه نظر حكمتله باقوب مصاب أولد يغمز وهن

وانحطاط علت مهلكه سنك سببنى علاجني كشف ايتديكز تربية وتعلم كافل سعاد تمز

درد يديكز بو حكمكز بك مصيبدر. اخلاقمز جدا فاسد در، تربيه يه محتاجز حقيقة

جاهلز، تعلمه مفتقرز. سبزك كبي أولي الأبصار بزبيجاره لري نوم أصحاب

الكهفى كجن موتى آكديران شوكرا بخواب غفلتدن ايقاظ ايتمليدرار. سائقه عماي

نادانى ايله صايد يغمز شوكريوه ضلالتدن دوشد يكمز شوكرداب مذلتدن قورتاروب

شهراه هدايته منهاج عزته ارشاد ايلمليدرار. اخلاقمز اوقدر فاسد دركه، وطن.

حب وطن. حميت تعاون، ميل معالى نه در بيلميورز، أو قدر جاهلزكه معارف؛

زراعت، تجارت، صنعت، اقتصاد، ترقي، عمران، نه ديمكدر فهم ايتميورز،

بويله شيلر له اشتغال ايدنلري استحقار ايدرز. بزكميز نه ايدك شمدى نه يز صكره

نه أوله جغز بيخبرز بهايم كي سوق طبيعتله حركت ايديورز:

الناس في غفلة عما يراد بهم

كأنهم غنم في دار جزار

منار ايجون اختيار بيورد يغكز منهج قويم بك مستقيمدر، بونده ثبات ايديكز

كه جريدة فريدة كز زمانمزده كي غزته لره بكزه مسون. فساد نيت وسوء مقصد له

نشر أو لنوب خيانت وخبائتي رداءت ودنائتي مرام ايدينان غزته لردن قطع نظر

ظاهراً سلامت فاكار أو زرينه مؤسس أو لديفى ظن ايديلن غزته لربيله أغراض

ايله أوغراشوب، وبعضاً اعراضه قدر تجاوز ايدوب مشاتمه دن جكنميورلر.

شوني ده عاجزانه عرض أيده يم: مباحثاتده قانون مناظره دن زنهار آير لمايكز

اعلاى مدعاية دل إظهار حقه جالشما ليسكزكه خدمتكز مبرور سعيكز مشكور

خطيئتكز مغفور أولسون سرك كبي دهاة وهداته لا يق أولان بودر. باقي عرض

احترام ومخابرة ده تمنئ دوام أفندم.

(التعريب)

سيدي الفاضل:

تناولتُ مناركم الأغر وقرأته معملاً الفكر في تنقُّده، فذهب بي الإعجاب إلى

أنه خير ما نشر في بلادنا من الصحف إلى الآن، ولقد مزجتم فيه البلاغة بالحكمة

مزجاً يصف السحر ويختلب الفكر [1] ، صرفتم البصر تلقاء شؤون الأمة وأحوالها،

وذهبتم إلى أن ما رهقها من الوهن ورزئت به من التقهقر ليس له علة سوى الجهل

وفساد الأخلاق، وأن العلاج الناجع إنما هو تعميم التربية والتعليم الصحيح فهما

الكفيلان بإسعاد الأمة، ولعمر الحق إنكم لم تتعدوا الحقيقة في هذا الحكم.

لا يعترض الشك في فشو الجهل بين أفراد الأمة، وغلبة سوء الأخلاق على

طباعها، فالأمة إذن في أمسّ الحاجة وأشد الافتقار للتربية والتعليم.

لا يسأل أحد عن إهماله مثلما سئل ذوو البصائر عن تقاعدهم في سبيل تنبيهنا

وإيقاظنا من سبات الغفلة التي تحكي نوم أهل الكهف، بل تكاد تكون موتًا.

عليهم أن يرشدونا إلى جواد العزة وَلَاحِب المجد ويوضحوا لنا سبيل الهداية

وينتاشونا من هوة المذلة التي سقطنا فيها، وشعاب الضلالة التي ساقنا إليها الجهل،

وسفالة الأخلاق.

كيف لا نكون في الدرك الأسفل من الأخلاق ونحن لا نعلم ما هو الوطن، ما

هي الحمية، ما هي الفتوة، ما هو التعاون، وما هو الميل إلى المعالي. أم كيف لا

نكون في أشنع الجهل ونحن لا نفقه للمعارف والزراعة والتجارة والصناعة

والاقتصاد والترقي والعمران معنى، بل بلغ بنا السفه إلى أن ننتقص من يهتم

بالسعي إلى هذه الأمور المقدسة، أعندنا علم بحقيقة أمرنا؟ أليس من العجب أن لا

نتبصر فيما كنا عليه وما نحن عليه، وإلى ما نحن صائرون؟ وما أرانا إلا كالبهائم

المرسلة تتقلب في تكاليف الحياة بسائق الفطرة وحادي الطبيعة.

والناس في غفلة عما يراد بهم

كأنهم غنم في دار جزار

إن النهج الذي آثرتموه في إنشاء المنار لَمِنْ أمثل الطرق وأقصدها، فالزموا

هذا النهج وثابروا على هذه الخطة، فتصبح صحيفتكم فريدة في بابها، منقطعة

القرين بين نظرائها، غُضّ الطرف عن الأوراق التي نشرها مرضى القلوب ملوثين

باسم الخيانة والشرارة، مسترسلين في الإفساد والدعارة، وألقِ أشعة بصرك نحو

الصحف التي يزعم ذووها أنهم إنما أنشئوها خالصة للوطن، عاملة على نشله،

متفانية في خدمته، لا جرم أنك تجدها تذهب مع الأغراض، وتصغي لوسوسة

الأهواء، ولا ناهية لها عن البذاء والسباب، بل تتعدى تارة إلى نبش الأسرار،

ونهش الأعراض، ومما يجدر بكم المضي عليه في صحيفتكم هذه أن لا تتنكبوا في

مباحثاتكم عن أصول المناظرة، واحرصوا كل الحرص على أن يكون غرضكم

إظهار الحقيقة، والأخذ بيد الحكمة، لا إثبات مدعاكم، وتأييد رأيكم كيف ما كان،

هذا هو الأحجى بمن كان مثلكم من هداة الشعوب، وقادة أفكار الأمم، وبذلك تكون

خدمتكم لوطنكم مبرورة، ومساعيكم لدى أهله مشكورة، وهفواتكم عند الله مغفورة.

وفي الختام أقدم الاحترام وأتمنى مراسلتكم على الدوام. مولاي.

_________

(1)

والترجمة الحرفية لهذه العبارة هكذا: فبلغ من إعجابي به أن حكمت بأنه لم ينشر إلى الآن مثله في بلادنا، وبلغ من مزجكم البلاغة فيه بالحكمة أنكم أبدعتم فيه إبداعًا يستحيل أن يكون أرباب الذوق وفقهاء المعاني غير مسحورين به.

ص: 214

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صيحة حق [*]

أيها الشرقي كيف يطيب لك النوم على غوارب هذه الأمواج المضطربة، وفي

مهابّ هذه العواصف العاتية، أما أزعجك هذا الموج الملتطم، وأرهبك هذا اللجُّ

المغتلم، أما أقلقك هزيز [1] هذه الرياح المتناوحة، وهزت جسدك زعازعها

المتراوحة، أما صخّت آذانك، [2] وخدّرت جثمانك، فتعذر إسماعك وتحسيسك [3] ،

ووقع اليأس من إيقاظك وتنبيهك، لو أنك يقظان لكنت أجدر بالأطيط [4] من

الغطيط [5] ، وأخلق بالزفير والشهيق، من المكاء والتصفيق، ويحك هل أنت فاقد

الرشد لصغر سنك، واختبال عقلك، أم أنت زمِن عاجز؟ إذا كنت صحيح العقل

والجسم فكيف رضيت أن تقيم الأجنبي وصيًّا، وقيماً عليك بحيث إذا لم يقدم لك مادة

طعامك ولبوسك وكنّك وأدوات الوصول إليها تموت من الجوع والعري، وهو لا

يسمح لك بهذا اللماج [6] الذي تأكله، والسمول [7] الذي تلبسه، إلا ليستخدمك

ويستعملك كما يستعمل الآلات الميكانيكية، لا يخدعنك ما ترى في بلادك من مظاهر

الثروة على بعض أفراد التجار، فلو أقفلت في وجوههم مصارف (بنوك)

أوروبا، وغُلَّت أيدي تجارها عن إمدادهم لحاصوا حيصة الحمر، واضطربوا

اضطراب الأرشية [8] في الطويّ [9] البعيدة القعر، لا تغرنك أرض بلادك (أطيانك)

الواسعة؛ فقد نقصها الغربيون من أطرافها، بل كادوا يحيطون بأكتافها، وقبضوا

على موارد الثروة فيها، حتى أنهم ليبيعونك ماءها الذي تحتسيه، ويتقاضونك أجرة

طريقك الذي تجول فيه، لا تزدهينك عظمة حكامك، فقد أمسوا مغلوبين على

أمرهم، ومنفذين لإرادة غيرهم، إلا قليلاً ممن أنجاه الله تعالى منهم، ولست أخص

بهذا ما يفتات به رجال الإنكليز على الحكومة المصرية من نحو بيع سفنها

وصفاصفها [10] مثلاً، بل أعمّ به كل قانون جادت به الحكومات الشرقية

(لا سيما الإسلامية) على أهل أوروبا، فجارت بذلك وعدلت عن طريق الفضيلة

الدينية، كإباحة السكر والبغاء والكشف الطبي على البغايا الذي تقشعر لتصوره

جلود الذين آمنوا، وينفعل لتذكره روح كل معتقد بدين سماوي. قلنا: إنهم

مغلوبون على أمرهم، لكن هذا الغلب لم يجبروا عليه بكُرَى [11] المدافع ورصاص

البنادق، وإنما كان لضعف في الدين، ووهن في العزيمة، وجهل بعاقبة الأمور.

أدهشتهم عظمة أوروبا، واستهوتهم زخارف مدنيتها، فطفقوا يتقربون إليها،

ويقلدونها بأقبح ما لديها، عن غير روية ولا بصيرة، ألا ساء ما كانوا يعملون.

دع عنك التفكر بسيئات الحكومات، واصرف بصرك إلى وطنك، وماذا يجب

له عليك. حدق النظر واستطلع الخفايا واسْتَجْلِ الدقائق يتجلّ لك أنك دعامة وجوده،

وروح حياته، بك يعيش ويحيا، وبك يموت ويفنى، بك يعز ويغنى، وبك يذل

ويشقى، وإذا تجلى لك هذا تشعر بأن لك شأنًا عظيمًا في الوجود، وتحس بقواك

المقدسة التي أودعها مدبر الكون في جرثومتك الإنسانية، فتندفع إلى طلب الفضيلة

الحقيقية، والكمال الصحيح الذي أنت له أهل، ولا ترضى أن تكون نقاعًا [12]

انفجانيًا [13] أو إمعاً [14] أو غطاريًّا [15] ، وإن رضي بذلك الجماهير الذين فقدوا هذا

الشعور والإحساس الشريف. كل من يرى نفسه في قصور عن إسعاد وطنه وإعلاء

منار أمته، فهو كافر بنعمة العقل، محروم من الكمالات الإنسانية التي ارتفع بها

البشر، عن مرتبة الحمر والبقر.

مَنْ أحط شأنًا ممن يرى أن السعادة الإنسانية، في التمتع بالشهوات الحيوانية،

ويقنع بأن يفوقه الثور في أكله، والعصفور في سفاده، والطاووس في لبوسه،

والفرس في خيلائه، والثعلب في حيله، ويطيب له العيش وهذه العجماوات أفضل

منه وأكمل فيما حسبه فضيلة وكمالاً.

إيه، إن من الحشرات ما يعمل ويسعى لجنسه ووطنه كالنحل والنمل،

أفترضى أيها الشرقي أن تكون أخس من الحشرات وأنقص من الهوامّ؟ إلى متى هذا

التفرق والتبدد، والتوحيد والتفرد، مد يدك لمواطنك ومشاركك في مواد حياتك،

وتعاهدوا وتعاونوا جميعاً على ما فيه منفعة الجميع، أخلط مالك بماله، تختلط نفسك

بنفسه، واعملوا مجتمعين، فقد كفاكم ما جناه عليكم التفرق والانفراد.

بادروا الزمان، قبل فوات الإمكان، فيوشك أن لا يدع الدخيل لكم باباً من

أبواب الثروة إلا أقفله، ولا سبباً من أسباب النجاح إلا قطعه، فماذا ينفعكم التنبيه إذا

أغلقت دونكم الأبواب، وتقطعت بكم الأسباب، ألِّفوا الشركات المالية، وشيدوا

المدارس الوطنية، وربوا أبناءكم وبناتكم على ما تقتضيه مصالحكم الوطنية،

وآدابكم الدينية، فلا نجاة ولا نجاح لكم إلا بهذا.

وأما التشدق بالقيل والقال، والجلاء والاحتلال، وقطع الزمان بالأماني

والتشهي، وتأسف العجائز والزمنى، فهو مما يضيع الفرص، ولا يغني عنكم شيئاً،

والماضي عنوان الآتي.

معاشر العثمانيين، وأنتم أول مَن أعني بالشرقيين، ليذكِّرْ عالمكم جاهلكم،

ولينذر متنبهكم غافلكم، ألفوا الشركات وعلموا البنين والنبات] وَلَا

يَجْرِمَنَّكُمْ [16] شَنَآنُ [17 {قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) ، ولا يصدنَّكم

اختلاف المذاهب عن الاتفاق على المكاسب، فقد رأيتم العبر في البلاد التي

أصاخت لوساوس الأعداء، وعملت بدسائس الدخلاء، وكيف خربت ديارهم،

واجتثت أشجارهم، وسفكت دماؤهم، ويُتِّمَتْ أبناؤهم، وما كان من قلب أوضاع،

واستباحة أبضاع، والدين من وراء ذلك ينهى عن انتهاج هذه المسالك.

تفكروا في معنى الأمة والوطنية، واقدروا حق الشعب قدره، يتضح لكم أن

الأمة تتكون بالاجتماع على الانتفاع، وبالاتحاد على نيل المراد، وتربية الحاكمين

الذين يقيمون النظام، ويحفظون الأمن العام، يسهل على الشعب أن يربي أفرادًا

وأممًا، ويعسر على الآحاد أن تربي شعباً كبيراً وأمة عظيمة، لاسيما مع قلة المال،

وسوء الحال، فحتام التعلق بأذيال الحكومة، والتشبث بأهداب الآمال الموهومة،

والإنحاء على الدولة بالتقصير، والانخداع بالغش والتغرير.

تنبه جماعة من إخواننا الأتراك إلى أن الأمة في حاجة إلى إصلاح، ولكنهم

جهلوا طريقه أو تجاهلوه، فلجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم إلى مصر، وأنشأوا

جرائد للتنديد بسياسة المابين الهمايوني، ونالوا من مقام الحضرة السلطانية ما نالوا،

وطعنوا في رجال الدولة العلية، وسوَّأوا أعمالهم وأحكامهم، والتفّ عليهم قوم

آخرون، ولا يخفى على الناس ما يسرون جمعيهم وما يعلنون، ولو صرفوا

أقلامهم إلى التعليم، لهدوا إلى صراط مستقيم.

أو لم يكفهم أن سلطانهم وإمامهم هو مقاوم بسياسته وحكمته لأوروبا كلها، وأنه

قد أوقف بقواه العقلية الباهرة من تيارات الحوادث، وسكن من عواصف الكوارث

ما تعجز عنه الجماعات، بل الأمم، حتى قال فيه رئيس ساسة الإنكليز الذين

يفوقون ساسة كل الأمم وهو المستر غلادستون الشهير: (إن السياسة الحميدية

تغلبت على السياسة البريطانية وقهرتها في المسألة الأرمنية) ، والفضل ما شهدت

به الأعداء، واعترف به الخصماء، فإذا تفرغ من هذا شأنه لإعارة الأعمال الداخلية

نظراً ألا يعد ذلك من خوارق العادة في القوى البشرية؟ ! بلى وإن مولانا السلطان

الأعظم قد بذل من العناية في داخلية ممالكه ما لو ساعده عليه أهلها ولم تَعُقْ سيره

فتن السياسة، لنهض بها نهضة عظيمة، كما يشير إلى ذلك قول (الأستاذ اللغوي

فمبيرى الرحالة المجري) من بضع سنين في ترجمة مولانا السلطان - أيّده الله

تعالى - وهو [18] :

(أقول عن ثقة وروية: إنه إذا استمر الأتراك سائرين في المنهج الذي نهجه

لهم سلطانهم، وإذا لم تعرقلهم مشاكل السياسة ومخاطرها - بلغوا مبلغًا يُذكر فيُشكر

بعد زمان وجيز، وتوطد أساس ارتقائهم العقلي والاقتصادي ووجودهم السياسي في

مستقبل الأيام. ولقد قال لي جلالة السلطان يوماً: (قد جعلت السلم غرضي، أسعى

إليه جهدي، إذ السلم هو الدواء الذي يشفي ما أصابنا في الماضي من قروح

التقصير، وأدواء الإهمال، وسوء التدبير) ، وذكر أنه سمع من جلالته أيضًا ما

ترجمته: (إن أوروبا قد عزقت أرضها، ومهدت تربتها أعوامًا وعصوراً، حتى

جاءت بما نراه فيها من مصادر الحرية والمنشآت الحربية، والآن يطلبون إليَّ أن

أقتلع فسيلة من منابت الحرية فيها، وأغرسها في أراضي آسيا الوعرة البائرة

القاحلة.

دعوني أتعهد هذه الأراضي قبلاً بما يحسنها، فأقتلع أشواكها، وأرفع أحجارها،

وأفلح تربتها، وأخدّ الأخاديد، وأحتفر الأقنية لإروائها؛ لأن أمطار آسيا قليلة نادرة،

ثم أنقل تلك الفسيلة إليها، وأكون أول من يطيب نفسًا ويقر عينًا بنمائها ونضارتها

وغضاضتها) [19] .

نعم إن إطلاق الحرية للشعب الجاهل يزجّ به في الفواحش ويفضي به إلى

الهرج والفوضى، فلا بد من السعي في تعميم التربية والتعليم، مع نوع من الحجر

والتقييد، وإطلاق الحرية لأصحاب الأفكار والأقلام رويدًا رويدًا في ضمن دائرة

الشرع، خلافًا للمفتونين من حزب تركيا الفتاة، الذين يسيرون في طرق مجهولة،

ويرمون لأغراض غير معقولة، ولقد صدق مولانا أيده الله تعالى فيما أشار إليها من

كون أراضي نفوسنا قاحلة من المعارف، وفيها أشواك وتضاريس ينبغي إزالتها قبل

إلقاء بذور الحرية فيها، ولقد صدقنا وعده بالاجتهاد في إزالة الموانع وإدالة المنافع،

ولكننا لم نساعده على تحقيق أمانيه الشريفة، بل منا من تعدى الحدود وما وفّى

بالعهود [20] .

أين الشركات التي عقدناها، والمدارس الوطنية التي شيدناها، أما منحنا

امتيازات لإنشاء سكك حديدية فحملت الجهالة من نعدّهم من أمثلنا وأنفسنا، على

إيثار الأجانب على أنفسنا، وبيع الامتيازات بأبخس ثمن، مع أن بيعها بمعنى بيع

الوطن، أنشأ الأمير العاقل سعادتلو محمد باشا المحمد مدرسة في عكار فحباه برتبة

عالية (ميرميران) ، ووسامات زاهية، وأنعم على المدرسة بكتب قيمة، ونسبها

إلى ذاته المعظمة، (الحميدية) ، فإن وراء هذا ترغيب وتنشيط، وهل ينبغي أن

يكون معه تقاعد وتفريط، ولولا اشتغال مولانا أيده الله تعالى بحل المشكلات

ومعالجة المعضلات، لأنال الملك بحزمه وهمته آماله، وبلغنا من الارتقاء فوق ما

قدر بذلك الرحالة.

وخلاصة القول: أن مولانا السلطان الأعظم سدّده الله تعالى جار على قاعدة

تقديم درء المفاسد على جانب المصالح، وما يعلم أنه الأهم على المهم، ومع ذلك لا

يأتلي أن يكافئ من أصلح خللاً، وأحسن عملاً، وأنه يتعين على علماء الأمة

وأغنيائها أن يوافوا رغبته في إصلاح داخلية البلاد، والعمل على ترقيتها، لا سيما

تعميم التربية الحقة والتعليم الصحيح، فهما الكافلان باستئصال الأمراء الخونة

والحكام الظلمة، والعاملان على اصطلام [21] الغي والفساد، والبغي والإداد [22] هما

المطهران للنفوس من أدران الرذائل، والمسبغان على الأرواح حلل الفضائل، بل

هما الروح الذي تحيا به الشعوب والأمم، والنور الذي تستضيء به في دياجير

الظلم، ولا يمكن الحصول على الغرض منهما إلا بإرشاد العلماء، وإرفاد الأغنياء،

فمن قصر في وظيفته منهما فهو خائن لأمته ودولته، عدو لوطنه وملته، فالجهل

خير من علم لا ينفع، والإملاق (الفقر) أفضل من ثراء (غنى) لا يرفع، ومن

يرغب عن الحكمة إلى اللهو، ولا يعرض عن مجالس اللغو، فهو جهول، وإن

وسموا بالعلم تدجيله، وصاحب فضول، وإن سموه صاحب الفضيلة، ومن يحرز

المال في صناديق الحديد، ويمسكه عن كل مشروع مفيد، وهو يرى بلاده تباع

للدخلاء، وأزِمّة ثروتها تتنازعها الغرباء، وأبناءها منغمسين في الترف، وبناءها

على شفا جرف، فهو الخاسر المغبون، والخائن الملعون، والأخرق المجنون،

إنفاقه سفه وتبذير، وإمساكه شح وتقتير، بل خراب وتدمير، وإن رفعت قصوره

ومراتبه، ونصبت موائده ومآدبه، وجرت مركباته (عرباته) وجرت مراكبه

(ذهبياته) .

فالوطنَ الوطنَ أيها المصريون، الوطنَ الوطنَ أيها العثمانيون، جانبوا

البطالة والكسل، وأجيبوا داعي العلم والعمل، احفظوا جامعتكم العثمانية، وأخلصوا

للدولة العلية، تعاونوا على البر والتقوى، وتمسكوا من الحزم بالسبب الأقوى،

وابتدروا المنهج القويم، ولا تكونوا كدابغة وقد حلِم الأديم [23] والله يهدي من يشاء إلى

صراط مستقيم.

_________

(*) فاتحة العدد الثالث عشر الذي صدر في 25 المحرم سنة 1316.

(1)

صوت الريح.

(2)

أي ضربتها فأصمتها.

(3)

جعلك تحس.

(4)

صوت من أثقله حمله.

(5)

صوت النائم.

(6)

أدنى ما يؤكل.

(7)

ثوب خلق.

(8)

جمع رشاء: وهو حبل الدلو.

(9)

البئر.

(10)

أراضيها المستوية.

(11)

جمع كرة.

(12)

المتكبر بما ليس عنده.

(13)

بمعنى الأول والمفرط فيما يقول.

(14)

هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم، فيتابع كلَّ أحد على ما يريد.

(15)

هو الرجل الذي لا خير عنده ولا شر.

(16)

يحملنكم.

(17)

بغض.

(18)

إن هذا الأستاذ قد قال هذا القول في أوائل عهده بمعرفة السلطان، ثم كان له فيه رأي آخر، كما وقع لنا، فقد علم وعلمنا أن السلطان كان هو العائق للعثمانيين عن الترقي، وقد انكشف لنا الحق بعد الاستقرار في بلاد الحرية - مصر - بنحو سنة، (راجع مقدمة هذه الطبعة) .

(19)

إنه لبث في الملك نحو ثلث قرن ولم يفعل شيئا مما قال، بل كان يطارد العاملين وينكل بهم.

(20)

أما والله إني كنت معتقدًا لهذا القول يوم كتبته، وإنما كان اعتقادي فيه باطلاً وغرورًا من سببه الشبهة الآتية.

(21)

استئصال.

(22)

جمع إدّ هو المنكر والعجب والأمر الفظيع والداهية.

(23)

حلم الأديم: وقع فيه الحلم (دود) فأفسده، والكلام يضرب مثلاً لمن يحاول إصلاح أمر بعد فساده واليأس منه.

ص: 217

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌القوة في المال

رسالة حكيمة وردت إلينا من أحد كتاب دمشق الشام الأفاضل، فأثبتناها لما

فيها من التنبيه والفائدة، شاكرين فضل مُرْسِلها وغيرته وهي:

نِعْمَ المُعِينُ على المروءة للفتى

مال يصون عن التبذل نفسه

لا شيء أنفع للفتى من ماله

يقضي حوائجه ويجلب أنسه

وإذا رمته يد الزمان بسهمه

غدت الدراهم دون ذلك ترسه

المال ولا أزيد القراء به علماً من أعظم أسباب السعادة والرفاه، وبواعث

السؤدد والمنفعة والجادة، بل هو المحور الذي تدور عليه الأعمال، وتناط به

الآمال، وتحط عنده الرحال، وتوجه إليه همم الرجال، فلا يستغنى عنه في حال من

الأحوال.

لابد للمرء من مال يعيش به

وداخل القبر محتاج إلى الكفن

بالمال تقضى الحاجات، تنال الرغبات، وترد اللهفات، وتضاعف

الحسنات، وتستجلب الدعوات، وتعمل الخيرات، وترفع الدرجات، فهو زينة

الحياة، وغاية الغايات.

شيئان لا تحسن الدنيا بغيرهما

المال تصلح منه الحال والولد

زين الحياة هما لو كان غيرهما

كان الكتاب به من ربنا يرد

والفقر أعاذنا الله وإياكم منه، هو البلاء الأكبر، والموت الأحمر

إذا قل مال المرء قل حياؤه

وضاقت عليه أرضه وسماؤه

وأصبح لا يَدْرِي وإن كان حازمًا

أَقُدَّامُه خير له أم وراؤه

كم صير العزيز ذليلاً، والشريف وضيعاً، وقد ورد فيه: (كاد الفقر أن يكون

كفراً) وما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.

غالبت كل شديدة فغلبتها

والفقر غالبني فأصبح غالبي

إن أبده أفضح وإن لم أبده

أقتل فقبح وجهه من صاحب

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله

ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

وفي الحديث الشريف: (لا خير في مَن لا يحب المال ليصل به رحمه،

ويؤدي به أمانته، ويستغني عن خلق ربه) ، ومن كلام الإمام الثوري: المال في

هذا الزمان عز للمؤمن. ومن كلامه أيضًا المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.

هذا قليل من كثير مما قيل في فضل المال وفوائده ومنافعه، بالنظر للأفراد،

وأما بالنظر للأمة ففوائده أعظم وأجل، وفقده أدهى وأمر، قال حكيم: لا دولة إلا

بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمارة. فالمال هو ميزان قوة الأمة،

وداعية مجدها واستقلالها، خصوصاً في هذا الزمان الذي أضحى مدار الأعمال فيه

على المال؛ إذ بالمال تسد الثغور، وتشاد القلاع والحصون، بالمال تجمع الجموع،

وتحشد الجيوش، بالمال تصان الحدود من هجمات الأعداء، وتسير الأساطيل في

عرض البحار، بالمال تبتاع العدد من أسلحة ومدافع وذخائر، فالقوة كل القوة في

المال، كما أن كل الصيد في جوف الفرا، ولا حياة للأمة بلا مال، ولا وجود ولا

استقلال، ومعلوم أن ثروة كل دولة من ثروة أمتها، وثروة الأمة من ثروة الأفراد،

فإذا كان الأفراد أغنياء كانت الأمة غنية، وإذا كانت الأمة غنية كانت الدولة قادرة

على حفظ دمارها، وحماية بيضتها وصد هجمات الأعداء عنها، ومنع مطامع

الطامعين فيها، إذ لا يخفى أن الجسم المادي كبيرًا كان أو صغيرًا - من الكرة التي

يلعب بها الأولاد الصغار إلى أكبر الثوابت - هو مؤلف من جواهر فردة، وقوته

عبارة عن مجموع قوة هذه الجواهر، فكذلك الدول العظيمة مؤلفة من مجموع أفراد

تبعتها، وقوتها عبارة عن قوة تلك الأفراد، فإذا أعنت صانعاً على إحياء صناعته، أو

تاجراً على توسيع تجارته، أو زارعاً على إتقان زراعته، فقد أحسنت إلى ذلك

التاجر والصانع والزارع (أولاً) ، وزدت في ثروة بلادك (ثانيًا) ، وفي أمتك

ودولتك (ثالثاً) ، والعكس فالصانع والتاجر والزارع يجب أن يكون لهم المقام الأول

في الهيئة الاجتماعية؛ لأن عليهم مدار الثروة والقوة.

فإذا علمت هذا ظهر لك خطأ بعض الجهلاء، المُتَّسِمين بسمة العلماء، الذين

يُزهِّدون الناس في الأشغال والأعمال، ويثبطون هِمَمهم عن العمل بحجة أنهم

يُزهِّدونهم في الدنيا الفانية، ويقربونهم من الآخرة الباقية، وإن الساعة على وشك

القيام، فلا حاجة إلى هذا الاهتمام، يحسبون بذلك أنهم يُحسنون صنعاً، ألا ساء ما

يعملون، يعتاضون بهذا عن تنشيطهم الناس بصفة أنهم قادة العقول، إلى النهوض

من سنة الخمول، إلى الكد والجد ومناظرة غيرهم في جهاد الأعمال والأشغال، فإن

الدنيا مزرعة الآخرة، والشرع الإسلامي لم يحظر على أحد الكسب والارتزاق

بالوجوه المشروعة، وقد جاء في الحديث: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل

لآخرتك كأنك تموت غدًا) ، وما ورد من التزهيد في الدنيا يراد به الزهد بما في

أيدي الناس.

وأما احتجاجهم على وشك قيام الساعة، فالساعة علمها عند الله سبحانه وتعالى،

كما جاء في الكتاب، وما يعنينا إن كانت قريبة أم بعيدة، فعلينا أن نعمل بتلك

القاعدة الذهبية التي وضعها أحد الفضلاء، وتربى أولادنا عليها وهي: (إذا أخبرنا

مَلَك من السماء بأننا سنموت غدًا فيجب أن نتم واجباتنا اليوم ونموت غدًا) ، ومعلوم

أن موارد الكسب ثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة (سنفرد لكل واحد منها مقالة

في المستقبل) ، وقوامها كلها بالتوفير والاقتصاد، وليس المراد بالتوفير الشح

والبخل المذمومين شرعًا وعقلاً، بل إتقان أساليب الكسب والارتزاق وتوفير الثروة

العمومية وإصلاح التجارة والزراعة والصناعة على الطرق التي يجري عليها

الغربيون، ورائد ذلك كله العالم الصحيح، كما سنبينه في فرصة أخرى.

والقصد من هذا التمهيد كله ذكر بعض ما شاهدته في الديار المصرية مما

يُذْهِب ثروة أهلها وملاشاتهم، إن ظلوا على سباتهم وغفلتهم، وذلك أني زرت

الديار المصرية منذ عشرين سنة وزرتها في العام الماضي، فوجدت فرقاً كليًّا في

الزيارتين، وجدت في الزيارة الأولى مصر للمصريين، وفي الثانية مصر للدخلاء

والغرباء، وجدتهم قابضين على الوظائف المهمة، والأشغال العظيمة، وجدت

المالية بيدهم، وكذا التجارة، والبنوكة، والأشغال العمومية، وجدت الوطنيين آلة

صماء بأيديهم، وجدت أكثر أبناء الأعيان الذين هم رجال المستقبل منغمسين في

المنكرات، عاكفين على اللذات، ينفقون المال جذافاً في سبيل البذخ والشهوات،

وكثيرين منهم باعوا ما تركه لهم أسلافهم من الأطيان والعقار وأضاعوه في المقامرة

وأخواتها من الفواحش، وجدت الوطنيين مثقلين بالديون للأجانب، وجدت أكثر

سراتهم ووجهائهم عاكفين على اللهو والبطالة، وأحوالهم في تأخر وتقهقر،

والأجنبي يبتز أموالهم ويتملك أطيانهم، وإذا سافر أحدهم إلى البلاد الأوربية، كما

هي عادة بعضهم في زمن الصيف وإبان القيظ، فلا يعود منها بتجارة أو صناعة

تعود عليه وعلى بلاده بالنفع والفائدة، بل بأحمال من الأزياء والعادات الإفرنجية،

التي تذهب بجانب كبير من ثروته إذا لم تذهب بمجموعها. وقد شاهدت واحداً منهم

فتح مخزناً كبيراً لتجارة واسعة قرب الأزبكية، فتنازل الخديوي أيده الله يوم فَتْح

المخزن لتشريف مخزنه بذاته الكريمة، وهنأه بذلك تنشيطًا لغيره باحتذاء مثاله.

ثم جُلت في الأرياف حتى انتهيت إلى الحدود، فرأيت مثل ما رأيت في

البنادر الكبيرة وزيادة: رأيت الدخلاء قد نصبوا فيها للفلاحين المساكين فخاخ

المسكر والميسر والفواحش والربا الفاحش، يوقعونهم فيها ويستولون على أطيانهم.

رأيت في الأقصر دارًا كبيرة حمراء على هيئة البرابي المصرية القديمة لرجل

أجنبي، قدم البلاد منذ بضع سنين، فسمع أن الفلاحين يستدينون الجنيه الواحد

بخمسة غروش في الشهر، فاستوطن ذلك المحل، وأخذ يقرض الفلاحين الدنانير

بذلك الربا الفاحش، فأثرى إثراءً مفرطاً، وبنى تلك الدار على الهيئة التي ذكرناها،

وقلما مررت بكفر إلا ورأيت فيه المواخير والحانات ومحلات المقامرة والفحش،

والعمد والفلاحين عاكفين عليها أي انعكاف، وكنت إذا مررت بعزبة عامرة وفيها

الآلات المتقنة لري الأرض أسأل عنها فيقال لي: إنها لفلان الأجنبي ابتاعها حديثًا

من فلان الوطني، وإذا مررت بعزبة عامرة تسقَى بالشادوف أو الساقية أسأل عنها

فيقال لي: إنها لفلان الوطني، وهو على وشك أن يبيعها؛ لأنه مثقل بالديون بالبنك،

أو لفلان الأجنبي، وفي الجملة إنني رأيت تنازع البقاء في هذا القطر بالغاً أشده

بين الوطنيين والدخلاء، ولا بد أن يؤدي إلى نتيجته المعلومة (بقاء الأنسب) أي

ملاشاة الوطنيين (لا سمح الله) إذا ظلوا على حالتهم الحاضرة، وقيام الدخلاء

مقامهم، فيصبحون لديهم أجراء يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم، فبمثل هذا

يجب الوعظ والإنذار، ولمثل هذا يجب توجه الأفكار وتنبه الهمم، ولما كانت

جريدتكم من الغيرة والحمية بالمكان الذي نعلمه ويعلمه الجميع كتبت إليها بهذه

العجالة مع علمي أني بذلك كمهدي السمك إلى البحر، والتمر إلى هجر، وبالله

التوفيق.

_________

ص: 225

الكاتب: محمد رشيد رضا

بيع الحكومة المصرية لسفنهاوأطيانها وسككها [1]

باعت الحكومة المصرية لأجل حملة السودان البواخر الخديوية لشركة

إنكليزية وكانت قررت بيع تفتيش الوادي لكن لم يبرم الأمر فيه؛ لأنه وقف،

وقررت أخيرًا بيع الدائرة السنية لشركة إنكليزية فرنسوية مصرية، لكن الشركة

تطلب تحويرًا في شروط البيع، فلم يحصل القبول للآن، وعزمت على بيع سكك

حديد السودان، فأرسل الباب العالي رسالة برقية للجناب الخديوي في ذلك وهذا

ملخصها على ما جاء في جريدة الأهرام الغراء.

(إن إنكلترا باحتلالها مصر قد أعلنت مرارًا احترام حقوق السلطة العثمانية

على وادي النيل، مما نشكرها عليه، ولما كانت سكك حديد السودان طريقاً حربية،

فإنه يستحيل بيعها إلى شركة، ولا سيما إذا كانت أجنبية، ونحن نعلم احتياج مصر

إلى المال للقيام بنفقة الحملة السودانية، ولكن الأموال متوفرة في صندوق الدين،

فيمكنها أن تتناول منه ما تحتاج إليه، ومع ذلك فإن الباب العالي يسمح لمصر بعقد

سلفة لنفقات السودان، وهو مستعد لإصدار فرمان شاهاني بذلك) اهـ.

_________

(1)

وردت هذه النبذة في العدد الثاني عشر.

ص: 230

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بيع سكك الحديد السودانية

أهم ما يشغل الأفكار، وتلهج به الألسنة في هذه الديار: مسألة بيع سكك حديد

السودان لشركة إنكليزية، كثرت في المسألة الإشاعات، وأنشأت الجرائد اليومية

فيها المقالات الضافية، وقد ذكرنا في العدد الماضي ما نقل من اعتراض الباب

العالي على الحكومة المصرية، وإبطال احتجاجها باحتياجها للمال للنفقة على حملة

السودان، ويروى عن السبب في ذلك أن اللورد كرومر طلب من سمو الخديوِ

المعظم المصادقة على البيع، وأطلعه على رسالة برقية جاءته من اللورد سالسبري

يأمره فيها بإلزام الحكومة الخديوية بتنفيذ هذا البيع، فأبى سموه الرضا والقبول،

ورفع الشكوى من هذا التشدد إلى مقام المتبوع الأعظم، فترتب عليه الاعتراض.

ويشيعون هنا أن الجناب العالي الخديوي سيشتري تلك السكك بماله الخاص، إذا

رأى أنه لا مندوحة عن بيعها، وأن الشركة الإنكليزية لا تبت البيع إلا بعد الاستيلاء

على الخرطوم، هذا مخلص الأخبار في ذلك وما وراءه فتأسُّف عجائر، وتفجُّع

ثواكل، ورثاء وعزاء، ونشيج وبكاء، هذه عاقبة الشعوب الجاهلة بحقوقها

وواجباتها، المسرفة في أمرها، التي يظن كل فرد من أفرادها أنه كون برأسه،

يرمي ترك التعاون والاجتماع إلى أيدي الذئاب والسباع، لا تفارق الجماعة فتفارق

دينك وأنت لا تدري، فإنما " يأكل الذئب من الغنم القاصية ".

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة التوحيد

قد نجز طبع (رسالة التوحيد) تأليف الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل الشيخ

محمد عبده، العضو العامل في إدارة الأزهر الشريف، ومستشار محكمة الاستئناف

في مصر.

أما الأستاذ فهو من آيات الحكمة البينات، فلا يزيده التعريف بيانًا. وأما

الرسالة فهي في فن الكلام غاية الغايات، لا تطاولها على اختصارها المطولات،

تحقيق بديع في أسلوب رفيع، وحكمة بالغة في عبارات سابغة، يعرف قدرها مَن

نظر في كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا العلم. أثبت مؤلفها - شكر الله سعيه -

في مقدمتها نبذة في تاريخ هذا العلم، ثم بيَّن حقيقة الدين المطلق، وأفاض في شرح

ما امتاز به الدين الإسلامي على غيره من الأديان السماوية الحقة، وكشف الحجاب

عن السر في كونه آخر الأديان، ومن جاء به خاتم النبيين، وحرر فيها مسائل

الخلاف الذي رَمَتْ أهل الاجتماع والتوحيد، بسهام التفريق والتعديد، فذهبت بهم

في دينهم مذاهب مختلفة، ولبَّستهم شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، غفلة عما

جاء به القرآن من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه. بيَّن أن ذلك الخلاف مما لا

يصح أن يكون مفرقاً لو نصف أحد الفريقين وطلب الحقيقة من غير عناد ولجاج،

ومراء في الاحتجاج، استدل بالعقل في موضعه، وبالنقل في موضعه، وسلك في

العقائد مسلك السلف. ولم يَعِِبْ في سيره آراء الخلف. وبَعُدَ عن الخلاف بين

المذاهب، بُعْده عن أعاصير المشاغب، فلا قيل ولا قال، ولا مراء ولا جدال، ولا

تمويه ولا تغرير، ولا تفسيق ولا تكفير، وقد راعى فيها حالة العصر، فأغمض

عن شبه المتقدمين ووساوسهم في الدين، وأسهب في الكلام على الرسالة العامة

وبيان حاجة البشر إليها، وعلى إمكان الوحي ووقوعه، وكونه كمالاً لنظام الاجتماع،

وطريقاً لسعادة البشر، ودفع ما يورده فلاسفة أوروبا من الاستدلال بسوء حالة

أهل الأديان عموماً، والمسلمين خصوصاً على نقيض ما ذكر من مَزِيّة الدين

المطلق، ومن كون الإسلام هو الدين الذي خاطب الله به البشر عند بلوغ النوع

الإنساني رشده، ودخوله في طور العقل، وأنه يمكن أن يكون عليه الناس كلهم من

مدنيتهم الحاضرة وما بعدها إلى يوم الدين.

وبالجملة: إن هذه الرسالة هي التي يصح تبليغ الدعوة بها في هذا العصر على

الشرط المعروف (وهو أن يكون على وجه يستلفت النظر) ، وأنها هي الدليل على

ترقي العلم عند المسلمين، فقد مرت علينا قرون ونحن نسمي النقل من الكتب تأليفًا،

وإن كان نسخًا يشبه المسخ، ظهر فيه للعيان أن كل عصر دون ما قبله، حتى

كدنا نجزم أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائماً في تدل وهبوط، والحق أن

سنة الله تعالى في خلقه أن يكونوا دائماً في تَرَقٍّ وصعود، وأن تدلينا وانحطاطنا كان

لعلل طارئة، وأمراض عارضة، والأمراض في الأمم كالأمراض في الأفراد.

ويسرنا أن الله تعالى أنعم علينا في هذا العصر بأطباء عارفين، يشرحون لنا عللنا،

ويصفون علاجها، وقد نقه منا أقوام وأبلَّ آخرون، ولا نزال إن شاء الله تعالى في

تقدم ونمو، ورفعة ورقي، وبالله التوفيق.

***

قرظ الرسالة بقصيدة غراء حضرة الشاعر الأزهري الأديب الشيخ حسين

محمد الجمل ابتدأها بمدح فضيلة الأستاذ المؤلف وانتقل إلى ذكر الرسالة، وقد رغب

إلينا أن ننشر القصيدة، ولكن ضيق المقام يحول دون نشرها بتمامها، فاقتطفنا منها

ما يلي، ترغيباً في العلم، وحثًّا على اجتناء فوائد الرسالة. قال - بعد أبيات -:

يميناً بما أولاك ما أنت أهله

لقد غبطت نعماءك العجم والعرب

وما غبطوا نعماك إلا لأنهم

رأوا لك فضلاً كل ثانية يربو

بك الشرق قد أضحى عزيزاً وطالما اسـ

تطال عليه واستهان به الغرب

ولما أراد الله إسعاد أزهر الـ

علوم وقد كانت معارفه تخبو

أتاحك مرعيًا فشيدت صرحها

قوّمت منها هيكلاً كاد ينكب

ورصعت في التوحيد أسمى رسالة

وضعت بها ما لم تحم حوله الكتب

فراحت بها تزهو عقود عقائد

كاها على لألائه اللؤلؤ الرطب

فداؤك نفسي إذ جلست مبيناً

سائلها لله فانجلت الحجب

ولم نر في الطلاب إلا مدرساً

آخر منه في العلوم له قرب

وصمت بها آذان قوم نأت بهم

خاف طباع عن نِدَاها فما لبوا

وليس لهم فكر سوى أن عندهم

فاهة أحلام يضيع بها الطب

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم أخبار العدد (13)

(البنك الأهلي)

اتفق بعض متمولي أوروبا على إنشاء مصرف (بنك) في مصر يسمونه

(البنك الأهلي) ، يقنع من الفلاحين بربا قليل بالنسبة لغيره مع ضمان الحكومة

للمقترضين.

ويقال: إن نصف رأس مال هذا المصرف من متمولي الإنكليز، فعسى أن

يتنبَّه المصريون للشركات المالية من هذه الحوادث المتوالية قبل أن تفوتهم منفعة

التنبه.

***

(حقد الإفرنج)

ذكرت جرائد أميركا أن الحكومة الأميركية قد طبعت على كل رغيف من

الخبر الذي تقدمه لعساكرها (اذكروا الدارعة ماين) ، وهي التي نسفت في مياه

هفانا، تقصد بذلك تهييج الجند على الانتقام. وذلك نحو مما تربي عليه فرنسا

أبناءها من التذكير بمسألة الإلزاس واللورين، وإحفاظ قلوبهم على ألمانيا.

فليعتبر الذين لا يبالون بأمر بلادهم وأوطانهم إن كانوا يعقلون.

***

(جريدة الأصمعي)

جاءتنا الأعداد الثلاثة الأوائل من جريدة عربية يومية سياسية، أنشئت في

سان باولو من البرازيل سميت (الأصمعي) لصاحبيها الكاتبين البارعين خليل أفندي

ملوك وشكري أفندي الخوري، وقد سرنا ما ذكر في العدد الثالث من إقبال النزلاء

السوريين على الجريدة، حتى إنه لم يرد الجريدة منهم إلا نحو عشرين رجلاً،

وكانوا يُقدّرون أن يرد لهم ربع ما وزعوا على الأقل لأنهم أكثروا من العدد الأول

جداً، فهكذا يكون حب المعارف وتعضيد أهلها. لعمري إن السوريين عموماً

واللبنانيين خصوصاً يجدر بهم الافتخار على كل أبناء العرب في ذلك، ونحن نرجو

لرصيفتنا الجديدة زيادة الإقبال والرواج مادام لذلك في بلادهم مجال.

***

(تدبير المنزل)

أهدانا حضرة الفاضل فرنسيس أفندي ميخائيل مدير مطبعة التوفيق كتاب

(تدبير المنزل) من تأليفه، ضمنه ما تمس إليه الحاجة من هذا الفن، وعباراته في

غاية السهولة، لا تسمو على إفهام البنات المبتدئات فنحثهن على الإقبال عليه، إذ

لا يجدن في بابه مثله في العربية.

***

(شكر وثناء)

نسدي خالص الشكر والثناء إلى الجريدة الهندية الغراء، التي قرظت بلغاتها

جريدتنا المنار على خطتها ومشربها، ورغبت أهل العلم في الإقبال عليها، ونخص

بالثناء التي نقلت وتنقل عنها ما تختاره وتنتقيه من المواضيع التهذيبية، فالتعاون

مفتاح السعادة (كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) .

وبهذه المناسبة نثني على أنصار المعارف من أفاضل تلك البلاد الذين يطلبون

الاشتراك، ويقدمون ثمن الجريدة سلفًا. كثَّر الله من أمثالهم في الأمم الشرقية.

***

نقترح على الشعراء تشطير الأبيات الآتية ونظم معناها بأبيات أخرى:

يقولون ما نار بقلبك أوقدت

ومن أين تأتي النار أدركك السلب

فقلت لهم بلورة العين قابلت

أشعة شمس الحب فاحترق القلب

***

قال لي مَنْ أحب مِنْ أين نار

هي في القلب منك قلت اعتذارا

إن عيني بلورة قذفت في

وسط قلبي من نور وجهك نارا

***

(عبادة الغربان)

استهل أبو العلاء المعري إحدى مراثيه بقوله:

نبي من الغربان ليس على شرع

يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع

ولو علم أن في الناس مَن يعبد الغربان لأودع ذلك في شعره الذي كان

يجري فيه مع الخواطر، وهل يعبد الغربان أحد في العالم؟

نعم، قرأنا في مجلة أنيس التلميذ الغراء أن اليابانيين على تمدنهم واتساع

دائرة العلوم والفنون العصرية عندهم - لم يزالوا يعبدون الغربان، ويعتقدون

أن الغراب هو الطير الذي قلع عين الشيطان بمنقاره، ومنعه بذلك من أن يطفئ

نور الشمس المشرقة؛ ولهذا يقدسونه كثيرًا، ويتحملون أذاه.

***

(دفاع عن صاحب جريدة معلومات)

ساءنا ما تجرأ به بعض الرعاع في الآستانة على رصيفنا الفاضل عزتلو

طاهر بك أفندي، صاحب جريدة (معلومات) الغراء، وما علمنا الحامل

لأولئك السفهاء على التعدي على مثل هذا الفاضل حتى ضربوه فأدموه. ولقد

تناقلت هذا الخبر جرائد الأقطار مقرونًا بالتأسف والاستياء، ولقد علمنا أن لا

خطر من ذلك على حياته، فنهنئه بالسلامة ونرجو له البرء العاجل.

_________

ص: 233

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌النميمة والسعاية [*]

قلنا في مقالة سابقة: (إن التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي،

تنال به هذه الوجودات سعادة الحياة وحياة السعادة) ، وقد يخفى على كثير من

القراء وجه الارتباط بين التهذيب وبين حياة هذه الموجودات وسعادتها، وإن كنا

أثبتناها في تلك المقالة بالبرهان، ونحن نشرح لهم الآن حال خِلّة واحدة من الخلال

المذمومة، وتأثيرها في إفساد المجتمع الإنساني، وصدها عن المدنية الصحيحة

التي هي سعادة الأمم، وهي النميمة والسعاية فنقول:

النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول له أو غيرهما،

وإذا كان الكشف إلى مَن يخشى جانبه سمي: سعاية.

اتفقت التعاليم الدينية والعقول البشرية على أن هذه الخلة الذميمة إحدى الكبر،

لا تذر شملاً إلا فرقته، ولا جمعاً إلا شتته، وأنها مولدة الفتن، ومقطعة الروابط

الاجتماعية، تدع الإنسان يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وتقلب

الحقائق، فتجعل المحسن مسيئاً، والصديق عدوًّا، وتسم الأمين بسمة الخائن، وتبرز

النافع في صورة الضار، وتلبس الإصلاح ثوب الإفساد، وتقيم من الفضائل تمثالاً

للرذائل فهي من أدواء الأمراض الروحية التي تعرض في الأمم فتفسد نظامها،

وتمزق نسيج التئامها، وتقوض هيكل عمرانها، هذه الرذيلة تبنى على ثلاث رذائل

هن أثافي الذل (كما قال بعض الفضلاء) :

(1)

الكذب الذي هو شر الشرور، ومفجر طوفان الفجور، ورافع الثقة من

بين الجمهور، مقرب البعيد ومبعد القريب، وطامس أعلام العلم، ودارس منار

الحق، ومقرر أصول الجهالة، آفة التجارة والكسب وسائر المعاملات، محلل

العقود، وناكث العهود، فلا يتم له نظام، ولا يتأتَّى معه التئام.

(2)

الحسد الذي يقطع صلات الأرحام، ويزعزع أركان النظام، ويعشي

عين البصر والبصيرة، فتبصر الحق باطلاً، وتشاهد الحالي عاطلاً، يحول دون

التعاون والتناصر، والتكاتف والتعاضد، ويبعث على التخاذل والتدابر، ويحمل

ذويه على أن يبخسوا الناس أشياءهم، ويعيثوا في الأرض مفسدين، فهو عدو

المدنية الألد، وخصمها اليلندد.

(3)

النفاق الذي يفسد الطباع، ويغير الأوضاع، ويذهب ببهاء المحمدة

الحقة من الوجود، بما يمنح من الألقاب الجليلة، والنعوت الجميلة، لأصحاب

مظاهر الفخفخة الكاذبة، والنفخة الباطلة، يختلس أجور العاملين فيهبها للكسالى من

أهل البطالة، وينتهب ثمرات زرّاع المنافع فيغذي بها العائثين من ذوي المطامع،

فهو بما يحبط من العمل، مدعاة للبطالة والكسل، ومفسد لنظام الإنسان، ومقوض

لدعائم العمران.

رذيلة واحدة من هذه الرذائل الثلاث كافية لإشقاء أمة تَلبَّس بها أفرادها، فكيف

بها إذا اجتمعت؟ وإنما تجتمع مع السعاية والنميمة، حمانا الله تعالى منها.

إن أقبح الوشاية أثرًا، وأشدها ضررًا، هو ما يسمونه (بالمحل والسعاية) ،

وهو ما يقتُّه المذَّاعون [1] ، ويبثُّونه للأمراء والسلاطين، عن أحوال العمال ونحوهم

من خَدَمَة الدولة والأمة.

هذا هو النوع من الوشاية لا يتجرأ عليه إلا الخائنون لسلطانهم، العاملون على

خراب أوطانهم.

مَثَلُ السعاة والمحَّالين في الأمة مثل الدود الخبيث الذي يدب في الزرع، فيهلك

الحرث، ويحول بين العاملين وبين ثمرات أعمالهم، بل يحرم الأمة كلها من

الانتفاع بأبنائها العاملين، وإن شئت قلت: مثلهم كمثل ميكروبات الأوبئة والأدواء،

تفسد نظام البنية الإنسانية الشريفة من حيث لا يرى دبيبها، وتفتك بالأجسام، ولا

تنال منها عوامل الانتقام، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ

يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء: 108) .

رب صاحب عزيمة، وطريقة قويمة، ينهض لخدمة دولته، ويسعى في

منفعة أمته، يتجشم المصاعب ويتحمل، لكنه لا يكاد يخطو إلا بعض خطوات،

حتى يتصدى له السعاة المحالون، فيقيمون في بعض طريقه العقاب والتضاريس،

ويلقون فيه الشوك والحسك، ويخدون في بعضه الأخاديد، ويحتفرون العواثير،

فإما أن تصد السالك عن المضي في سبيله العقاب التي تساوره، والصعاب التي

تدافعه، فتنحل عزيمته، وتنفصم عرى إقدامه، فينكص على عقبيه، ويرتد إلى

ورائه، فيسرح في مسارح الكسالى، ويرتع في مراتع محبي الراحة والخمول،

حيث مرعى النفاق خصب مريع، ومورد اللهو عذب نمير. وإما أن يتردى في

إحدى العواثير ويتدهور في بعض الهوى والأخاديد، فيندق عنقه، وتفيض روحه،

ويلتحق بشهداء الحق الذين قضوا نحبهم تصبراً، وما قضوا من نجاح أوطانهم

وطرًا، وذهبوا بما كانت تنتظر أممهم من قواهم الفائقة، وعزائمهم الصادقة.

يا سبحان الله! ماذا يسهل على نفوس بعض البشر حمل هاتيك الأوزار،

ويدفع بها إلى الاستهانة بتلك الأخطار؟ يفتك قاطع الطريق برجل ليبتز ماله،

ويتعدى اللصوص على بيوت الناس ليسرقوا متاعهم، فيتبلغوا به في معيشتهم، أو

يمدوا به أديم ثروتهم، فمضرات هؤلاء محصورة، ومثاراتها معقولة، وهي لا

تمس المصالح العامة التي هي مناط سعادة الأمم، وبها قوام مدنيتهم. لكن الوشاة

والسعاة ينسفون منافع أممهم من حيث لا يعود على نفوسهم الخبيثة إلا ما يشفون به

غيظهم، ويبتردون من أوار حسدهم، فتبًّا لمن يبيع أمته وملته بهذا الثمن الخسيس.

ربما يتوقع بعض هؤلاء الأشرار جائزة على سعايته فيلتحق بصنف اللصوص

وقطاع الطرق، لأكله أموال الناس بالباطل، ويمتاز عنهم في الشر بتلك الصفة

الشيطانية، وهي تقطيع الروابط العامة والصد عن سبيل الحق.

أكرر القول بأن الناهبين والسارقين تختص جنايتهم بالأفراد، والسعاة تتعلق

مضرتهم بالأمم والشعوب، فويل لكل هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم،

ربما تغشّ الماحلَ نفسُهُ الخبيثة بأنه ناصح لسلطانه خادم لوطنه؛ لأنه يرى بمقلته

العشواء أن عمل العامل الذي دبت عليه عقارب سعايته مضر في الأمة، فهو يسعى

في إزالة الضرر، وفرق عظيم ما بين النصيحة، والمحل والنميمة، والحلال بَيِّنٌ

والحرام بين، لو كان صادقًا في زعمه لألقى بنصيحته أولاً للعامل، وبين له مضرة

عمله، وأنذره مغبته إذا هو لم يقلع عنه، فإن وضح الأمر، وأصر الآخر على

باطله من غير عذر، يرفع أمره للحاكم علنًا وتحكم فيه الشريعة على رءوس

الأشهاد.

هذه حجة ناهضة يتجلى نصوعها على كماله بالنسبة للناهضين بالأعمال

المفيدة لأممهم على مرأى من الناس ومسمع، وعلى أكمله بالإضافة للذين يرفعون

منار الحق بنشر المعارف النافعة في الكتب أو الجرائد، لاسيما إذا صرح أربابها

كما صرحنا في فاتحة جريدتنا هذه بقولنا: (وتقبل الانتقاد الأدبي من كل أحد،

وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع بدره، ومن أين انبلج فجره،

وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت) ، أمثال هؤلاء لا يمكن أن

يكابر نفسه، من يمحل بهم إلى الحكام بأنه ناصح بمحاولته إبطال باطلهم (على

زعمه) ؛ لأن الباطل لا يمحوه إلا إحقاق الحق، وأما الضغط فإنه يوجب الانفجار،

والمقاومة يترتب عليها الاشتهار.

الإنسان عرضة للخطأ والخطل، ولا يكاد يخلو عمل من خلل، وتشهد بذلك

كتب المؤلفين، وأعمال المتقدمين والمتأخرين، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا

فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، يخطئ قوم فيصلح خطأهم آخرون، وبذلك

تنجلي الحقائق وتتمحص العلوم، حتى تبلغ كمالها، ولا يزال الحق والباطل في

مجادلة ومجالدة حتى يغلب أحدهما الآخر، لكن الحق يعلو وإن عمي عنه الأسفلون،

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

نعم، يوجد في بعض الأمم والدول جمعيات سرية تسعى في الإخلال بالنظام،

وتهدد الأمن العام، كالفوضويين في أوروبا، والعدميين (النهليست) في خصوص

روسيا، وبعض الأرمن في بلاد الدولة العلية، فمن يكايد أمثال هؤلاء، ويحمل بهم

إلى الحكمين، فهو ناصح للدولة والأمة، مع مراعاة الصدق والوقوف عند حدود

العدالة. وهناك أمور أخرى تشتبه على بعض الناس فيها النصيحة بالنميمة والسعاية،

ومن صدق في طلب الحق لا يزج نفسه في أمر خطير من غير بينة فيه (الحلال

بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات

فقد استبرأ لدينه وعرضه) إلى آخر الحديث الشريف.

هذا بعض من كل في بيان مخازي النميمة (السعاية) ومفاسدها، ولو

استقصينا ما ورد في ذلك من الآيات والأخبار، وشرحنا ما يحتف به من الآثام

والأوزار، لأدى بنا ذلك إلى التطويل، ولعل ما ذكرناه كافٍ في التنفير والترهيب،

وما يتذكر إلا مَن ينيب.

آثار في السعاية

جاء رجل إلى علي كرم الله تعالى وجهه يسعى إليه برجل آخر فقال له الإمام:

(يا هذا إن كنت صادقاً مَقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك

أقلناك) . قال: أقلني يا أمير المؤمنين.

ذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: (ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من

كل طبقة من الناس إلا منهم) .

قال مصعب بن الزبير: نحن نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ لأن

السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس مَن دل على شيء فأخبر به كمَن قبله وأجازه،

فاتقوا الساعي، فلو كان في قوله صادقًا كان في صدقه لئيمًا، حيث لم يحفظ الحرمة،

ولم يستر العورة.

دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذن في الكلام وقال: إني مكلمك يا

أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب: قال: قل، فقال: يا

أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم،

خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصخِ

إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، والأمانة تضييعًا،

والأعراض قطعًا وانتهاكًا، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجلّ وسائلهم الغيبة

والوقيعة، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح

دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً مَن باع آخرته بدنيا غيره.

رفع بعض السعاة رقعة إلى الصاحب ابن عباد نبه فيها على مال يتيم يحمله

على أخذه، فكتب على ظهرها السعاية قبيحة، وإن كانت صحيحة، الميت رحمه

الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.

_________

(*) فاتحة العدد الرابع عشر الذي صدر في 2 صفر سنة 1316.

(1)

القتّ: النميمة، والمذَّاع: الكذاب ومَن لا وفاء له، لا يحفظ أحدًا بالغيب، ومَن لا يكتم السر، والذي يدور ولا يثبت.

ص: 236

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدين والمدنية في الشرق

نحن الشرقيين في أشد الحاجة إلى سلوك سبل المدنية القويمة مع المحافظة

على الدين، فالشرق هو مهبط الوحي، ومشرق شموس الأديان، وهو الجدير

بالمحافظة على الدين، وإن استهان به سائر العالمين، الدين وضع إلهيٌّ حق، يأمر

بتزكية النفس وتطهيرها، ويحث على الحب والائتلاف، وينهى عن العداء

والاختلاف، فهو باعث الاجتماع على التعاون، وداعي الرشاد إلى الاتفاق والاتحاد،

يجمع المتفرق، ويوحد المتعدد، وذلك مبدأ المدنية أو هو هي.

يذهب قوم إلى أن البشر قد يستغنون عن الدين في انتظام شملهم، وقوام

مدنيتهم، وأن الإنسان يمكن أن يصل بعقله إلى كل ما فيه سعادته من غير وحي

إلهي، ولا إرشاد سماوي، اكتفاء بالعقل والمشاعر والوجدان والإلهام، التي وهبها

مدبر الكون لكل إنسان، وأعظم شبهة عند هؤلاء على إنكار الوحي زعمهم أنه لا

حاجة إليه، فإذا قام البرهان ونهضت الحجة على حاجة البشر إلى الوحي، وأنه

كمال، لا يتم نظام العالم الإنساني بدونه، يذعنون إلى أن صانع الكون الحكيم لا

يبخل عليهم في إيتائهم ما هو مكمل لوجودهم النوعي، متمم لسعادتهم الإنسانية.

ولما كان المنار يدعو إلى المدنية مع التمسك بالدين أحببنا أن نتحف قراءه من

مسلمين ونصارى ويهود بما جاء في (رسالة التوحيد) من بيان الحاجة إلى الوحي

ووقوعه، فهو البيان الكامل، والتحقيق الذي لم تأتِ بمثله الأوائل، وناهيك بحكمة

مؤلف تلك الرسالة ورسوخه في العلوم الدينية، مع وقوفه التام على حقيقة المدنية،

قال حفظه الله تعالى:

(حاجة البشر إلى الرسالة:

سبق لك في الفصل السابق ما يهم الكلام عليه من الوجه الأول، وهو وجه ما

يجب على المؤمن اعتقاده في الرسل، والكلام في هذا الفصل موجه إن شاء الله إلى

بيان الحاجة إليهم، وهو معترك الأفهام، ومزلة الأقدام، ومزدحم الكثير من الأفكار

والأوهام، ولسنا بصدد الإتيان بما قال الأولون، ولا عرض ما ذهب إليه الآخرون،

ولكنا نلزم ما التزمناه في هذه الوريقات من بيان المعتقد، والذهاب إليه من أقرب

الطرق، من غير نظر إلى ما مال إليه المخالف، أو استقام عليه الموافق، اللهم إلا

إشارة من طرف خفي، أو إلماعًا لا يستغني عنه القول الجلي) .

وللكلام في بيان الحاجة إلى الرسل مسلكان:

(الأول) : وقد سبق الإشارة إليه، يبتدئ من الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية

بعد الموت، وأن لها حياة أخرى بعد الحياة الدنيا، تتمتع فيها بنعيم، أو تشقى فيها

بعذاب أليم، وأن السعادة والشقاء في تلك الحياة الباقية معقودان بأعمال المرء في

حياته الفانية، سواء كانت تلك الأعمال قلبية كالاعتقادات والمقاصد والإرادات، أو

بدنية، كأنواع العبادات والمعاملات.

اتفقت كلمة البشر - موحدين ووثنيين، مِلِّيّين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم

وزن - على أن لنفس الإنسان بقاءً تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت

فناء، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم

في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق

الاستدلال عليه، فمن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومن

ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:

إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة، حافظة لما فيه لذتها، أو ما به

شقوتها، ومنهم مَن رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،

وكان اختلاف المذاهب في كُنْهِ السعادة والشقاء الأخرويين، وفيما هو متاع الحياة

الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم. وتضارب آراء

الأمم فيه قديمًا وحديثًا، مما لا تكاد تحصى وجوهه.

هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبث في جميع الأنفس عالمها

وجاهلها، وحشيّها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد

ضلة عقلية، أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع،

فكما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا - وإن شذ أفراد

منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى أنه لا يمكن

للعقل أن يوقن باعتقاد، ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا: إن لا وجود

للعالم إلا في اختراع الخيال، وإنهم شاكُّون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن شذوذ

هؤلاء في صحة الإلهام العام، المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن

الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول وأشعرت النفوس أن

هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينزع هذا

الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقياً في طور آخر وإن لم يدرك

كنهه.

ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، يشعر كل نفس أنها خُلقت مستعدة

لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة، شيقة إلى لذائذ غير محدودة،

ولا واقفة عند غاية، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب

والغايات، معرضة لآلام من الشهوات ونزعات الأهواء ونزوات الأمراض على

الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عدّ،

ولا تنتهي عند حدٍّ، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع

إنما قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل

الجزاف، فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات، وآلام ولذائذ وكمالات

لا يصح أن يكون بقاؤه قاصراً على أيام أو سنين معدودات.

شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي، وما عسى أن تكون عليه،

ومتى وصلت إليه، وكيف الاهتداء، وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز

الدليل، شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم

يكفنا في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد،

وقضاء الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،

وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب، لا

ندرى متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة، ولا نعلم متى ننتهي إليها.

هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما

في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد، معالم نهتدي بها إلى الغائب، وهل

في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها، وبأن لا

مندوحة عن القدوم عليها، ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما أعد له

فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه، أو إلى معرفة بيد

من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى اليقين

بمناطها من الاعتقادات والأعمال، وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في غاية

الغموض بالنسبة إليك، كلا فإن الصلة بين العالمين تكاد تكون منقطعة في نظر

العقل، ومرامي المشاعر، ولا اشتراك بينهما إلا فيك أنت، فالنظر في المعلومات

الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة.

أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد

والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب للتراسل

أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها بمحض فضله بعض من

يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة، يبلغ

بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنور علمه، والأمانة على مكنون

سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته

وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،

ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب،

فهم من الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،

ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله وما خفي على العقول من شئون حضرته

الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم

الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه

بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع

عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما

هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق

علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات

الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم

بهم الحجة، ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه،

مبشرين ومنذرين.

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد

على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه،

يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام

المواهب التي اختص بها غيره، أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم

حياتَيْهِ، والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم؟ ولم يضع فيها

الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا

النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل،

والغفلة عن موضوع البحث، وهو النوع الإنساني. ذلك النوع على ما به وما دخل

في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب

الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن

يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم

الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيواناً آخر كالنحل والنمل، أو ملكاً

من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض.

(المسلك الثاني) في بيان الحاجة إلى الرسالة يؤخذ من طبيعة الإنسان نفسه،

أرتنا الأيام غابرها وحاضرها أن من الناس من يختزل نفسه من جماعة البشر،

وينقطع إلى بض الغابات أو إلى رءوس الجبال، ويستأنس إلى الوحش، ويعيش

عيش الأوابد من الحيوان، يتغذَّى بالأعشاب وجذور النبات، ويأوي إلى الكهوف

والمغاور، ويتقي بعض العوادي عليه بالصخور والأشجار، ويكتفي من الثياب بما

يخصف من ورق الشجر، أو جلود الهالك من حيوان البر، ولا يزال كذلك حتى

يفارق الدنيا، ولكن مثل هذا مثل النحلة، تنفرد عن الدبر، وتعيش عيشة لا تتفق

مع ما قدر لنوعها، وإنما الإنسان نوع من تلك الأنواع التي غرز في طبعها أن

تعيش مجتمعة، وإن تعددت فيها الجماعات، على أن يكون لكل واحد من الجماعة

عمل يعود على المجموع في بقائه، وللمجموع من العمل ما لا غنى للواحد عنه في

نمائه وبقائه، وأودع في كل شخص من أشخاصها شعور مَّا بحاجته إلى سائر أفراد

الجماعة التي يشتملها اسم واحد، وتاريخ وجود الإنسان شاهد بذلك، فلا حاجة إلى

الإطالة في بيانه، وكفاك من الدليل على أن الإنسان لا يعيش إلا في جملة ما وهبه

من قوة النطق، فلم يخلق لسانه مستعدًّا لتصوير المعاني في الألفاظ، وتأليف

العبارات إلا لاشتداد الحاجة به إلى التفاهم، وليس الاضطرار في التفاهم بين اثنين

أو أكثر إلا الشهادة بأن لا غنى لأحدهم عن الآخر.

حاجة كل فرد من الجماعة إلى سائرها مما لا يشتبه فيه، وكلما كثرت مطالب

الشخص في معيشته ازدادت به الحاجة إلى الأيدي العاملة، فتمتد الحاجة وعلى

أثرها الصلة من الأهل والعشيرة، ثم إلى الأمة وإلى النوع، كما لا يخفى.

هذه الحاجة خصوصًا في الأمة التي حققت عنوانها - لها صلات وعلائق

ميزتها عن سواها، حاجة في البقاء، حاجة في التمتع بمزايا الحياة، حاجة في

جلب الرغائب ورفع المكاره من كل نوع.

لو جرى أمر الإنسان على أساليب الخلقة في غيرها لكانت هذه الحاجة من

أفضل عوامل المحبة بين أفراده، عامل يشعر كل نفس أن بقاءها مرتبط ببقاء الكل،

فالكل منها بمنزلة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء مضارها، والمحبة عماد

السلم ورسول السكينة إلى القلوب، وهي الدافع لكل من المتحابين على العمل

لمصلحة الآخر، الناهض بكل منهما للمدافعة عنه في حالة الخطر، فكان من شأن

المحبة أن تكون حفاظاً لنظام الأمم، وروحاً لبقائها، وكان من حالها أن تكون ملازمة

للحاجة على مقتضى سنة الكون، فإن المحبة حاجة لنفسك إلى من تحب أو ما تحب،

فإن اشتدت كانت ولعًا وعشقًا.

لكن كان من قوانين المحبة أن تنشأ وتدوم بين متحابين إذا كانت الحاجة إلى

ذات المحبوب أو ما هو فيها لا يفارقها، ولا يكون هذا النوع منها في الإنسان إلا إذا

كان منشؤه أمراً في روح المحبوب وشمائله التي لا تفارق ذاته، حتى تكون لذة

الوصول في نفس الاتصال لا في عارض يتبعه، فإذا عرض التبادل والتعارض،

وتعلقت بالمنتفع به لا بمصدر الانتفاع، وقام بين الشخصين مقام المحبة إما سلطان

القوة أو ذلة المخافة أو الدهان والخديعة من الجانبين.

(ستأتي البقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 242

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أخبار الآستانة

جلاء جنود الدولة عن تساليا:

كان جلاء الجنود السلطانية المظفرة عن تسالينا بغاية الأدب والانتظام الذي لم

يعهد له نظير من أعظم جنود الأمم المتمدنة، وقد جرت مبادلة الوداع بين القائد

العظيم صاحب الدولة أدهم باشا وأركان حربه وبين قناصل الدول ووجهاء الأهالي،

وقد أعجب الأهالي بحسن معاملة الجيش الفاتح الظافر، وودعوا الضباط بكل

احترام، وقدموا لهم الهدايا شكرًا على مجاملتهم، وقد سافر دولة أدهم باشا ومن معه

على اليخت السلطاني (طليعت) ، وجاء سلانيك، وهناك صدرت له الإرادة السنية

بالقدوم إلى الآستانة العلية.

أدهم باشا بالآستانة:

صبح الآستانة والناس لم يهبوا من رقادهم، ومع ذلك وجد الناس قد غصت

بهم المحطة والطرقات من شدة الازدحام، ولما نزل من مركبته ترامى عليه الناس

للسلام، حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا، وطفقوا يقبلونه بشوق واحترام وسار مع

أكابر القواد وأركان الحرب الذين معه، تحدق بهم الألوف، وتحوم عليهم القلوب،

حتى بلغوا قصر يلدز الأعلى.

تشرف كل من القائد الباسل صاحب الدولة أدهم باشا وصاحب السعادة سيف

الله باشا بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية المعظمة، وتناولا الطعام على مائدته

الكريمة. وقد أنعم على أدهم باشا بوسام الافتخار المرصع، وعلى أصحاب السعادة

سيف الله باشا وإبراهيم باشا ورضا باشا (الذي ترقى عن رتبته) بالوسام

العثماني الأول. وعلى كل من أصحاب السعادة خيري باشا وحمدي باشا وحيدر

باشا وحقي باشا وحلمي باشا وحليم باشا وثابت باشا بالوسام المجيدي الأول،

وعلى كل من ممدوح باشا وعمر رشيدي باشا بوسام اللياقة الذهبي، أنعم عليهم

ذلك مكافأة لهم على ما أبدوه من المهارة والبسالة في الحرب اليونانية التي نالت فيها

الدولة العلية بحكمة هؤلاء القواد الصادقين من المنافع المعنوية ما هو أفضل من

مملكة اليونان الحقيرة برمتها. وقد بلغهم مولانا أيده الله تعالى أنه لا ينسى خدمتهم

لسدته العلية وسلطنته السنية.

هذا جزاء الصادقين في الدنيا {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 21) .

فتعس الخائنون ولا انتعشوا {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب: 61) .

ما ذكرناه عن استقبال دولة أدهم باشا هو زبدة ما نشرته جرائد الآستانة،

وذلك يكذب ما قالته جريدة التان من أنه لم يستقبل دولته سوى عشرين ضابطًا،

وصاحب الدار أدرى بما فيه.

التخوم بين الدولة واليونان:

حددت التخوم بين الدولة العلية واليونان، وأخذت الدولة العلية المواقع

الحربية الحصينة التي تحول دون تعدي اليونان مهما غرهم بقوتهم الغرور. وقد

أخذت الدولة العلية قطعة من الأراضي اليونانية في جهة دمكو لتقيم فيها بناء على

نفقة مولانا السلطان الأعظم، يكون تذكارًا لشهداء الحرب، وسيحاط البناء بقفص

من الحديد، ويتولى حراسته رجلان من طرف الحكومة اليونانية، وينقدان أجرتهما

من الجيب السلطاني الخاص، أدام الله المكارم السلطانية مصدرًا للأعمال الشريفة

المرضية.

***

نصيحة للمنار من عظيم بالآستانة

ورد لنا رقيم كريم من جانب أحد العظماء المقربين لدى الحضرة السلطانية،

يحثنا فيه على الثبات في الخطة التي جرينا عليها في المنار، من عدم التملق

والنفاق، ومن النزاهة عن السب والثلب، ويأمرنا فيه بالمواظبة على خدمة الدولة

العلية، ومقام الخلافة الإسلامية، وسائر الأمة، مع الصدق والإخلاص، فإن ذلك

مفتاح النجاح والفلاح. وقد تلقينا الأمر بالامتثال ونسأل الله التوفيق في كل حال.

_________

ص: 250

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم الأخبار المحلية

(بيع الدائرة السنية)

اجتمع مجلس النظار يوم السبت الماضي تحت رئاسة الجناب العالي، وكان

المنتظر أن تحصل المذاكرة في بيع سكة حديد السودان فلم تحصل، لكن المجلس

أقر على بيع الدائرة السنية التي هي أهم من سكة الحديد من الوجه المالي والإداري،

وإن كانت هذه تفوق من الوجه السياسي كل الأعمال المالية التي حصلت في مصر

في عهد الاحتلال، كان أشيع أولاً إقرار الحكومة المصرية على بيع الدائرة السنية

بمبلغ ستة ملايين وأربعمائة ألف جنيه (وهو مقدار الدين الذي على الدائرة السنية)

بشروط مخصوصة بينها وبين الشروط التي أقر عليها الآن فرق كبير، ومحصل ما

تم عليه الاتفاق الآن أن الشركة - التي نصف رأس مالها من الإنكليز (الخواجات

.... [1] كسل، وشركاؤهم أصحاب رأس مال الخزان العمومي) ونحو ربعه من

المصريين، والباقي من جماعة من الفرنسويين والألمانيين - تُصدر سهامًا بقيمة

600 ألف جنيه تعطى 500 ألف جنيه منها للحكومة، وتبقى مائة ألف جنيه لإدارة

الأعمال، والحكومة تعطيها 31 في المائة ربًا على الخمسمائة ألف جنيه، ويقتسمان

الأرباح مناصفة بعد طرح 5 في المائة أولاً لأصحاب السهام، فائدة ما لهم ومنها

31 في المائة المذكورة آنفاً، وبعد طرح النفقات كما هو ظاهر.

وستدفع الشركة الخمسمائة ألف جنيه للحكومة في شهر أغسطس (آب)

المقبل، ولا يحسب هذا المبلغ من أصل الثمن، وتدفع في شهر يوليو (تموز) من

سنة 1899 القادمة 2150090 جنيه، تأخذ بنسبتها من الثمن أراضي وأملاكًا

تعرضها للبيع قطعاً، ثم بعد ذلك تدفع في كل سنة ثلاثمائة ألف جنيه وتأخذ بنسبتها

أملاكًا وأراضي إلى سنة 1905، تدفع باقي الثمن الذي ذكرنا مقداره. وكيفية البيع

تحصل بتعيين الحكومة أثمان الأراضي والتفاتيش، وعرضها على الشركة، فإن لم

تقبل بها تعرضها الحكومة للبيع العلني، وما يزيد عن الثمن الذي عينته يكون ربحًا

لها. وبعد تمام المدة الباقية للدائرة السنية يتعين على الشركة أن تشتري كل أطيانها

وإلا عاد للحكومة.

وستكون إدارة الشركة في لندرة، ولها شعبة في مصر تتولى إدارة الأعمال.

ورؤساء القسم الوطني من الشركة الخواجات سوارس وقطاوي وشركاؤها،

وأصحاب السعادة سيوفي باشا وشواربي باشا وحسن بك عبد الرزاق وعلي بك

شعراوي، وقد تكاثر طلاب الاشتراك من المصريين في السهام التي تصدرها

الشركة بقيمة 600 جنيه كما ذكرنا، وحيث لم يخصص للمصريين إلا نحو ربعها

أسقط الخواجة سوارس طلب الأكثرين.

***

(الاستعداد لفتح السودان)

ذكرت إحدى الجرائد اليومية أنه وصل من إنكلترا إلى جيش الاحتلال مقادير

عظيمة من الديناميت، وكثير من المهمات والذخائر، فأرسلت تباعًا إلى السودان

لاستعمالها في فتح الخرطوم ودك أسوارها ومعاقلها.

تسير الجنود المصرية والإنكليزية من القاهرة تباعًا إلى السودان، لأجل

الاستعداد للزحف على الخرطوم وأم درمان، ويسافر مساء اليوم سعادة السردار إلى

الحدود، ويسافر في أطواء الأسبوع إلى بربر اللورد إدوارد سسل نجل اللورد

سالسبوري الذي كان ملحقًا بأركان حرب السرادار في حملة السودان الأخيرة، وهو

الآن في القاهرة.

***

كنا ذكرنا أن فرنسا سيرت حملة إلى السودان عن طريق النيل الأعلى (حملة

مرشان) ، وما زالت أخبار تلك الحملة تطفو وترسب، ولا يعلم عنها شيء يقيني،

وكان أشيع من مدة أنها وصلت إلى فشودة، ويؤخذ من بعض الجرائد الأوروبية

الآن ما ترجح أنها وصلت لنفس الخرطوم، وفي أثرها مدد معلوم، والمستقبل

يظهر كل مكتوم.

***

(ثورة اليمن)

من أخبار بريد أوروبا أن الفريق حقي باشا عين مشيرًا للفيلق الهمايوني

الخامس في دمشق الشام خلفًا لعبد الله باشا الذي تقرر إرساله إلى اليمن لإخماد

الثورة فيها، وقد زعمت بعض الجرائد الأوربية أن عبد الله باشا أَبَى الذهاب إلى

اليمن، لكن بريد سوريا الأخير أفاد أن دولته كان على أهبة السفر، ولعله قد سافر

الآن.

***

(تلغراف الحجاز)

جاء في جريدة (ثمرات الفنون الغراء) نقلاً عن جرائد الآستانة أنه قد تقرر

تشييد مخافر بين المدينة المنورة وبين دمشق الشام، للمحافظة على الخط البرقي

المَنْوِيّ مده بينهما، وتعيين خفراء له من مشايخ العربان ومن الجند. وبعد ذلك يمد

الخط إلى اليمن، والمذاكرات جارية بتخصيص المبلغ اللازم لذلك.

***

(والد وولد)

كان السنيور (فنسنت هواريا مارتينس) يقطن عدد 228 في الشارع الحادي

والعشرين غربًا بمدينة نيويورك، وهو أسباني المولد، كان منذ عهد غير بعيد يتجر

بالخمر الأسباني، ولكنه بعد ذلك استخدم في إحدى شركات ضمانة الحياة، واشتهر

بالصدق والأمانة، وكانت قرينته قد أصيبت بمرض عضال، فسافرت إلى بلادها،

وهناك توفيت مؤخرُا، فحزن الرجل حزنًا عظيمًا، واستدعى نجله المدعو (ريشار)

وابنته الوحيدة، وأخبرهما أنه يرغب العودة إلى الوطن؛ للانتظام في سلك

الجندية الأسبانية، وطلب منهما أن يذهبا معه فينتظم ولده أيضًا في سلك الجندية،

وابنته تدخل في صف الممرضات في خدمة الجيش، فتطير الولدان عند سماعهما

هذا الخبر، وأوضحا لوالدهما أنهما لا يرغبان بالعود إلى الوطن، وقال: إنني

أميركي، ومن الشهامة أن أدافع عن وطني، وقالت الابنة: وأنا كذلك، فمن أكبر

واجباتي أن أقصد الجيش الأميركي لتمريض جنوده، وهكذا عظم الخلاف بين الوالد

وولديه، وكاد يفضي بينهم إلى الضرب لولا مداخلة الجيران.

وأما الوالد فسافر إلى وطنه، وأراد أن يودع ابنه الذي لم يودعه، ولكنه

خاطبه قائلاً: إذ لم تقصد كوبا فأنت جبان، وهناك سألتقي بك وأذيقنك من ضربات

حسامي الموت الأحمر، فاستعد أيها الأسباني لمقابلتي، وكن على حذر. وبعد سفر

الوالد ذهب فانخرط في العسكرية الأميركية، وكذلك الابنة (السي) تطوعت مع

الممرضات، وربما يجدان والدهما هناك.

...

...

...

...

(كوكب أميركا)

_________

(1)

بياض بالأصل بمقدار كلمة واحدة لم نقف عليها بعد البحث عنها.

ص: 253

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المدارس الوطنية في الديار المصرية [*]

سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها،

فكل أمة ترغب عن العلم فمآلها إلى الشقاء، شقاء الاستعباد وفقد الاستقلال، لا

يعصمها منه اتساع مساحة بلادها، ولا كثرة أفرادها، ولا عظمة حكامها، ولا

صحة دينها، ولا شرف أسلافها، ولا شيء مما يتعلل به المسترسلون مع الأوهام،

المنقادون بأزمة الغرور، وكل أمة نشطت لاقتباس العلوم والاستضاءة بنور الأعمال

النافعة، فأقامت أساس مدنيتها على هدى، فبشرها بالسعادة، سعادة المدنية الفاضلة،

والحرية الشاملة، والسيادة الكاملة، لا يمنعها من هاته قلة أفرادها، ولا احتلال

الأجانب لبلادها، ولا استبسال حكامها، ولا اختلال نظامها، ولا فساد عقائدها،

ولا قبح عوائدها، إذ العلم يصلح كل خلل، ويشفي من جميع العلل، يشهد بجميع

ما قلته العيان، وينطق بصحته البرهان.

سل التاريخ عن أحوال الأمم والشعوب التي سقطت في مهاوي العدم، وماذا

كان من السبب في سقوطها، وعن الأمم الواقفة على شفا الخطر، وما علة يأسها

وقنوطها، سله عن الدول التي طاولت السماء في رفعتها، وفاخرت الجبال في

قوتها ومَنَعَتها، وهزأت بعقاب الجو في عزتها وعصمتها، أصرح لك في القول:

سله ما الذي أحل بالممالك التيمورية (الهندية) الدمار، وأوقف دولة الصين العظيمة

على شفا جرف هارٍ، تنقص من أطرافها، وتتناوش من جميع أكنافها، ما الذي

انتاش الولايات المتحدة الأميركية، وأنقذها من مخالب السلطة الإنكليزية، ما الذي

نهض بالأمة اليابانية، حتى طارت مع الأمم الأوروبية في كل جو، وسبحت معها

في كل بحر، وضربت من الفنون بكل سهم؟ أَصِخْ بسمعك للتاريخ، واستمع لما

يتلوه عليك تجد أن جوابه عن هذا كله محصور في كلمتين وهما: (علم وعمل،

وجهل وكسل) ، فبالعلم والعمل يقرن كل تقدم ورقي، وعن الجهل والكسل ينشأ كل

تأخر وهوي، فلكل غاية مبدأ، ولكل رغيبة طريق يوصل إليها، وكل من سار إلى

الدرب وصل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .

كل هذا من البديهيات الثابتة بالمشاهدة والاختبار، فلا ينازع فيها إلا الصم

البكم العمي الذين لا يعقلون، فلنصرف النظر عنه إلى تعميم التعليم المفيد، والتربية

على العمل النافع، ولنجعل موضوع كلامنا في ذلك البلاد المصرية، وليس

تخصيص القول بهذه البلاد مخرجًا له عن خدمة عامة الشرقيين؛ فإن أحوال الأمم

والشعوب يشبه بعضها بعضًا في الأمور الكلية، وتشابه البلاد الشرقية في أكثر

شؤونها الجزئية، لا سيما موقفها الحرج أمام أوروبا، فليعتبر بما نذكره في شأن

مصر كل شرقي عاقل.

تُذاكِر المصري من أي طبقة في سعادة بلاده؟ فيجيبك: أن ذلك لا يكون إلا

بجلاء الإنكليز عنها، نعم إن منهم من يقول: إن الاحتلال أذهب سابق الاختلال،

فكان شفاء وشقاء في وقت واحد، لكنهم مع ذلك يعقلون حكمة شاعرهم القائل:

إذا استشفيت من داء بداء

فاقتل ما أعلَّك ما شفاكا

والصواب أن السعادة أمر وجودي، لا يحصل بمجرد الجلاء الذي هو أمر

بمعنى العدمي، لكنه شرط لكمالهما، مثل الاحتلال الأجنبي في الأمم، كمثل جراثيم

الأمراض الوافدة، وميكروبات الأدواء العارضة، لا يفتك كل منهما إلا بالضعيف،

المختل نظام المعيشة، وعلاجهما يشبه بعضه بعضًا، تعالج الأمم الأدواء الحسية

الوافدة بعلاجين كل منهما مفيد في نفسه، ويحصل الكمال باجتماعهما كليهما. أحد

العلاجين خارجي، تكله الأمة إلى حاكمها، كالمحاجر الصحية، وثانيهما داخلي

يتيسر على الأهلين القيام به بدون مساعدة الحكام، ويتعذر على الحاكمين القيام به

على كماله بدون مساهمة المحكومين، وهو نظام أمر المعيشة بالنظافة العامة

المصلحة لفساد الهواء والغذاء اللطيف والماء النقي المصفى المقوي ذلك كله لمزاج

البدن، بحيث يقدر على مدافعة كل عارض، ومقاواة كل طارئ، كذلك ينبغي أن

تعالج الاحتلال الأجنبي، الذي هو مرض معنوي، الحكومة تصده عن الإيغال في

شؤون الأمة، والولوغ في أحشائها، والأمة تجتهد في تقوية بنيتها بتعميم التعليم

الصحيح، والتربية الوطنية الحقة، حتى يحررها العلم والتهذيب، فلا تفتك فيها

ميكروبات الاستعباد، ولا تتأصل فيها جراثيم الاستبداد، وأعني بالحرية: أن لا

تخضع إدارة الأمة إلا لشريعة بلادها التي تنفذها فيها حكامها، لا السفه والفجور

الذي هو في مصر أكثر من الكثير.

فعلى المصريين أن يكلوا مصادمة هجمات الاحتلال على مصالحهم ومنافعهم

لسلطانهم الأعظم، وأميرهم الأفخم فهما (أيدهما الله تعالى) يذودان عنهم ما أمكن

الذود، كما وقع قريبًا في مسألة بيع طرق حديد السودان، ويعملوا هم على إصلاح

الخلل الداخلي بتأليف الشركات المالية، وعقد الجمعيات الوطنية، اللذين لا أمة ولا

وطن بدونهما، اللذين يمكن بهما مقاواة ما تفلت إلى البلاد من جراثيم مرض

الاحتلال (كبيع الدائرة السنية) ، بحيث لا ينهك جسم الأمة فيتعذر علاجها، وتقوية

مزاجها، اللذين يتسنى بهما نفخ روح القوة والعزة في الأمة، بتعميم التربية والتعليم

الذي يحض عليه الناصح، ولا يعارض فيه الطامع، ويثني عليه لسان الحال،

ولا يثني عنه عمل الحالّ (اسم من الحلول بمعنى الاحتلال) ، بهذا تتكون سعادة

الأمة، وإذا حلت السعادة زال كل شقاء، وتقشع سحاب كل بلاء، لكن المصريين

قد تركهم الاحتلال في أمر مريج، فبعضهم يقول: إن السعادة تحصل بمجرد الجلاء

وبعضهم مرتكس بين أمواج الحيرة، وبعضهم في يأس وقنوط من استقلال بلاده

ونجاحها، وبعضهم هداه النظر في أحوال العالم الإنساني إلى أن تعميم التربية

والتعليم هما مناط السعادة، لكن أكثرهم غافل عن قوة الأمة والشعب على مثل هذا

العمل العظيم، ومعتقد أنه لا يمكن أن يأتي إلا من جانب الحكومة، وهو يرى أن

تعليم الحكومة ناقص كمًّا وكيفًا، فلا ترجى به الحياة الوطنية. أما نقصه كمًّا فمعناه

أن مدارس الحكومة قليلة لا تفي بحاجة البلاد، ولا يرجى أن تفي بها مع العسر

المالي الذي يلجئها إلى بيع أملاكها شيئًا فشيئًا. وأما نقصه كيفًا فهو أنه ليس مبنيًّا

على المحافظة على الدين وآدابه، ولا مصطبغًا بالصبغة الجنسية والوطنية. وبغير

ذلك لا يمكن أن تنهض البلاد وتحيَى الأمم والشعوب. ألم تَرَ أن الأمم الأوربية تعهد

بالمدارس إلى القسوس ورجال الدين غالبًا في داخلية البلاد. وأما في المستعمرات

ونحوها من البلاد الخارجية التي ينشرون فيها مدنيتهم - فإنهم يتخذون الدين فيها

عاملاً من عوامل السياسة، ولذلك ينيطون التعليم فيها بالجمعيات الدينية دون سواها.

ومدارس الحكومة المصرية لا أثر فيها للصبغة الدينية، بل قيل: إن الوليد يدخلها

بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله، إلا إذا كان له أهل وعشيرة أتقياء بُصَراء

يتعاهدون سيره ويحكمون ربط عقيدته، ولا أثر فيها للصبغة الوطنية، ولا الجنسية

أيضًا، فقد استبدلت اللغة الأجنبية باللغة العربية في التعليم، وأقيم التاريخ الإنكليزي

مقام التاريخ العثماني والمصري، واستغني عن الآداب العربية بالآداب الإفرنجية،

ويعتاض عن المعلمين الوطنيين بالأجانب شيئًا فشيئًا. وكل ذلك مما يغرس في قلوب

المتعلمين عظمة الأمم التي يتعلمون تاريخها وآدابها، واحتقار أمتهم وجنسهم

ودولتهم، ماضيها وحاضرها. فأي خير يرجى من تعلمهم بهذه الصفة،

واصطباغهم بهاته الصبغة؟ ! أما إنه ليتوقع شرها، ولا يرجى خيرها. وكيف

ترجى الحياة الوطنية من العامل على إماتتها، ويؤمل ثبوت الجنسية الأصلية من

الساعي بإزالتها، فإنْ هذا إلا غرور.

فيا موقدًا نارًا لغيرك ضوءها

ويا حاطبًا في غير حبلك تحطب

وخلاصة القول: أن التعليم النافع للوطن والبلاد هو ما تحيا به الشعائر الدينية

بتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال، وتقوى به الرابطة الجنسية والوطنية بإحياء

اللغة العربية، ونقل جميع الفنون إليها بالتدريج، وجعل التعليم بها دون سواها،

وبتمكين رابطة الأمة المصرية بالجامعة العثمانية، ومادام زمام التعليم بأيدي

الأجانب يجذبونه كيف أرادوا، فلا يمكن أن نحصل إلا على خلاف هذه الرغائب،

وهو استبدال حرية الفساد والفحش بآداب الدين، واللغة الإنكليزية أو الفرنسوية

باللغة العربية، وتمزيق الوطنية والجنسية شذر مذر وبعد ذلك، إما أن يتجنس

المتعلمون بجنسية معلميهم ومربيهم، وإما أن يكونوا عونًا لهم على مصالحهم، وفي

كل ذلك إماتة للجنس، وتضييع للوطن الذي يراد إحياؤه وإعزازه بالتربية والتعليم.

المصريون صِنفان: مسلمون وأقباط، وقد نهض الأقباط من سنين فألفوا

الجمعيات، وعقدوا الشركات، فأنشؤوا المدارس الكثيرة لتعليم الأبناء والنبات

متبعين في ذلك سنن الأمم المتمدنة، محافظين على شعائرهم الدينية، وحقوق

جنسهم ووطنهم، مما يحمدهم عليه التاريخ، ويحفظ لهم فيه مجدًا مخلدًا، أوشك أن

يعم التعليم أفراد هذا الصنف النشيط، فقد قدر بعض البصراء أنه لا تمضي خمس

عشرة سنة وفيهم ذكر أو أنثى يجهل القراءة والكتابة، كل هذا ولم يكن للمسلمين

غير جمعية خيرية واحدة لم تقدر على إنشاء أكثر من أربع مدارس حتى الآن.

فما الذي منع المسلمين عن مجاراة جيرانهم ومواطنيهم مع امتزاجهم معهم

امتزاج الماء بالراح؟ هل صدف بهم عن ذلك دينهم القائم على قاعدة حديث (طلب

العلم فريضة على كل مسلم) ، ما أجهل صاحب هذا الوهم بدين الإسلام، وما أبعده

عنه، هل صدَّهم عن ذلك قلة الطَّوْل، (الغنى والعطاء) ، وفقد القوة والحول؟

كيف وهم أكثر عددًا، وأوفر مددًا، وأبسط يدًا، ولو بذلوا معشار ما ينفقون في

احتفالات الأفراح والأحزان وضروب الترف والرفه على المعارف لكان كافيًا في

تعميمها، هل حجبهم عن ذلك الجهل بما ينجم عنه من الفوائد، وما يترتب على فقده

من الغوائل، أَنَّى وفيهم من العقلاء المنبهين، والفضلاء المرغبين، عدد ليس بقليل،

ولا يحتاج فيما نحن فيه إلى أن تكون الأمة كلها عالمة، لأنه خلاف المفروض.

إذًا ما هو السبب الصحيح، والعلة الحقيقية لهذا الأمر العظيم، والخطب الجسيم؟

يظهر لنا أن ذلك ناشئ عن علل كثيرة، لا محل لشرحها، وكلها ترجع إلى

انقطاع الروابط والصلات التي ترتبط بها الجامعة العامة، وتبرّؤ الأمة من حولها

وقوتها في جميع شؤونها ومصالحها الكلية إلى حول الهيئة الحاكمة وقوتها، ألم يأن

لسُحُب الأوهام المتكاثفة أن تقشع، ولشمس الحقيقة المحتجبة أن تبرز وتسطع، أما

حان للنفوس أن ترجع إلى رشادها، وللهمم المعقولة أن تحل من وثاقها؟ ، بلى إن

لدينا ما يبشرنا بأن المصريين قد أحسوا بالقوة الإلهية المودعة في مجموع الشعب

والأمة، وأنها أعلى من كل القوى والقدر الكونية، وطفقوا يستعملونها كما استعملها

غيرهم. نبهتهم وخزات الحوادث الكونية فتنبهوا، وأزعجتهم الأخطار المحدقة بهم

إلى العمل فعملوا.

قرأنا في المؤيد الأغر الصادر في غرة صفر الخير رسالة من مكاتبه في

أسيوط - فحواها أن سعادة الفاضل أحمد بك فائق مدير جرجا قد أهاب بنفوس أهل

مديريته فهبت سراعًا، واستنفرها فنفرت خفافًا وثقالاً، بيَّن لهم فوائد التعليم ومزاياه

ودعاهم إلى تأليف جمعية لهذا العمل الشريف، فلبوا طائعين، قال المكاتب: (وبدأ

أعيان بندر جرجا في أول هذا العام بافتتاح مدرسة في بندرهم، ثم تلاهم أعيان

طهطا الذين شرعوا منذ 10 الجاري في بناء محل لسكنى المدرسة (التي فُتحت في

أول مايو) ، وفي الأسبوع الماضي دعا حضرة الوجيه عبد المجيد أفندي عبد

الرحمن رئيس الجمعية التي تأسست في طما عددًا عظيمًا من فضلاء ووجوه البلاد

إلى حضور الاحتفال بافتتاح مدرسة النجاح بطما، التي تأسست بعناية سعادة مدير

جرجا ومساعدة حضرة الفاضل يوسف أفندي شوقي، مأمور المركز فأجاب الجميع

الدعوة) ، ثم ذكر في أمر الاحتفال ما ذكر، ونحن نرفع في (المنار) رايات الثناء

لسعادة هذا المدير الكامل، ومَن ساعده على عمله من الأفاضل، هؤلاء هم

الوطنيون الخُلص، هؤلاء هم المجددون لمجد أمتهم وملتهم، هؤلاء أفضل العاملين،

وأنفع من الغزاة والمحاربين، لا جرم أن العلم أفضل من الحرب والجهاد؛ فافتتاح

المدارس أفضل من افتتاح البلاد، فنرجو أن يسري هذا الروح الشريف في سائر

البلاد المصرية، بل وفي جميع البلاد الشرقية، وبالختام نرجو من سمو العزيز

مولانا عباس باشا حلمي أن يكافئ سعادة مدير جرجا وحضرة مأمور طما، ومَن

سعى سعيهما أحسن المكافأة إسداءً للعلم الذي هو أجلّ رغائب سموه في إسعاد بلاده،

وتنشيطًا لسائر رعيته على مثل هذا العمل، وجريًا على سُنة مولانا وسيدنا أمير

المؤمنين السلطان الأعظم الذي يقتفي سموه أثره - أدام الله سلطاننا وعزيزنا - ملجأً

للمعارف ومصدرًا للعوارف بمنه وكرمه، اللهم آمين.

_________

(*) فاتحة العدد الخامس عشر الذي صدر في 9 صفر سنة 1316.

ص: 256

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حاجة البشر إلى الرسالة

(تابع ما قبله)

يحب الكلب سيده، ويخلص له، ويدافع عنه دفاع المستميت، لما يرى أنه

مصدر الإحسان إليه في سداد عوزه، فصورة شبعه وريه وحمايته مقرونة في

شعوره بصورة من يكفلها له، فهو يتوقع فقدها بفقده، فيحرص عليه حرصه على

حياته، ولو أنه انتقل من حوزته إلى حوزة آخر وغاب عنه السنين، ثم رآه

معرَّضًا لخطرٍ ما عادت إليه تلك الصور، يصل بعضها بعضاً، واندفع إلى خلاصه

بما تمكنه القوة.

ذلك لأن الإلهام الذي هُدي به شعور الكلب ليس مما تتسع به المذاهب،

فوجدانه يتردد بين الإحسان ومصدره، وليس له وراءهما مذهب، فحاجته في سد

عوزه هي حاجته إلى القائم بأمره، فيحبه محبته لنفسه، ولا يبخس منها شوب

التعاوض في الخدمة.

أما الإنسان - وما أدراك ما هو - فليس أمره على ذلك، ليس ممن يلهم ولا

يتعلم، ولا ممن يشعر ولا يتفكر، بل كان كماله النوعي في إطلاق مداركه عن القيد

ومطالبه عن النهايات، وتسليمه على صغره، إلى العالم الأكبر على جلالته

وعظمه، يصارعه بعوامله وهي غير محدودة، وإيداعه من قوى الإدراك والعمل ما

يعينه على المغالبة، ويمكنه من المطالبة، بسعيه ورأيه، ويتبع ذلك أن يكون له في

كل كائن مما يصل إليه لذة، وبجوار كل لذة ألم ومخافة، فلا تنتهي رغائبه إلى

غاية، ولا تقف مخاوفه عند نهاية {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ

جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) ، تفاوتت أفراده في

مواهب الفهم، وفي قوى العمل، وفي الهمة والعزم، فمنهم المقصر ضعفًا أو كسلاً

المتطاول في الرغبة شهوةً وطمعًا، يرى في أخيه أنه العون له على ما يريد من

شؤون وجوده، لكنه يذهب من ذلك إلى تخيل اللذة في الاستْئثار بجميع ما في يده

ولا يقنع بمعارضه في ثمرة من ثمار عمله، وقد يجد اللذة في أن يتمتع ولا يعمل

ويرى الخير في أن يقيم مقام العمل، إعمال الفكر في استنباط ضروب الحيل ليتمتع

وإن لم ينفع، ويغلب عليه ذلك، حتى يخيل له أن لا ضير عليه لو انفرد بالوجود

عمن يطلب مغالبته، ولا يبالي بإرساله إلى عالم العدم بعد سلبه، فكلما حثه الذكر

والخيال إلى دفع مخافة أو الوصول إلى لذيذ، فتح له الفكر بابًا من الحيلة، أو هيأ

له وسيلة لاستعمال القوة، فقام التناهب مقام التواهب، وحل الشقاق محل الوفاق،

وصار الضابط لسيرة الإنسان إما الحيلة وإما القهر.

هل وقف الهوى بالإنسان عند التنافس في اللذائذ الجسدانية، وتجالد أفراده

طمعاً في وصول كلٍّ إلى ما يظنه غاية مطلبه، وإن لم تكن له غاية؟ كلا ولكن

قدرالله له أن تكون له لذائذ روحانية، وكان من أعظم همه أن يشعر بالكرامة له في

نفس غيره ممن تجمعه معهم جامعة ما حسبما يمتد إليه نظره، وقد بلغت هذه

الشهوات حداً من الأنفس كادت تتغلب على جميع الشهوات، وأخذت لذة الوصول

إليها من الأرواح مكانًا لا تصعد إليه سائر اللذات، وهي من أفضل العوامل، في

إحراز الفضائل، وتمكين الصلات بين الأفراد والأمم، لو صرفت فيما سِيقتْ لأجله

0 ولكن انحرف بها السبيل كما انحرف بغيرها، للأسباب التي أشرنا إليها من

التفاوت في مراتب الإدراك والهمة والعزيمة، حتى خيل للكثير من العقلاء أن يسعى

إلى إعلاء منزلته في القلوب بإخافة الآمن، وإزعاج الساكن، وإشعار القلوب رهبة

المخافة، لا تَهَيُّب الحرمة.

هل يمكن مع هذا أن يستقيم أمر جماعةٍ بُني نظامهم وعلق بقاؤهم في الحياة

على تعاونهم، ورفد بعضهم بعضًا في الأعمال؟ أَوَلا تكون هذه الأفاعيل السابق

ذكرها سبباً في تفانيهم؟ لا ريب أن البقاء على تلك الأحوال من ضروب المُحال،

فلا بد للنوع في حفظ بقائه من المحبة أو ما ينوب منابها.

لجأ بعض أهل البصيرة في أزمنة مختلفة إلى العدل وظنوا كما ظن بعض

العارفين ونطق به في كلمة جليلة: إن العدل نائب المحبة، نعم، لا يخلو القول من

حكمة، ولكن مَن الذي يضع قواعد العدل، ويحمل الكافة على رعايتها؟ قيل: ذلك

هو العقل، فكما كان الفكر والذكر والخيال ينابيع الشقاء، كذلك تكون وسائل السعادة

وفيها مستقر السكينة، وقد رأينا أن اعتدال الفكر وسعة العلم، وقوة العقل وأصالة

الحكم تذهب بكثير من الناس إلى ما وراء حجب الشهوات، وتعلو بهم فوق ما تخيله

المخاوف، فيعرفون لكل حق حرمته، ويميزون بين لذة ما يفنى ومنفعة ما يبقى،

وقد جاء منهم أفراد في كل أمة وضعوا أصول الفضيلة، وكشفوا وجوه الرذيلة،

وقسموا أعمال الإنسان إلى ما تحضر لذَّته وتسوء عاقبته، وهو ما يجب اجتنابه،

وإلى ما قد يشق احتماله، ولكن تسر مغبّاته، وهو ما يجب الأخذ به، ومنهم من

أنفق في الدعوة إلى رأيه نفسه وماله، وقضي شهيدًا في دعوة قومه إلى ما يحفظ

نظامهم. فهؤلاء العقلاء هم الذين يضعون قواعد العدل، وعلى أهل السلطان أن

يحملوا الكافة على رعايتها، وبذلك يستقيم أمر الناس.

هذا قول لا يجافي الحق ظاهره، ولكن هل سمع في سيرة الإنسان، وهل

ينطبق على سنته أن يخضع كافة أفراده أو الغالب منهم لرأي العاقل، لمجرد أنه

الصواب؟ وهل كفى في إقناع جماعة منه كشعب أو أمة قول عاقلهم: إنهم

مخطئون، وإن الصواب فيما يدعوهم إليه، وإن أقام على ذلك من الأدلة ما هو

أوضح من الضياء، وأجلى من ضرورة المحبة للبقاء؟ كلا لم يعرف ذلك في تاريخ

الإنسان، ولا هو مما ينطبق على سنته، فقد تقدم لنا أن سبب الشقاء هو تفاوت

الناس في الإدراك، وهم مع ذلك يدعون المساواة في العقول، والتقارب في

الأصول، ولا يعرف جمهورهم من حال الفاضل، إلا كما يعرف من أمر الجاهل،

ومن لم يكن في مرتبتك من العقل، لم يذق مذاقك من الفضل، فمجرد البيان العقلي

لا يدفع نزاعًا ولا يرد طمأنينة، وقد يكون القائم على ما وضع من شريعة العقل

ممن يزعم أنه أرفع من واضعها فيذهب بالناس مذهب شهواته، فتذهب حرمتها

ويتهدم بناؤها، ويفقد ما قصد بوضعها.

أضف إلى ما سبق من لوازم نزعات الفكر ونزغات الأهواء شعورًا هو ألصق

بالغريزة البشرية وأشد لزومًا لها. كل إنسان مهما علا فكره، وقوي عقله، أو

ضعفت فطنته، وانحطت فطرته يجد نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته، وقوة

ما آنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تُصرِّفه تصرُّف ما هو فيه

من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرف إليها إدارة

المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها

تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي

طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر - فمنهم من تأولها ببعض

الحيوانات لكثرة نفعها أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب

لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من

تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة، تتماثل في أفراد كل نوع وتتخالف

بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلهًا، ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان،

ونفذت البصائر، ارتفع الفكر، وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمُه بعضَ

المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود.

غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه، فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن

له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعًا،

والرشد ضائعاً، اتفق الناس في الإذعان لما فاق قُدَرَهم، وعلا متناول استطاعتهم،

لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له، اختلافًا كان أشد أثرًا في

التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، من اختلافهم في فهم النافع والضار

لغلبة الشهوات عليهم.

إن كان الإنسان قد فُطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما

منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً، من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما

ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق

نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه مع ذلك الشعور عرفانه بذات ذلك

القاهر، ولا صفاته، وإنما ألقى به في مطارح النظر، تحمله الأفكار في مجاريها،

وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر

على وجوده، أفهل مُنِيَ هذا النوع بالنقص ورُزِئَ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف

الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك لولا ما آتاه الصانع الحكيم

من ناحية ضعفه.

الإنسان عجيب في شأنه يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول

بفكره أرفع معالم الجبروت، ويُسامَى بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون

الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى

عرض له أمرٌ مّا لم يعرف سببه، ولم يدرك مَنْشَأه، ذلك لسرٍّ عرفه المستبصرون،

واستشعرته نفوس الناس أجمعين.

من ذلك الضعف قِيدَ إلى هداه، ومن تلك الضِّعَة أُخِذَ بيده إلى شرف سعادته،

أكمل الواهب الجواد لجملته ما اقتضت حكمته في تخصيص نوعه بما يميزه عن

غيره أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس،

لينظر في طلب اللقمة وستر العورة والتوقي من الحر والبرد، جاد على الجملة بما

هو أَمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام

الاجتماع، الذي هو عماد كونه بالإجماع، منّ عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة،

بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه من بناء كونه على

قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة

الخضوع والاستكانة، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها

بخصائص في أنفسهم، لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك زيادة في الإقناع بآيات

باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح،

ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل

فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر

من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الإذعان له، ويستوي في الركون لما

يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول

والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري،

يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون

ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون - فبعثة الأنبياء صلوات الله

عليهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع،

منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد

الرسل، وسنتكلم عن وظيفتهم بنوع من التفصيل فيما بعد. اهـ

_________

ص: 263

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب بين أمريكا وأسبانيا

لقد طال على الحرب أمد المطاولة، وكاد يقع اليأس من المناجزة والملاحمة،

إلا ما كان ويكون من المناوشات الصغرى التي تقع بين شراذم الأمريكيين الذين

نزلوا إلى سنتياغو وبين الأسبانيين، والحرب بينهما سجال، ولقد كان الفلج أخيرًا

للجنود الأسبانية، كما ترى في الأنباء البرقية. أما حركات الأساطيل فقد علمت أن

براعة الأميرال سرفيرا الأسباني في قطع عرض القاموس العظيم (الأتلانتيك)

تحت حجاب الخفاء، قد انتهت بحصر أسطوله في ميناء سنتياغو، وأما أسطول

الأميرال كمارا الأسباني، فقد وصل أمس إلى بورسعيد قاصدًا جزائر فيلبين من

طريق السويس الأمين.

وقد ورد على جريدة المقطم رسالة برقية من بورسعيد، بأنه صدر الأمر إلى

ولاة الأمور فيها باتخاذ التدابير اللازمة لمنع الأسطول من شحن الفحم منها، حتى

تأتيهم أوامر أخرى بذلك، وقد ذكرت جريدة السلام (أن من شروط ترعة السويس

أن لا يصح لدوارع إحدى الدول المحاربة أن تأخذ فحمًا من بورسعيد إلا مقدار

ما يكفيها للوصول إلى نقطة الحرب، أي أنه لا يصح لها أن تأخذ فحمًا

وتحارب به بعد وصولها؛ ولذلك فإن أسطول أسبانيا إذا مر بترعة السويس فلا

يأخذ منها إلا كفاية وصوله فقط، ثم تنقطع بعد ذلك المواني التي تعطيه الفحم؛ لأن

إنكلترا والدولة العلية وسواهما معتزلة الحرب، فلا تمده بشيء، والمرجح أن

هذا الأسطول سيتضايق جدًّا إلا إذا صحب معه سفنًا خاصة مشحونة بالفحم، وعلى

هذا ربما كانت عاقبة هذا الأسطول شرًّا من عاقبة ذلك، والله أعلم بمصير

الأمور.

أخبار بريد أوروبا عن الحرب متعارضة: نفي وإثبات ونقض وإبرام،

والمتفق عليه أن جزائر فيلبين التي يقصد أسطول كامارا إغاثتها قد تفاقمت خطوبها،

وعظمت كروبها وأضر بمنلّا حصار الثائرين، وقد أضوى الأسبانيين الجوع

فخارت قواهم، وخانتهم عزائمهم، وقد طلب الأميرال ديوي الأميركي من حكومته

نجدة، فسيرتها إليه، ولا بد أن تصل قبل وصول أسطول كامار، حتى إذا كان لديه

من الفحم ما يبلغه موضع قصده لا يرجى أن يستفيد من سعيه وكده، وربما وجد

الأسطول ديوي له بالمرصاد، فكان كما قيل:

مثل الغريق نجا ووافى ساحلاً

فإذا الأسود روابض بجواره

أما أخبار كوبا: فقد نقل أن الأسبان في رضا عنها، وأن الأميركان أجَّلوا

الهجوم العام عليها إلى الخريف القادم، حيث يقل فتك الحمى وإنهم يكتفون الآن

بالاستيلاء على سنتياغو وأسر أسطول سرفيرا، ولذلك أرسل الأسبانيون إليها جيشًا

من هفانا بقيادة الجنرال باندو للدفاع عنها، كما أن الأميركيين أرسلوا نحو عشرة

آلاف رجل إمدادًا للجنرال شفتر الذي أنزل جنوده إليها، والثائرون يمدون هذا

ويصدون ذاك.

إن الأسبانيين برهنوا على بسالتهم وثباتهم في جميع مواقف الحرب، ولكن

خصمهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا، وأهالي البلاد في مواقع الحرب يناوئونهم ويمالئون

خصمهم، وهذه عواقب الجهل بحالة العصر، وكون النجاح فيه منوطًا بالعلم

والثروة أكثر مما هو منوط بالبأس والشدة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 270

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مراكش

جاء في جريدة السلام الغراء ما نصه:

تفيد الأخبار الواردة من مراكش أن حالها في اضطراب شديد، وهي تتأخر

كل يوم تأخُّرًا سريعًا، سيفضي إلى اضمحلالها، وذلك لشدة تداخل الأجانب فيها

ومعاكستها لهم، حتى أصبح ذلك همها الوحيد، ولم يعد لها صناعة سوى دفع ديات

القتلى، ومفاوضة الحكومات الأجنبية في شأنهم، ذلك عدا ما ينتابها من الثورات

الداخلية التي لا تكاد تنقضي بالرغم من صرامة الحكومة، وتعليقها رءوس القتلى

على أسوار المدن أو حملها على الرماح وعرضها على الناس في الشوارع، ويظهر

أن نصيب هذه المملكة التعيسة سيكون كنصيب الجزائر وتونس ومصر، فيكون

هذا الخط الجنوبي الطويل الممتد من بورسعيد إلى طنجة مصابًا بعلة واحدة، وهي

الاحتلال الأجنبي، ولا يبعد من بعد نهاية هذه الحرب الأميركية أن تتفرغ الأذهان

إلى شأن مراكش لمجاورتها لأسبانيا، فيقضي عليها القضاء الأوروبي كجارتها،

ولكننا نظن أن امتلاك مراكش كلها صعب جدًّا إلا بدهر طويل؛ لأن أكثر أهلها

محاربون ذوو بأس شديد وأنفة عربية، ولهم من صعوبة السير في بلادهم ومنعة

معاقلهم الطبيعية ما يرد عنهم كل يد، ولكن إذا كان لابد من التداخل فيها فلا يكون

إلا بامتلاك شواطئها وثغورها، ولعل هذا هو المهم عند أوروبا، أما هذه القسمة

فالأرجح أنها تكون لفرنسا؛ لما لها من شفاعة الجوار، فضلاً عما يقال من أنها

تسعف أسبانيا الآن لتتنازل لها عما يخصها من شفاعة الجوار، وسيكشف لنا

المستقبل ذلك بعد قريب. اهـ

(المنار)

أما نحن فنقول: إن الأوربيين لا تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا

تقدر على مناوأة الأمم المتمدنة، وإذا دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصرية

التي عليها مدار العمران اليوم، تقليدًا لآبائهم، وإبقاءً لما كان على ما كان - فلا بد

أن يغمرهم طوفان أوروبا كما غمر جيرانهم، وإذا وفق الله مولاي عبد العزيز،

وفتحت عين بصيرته، فرأى أن الاتباع للأولين؛ لأنهم أوَّلون مذموم غير محمود،

سواء في ذلك نظر الشرع والعقل، وإنما هدانا الشرع ودلنا العقل على أن نعتبر

بأحوال الأمم في صعودها وهبوطها، وأن نستمع القول فنتبع أحسنه، لا أن نقول

{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) إذا تبصر

بهذا واعتبر بما بين يديه وما خلفه، واتعظ بما عن يمينه وشماله - فلا شك أنه

يندفع بهمته كلها إلى التربية والتعليم اللذين تقضيهما حالة العصر، ولا يتم له هذا إلا

بالاستعانة بسيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأكبر لجميع المسلمين؛ إذ لا

يجد معلمين للفنون العسكرية والمدنية والاقتصادية من أهل الإسلام إلا عند الدولة

العلية، وحالة بلاده لا تقبل غير المسلمين، الذين لم يصطبغوا بالصبغة الأجنبية،

وإذا اندفع بهمته إلى ما ذكرناه، وأمده مولانا السلطان الأعظم بالمعلمين البارعين،

وهم كثيرون، لا سيما في الآستانة العلية - يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد

بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه. والله الموفق وبه المستعان.

_________

ص: 272

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشاكل الدول

(فرنسا) : في شغل شاغل من تأليف وزارتها، فلقد طال الأمد على

انحلالها، ولم يتيسر لأحد ممن عهد إليهم رئيس الجمهورية بتأليفها أن يؤلفها، وفي

ذلك غض من مقام هذه الأمة، ودليل على أن الشأو البعيد الذي بلغته من التمدن لم

يقو على الخلاف والشقاق المتأصل فيها، كما أن فيه مدحة لها بانتظام شؤونها

الإدارية، بحيث تستغني عن الحكومة بتهذيبها زمنًا مديدًا.

(إيطاليا) : لم تزل في قلاقل ومشاكل في داخليتها، ولم تنجح في تأليف

وزارة تحفظ النظام وتعيد الالتئام، ولعمري إن التلميذ المصري لم يبعد عن الصواب

في الحكم عليها بالسقوط من عداد الدول العظام، منذ محاربتها للحبشة، سئل ذلك

التليمذ عند امتحانه في فن تقويم البلدان (الجغرافيا) في إحدى المدارس الأميرية

عن عدد الدول العظام ومن هن؟ فقال: هن روسيا والدولة العلية وإنكلترا وفرنسا

وألمانيا وأوستريا. فقيل له: لم ذكرت الدولة العلية وأسقطت إيطاليا؟ فقال: ما

معناه: إن إيطاليا أسقطتها محاربة الحبشة، حيث تغلبت عليها دولة همجية،

والدولة العلية أظهرت عظمتها الحرب اليونانية حيث بهرت بقوتها وانتظامها جميع

الدول والأمم.

(روسيا) : حملت قساوة الأحكام الروسية بعض مسلمي فرغانة على التألب

على الحكومة، ومصادمة رجالها، فطير مكاتب روتر الأخبار في البرق بأن ذلك

ناشئ عن تعصب المسلمين، دفعهم إليه نشأة السرور بانتصار الدولة العلية على

اليونان. ثم بينت الجرائد الأوروبية أن الحركة كانت بدسيسة جماعة من رجال

الإنكليز جاءوا من الهند وغروا بعض المسلمين بلها مُوهِميهمْ أن ذلك يخفف عنهم

وطأة الأحكام الروسية الثقيلة. ولعمري إنه لا يعقل أن شرذمة من المسلمين تحاول

الانتقام من الروس الجبارين لمخالفتهم لهم في الدين.

(الصين) : قد فتحت هذه الدولة الشرقية بابًا جديدًا لامتلاك الغربيين بلاد

الشرق تحت أسماء لا تدل على الامتلاك، وهو باب الإجارة، فقد آجرت ثغورها

لألمانيا وروسيا وإنكلترا، فأمتلكوها باسم الإجارة، وعظم نفوذهم، وكثر تداخلهم

فيما لم يستأجروه من تلك البلاد، أراد الإنكليز أن ينظموا لها شؤون عساكرها البرية

والبحرية بضباط منهم يستلمون زمامها، وكان نقل أن الصين ترفض هذه المنحة،

فجاء بريد أوروبا يحمل إلينا تكذيب اللورد سالسبوري لما نقل من قبل ويثبت أنها لم

ترفض الطلب، وإنما تأبى إطلاق التصرف لضباط الإنكليز، وتجعل سلطتهم

محدودة.

وقد أنبأنا البرق أخيرًا باحتجاج وكيل روسيا في الصين على القرض الذي

عقدته حكومتها مع مصرف (بنك) هونغ كنغ لمد سكة الحديد من بكين إلى كين

وأن نظارة الخارجية الصينية أجابت روسيا بأنها تنازلت باستئجارها بور آرثر عن

التعرض لشؤون الصين الداخلية، وجهلت هذه الدولة الخرقاء أن وعود السياسة لا

وفاء لها وأن إيجارها سيكون سبب بوارها.

(الدولة واليمن) : هولت بعض الجرائد في حادثة اليمن، حتى زعمت أن

الثوار حاصرت صنعاء، وأن زعيم العصاة قام يطالب بالخلافة، وأن الإنكليز

يمدونهم، وقد بينت جرائد الآستانة العلية من قبل أن الاضطراب في اليمن نشأ عن

القحط، وامتد بعض الامتداد، فبادر لعلاجه مولانا السلطان الأعظم، أيده الله تعالى،

بإرسال القوت؛ لإشباع الجائع، والعساكر؛ لتأديب الشاغب، وقد جاء في أخبار

الآستانة: أن الدولة العلية قررت إرسال 16 ألف عسكري لليمن لإعادة الأمن،

ومن يستغرب حصول الشغب في اليمن من جراء القحط، وقد حصل في إيطاليا

أضعاف أضعافه، على أنه ورد في أنباء اليمن الرسمية أن زعيم الفتنة المسمى:

ناصر العمر قد خضع واستسلم للحكومة، وقد أرسل مع ابنه حمود وعشرة من

مشايخ القبائل إلى صنعاء، وهذا يعد مِنْ يُمْنِ طالع مولانا أمير المؤمنين وتوفيقاته

الإلهية.

(اليونان) : لم تطأ أقدام اليونانيين أرض غولوس بعد جلاء الجنود المظفرة

عنها، حتى طفقوا يعيثون في الأرض فسادًا، من هدم المساجد، وقتل المسلمين،

وحرق جثث البعض منهم، ونحن نستلفت الأنظار إلى التفرقة بين عساكرنا المهذبة

وما كان من أدبها مع انتصارها، وبين هؤلاء السفهاء وماذا يفعلون، مع خذلانهم،

وانكسارهم، ولا نملأ الدنيا صراخًا وعويلاً بالتنديد بالقوم، ورميهم بالتعصب الذي

ترمينا به جرائدهم، إذا قلنا: بلادنا أو.. وإنما نسأل كل عاقل عن رأيه في بغي

هؤلاء، لو انتصروا هل يصل خياله إلى تصوره وتحديده؟ وقد استاء الباب العالي

لذلك جدًا، وأرسل مذكرة شديدة اللهجة إلى حكومة اليونان، وأخبر سفراء الدول

بالأمر رسميًّا.

_________

ص: 274

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خلاصة البهجة

مؤلف في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، مختصر من

كتاب يحيى بن أبي بكر العامري التهامي، المسمى: (بهجة المرام في سيرة سيد

الأنام) ، اختصره الشاب الناشئ في العلم والعبادة صديقنا الشيخ مصطفَى وهيب

أفندي البارودي الطرابلسي، وقد ذكر مؤلفه: أنه التزم فيه صحيح الأخبار، وحذف

منه ما هو بالفقه والتاريخ أشبه، والكتاب سهل العبارة، قريب المتناول، أجدر به

أن يقرأ في المكاتب الإسلامية الابتدائية، فإن معرفة السيرة النبوية من مهمات

الدين، وربما لا يوجد مؤلف مختصر أليق بالغرض المذكور من هذا الكتاب، وقد

طبع في المطبعة الأميرية على نفقة صاحب الدولة مختار باشا الغازي، بإشارة

الأستاذ المعتقد صاحب الفضيلة الشيخ علي أفندي العمري الشهير، جزى الله تعالى

الجميع خيرًا بمنِّه وكرمه.

_________

ص: 276

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اختيار الوزراء

جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه:

حكي أن المأمون رضي الله عنه قال - في اختيار وزير -: إني التمست

لأموري رجلاً جامعًا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد

هذبته الآداب، وحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات

الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة، وتغنيه اللمحة،

له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه

شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب

الرجال بخلابة لسانه، وحسن بيانه، وقد جمع بعض الشعراء هذه الأوصاف،

ووصف بعض وزراء الدولة العباسية بها فقال (الوافر) :

بديهته وفكرته سواء

إذا اشتبهت على الناس الأمور

وأحزم ما يكون الدهر يومًا

إذا أعيا المشاور والمشير

وصَدْر فيه للهمّ اتساع

إذا ضاقت من الهم الصدور

فهذه الأوصاف إذا كملت في الزعيم المدبر- وقل ما تكمل - فالصلاح بنظره

عام، وما يناط برأيه وتدبيره تام، وإذا اختلت فالصلاح بحسبها يختل، والتدبير

على قدرها يعتل، ولئن لم يكن هذا من الشروط الدينية المحضة، فهو من شروط

السياسة الممازجة لشروط الدين، لما يتعلق بها من مصالح الأمة واستقامة

الملة. اهـ

_________

ص: 277

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إلى أي تعليم وتربية نحن أحوج

؟! [*]

إذا نظرنا إلى ما بين أيدينا من لوازم حياتنا ضرورية وحاجية وكمالية، ألفينا

أننا عالة على أوروبا في كل شيء منها، إما بالذات وهو الأكثر، وإما بالواسطة

وهو الأقل، فمن يخيط منا ثوبه إنما يخيطه بالآلات والأدوات والخيوط الأوروبية،

ونسيج الثوب من أوروبا في الغالب، وما عساه يوجد من أداة وآلة للقطع أو الحرث

والعذق من صنع أهل البلاد، فحديدها مجتلب من أوروبا، إذ لا يوجد في بلادنا من

يستخرج الحديد من معادنه، ويهيئه لعمل الآلات منه، بَلْهَ (أي اترك وهي بمعنى

فضلاً عن كذا) البواخر البحرية بأنواعها، والمركبات البرية وأصنافها، وسائر

المعامل والمصانع، وما فيها من الآلات البخارية والكهربائية.

السواد الأعظم منا ينظرون إلى هذه الأعمال والمصنوعات فيقولون: إن

الإفرنج عقولهم في عيونهم وأيديهم، ونحن عقولنا في رءوسنا وقلوبنا، يعنون أن

عقولنا لا يمكن أن تنشأ عنها أعمال عظيمة؛ لأنها لم تكن في أعضاء عاملة. تلغط

بهذا القول عامتنا، ولو أن لهم عقولاً لعلموا مواضعها ووظائفها، واستنزلوها من

رءوسهم إلى أعينهم وأيديهم وأرجلهم، وجعلوها المحرك لكل أعضائهم وجوارحهم،

والمدبر لجميع منافعهم ومصالحهم، أستغفر الله؛ إن وجود الشيء لا يقتضي العلم

به، ولو بوجه ما، فكيف يقتضي كمال العلم والحكمة بالوصول من كل شيء

لثمرته، والإشراف من كل مبدأ على غايته؟ هذا لا يهتدى إليه إلا بكمال التعليم

والتربية على العمل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأما خاصتنا ونبهاؤنا فإنهم

ينظرون من تلك الأعمال العظيمة إلى مناشئها ومبادئها، فيرون أنها ثمرة علوم

وفنون كثيرة رياضية وطبيعية واقتصادية

إلخ، يتأملون فيرون أن عمل الإبرة

يحتاج فيه إلى كثير من هذه العلوم والفنون، فضلاً عن الجواري المنشآت في البر

والبحر ونحوها من المصنوعات العظيمة التي قامت بها المدنية الحادثة، وكل أمة

تنكبتها فهي معرضة للزوال.

ربما طاف في نفوس هؤلاء طائف الغيرة على بلادهم وقومهم، وفكروا في

مجاراتهم للأمم القوية، وكيف تكون هذه المجاراة وبماذا تكون؟ لكن التفكير من

غير تشمير، ينتهي في الغالب إلى سوء المصير، انتهى بالأكثرين إلى اليأس

والقنوط، الذي هو أدوأ الأمراض النفسية وأقتلها. رأوا أننا نحتاج في هذه المجاراة

إلى المال الكثير لإنشاء مدارس للفنون وللصنائع، وإلى كثير من المعلمين

الناصحين لأجل تعميم ذلك في البلاد، ولا مال عندنا يفي بالغرض، ولئن

وجد المال عند قوم منا فهم لا يبذلون للمدارس، لجهلهم بفائدة العلوم والفنون،

ولا للصنائع؛ لعدم ثقتهم بنجاح العمل، ثم برواج المصنوع الوطني إذا نجح

مع معارضة مصنوعات أوروبا له، وهي أجود صنعاً وأرخص ثمناً، لقلة

النفقات ووفرة الآلات، وكثرة المهرة من العمال، ولأن ذويها أقدر على نشرها في الممالك الدانية والقاصية بالتجارة، وأرضى باليسير من الربح، لكثرة المال والثقة

بالمآل.

ولا يوجد عندنا من المعلمين الوطنيين معشار ما نحتاج إليه لتعميم التعليم

اللازم، ولا ثقة لنا بالأجانب؛ لأنهم لطمعهم في بلادنا وللعداوة السياسية التي بيننا

وبينهم، لا يمكن أن ينصحونا ويعلمونا ما نستقل به عنهم ونقطع طرق المطامع

عليهم، بل ننازعهم أسباب الحياة والبقاء، ونضارعهم في التقدم والارتقاء. وما

يؤمنهم إذا ساهمناهم في صنائعهم وساميناهم في معارفهم أننا نسمُوهم ونَبَذّهم

(نعلوهم ونغلبهم) ، وقد كنا نحن السابقين في ميادين المدنية إلى كل اكتشاف

في العلم واختراع في الصناعة، وقد أخذوا عنا فأربوا علينا وآثارنا عندهم تدل

علينا. هذا ما يحملهم على استبدال الغش بالنصيحة، وسلوك سبل الإفساد عوضًا

عن انتهاج طريق الإصلاح، ولقد انخدع بهم بعض أسلافنا من قبل، فألقوا إليهم

من أزمة التعليم، ومهدوا لصناعتهم وتجارتهم الطرق، فكانوا وبالاً على كل بلاد

تبوءوها، استأثروا بجميع منافعها وعمدوا إلى ما فيها من لغة وجنسية وأدب

ودين ونفوذ حكومة وصناعة وتجارة، فأماتوا بعض ذلك، وأضعفوا البعض

الآخر، فمنها ما فقد استقلاله بالكلية، ومنها ما ينتظر ذلك، وكانت تلك عاقبة

المغرورين.

هذا ما أوقع أكثر المفكرين في هاوية اليأس، وقطع بهم أسباب الرجاء،

نظروا إلى أوروبا في نهايتها، وإلى أهل بلادهم في بدايتهم (على أنهم لم يبدءوا

بعمل، وهذه البداية مفروضة) ، فقالوا: لا يبلغ الظالع شأو الضليع، ولا يمكن أن

يسابق الفُسْكل (الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل) .

المُجلِّي (أول خيل الحلبة في السباق) ، ثم نكصوا على أعقابهم، بل نكسوا

على رءوسهم مسجلين على أمتهم الهبوط. وعدم الرجاء بالنهوض إلى أبد الأبيد،

أما المتفكرون الأقلون عددًا، والأكثرون هدًى ورشدًا، الذين لم يسمح لهم يقينهم

باليأس من رَوْح الله والقنوط من رحمته، فقد ردوا على أولئك قائلين:

من طلب الغاية في المبدأ لا

يؤب إلا بالقنوط والشقا

ومن يسِرْ سيرًا طبيعيًّا لها

يبلغ بالتوفيق منها المنتهى

فيجب أن نطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه وأوله) ، ولا نحتاج

في هذا أن نساهم الأوروبي في اكتشافه واختراعه من أول الأمر، بل نحن أحوج

إلى مساهمته في ما هو أفيد من هذا وأسهل من ضروب التربية والتعليم، وهو

التعليم الذي لا يتوقف على الآلات والأدوات، ولا يحتاج فيه إلى الأساتذة والمعلمين

من المكتشفين والمخترعين، والتربية التي نستغني فيها عن الأظآر والمربيات

الأوروبيات. نحن أحوج إلى التربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة

والوطن والجنس، إذ لسنا الآن إلا أفرادًا متبددين متفرقين متنافرين متخاذلين

متدابرين متنازعين متباغضين، لا جامعة تجمعنا، ولا رابطة تضمنا وتربطنا، لا

يحن قريب لقريب، ولا يرعى حبيب ود حبيب، ولا يرقب أحد في آخر إلاًّ ولا

ذمة، وانتهى بنا الأمر إلى أن وضع لنا بعض المحققين في علم الاجتماعي البشري

هذه القاعدة، وهي أن العداوة والبغضاء فينا مرتبة على نسبة القرب، فهي على

أشدها للأقرب، فالقريب فالبعيد فالأبعد.

لا جرم أن هذا يكاد يكون خروجًا عن البشرية، وهبوطًا إلى أخس أنواع

الحيوان الأعجم، كالسمك الذي يأكل بعضه بعضًا، فهل نحن مع هذه الحالة أمة،

ولا يكون مجموع الأفراد أمة إلا إذا كان كل فرد منهم يشعر في نفسه بأن منزلته من

سائر الأفراد منزلة يده أو عينه مثلاً من سائر بدنه، ولسنا كذلك كما نعلم ويعلم

الناس أجمعون. هل لنا وطن نعمل لترقيته وإعلاء شأنه، ونحتاج للفنون والصنائع

لكي نستعين بها على ذلك، أنَّى والعمل للوطن من خواص الأمم المجتمعة لا الآحاد

المتفرقة؟ هل لنا لغة نحافظ عليها فنجتهد في نقل العلوم إليها؟ كيف والمتفرغون

للغتنا الشريفة يستغرقون العمر في البحث عن عوارض الألفاظ التي وضعها النحاة

والصرفيون، فيتعلمون اللغو لا اللغة، ومن يقضي بضع عشرة سنة ليعلم أن

(زوايا) ما صارت زوايا إلا بعد خمسة أعمال، هل يتفرغ لمعرفة زوايا الأعمال

الحقيقية وهي ثلاث لا خمس؟ وهل ترك لغتنا وتعلم الفنون باللغات الأجنبية فيه

حياة لنا وسعادة لأمتنا، إذا أردنا أن نكون أمة كسائر الأمم المتمدنة؟ هل لنا جنسية

نسبية أو لغوية تقرب البعيد وتجمع الشتيت؟ كيف ونحن أمشاج وأخلاط من أجناس

وشعوب شتى، هل لنا دين نأتمر بأوامره، وننتهي عن مناهيه، ونتأدب بآدابه التي

تؤلف بين القلوب مهما كانت فاسدة، كما ألفت بين قلوب الهمج من جاهلية العرب،

فجعلتهم إخوانًا على سرر متقابلين، يفتخر التاريخ بفضائلهم ومناقبهم، وبعد ما كانوا

عارًا على النوع الإنساني، كادوا يرتقون عنه إلى مصاف العالين من ملائكة رب

العالمين. كيف ونحن في الدرك الأسفل من فساد الأخلاق، كما أومأنا إلى ذلك آنفًا

وذكرنا قاعدة عالم الأخلاق والاجتماع فينا. وأما أعمالنا فهي على نسبة أخلاقنا طبعًا

فشا فينا السكر والبغاء والميسر (القمار) والظلم والتعدي والبغي

إلخ إلخ إلخ.

وحيث قد تبين أننا فاقدون لكل الجوامع التي تتكون بها الأمم، وتقوم بها

الممالك والدول، فنحن أحوج الآن إلى التربية والتعليم اللذين يوجدان لنا هذه الجوامع

المفقودة، حتى إذا ما عادت لنا نمدها ونقويها بالفنون الرياضية والطبيعية التي فيها

عظمتها وكمالها، وإلا فإن تعلم تلك الفنون بصيغة غربية، ولغة غربية تكون عونًا

للغرباء من أهل تلك اللغة أو الصبغة على تمكنهم من البلاد، والقبض على أزمة

منافعها، بل وعلى امتلاكها بالمرة.

هؤلاء الحكام الشرقيون الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق،

فيمهدون بذلك السبل لتداخل الغربيين في بلادهم باسم الإصلاح، أليسوا من

المتعلمين تلك الفنون والراطنين بتلك اللغات؟ أليس منهم الخائنون لسلطانهم،

البائعون لأوطانهم بثمن بخس، دراهم معدودات، وكانوا فيها من الزاهدين، كل

هذا مشاهد معروف حتى عند العامة، فلا حاجة للتطويل فيه والاستشهاد عليه.

فيجب على العلماء والكتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا الأمر

(تكوين الأمن) ، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب

والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم، وأهم ما تدور عليه

تعاليمهم، بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده، وأن

علمه وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد، ويجب على

جميع العقلاء من الشرقيين أن يساعدوا هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الأمة

والوطن، ومن تقاعد عن مؤازرتهم ومعاضدتهم فهو خائن لأمته ودولته، وعامل

على خراب وطنه، فما بالك بمن يعاكسهم ويشاكسهم ويقاومهم ويصادمهم.

كل خائن ملعون، يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، فنسأل الله تعالى أن

يقي أهل بلادنا من هذه اللعنات، وان يوفقهم للعمل بما فيه خيرهم، ولا خير فيه

لغيرهم [1] ، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وهو الموفق.

_________

(*) فاتحة العدد السادس عشر الذي صدر في 16 صفر سنة 1316.

(1)

هذه هفوة كهفوة ذلك الأعرابي الذي أسلم وقال أمام النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا فقال له صلى الله عليه وسلم: (ضيقت واسعًا يا أخا العرب) .

ص: 278

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌محاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية

ضمنا مجلس مع مكاتبي أشهر الجرائد في الديار المصرية فذكر بعضهم

(المنار) وأثنوا عليه بما فضلوه به على جميع الجرائد العربية، فقال أحدهم: إني ما

رأيت المنار إلا قليلاً، ولقد تراءى لي منه أنه يدعو إلى الجامعة الإسلامية، كما هو

لسان علماء الإسلام الذين يتكلمون في السياسة، ولا ريب في أن هذا الرأي خطأ؛

لأنه يدعو إلى التفرقة بين المسلم والقبطي في مصر مثلاً، ومصلحتهما واحدة،

والاتفاق بين المصري والهندي المسلمَيْنِ، ومصلحة بلادهما مختلفة، ومآل ذلك إلى

خراب البلدين، وما أضرّ بالشرق وأوقع به الدمار إلا الدين، فينبغي للجرائد

الشرقية الحرة التي تريد أن تخدم الشرق خدمة نافعة أن تبين للنشء الجديد فيه أنه لا

يمكن النجاح والترقي إلا بنبذ الدين ظِهريًّا.

فقلت له: أنا لا أنكر أن اختلاف الدين أضر بالشرق ضرراً بينًا، ولكن هذا

الضرر لم يأتِ من طبيعة الدين، وإنما جاء من عدم فهم حقيقته، ومن عوارض

أخرى، كجهالة الرؤساء ودسائس الطامعين، الذين جعلوا الدين عاملاً من عوامل

السياسة، وإنني أعتقد أن لا شيء يؤلف بين القلوب كالدين، إذا أُخذت تعاليمه

وآدابه على طهارتها كما جاءت في الكتب السماوية، ومن مقاصد (المنار) بيان

ذلك والحث عليه؛ ولذلك قلت في مقدمة العدد الأول منه التي بينت فيها مشرب

الجريدة ما نصه: (وتحاول إقناع أرباب النِّحَل المتباينة والمذاهب المختلفة أن الله

تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وإن المعارضة والمناهضة

والمناصبة والمواثبة تفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على هدى الأديان) .

ومن المقاصد أيضًا: بيان أن السعادة الدنيوية تتوقف بعد التهذيب على أعمال

تبنى على علوم وفنون لا بد منها، ولا غناء عنها، وأعطيته العدد الخامس عشر

الذي ذكر فيه أن صحة العقائد لا تكفي لهذه السعادة، إذ تنكَّبَتْ الأعمال النافعة

والفنون التي تمدها وترقيها. ولقد أفصح لي هذا الكاتب عن رغبته في إنشاء مقالة

يبين فيها رأيه في الدين والعمران بالحرية التامة، ويبعث بها إليّ إذا كنت أنشرها له

في المنار، فقلت له: إن الاستدلال بسوء حالة أهل الأديان على مضرة الدين قد

رده الأستاذ صاحب (رسالة التوحيد) التي طبعت حديثاً، وقد وعدته أن أنشر ذلك

في المنار، وها أنا ذا أنشر ما جاء في تلك الرسالة من بيان (وظيفة الرسل عليهم

السلام) وهي حقيقة الدين، وبيان اعتراض الكاتب ورده، وقد تقدم لنا نشر بيان

(حاجة البشر إلى الرسالة) ، وأغضينا عن نشر إمكان الوحي وبيان وقوعه، لما فيه

من الغموض بالنسبة لأكثر قراء الجريدة. وأرغب إلى حضرة الكاتب أن يمعن

النظر فيما أنقله، ويكتب إليّ مفصحًا عن رأيه فيه، فإن كان تسليمًا فبها ونعمت،

وإلا فبمراجعة القول ومرادة الكلام تتضح الخفايا وتتجلى الحقائق، والله الموفق.

_________

ص: 284

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وظيفة الرسل عليهم السلام

(من رسالة التوحيد)

تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة

العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة

المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من نعم واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية

الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية، وكل ما لامس الحس منها فالقصد منه

إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة، أو تقويم ملكاتها أو إبداعها ما فيه

سعادتها في الحياتين. أما تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب وتطاول

شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه من أسرار العلم، فذلك مما لا دخل

للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن

شرط ذلك كله أن لا يُحْدِث ريبًا في الاعتقاد، بأن للكون إلهًا واحدًا قادرًا عالمًا

حكيمًا متصفًا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها

مخلوقة له، وصنع قدرته وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال.

وشرطه: أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدًا من الناس بشرٍّ في

نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة على ما حدد في

شريعتها.

يرشدون العقل إلى معرفة الله، وما يجب أن يعرف من صفاته ويبينون الحد

الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان

إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد، لا

فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به

في جميع الأعمال والمعاملات، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات

فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمَن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوي

ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينًا.

يبينون للناس ما اختلفت فيه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم،

فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم

به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة،

ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة

ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم. يعلمونهم

لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب

حده، وأن يعين قويُّهم ضعيفهم، ويمد غنيُّهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالهم،

ويعلم عالمهم جاهلهم.

يضعون لهم بأمر الله حدودًا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم،

كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء

مما كسبه الغير إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض مع

بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوِّموا أنفسهم

بالملكات الفاضلة، كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود،

والرحمة بالضعفاء، والإقدام على نصيحة الأقوياء، والاعتراف لكل مخلوق بحقه

بلا استثناء، يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب

السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير،

حسبما أمرهم الله جل شأنه.

يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضاء الله عنهم، وما يعرضهم

لسخطه عليهم، ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب،

وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره وتجنب الوقوع في محاظيره،

يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به مما لو صعب على العقل

اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده.

بهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارًا

لجزيل الأجر، وإرضاءً لمَن بيده الأمر، بهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع

الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم.

ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس

مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف

من حركاتها، ولا ما استكنَّ من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض،

ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في بقاء أشخاصها

وأنواعها، وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه

الفهوم، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه

البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المحصلين، ويقضي فيه بالنكد

على المقصرين، ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال،

وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه، وما يكفل التزامه

بالوصول إلى ما أعد الله له الفِطَر الإنسانية من مراتب الارتقاء.

أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك

أو هيئة الأرض، فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من حكمة مبدعة، أو توجيه

الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه، وحالهم عليه الصلاة والسلام في مخاطبة

أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا

قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة،

وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم

أقل ما ورد في كلامهم.

على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزًا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به

من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان. بل يجب أن يكون الدين

باعثًا لها على طلب العرفان، مطالبًا لها باحترام البرهان، فارضًا عليها أن تبذل ما

تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديها من العوالم، ولكن مع التزام القصد،

والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى

عليه جناية لا يغفرها له رب الدين.

(اعتراض مشهور)

قال قائل: إن كانت بعثة الرسل حاجة من حاجات البشر، وكمالاً لنظام

اجتماعهم، وطريقًا لسعادتهم الدنيوية والأخروية، فما بالهم لم يزالوا أشقياء، عن

السعادة بعداء، يتخالفون ولا يتفقون، يتقاتلون ولا يتناصرون، يتناهبون ولا

يتناصفون، كل يستعد للوثبة، ولا ينتظر إلا مجيء النوبة، حشو جلودهم الظلم،

وملء قلوبهم الطمع، عَدَّ كل ذوي دين دينهم حجة لمقارعة من خالفهم فيه، واتخذوا

منه سببًا جديدًا للعداوة والعدوان فوق ما كان من اختلاف المصالح والمنافع، بل

أهل الدين الواحد قد تنشق عصاهم، وتختلف مذاهبهم في فهمه، وتتفرق عقولهم في

عقائدهم، ويثور بينهم غبار الشر، وتتشبث أهواؤهم بالفتن، فيسفكون دماءهم،

ويخربون ديارهم، إلى أن يغلب قويّهم ضعيفهم، فيستقر الأمر للقوة لا للحق والدين

فها هو الدين الذي تقول إنه جامع الكلمة ورسول المحبة، كان سببًا في الشقاق

ومضرمًا للضغينة، فما هذه الدعوى وما هذا الأثر؟

نقول في جوابه: نعم إن كل ذلك قد كان، ولكن بعد زمن الأنبياء وانقضاء

عهدهم، ووقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه، ولكن لم يمتزج

حبه بقلبه أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقولهم عن تصريفه تصريف

الأنبياء أنفسهم أو الخيرة من تبعتهم، وإلا فقل لنا: أي نبي لم يأتِ أمته بالخير الجم

والفيض الأعم، ولم يكن دينه وافيًا بجميع ما تمس إليه حاجتها، في أفرادها

وجملتها؟

أظن أنك لا تخالفنا في أن الجمهور الأعظم من الناس (بل الكل إلا قليلاً) لا

يفهمون فلسفة أفلاطون، ولا يقيسون أفكارهم وآراءهم بمنطق أرسطو، بل لو

عرض أقرب المعقولات إلى العقول عليهم بأوضح عبارة يمكن أن يأتي بها معبر لما

أدركوا منها إلا خيالاً لا أثر له في تقويم النفس، ولا في إصلاح العمل، فاعتبر

هذه الطبقات في حالها التي لا تفارقها، من تلاعب الشهوات بها، ثم انصب

نفسك واعظًا بينها في تخفيف بلاء ساقه النزاع إليها، فأي الطرق أقرب إليك في

مهاجمة شهواتهم وردها إلى الاعتدال في رغائبها؟

من البديهي أنك لا تجد الطريق الأقرب في بيان مضار الإسراف في الرغب،

وفوائد القصد في الطلب، وما ينحو نحو ذلك مما لا يصل إليه أرباب العقول

السامية إلا بطويل النظر، وإنما تجد أقصد الطرق وأقومها: أن تأتي إليه من نافذة

الوجدان المطلة على سر القهر المحيط به من كل جانب، فتذكره بقدرة الله الذي

وهبه ما وهب، الغالب عليه في أدنى شؤونه إليه، المحيط بما في نفسه، الآخذ

بأزمَّة هِممه، وتسوق إليه من الأمثال في ذلك ما يقرب إلى فهمه. ثم تروي له ما

جاء في الدين المعتقد به من مواعظ وعبر، ومن سير السلف في ذلك الدين ما فيه

أسوة حسنة، وتنعش روحه بذكر رضا الله عنه إذا استقام، وسخطه عليه إذا تقحم،

عند ذلك يخشع منه القلب، وتدمع العين، ويستخذي الغضب، وتخمد الشهوة،

والسامع لم يفهم من ذلك كله إلا أنه يُرضي الله وأولياءه إذا أطاع ويسخطهم إذا

عصى، ذلك هو المشهور من حال البشر، غابرهم وحاضرهم، ومنكره يسم نفسه

أنه ليس منهم، كم سمعنا أن عيونًا بكت، وزفرات صعدت، وقلوبًا خشعت لوعظ

الدين، لكن هل سمعت مثل ذلك بين يدي نُصَّاح الأدب وزعماء السياسة، متى

سمعنا أن طبقة من طبقات الناس يغلب الخير على أعمالهم لما فيه من المنفعة

لعامتهم أو خاصتهم ويُنفى الشر من بينهم لما يجلبه عليهم من مضار ومهالك؟ ، هذا

أمر لم يُعهد في سير البشر، ولا ينطبق على فِطَرهم، وإنما قوام الملكات هو العقائد

والتقاليد، ولا قيام للأمرين إلا بالدين، فعامل الدين هو أقوى العوامل في أخلاق

العامة، بل والخاصة، وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو

خاصة نوعهم.

قلنا: إن منزلة النبوات من الاجتماع هي بمنزلة العقل من الشخص، أو منزلة

العلم المنصوب على الطريق المسلوك، بل نصعد به إلى ما فوق ذلك ونقول:

منزلة السمع والبصر، أليس من وظيفة الباصرة التمييز بين الحسن والقبيح من

المناظر، وبين الطريق السهلة السلوك والمعابر الوعرة، ومع ذلك فقد يسيء

البصير استعمال بصره، فيتردى في هاوية يهلك فيها وعيناه سليمتان تلمعان في

وجهه، يقع ذلك لطيش أو إهمال، أو غفلة أو لجاج أو عناد، وقد يقوم من العقل

والحس ألف دليل على مضرة شيء، ويعلم ذلك الباغي في رأيه من أهل الشر، ثم

يخالف تلك الدلائل الظاهرة، ويقتحم المكروه لقضاء شهوة اللجاج أو نحوها، ولكن

وقوع هذه الأمثال لا ينقص من قدر الحس أو العقل فيما خُلق لأجله، كذلك الرسل

عليهم السلام أعلام هداية نصبها الله على طريق النجاة، فمن الناس من اهتدى بها

فانتهى إلى غايات السعادة، ومنهم من غلط في فهمها وانحرف عن هديها فانكب في

مهاوي الشقاء، فالدين هادٍ والنقص يعرض لمن دُعوا إلى الاهتداء به، ولا يطعن

نقصهم في كماله واشتداد حاجتهم إليه {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ

بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) ، ألا إن الدين مستقر السكينة، ولُجأ الطمأنينة،

به يرضى كلٌّ بما قُسم له، وبه يدأب عامل حتى يبلغ الغاية من عمله، وبه تخضع

النفوس إلى أحكام السنن العامة في الكون، وبه ينظر الإنسان إلى من فوقه في العلم

والفضيلة، وإلى مَن دونه في المال والجاه، اتباعًا لما وردت به الأوامر الإلهية،

الدين أشبه شيء بالبواعث الفطرية الإلهامية منه بالدواعي الاختيارية، الدين قوة من

أعظم قوى البشر، وإنما يعرض عليها من العلل ما يعرض لغيرها من القوى، وكل

ما وُجه إلى الدين من مثل الاعتراض الذي نحن بصدده فتبعته في أعناق القائمين

عليه الناصبين أنفسهم منصب الدعوة إليه، أو المعروفين بأنهم من حَفَظته

ورُعَاة أحكامه، وما عليهم في إبلاغ القلوب بغيتها منه إلا أن يهتدوا به، ويرجعوا

به إلى أصوله الطاهرة الأولى، ويضعوا عنه أوزار البدع، فترجع إليه قوته،

وتظهر للأعمى حكمته.

ربما يقول قائل: إن هذه المقابلة بين العقل والدين تميل إلى رأي القائلين

بإهمال العقل بالمرة في قضايا الدين، وبأن أساسه هو التسليم المحض وقطع

الطريق على أشعة البصيرة أن تنفذ إلى فهم ما أودعه من معارف وأحكام. فنقول: لو

كان الأمر كما عساه أن يقال لَمَا كان الدين علمًا يهتدى به، وإنما الذي سبق تقريره

هو أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي، كما

لا يستقل الحيوان في درك جميع المحسوسات بحاسة البصر وحدها، بل لابد معها

من السمع لإدراك المسموعات مثلاً. كذلك الدين هو حاسة عامة لكشف ما يشتبه

على العقل من وسائل السعادات، والعقل هو صاحب السلطان في معرفة تلك الحاسة

وتصريفها فيما منحت لأجله، والإذعان لما تكشف له من معتقدات وحدود أعمال،

كيف ينكر على العقل حقه في ذلك وهو الذي ينظر في أدلتها ليصل منها إلى

معرفتها، وأنها آتية من قِبَل الله؟ وإنما على العقل بعد التصديق برسالة نبي أن

يصدق بجميع ما جاء به، وإن لم يستطع الوصول إلى كُنْه بعضه والنفوذ إلى حقيقته

ولا يقضي عليه ذلك بقبول ما هو من باب المحال المؤدي إلى مثل الجمع بين

النقيضين أو بين الضدين في موضوع واحد في آن واحد، فإن ذلك مما تُتَنَبزَّه

النبوات عن أن تأتي به، فإن جاء ما يوهم ظاهره ذلك في شيء من الوارد فيها،

وجب على العقل أن يعتقد أن الظاهر غير مراد، وله الخيار بعد ذلك في التأويل

مسترشدًا ببقية ما جاء على لسان من ورد المتشابه في كلامه، وفي التفويض إلى

الله في علمه، وفي سلفنا من الناجين من أخذ بالأول، ومنهم من أخذ بالثاني. اهـ

_________

ص: 286

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إيران

كتبنا في العدد السالف نبذة وجيزة في مشاكل الدول ومنها: مسألة الوزارة في

فرنسا وإيطاليا وسكتنا عن وزارة إيران، التي أخبرنا البرق من مدة باستقالة

رئيسها (الصدر الأعظم) ، ولما يرد نبأ آخر بتعيين غيره، وقد انتهت المشكلة في

فرنسا وإيطاليا، وتشكلت الوزارة كما ترى في الأخبار البرقية. وقد علمنا من

الأنباء الخصوصية أن الأزمة في بلاد إيران على أشدها، فإن شركة أجنبية

(إنكليزية) تطلب من الحكومة الإيرانية امتيازًا بحصر التنباك، وقد أحدث هذا

الطلب هزة في البلاد الإيرانية، أوجس منها المرشحون للصدارة العظمى، خيفة

من قبولها، وتحمل تبعة التصديق على الامتياز المطلوب أمام الأمة التي أشعرها

جميعها بعظيم ضرره ما كان من أمره في أواخر عهد الشاه ناصر الدين السابق

رحمه الله .

طلب هذا الامتياز يومئذ وأقرت عليه الحكومة الإيرانية، لما كان من عوج

وزيرها الأول وضلعه مع إنكلترا، فنبه بعض العقلاء الناصحين رئيس العلماء

الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي رحمه الله الملقب بحجة الإسلام لمضار هذا

الامتياز، وأنه نافذة للتداخل الأجنبي الذي يذهب باستقلال البلاد، وطلب الناصح

من الحجة أن يفتي بتحريم التدخين المستلزم ترك زراعة التنباك فأفتى، وكان ذا

نفوذ روحي عظيم، فاضطربت لفتواه بلاد العجم كلها، وامتنعوا عن التدخين،

حتى إن الشاه نفسه طلب يومًا نارجيلة (شيشة) فلم توجد في قصره، وشغب الناس

على الشاه، وحاولوا قتله، أو يبطل المقاولة التي عقدها مع الأجانب لحصر التنباك

(الرزي) ، فاضطر الشاه إلى الانصياع، وأبطل المقاولة، ودفع للشركة خمسمائة

ألف جنيه إفرنكي إرضاءً لها. نعم، ربما لا يوجد اليوم في تلك البلاد إمام ذو نفوذ

يستنفرها لمقاومة الحكومة، لكن الإحساس والشعور الأول لم يزل من النفوس، إذ

العهد به قريب، فعسى أن يأخذ جناب الشاه المعظم بالحزم، ويرفض طلب كل

شركة أجنبية، ويجتهد بتأسيس الشركات الوطنية، فإذا قوي نفوذ الأجانب في بلاده

يحولون بينه وبين كل إصلاح وعمل، يعود على بلاده بالنفع والترقي، ويجعلونه

آلة لتنفيذ رغائبهم ورعاية مصالحهم، بحجة المحافظة على أموال رعيتهم أصحاب

الشركات، ومن رأى العبرة في غيره فليعتبر.

_________

ص: 294

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعصب اليونان واعتداؤهم على المسلمين

ألمعنا في العدد الماضي إلى ما كان من عبث اليونانيين في تساليا وبغيهم على

المسلمين فيها بعد جلاء الجنود المنصورة، وقد جاءت جرائد الآستانة العلية بعد ذلك

بزيادة تفصيل، منه: أنهم نهبوا جميع ما في جوامع (يِنِي شهر) ، وحطموا بعض

المنابر، وهجموا على دور المسلمين وبيوتهم ومخازنهم وحوانيتهم، فكسروا مغلق

الأبواب وانتهبوا جميع ما لديهم من المال والعروض والماشية، وعمدوا إلى حقول

الذين هاجروا مع الجيش العثماني وجنانهم فأحرقوها، وإلى مساكنهم فدمروها

تدميرًا، وأحرقوا اثنين من المسلمين في (ترحالة) بالنار وهم أحياء، وأماتوا

آخرين بضروب من التعذيب ومثَّلوا بكثير ممن قتلوا تمثيلاً، ولقد حبسوا قومًا.

وصادروا قومًا ليستكملوا صنوف الانتقام، وفر أكثر مسلمي تلك البلاد بأهليهم

إلى موقع (ألاصونيا) مغادرين أموالهم ومتاعهم للغادرين الباغين، هذا بعض ما

جرى في البلاد الكبيرة والشهيرة، كترحالة، ويني شهر، وحاجي إياس،

وصارقولي، فكيف يكون حال القرى والمزارع الصغيرة النائية ، أومأنا في العدد

السالف إلى أن الباب العالي احتج على اليونان، وأنبأ بذلك الدول العظام، لكن لا

يبعد أن يكون لهذا النبأ العظيم عندهن أحسن موقع، ويطربن له ولا يضطربن؛

لأن تأديب العصاة، والأخذ على أيدي البغاة وحب الإنسانية والسعي في الإصلاح،

كل ذلك له مواضع عند تلك الدول نعرفه نحن ويعرفه الناس أجمعون.

_________

ص: 295

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قضية البرنس أحمد سيف الدين بك

أحصت الجرائد اليومية جزئيات هذه الحادثة من يوم وقعت إلى يوم حكم فيها

حتى جاءت بالذرة وأذن الجرَّة، ولا يصدف هذا بجريدة أسبوعية كالمنار أن

تطرف قراءها، خصوصًا الذين لا يطَّلعون على الجرائد اليومية، بمجمل من

خبر المحاكمة، مع الملاحظة عليها بعد ما أخبرناهم بمجمل الواقعة من قبل،

وإنا موردون في ذلك سبع جمل:

(1)

أن هذه أول دعوى وقعت في القطر، سِيقَ فيها أحد عائلة الإمارة، بل

أسرة الملك إلى المحكمة، وأوقف فيها في موقف المجرمين، وحُكم عليه بالعقوبة،

وكان من شهودها الوزراء: كعباني باشا ناظر الحربية، ومظلوم باشا ناظر المالية،

ويعقوب أرتين باشا وكيل نظارة المعارف.

(2)

أن انتظام أمر المحاكم تحقيقًا وتدقيقًا وضبطًا وعدالة أطلق الألسنة

بالثناء واللُّغي المختلفة على حضرة القاضي الفاضل صاحب العزة أحمد فتحي بك

زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية وافتخر به المصريون بحق واحتجوا به على

أنهم قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وبمثل سعادته تنهض لهم الحجة، ولولا

ضيق المجال لأسهبنا بما شاهدناه كما أسهبت الجرائد اليومية ولكننا نكتفي بتصديقها

بما حكت وأثنت.

(3)

حكمت المحكمة على المتهم بثبوت تهمة الشروع في قتل دولة البرنس

فؤاد باشا وبسجنه سبع سنين تحسب منها مدة الحبس الاحتياطي وبتعويض للمجني

عليه قدره 1845جنيهًا إفرنكيًّا وذلك قيمة ما صرفه البرنس فؤاد على الأطباء

والأدوية فقط وبإلزامه بالمصاريف ورفضت طلب الحجر عليه.

(4)

قد استأنف المحكوم عليه الحكم ولم تستأنف النيابة العمومية.

(5)

قد أهين المتهم بالدفاع عنه حيث رمي بالعته وضعف العقل وبالحكم

عليه حيث ذكر الرئيس في تعليلات الحكم وحيثياته أن الذي دفع به إلى الجناية عدم

التربية الصحيحة، وهاك عبارة الرئيس في ذلك: (وحيث إن سيرة المتهم منذ

صغره لا تدل على أنه تربى كما يليق بشأنه، وقد تيتم قبل أن تتمكن منه صفات

الرجال ووجد نفسه ذا ثروة واسعة مطلق السراح ولم يكن له من معاشريه ومخالطيه

من يطلب له السعادة بإهداء رشيد النصح وتمثيل الفضائل له بما يحرضه على

اعتناقها، فمال طبعًا إلى ما يميل إليه من خلص من كل القيود وكان له مكانته

الاجتماعية نصيرًا على عدم التصادم بجزئيات الحوادث كل يوم) .

(6)

إن هذه الحادثة قد كشفت الستار عن كثير من الشؤون الداخلية لهذه

العائلة العظيمة القدر، تمس مقام غير أمير وأميرة منها، وترميهم بالطمع الشائن

مع واسع ثروتهم، وما سبب ذلك إلا التربية الإفرنجية الخاسرة.

دع ذكر المبالغ العظيمة التي طلبتها دولة الأميرة (البرنسس) نازلي هانم من

المتهم لإنقاذه، وذكر المعاملة القاسية التي كان يعامل بها دولة فؤاد باشا قرينته

الأميرة شويكارهانم لأجل توكيله على أمور مالية، حتى كان من تبرمها وشكواها

لأخيها سيف الدين بك ما حركه على الانتقام منه، كما شكت لعمها صاحب الدولة

أحمد كمال باشا ولغيره.

(7)

كان من شؤم هذه الحادثة أن طلق البرنس فؤاد باشا قرينته المشار إليها

فأسقط في يدها وأرسلت له الكتب تستعطفه وتعتذر له، وقد احتج في المحاكمة

بكتبها له، كما احتج بكتبها لدولة عمها وعمتها وأخويها وغيرهم، حيث كانت تشكو

منه، وإننا نكتفي من كتبها بنشر هذا الرقيم الاعتذاري تفكهة للقراء وهو:

عزيزي فؤاد

أكتب لك هذا وأنا باكية، وقلبي ألف قطعة، بل وأنا في حالة الجنون ولا

أصدق أن فؤادي لا يريدني؛ لأني عالمة أنك تحبني شديد الحب. نعم، أنا أعترف

بأني مخطئة فيما كنت أقول من الأقوال الفارغة، ولكن أنت تعلم أنني عصبية، فأنا

أقبل قدميك وأستحلفك بأمك وبقبر والدك كي تسامحني.

فإن لم يكن صفحك نظرًا لخاطري فنظرًا لخاطر بنتنا (وكيجه) وللجنين الذي

سيولد بعد سبعة أشهر. إنني سأعتبر نفسي جارية لك، كأنك اشتريتني بالمال من

عند الياسرجي، وأكون مطيعة لأوامرك، ولا أحسب نفسي مطلقًا أنني من عائلة

(أحمد) المتهم - وهل تظن أيها العزيز أني قادرة على تحريض أحمد-هذا الأهبل -

أن يفعل أمرًا شنيعًا كالذي فعل. هل أحرضه على أن يقتل زوجي والد وَلَدَىَّ.

إنني أقسم لك بأن مثل هذا الأمر ما خطر بفكري قط. ارحمني يا فؤادي، اشفق

عليَّ وسامح جاريتك؛ إذ لا يمكنني أن أعيش دونك، إن غاية ما كنت أتمناه لك من

صميم فؤادي الصحة ولله الحمد قد رجعت لحبيبي فؤاد. والآن أقبّل قدميك وأبقى

في ظلك واسمح لي فقط باللقاء ولو مرة واحدة وأموت بعدها.

...

...

...

...

... (شويكار)

_________

ص: 296

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجيوش الغربية المعنوية

في الفتوحات الشرقية [*]

الغرض من الفتوح والاستعمار تكثير المال وتنمية الثروة، والثروة أو المال

مبدأ الأعمال المدنية وغايتها، وبه تتألف مقدمات العمران، وتحصل نتيجتها، ولما

علم الغربيون أن الحروب تتلف الثروة، وقد يستوي في خسائرها الغالب والمغلوب،

عمدوا إلى الفتوح من طريق الكسب، والتغلب على الأمم بالقبض على أزمة

معايشها، وامتلاك نواصي مكاسبها، ثم بتقطيع روابطها، وإبطال الجوامع التي

تضمها وتجمعها، إلى أن يقضي التفرق على الأمة بقضائه الذي رددناه مرارًا،

وبمثل هذا التفرق يتسنى للعدد القليل الاستيلاء على شعب كبير وأمة عظيمة،

يصرف الرجل الواحد من الغالبين الأثابيّ والجموع، ويسوقهم حيث شاء، كما

يسوق الراعي الإبل والشاء، وقد يتراءى للغافل، ويخيل للغر الجاهل، أن حقيقة

هذا الأمر كما يعطيه ظاهره: تصريف واحد لثُبات، وسوق فرد لجماعات، وذلك

غير صحيح، بل هو مخالف لطبيعة الوجود. ومن نفذت أشعة بصره من ظواهر

الأشياء لبواطنها رأى أن ذلك الفرد في الحقيقة جمع، والواحد في نفس الأمر أمة،

وأن تلك الأثابي والجموع أفراد لا رابطة تربطهم، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى؛

ذلك بأنهم قوم لا يفقهون معنى القومية والأمية، فاجتماعهم وتفرقهم سواء، أما كون

هذه الجموع ليست أمة، فهو مما لا خفاء فيه كما ترى، إذا أهين أحدهم، بل إذا

سحقت عظامه بأيدي الغرباء يقولون: هذا بعض ما يستحق من الجزاء، وأما كون

تلك الآحاد التي يدير كل واحد منها شؤون جماعة أممًا، فمعناه: أن أحدهم يدير

الجماعة باسم أمته وبقوتها، وأن أمته كلها معضدة له في عمله وممدة له بقوتها

ونفوذها، بحيث تعز لعزته وتذل لذلته، فلو هضم جانبه أو غمط حقه تشعر الأمة

كلها بنفس الألم الذي شعر به، وتهب كلها لإزالته، كما هو شأن الأمم الغربية في

هذه الأيام: يهان أوروبي في أقصى المعمور، فتسمع الصياح والصراخ يدوي له

فضاء أوروبا والجرائد تنشئ الفصول الطوال تقول: قد أهينت الدولة والأمة

فأجمعوا كيدكم وألزموا الدولة التي أهانه أهلها بالترضية، إما منًّا بولاية من تلك

البلاد، وإما فداءً بمبلغ عظيم من المال.

بقي علينا البحث في هذا الفتوح المعنوي، وبيان القوى التي تسلطها الأمم

العاملة على الجاهلة فتقطع روابطها، والجيوش التي تحشرها وتسوقها لهدم جوامعها

مع سلامة أفرادها، وبقاء آحادها، وكيف تفتقر الأمم وتدمّر الممالك بهذه الجيوش

المعنوية، التي يقودها جماعة من أهل الوداعة والسكينة، ومحبي الأمن والسلام،

وهو بحث طويل الذيل نأتي منه على إجمال ينبئ عن تفصيل، فنقول:

علم الأوروبيون بما أفادهم البحث في طبائع الأمم أن الترف مدعاة الدمار

والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من أدوائه، وتعصم من بلائه،

وعلموا بالاختبار أن الشرق فقدت منه التربية، وانفصمت عُرَى الوحدة التي كانت

لأممه ودوله، ولم يبق لهم من روابط الاجتماع إلا بقايا موروثة، لا متعهد لها ولا

حافظ، فيكفي لتقطيعها جذبة لطيفة من جذبات الترف، فكرُّوا على الشرق بجنود

منه لا قبل لأهله بها، وحملوه أوزارًا أثقل من الجبال فحملها، وكان الشرق ظلومًا

جهولاً.

ساقوا عليه خمسة فيالق وهي: الخمر والميسر والربا والبغاء والتجارة،

فنسفوا بذلك ثروته، وقتلوا غيرته وأضعفوا همته، وأفسدوا ما كان من بقايا أدب

ودين، فتكت هذه الفيالق والجحافل في الأمم الشرقية فتكًا ذريعًا، وبلغت نكايتها

ومضرتها في هذه البلاد ما لم تبلغه في غيرها، ولو شئنا الشرح والتفصيل عن كل

فيلق من تلك الفيالق، وما كان عنه من السلب والنهب والخراب والتدمير لاحتجنا

إلى تصنيف الأسفار والدواوين، ولكننا نجمل في القول على ما شرطنا:

(الخمر) : أم الخبائث، وداعية الفجور، وموقظة الفتن، وآفة الثروة،

ومولدة الأمراض، ومقصرة الآجال، فمضرتها في الجسم والعقل، وإفسادها للدنيا

والدين مما لا يجهله أحد، وإنما يدمنها الفساق تغليبا للذة على المصلحة، وترجيحًا

للشهوة على المنفعة. إن مضرات السكر في هذا العصر تربي على مضرته في

العصور السالفة التي لعن الأنبياء فيها السكارى، وسجلوا عليهم الحرمان من ملكوت

السماء، فإن الأشربة الروحية التي اخترعها الإفرنج في هذا العصر هي أشد إتلافًا

للجسم والعقل والمال.

اجتمعتُ في أواخر سنة 1310 بالدكتور فانديك الشهير في بيروت، وتذاكرنا

في تقدم سوريا وبيروت وتأخرهما، لا سيما من جهة الأدب والتهذيب، فقال: أنا

أعرف بيروت من نحو ثلاثين سنة، وليس فيها إلا بعض حانات قليلة (نسيت العدد

الذي عينه ولا أراه يبلغ عدد الأنامل) يباع فيها خمر البلاد، وأما الآن فيوجد في

بيروت عشرات من الحانات، وياليتها تبيع من خمر البلاد القليل ضرره، المحدود

خطره، وإنما هي ملأى بهذه السموم الإفرنجية، التي يسمونها الأشربة الروحية،

وقد اتفقنا في المذاكرة إلى أن هذه السموم مميتة للآداب والفضائل، وموت الآداب

والفضائل موت للشعوب والقبائل.

إن مصر تفوق بيروت في هذه الرذيلة، بل تفوق جميع البلاد، تجول في

شوارع القاهرة وأسواقها، فلا يغيب عن نظرك مرأى الحانات دقيقة واحدة، حتى

يخيل للجائل أن هذه الحانات تزيد على حاجة السكان، ولو كانوا كلهم من السكارى،

وإنها تتمثل لعيني ناظرها كأنها ثكنات عساكرها القوارير المصفوفة المرتبة

ترتيب الجنود المنظمة، وقوادها الغيد والغادات من اليونان والتليان، وسائر

أصناف الإفرنج كلا إن القوارير أكثر للأرواح انتهابًا، وللأموال استلابًا، فربما

ينفق المصريون في يوم واحد على الخمور أكثر مما أنفقته الحكومة في حرب

السودان في بدايتها إلى الآن، فقد بلغنا أن من أمرائهم ومثريهم من ينفق في الليلة

الواحدة العشرات والمئات من الجنيهات على معاقرة الراح، ومنادمة الصباح،

ويوشك أن يمتص من الزجاجة مصة، ثم يلقيها جانبًا ويطلب أخرى، يرى الفَدْم

(البليد الأحمق) أن الشرف في معالجة المفدّمات (الدنان والأباريق) ، ومجالعة

الجالعات (الجالعة: المرأة التي تتبرج وتترك الحياء، والمجالعة المجاوبة بالفحش

أو التنازع في شراب أو قمار) ، لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم،

فأنفقوا أموالهم على تخريب بيوتهم وإتلاف أمتهم وتسليم بلادهم للأجانب، لا أعني

أنهم سلموهم أزمَّة سياستها، بل أريد رقبتها وجملتها.

(الميسر) : فشا القمار في البلاد الشرقية فشوًا خرب دورًا، وقوض صرحًا

وقصورًا، وأمسى أكثر مُزاوِليه قومًا بورًا. ولقد كان لأهل هذه الديار منه أوفر

السهام وأقتلها. سرت عدواه من الرجال إلى النساء، كما سرت عدوى سائر

الموبقات، لا سيما في الأمراء وأهل الطبقات الدنيوية العالية، ذلك أن الرجال

يجاهرون فيما يجترحونه من السيئات، وهم قدوة النساء وأسوتهم فيقلدْنَهم بجميع ما

يفعلون، فكيف حال الأبناء والبنات الذين يتولدون من هذه الأصول الخبيثة ويتربون

في أحضانهم النجسة. إلا أن حالة البلاد مظلمة، ومستقبلها أحلك ظلامًا وأعظم

خطرًا إن لم تُدارَكْ بتربية دينية شريفة.

كان من شأن النساء أن تحفظ المال وتدير شؤون العائلة على محور الاقتصاد،

وتدع الأعمال العامة مالية وغير مالية للرجال، لكن نساء كبرائنا شببن عن الطوق،

وتشبثن بأذيال من التمدن الأوروبي مسحوبة على أرض قذرة، تجر من تعلق بها

عليها، حتى يكون عبرة للناظرين. إن في المدنية الأوروبية من المحاسن والفضائل

ما هو أجدر باقتباس سيدات بلادنا له، لا سيما ما هو أليق بهن وأمس بوظيفتهن،

كتربية الأولاد وتدبير المنزل والاقتصاد، فما بالهن فضَّلن الخمر والميسر واخترن

ما يُشقي على ما يسعد، واستبدلن الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ! أما كفاهن ما

يقترفه رجالهن الأشرار، ويجترحه أولادهن الأغرار، من الإسراف والتبذير،

الذي ينتهي بالعائلات - بل وبالبلاد - إلى شر مصير.

(البغاء) : وما أدراك ما هو؟ ! ارتياد الفاحشة الكبرى، وتطلب النقيصة

السوأَى من جماعة من النساء يستعددن لذلك ويتجاهرن به. الزنا مولد الأدواء

المشوهة القاتلة، ومقلل النسل، ومضيع الأنساب، ومتلف الأموال، ومفسد نظام

العائلات، وإن المجاهرة به مدعاة لتعميمِهِ وتعميمُهُ فتنة في الأرض وفساد كبير،

وبلاء على الأمم وبيل، فشا في الأمة الفرنسوية وهي مفيضة العلم على أوروبا

وقدوتها في التربية العملية التي بها قوام المدنية، فصدمها صدمة وقفت بنموها،

وقللت رجالها، فقد كان متوسط المواليد فيها أوائل هذا القرن 32 في الألف، فهبط

في بعض بلادهم إلى 14، وفي بعضها إلى 22 في الألف، ولقد كان سكان أوروبا

يومئذ نحو مائة مليون، ربعهم من الفرنسويين، فزادت بروسيا في مدة القرن خمسة

أضعاف، وبريطانيا أربعة أضعاف، وروسيا ثلاثة أضعاف، وفرنسا ضعفًا واحدًا،

وأصبح أهل فرنسا عُشر أهل أوروبا، وسبب ذلك الأكبر فشوّ الزنا فيهم،

وساستهم الآن في حيرة من تلافيه.

هذا، وإن لهذه المصيبة من الضرر المالي في مثل هذه البلاد ما لا نظير له

في فرنسا، وذلك لأن معظم المال الذي ينفق على الفحش هنا إنما ينقصه الأجانب

من ثروة البلاد؛ لأن معظم المسافحات وذوات الأخدان فيها من الإفرنج، لا سيما

صواحب الأمراء والوجهاء اللواتي يفاض عليهن المال جزافًا بلا عدّ ولا كيل،

وبهذا المعنى نعد البغايا والمومسات من الجند الفاتح للبلاد، فإنهن ما نزلن في

عراص قوام إلا مهدن لأبناء جنسهن فيها المقام، وأورثنهم أرضهم وديارهم وأموالهم

وشاهد ذلك بين يدينا وتحت مواقع أبصارنا، فعلى من ابتلي بذلك أن يقلع حفظًا

لدينه ودنياه، وإن كان استحوذ عليه الشيطان وملك عليه أمره فليستتر، لا سيما عن

أهله وبنيه؛ لئلا يجني عليهم فيفسدهم، كما فسد ويضيع الأمل من مستقبل البلاد

بهم، وليحجبهم ويمنعهم من قرناء السوء أمثاله، ولا يأتمن عليهم الخدم، فإنهم في

الغالب على دينه ومشربه الخبيث، ولقد بلغنا أن هؤلاء الخدم يغشون مواخير

المومسات ومعهم الأولاد الصغار الذين عُهد إليهم بخدمتهم، فيتربون على مشاهدة

الفاحشة وبئست التربية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) .

(الربا) : هو الآفة المجتاحة للثمار، والمخربة للديار، التي جعلت الأغنياء

فقراء، والأعزاء أذلاء، هو الذي مكن للأوروبيين في أرض مصر (كغيرها من

ممالك الشرق) ، فاستولى دائنوهم على صفاصفها (أرضها السهلة المستوية)

وأثباجها (ترعها) ، وساستهم على إتاوتها وخراجها، ثم على سائر دوائر الإدارات،

حتى أوشكت تكون بلادًا أوروبية حاكمًا ومحكومًا. ضغط الربا على جثمان هذه

البلاد رويدًا رويدًا، حتى اشتبكت الأضلاع بالأضلاع، واختلط اللحم بالعظم، وما

شعرت حكومتها بضغط، ولا أحست أفرادها بألم، حتى سحق الضغط كلًّا من

الحاكم والمحكوم، ما أُكل الربا أضعافًا مضاعفة في بلاد كهذه البلاد، وما أضر بقوم

كما أضر بأهلها، ظلم حكامها رعيتهم، فألجئوهم إلى الاستدانة بالربا الفاحش، ومَن

ظلم رعيته كان لنفسه أظلم.

{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: 21) . {وَكَذَلِكَ

أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) .

(التجارة) : لقد علم الأوروبيون أن حرب الدراهم والدنانير أنجح من حرب

المدافع والبواريد، وقد امتلكوا بهذه الحروب الذهبية والفضية أكثر بلاد الشرق،

فالإنكليز ما استولوا على ممالك الهند بتكتيب الكتائب، وسوق الأساطيل بالفيالق

والجحافل، وإنما هي جمعية تجارية وطَّأت المسالك، ومهدت السبل، تظلها السلطة

ويؤيدها النفوذ اللذان يقيمان حيث تقيم، وكذلك كان شأن شركة النيجر في أحشاء

إفريقية، واليوم يُنعم الإنكليز على الحكومة المصرية بثمانمائة ألف جنيه ونيّف؛

لافتتاح السودان، وتصرح وزارتهم بأن الإنصاف يقضي عليهم بمساعدة مصر

بالإنفاق على فتح السودان؛ لأنها شريكتها بفوائده التجارية ومعناه لِأَنْ تستأثر

بالتجارة وتختص دون أوروبا بهذا الفتوح المعنوي الذي يتبعه التملك اسمًا ومعنى،

كما هو المعهود في الهند والنيجر وغيرهما، ومعلوم أن الحكومة المصرية لا تجارة

لها، وبهذا يحتج عليها المحتلون في إجبارها على بيع سكك حديد السودان بعد الفتح.

يقولون: إن فائدتها العسكرية تنتهي بالفتح، والحكومة المصرية لا تجارة لها،

ولا يليق بها التجارة، فمن المصلحة أن تباع هذه السكك لشركة تجارية، ويرجح

الإنكليز على سائر الأجانب؛ لما أنفقوا من أموالهم، وما أزهقوا من رجالهم،

والحمد لله لا شركات وطنية لنا فنقول: إنها أحق بالتقدم حتى على الإنكليز.

ابتاع أخوان من الفلاحين عدة من الدجاج (الفراخ) لأجل تربيتها والانتفاع

ببيضها، وكان أحدهما ذكيًّا، والآخر بليدًا مغفلاً، فقال الذكي للبليد: تعالَ نقتسم،

واتفقا في القسمة على أن تكون الدجاجات للبليد وبيوضها لأخيه، فكان هو يتعاهدها

بالأكل والشرب والمبيت، وينفق عليها ويخلي بين أخيه وبين بيوضها، يبيعها

ويأكل منها ما شاء، وصار الأخوان مثلاً في بلدهما في تلك القسمة الضِّيزَى.

كذلك شأن الإنكليز مع الحكومة المصرية في السودان وشأن سائر الأوروبيين

في فتوحاتهم المعنوية، يقنعون بامتلاك المنافع وثمرات البلاد، ويدعون الاسم

لأهلها، ولكن إلى أجل مسمى، حتى إذا ما جاء الأجل يصرحون بالامتلاك الاسمي

أيضًا.

كل هذا والشرقيون وادعون ساكنون، وإذا تحركوا فإنما تكون حركتهم ميلاً

مع ريح الأجانب، انخداعًا لها أو رهبةً منها، لاندهاشهم بعظمتها التي ما جاءتها إلا

من الشركات المالية، وهي أيسر شيء عليهم، لا سيما قبل تمكُّن الأجانب من

بلادهم. لو أن للشرقيين عقولاً ذكية، وتربية وطنية لَمَا رضوا أن تكون بلادهم بينهم

وبين الأجانب كالدجاجات بين ذينك الأخوين - فكيف والأمر أعظم من ذلك؟ -

ولقاوموا جنود التجارة الفاتحة أشد المقاومة.

اندفع الغرب على الشرق بخميس من الأزياء، وكتائب من الحلي، وجحافل

من الماعون النفيس، وفيالق من اللذائذ، فلم تَجِدْ هذه الجنود المجندة من الشرق أقل

مقاومة، ولا أدنى مدافعة، فطفقت تفتك في النفوس بعوامل الترف، وفي الأموال

بعوامل السرف، ومازال القوم يعدون هذه العوامل من علائم الشرف، حتى وقفت

بهم على شفا جرف وأكبتهم على مناخرهم في مهاوي التلف.

لا ننكر أن من هذه الجنود ما لا قِبَلَ لنا بدفعه الآن، كالضروري من الأدوات

والماعون والنسيج، وكلامنا إنما هو في الزخارف الكمالية، كالحلي وماعون الزينة

ومادة الترف من الأشربة وغيرها، فهذه هي التي تنسف ثروة البلاد وترميها بالفقر

والعجز. فرُبَّ ملك أو أمير (برنس) ينفق على الترف والبذخ ما يكفي لإنشاء

مدارس أو معامل يحيي بها صقعًا من الأصقاع، أو إقليمًا من الأقاليم (كمديرية أو

متصرّفية) ، يتنافس الأمراء وسائر أهل الثراء بتقليد الإفرنج في كل طراز

وإنما يتنافسون في خراب بلادهم، فإن تطرّز الإفرنج وتورّنهم وتماديهم في الترف -

كل ذلك يزيد في إحياء صنائعهم ونموها وكمالها، ولا تتحول به أثباج ثروتهم

ومجاريها إلى غير بلادهم، بل تبقى دائرة فيها، ومع ذلك يتحامون الإسراف في

الترف، ويسيرون فيه على أصول التدبير والاقتصاد، فلا ينغمسون فيه كأمرائنا

انغماسًا ينتهي بالغرق، ويتلافون مضراته الروحية والجسدية من ضعف الأبدان

وقعود الهمم عن الأعمال العظيمة بالتربية الصحيحة التي رأينا من آثارها أن

أبناء الملوك والوزراء يزاولون الأعمال العسكرية والمدنية بأيديهم، سواء كان ذلك

في البر أو البحر، بل رأينا أن الجنس اللطيف آب (تهيأ) لمساهمة الجنس النشيط

في الأعمال الشاقة، حتى طلب بعضهن الانتظام في سلك الجندية والقيام بالأعمال

الحربية، وهذا هو معنى قولنا في أوائل هذه المقالة: (إن الترف مدعاة الدمار

والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة، تقي من أدوائه وتعصم من

بلائه) .

فعسى أن يتنبه الشرقيون لما ذكرنا، فيحترزون من مضار الترف وتقليد

الإفرنج بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالدمار، ويجتهدون بتربية أولادهم تربية دينية

وطنية، لعلهم يستردون ما فقدوا، ويسترجعون ما سُلبوا، وما ذلك على الله بعزيز.

_________

(*) فاتحة العدد السابع عشر الذي صدر في 23 صفر سنة 1316.

ص: 299

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعر العصري

بَيَّنَّا في مقالاتنا السابقة في (الشعر والشعراء) : أن الشعر ينبغي أن يكون في

كل عصر مناسبًا لحالته، وأنه ينبغي للمشتغلين بهذه الصناعة أن يَنْظُموا في

المواضع الشريفة، ويصوغوا المعاني الجديدة التي تعطيها الاختراعات الصناعية

والاكتشافات العلمية. وذكرنا أن أول مَن نبهنا على فك الشعر من وَثاقه فضيلة

أستاذنا العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر، صاحب الرسالة الحميدية، ولقد كان

تنبيه هذا الأستاذ لهذا الأمر بالقول والفعل، ومما نظمه من الشعر الذي نسميه

(بالعصري) - قصيدة يحث فيها على إعانة العساكر السلطانية، اقتداءً بمن انتدبوا

لذلك من ولاية سلانيك سنة 1304، ويمدح بها الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى،

وقد نشرت وقتئذ في جريدة الاعتدال التي كانت تصدر في الآستانة العلية، وقد

أحببنا أن نزين جريدتنا بها لما فيها من التنبيه، ومدح مولانا أمير المؤمنين وهي:

أحبَّتنا الترك الأكارم والعربا

أنادي الموافي الشرق منكم أو الغربا

أصيخوا لقولي يا صباحا فإنني

أنا المنذر العُرْيان ينذركم خطْبا

بذلت لكم نصحي وإني وحقكم

محب وأولى بالقبول امرؤ حبا

أهيم بسعدى والأماني سعودكم

أمانيّ من سعدى أذوق بها العذبا

وأذكر نجدًا والفؤاد بذكره

لنجدتكم يطوي مدى عمره وثبا

ويا طالما أسهرت جفني في الدجى

أراقب في أعلى مفارقه الشهبا

وما بي وَجْد غير أني مفكر

بكل الذي عن نهجكم يطرد الصعبا

إذا نظرت عيناي مجدًا لغيركم

تفيضان دمعًا يخجل الدم والسحبا

أئنُّ وأبدي من زفيري لواعجًا

أشيب بها لما أرى غيركم شبّا

إذا شمت برقًا في سماء سعادة

أقول عساه عنكم يخرق الحجبا

ولي مقلة بصارة إنما يدي

بها قصر عما شغلت به القلبا

فجِدُّوا لإدراك المعالي فإنها

لغاية آباء لكم مجدهم أربى

بِعلم وَجُود شامخ وبسالة

وملك عزيز باذخ حيَّر اللبا

أَمَا منكم تلك البحار التي غدت

معارفها ما بيننا اللؤلؤ الرطبا

أناروا بأنوار العوارف والهدى

مناهج حق واستحثوا بها الركبا

فأوفوا على بحبوحة الدين تزدهي

بشمس يقين نورها مزق السحبا

وأوموا إلى الدنيا فذلّت وأصبحت

إلى ربعهم أفلاذ غبرائها تجبى

أما منكم تلك الأسود التي سعت

إلى الموت لا توليه ظهرًا ولا جنبا

يعدون لقيا الحرب أوفر حظهم

كأن لديها ودهم يصحب القربى

وحازو فَخارًا دون هامة السهى

وملكًا عزيزًا شامخًا باذخًا رحبا

وأبقوا لنا هذا التراث فهل نرى

من الحزم أن نلقيَه بين الورى نهبا

خليق بتُرب خالطته دماؤهم

دعانا له مسك الترائب لا تربا

أما منكم تلك الكرام الأولى رموا

بأموالهم عن مجد أوطانهم ذبّا

سخوا بكنوز للمحامي عن الحمى

وهم كنزوا في بذلها الشرف الصلبا

فقوم رأوا بذل النفوس سعادة

فطاب لديهم شرب كأس الردى عبّا

وقوم رأوا بذل العقائل منه

عليهم ففاض الجود من راحهم سكبا

وكلٌّ شَرَى من ربه جنة الرضى

وقد ربحت تلك التجارة في العقبى

أما منكم تلك الملوك التي غدت

سياستها للملك تستغرق الكتبا

قد استخدموا للعلم كل يراعة

وسلّوا لحفظ الملة الصارم العضبا

وساقوا لإرغام العدا كل فيلق

يهدّ الرواسي الشامخات إذا دبا

وكم قلبوا من دولة مشمخرّة

وكم دوخوا في كل ناحية شعبا

وكم فتحوا من بلدة ذات منعة

صياصيّها دكت بوطأتهم رعبا

وكم عمروا بالعدل دارًا وصيروا

قفار البراري يزدهي وعرها خصبا

لنا اليوم منهم في المَلا خَيْرُ شاهدٍ

أطاع له المولى الأعاجم والعربا

خليفتنا (عبد الحميد) الذي له

سوابق خير لا نطيق لها حسبا

رأى أن هذا العلم نور وأنه

لكل نجاح في الملا أصبح القطبا

فسهل في إدراكه كل منهج

وأركبنا عند السُّرَى نحوه نجبا

أتى الملك والأخطار محدقة به

فأنهض في أعبائه كاهلاً صلبا

وأفرج عنه كلّ غماء عندها

يطيل غراب البين في دارنا النعبا

وقام بأمر الدين يحمي ذماره

ويولي صدوع الملك من رأيه رأيا

وسار على متن العزيمة يقتفي

لتشييد سلطان له المنهج الرحبا

فباشر وصل المدن في دار ملكه

بطرق حديد تجمع الشرق والغربا

مناهج قد أصبحن أسّ تجارة

كما قد غدت في حرب أعدائنا قطبا

إذا ما خلت منهن مملكة غدت

تخاف الأعادي وهي لا تأمن الجدبا

إذا ما بساط الريح راقك ذكره

فهذا بساط النار تقضي به الأربا

وقد شاد في غمر البحار شوامخًا

تمر مرور السحب في سيرها خبا

دوراع قامت للخطوب روادعًا

روائع أعداء متى سحبت سحبا

إذا انشق صدر البحر منها تشققت

قلوب العدا من هول منظرها رعبا

إذا قذفت نيرانها خِلْتَ أنها

براكين هاجت واللهيب بها شبّا

وجهز للفرض الذي عز ديننا

به كل جيش يعشق الطعن والضربا

ترى في ثنيات الثغور عساكرًا

تضيء ثغورًا كلما تشهد الحربا

أسود شرى قد أشبلت فهي في الوغى

تجيد بأرواح العدا السلب والنهبا

مخالبها تلك الحراب وزأرها

صراخ بواريد تصبّ البَلا صبا

وتقذف إذ يحمى الوطيس على العدا

صواعق كرّوب بها تفرج الكربا

أقامهم سلطاننا عز نصره

لحفظ حمى الأوطان سربًا يلي سربا

وهم بذلوا الأرواح صونًا لدارنا

أليس علينا أن نهيم بهم حبا

ونبذل في راحاتهم كل ممكن

لدينا من الإسعاف كي نأمن العتبا

أيجمل فينا المكث ما بين أهلنا

نلذ بمأكول ونستعذب الشربا

وتلك الأسود الحاميات ديارنا

نآة عن الأهلين قد فارقوا الصحبا

ونحن بأكنان على الفرش رُقَّد

وهم تَخِذوا بين الثلوج لهم سربا

وناهيك برد الروم لا درّ درّه

إذا اشتد يومًا فتت الحجر الصلبا

ألا فاقتدوا يا قومنا بأكارم

سَعَوْا بالهدايا نحوهم تملأ الرحبا

فنالوا ثواب الله جل جلاله

وشكر مليك لم يزل سيله سكبا

فما ضاع عند الله مثقال ذرة

وللعُرف عَرف كم يضوع بنا حقبا

أدام إله العرش سلطاننا لنا

غياثًا ونصر الله دام له حزبا

_________

ص: 309

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المنار في سوريا

يشكو قراء المنار في الديار السورية من حجب الكثير من أعداده عنهم، وعدم

وصولها إليهم، وأخبرنا الوكلاء أن المشتركين توقَّفوا عن دفع بدلات الاشتراك، بل

وقفت الرغبة بالناس عن الاشتراك، يتوهمون عند احتجاب كل عدد أن المنار مُنع

من دخول بلادهم بأمر من الدولة العلية.

وكيف يمنع من دخول بلاد الدولة وهو الصادق في الخدمة لأمير المؤمنين

ودولته، والمخلص في نصيحة العثمانيين جميعًا، والساعي في تأليف القلوب وجمع

الكلمة، والحاثّ على التعاون على الأعمال المفيدة نجاح الأوطان، ولقد كان نمى

إلينا أن منع تلك الأعداد كان بأمر من جانب صاحب العطوفة، ملجأ ولاية بيروت

المعظم، فسألنا من بعض ثقات بيروت الوجهاء عن حقيقة ذلك وسببه لنجتنبه إذا

كان معقولاً، فكتب لنا ذلك الثقة أن حضرة الوالي يقول: إن مراقبة الجرائد مكلف

بها غيره، فالمنع إنما يأتي من قبل المراقب لا من قبل عطوفة الوالي، وكتب لنا

الثقة أن المراقب له أعوان، ويؤكد أن منع الجريدة إنما يكون من قبل أحد أولئك

الأعوان.

بقي لنا لمحة نظر إلى العلة الباعثة لأولئك الأعوان على منع ما منعوه

والمرجح الذي رجحوه به. امتازت جريدتنا على الجرائد العربية بدوام الحث على

التربية والتعليم، والنهي عن المنكرات، والترغيب في الفضائل، فلا يكاد يخلو

عدد من أعدادها من ذكر هذه الأشياء كلها أو بعضها؛ لأن الجريدة منشأة لهذا، وأما

الشؤون السياسية فإنما نلم بها في بعض الأحايين إلمامًا، وأكثر ما نورده من ذلك

نمزجه بمزيج الأدب، ونفرغه في أكواب التهذيب.

كنا نظن أن سبب عدم وصول بعض أعداد الجريدة إلى أصحابها إهمال

البوسطة العثمانية في بيروت، ونعجب كيف أن جريدتنا تصل إلى كثير من بلاد

الهند، بل وجزيرة سومطرا في أقصَى المعمور، ولا تصل إلى مشتركي بيروت

المجاورة لمصر، حتى تبين لنا أن لا تبعة عليها في ذلك، لكننا نرجو من مدير

عموم البوسطة أن يرد لنا الأعداد التي منعت وتمنع؛ لأنها ملكنا ولا يجوز

اغتصابها منا وأخذها بغير حق، ونحن ننتفع بها هنا ببيعها، فإذا علم أن هذه أعداد

منعت في بيروت وأرجعت إلى إدارة الجريدة، تتوجه رغبات المصريين للاطلاع

عليها، ويتهافتون على ابتياعها بزيادة عن ثمن المثل، وتلك عادتهم. ردوها علينا

ليزداد المصريون علمًا بقيمة العلم والنصيحة في بيروت، ويسبروا غور صدق

الموظفين وأمانتهم، وليقارنوا بين هذه المعاملة المبنية على أن الجريدة مضرة وبين

قول شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية: (يا ليت كل الجرائد كالمنار) ، ووافقه

على ذلك قولاً كل من كان لديه من أكابر علماء الأزهر في مجلس إدارته، حيث

قال الكلمة، وقول العلامة الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أكابر علماء الأزهر:

(إن ما يُكتب في المنار هو خير ما يُكتب في الجرائد) ، وأمثال ذلك مما يلهج به

فضلاء المصريين وعقلاؤهم.

وإننا نختم هذه الكلمات بقولنا الذي نعلنه على رءوس الأشهاد: إننا نخدم بهذه

الجريدة أمتنا وسلطاننا بقدر فهمنا واجتهادنا، فمن كان يزعم من مراقب أو حاكم أو

غيرهما أن في الجريدة ما يضر بمصالح الأمة أو الإمام فلينبهنا عليه ونحن ننشره له

في الجريدة إن شاء، ونعمل بموجبه إن ظهر لنا أنه الصواب، وإلا فإننا نراجعه

القول حتى تتضح الحقيقة فنتبعها إن شاء الله تعالى، والله على ما نقول وكيل، ومن

منع الجريدة أو سعى بمنعها من غير تنبيهنا على ما يراه مضرًّا فيها لنجتنبه فهو

مستبد خائن لأمته وسلطانه وعليه إثمه {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف: 52) .

_________

ص: 312

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب

أثبتنا في النبذ التي كتبناها عن الحرب في العدد 12 و15 أن أسطول الأميرال

سرفيرا الأسباني قد حصر في ميناء سنتياغو، فإذا حاول الخروج أسره أسطول

الأميرال سمبسون الأميركاني أو دمره تدميرًا، وأن الأسبانيين قد أضر بهم السغب

واللغوب (الجوع والتعب) ، بحيث لا يستطيعون التمادي في المطاولة، ولا بد أن

يلجئوا قريبًا للاستسلام أو الاستبسال والاستماتة، وإن حالة جزائر فيلبين في خطر

مبين، وإن أسطول الأميرال كمارا الذي جاء بورسعيد قاصدًا إغاثة تلك الجزائر لا

يرجى أن يستفيد من سعيه وكده، وإنه إذا كان لديه من الفحم ما يبلغه مقصده يخشى

عليه من فتك الأسطول الأميركاني به. قلنا هذا ورأينا جريدة التيمس وافقتنا على

ما قلنا، كما وافقنا بعض كتبة الجرائد في الولايات المتحدة، ثم جاءت الحوادث

مؤيدة له، فلقد حاول الأسطول الأسباني الفرار فهاجمه الأسطول الأميركاني ودمره

تدميرًا، وأسر الأميرال سرفيرا مع بعض جنوده، وهلك الباقون غرقًا وحرقًا،

والأخبار مفصلة في الأخبار البرقية، أما أسطول كمارا فقد ألجأته الحكومة

المصرية إلى مبارحة بورسعيد من غير أن يحمل منها فحمًا؛ لأن الدولة العلية

صاحبة البلاد قد أعلنت الحياد في هذه الحرب، وإقامته في ثغورها أو أخذه الفحم

منها يعد مساعدة منها لأسبانيا على الولايات المتحدة.

ولقد بلغ من تشديد الحكومة المصرية على الأسطول: أن النار شبت في

مستودع الفحم في إحدى البوارج وهي في السويس، فطلبت الإعانة على إخمادها

فلم تصادف معينًا، لكنها سمحت لبارجة الأميرال التي تعطل بعض آلاتها البخارية

في القنال أن تمكث ريثما يصلح الخلل فيها.

مر الأسطول في القنال وهو مؤلف من 12 سفينة، وقد دفع عنه رسم المرور

لشركة القنال في باريس 344106 فرنكات، وجاوز السويس ما عدا بارجة

الأميرال، فإنها بقيت في ميناء البلد بحجة إصلاح الخلل الذي أصابها، وقد ظن

بعض الناس أن دعوى الخلل حيلة للمُكْث حتى ترد عليها الأوامر من أسبانيا، وربما

كان صاحب هذا الظن غيدارًا (الغيدار الذي يظن سوءًا فيصيب) ، ولم يكد يبعد

الأسطول مسافة عشرة أميال في البحر الأحمر حتى تأثره الأميرال كمارا ببارجته

المتخلفة وأمره بأن يرجع أدراجه (أي من حيث أتى) ، فمر في القنال راجعًا إلى

بورسعيد، وقد سافر بعضه إلى قرطاجنة وسيتبعه الباقي، والسبب في ذلك الخوف

عليه من الأميركان أن يدمروه كما دمروا أخويه من قبل في منلا وسنتياغو، وقيل:

إن هنالك سببًا آخر وهو أن حكومة الولايات المتحدة سيرت أسطولاً إلى نفس أسبانيا

فإرجاع الأسطول إنما هو لأجل حماية جزائر كناري (الجزائر الخالدات) وسواحل

البلاد من أسطول الأعداء المنتظر، ويوشك أن يكون السبب إرادة الصلح وتوقعه.

لقد كان لتدمير أسطول سرفيرا أسوأ وقع في أسبانيا، وَجِلَتْ لِنَبَئِهِ القلوب،

وذرفت العيون ورثى مَن في قلبه أثر للرأفة والرحمة لملك هذه البلاد الصغير،

ورق لوصيته ووالدته الأسيفة، وكتمت الحكومة الأمر عن أهل البلاد فرقًا من

حدوث اضطراب وهياج من مفاجأة الخبر، ومن العجيب أنها كتمته حتى عن

أسطول كمارا، فلقد أنكر هذا الأميرال الخبر عندما أُعلم به في السويس.

كل هذا الخذلان والخسران لم يخمد حمية الأسبانيين، ومازال فيهم من يقول

باستمرار الحرب مادام في كوبا عسكري واحد منهم، وجاء في أخبار بريد أوروبا

أن أسقف سيغوفيا أصدر منشورًا حض فيه على الحرب المقدسة. لكن البلاد لم تعدم

الهادئين المتبصرين الذين يودون الصلح ويشعرون بخطر الاستمرار على الحرب،

سواء كانت مقدسة أو منجسة، وقد أصدرت جمعية الحزب الاشتراكي منشورًا قالت

فيه: إن الاستمرار على الحرب - بعد أن فقدت أسبانيا عُدد الدفاع - ضرب من

الجنون، وإن جميع العمال يطلبون الصلح. بل أحس ماعدا الحرب العسكري بما

أحس به الحزب الاشتراكي والعمال، وأمسوا يودون الصلح ويتوقعونه، وإن أظهر

ناظر الحربية وناظر البحرية الإصرار على الاستمرار؛ لأن المستبسل لا ينظر إلى

ما وراءه. يصر هذان الناظران الأعميان على ما يضر بدولتهما ضررًا يكاد يكون

موتًا، أما كفاهما تحطيم الأسطولين وفناء العسكرين (البري والبحري) ، فقد ورد

في رسالة برقية من سنتياغو لمدريد أنه لم يبق من الأسبانيين سوى ألفي مقاتل،

فكيف يلقون نيفًا وعشرين ألفًا من الأميركيين والكوبيين كاملي العدد؟ !

ويزعم السنيور سغستا وزير أسبانيا الأول أن في جزيرة كوبا الآن نحو مائة

ألف جندي خلا المتطوعين، وتعجز الولايات المتحدة عن الظفر بهم إذا غادرت

سنتياغو وأوغلت في الجزيرة بعد ظفرها بأسطول سرفيرا، ولقد قال الوزير هذا

القول قبل تدمير الأسطول، ولعل فكره قد تغير بسبب الانكسار وجنح للسلم، وإن

كان فيها ترك كوبا بالكلية وإعطاء الامتيازات للفيلبين فإن عاند أجهز الأميركيون

على أسبانيا، وقضوا عليها قضاءً، لا تنجو منه إلى أبد الآبدين.

_________

ص: 315

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة [*]

اقترح هذا المشروع محرر جريدة وكيل الهندية الغراء في جريدته وكتب إلى

جريدة المؤيد المصرية الغراء يدعوها إلى الحث عليه فلبت دعوته وكان ذلك أثناء

صدور جريدتنا فأكبرنا شأن المشروع ونقلناه في العدد الأول عن جريدة المؤيد

ملخصًا مع أن النقل في العدد الأول من جريدة عن غيرها يرمق بنظر الانتقاد.

اعترفنا بعظيم فائدة المشروع لذاته ولأنه من الأعمال التي لا تقوم إلا

بالشركات المالية وقلنا عند ذلك: إن الحث على الشركات المالية لأي عمل هو من

أفضل المقاصد التي أنشئت جريدتنا لأجلها. طلب مقترح المشروع أن تكون اللجنة

التي تؤلف لفتح الاكتتاب لهذا العمل تحت رئاسة مولانا السلطان الأعظم ففوضنا

النظر في المشروع لحكمة مولانا ورجاله الصادقين الذين من شأنهم إظهار فوائد هذه

الأعمال ومنافعها قبل تصديق الحضرة السلطانية عليها. وحيث كانت لهجة جريدة

وكيل وجريدة المؤيد الغراوين تصرح بأن هذا المشروع أعظم مشروع ينعش الحياة

ويجدد السعادة للأمة والملة، بيَّنا رأينا في سعادة الأمة فقلنا: (ورأينا أن سبب التقدم

الذي يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم) وبينا

في ذلك العدد وفي سائر الأعداد أن مرادنا بالتربية والتعليم ما يشمل التنبيه على

الأعمال النافعة والحث عليها مثل هذا المشروع العظيم.

وقد أعاد الفاضل الهندي الكرَّة على المشروع فكتب فيه رسالة مطولة

لحضرة الأستاذ الفاضل صاحب جريدة المؤيد أشرنا إليها في العدد الماضي ووعدنا

بنشر ملخصها والكلام على انتقاده علينا وعلى المشروع نفسه ووفاءً بذلك نقول:

بدأ الفاضل رسالته بالشكر والثناء على صاحب المؤيد لاعتنائه بهذا المشروع

وإظهار التأسف لأن الرأي العام الإسلامي لم تدب فيه روح النشاط لإنجاز مثل هذا

العمل ثم قال:

وغير خافٍ على مَن لهم دراية بمثل هذه الأعمال أن مشروع سكة الحديد بين

بورسعيد والبصرة يحتاج إلى نحو من ثلاثين مليونًا لإبرازه، فإذا كان العالم

الإسلامي بأجمعه لا يقدر على الحصول على مثل هذا المقدار أو لا يثق بنفسه في

جمعه، فعلى العالم وعلى الدنيا السلام!

وإني لأشكر أيضاً رصفائي الذين ساعدوني بأفكارهم الصائبة في هذا المشروع

الجليل، ولكن لا أوافق حضرتَيْ الفاضلين صاحبي جريدتي المنار ومعلومات فيما

كتبا؛ لأن الأول بعد أن استحسن المشروع وعدَّد منافعه أبدى ملاحظتين: الأولى أن

مولانا الخليفة الأعظم ورجاله هم أدرى بمنافع بلادهم من غيرهم وهذه حقيقة

لا مراء فيها ذكرها الشاعر المشهور حافظ الشيرازي من سنين مضت في بيت شعر

له (وقد ذكره بنصه فأغفلناه) .

وليس هذا المشروع من المسائل السياسية بل هو مشروع تجارة ليستفيد منه

المسلمون في جميع الأقطار، فضلاً عن أنه لا يليق بنا أن نقعد كسالى وننتظر عمل

كل صالح لنا من رجل واحد أو من فئة مخصوصة؛ لأن هذا فوق طاقة البشر ومن

الواجب على كل وطني غيورٍ مخلص الولاء لأمته وبلاده أن يعرض ما لديه من

المشروعات على الجمهور وخصوصًا ذوي السطوة والنفوذ مؤمّلاً منهم تحقيقها.

والملاحظة الثانية التي أبداها صاحب جريدة المنار الغراء هي أن أول ما يجب

علينا القيام به تربية الشعب وبعد التربية يكون إنجاز مثل هذه المشروعات الجسيمة؛

ولهذا يرى أن من الواجب على ذوي اليسار أن يتعاونوا على فتح المدارس أولاً،

ثم يتعاونون بعد ذلك على المشروعات الكبرى.

وحقًا لقد صدق الأستاذ في أن التربية أساس نجاح الشعوب غير أن هذا لا

يصح أن يكون عقبة في طريق كل عمل يرى فيه النفع العام خصوصًا، وأن الثروة

المحلية من أقوى عوامل التربية، كما أن التربية من أقوى عوامل تنميتها.

على أنه إذا كان الناس يتقاعدون عن المشروعات التجارية التي تعود عليهم

بالفوائد المادية الجُلَى فكيف يجودون بالمال في سبيل التعليم الذي هو من

المشروعات الخيرية وفوائده أدبية إلى زمن مديد.

وزيادة على ذلك فإن إهمال مشروع جليل كهذا إلى أن تتربى الأمة التربية التي

يريدها حضرته قد يضيع عليها فوائد جُلَى ربما تعذر عليها بعد ذلك إدراكها بل ربما

تكون الأمم الأجنبية قد أسقطتنا بسبب فقرنا في مهواة الدمار وأمكنها بذلك أن تطردنا

من بيوتنا.

والتاريخ أعظم شاهد ونواميس الطبيعة دالة على أن العمل أعظم تأثيرًا في

حياة الشعوب من نظريات التعليم البطيء، فضلاً عن أنه لدينا الآن في كل شعب

إسلامي طبقة عالية متعلمة كافية لأن تجري أعمالنا على قواعد علمية راسخة

ويمكنهم أن يكونوا قادة الهمم وأئمة الأفكار، فليس من عار علينا أن ندعوهم في

مقدمة مَن ندعوهم.

وإذا كان الواجب على الحكومات أن تقوم بكل المشروعات الكبيرة كما تقوم

بتربية الشعوب فما بالنا نحمل واجب الحكومات على كواهلنا.

نعم، إن كثيرًا من الحكومات لا يقوم بواجباته تمام القيام، أفلا يجب على

الأمة في مثل هذا أن تعمل ما أهملت عمله الحكومة وخصوصًا في مشروع كهذا هو

في اعتقاد ذوي النظر السديد أنفع من بضع مدارس علمية يتخرج منها مَن لا يعرف

في الغالب سوى الكتب والنظريات.

إن هذا المشروع مدرسة عملية في حد ذاته وهو ينجب لنا مئين وألوفًا من

الشبان في الهندسة العملية، والأشغال التجارية، والمالية، والصناعية، وتكون هذه

المدرسة التجارية الجديدة أساسًا لثروتنا ومهدًا لمستقبل اتحادنا وسعادتنا.

ولست أراني بعد هذا في حاجة للرد على جريدة المنار الغراء؛ ففيما تقدم وفي

ذكاء حضرات القراء كفاية لاستنتاج الحقائق من هذه العبارة القليلة.

أما ما جاء في جريدة (معلومات) فإنه أدهشني للغاية؛ إذ كيف يخطّ قلم

حضرة صاحب هذه الجريدة السيد محمد بك طاهر ما جاء فيها من الملاحظات حيث

كتب في جريدته أن الدول الأجنبية ربما عارضت الباب العالي في قيامه بهذا

المشروع وأن جلالة مولانا السلطان الأعظم ربما أبى أن يقبل مثل هذا المشروع

تحت حمايته فإن كان الأمر كذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن كيف يتاح لي أو لغيري أن يصدق هذا الكلام وهو لو قيل عن سلطان

غير مولانا السلطان الحالي لاضطررنا لتصديقه إذا صدر عن مثل محرر جريدة

معلومات الغراء. وإنما يستحيل علينا أن نصدق مثل هذا القول عن سلطاننا الحالي

الذي اشتهر بحب جمع كلمة المسلمين وتوثيق عرى الروابط بين شعوب العالم

الإسلامي وبديهي أن هذا المشروع التجاري من أجلّ وسائل تحقيق آماله فيما يريد.

ومولانا السلطان الحالي الذي هو واسطة عقد الإسلام وروح حياة جامعته قد ملأ

النفوس أملاً في المستقبل، فأنا لا أصدق ما قالته عنه جريدة معلومات أبدًا أبدًا.

ونحن من الجهة الأخرى نرى الملوك فضلاً عن قبولهم المشروعات العظيمة

تحت رعايتهم يشتركون قلبًا وقالبًا في أقل المشروعات التي تنجم عنها فائدة ما

لبلادهم.

إذن فكيف نصدق بأن جلالة مولانا السلطان عبد الحميد الذي يصرف جميع

أوقاته ويشتغل بكل قواه في صالح رعيته يتأخر عن قبول مشروع جسيم كثير

الفوائد لبلاده ورعيته مثل هذا المشروع الذي نحن بصدده.

وبصفته أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين يرى جلالته أن من أوجب

الواجبات عليه العمل فيما ينفع رعيته، وليس من نافع أجلّ وأعظم من هذا

المشروع الجليل، وهو المشروع الوحيد الذي يساعده على مبدئه الحميدي من جمع

كلمة المسلمين ولمّ شتات ثروتهم.

ومن المحقق أن جلالته لو اهتم بهذا المشروع كان نجاحه مكفولاً، بل لو أخذه

جلالته تحت حمايته لاستطعنا جمع أضعاف أضعاف نفقته.

نعم، إن الكثيرين منا أصبحوا فقراء، ولكنَّا - والحمد لله - لا تزال فينا بقية

تؤهلنا لجمع ثلاثين أو أربعين مليونًا.

نعم، إن أغنياءنا قسمان: إما غني مبذر يصرف أمواله في الأمور التافهة،

وإما بخيل يخاف على دراهمه من هبوب النسيم، فيدفنها في أعماق الأرض إلى

أجل غير مسمى، وفي كلتا الحالتين وبال علينا، ولكن ثقة العالم الإسلامي في

جلالة مولانا أمير المؤمنين تدعو الفريقين إلى تلبيته فيما يريد، وبمثل ذلك نتمكن

من حفظ مال المبذر والانتفاع بمال البخيل فيما يعود عليهما وعلى الأمة بالخير

الجزيل.

وكتب لي صديق من الآستانة يقول: إن المسلمين ليسوا بأغنياء كثيرًا ليقدموا

على هذا المشروع ويؤكد لي أني إذا وعدته باشتراك الهنود بالمال الكثير فإنه مستعد

لعرض الأمر على جلالة الخليفة الأعظم، فجاوبته - كما ذكرت آنفًا - بقولي إنه إذا

سمحت مكارم مولانا بأخذ هذا المشروع تحت رعايته فليكن آمنًا مطمئنًا باشتراك

كثير من أغنيائنا بالأموال الطائلة.

أما خوف جريدة معلومات من تداخل الدولة الأجنبية فذلك ما لا أفهم له معنى،

وكيف يمنعنا أي إنسان على سطح الأرض من العمل لمستقبل بلادنا ونجاحنا فيه

ومع أني من رعايا الحكومة الإنكليزية والعلائق بين الدولتين كما لا يخفى ليست

بذاك - فلست بخائف أبدًا، بل أنا على وقوف تام من اشتراك ومساعدة جميع

الرؤساء المسلمين لنا ولجميع المشروعات التي تعود بفائدة على العالم الإسلامي.

حقًّا إني أعتقد أن زمنًا مملوءًا بالمعارضات والمشاكل والقلاقل والاضطرابات

يجعل الإنسان هيَّابًا للأمور ويولد الإهمال والفتور في النفوس وما يقال في جانب

الأفراد يقال في جانب الأمم والدول، ولكن ألم يحن - يا تُرَى - الوقت لنفض غبار

هذا الخوف والفتور عن كواهلنا؟ !

لا شك أن الدولة العلية كانت عرضة لعدة مشاكل داخلية وخارجية ولكن ذلك

أمر لا تكاد تخلو منه حكومة فلننظر إلى ما يعملون، إنما وقوفنا في موقف المُدافع

طول هذا الزمن هو الذي سبَّب لنا فتور الهمم وضعف العزائم وساعد أعداءنا على

معاكستنا.

وإني لأستغرب صدور هذا المقال من رجل اشتهر بحب الخليفة وخدمة

الإسلام من المبدأ إلى الختام، وإذا كنا أصبحنا بهذه الدرجة من الخوف من جيراننا

حتى ضاقت الدنيا في وجوهنا فإذا أقدمنا على عمل تجاري كهذا يعد لنا العمل

جريمة لا تغفر، تتخذها الدول حجة للتداخل في جميع شؤوننا؛ ليقضوا على حياتنا،

فلنودع هذا العالم - بأمتعتنا ورحالنا - متمثلين بقول ألد أعداء الإسلام الذي قُضِيَ

(يشير إلى خطبة ألقاها المستر غلادستون في مجلس الشيوخ أيام الحوادث الأرمينية

قال فيها: من الواجب علينا أن نطرد الأتراك من أوروبا بأمتعتهم ورحالهم!) .

ولنغرق نفوسنا في البحار أوْلى لنا من البقاء واحتمال هذا العار وكيف تسنَّى

لصديقي ورصيفي الفاضل أن يقول ما قال، وهو تحت أشعة شمس الإسلام الساطعة

وفي مركز دائرة المجد والرفعة؟ ! ألم يقدر صديق مولانا السلطان حق قدره؟ !

وكيف يصدق إنسان أن الرجل الذي يقاوم دول أوروبا جمعاء - حينما كان

أعداؤه كلما تخيلوا قرب سقوط عرش آل عثمان، يكادون يطيرون طربًا وسرورًا

وبينما كانت سحائب الأكدار منتشرة في جو الأقطار الإسلامية - ثم يخرج بعد ذلك

جلالته ظافرًا منصورًا من هذه المعمعة، ولا يقبل هذا المشروع تحت رعايته خوفًا

من اعتراض الدول الأجنبية ليس إلا.

ومع أن بيني وبين جلالته أقطارًا شاسعة، وبحارًا واسعة، قد عرفت مقدار

درجته وسمو مقامه وقدره في عالم السياسة، فكتبت رسالة في أيام تلك الشدائد باللغة

الإنكليزية والهندية قلت فيها: إن مولانا السلطان سوف يخرج من هذه المشاكل بعون

الله وقوته متوجًا بتيجان المنتصر الظافر على أعدائه، ولله الحمد قد صدقت فراستي

وجاءت الأمور كما كانت آمالي، بل آمال العالم الإسلامي بأجمعه ولكن قبل الختام

أبشّرك - أيها السيد - أن رجلاً سوريًّا أرسل إليَّ خطابًا يقول فيه: إنه تألفت جمعية

من الأعيان هناك لتساعد على إبراز هذا المشروع، غير أني لا أعرف إن كان هذا

الرجل يود الاستعانة بمال أجنبي أم لا، ولا أخالك ألا تعرف شيئًا عن طلب عاصم

بك الذي عُرض على الحكومة أن تصرح له بمد سكة حديدية بين سمسون والبصرة

بفروع أخرى، أما مرسل هذا الجواب فلا أعرفه شخصيًّا، فإن كان يود جعْل

الشركة أوربية فالله يحفظنا منها؛ فقد كفانا تداخلاً في بلادنا وما الغرض من هذا

المشروع إلا مساعدة الشرقيين وجمع شتات العالم الإسلامي، فضلاً عن الفوائد

المالية وإصلاح البلاد؛ حيث لو تم هذا المشروع لأصبحت ربوع عراق العرب

وعمان جنة الدنيا زيادة عن تسهيل طرق الحج والمواصلات الإسلامية وهذا مما

يساعد على حث المسلمين للاشتراك في هذا المشروع.

وفي الختام آمل من صميم فؤادي أنك تهتم بهذا الموضوع كما اهتممت به أولاً

وأنبه فكرك إلى الخطأ المطبعي الذي جاء في جوابي الأول وهو أنه بدلاً عن

1200000 جنيه كتب 120000 فقط، ونقلته جميع الجرائد الأخرى؛ لأن معدل

ربح المائة الآن هو أربعة، فيكون ربح 320 مليونًا مبلغ مليون ومائتي ألف، لا

مائة وعشرون ألفًا، وأهديك وافر التحيات

إلخ إلخ. اهـ

وقد نشر المؤيد مقالة في العدد الصادر يوم الثلاثاء الماضي بيَّن فيها فوائد

المشروع، وحث عليه إجابة لدعوة المقترح وشايعه في الانتقاد علينا وعلى جريدة

معلومات، بل أربى عليه.

(المنار)

إن انتقاد (وكيل) و (المؤيد) الغراوين على المنار منشؤه الغفلة عن كلامنا

في موضوع المشروع نفسه وفي سائر المواضيع التهذيبية التنشيطية، تخيَّلتا من

المنار خصيمًا مخالفًا، وأنشأتا تردّان عليه ولا خصم ولا مخالفة، قالتا إن المنار

لاحظ ملاحظتين: الأولى أن الأَوْلَى لنا أن ننفض يدنا من العمل ونترك أمثال هذه

المشروعات لمولانا السلطان ولرجال الحكومة والثانية أن نقدم التربية والتعليم

النظري على كل عمل سواهما، حتى إذا تربينا وتعلمنا نحاول مباشرة الأعمال

النافعة. لو صح أننا قلنا هذا القول لحقَّ لكل فرد من العقلاء أن يرد علينا ويرمينا

بالأفن وضعف الرأي، لكننا قد قلنا خلاف هذا وخطَّأْنَا مَن يذهب إليه غير مرة.

عجيب من مثل صاحبَيْ تينك الجريدتين الفاضلين كيف ذهلا عن كلامنا وأثبتا

لنا ضده أو نقيضه، ثم طفقا يردان على ما أثبتاه لنا وهو منتفٍ عنا؛ المنار أول

جريدة شرقية أو عربية أنشئت لأجل الحث على الشركات المالية للقيام بالأعمال

النافعة وإقناع الشرقيين بأن سعادة الأمم وقوتها بأعمال أفرادها وهمم آحادها، لا

سيما إذا عملوا مجتمعين وتعاونوا على البر والتقوى وأن وظيفة الحكام إنما هي حفظ

النظام العام بين الأمة لا إغناء الأمة وإسعادها، نعم إن التربية والتعليم بالمعنى الذي

نريده هما ركنا السعادة ودعامتا وجودها وبقائها؛ ولذلك نُكثر من اللهج بهما ما لا

نكثر من الكلام على سائر المقاصد التي أنشئت الجريدة لها وهي مبينة في فاتحتها.

ولا نعني بالتعليم درس اللغة وبعض الفنون النظرية التي يتدارسها المسلمون فقط،

ولا بالتربية تربية الأطفال بالتنبيه على الحسن لتجتلبه، وعلى القبيح لتجتنبه (كما

توهم في المسألتين) ، بل الأمر أعم من ذلك وإننا نورد الآن بعض جمل من مقالاتنا

السابقة يظهر بها أن انتقاد ذينك الفاضلين علينا ناشئ عن الذهول عن كلامنا ويفهم

منها أن مرادنا من العلم والتعليم ما يشمل الفنون العملية والاقتصادية.

قلنا في فاتحة العدد الأول - بعد ذكر أن العلوم الطبيعية كانت في العصور

السابقة آراءَ وأنظارًا محضة -: (

وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته

العمل أو بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه لا يعوّل عليه، فعليك

بالعلم والعمل، رُضْ بهما نفسك ورَبِّ عليهما ولدك

) ، ثم قلنا - في بيان منهاج

الجريدة ومقاصدها -: (

وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين

والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في طروق أبواب الكسب والاقتصاد، وتنبيه

العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن

عليها مدار تقدُّم أوربا في الفنون والصنائع لا على الملوك والأمراء، فهي التي

تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر المراكب والبواخر

(يشمل البرية والبحرية) ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم

) .

وقلنا - في العدد الثاني - (

إنني رأيت أكثر الأمم الشرقية لا يرون

لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها ورشادها وصحتها

ومرضها وغناها وفقرها - كل ذلك بيد الحاكم، حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل

شيء وهو يجير ولا يُجار عليه! وكأن هذا الوهم متسلسل فيهم بالإرث من عهد

مَن قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258)، وعهد مَن قال: {أَنَا رَبُّكُمُ

الأَعْلَى} (النازعات: 24)

) .

وفي ذلك العدد أيضًا: (

أما والله لو أن أجسادنا هذه تدبرها أرواح كأرواح

آبائنا الأولين لكنا نحن السابقين إلى كل ما يسمى اكتشافًا واختراعًا وعملاً نافعًا

)

وفيه أيضًا - بعد لوم أغنيائنا على تقليد الإفرنج في الترف، وأنه مضر -: (

وإن التقليد النافع إنما يكون في خدمة المعارف والسير في طرقها وفي الأعمال

النافعة التي هم لها عاملون

) ، وقلنا - في العدد 13 -: (

كل مَن يرى

نفسه في قصور عن إسعاد وطنه وإعلاء منار أمته فهو كافر بنعمة العقل، محروم

من الكمالات الإنسانية التي ارتفع بها البشر عن مرتبة الحُمُر والبقر، تفكروا في

معنى الأمة والوطنية واقدروا الشعب حق قدره - يتضح لكم أن الأمة تتكون

بالاجتماع على الانتفاع وبالاتحاد على نيل المراد، فحَتَّامَ التعلق بأذيال الحكومة،

والتشبث بأهداب الآمال الموهومة، والإنحاء على الدولة بالتقصير؟ إلى متى هذا

التفرق والتبدد والتوحد والتفرد، مدّ يدك لمواطنك (خطاب للشرقي) ومشاركك في

مواد حياتك وتعاهدوا وتعاقدوا جميعًا على ما فيه منفعة الجميع. اخلطْ مالك بماله

تخلطْ نفسك بنفسه واعملوا مجتمعين؛ فقد كفاكم ما جناه عليكم التفرق والانفراد،

بَادِرُوا الزمان قبل فوات الإمكان، فيوشك أن لا يَدَعَ لكم الدخيل بابًا من أبواب الثروة

إلا أقفله، ولا سببًا من أسباب النجاح إلا قطعه، فماذا ينفعكم التنبه إذا أُغلقت دونكم

الأبواب، وتقطعت بكم الأسباب؟ ! أين الشركات التي عقدناها، والمدارس

الوطنية التي شيدناها، أما منحنا (مولانا السلطان) امتيازات لإنشاء سكك حديدية،

فحملت الجهالة مَن نعدهم من أمثلِنا وأنفسنا على إيثار الأجانب على أنفسنا، وبيع

الامتيازات للأجنبي بأبخس ثمن، مع أن بيعها بمعنى بيع الوطن، فالوطنَ الوطنَ

أيها المصريون، الوطنَ الوطنَ أيها العثمانيون، جانبوا البطالة والكسل، وأجيبوا

داعي العلم والعمل، ولا تكونوا كدابغة وقد حلم الأديم

) ، وقلنا - في العدد

(15)

-: (

سعادة الأمم بأعمالها وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف

فيها، فعلى المصريين أن يعملوا على إصلاح الخلل بتأليف الشركات المالية وعقد

الجمعيات الوطنية، اللذين لا أمة ولا وطن بدونهما

) .

وذكرنا - في العدد (16) - أن الأعمال التي نجحت بها أوربا وبلغت هذا

السؤدد والقوة: (

لا يُهتدَى إليها إلا بكمال التعليم والتربية على العلم) ، ولا

أراني بعد هذه النصوص في حاجة إلى الرد على حضرة الكاتبين الفاضلين، ولا

أخالهما ينازعان بعدُ في أن القول بأن التربية والتعليم وسيلة للسعادة ترجع إليها

جميع الوسائل وسبب يجمع كل الأسباب - لا يقتضي القول بترك الأعمال المادية

والمكاسب، بل يقتضي الأخذ بها ولا في أن تفويض الأمر في المشروع المبحوث

عنه إلى مولانا السلطان الأعظم ورجاله الصادقين يستلزم ترك الأمة للأعمال

التجارية ونحوها وتكليف الحكومة بها؛ لأن هذا المشروع لا يمكن إلا بعد صدور

الإرادة السلطانية به وقبول مولانا - أيده الله تعالى - رئاسة اللجنة العاملة، هذا

وجه التسليم والتفويض. وقولنا وقتئذ: (

فإن لهم من المعرفة بمنافع الأمة

ووسائل تقدمها ما ليس لنا

) ، وإن كان صحيحًا فهو لا يراد به أننا نجهل فائدة

المشروع أو نرتاب فيها، كيف وقد عنينا بنقله وعرضه على أنظارهم وصرحنا بأن

فائدته عظيمة.

وإنني ألتمس عذرًا لحضرة الكاتبين الفاضلين، أما محرر (وكيل) فلأنه ربما

لم يكن عارفًا بالعربية ولم يكن المترجم بارعًا، فتوهم من كلامنا ما لا يرمي إليه،

وأما الأستاذ صاحب المؤيد فقد تابع صاحب (وكيل) على ما كتب ذهولاً عما قرأه

في المنار مما يخالفه، وقد قلت: إن لهما الحق في الانتقاد على تقدير صحة ما قالاه

ونحن على وفاق في أن التربية والتعليم مناط السعادة وأنه لا بد من الأعمال المادية

مع محاولة التربية والتعليم، بل على أن التعليم الذي نريده لا يتم إلا بالأعمال، وإن

الأعمال - كما قلنا في فاتحة المنار - تنمِّي العلوم، والعلوم تمدّ الأعمال، لكن

صاحب المؤيد الأغرّ أغرق (بالغ) في تعظيم شأن الكسب المادي، حيث قال:

(

وصاحب جريدة المنار الغراء - ككل إنسان عاقل - يربي فضائله بالعمل ولكنه

لو خلا له يوم من كسب مادي لخمدت جذوة عقله وسقطت جثمانيته في مهواة

الضعف والكسل وتعطلت فضائله

) ، فهذا الاستدراك غير مسلَّم والمبالغة فيه

ترتقي إلى درجة الغلوّ؛ لا سيما بالنسبة للفضائل ولا حاجة لتقوية المنع بسند يؤيده،

فالأمر جليّ بيّن والمشاهدة تؤيده في كل زمان ومكان.

(تنبيه)

لا يهمنّ واهم أن نهينا عن الاعتماد على الحكومة في ترقي الأمة فيه غمص

لحقوقها أو أنه مبني على عدم استعدادها أو انتفاء عدالتها، كلا، بل إن القول

بحصر وسائل الترقي ومقاصده بالحكام هو الذي يرجع عليهم بالتنقيص لاقتضائه

إضافة كل خلل وجهل وفقر إليهم ولا ينكر عاقل أن قوام الأمم والدول بقيام كل من

الحاكم والمحكوم بما عليه من الواجبات وأداء ما عليه من الحقوق، فالشركات المالية

التي نحث عليها دائمًا لإحياء المعارف والتجارة والصناعة هي مما تطالب به الأمة

وما على الحكومة إلا مساعدتها وتعضيدها، وهذا عين ما نبديه ونعيده، ولا نخال

عاقلاً ينكره.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) فاتحة العدد الثامن عشر الذي صدر في 30 صفر سنة 1316.

ص: 318

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية

تزييف ما ذُكر في بعض كتب الهيئة واشتهر عند الكثير من ذويها من صحة

كون اليوم الواحد جمعةً عند شخص وخميسًاعند آخر وسبتًا عند ثالث، ثم إرجاع ما

ذكر دليلاً على ما ادعيناه في رسالتنا الاكتشافية الذي نشرتموه في العدد التاسع من

جريدتكم الحكيمة تحت عنوان (اكتشاف) .

سمعت أن بعض رجال هذا الفن يزعم صحة المسألة المذكورة، وأنها عين ما

ادعيت به رسالتي، ثم بعد أن نشرتم ما نشرتم من تلك الرسالة على وجه لا يبقى

معه لأحد عذر في السكوت - تبين لي أن مَن يزعم ذلك من أولئك كثيرون؛ حيث

لم يحرر أحد عما نشرتموه شيئًا، لا بيانًا ولا ردًّا، وليس لذلك من سبب في الغالب

سوى ما ذكرنا، (مع أن بين هذه المسألة وبين ما أدعيه فروقًا كبيرة نذكرها في

آخر المقالة) ، لكن ذلك إنما يصلح سببًا في حق المتوسطين بهذا الفن، أما

المبرَزون فيه، فلا لبداهة بطلان هذه المسألة عندهم. وأما إمساكهم عن الكلام فلا

أقدر على تعيين سببه، وعسى أن يتكلموا في هذه الكرّة؛ لذلك أحببت أن أزف

لأسماع قراء (منار) الهداية الكلام على بطلان تلك المسألة، وبيان منشأ الخطأ فيها

وكلامي على ذلك - وإن كان مقصودًا به تنبيه أمثاله من الضعفاء بهذا الفن،

وبمقدار ما تناله أيدي أفكارهم - لكنه مع ذلك يهم رؤساء هذا الفن الاطلاع عليه،

حيث انتزعت من ذلك دليلاً على دعواي التي سبق نشرها، التي هي من الأهمية

بمكان؛ لأنها ستكون الدليل والمرشد الوحيد على تلك النقطة، التي يجب أن يتفق

العموم على اعتبارها مبدأ الطول؛ لذلك أرجو من أساتذة هذا الفن أن ينظروا كلامي

الآتي بعين الناقد البصير، لاحتمال أن أكون مخطئًا أو واهمًا، ثم يذكروا ملاحظاتهم

عليه من تصويب أو تخطئة؛ فإنه أحسن ما أهدانيه المرء خطئي وعيوبي.

وقبل الشروع في الكلام على ما ذكرنا نذكر الأصل الذي تفرعت عليه تلك

المسألة، إفادة لمَن لا يعلم ذلك، وتوصلاً لبيان منشأ الخطأ فيها، وهو: لو تفرق

شخصان من موضع معين بقصد الدوران حول الأرض، فسار أحدهما نحو الشرق،

والآخر نحو الغرب، وأقام آخر ثالث حتى عاد إليه المُغرب (السائر نحو الغرب)

من الشرق، والمُشرق (السائر نحو الشرق) من الغرب، وفرض عودهما إليه

في وقت واحد، كما كان تفرقهما عنه كذلك - لكانت الأيام التي عدَّها المغرب في

مدة الدورة أنقص من أيام المقيم بواحد، وأيام المشرق أزيد بواحد، فلو كانت مدة

الدورة عند المقيم (80) يومًا لكانت في حساب المغرب (79) ، وفي حساب

المشرق (81) ، وهذه المسألة صحيحة، وهي من لوازم كروية الأرض؛ لأن من

يسير نحو الغرب يصير يومه أكثر من 24 ساعة، بقدر ما يقطع في يومه ذلك من

درجات الطول، فتنقص أيام دورته واحدًا عن المقيم، حيث يصير معيار يومه أكبر

ومن يسير نحو الشرق يصير يومه أقل من 24، بقدر ما يقطع فيه من الطول

أيضًا، فتزيد أيامه واحدًا عن المقيم، حيث مقياس يومه أصغر. (أما لو

نظرنا لمقدار تلك الدورة من الساعة فنجدها متساوية في نظر الثلاثة؛ حيث

تكون (1920) ساعة في حسابهم جميعًا) .

ثم فرَّعوا على ما ذكر صحة كون اليوم الواحد جمعة عند شخص (هو المقيم)

وخميسًا عند آخر (هو المغرب) ، وسبتًا عند ثالث (هو المشرق) ، وحقًّا أن

هذا الاختلاف يكون على ما ذكروا من الصحة، لولا أن هناك مسألة أخرى من

مقتضيات كروية الأرض، يعارض ما لها من الأثر السائرين في حسابهما، بحيث

لو لم يراعياها لظهر خلل في حسابهما، وقد فات مَن فرَّع هذه المسألة على السابقة

أن يراعي في تفريعه تلك المسالة أيضًا؛ فلذلك ترى عند تطبيق هذه المسألة خللاً

في حساب السائرين من وجوه، وها نحن نطبقها على محل معين لينجلي لك ما قلنا

فنقول: خرج زيد وبكر من دار السعادة -حرسها الله تعالى - في وقت واحد بقصد

الدوران حول الأرض، فسار زيد نحو الشرق (لجهة الأناضول) ، وسار بكر نحو

الغرب (لجهة الروم إيلي) ، وصار يحسب كل منهما الأيام في جميع سيره على

ترتيبها المعروف، غير مراعٍ لتلك المسألة التي يجب على السائر مراعاتها، حتى

رجعا لدار السعادة في وقت واحد، (فكان رجوع زيد من جهة الروم إيلي، وبكر

من جهة الأناضول) ، وعلى هذا فغير خافٍ أنه لو كان اليوم عند أهالي الآستانة

الجمعة - لكان في حساب زيد السبت، لكن نرى في حساب هذين حينئذ خللاً من

وجوه:

(أولاً) : أنه لم تقع تلك المخالفة بينهما وبين أهالي دار السعادة فقط، بل

وقع مثل ذلك بينهما وبين البلاد التي مرا عليها في آخر دورتهما، ولولا ذلك لم يقع

بينهما وبين أهالي دار السعادة اختلاف، كما هو ظاهر، فكان بين زيد وبين أهالي

الروم إيلي، بل وجميع بلاد أوروبا أثناء مروره عليهم في آخر دورته من الاختلاف

شبه ما وقع بينه وبين أهالي دار السعادة حين وصوله إليها، كذلك كان بين بكر

وبين أهالي الأناضول، بل وعموم سكان آسيا أوان مروره عليهم في آخر دورته من

الاختلاف شبيه ما وقع بينه وبين أهالي الآستانة، ولا يمكننا القول بوجود خطأ في

حساب أولئك السكان، لما يأتي.

(ثانيًا) : أن كلًّا منهما يرى صحة حساب من خالفهم الآخر، فزيد يرى

صحة حساب أهالي آسيا الذين خالفهم بكر، وبكر يرى صحة حساب أهالي أوروبا

الذين خالفهم زيد.

(ثالثًا) : أنهما لو أرادا أن ينشئا دورة ثانية قبل تصحيح حسابهما، ونحا كل

منهما الوجهة التي نحاها أولاً، فعند رجوعهما للأستانة إذا كان اليوم عند قاطنيها

الجمعة يكون في حساب بكر الأربعاء وفي حساب زيد الأحد، وفي ثالث دورة كذلك،

لو كان في دار السعادة الجمعة لكان في حساب بكر الثلاثاء وفي حساب زيد

الإثنين وهلم جرًّا. بل عمل كل منهما بعد إتمام الدورة يدل على وجود خلل في

حسابه السابق، حيث يكون مجبورًا في نفسه على تصحيح حسابه ليطابق حساب

المقيمين.

فإن قيل: نسلم أن الاختلاف المذكور بين السائرين والمقيم ينتج ما ذكرت من

الخلل، لكن هل من طريقة لو درج عليها السائران لسلما من مخالفة المقيم عند

إيابهما إليه بعد تسليم ما ذكرت سابقًا من أن أيام المشرق تزيد عن أيام المقيم واحدًا،

وأيام المغرب تنقص عنه واحدًا؟

قلت: نعم، وذلك بتبديل التاريخ أثناء السير، بمعنى أنه بينما يكون اليوم في

حساب السائر الأربعاء مثلاً وإذ به بعد لحظات عند وصوله لنقطة معينة يقول:

صار اليوم في حسابي الآن الخميس، وليس ذلك لكونه انقضى اليوم الأول، بل

ربما لم يمض منه سوى ساعة أو أقل، (إنما ذلك لمراعاة تلك المسألة التي تقدم أنه

يجب على السائر مراعاتها وسيأتي بيانها) ، وهذا إذا كان السائر مغربًا في سيره.

أما إذا كان مشرقًا فيلزمه أن يبدل التاريخ باسم اليوم الذي مضى في حسابه، أي

بينما يكون اليوم في حساب الأربعاء وإذ به عند وصوله لنقطة معينة يقول: صار

الآن في حسابي الثلاثاء، فيبدل المغرب اسم يومه ذلك وتاريخه من الشهر باسم

وتاريخ اليوم الآتي، والمشرق باسم وتاريخ اليوم الماضي، وبهذا يزول جميع أنواع

الخلل التي تقدم ذكرها، ولا يبقَى بين السائر وبين أحد اختلاف أصلاً، مع ما في

ذلك من بقاء زيادة أيام المشرق عن المقيم في العدد، ونقصان أيام المغرب عنه

(وتبديل التاريخ هذا أمر مشهور عند عظماء هذا الفن معمول به عند السواح في هذه

الأعصار) ، ولو تأملت في حالة السائر لوجدته منساقًا لتبديل التاريخ على جميع

الحالات؛ لأنه إذا لم يبدل التاريخ أثناء السير كما قلنا فهو مجبور لذلك بعد إتمام

الدورة، وهو المعبر عنه سابقًا بتصحيح الحساب، فهلا كان ذلك منه أثناء السير

في محله المناسب.

فإن قيل: نعم، لو جرى السائر على ما ذكرت لسلم مما لحقه في الحساب

السابق من الخلق، لكني أرى ذلك أعرق بالفساد من تلك المسألة التي حاولت

تزييفها. وذلك أن السائر كان لا شك موافقًا في حساب الأيام للسكان الذين مر عليهم

قبل تبديله التاريخ، لكن لما وصل للنقطة التي بدل عندها، سواء كان في محل

معمور أو بعيدًا عن العمران، فلا يخلو حاله بعد ذلك من أحد أمرين:

(1)

إما أنه يكون مخالفًا في الحساب لمن سيمر عليهم بعد ذلك.

(2)

أو يكون موافقًا.

فإن كان الأول تكون هذه أعلق بالبطلان، كما هو ظاهر، وإن كان الثاني

فيلزمك على ذلك القول بوقوع اختلاف في حساب الأيام بين أمتين متجاورتين، بأن

يكون اليوم الواحد في حساب إحداهما خميسًا، وفي حساب الأخرى الأربعاء مثلاً،

وبعبارة أخرى يلزمك القول بوجود نقطة على وجه الأرض، يختلف في جهتيها

حساب الأيام، فيكون اليوم الواحد عند الأقوام الذين في الجهة الغربية من تلك

النقطة الخميس مثلاً، وهو عند الذين في الشرقية منها الأربعاء، وهذه المسألة لم

يروها لنا أحد، بل تحكم بداهة العقل ببطلانها.

أقول: إني قائل بالحالة الثانية (وهو أن السائر يكون موافقًا لمن سيمر عليهم

بعد تبديل التاريخ، كما كان موافقًا لمن مر عليهم قبل ذلك) ، وأجزم بتحقق لازم

هذه الحالة من وجود نقطة على وجه الأرض يختلف في جهتيها اليوم على ما ذكرت،

وإن طالبتني بالدليل على ذلك فأقول: هو ما يجري عليه السواح في هذه

الأعصار من تبديل التاريخ أثناء سيرهم، وهو أمر مشهور عند رؤساء هذا الفن

فعليك السؤال منهم، وما ذكرته في الاستدلال على بطلانه لا يصنع شيئًا، كما لا

يخفى. على أنا نرخي معك العنان إن كنت في ريب مما ذكرنا ونقول: إن السائر إذا

لم يبدل التاريخ أثناء سيره لا شك أنه يصبح في آخر دورته مخالفًا في حساب الأيام

للثالث المقيم، بل ولجميع من مر عليهم في آخر دورته، كما تقدم، وما لذلك من

سبب سوى ما ذكرنا من الاختلاف الذي كان يقضي عليه بتبديل التاريخ عند انتقاله

من إحدى جهتي نقطة الاختلاف للجهة الأخرى، لكن لما لم يراع ذلك حين انتقاله

للجهة الثانية من نقطة الاختلاف ظهر بينه وبين من فيها من السكان اختلاف في

حساب الأيام، ثم بقي هذا الاختلاف ممتدًّا بينه وبين كل من مر عليهم من السكان

بعد ذلك، حتى وصل للمحل الذي ابتدأ السير منه، وهناك ظهر بينه وبين المقيم

الاختلاف المتقدم، ومن يَدَّعِ أن سبب الاختلاف بين المقيم والسائر الذي لم يبدل

التاريخ غير ما ذكرنا فعليه البيان.

فإذًا مسألة السائر كيفما مشيتها تكون دليلاً قطعيًّا على ما ذكرنا من وجود نقطة

يختلف في جهتيها حساب الأيام، وهذه هي المسألة التي قلنا فيما تقدم إنه يجب على

السائر مراعاتها، وإذا لم يراعها يختل حسابه، ومراعاتها إنما تكون بتبديل التاريخ

الذي تقدم شرحه.

فإن قيل: إنما يتم استدلالك بذلك على ما ذكرت إذا كانت جميع السواح متفقين

على تبديل التاريخ في نقطة واحدة، أما إذا كانوا يبدلون في نقطة مختلفة فلا؛ إذ

ربما يدل على ذلك أن هذا التبديل أمر اعتباري لا أثر له، فهل عندك علم من هذا؟

أقول: إن السواح غير متفقين على التبديل عند نقطة واحدة، لكنهم متفقون

على إيقاعه في الإقيانوس الباسفيكي؛ لأن منهم من يصنع ذلك عند منتهى الطول

على اصطلاح قومه، ومعلوم أن منتهى الطول في جميع اصطلاحات أوروبا واقع

في ذاك الإقيانوس، ومنهم من يلتزم ذلك عند بلد معين، فقد وقفت على أن بعض

رباني (قبطاني) السفن يلتزم ذلك عند بلوغه مدينة (مانيلا) من جزائر فيلبين،

فاتفاقهم على إيقاع التبديل في الإقيانوس الباسفيكي يدل على أن سكان غربي أميركا

مخالفون شرقي آسيا في حساب الأيام على ما تقدم ذكره، واختلافهم في النقطة التي

يحصل عندها التبديل من ذاك الإقيانوس لا يدل على أن ذاك أمر اعتباري لا أثر له؛

لأن الإقيانوس غير معمور بالسكان، فيمكن تبديل التاريخ في أي نقطة منه، وإن

كان يجب أن يكون ذلك في نقطة واحدة منه عند الجميع (وسيكون ذلك) .

فعرفت مما تقدم أنه ليس مرادنا بتزييف تلك المسألة نفي وقوع اختلاف ما بين

المقيم والسائرين اللذين لم يبدلا التاريخ أثناء السير، كما هو المفروض في تلك

المسألة، بل نفي وصف الصحة عن ذاك الاختلاف، وإن بين الاختلاف الذي

ذكرناه في مسألتنا وبين الاختلاف الذي ذكروه في تلك المسألة فروقًا كبيرة، ولا

بأس بذكرها وإن تكن تفهم مما تقدم زيادة في الاستبصار وهي:

(1)

إن ما ذكروه من الاختلاف إنما يكون بين السائر حول الأرض وبين

المقيم، وما ذكرته أنا واقع بين أقوم مقيمين متجاورين.

(2)

ما ذكروه من الاختلاف متردد بين ثلاثة أيام، وما ذكرته إنما يكون بين

يومين، ويستحيل أن يكون بين ثلاثة.

(3)

ما ذكروه ينتج خللاً من وجوه كما عرفت، وما ذكرته صحيح بتوفيقه

تعالى، لا يترتب عليه أدنى خلل.

ولنكتفِ في البيان عن الاختلاف الذي ذكرته بهذا المقدار، وإن كان ذلك لا

يفيد تصوره عند من لم يكن له به علم من قبل إلا بوجه الإجمال؛ لأني لو بسطت

الكلام وفصلته عن ذلك جهد المستطيع لا يمكن فهمه تمامًا لمن لم يكن سبق له به

علم (كما بلوت ذلك) إلا بشيئين:

أحدهما: أن يكون للقارئ اطلاع على فن الهيئة أو شيء من الجغرافيا

الرياضية إذا كان حسن التصور.

ثانيهما: تطبيق ما ذكرته من الاختلاف على أشكال هندسية.

وحيث إن الاختلاف الذي ذكرته هو مسألة جليلة يترتب عليها فوائد مهمة،

منها ما سبق أنها ستكون المرشد الوحيد إلى تلك النقطة التي يجب أن تتخذ مبدأ

للطول عند العموم، دعاني ذلك لوضع رسالة خصوصية في هذه المسألة بسطت

فيها الكلام بسطًا لا أظن وراءه غاية، إلا إذا كان من شرح عليها أو حاشية،

صورت ذاك الاختلاف فيها بأشكال لا أخال بعدها بيانًا ذاكرًا في تلك الرسالة بعض

أبحاث كالتتمة لبيان هذه المسألة، مثل علة وجود هذا الاختلاف، والناحية المرجح

وجود ذاك الاختلاف فيها مع تطبيق كيفية وقوع الاختلاف بها، ولم كان ذلك بها،

ولم يكن بغيرها وغير ذلك.

...

...

...

...

محمد رحيم

(المنار)

تُطلب الرسالة المؤلفة في هذه المسألة من إدارة جريدة المنار، وتُرسل لمَن

يطلبها من علماء الفن مجانًا.

_________

ص: 331

الكاتب: سليمان العبد

حال الجرائد المصرية والغميزةبالشيخ محمد عبده

في مصر والإسكندرية جرائد كثيرة لا نعرف عددها منها بضع جرائد معتبرة

تجري لمستقر لها معقول، وتستقي كل واحدة منها من مشرب مورود أو معلول،

والبواقي يعشن بما يأكلن من العوارض، فإن لم يُتَحْ لهن منها شيء وهن مما لا

ينال العبيط - أنشأن ينهشن الأعراض الطيبة، ويملأن مواضغهن بلحوم الميتة، إلا

أن يفتدي صاحب العِرض عِرْضه بشيء من المال، يعرضن أولاً ببعض الوجهاء،

فإن جاء التعريض بالغرض فذلك، وإلا صرحن بالقول وإن كان تذقحًا وتجرمًا، من

هذا النوع جريدة في القاهرة تسمى (النهج القويم) ، عرضت بغميزة حضرة الأستاذ

الكامل والعلامة الفاضل الشيخ محمد أفندي عبده الشهير، فلم يبل، فصرحت

بغميزته في مقالة نشرتها عن حال الأزهر الشريف، قلبت فيها الحقيقة ما شاءت.

فأقامت النيابة العمومية الدعوى على صاحب الجريدة الشيخ محمد الشربتلي،

ولدى الاستنطاق زعم أن الأستاذ الشيخ سليمان العبد أحد شيوخ الأزهر المشهورين

هو الذي جاءه بالخبر الذي نشره عن الأزهر، وأغراه بنشره ووعده بترويج الجريدة

بإزاء ذلك، فاستحضرالأستاذ الشيخ سليمان العبد للمحكمة وسئل من قبل النيابة عن

علاقته بالأستاذ الشيخ محمد عبده وعن صحة ما يدعيه صاحب جريدة النهج،

فأجاب بعد اليمين بأن علاقته بالأستاذ علاقة صداقة ووداد وصفاء ووفاء، وأن

صاحب النهج كاذب في دعواه، وأيدت قوله شهادة الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله

وآخرين ضد شهادة صهر صاحب تلك الجريدة وعمال مطبعتها، وبعد هذا طفق

محرر النهج يستعطف الأستاذ الشيخ محمد عبده، ويطعن بالأستاذ الشيخ سليمان

العبد زعمًا أنه أغراه، ثم فنده وأنكر مدعاه، بسبب هذا كثر الإرجاف بأن الصداقة

بين الشيخين منفصمة العُرى، فلاحظ هذا الشيخ سليمان، فكتب رقيمًا إلى أشهر

الجرائد المصرية يقول فيه:

بعد الحمد لله والصلاة والسلام على سيد رسله سيدنا محمد. إني أعلن في

جريدتكم الغراء فوق ما قلته أمام النيابة العمومية كذب مَن ادعى أنني حرضت على

تنقيص أخي وصديقي الأستاذ الشيخ محمد عبده، وإني أعتقد فيه حُسن الخِلال،

وصفات الكمال، وليس بيني وبينه إلا كمال الصفاء والوفاق أدامهما الله بين رجال

العلم وأمناء الأمة في ظل تعطفات مولانا الخديو المعظم، وتحت عناية مولانا

صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر، آمين.

...

...

...

...

... كتبه بقلمه

...

...

...

...

سليمان العبد بالأزهر

ويقال: إنه كان بين الشيخين بعض فتور وأنهما قد تصالحا على يد فضيلة

الأستاذ الأكبر شيخ الجامع، وستبرئ النيابة الأستاذ الشيخ سليمان وتقيم الدعوى

على صاحب النهج، وعسى أن يتربَّى في هذه الكرَّة وينيب.

_________

ص: 339

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العلم والحرب [*]

ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى

ولكنها الأهواء عمت فأعمت

يلهج الناس في الشرق بأن العلم قد ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت

مصابيحه، وأن الجهل قد عَمَّ بلاؤه، وحلكت ظلماؤه، فأصبح الناس في ظلمات لا

يبصرون فيها، وحيرة لا يهتدون معها، يلهجون بهذا ولا يحركون لسانًا في البحث

عن إنارة الظلمة، وكشف الغمة، لاعتقادهم بأن سُنَّة الله تعالى في الخلق أن يكون

دائمًا في تدلٍّ وهبوط، وأن هذا العصر هو الدور الأخير من عمر الدنيا، فلا جرم

أن أهله يكونون في الدرك الأسفل من الجهل والغباوة، والتواكل والتناوة (ترك

المذاكرة والمدارسة) ، وكذلك لهجهم واعتقادهم في الدين، يعترف كافّتهم بأنه قد

تركت أحكامه، واشتبهت أعلامه، بل تصرح خطباء المسلمين على منابر مساجدهم

بأنه (لم يبق من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه) وأنه (عظم البلاء

واشتد على الناس الأمر، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر) ، وما

أشبه هاتا.

إن اعتقاد الناس بأن هذا من علامات الساعة ومن خصائص آخر الزمان قد

سَهَّلَ على غويهم ارتكاب الفواحش، واجتراح السيئات، وأمسك لسان رشيدهم عن

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعلماء (أكثرهم) يَغْشَوْن مجالس الظلمة

والفساق ويعظمونهم ويمدحونهم ويعزونهم ويعززونهم ويغرونهم ويغرونهم، وإذا

استفتوهم في بعض المحظورات يفتونهم، فما بالك ببقية الناس، وسائر الأصناف

والأجناس، لكن الحالة السيئة التي انتهوا إليها من علم وعمل وعادات وتقاليد،

يحافظون عليها أشد المحافظة، وينكرون على من أخل بها أشد الإنكار، واخترع

الحذاء المعرّف بالكندرة أو الجزمة، فقامت قيامة العلماء على محتذيها، وألفوا

الرسائل في إثبات أنها بدعة محرمة في الدين، ولا يزال فيهم مَن يتأثم من احتذائها

ويذم فاعله ويقدح في دينه (والذم والقدح من المحرمات إجماعًا) ، ولو نظر هؤلاء

الغلاة إلى أشخاصهم لرأوها محاطة بأمثال هذه البدعة من قنازعهم وعماراتهم (ما

يُلبَس على الرأس) إلى أحذيتهم ونعالهم، ولو التفتوا إلى نفوسهم وأعمالها لرأوها

منغمسة في البدع الحقيقية، أشار بعض العلماء الواقفين على سير العلوم العارفين

بفن التعليم (البدجوجيا) إلى ترك قراءة الحواشي لطلبة العلم، فاضطرب لهذه

الإشارة كثير من علماء الأزهر، واستكبروا الأمر واستنكروه؛ لأنه مخالف لما

اعتادوه وألفوه، وهم يشاهدون البدع والمنكرات الحقيقية في أفضل عبادتهم في نفس

أزهرهم ولا ينبس أحد منهم ببنت شَفَة في الإنكار على فاعليها، على أن الحواشي

التي يتمسك بها جمهورهم الآن، بحجة أنها من آثار سلفهم - ليست مما يعرفه سلف

الأمة الصالح، وإنما هي من بدع الخلف السيئة، بدليل انحطاط العلم وضعفه بعد

شيوعها، كما يعرفه مَن له أدنى إلمام بالتاريخ، أنكرنا في جريدتنا على البدع

والأضاليل التي تحصل في الجامع الأحمدي أيام الاحتفال المسمى بالمولد في مصر،

فاهتزت لإنكارنا بلاد الشام، وأكبر الناس ذلك الإنكار، وما ذلك إلا لأن تلك

المنكرات صارت عادات راسخة، نعم إن قومنا أصبحوا ينكرون المعروف، إذا لم

يكن من المألوف، وينتصرون للمنكر، إذا اعتِيدَ وتكَرَّرَ، فكما أنكر علينا بعضهم

الكلام في منكرات الموالد من قبل، قام اليوم آخرون ينكرون علينا قاعدتين

صحيحتين وردتا في عرض كلامنا:

(إحداهما) : أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائمًا في ترقٍّ ونمو،

حتى يبلغ كل كماله، وأن الأمم التي تتدلى وتضوى فإنما ذلك لمرض ألم بها

فأضواها، أو ضغط طرأ عليها فدلاها.

(والثانية) : أن العلم والتعليم أفضل من الحرب والجهاد، وإننا ندَع الكلام

في الأولى لعدد تالٍ، ونتكلم على الثانية فنقول:

مهما أطلقنا العلم في مباحث التربية والتعليم فنريد به ما يهدي الناس إلى

سعادتهم الدنيوية والأخروية، فيدخل فيه علم العقائد وتهذيب الأخلاق، وإصلاح

الأعمال والفنون الحربية والسياسية والاقتصادية، وهو بهذا الإطلاق لا يرتاب في

تفضيله على كل شيء إلا عُمي القلوب كُمْه البصائر، وكيف وإن الجهاد الذي

يغلطون بتفضيله على التعليم، لا يمكن أن يحصل بدون التعليم، بل أصل الدين

والإيمان علم مدوَّن يؤخذ بالتعليم، وإذا كان العلم أفضل كل شيء - فتعليمه إفادة

للأفضل، كما قال الإمام الغزالي، والاشتغال بإفادة الأفضل أفضل من الاشتغال

بالفاضل والمفضول، فالعلم والتعليم أفضل الأعمال على الإطلاق، ومرتبة العلماء

المعلمين تلي مرتبة النبوة، كما ورد في الأخبار الكثيرة.

هذا أمر مُجمَع عليه إجماعًا مؤيَّدًا بالكتاب والسنة والقياس والشواهد العقلية،

نعم وقع الخلاف في المفاضلة بين العالم والشهيد، والجماهير على تفضيل الأول

لعموم الأدلة، ولحديث (يوزَن يوم القيامة مِدَاد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد

العلماء) وأثر ابن مسعود (والذي نفسي بيده ليودنّ رجال - قُتلوا في سبيل الله

شهداءَ - أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما

العلم بالتعلُّم) ومثل هذا الأثر له حكم المرفوع وأمثال هذا كثير وصرح بمضمونه

جماعة من أئمة العلم كالغزالي وغيره.

مَن نظر بعين البصيرة إلى مقاصد الشريعة علم أن الدين إنما ينتشر بالدعوة

والتبليغ، لا بالإكراه والإلزام {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) ، ورأى أن الحرب شر عظيم، وأن الوحي لم يأذن بالجهاد إلا

بالضرورة، جريًا على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، فالفضيلة فيه عرضية، لا

ذاتية، والضرورة بالنسبة للمدافعة عن الحق الذي يعتقد المجاهد فيه سعادته،

وسعادة البشر كلهم ظاهرة، وأما بالنسبة للمهاجمة وابتداء القتال، فالضرورة تعذر

نشر الحق وتهذيب الناس بالإرشاد والتعليم، قولاً وعملاً بدونه لأن ابتداء القتال

مشروط بعدم قبول المخالف الدخول في الذمة المعبر عنه بإعطاء الجزية التي هي

شرطه، فإذا قبل الدخول في الذمة يحرم قتاله؛ لأنه يطلع حينئذ على أحكام الدين،

وأخلاق أهله وأعمالهم وأحكامهم فإن راقت له واقتنع بحقيتها اتبعها عن رضى

وإذعان وإلا كان هو المقصر ولا تبعة علينا ببقائه على باطله، وعلينا أن نعامله

بالعدل ونساويه بالحقوق (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا

اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) .

وأول ما نزل في الجهاد من الآيات مصرح بوصف المجاهدين بقوله تعالى:

{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا

عَنِ الْمُنكَرِ} (الحج: 41) ، وبأنه لولا إذن الله الناس بالمدافعة عن الحق لهدمت

صوامع العباد، وبيع النصارى، وصلوات اليهود (معابدهم) ومساجد المسلمين.

وقد أوردنا هذه الآيات بنصها في العدد الثاني والخامس، وأشرنا لما فيها من الحكمة.

لما كان المنتقدون علينا تفضيل التعليم على كل ما عداه جامدين على تقليد

الأوائل - أحببنا أن نذكر هنا نبذة في ذلك عن الإمام الغزالي فنقول:

بيَّن هذا الإمام فضيلة العلم والتعليم والتعلم بالآيات والأخبار والآثار، ثم كتب

فصلاً بيَّن فيه ذلك بالشواهد العقلية ابتدأه بذكر معنى الفضيلة في نفسها، وقسم

الشيء النفيس المرغوب فيه إلى ثلاثة أقسام: ما يُطلب لغيره كالنقود، وما يطلب

لذاته كسعادة الآخرة، وما يطلب لغيره ولذاته معًا كسلامة البدن، ثم قال ما نصه:

وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه، فيكون مطلوبًا لذاته

ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها، وذريعة إلى القُرب من الله تعالى، ولا

يُتَوَصَّلُ إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل

الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى

العمل إلا بالعلم، بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذًا

أفضل الأعمال، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضًا بشرف ثمرته، وقد

عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ

الأعلى هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم

الاحترام في الطباع، حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم

مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة

بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتميز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها.

هذه فضيلة العلم مطلقًا، ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت فضائلها

بتفاوتها. وأما فضيلة التعليم والتعلم، فظاهرة مما ذكرناه، فإن العلم إذا كان أفضل

الأمور كان تعلمه طلبًا للأفضل، وكان تعليمه إفادة للأفضل، وبيانه أن مقاصد

الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعة

الآخرة، وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلاً لا لمن يتخذها

مستقرًّا ووطنًا، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين، وأعمالهم وحرفهم

وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام:

(أحدها) : أصول لا قوام للعالم دونها، وهي أربعة: الزراعة وهي للمطعم،

والحياكة وهي للملبس، والبناء وهو للمسكن، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع،

والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها.

(الثاني) ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها، كالحدادة

فإنها تخدم الزراعة، وجملة من الصناعات بإعداد آلتها، وكالحلاجة والغزل فإنها

تخدم الحياكة بإعداد محلها.

(الثالث) ما هي متممة للأصول، ومزينة لها، كالطحن والخبز للزراعة

وكالقصارة والخياطة للحياكة، وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل

أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته، فإنها ثلاثة أضرب أيضًا، إما أصول كالقلب

والكبد والدماغ، وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب، والأوردة

وأما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين. وأشرف هذه الصناعات

أصولها وأشرف أصولها: السياسة بالتأليف والاستصلاح، ولذلك تستدعي هذه

الصناعة من الكمال، فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات، ولذلك

يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع.

والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا

والآخرة على أربع مراتب:

(الأولى) وهي العليا: سياسة الأنبياء عليهم السلام، وحكمهم على الخاصة

والعامة جميعًا في ظاهرهم وباطنهم.

(الثانية) : الخلفاء والملوك والسلاطين، وحكمهم على الخاصة والعامة

جميعًا، ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم.

(الثالثة) : العلماء بالله وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء، وحكمهم على باطن

الخاصة فقط، ولا يرتفع فهم العامة إلى الاستفادة منهم، ولا تنتهي قوتهم إلى

التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع.

(الرابعة) : الوعاظ، وحكمهم على بواطن العوام فقط.

وأشرف هذه السياسات الأربع - بعد النبوة - إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس

عن الأخلاق المذمومة المهلكة، وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المُسعدة، وهو

المراد بالتعليم.

وإنما قلنا: إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات؛ لأن شرف الصناعة

يُعرف بثلاثة أمور: إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل

العلوم العقلية على اللغوية؛ إذ تُدرك الحكمة بالعقل، واللغة بالسمع، والعقل أشرف

من السمع، وإما بالنظر إلى عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة، وإما

بملاحظة المحل الذي فيه التصرف كفضل الصياغة على الدباغة؛ إذ محل أحدهما

الذهب، ومحل الآخر جلد الميتة، وليس يخفى أن العلوم الدينية - وهي فقه طريق

الآخرة - إنما تُدرك بكمال العقل وصفاء الذكاء، والعقل أشرف صفات الإنسان كما

سيأتي بيانه؛ إذ به تُقبل أمانة الله، وبه يُتوصل إلى جوار الله سبحانه، وأما عموم

النفع فلا يُستراب فيه؛ فإن نفعه وثمرته سعادة الآخرة، وأما شرف المحل فكيف

يخفى والمعلم متصرف في قلوب البشر ونفوسهم، وأشرف موجود على الأرض

جنس الإنس، وأشرف جزء من جوهر الإنسان قلبه، والمعلم مشتغل بتكميله

وتخليته وتطهيره وسياقته إلى القرب من الله عز وجل، فتعليم العلم من وجه عبادة

الله تعالى، ومن وجه خلافة الله تعالى، وهو من أجلّ خلافة الله تعالى، فإن الله

تعالى قد فتح على قلب العالم العلم الذي هو أخص صفاته، فهو كالخازن لأنفس

خزائنه، ثم هو مأذون له في الإنفاق منه على كل محتاج إليه، فأي رتبة أجلّ من

كون العبد واسطة بين ربه سبحانه وبين خلقه في تقريبهم إلى الله زُلفى، وسياقتهم

إلى جنة المأوى، جعلنا الله منهم بكرمه وصلى الله على كل عبد مصطفى. اهـ

_________

(*) فاتحة العدد التاسع عشر الذي صدر في 7 ربيع سنة 1316.

ص: 341

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

كنا اقتصرنا عند الكلام على هذا المشروع لأول مرة على الاعتراف بعظيم

فائدته، وتفويض الأمر فيه لحكمة مولانا السلطان الأعظم ووزرائه الصادقين،

وذلك لأمرين:

أحدهما: ما ذكرناه في العدد الماضي من كون المقترح هو أن تكون لجنة

العمل تحت رئاسة مولانا أيده الله تعالى؛ لأنها لا يمكن أن تنجح بدون ذلك.

وثانيهما: أن للمشروع وجهة سياسية نبينها هنا، لا كما زعم محرر جريدة

(وكيل) الغراء من أنه عمل تجاري صُرَاح لا شائبة للسياسة فيه، ووافقه على ذلك

المؤيد الأغر، وطفقا يعذلان المنار ومعلومات على تفويض الأولى الأمر للمرجع

الأعلى، وقول الثانية بمداخلة الأجانب، أو معارضتهم، وإننا نذكر الآن فوائد هذا

المشروع العظيم وغوائله، وبماذا تُتَّقَى الغوائل، وكيف ينبغي أن يكون طلبه

سالكين طريق الاختصار والإيجاز فنقول:

فوائد المشروع:

(1)

التمكن من إنشاء نواشط (ج ناشط وهو الطريق ينشط يخرج من

الطريق الأعظم يمنة ويسرة) ، ومد فروع من الطريق الأكبر إلى الحجاز والشام

والأناضول ثم إلى اليمن، وبذلك تتصل بلاد الدولة العلية بعضها ببعض وتكون

جسمًا واحداً.

(2)

إقدام المسلمين على الأعمال الكبيرة وتمرنهم عليها، وهي لا شك

منشأ الثروة والقوة والعزة، بل الحياة القومية.

(3)

كوْن هذا العمل ينبوع ثروة للمسلمين القائمين به لا ينقطع ولا يغيض.

(4)

انتفاع الألوف الكثيرة من الصناع والعمال وتعيشهم به زمنًا مديدًا، ولا

شك أن أكثرهم يكونون من العثمانيين وسائر الشرقيين.

(5)

كون هذا المشروع (كما قالوا) مدرسة عملية ينجب لنا مئين وألوفا

من الشبان في الهندسة العملية والأشغال الصناعية والمالية (وهذه الفائدة مغايرة

للثانية بالضرورة) .

(6)

عمران بلاد السلطنة الداخلية، لا سيما بلاد العراق والجزيرة، فإذا

وطئت المسالك للمهاجرة إلى تلك البلاد، وسهل النقل منها وإليها، فلا تَسَلْ عن

مستقبلها، وكيف لا وتربة دجلة والفرات تربي على إبليز النيل. قال هيردوتس

المؤرخ: إن حاصلات الحبوب في تلك البلاد تزيد عن البذر مائتي ضعف إلى

ثلاثمائة ضعف، وإن ساق القمح والشعير يبلغ عرضه غالباً أربعة أصابع، وأمسك

عن ذكر ارتفاع نبات الدخن والسمسم، قال: لأنه لا يكاد يصدقه السامع، وقال

سترابو: إن غلة الشعير تكون قدر البذرة ثلاثمائة مرة، وقال بليني: إن الغلة

هناك تكون مائة وخمسين ضعفًا، وقد يتوهم السامع أن في الكلام مبالغة، وقد قال

شسناي: لو بذلت في تلك الأرض بعض عناية الأقدمين لرأينا من خيراتها مصداقاً

لقول هيرودتس.

(7)

توسيع دائرة التجارة شرقية وغربية، فإن هذه البلاد التي ينشأ فيها

السخط هي معقد الارتباط والاتصال بين الخافقين (الشرق والغرب) .

(8)

التعارف والتآلف واجتماع الكلمة بين العثمانيين والهنديين والإيرانيين

العاملين في المشروع والمشتركين فيه، ويدخل في ذلك قوة نفوذ الدولة العلية

المعنوي في الممالك الهندية وغيرها من البلاد الإسلامية.

(9)

اتصال الشرق الأدنى بالشرق الأقصى، وذلك مبدأ لجمع كلمة

الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصًا، واتحادهم إذا أرادوا العمل للاجتماع

والاتحاد.

(10)

صيرورة طرفي الخط وهما: البصرة والعريش من أهم المراكز

التجارية في العالم.

(11)

تسهيل السبيل وتقريب المسافة على حجاج الشرقيين من الصين

والجَاوَا إلى سوريا وفلسطين.

(12)

إغناء البلاد الحجازية عن الحاجة إلى الأجانب في القوت، فإن أكثر

قوت عرب الحجاز جوز الهند الذي يرد إليهم من مواني البحر الأحمر الذي

قبضت إنكلترا على قطريه، فصارت تعتقد أن حياة الحجاز أصبحت في قبضتها

حكماً، وأنه لا بد أن يأتي يوم يمكنها فيه قطع موارد الرزق عنه لإخضاعه أو

إعدامه -والعياذ بالله تعالى -، وإذا تسنى لها الاستقلال بالسلطة على البحر الأحمر-

لا قدر الله تعالى - فإن ذلك لواقع ما له من دافع، إلا بامتداد السكك الحديدية من

الحجاز إلى بلاد الدولة الخصبة، ولا تحسبنَّ أن هذا القول منا ناشئ عن التخيل

والذهاب مع الأفكار في إساءة الظن بالإنكليز، بل هو من مقاصدهم الأولى في

احتلال مصر، كما يؤخذ من مطاوِي كلامهم في خطبهم وجرائدهم ومن تقفَّى سير

سياستهم، ولقد تمثل المقطم في أثناء الفتنة الأرمنية بأبيات منها:

ها مصر قد أودت وأودي أهلها

إلا قليلاً والحجاز على شفا

(13)

تمكن الدولة العلية في أي وقت من جمع قواها العسكرية في أي

رجا من أرجاء بلادها.

(14)

الحطّ من شأن ترعة السويس التجاري والسياسي التي كانت مجلبة

الشقاء لمصر؛ لأن هذا الطريق أقرب الطريقين إلى الهند وسائر أنحاء الشرق

الأقصى، وإذا تقشع سحاب النفوذ الأجنبي عن مصر وعادت الترعة خالصة لها

من دون الأجانب فإنها ترضاها على انحطاط شأنها، بل لا تراها منحطة إذا كان ما

نقص من منافعها عاد بالزيارة على السلطنة التي هي جزء منها ونقول كما يقول

العوام في أمثالهم: (من الكيس إلى الجيب) .

(15)

نكاية الإنكليز فإن هذا المشروع جائحة على تجارتها وسياستها؛ لأنه

أقرب الأبواب إلى الهند، فإذا أمكن إنفاذه تضطر بريطانيا العظمى إلى السعي في

مرضاة الدولة العلية ومسالمتها إن لم نقل إلى محالفتها ولو بتسوية المسألة المصرية،

وإلا تفعل فالهند على خطر من طروق نفوذ روسيا العسكري ونفوذ الدولة العلية

الروحي والعسكري إذا هي اتفقت مع روسيا وما ذلك يومئذ ببعيد.

(16)

احتياج روسيا وفرنسا وألمانيا لمحالفتنا أو مصافاتنا ومرضاتنا

لمصالحهن التجارية في الشرق، ولمقاصد الأولى السياسية على الأخص، فإن

تم لنا هذا المشروع قبل أن نتحالف مع أحد فلنا الخيار في حلاف من نشاء وإلا

فالسابقون السابقون أولئك المقربون هذا ما عنّ لنا من فوائد هذا المشروع.

غوائل المشروع:

ليس هناك غوائل كثيرة وإنما هما غائلتان:

(الأولى) أن ما ينتظر من فوائد هذا المشروع الحسية والمعنوية للدولة العلية

وللعالم الإسلامي - الذي يسيء أوروبا كلها - وما ينجم عنه من المضرات التجارية

لشركة ترعة السويس، لا سيما إنكلترا وفرنسا، ولسائر شركات البواخر التجارية،

وما تخشاه بريطانيا من مضرته السياسية، كل ذلك يحمل هذه الدول على عرقلة

المشروع ومعارضته قبل إيجاده ما استطعن إلى ذلك سبيلاً، ثم على اتخاذه ذريعة

لتداخلهم في شؤونه إذا هو وجد بحجة حقوق رعاياهم الهنديين وغيرهم.

يقول الفاضل محرر (وكيل) : إن هذا عمل تجاري محض لا يقدر أحد من

الدول أن يعارض فيه؛ لأنه لا دخل له في السياسة البتة. ونحن نقول أيضًا: إن

الدولة إذا أرادت إنفاذ هذا المشروع لا تقدر الدول على معارضتها فيه رسميًّا،

ولكنها تُحدث لها فتنًا ومشاكل، وتتهمها بأنها تؤلف شركة من مسلمي الأرض لأجل

إحياء التعصب الديني الذي يتجرمون علينا به دائمًا مع بعدنا عنه، ويتنصلون منه

مع ملابستهم له، ولعل حضرة الفاضل لم تنسَ اتهام الجرائد الإنكليزية للدولة العلية

بثورة الهند الأخيرة ومنعها جرائد الآستانة العلية من دخول الهند، وهذا هو الذي

لاحظه السيد طاهر بك صاحب (معلومات) الغراء حيث قال: (أما ما أشار به

الكاتب الهندي، من حصول هذه الأمنية على يد لجنة تؤلف تحت مراقبة الحضرة

الشريفة السلطانية الشاملة النفوذ في العالم الإسلامي، فمع كونه مصيبًا في نفس

الأمر لا يخلو في الظاهر من محاذير عظيمة لا تخفى على اللبيب، إذ لا فائدة

لدولتنا العلية في أن تستدعي لنفسها عراقيل جديدة وصعوبات متنوعة من جارتها

الدول الأوربية اللاتي لا يغفلن عن تأويل كل أعمالها بما يوافق أوهامهن - ليته قال

أهواءهن -، ولا يفترعن اتهامها بما لم يخطر لها ببال في كل أقوالها وأفعالها،

فالأجدر بنا أن نقنع بالممكن القريب ونجتنب كل ما يَئُول بالتهلكة على العالم

الإسلامي والوطن العزيز العثماني، فنأتي الأمور من مقدماتها متنبّهين إلى عواقبها.

وما أصوب قول رفيقتنا الجديدة (المنار) من أن صاحب البلاد أدرى بمصالحها

ومنافع أهلها نصره الله تعالى ووفقه في كل الأمور) اهـ. هذا ما قالته جريدة

معلومات، وله وجه ظاهر، نعم إنها بالغت بالتهويل لا سيما قولها: (يئول

بالتهلكة

إلخ) .

(الغائلة الثانية) : أن سهولة المواصلات وتمهيد طرق التجارة في داخل بلاد

السلطنة السنية من موجبات تداخل الإفرنج في أحشائها ونسلانهم إليها من كل حدب،

وكيف لا ينسلون إليها مع السهولة، وهم الآن يتغلغلون فيها مع الحزونة، وهؤلاء

الإفرنج إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإذا عمدوا إلى ثروة قوم أبادوها، وإذا تبوَّأوا بلادًا

شرقية استأثروا بمنافعها واستخدموا أهلها؛ لأن أهل الشرق كسالى متقاعدون، وهم

نشطاء مجدون، وأهل الشرق فقراء جهلاء، وهم أغنياء علماء، وهذه بلاد الشرق

كلها تشهد بصحة ما نقول لا سيما التي تمهدت سبلها، وأنشئت الخطوط الحديدية

فيها كالبلاد المصرية، وكفاهم جهلاً وغباوةً أن الدولة تمنحهم امتيازات بأعمال

عظيمة نافعة، فيبيعونها للأجانب الطامعين في بلادهم، كما جرى في امتيازات

الخطوط الحديدية بين بيروت والشام، وبين الشام وبره جك، وبين بيروت

وجبيل أو طرابلس التي باعها أكابر تجارنا للفرنساويين، فإذا كان هذا حال أغنيائنا

وكبرائنا، فكيف لا يكون كل مشروع نافع سببًا لبلائنا وشقائنا، وغنيمة وسعادة

لأعدائنا، ولا يكتفي أولئك الدخلاء بالقبض على أزمة المنافع، والاستئثار بالثروة،

بل يخلقون الفتن، ويستثيرون الإحن، وإذا وقعت فتنة بشؤمهم أو مما لا تخلو عنه

طبيعة الوجود، يغرمون الدولة العلية الأموال الطائلة باسم التعويض عما فات

تجارهم من المكاسب، أو أنفقوا عند نزول المصائب، والشاهد على هذا قريب،

فلا تكاد تخلو جريدة من جرائد العالم اليوم عن ذكر مطالب الدولة الأوروبية من

الباب العالي التعويض عما خسره أتباعهم في أطواء فتنة الأرمن الأخيرة.

بقي علينا البحث في التوقي من هاتين الغائلتين وبماذا يكون. ورأينا أن الغائلة

الأولى لا يمكن تلافيها إلا بمحالفة روسيا أو ألمانيا أو إنكلترا، والأرجح لنا ما يظهر

أن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين مرجح له، وهو حلاف ألمانيا أو الدول الثلاث لما

نبينه في النبذة التالية.

وأما الغائلة الثانية فعلاجها: السعي الحثيث في تعميم التربية والتعليم على

الوجه الذي شرحناه في العدد السادس عشر. ولا يقال: إن هذا يحتاج لزمن طويل؛

لأننا نقول: إن إتمام المشروع أيضًا يحتاج لزمن طويل إذا أخذنا في غضونه

بالتربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة والوطن، ويزعجان نفوسنا للتمسك

بهما ووقف حياتنا على خدمتهما، لا يتم المشروع إلا وروح الوطنية والقومية قد

انتشر فينا انتشارًا نرجو معه أن تكون فوائد عملنا لنا، لا لأعدائنا فعلى هذا فلتحض

الجرائد في كل حين ولمثله فلتتوجه همم العاملين.

كيفية الطلب:

إن دعوة الجرائد إلى هذا العمل قبل عرضه على المرجع الأعلى، والوقوف

على موقعه من ذلك الرأي الأسمى، دعوة تشبه البناء على غير أساس، والاستنباط

بدون مراعاة شروط القياس، والذي نراه في هذا أن يشرح الموضوع شرحا تامًّا،

ويعرض على الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى بواسطة أحد رجال الما بين

المقربين منها [1] ، فإذا آنس الوسيط منها ارتياحًا وقبولاً للمشروع يؤخذ في الدعوة

إليه، وتتألف اللجان للاكتتاب، وتتصدى الجرائد للحث والحض والتنشيط

والترغيب. والأولى أن يكون الطلب من عدة أقطار، وأن يكون الوسيط مقتنعًا

بفائدة المشروع راغبًا فيه، هكذا ينبغي أن تُؤْتَى البيوت من أبوابها، والله الموفق

وهو المستعان.

_________

(1)

يظن قوم أن هذا التفويض إلى السلطان كان من الخطأ، ولكن القيام بسكة الحجاز أثبت ذلك، فلولا السلطان لما نهضت همة كل المسلمين بذلك.

ص: 348

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌من نحالف

؟!

تحالفت الدول الأوروبية ذوات الشأن في السياسة العامة إلا الدولة العلية

وإنكلترا. ولقد كان اختيار الحياد من مولانا السلطان الأعظم ومن ساسة بريطانيا

العظمى عن حكمة ودهاء وحفظ للموازنة الأوروبية وخدمة للسلام العام إلا أن تحالف

روسيا وفرنسا أثار في جو السياسة رياحًا سوافي شاهت لها الوجوه، وتزعزعت لها

أركان الشرق الأقصى، عصفت فلم تقو على مجاراتها إلا الريح المنبعثة من مهب

بلاد الألمان، جرثومة التحالف الثلاثي وملاك أمره، ولقد أحست إنكلترا بأنها لا

سبيل لها إلى مقاواة هذه الرياح المتناوحة ومصادمتها منفردة، بل تحتاج في مجاراة

المحالفتين إلى دعامة تدعمها وحليفة تشد أزرها، فألانت القول للدولة العلية بعد

إغلاظه، وأظهرت الميل والانعطاف، بعد الغطرسة والانحراف، أملاً بالعود إلى

الود والولاء الذي تحفظ به منافعها في الشرق الأدنى، فقد شاهدت أن تجارتها فيه

أمست بائرة، وسياستها باتت في ربوعه خاسرة، ووجدت بالحرب الأميركية

الأسبانية منفذًا للدخول على الولايات المتحدة مرتدية برداء الحب والوداد، مدلة

بوشيجة الرحم، مدلية بأواصر القرابة، لتحمي حقيقتها، وتمنع وثيقتها في الشرق

الأقصى، فقد شعرت بأن ظلها ثمة في تقلص، ومدها جزر أمام روسيا وألمانيا

وفرنسا. وأما الدولة العلية فلم تدع المسألة المصرية موضعًا للصلح بينها وبين

الإنكليز وأصعب شيء، دون المسألة المصرية سهل، وأما الولايات المتحدة فقد

آنس الإنكليز منهم ميلاً لحلافهم، وربما قضي الأمر بعد انقضاء الحرب.

كذلك شأن الدولة العلية في الحاجة إلى الانضمام والانضواء إلى إحدى

المحالفات، فإن البقاء على الانفراد خطر على سياستنا بعد اجتماع الدول العظمى

والتئامها، ولكن: من نحالف وأوروبا بأسرها عدوة لنا، وإنما ترغب دولها

التقرب منا لنيل مآربها وتحقيق مطامعها.

إنكلترا تختار بقاءنا وإضعافنا، وروسيا رئيسة التحالف الثنائي تود إتلافنا،

وألمانيا رئيسة التحالف الثلاثي تقنع منا برواج تجارتها في بلادنا، فليس لها مطمع

في بنية المملكة وجثمانها، ولا مستعمرات إسلامية لها تخاف من قوتنا عليها، ولم

تغتصب منا بلادًا فتحذر الحقد منا عند العجز، والتألب لاسترجاعها عند القدرة،

ولا هي منتحلة للرياسة الدينية ومدَّعية حماية النصارى فنخشى من دسائسها في إلقاء

الفتنة بين أبناء مملكتنا من المسيحيين والمسلمين، وإحداث المَشاغب والهرج كما

هو شأن الدول الأخرى ذوات المآرب التي رمزنا إليها، إذًا إن الأجدر بنا أن نفضل

محالفة الألمان ونصطفيهم على سائر الأقتال والأقران.

عَرَفَ هذا وغيره مما لا تصل أفكارنا إليه سيدنا أمير المؤمنين السلطان

الأعظم عبد الحميد خان الثاني أيده الله تعالى وسدده، وأنس من الإمبراطور العظيم

غليوم الثاني ميلاً للوداد ورغبة بالاتحاد، فكال له مولانا الصاع بالصاع، وزاده من

مكارمه كما هو شأنه في حب التفضل، وشدت في زيارة الإمبراطور الأولى

للآستانة أواخي التآلف، وسيبرم في الزيارة الثانية مرير التحالف، بل صرحت

بعض الجرائد الأوروبية بأن هناك وفاقًا سريًّا، وحلافًا خفيًّا، والذي لا ريب فيه أن

الود محكم العُرى.

أظهر الإمبراطور ضلعه مع الدولة العلية في الحرب الأخيرة، فعرف له

مولانا هذا الجميل، ولما آذن مولانا بعزمه على زيارة الآستانة العلية والقدس

الشريف صدرت الإرادات السنية آمرة بالاستعداد للاحتفال بالزائر الكريم، ولقد

أكبرت جرائد أوروبا أمر الاستعداد، وذكره بعضها في معرض الانتقاد لأغراض

في النفوس. ومما جاء في جرائد بريد أوروبا ما ذكرته (الديلي ميل) وملخصه:

أن الإمبراطور لما زار الآستانة من قبل بنى له جلالة السلطان قصرًا في حديقة يلدز

بثلاثين ألف ليرة، وأمر الآن بأن يزاد في زخرفه وزينته، حتى قاولوا فراشًا على

فرش غرفة واحدة من غرفاته بأربعة آلاف ليرة، فما بالك بفُرشه كلها، وسينفق

على تزيين العاصمة سبعين ألف ليرة، وأربعين ألف ليرة على إصلاح جسر غلطة،

وتقدر هذه الجريدة أن نفقات الزينة مع نفقات الخمسة عشر ألف عسكري - التي

صدرت الإرادة السنية بأن يعمل لها ملابس جديدة، وتكون في فلسطين مدة زيارة

الإمبراطور لها -لا يقل المجموع على مائتي ألف ليرة، هذا ما عدا الإحسانات

والإنعامات، التي تنالها حاشية الإمبراطور من المكارم السلطانية، وقد صدرت

الإرادة السنية بأن تسافر فرسان الحرس الشاهاني في يلدز إلى فلسطين لحراسة

الإمبراطور مدة إقامته هناك.

إن مظاهر الابتهاج ومعدات الحفاوة والإكرام للإمبراطور العظيم هي أهم ما

تشتغل به الجرائد الأوروبية في هاته الأيام، لا سيما الجرائد الروسية والفرنسوية

والإنكليزية، فمن هذه الجرائد ما ينصحنا بحفظ أموالنا وعدم الإسراف فيها، ومنها

ما يحذرنا من مطامع الإمبراطور في سوريا والأناضول، وأنه لا بد أن يأخذ منا

إحدى المواني السورية، بل نقل سعادة مدير جريدة الأهرام عن محدث له من

الإنكليز في الآستانة العلية - أنه قال نقلاً عن السفير هويت الإنكليزي المتوفى:

(ليست فرنسا هي الدولة الطامعة في سوريا، بل هي ألمانيا وحدها) ، وتقول

الجرائد الإنكليزية: إن جلالة الإمبراطور سيجزينا على حفاوتنا واحتفالنا به بإجازة

الاحتلال الإنكليزي في مصر والتصديق عليه، وذلك عندما يرى إصلاحاتهم

وفتوحاتهم في أثناء زيارته لمصر.

أما وسر الحق إن هذا النصح والإنذار لم ينشأ عن الحب والود، ولم يكن

الحامل عليه الإخلاص والصدق، وإنما ساء القوم اتفاقنا واتحادنا مع هذه الدولة

القوية التي يعززها دولتان أخريان، علمًا منهم بأن ذلك يقطع أسباب مطامعهم في

بلادنا فعمدوا إلى التنفير، لكنهم أفرغوه في قالب النصيحة والتحذير، ولكن قد تفجر

من أنابيب أقلام بعضهم الحسد، فرقم على صفحات جرائدهم جملاً تُشعر بتوقعهم

ضياعَ مصالحهم وذهاب منافعهم من الشرق الأدنى، والإدالة بها لألمانيا بسبب

ولائها لنا واتفاقها معنا.

نسأل الله تعالى أن يوفق سلطاننا ودولتنا لما فيه خير البلاد والرعية إنه سميع

مجيب.

_________

ص: 356

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتبسات من الجرائد

قررت نظارة الحربية إنشاء ثلاث وخمسين قلعة على التخوم العثمانية مقاربة

بعضها لبعض، وأن تبذل العناية الكبرى في تحصينها تحصينًا متينًا على الطراز

الجديد.

وقررت أيضًا أن يكون في حدود تساليا ستة عشر تابورًا من العساكر، وأربع

كتائب مدفعيات جبلية، وألاي سواري تحت قيادة الفريق سعادة عمر نشأت باشا،

ويكون في جهة يانيا اثنا عشر تابورًا من البيادة، وثلاث كتائب مدفعية جبلية بقيادة

خيري باشا.

لما هاجر اليونان من (يِنِي شهر) حين الحرب اليونانية أودعوا مفاتيح

ديارهم عند أحد القسيسين، وأمنوا جانبه في المحافظة على ما بها من الأمتعة،

وبعد انتهاء الحرب ورجوعهم إلى أوطانهم تفقدوا منازلهم فوجدوها خالية من كل

متاع نفيس، فسألوا القسيس عن الأمر فقال لهم: إن العساكر العثمانية هي التي

نهبتها وسلبتها، وكادوا يصدقونه لولا أن أحد العارفين بأحوال ذلك القسيس دلهم

على حقيقة الحال، وأعلمهم بأنه هو المختلس الناهب لأمتعتهم، وأرشدهم إلى بئر

في بيته أخفيت الأمتعة فيها، فتوجهوا إليها فرأوا بئرًا تحفّها الأشجار، ولما فتحوها

وجدوا جميع ما نُهب منهم تحت غطاء البئر، وعلموا أن القسيس ردم البئر أولاً

بأحجار، ثم وضع فيها تلك الأمتعة وغطاها ووضع الأشجار حولها تمويهًا على

العيون، ومثل هذه الوقائع - مما لم يظهر أمرها - تدلك على أن العساكر العثمانية

بريئة من كل ما يرميها به ذَوُو الأغراض من وصمة السلب والنهب، وأن الجماعة

هم الذين ينهبون أنفسهم بأنفسهم، وإذا كان مثل القسيس يقدم على هذا الفعل، فما لك

بمن ليس عنده زاجر من دين، ولا رادع من تحريم.

...

...

... (مصباح الشرق)

***

قال اللورد سالسبوري أثناء الحوادث الأرمنية: إن المرحوم المستر

غلادستون - ومَن على شاكلته - هم المسؤولون عن كل نقطة دم تُسفك؛ لأن

مذابح الأرمن نتائج تحريضات خطباء وكُتاب الإنكليز. وقال هذا اللورد - عقيب

انكسار اليونان-: إن الواجب أن يُرهن المائة وعشرة نواب الإنكليز عند الدولة

العثمانية حتى آخر درهم من الغرامة الحربية، هذا ما قاله كبير وزراء جلالة

الملكة وهو بمثابة اعتراف رسمي بأن الخسائر التي أصابت رعايا الدول الأجنبية

في بلاد الدولة لم تكن إلا بسبب الدسائس الإنكليزية، ومع هذا فإن حكومات

أوروبا تطالب الباب العالي بالتعويضات، ولو أنصفت لطالبت اللورد سالسبوري

بأقواله، وطالبته بما أصاب رعاياها من الخسائر، ولكن من أين يأتي الإنصاف

والخلاف بين دولة شرقية وبين بعض الدول الأجنبية؟ !

...

...

...

... (الرائد المصري)

_________

ص: 359

الكاتب: محمد عبده

منتدياتنا العموميةوأحاديثها [*]

لفضيلة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير

إن أحاديث الأمم تدور على محور أفكارها؛ إذ اللسان هو المترجم عما يختلج

بالضمير من الصور المحفوظة والمعاني المتخيلة على اختلاف أشكالها وتنوع

فنونها، فباختلاف صنوف البشر في المعارف والأمزجة تتباين مفاوضاتها وأحاديثها

وتتشعب مجادلاتها ومحاوراتها، وإن تواريخ الأمم الغابرة وحوادث الملل

الحاضرة لترشدنا إلى ذلك بأجلى بيان، فهذه الأمة العربية في صدر الإسلام وقُبيله

لما مال عنصرها إلى التحبب في خُلُق الجرأة، وحملتها شهامة النفس على الجولان

في ميادين الغزو والفتوح، قصرت أحاديث رجالها على ما يتعلق بحرب ماضية،

ومعركة آتيه، تعقد مجالسها على ذكر جياد الخيل ومحاسنها، شارحة معايب الأقواس

وأوتارها، منتقلة إلى الكلام عمن اشتهر من رجالها بالإقدام والبسالة والانتصار،

وقصائدهم الشعرية مشحونة بأوصاف الحماسة، وخطبهم النثرية موقوفة على مدح

النزال والبراز، وبقيت هكذا أحاديثهم إلى أن ضعفت تلك الحواس، واستعيض عنها

بالميل إلى الراحة والانغماس في النعيم، فتولد فيهم من ذلك المحبة والعشق،

ولهجت شعراؤهم بأوصاف الغزل بعد الحماس، وبِنَعْتِ الحاجِبيْن والخصر بعد

الإسهاب في وصف القوس والوتر.

وهذه اليونان لما كانت ديارها مهد الحكمة ومطلع شموس العرفان، دارت

أحاديث قومها في المجامع على تحديد العلوم، وتبيين مهايا الأجناس والفصول،

يطلب الواحد منهم منزل صديقه ليتحاور معه في كيفية إنتاج الأقيسة المنطقية مع

تغاير أشكالها، فيطول بينهما الحديث، وهما بين مثبت وسالب، ومعترض ومجيب،

وهذا في حال كون المجالس الأخرى غاصة بجماهير النبلاء. فئة تغوص في

البحث عن أمزجة المواد وعناصرها، وأخرى تطلق عنان اللسان لاستكناه حركات

الأفلاك ومراكزها، فإذا عقدوا عزائمهم على المزايلة والانصراف، ودعتهم أوقات

أحاديثهم شاكرة لهم على ما أودعوا فيها من تقرير المسائل، وإزالة الحجاب عن

كثير من المشكلات والمعضلات، واستقبلتهم الأيام بوجه باش، وثغر باسم، فرحة

بما سيكون لها في بطون التواريخ مرسومًا بمداد الثناء على صفحات الأعصار

والدهور، لما ستبرزه فيها أفكار هؤلاء القوم إلى عالم الوجود من المطالب العالية

المؤيدة بالبراهين الصحيحة والحجج السديدة، وهذا مع محافظتهم وقت المحاورة

والجدال على رعاية الآداب، وحرمة قوانين المباحثة.

وهذه أمم أوروبا تشعبت مجالسها، وتنوعت مواضيعها، تحمل إلينا الجرائد من

أخبارها ما لا نكاد نصدقه لولا علمنا بوفرة معلوماتهم وكثرة مخترعاتهم، فيومًا

نسمع بأن ذوي الشركات التجارية اجتمعوا للمداولة فيما يلزم اتخاذه لإنشاء بنك مالي

يكون مركزه في إحدى الممالك الأسيوية مثلًا، فتطول بينهم المخابرة في ذلك،

ويعلو صوت الخلاف بين أعضائها، فمنهم من يرجح إنشاءه في الأملاك الفلانية من

تلك القارة محتجًّا بأن فلاحي تلك الديار يقترضون النقود بفوائد باهظة لاحتياجهم

وشدة فقرهم، فتكون الثمرة أجزل والربح أوفر مما لو أنشئ هذا البنك في إحدى

الديار الأفريقية التي أصبحت لخصب تربتها ووفرة حاصلاتها وأخذ الأموال

الأميرية منها بتقسيط عادل لا تحتاج إلى استقراض من مالنا، بل ربما إذا دامت لنا

هذه الحال يتوفر لها كثير من إيراداتها التي تقتدر بها على إنجاز مشروعات عمومية

حتى تصير بذلك معادلة لأعظم ممالك أوروبا في الثروة واليسار، فيجاوبه الآخر

قائلًا: إن الأجدر بنا أيها الشريك أن نعدل عن إنشائه في أي مركز من مراكز آسيا

مطلقًا إلى اتخاذه بديار مصر، وأما ما قيل من أن تخفيف الضرائب عنها مع حسن

تربتها وكثرة إيراداتها يجعلانها غنية عن الاستقراض، فذلك إنما يكون لو رجع

فلاحها عن سرفه وسفهه، وإلا فما دام على هذه الحال فإنه يكون أبدًا مثقلًا بديوننا،

يقرع أبوابنا آناء الليل وأطراف النهار، ولو أثمرت أرضه ذهبًا وعوفي من جميع

الضرائب سرمدًا، فإنه - على ما يقال - رهن عند أحد البيوت المالية فيها ما يجاوز

العشرين في المائة من أطيانها تأمينًا على ما أخذ منه من النقود في مدة لا تزيد عن

العام كثيرًا، فيستحسن الحضور بيانه، ويختم الجلسة بالعزم على المشروع فيما

قصدوا ليدركوا من الربح مثل من سلفوا.

وبينما هم كذلك ترى فئة أخرى تتروى في مد سكك حديدية في إحدى الإيالات

المشرقية وإنشاء أسلاك برقية فوق البحار وتحتها تسهيلًا للمواصلات التجارية،

وإحكامًا للعلاقات الدولية، وأخرى مجتمعه لتتخير من بينها نبيلًا يكون رسولًا من

قِبلها عند رجال إحدى البلاد، فيعقد معها شروط التزام مصالح عديدة، وأراضي

فسيحة، ومياه عذبة ما كانت أهل تلك الديار في حاجة إلى التزامه.

ونرى على مقربة من هذه الفئات جماهير متألبة، وجماعات متضافرة

يحسنون صنع الخطابة، ولا يجهلون تاريخ الخليقة، يقلبون العالم بين أصابعهم،

ويقطعون وجه البسيطة في أقل من لمح البصر، وهم جلوس يتحادثون يعينون

أوقات الفرص الملائمة للاستيلاء على تلك الجزيرة أو هذه الإمارة أو ذلك الإقليم.

يستطلعون الرسائل المتوالية الورود من أبناء جلدتهم المنبثين في أنحاء المعمورة

لاستكشاف خبايا القبائل والشعوب التي هم بين ظهرانيهم، يذللون المصاعب

ويمهدون طرق الاستيلاء والفتوح، ونحن عن كل ذلك غافلون نواصل الليل بالنهار

في اللهو واللعب. بلغت منا الخرافات والهذيانات مبلغًا جسيمًا، حتى استحوذت

علينا فأنستنا ذكر الحقائق النافعة والمصالح المهمة، وصارت تلك الأخلاط الفاسدة

كملكات للنفس، يتعسر زوالها إلا بذهاب الأرواح والأشباح، تعقد عندنا المجالس

ولكن على ذكر أنواع الخمور والمسكرات، يطرب المجتمعون فيها بذكر أوصاف

الغيد الحسان ويصرفون ثلثي الليل على قهاويهم (هكذا اصطلح وإلا فهي مواضع

رجس ودنس) يشربون فيها من المواد الممزوجة بالعقاقير السامة قدرًا لا تسوغه

طباع الوحوش الضارية ولا الأسود الكاسرة، وفي خلال ذلك يتناقشون

ويتخاصمون، حيث إن كلاًّ منهم يفضل مألوفه من ذلك، بل مألوفات أصحابه،

ويعدد أوصافه ويذكر محاسنه ويشرح مزاياه، من حَوَر عيون، ورقة خصور،

وعذوبة منطق، ومما شاكل ذلك. ويحتج عليه بأن فلانًا لا يبيت في ذلك المخدع

ولا يطأ ذلك الموضع حتى يدفع عشرين أو ثلاثين جنيهًا وما شابه ذلك. والآخر

يناقضه وينافسه ويروم إقناعه في مقام الجدل، ولا يروق لهم الحديث إلا إذا انتقلوا

إلى القذف في شرف من بينه وبينهم جامعة ديوانية، وعلاقة مجاورة منزلية، أو لا

هذه ولا تلك، وإنما حدتهم شهرة ذكره إلى معرفته، فيرمونه بالجبن وعدم الذوق،

لكونه نزيه النفس، أنف من سلوكهم، ويرومونه بغلظ الطبع والتقشف، ويسمونه

(نطعًا) وهم في خلال ذلك يهزؤون ويسخرون ويضحكون بصوت جهوري (ولا

يبكون وهم سامدون) يتبارون في ميادين البذاء، واستحضار كل ما قبح وخبث

من الألفاظ، وهو المسمى عندهم (تنكيتًا) فقسموا الألفاظ العرفية أبوابًا وفصولًا

ليستعملوها في هزلياتهم السخيفة، حتى كثرت الفصول وتنوعت المواضيع، وإذا

تبارى اثنان منهم في باب منها استداما ساعة أو أكثر، وهما مع الحضور في خلال

ذلك يرفعون أصواتهم بالضحك المزعج، فمن عجز منهما قبل صاحبه أوسعوه

توبيخًا، وصفقوا للمنتصر إعلانًا بظفره، وأجلسوه مكانًا عليًّا، ويسمونه المعلم

الماهر، وهذه فئة غير قليلة في المدن، وأكثرها من أبناء الأغنياء عديمي التربية.

وأما مجالس ذوي الكمالات من أهل المدن فإنها إن اتفق وتجردت عن الحديث

في منكر، فهي لا تخلو عن حشو، فإنه على الأقل لا بد أن يتشرف المجلس ولو

زمنًا قليلًا بحلول الغيبة أو النميمة المرافقتين لنا مرافقة الشخص لظله، اللهم إلا إذا

سمحت الصدفة وكان زمن المجلس قليلًا جدًّا لا يسع سوى التحية دون ردها.

وإنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا على خلاف ذلك، فإني قائل: إذا لم يجلسوا

مستديمين الصمت ومنصرفين كذلك، فبمَ ينطقون؟ هل بعلم شرعي وقد جهلوه أو

تجاهلوه؟ أم بعلم صناعي وقد عادوه؟ أم فن طبي وقد تناسوه؟ أو حديث عن منفعة

عمومية وقد أغفلوها؟ أم استفسار عن حوادث سياسية، وقد زعموا أن الاشتغال بها

لا ينفع؟ فإذًا لا سبيل إلا الاشتغال بألعابهم المعتادة كالشطرنج والنرد (الطاولة)

وغيرهما من أصناف الملاعب، وإنها دون ريب لتحملهم إلى أسوأ مما فروا منه، كما

هو مشاهد.

نعم يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن المعارف والسياسة، ولكن

فضلًا عن كونهم نزرًا يسيرًا فإن أعمالهم غير منطبقة على ما يقولون، لكونها جملًا

حفظوها من غير أن يعقلوا لها معنى، أو لكونها أمورًا إجمالية ضيقة المجال لم يبحثوا

في تفاصيلها. هذه هي المجالس المنزلية.

وأما المجالس التي تعقد على قهاوي الشعراء والحشاشين المخرفين، فلا

نستطيع تفصيل ما فيها من العجائب والأحاديث الجنونية، لكثرتها وتشعب مسالكها

سيما حديثهم فيما يتعلق بالجن والشياطين، أو خرافات المعاتيه والمجانين. كما أننا

نكتفي في الكلام على منتديات الأرياف؛ لأنها وإن قيل فيها ما يتعلق بالزراعة

ومصالحها، ولكن لا تخلو من كلمات تدل على تمكن الحسد والحقد في أفئدتهم، وأن

العداوة والبغضاء راسختان في ضمائرهم، بحيث يعسر زاولهما، وهذا مع مساواة

غالبهم لأهل المدن في البغي والفجور، وإن بعض عمد البلاد أسوأ حالًا وأقبح عملًا

من أهل المدن كما هو معروف.

فهذه أحاديثنا في مجالسنا، وتلك أقاويل غيرنا في مجامعهم، سردناها لذوي

النقد والبصيرة، معرضين عن كثير مما نتفوه به وقت اجتماعنا، ولعلنا نذكره وقتًا

ما، إذا رأينا لهذه البذرة أوراقًا يانعة وثمارًا طيبة، فيقوى فينا ضعيف الأمل

ويحيا ميت الرجاء، ونشمر عن ساعد الاجتهاد ونطلق لسان العظة، داعين إلى

طرق النجاح. وإنا لنخشى أن تقابَل هذه الجملة بما قوبلت به أخواتها من قبل، كأن

يقول زيد: ما كتبت هذه الجملة إلا للتنديد على أقوالي، ويظن مثله عمرو،

فيصرفونها عما وضعت لأجله من خالص النصح ومحض الإرشاد، من غير أن

تناط بشخص مخصوص أو فئة معينة، فالملحوظ فيها - كسابقاتها - الخُلُق من حيث

تعلقه بالأفراد أيًّا كانت، كما هو الشأن في جميع المواعظ والنصائح العمومية، لا

المرء المخصوص المتصف بتلك الأخلاق حتى تكون تنديدًا وطعنًا، فعسى أن لا

نسمع بعد بمثل تلك التصورات من أحد من الناس، ويعلموا أن ما كتب وسيكتب

صادر عن نفوس تسعى في تهذيب الأخلاق ما استطاعت، ويسرها أن ترى أبناء

الديار رافلة في حُلل من الكمالات متحلية بالعزة والفخار، حقق الله آمالنا وختم لنا

بحسن مآلنا. اهـ.

(المنار)

كتب الأستاذ هذه المقالة في 10 ربيع الأول سنة 1298 أي: من بضع عشرة

سنة، وفيها من المناسبة لحال هذه الأيام ما ترى. أما ما ذكره عن أحاديث

الأوروبيين ومقاصدهم من ذلك فهو:

(1)

إنشاء شركاتهم بنكًا في مصر؛ لأن أغنياء المصريين وعمدهم ما

داموا لا ينفكون عن السفه والتبذير فهم في غمرات الديون التي تجلب على بلادهم

رَيْب المَنُون، وإن أنبتت تربتهم الذهب الوهاج، وأعفتهم الحكومة من كل إتاوة

وخراج، وقد تقرر الآن إنشاء البنك في مصر.

(2)

إنشاؤها سككًا حديدية في بعض الأيالات الشرقية. وقد جاء في

الجرائد الأوروبية أن (الكونت ولدمير كاينتز) ابن أخت سفير روسيا من فينا طلب

من حضرة مولانا السلطان امتيازًا بإنشاء سكة حديدية جديدة من ميناء طرابلس الشام

إلى الكويت على خليج العجم، وقد أنشئت شركة مختلفة لمدها، وهاتان المسألتان من

أهم المسائل المالية الحاضرة الآن.

وقد ذكرنا في العدد 18 أن الباب العالي منح امتياز سكة حديد بين قونيه

والبصرة للمسيو كوتار الفرنسوي (نقلنا ذلك عن الاتحاد المصري والعهدة عليه) .

وبقية ما ذكره عن الأوروبيين من إرسال رسل من نبلاء بلادهم ليعقدوا مع رجال

بلاد أخرى شروط التزام مصالح عديدة، وقيام خطبائهم لبيان كيفية استيلائهم على

البلاد البعيدة، هو الآن أشد وأكثر مما كان في سائر الأحايين، وناهيك بما هو جارٍ

في مملكة الصين، وأما ما ذكره من أحاديث أبناء هذه البلاد ومجالسهم، في

معاقرتهم ومقامرتهم، فهو على ما كان في تلك الأيام. نعم قد زاد لغطهم وثرثرتهم

بالسياسة على الوجه الذي ذكره وهو كون أعمالهم غير منطبقة على أقوالهم، ولقد

صدَّر المقالة بكلمات قال فيها عن أحاديث منتدياتنا: (إنها عقبات في طريق

تقدمنا وظلمات متكاثفة في وجه انتظام هيئتنا الاجتماعية وحواجز دون الوصول إلى

محجة الرشاد، وانتهاج خطة السداد، وإن خاله الكثير منا تمدنًا وزعمه السواد

الأعظم من شعار الأدب وعلائم الذوق والترف) وإنما لم نذكرها في صدر المقالة؛

لأنها جاءت في خلال الكلام عن وعد سابق في الكلام عن الموضوع كان وقع له

يومئذ، ولا محل له عندنا اليوم فيصدر الكلام به.

_________

(*) فاتحة العدد العشرين الصادر في يوم الثلاثاء 14 ربيع الأول سنة 1316.

ص: 361

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نهضة مسلمي الهند

(1)

شعرت جميع الشعوب والأمم من جميع المِلَل والنِّحَل في الشرق بشدة حاجتها

إلى التربية والتعليم المفيدين للقوة والعزة المنميين للثروة الموصلين للسعادة، إلا أن

المسلمين كانوا أبطأ شعورًا وأضعف إحساسًا بذلك، وأجدر بهم أن يكونوا هم

السابقين لجميع الشرقيين؛ إذ الغربيون لم يهتدوا لذلك إلا بما اقتبسوه من أنوارهم من

قبل. ولم يكن السبب في ذلك ضعف قابلية المسلمين واستعدادهم؛ لأن الاستعداد

الطبيعي لا يختلف باختلاف الاعتقاد، ولا تعاليمهم الدينية؛ لأنهم كانوا أشد تمسكًا

بالدين علمًا وعملاً أيام أخذوا الفنون عن مخالفيهم وجدُّوا في إنمائها واستثمارها،

ولكن العلوم لما دالت إلى الغرب وغمرته بخيراتها وبركاتها، ثم اندفع أهله إلى

الشرق مكتسبين ومستعمرين - كان أول من أخذ عنهم معارفهم النصارى للتناسب

بينهم في الدين ومذاهبه، ثم تبعهم الوثنيون في الهند وفي اليابان، وعادى

المسلمون علومهم لعداوتهم السياسية، حتى توهم عامتهم وجهالهم أن تلك العلوم مضادة

للدين نفسه، وبقي المسلمون أجيالاً في الكسل والخمول، لا يرجعون إلى آداب دينهم

التي نهضت بهم في النشأة الأولى، ولا يتمسكون بالفنون العصرية التي نهض بها

غيرهم عادوا الأولى عملاً، والثانية قولاً وعملاً، وتقيدوا بسلاسل العادات

المضرة والتقليدات المكسلة، حتى صاروا مضغة بين الأفواه ولماظة بين الشفاه،

تلوكهم دونُ الأمم وتلفظهم لفظ النواة، وحتى ساغ لمثل رزق الله حسون أن يقول:

أي قطر وليس فيه يهود

ونصارى وفيه بيع وشراء

ولقد صدق الشاعر؛ فإن المسلمين أصبحوا أفقر الأمم مع أن دينهم يأمر

بالجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وجمهور أئمتهم يفضل الغني الشاكر على

الفقير الصابر، وكتابهم يعلمهم أن يقولوا في دعائهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) وقد وصف حال بعض الناس بقوله:

{خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11) .

أليس من العجيب أن يفوق أبناء هذه الملة في الكسب أهل كتاب ينص على أن

الغني لا يدخل ملكوت السموات حتى يدخل الجمل في سم الخياط، ثم يرمونهم بأن

دينهم هو الحجاب بينهم وبين الرقيّ في مراقي العمران، والصعود على مدارج

المدنية العزيزة، كما نراه في جرائد أوروبا كل يوم، وكما نسمعه من أهلها وعنهم

في كل مجتمع، وقد أقررناهم على انتقاصهم لنا حيث لم نكذبهم بقول ولا عمل.

نعم قد دافع عنا بعض المدافعة من ليس من أبناء ديننا، كصاحب جريدة الأهرام

الغراء، فقد رأيت فيها غير مرة القول بأن المسلمين يساوون أو يقاربون غيرهم في

الاستعداد للترقي، وأن دينهم لا يمنعهم اقتباس العلوم من غيرهم، وإننا نشكر سعادة

صاحب الأهرام على مدافعته عن هؤلاء الذين رضوا بأن يكونوا مع القاصرين،

ولولا ذلك لدافعوا عن أنفسهم بالبرهان القوي وهو العلم النافع والعمل الرافع، ولا

سبيل إلى هذا إلا بالتربية الصحيحة التي أهملوا أمرها فكانوا من المهمَلين.

هذا مجمل من خبر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: تلدغهم عقارب

الحوادث، وأفاعي الكوارث من الجحر الواحد ألف مرة، وهم على ما هم، والنبي

صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين) حتى إذا ما

بلغ السيل الزبي طفقوا يشعرون بحقيقة شؤونهم، ويبصرون ما يحدق بالوسط الذي

يعيشون فيه من الأخطار إذا ظلوا على سكونهم وخمولهم، إلا أن هذا الشعور

والإبصار لم يهديا إلى الطريق القصد ويزعجا إلى السير والسلوك فيه إلا مسلمي

الهند، فقد رأينا جرائدهم تلهج دائمًا بالتربية والتعليم، لا سيما جريدة (محمديان)

التي تُطبع باللغة الإنكليزية في مدراس، فقد اقترحت هذه على المسلمين إنشاء رسائل

في التربية الإسلامية وما هو وجه الصواب فيها، ووعدت بجائزة نفيسة لمن يصيب

الغرض وتكون رسالته أفيد للمطلوب، ولا تزال الرسائل ترد عليها في ذلك، وإذا

تسنت لنا ترجمتها فإننا ننتقدها انتقادًا.

(البقية بعد)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 369

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مناقشة

انتقدت جريدة (الاتحاد المصري) الغراء على جريدتنا (المنار) وعلى

جريدتي (المؤيد ووكيل الغراوين) بمواصلة الكلام على مشروع سكة الحديد

بين البصرة وبورسعيد، بل زعمت أننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج هذا

(المشروع الإسلامي الخطير) وكررت أسفها لأن أبحاثنا ذاهبة سدى، وأننا لم نتمكن

من إتمام ما نسميه (المشروع الإسلامي) وقد انحرفت زميلتنا عن الجادة في هذا

الانتقاد في أربعة أمور:

(1)

قولها: إننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج المشروع، ولا تصح هذه

المبالغة فيمن ذكر شيئًا مرتين أو ثلاثًا، لا سيما إذا كان هناك أسباب عارضة دعت

لإعادة القول ومرادَّة الكلام، كمراسلة محرر وكيل الفاضل للمؤيد الأغر، وكمدافعة

المنار عن نفسه حيث خطئ في بعض قوله. ولا نعني بهذا الكلام التنصل من وقف

أبحاثنا على المشروع لأن فيه غضاضة تقتضي ذلك، كلا إن المشروع جدير بأن

توقف عليه الأبحاث وتفتل له الأنكاث، ولكننا توخينا بيان الحقيقة فقط.

(2)

قولها: إننا لم نتمكن من إتمامه. وإنما نحن باحثون لا عاملون، وقد

وفينا البحث حقه بحسب ما عنّ لنا حتى نسبتنا للإفراط.

(3)

قولها: إننا سمينا المشروع: (بالمشروع الإسلامي) وتسميته

(بالمشروع التجاري العظيم) كانت أتم وأوفق لاتصاله بكثير من البلدان، ومروره

في وسط بلاد تدين بكثير من الأديان، ولأن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم

به أفراد معدودون، ولا بد فيه من الاكتتاب، وهذا لا يمكن أن يحصر في يد فئة

معلومة، ومن الضروري أن تساعده البانكات وهي لغير المسلمين، وهذا من عجيب

القول، ونرده بأننا لم نسمِّ المشروع بما قال (المشروع الإسلامي) بل سميناه جميعًا:

(مشروع سكة حديد

إلخ) ، وإن أرادت بالتسمية الجعل، أي أننا جعلناه

إسلاميًّا، نقول: إن مقترحه اشترط أن تكون الشركة المؤسسة له من المسلمين،

وتكلمنا عليه بناء على ما اشترط، وذكرنا منافعه الإسلامية باعتبار كون

أصحابه من المسلمين، كالنفع العائد إلى بلاد الحجاز، وكزيادة نفوذ خليفة المسلمين

الديني في الممالك التي تشترك في العمل به، كالممالك الهندية، كما هو شأن نفوذ

حضرة البابا عظيم النصرانية في بلاد الدولة العلية وغيرها من الممالك التي يسكنها

النصارى، وذكرنا منافعه لأهل الشرق عمومًا والعثمانيين خصوصًا؛ لأنه يقع منهم

وفي بلادهم، بل ذكرنا منافعه لأهل الغرب أيضًا لسبقهم في ميادين التجارة، وأي

مانع يمنع أن يكون للمسلمين شركة مالية، وإن للنصارى شركات مثلها كثيرة. إن

كان هذا يعد إجحافًا بحقوقهم فهم السابقون إلى الإجحاف، وما ذكره من العلل للعدول

عن جعله إسلاميًّا محضًا، ضعيف لا يفيد المطلوب؛ لأن (مروره في وسط بلاد

تدين بكثير من الأديان) لا يضر بأهل تلك الأديان، ولا يمس حرمة معتقداتهم، كما

أن السكة الحديدية وسائر المعاملات التجارية التي للإفرنج في بلادنا لا تمس حرمة

ديننا، ولم نعارضها بناء على أن أصحابها مخالفين لنا في الاعتقاد. على أن البلاد

بالنسبة لمثل هذه الأعمال العامة لا تنسب لساكنيها وإنما تنسب لحكامها، وحكام البلاد

التي يمر فيها المشروع مسلمون، ومع هذا كله فإن مشرب جريدتنا (المنار) حث

العثمانيين من جميع الملل على الاشتراك في الأعمال النافعة؛ لأنه أدعى إلى التآلف

وأسرع في عمارة البلاد، وهذا المشروع من الأعمال النافعة التي نود اشتراكهم في

مثلها، وما منعنا عن اقتراح اشتراكهم فيه بخصوصه (مخالفة لمحرر وكيل) إلا

أننا اقترحنا امتداد الخطوط الحديدية للحجاز الشريف، ولا يجوز في ديننا أن يكون

لغير المسلمين ملك في تلك البلاد؛ لأنها بمثابة الجوامع والمساجد (معابد دينية) .

وأما قولها - الاتحاد الغراء - (إن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم به

أفراد معدودون

إلخ ما مر) ، فهو ناشئ عن ذهول لا يحتاج إلى الرد، وإلا

فكيف يتسنى لصاحبها أن يقول: إن المسلمين أفراد معدودون، وإن الاكتتاب لا

يمكن أن يحصر بين فئة معلومة (يعني المسلمين) .

وقولها: (من الضروري مساعدة البانكات لها وهي لغير المسلمين) في غاية

الغرابة؛ إذ كيف يتصور جناب كاتب تلك الجملة أن جمعية مؤلفة من مسلمي

الأرض (كما هو المفروض) تحت رئاسة السلطان الأعظم يمنع عنها مثل البنك

العثماني المال الذي قد تحتاجه منه؛ لأنها جميعه إسلامية، ومال البنك لغير

المسلمين. يمكننا أن نستدرك على رصيفتنا فنقول: إن جمعية كهذه لو أرادت أن

تبني جوامع ومساجد لم يمنع عنها أي بنك المال ما دام في مأمن عليه؛ لأن البنوكة

لا دين لها، ولا قوانينها دينية. وإن قالت: إن الشركات المالية أيضًا لا دين لها، فلمَ

خصص مشروعكم بالمسلمين، قلنا لها: إن ذلك لما ذكرناه آنفًا من الوجهة الدينية،

وكما أن (جلالة السلطان الأعظم لا يفرق بين مذاهب رعيته، ولا يعرف إلا

العثمانيين الصادقين) كما قالت، فكذلك نحن تبع لسلطاننا، لا نفرق بين المذاهب في

الأعمال التي لا تمس الدين ولا تتعلق به، وأما الأمور التي لها علاقة بالدين فنتمسك

فيها بديننا، ولا نعارض أحدًا في دينه، بل نقول كما قال كتابنا العزيز {لَكُمْ دِينُكُمْ

وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) .

(4)

قولها في مباحثنا: (إنها ذاهبة سدى؛ لأن مشروع سكة حديدية تصل

بين سواحل الأناضول والبصرة قد منح امتيازه إلى كوتار الفرنساوي) كما روينا

ذلك مفصلاً في عدد سابق، ولو تنازل زملاؤنا المعتبرون إلى تلاوة ما كتبناه في هذا

الشأن لما تحملوا مشقة البحث والتنقيب لإثبات أمر ونفي آخر. ونحن نقول: إن

منا من قرأ ما كتبتْ في ذلك، بل نقلناه في العدد 18 من المنار عن الاتحاد، وذلك

- إن سلم - لا يمنع من بيان فوائد مشروع عظيم، عرض للبحث والمناقشة والفائدة

من البحث الحث على إنشاء ما بقي منه، والترغيب في الاشتراك بالامتيازات

التي أعطيت لكوتار ولأنطون بك ما أمكن. أجل إن نيل كوتار امتياز خط من

قونية إلى البصرة، والامتياز الذي ناله سعادة أنطون بك يوسف لطفي بخط من

مصر إلى الشام عن طريق العريش لم يبقيا من مشروع الفاضل محرر (وكيل) إلا

النزر القليل، كما قالت الاتحاد الغراء، فكيف بنا إذا ضممنا إلى هذا ما جاء في

الأخبار الأخيرة من طلب الكونت ولدمير كانيتر ابن أخت سفير روسيا في فيينا

امتيازًا بإنشاء سكة حديدية جديدة من ميناء طرابلس الشام إلى الكويت على خليج

العجم، لا جرم أن هذا إذا تم يذهب بالمشروع المبحوث عنه، حتى لا يبقى له أثر،

لكن يبقى بعض النواشط والفروع التي أومأنا إليها، فإذا لم نبادر إليها يغلبنا عليها

الغالبون، ويمتلك الأجانب أعصاب بلادنا وعروقها، ويبقى بأيديهم موتها وحياتها،

بل تحيا لهم ونحن الذين نموت، لكننا لا ننكر على زميلتنا الاتحاد أننا في شك مما

جاءت به من خبر امتياز قونيه والبصرة، وامتياز العريش والشام، وأننا نعتقد أن

مولانا السلطان لا يجيب طلب الكونت ولدمير الأخير، فأهمية المشروع الإسلامي

باقية على حالها، ولا نفتأ نحث عليها، ولئن فات بعضها فإننا نحض على باقيها،

وبالله التوفيق.

_________

ص: 371

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات من الجرائد

(الآلة الكاتبة - تايب رايتر-)

إن رجلاً فرنساويًّا اسمه فوكول استنبط آلة يكتب بها العميان، قدمها لمعرض

باريس سنة 1855، فكانت قاعدة لاصطناع الآلة الكاتبة المشهورة، فشاع

اصطناعها واستخدامها، وبرع بذلك الأميركان بنوع خاص، وكثرت معالمها

وتنوعاتها، وذاع استعمالها حتى لم تبق مدينة في العالم المتمدن لم تستعملها،

وحملها السياح والرواد المستعمرون إلى أواسط إفريقيا وأطراف آسيا شمالاً إلى

القطب الشمالي، وجنوبًا إلى اليابان والصين والهند وإلى أستراليا، وفي

الإقيانوس المحيط وغيرها، وما ذلك إلا لسهولة استخدامها، وكثرة فوائدها. وكانت

في بادئ الرأي لا تكتب إلا بالأحرف الرومانية المشهورة التي يستخدمها

الفرنساويون والإنكليز والأسبان والإيطاليان في كتابة لغاتهم. ثم رأى الألمان أن

تكون أوامرهم الرسمية بالحرف الغوطي، فاصطنعوا لهم آلة تكتب به، واصطنعوا

نوعًا منه يكتب اللغة الروسية، وآخر يكتب العبرانية، وآخر لليونانية، وآخر

للسيامية، وأخيرًا اصطنعوا آلة تكتب اللغة التبليغية من اللغات الهندية، وكانوا

يظنون كتابة هذه اللغة بهذه الآلة أمرًا مستحيلاً؛ لكثرة حروفها وتنوعها، وكان

الساعي في اصطناعها مبشرًا إنكليزيًّا اسمه الدكتور شامبرلين أراد أن ينشر الكتاب

المقدس بين الهنود بتلك اللغة، فكتب إلى بعض الشركات في أميركا يصف لها

الحروف التبليغية، ويطلب إليها اصطناع آلة تكتب بها فقط وجاءت متقنة. ولما

كان ملك سيام في أوروبا أحب (التايب رايتر) فأوصى أن يصنع في لغة بلاده

فصنعوه.

فالتايب رايتر الآن بالحروف الرومية والجرمانية والروسية والسيامية والهندية،

وأما العربية، فقد حاول بعضهم اصطناع آلة تُكتب بها فلم يصادف توفيقًا؛ نظرًا

لاختلاف أشكال الحروف العربية باختلاف مواقعها، كما لا يخفى، ولكننا علمنا أن

المصور الماهر سليم أفندي حداد بالقاهرة قد فاز باصطناع تايب رايتر عربي، جاء

في غاية الدقة والسهولة، ولكنه لم ينشره بعدُ، فعساه أن يوفق إلى ما فيه خدمة اللغة

والوطن.

***

(إحصاء الحروب في هذا القرن)

وضع ضابط مجري إحصاءً في الحروب وخسائرها من الرجال والأموال

ونسبة ذلك بين الدول المتحاربة، يؤخذ منه أن أكثر الدول حروبًا في هذا القرن

الدولة العثمانية، فقد بلغت مدة الحروب عندها من سنة 1800 - 1896 نحو 37

سنة، ومدة السلم 59، ويليها في ذلك أسبانيا؛ فقد حاربت 31 سنة، وارتاحت

65، ثم فرنسا ومدة الحرب عندها 37 سنة، والسلم 69، ثم روسيا وسنُو حربها

24 سنة وسلمها 72، وتليها إيطاليا مدة حربها 23، وسلمها 73، ثم إنكلترا حربها

21، وسلمها 75، ثم النمسا والمجر حربها 17، وسلمها 79، ثم هولندا حربها

14 وسلمها 82، ثم جرمانيا (ماخلا بروسيا) حربها 17 وسلمها 83، ثم بروسيا

حربها 12 وسلمها 84 وأسوج حربها 10 وسلمها 86 والدانمارك حربها 8

وسلمها 88.

...

...

...

...

... (الهلال)

_________

ص: 375

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طول الحيوة

زعم مافنس المؤرخ الهندي أن رجلاً يقال له كونيا من أهالي بنغال طوى من

الأعوام 370، والمؤرخ المذكور يأخذ بناصره لويز كستفدس المؤرخ الملكي

البرتغالي الذي كان في إبان وفاة كونيا السنة الـ 1556، وعلى الرغم من قول

المؤرخين المومأ إليهما لا يخلو هذا الأمر من الريب، ولكن سواء كان كونيا أو ذوو

قُرباه أو خُلطاؤه يجهلون حقيقة الحين الذي برز فيه إلى حيز الوجود، فذلك لا ينفي

أن هذا المرء قد انتهى إلى حدود عمر طويل، قلّما صار إليها سواه، وقد وصف

كونيا بأنه كان إنسانًا متحليًا بصفات بسيطة، وعائشًا عيشة هادئة راضية، وقسرًا

عن كونه أميًّا كان يستطيع أن يورد بالإسهاب والتدقيق كل الحوادث الهامة التي

جرت منذ قرنين ونصف في حياته. وقيل: إنه اتخذ له زوجات عديدة في أثناء

عمره الطويل الأسباب، وقد تغير لون شعره مرات جمة من الأسود إلى الرمادي

ومن الرمادي إلى الأسود وهلم جرا (يا ليت الراوي ذكر شيئًا عن أسنان الفقيد رحمه

الله) وأن الشخص الذي يتلو كونيا في طول العمر هو أكار فرنساوي يدعى

بطرس زكترن قضى نحبه اليوم الـ 25 من شهر كانون الثاني السنة الـ 1724 في

السنة الـ 183 من أجله، وبعد (زكترن) تُذكر زنجية اسمها: لوزا تركسوا من

أهالي توكوميا في أميركا الجنوبية، وكانت السنة الـ 1780 قد وصلت إلى السنة الـ

175 من سنها، وهي لا تزال ذات صحة جيدة، ومن الأمور التي تستحق الانتباه

إليها أنه كان يوجد في فرنسا أسرة يطلق عليها اسم روفن نذكر عنها ثلاثة أشياء

غريبة:

(أولاً) أن مجموع عمر الوالدين كان 338 سنة، فالأب يوحنا روفن كان

عمره 174 سنة، والأم سارة كان عمرها 164.

(ثانيًا) أنهما بقيا مرتبطين بحبل الزواج 147 عامًا، ومن الأمور الغريبة

التي يندر حدوثها أنهما عاشا هذا العمر الطويل في السلام والمحبة والوفاق.

(ثالثا) عندما تصرمت أسباب حياتهما كان لهما ثلاثة بنين لا يزالون في قيد

الحياة أصغرهما عمره 116 حولاً.

وفي إنكلترا يوجد ثلاثة أشخاص فاقوا سواهم في طول العمر: الأول هنري

جنكنس من بوركثير عاش 169 عامًا، وقيل: إنه وقف ذات يوم أمام مجلس

العدلية وأدى شهادة عن حادث من 140 حجة قبل ذلك العهد، ومات هذا الرجل

السنة الـ 1670 في ألرتن. الثاني عقيلة أكتن، فإنها كانت عائشة عيشة بسيطة،

وكانت أرملة يوحنا فرنسيس إدورد أكتن وجدة أكتن ولدت السنة 1736 وماتت

السنة 1873 في السنة 137 من عمرها. الثالث توماس بار ولكن لسوء الحظ لم

نحظ بعدد السنين التي عاشها. ولا امتراء أن أقوى العوامل وأكبر الوسائل لأولئك

الذين عاشوا هذه السنين الطويلة وطووا هذه الأعوام المديدة كانت السذاجة في

معيشتهم، والبساطة في أخلاقهم وعاداتهم.

...

...

...

...

الحويك إلياس

...

... لبنان

_________

ص: 377

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شؤونات إسلامية

جاء في أحد أعداد جريدة (لاغوس ديكل ويكورد) التي تصدر باللغة

الإنكليزية في مدينة لاغوس من إفريقيا الغربية ما نصه:

الذي يظهر للعيان أن المسلمين هنا آخذون بازدياد ونمو يومًا فيومًا. والذي

يظهر من الحالة الحاضرة أن هؤلاء المسلمين سوف يستدخلون في دائرة الإسلامية

جميع من في جهاتهم من أهل الملل والنحل.

والأمر الحقيقي بإمعان النظر أن أهل الملل والنحل الموجودين في تلك الجهات

غير المسلمين كلهم مصابون بفساد الأخلاق ميالون إلى ما فيه هلاكهم وموتهم حسا

ومعنى، فلو دخل أصحاب هذه الملل في دائرة الإسلامية، وتخلصوا من الأحوال

السيئة العديدة، وذميم الأخلاق الشديدة، وأصبحوا كلهم مسلمين، لكان موجبًا ذلك

لسعادة حياتهم بدون ريب ولا اشتباه.

***

إعلان مخصوص

ورد من لدن ملجأ الصدارة أمر سامٍ مآله أن بيع البنات النصيريات كالأسيرات

باسم الإيجار الجاري في هذه الجهات منذ عهد طويل مما ينشأ عنه أنواع عديدة من

القيل والقال والشكايات بل ربما تسبب عنه ما لا يوافق الطريق المستقيم، وإن بعض

أفراد من الطائفة الهدائية يسلمون بناتهم إلى زيد وعمرو مدة طويلة في مقابلة أجرة

معلومة، مما ينشأ عنه ما لا يرضى من الأحوال، ولا تحمد عقباه من الأمور، ولما

كانت هذه العادات الفظيعة مما يجب إبطاله فقد أبرم مجلس الوكلاء المنعقد على

صفة خصوصية قراره على منع هذه الأعمال التي تقع باسم الإيجار منعًا محتمًا،

فلا تقع بعد الآن أصلاً وأبدًا. وعليه تذرعت حكومتنا بالوسائط اللازمة وأوعزت

لإدارة البوليس والضابطة بالتيقظ والانتباه إلى معارضة هذه القضية، ولكون الحال

معلومًا عند العموم ابتدرنا إعلانه.

...

...

...

...

... (فرات)

_________

ص: 379

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مراقبو الجرائد في سوريا

كتب إلينا بعض المشتركين في جريدتنا من أهل دمشق الشام في3 ربيع الأول

ما نصه:

احتجب المنار عنا بضعة أسابيع، ونهار أمس الخميس وزع منه العدد المؤرخ

في 23 صفر، وكان حقه أن يوزع يوم السبت غير أنه بقي خمسة أيام في حجرة

المراقب في دمشق ليفحص فحصًا ميكروسكوبيًّا على طريقة باستور وكوخ، فيحلل

حبره وورقه، وتعرف الأجزاء المركب منها، والألياف المؤلف منها الورق إلخ،

وإلا فما معنى حبسه خمسة أيام بلياليها. نعم، إن للدولة حقًّا في منع الجرائد

المضرة المعادية للدولة والملة من الدخول إلى بلادها، غير أن المراقبين في دمشق

وبيروت قد أساءوا إلى استعمال وظائفهم بسبب جهلهم وغرضهم اللذين لا يفرقون

معهما بين الغث والسمين، والهجان والهجين، فيمنعون مثل جريدة المنار العثمانية

البحتة، المتفانية بحب الدولة والأمة، وكثيرًا ما منعوا الجرائد العلمية، أو قطعوا

منها صحفًا معدودة، مما لا موجب لمنعه سوى جهلهم المركب، وغرضهم الدنيء،

وأغرب من هذا اختلاسهم الكتب والجرائد التي يستحسنونها. قال بعضهم: وردت

لي رسالة في التوحيد، فضبطت في بيروت. وقال غيره: وردت لي جريدة

تصويرية فضبطت أيضًا، ولا موجب لضبطهما سوى طمع المراقبين فيهما

للحصول عليهما مجانًا، وأغرب من هذا وذاك أن عددًا معلومًا من جريدة معلومة

يراقبه المراقب البيروتي، ويأذن بتوزيعه، ولما تصل الأعداد إلى المراقب الدمشقي

يأمر بضبطها وعدم توزيعها على المشتركين في دمشق؛ لأن رأيه في ذلك يخالف

رأي البيروتي، وقد تدخل الجريدة الآستانة العلية والقدس - مثلاً - عن طريق يافا،

وولاية حلب عن طريق إسكندرونة، ثم تمنع عن بيروت وسورية للسبب نفسه،

والمراقب البيروتي أشد جهلاً من الدمشقي، فقد بلغني أنه لا يعرف من القراءة

والكتابة غير النزر اليسير، فيستعين بأعوانه الذين هم أشد جهلاً منه، وكلاهما

عقبة كؤود في سبيل المعارف، وضرر محض على الدولة وماليتها، يفعلان ما

يفعلان إما جهلاً أو لغرض أو ليظهر لأولياء الأمور أهمية مأموريتهم ولزومها غير

عالمين بما ينجم عن ذلك من الأضرار المادية والمعنوية، فقد هجر كثيرون من

الناس البوستة العثمانية، وصاروا يبعثون رسائلهم مع البوستات الأجنبية التي لا

تصل إليها أيديهم، وقد ترد صحبة هذه البوستات جرائد ومطبوعات، مما هو

ممنوع حقيقة، فيدخل البلاد بسلام وأمان، ويحجز المنار وأمثاله.

تلك حقائق أكتبها إليكم لتنشروها في جريدتكم حرصًا على المصلحة العامة،

وأظن أنها لا تؤثر بهؤلاء المراقبين الذين لا يبالون بما يفعلون وما يجلبون من

الضرر على البلاد والعباد، فعسى أن ترفعوا الشكوى عليهم للمراكز العالية في

الآستانة العلية، فالحق لا يحرم نصيرًا، وغاية ما نرجوه استبدالهم بغيرهم وإراحة

الناس من شرهم وجهلهم، وبالله التوفيق.

(المنار)

إن جريدتنا لم تمنع إلا في ولايتي بيروت والشام، وإن الرسائل ترد إلينا من

نواحي السلطنة بالثناء على صدقها في خدمة الدولة العلية والسلطان الأعظم، بل

جاءنا من الآستانة أن من عظماء المابين من يخصها بالثناء الفائق، فنستلفت أنظار

صاحبَيِ الدولة والي سوريا ووالي بيروت المعظمين أن يعهدوا بمراقبة الجرائد

لبعض أهل الفضل والاستقامة الذين ينهاهم علمهم ولا تسمح لهم أمانتهم أن يؤذوا

أرباب الجرائد والكتب بغير ما اكتسبوا، ويحرموا الأمة من كثير من المعارف،

ويحملوا أعداء الدولة على رميها ببغض المعارف والتضييق عليها من غير تزييل

بين ما ينفع وما يضر، وإن لم يسمع نداؤنا في هذه الكرة فإننا نرفع ظلامتنا لأعتاب

سيدنا ومولانا السلطان الأعظم، ونبين لجلالته أنه لا ذنب لنا إلا اختصاص مولانا

بالثناء والصدق في خدمة دولته العلية، والنصيحة للأمة مع انتمائنا للعلم وانتسابنا

للعترة الطاهرة النبوية، كأنه يثقل على مراقبي جرائد سوريا أن يكون مثلنا خادمًا

لدولته وأمته، راضيًا مرضيًا عند إمامه وسلطانه [*] (وعسى أن يكفينا الأمر هذان

الواليان الجليلان خدمة للحقيقة، ونكون لهما من الشاكرين) .

_________

(*) كتبنا هذا وأمثاله في السنة الأولى ونحن نظن أن ذلك التشديد والتضييق على العلم من أولئك العمال، ولم نلبث أن علمنا أنه بأمر السلطان وإرادته.

ص: 380

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كريت

استرجعت دولة إيطاليا جنودها من كريت، ويقال: إن جواد باشا واليها

قد استقال لافتئات أميرالية أساطيل الدول، لا سيما إصرارهم أخيرًا على منع إنزال

الجنود العثمانية في خليج السواد، ولعمر الحق إن عداء الدول الأوروبية وعمالها في

كريت لمما يقضي بالعجب من هذا التمدن المبني على أساس البغي والعدوان. وقد

جرت عادتهم في غير هذه المسألة بتمويه البغي وزخرفته، لكنهم لم يبالوا فيها

بتشويهه بدلاً من تمويهه.

أنشأ الكاتب البارع عبد الوهاب عثمان بركات التونسي صحيفة سماها السودان

المصري، وكأنها صادفت رواجًا، فجعلها جريدة ذات أربع صحائف، وهي

سياسية إخبارية تاريخية تجارية، تصدر في يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع

مؤقتًا، وثمنها 70 قرشًا في السنة لأهل الديار المصرية، وهي تستقصي أخبار

السودان ما استطاعت، فنرجو لها النجاح والفلاح.

_________

ص: 382

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بارقة نجاح

لقد مر على البلاد المصرية زمن طويل ورياح الحوادث تدك مبانيها، وتنسف

أراضيها، وتغرق سفنها، وتفعل فيها الأفاعيل، ولا جرم فهي الريح العقيم، التي

لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، عصفت صرصرًا عاتية، فتركت

القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولم تكد تُبقي لمعالمهم من باقية، لكن عهدنا

برياح الحوادث والكوارث أنها كالرياح الطبيعية، منها ما يأتي بالعذاب والخراب،

ومنها ما يجيء بالخير والبركات، وكم من بصير موفق استفاد من البلاء، فعاد

عليه بالسعادة والنعماء، وكم من مخذول أخرق أصابته النعمة فأساء استعمالها؛

فكانت عليه نقمة، فما بالنا نُغتال من جانب الفائدة، ونشقى من حيث تُرتجى لنا

السعادة، وغيرنا يستفيد حتى من الغوائل، ويربح من حيث يتوقع الخسران؟ كيف

أمست معارفنا عافية، ومدارسنا دارسة، وتعليم أولادنا أخوف ما نخافه على

استقلال بلادنا؟ كيف صرنا نَفرَق من المعارف وهي روح حياة الأنام، أن تأول

بنا إلى الموت الزؤام، وكفاك بإضعاف اللغة إضعافًا ينتهي بالإعدام. أما آن لمرار

الرجاء بالحكومة أن تسحل، ولحبال الآمال بمعارفها أن تُقطَّع، ويرجع المصريون

إلى رشادهم، ويعتمدوا على قوتهم الشعبية واستعدادهم؟ أما آن لهذه الرياح التي

تعصف في بلادهم أن توقظ قومًا نيامًا، وتثير في جوّهم سحابًا رُكامًا، يجودهم

بالغيث الذي تحيا به الأرض بعد موتها، وتعشوشب الأحراز بعد إقفارها، وتزدهي

بكل زوج بهيج؟ ، بلى قد رأينا في أوائل هذا العام قزعًا من سحاب الهمم في جو

مديرية جرجا، وقد لاحت قزعة أخرى من عهد قريب في جو الإسكندرية، وإن

بريق الأمل والرجاء يلمع في هذه وتلك، يبشر بأن وراءه ربيعًا، وغيثًا مريعًا،

لكنه يأتي رويدًا رويدًا.

كعهدك في صوب العهاد مرتبا

رذاذًا وتهتانًا إذا ما تحدَّرا

أعني بهذا ما ذكرناه في العدد الخامس عشر من الجمعية التي تألفت في مديرية

جرجا بهمة سعادة مديرها الفاضل، وما كان من نجاحها في افتتاح المدارس الوطنية

الأهلية، وما بشرتنا به الجوائب (الأخبار الطارئة) الأخيرة من نشاط أهل

الإسكندرية لمثل ذلك، وتأليف جمعية للاكتتاب، وجمع النقود لإنشاء مدرسة للبنين

والبنات، وما ظهر على العمل من علائم النجاح وأمارات الفلاح.

طلب أهل الإسكندرية من الحكومة أن تنشئ لهم أربع مدارس من قبل نظارة

المعارف، فأجابت النظارة بعدم إمكان إجابة سؤالهم لإعسار خزينتها الآن، فأخذت

الأريحية بعض سكان (باب الحديد) و (محرم بك) من ذلك الثغر وحرَّكتهم

الحمية الوطنية لجمع المال بالاكتتاب وإنشاء مدرسة للبنين والبنات، فلم تمضِ

طائفة من الزمن حتى جمعوا نحو مائتي جنيه، وقد عرضت اللجنة المنتدبة لذلك

على جمعية العروة الوثقى أن يجعلوا لديها ما يجمعونه من المال، ويعهدوا لها بفتح

المدرسة، فأجابت الجمعية سُؤْلهم وقررت فتح المدرسة وتعيين المعلمين والمعلمات

لها، وقد أصاب الأهالي الغرض في تفويض هذا الأمر لجمعية العروة الوثقى، فإنها

بالمكان الذي يعرفه الجميع من السداد والانتظام.

تبشرنا هذه الأعمال الغُرَر في الجهات المختلفة من القطر بأن العناية الإلهية قد

أعدت النفوس لنهضة عامة وأن وراء هذا الطل البكور وابلاً عامًّا غدقًا (كثيرًا)

وظهر خطأ من يقول: إن جماهير المصريين لا يبذلون الأموال إلا في سبل

الشهوات واللذات والزينة الباطلة والفخفخة الكاذبة، وكل ما يسمى الإنفاق فيه

إسرافًا وتبذيرًا. إن المصريين لا قيمة عندهم للمال، وإلا لما أسرفوا فيه وبذروه،

نعم إنهم ككل البشر لا يبذلون المال إلا في اجتلاب المنافع واجتناب المضار،

بحسب إدراكاتهم وعاداتهم التي تربوا عليها عملاً وتخلقًا؛ فإن الأعمال كلها - ومنها

الإنفاق - تنشأ إما عن الانفعال الطبيعي، وإما عن الاعتقاد الراسخ في النفس

بالعمل والعادة، فاختلاف العمل وفساده إنما يأتي من فساد التربية الذي يرى الحسن

قبيحًا، والضار نافعًا، ألم تر إلى هؤلاء الشبان المسترسلين في الفجور،

المستهترين في العشق الفاسد، كيف يتبارون في تنازع الكؤوس والأكواب،

ويتنافسون في الاستئثار بالبغايا والقحاب، ولولا أنهم يرون ذلك فضيلة ويعتقدونه

كمالاً لما تفاخروا في المسابقة إليه، وتفانوا في إحراز الغاية منه، نعم إنهم لا

يطلقون عليه لقب الفضيلة والكمال؛ لأن الاستعمال اللغوي والاصطلاح الشرعي

لهما الغلبة في المواضعة اللسانية وقد مضت سنة الأولين في فساد الأديان

والقوانين المدنية، وسائر الروابط للأمم بأن الفساد يطرأ أولاً على الأخلاق والآداب

النفسية، ثم على الأعمال البدنية بالتدريج، وآخر ما يبقى للأمة المنحطة من دينها

وآدابها وقوانينها الاصطلاحات اللفظية والشارات والشعائر العامة، لكنها تبقى ألفاظًا

لا معاني لها، وأفعالاً لا فائدة منها، أو كما يقول الصوفية: قشورًا بلا لُباب،

وأشباحًا بغير أرواح.

ما ذكرنا من مناشئ الأعمال إنما هو في الأعمال التي تندفع إليها النفس من

ذاتها مع الارتياح إليها وترجيح فائدتها عن إذعان وطمأنينة. وإن من خصائص

الإنسان أن يقدر على الإتيان بعمل لا يكون مندفعًا إليه من طبيعته، ولا ترتاح إليه

نفسه، وإنما يتكلفه تكلفًا إذا ترجح عند عقله أنه يدفع عنه بلاءً، أو يعود عليه

بنعماء، فإذا كان السواد الأعظم من المصريين عادم التربية الصحيحة التي تدفع إلى

الإنفاق على تعميم المعارف التي فيها سعادته - فهو ليس فاقدًا للإنسانية التي من

خواصها أن يتكلف الإنسان العمل النافع تكلفًا إذا اقتنع بفائدته. فإذا قام خيار

المصريين وأصحاب العقل والفضيلة الملتهبون غيرةً على وطنهم وألفوا جمعية

كبرى للاكتتاب العام وجمع المال من جميع أنحاء القطر - فلا شك أنهم يلاقون إقبالاً

ويصادفون نجاحًا؛ لأن الكثير من الناس يعتقدون أن نجاح البلاد واستقلالها إنما

يكون بالتربية والتعليم، وأن تعليم الحكومة على قصوره قد اصطبغ بالصبغة

الأجنبية، فصار الخوف منه على البلاد أكثر من الرجاء به، وإذا ظل على سيره

الذي هو عليه الآن فلا يمضي زمن طويل إلا ويكون ضررًا بحتًا، وبلاءً صُراحًا

قاضيًا على الاستقلال، قاطعًا للأمل في الاستقبال، ومَن عدا هؤلاء، فإنهم وإن لم

يكونوا مدركين هذه الحقائق وأمثالها، فقد أعدهم لإدراكها الشعور العام بثقل وطأة

الأجنبي وضغطه على بلادهم واستئثاره بمنافعها الكلية من دونهم، والجرائد الوطنية

الصادقة تنبههم على ما غفلوا عنه، وتعلمهم ما جهلوه من الأخطار التي تتهددهم،

والأرزاء التي تتوعدهم، هذا ما عنيناه بقولنا: إن العناية الإلهية قد أعدت النفوس

لنهضة عامة.

وإذا تألفت الجمعية برئاسة أحد العظماء الذين تركن إليهم النفوس، وتطمئن

بهم القلوب، كدولة الوزير الخطير رياض باشا، وكانت تحت رعاية الحضرة

الخديوية الفخيمة، وأقيمت لها لجان فرعية في أنحاء القطر على نحو ما كان من

جمعية الإعانة العسكرية السلطانية، وسايرتها الجرائد المحلية في جميع سبلها

وشعابها: تكرر النداء، وتواصل الحداء، وترفع للمحسنين رايات الثناء، إذا كان

هذا كله فلا تسل عما تصادف الجمعية من إقبال، وما تجمع من مال.

إن بعض الناس ينفق في هذا السبيل ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبعضهم يجود

عن أريحية وكرم سجية، وبعضهم يبذل رغبة في اقتطاف ثمار الثناء، وطمعًا

بتخليد اسمه في سجل الأسخياء، ومنهم من يعطي محبةً في تعزيز وطنه وإعلاء

شأنه، ومنهم من يحبو مجاراة لجيرانه، ومباراة لأقتاله وأقرانه، ومنهم من

يرضخ بالقليل، خوف القال والقيل. ولا إخال أحدًا من الوجهاء والمشاهير يمسك يده

عن البذل في هذا المشروع، وهو يعلم أن الممسك فيه مذموم ومذؤوم، عند أهل الدين

وأهل الدنيا، عند المتمدنين والمتوحشين، بل عند الله وملائكته ورسله والناس

أجمعين.

إذا تسنى للمصريين تأليف هذه الجمعية وأسسوا إدارة معارف وطنية، يسهل

عليهم تحويل الأوقاف الخيرية الأهلية المخصصة لمثل هذا العمل إلى صندوق

الجمعية، ومطالبة نظارة المعارف بما تأخذه من مال الأوقاف كل سنة لتنفقه على

المكاتب الأهلية (وهذا ما اقترحه المؤيد الأغر) وتحول الجمعية تلك المكاتب إلى

إدارتها وتنفق عليها مراعية لشروط الواقفين، أو تبقى تابعة لإدارة نظارة المعارف

فيجري عليها نظام النظارة كغيرها بأن تكون عامة لجميع المصريين مسلمين

وغيرهم، وينفق عليها من صندوق المعارف الذي هو من مال جميع المصريين.

فيا أيها المصريون اعتبروا بحال إخوانكم الهنديين الذين فرطوا وقصروا

فاعتورتهم المصائب وانتابتهم النوائب، حتى علاهم الوثنيون، ووطأهم

الأوروبيون، فندموا على تضييع الفرص، وهبوا لاغتنامها بعد نوم طويل وخمول

مستغرق، اعتبروا بمن هو أقرب، لينظر المسلمون منكم إلى الأقباط يروا أن

لجمعيات الأقباط وهي عديدة ومتشعبة في جميع القطر نحو أربعين مدرسة سوى

المدرسة الكلية للبطريقخانة، وليس للمسلمين إلا جمعية خيرية واحدة، وكل ما لها

من المدارس أربع فقط، ونسبة الذين يتعلمون في أوروبا من الأقباط سواء كان على

نفقاتهم الخصوصية أو نفقة السكة الحديدية أو المعارف إلى أمثالهم من المسلمين

كنسبة الجمعيات الخيرية والمدارس الأهلية إلى كل فريق، مع أن الأقباط لا يبلغون

في الحقيقة عشر المسلمين عدًّا، والمسلمون أوفر منهم ثراءً وأكثر سخاءً (كما قلنا

من قبل) وأوقافهم الخيرية أوسع من أوقافهم.

أيها المصريون قد سنحت لكم الفرصة فلا تضيعوها، وفتحت لكم أبواب

العناية، وما عليكم إلا أن تلجوها، إن الزمان لكم بالمرصاد فيوشك أن يعارضكم

غدًا بما يعرض عنه اليوم، وأن يمنعكم بعد حين ما يمنحكم الآن، فبادروا الزمان

قبل فوات الإمكان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} (المائدة: 2) .

_________

(*) فاتحة العدد الحادي والعشرين الذي صدر في 21 ربيع الأول سنة 1316.

ص: 383

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نهضة مسلمي الهند

(2)

(تابع ما قبله)

أول مَن نهض لنشر التعليم وتعميم التربية في مسلمي الهند هو الرجل العظيم

(السيد أحمد خان) مؤسس مدرسة (دار العلوم الشرقية الكبرى) .

نظر هذا الرجل المجدد في شؤون بلاده فرأى أن الوثنيين قد سبقوا المسلمين

في العلوم والمعارف والعمل والكسب، وفي نتائجها من الثروة الواسعة والعزة

الرافعة، وسائر ما أسأره (أبقأه) الإنكليز لأهل تلك البلاد من سلطة ومنفعة، رأى

هذا كما يراه كثيرون من أهل البصيرة، ولكن أشعة بصره تخطَّت المعلولات

إلى العلل، وانتقلت من العلل إلى كشف علاج الأمراض التي منت أفكار المسلمين

بالسكون، وألسنتهم بالسكوت، وأيديهم بالشلل، وأرجلهم بالقزل، حتى باتوا بلا

علم ولا عمل - نظر نظرة حكيم، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، وما هو إلا تعميم

التربية والتعليم.

كم من عالم لا يعمل بعلمه، وكأيِّن من طبيب لا ينفع مريضًا بطبه،ولكن السيد أحمد

خان علم فعمل، وطب لمن حب فنفع وأفاد، وهدى إلى سبيل الرشاد.

كان زيت هذا الرجل في مشكاة نفسه الزكية صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه

نار، فلما زار إنكلترا ورأى ما فيها من الجد والكد، مسته نار الغيرة، فاشتعل نورًا

على نور، واعتزم من ذلك الحين على إنشاء مدرسة جامعة في وطنه تشابه إحدى

المدرستين الكبيرتين في إنكلترا (كلية كامبردج) أو (كلية أكسفورد) فرجع إلى

وطنه بلسان خاطب وسعي دائب، يذكر ويحذر وينذر ويبشر، فقابله قومه

بالسخرية والاستخفاف، وكثر في شأنه اللغط والإرجاف، سنة الله في المصلحين

مع المفسدين، وفي المحقين بين الواهمين، وفي العالمين لدى الجاهلين، وفي

الأنبياء والمرسلين مع الأمم الكافرين، ولكن الرجل لم يثنِ عزيمته عن الإيضاح

والإيجاف ما قوبل به من الاستخفاف، ولم يبالِ بعدم المساعدة والمؤازرة، فبدأ

بالعمل على نفقة نفسه، فحمل ذلك بعض عشيرته الأقربين وأصحابه الصادقين، على

أن يساعدوه ويعضدوه، فانتشر رأيه رويدًا رويدًا، كما هو الشأن في كل

مشروع مفيد، وكان هو المبدأ لهذه النهضة الحاضرة في الهند، والمفيض لروح

التربية والتعليم على جثمان مسلمي تلك الممالك.

أسس مدرسته الشهيرة (دار العلوم الشرقية الكبرى) في مدينة (عليكره) من

أنحاء الهند الشمالية الغربية في سنة 1289 هـ 1872 م، وفي سِنِيها الأولى لم

يرد إليها إلا قليل من الطلبة، ولم يكن فيها إلا بعض الأساتذة الوطنيين، ولم يأتِ

عليها بضع سنين حتى تحولت إلى مدرسة كلية جامعة، وتلامذتها اليوم يكادون

يبلغون بضع مئين، وأحضر لها بعض الأساتذة والمعلمين من الأوروبيين، وقد

تخرج منها شبان بارعون في جميع الفنون، وهم موضوع فخر البلاد الهندية،

وموضع أملها ورجائها في تعميم التربية الفاضلة والتعليم الصحيح مع الاستغناء عن

الأجانب.

مات السيد أحمد خان من نحو ثلاثة أشهر، فكان لمصابه رنَّة أسف في تلك

الديار، وطيَّر البرق نعيه إلى سائر الأقطار، ولقد أبَّنه بعض الفضلاء عند جدثه،

فقال كلمة جليلة نقلتها الجرائد وحفظها التاريخ، كلمة كانت أبلغ نعت للفقيد،

وأحسن تعريف له وهي قوله مشيرا إلى القبر: (هذا قبر أمتنا) ولعمري إن ذلك

المفرد العَلَم هو الذي يصح أن يقال فيه (يا مفردًا هو في أثوابه أمم) لأن من أوجد

الأمة وأحياها كان هو إياها. عظُم قدر الرجل في نفوس قومه بعد فقده، ولا يزال

يعظم وينمو بنمو تعاليمه وانتشارها، ولا يعرف أقدار الرجال العظام في حياتهم إلا

الأمم العالمة الراقية أعلى مراقي التمدن، كذا أفادنا التاريخ القديم والحديث. اتفق

مسلمو الهند العارفون بقدر الرجل الذين قدروا الروح الذي أفاضه على الأمة بخطبه

وسعيه حق قدره - على إنشاء مدرسة جامعة مشابهة لمدرسته تسمى باسمه، وتكون

تذكارًا لحياته الطيبة واعترافًا بفضله، وتألفت جمعية لتنفيذ المشروع سميت:

(جمعية أحباء المرحوم السيد أحمد خان) وقد بعث كاتب سر الجمعية (السكرتير)

رقيمًا إلى جميع أعيان المسلمين وفضلائهم الدين يعرفون فضل الفقيد يدعوهم فيه

إلى مد ساعد المساعدة للجمعية، افتتحه بالثناء الأوفى على فقيد الملة والوطن،

مصرحًا فيه بمعنى قول الشاعر:

هيهات أن يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

ثم قال: (ولكننا لا نرتاب في أن الحركة الفكرية والنهضة العلمية، اللتين

أوجدهما المرحوم السيد أحمد خان لا يعتريهما سكون ولا سقوط ما لم يفاجئنا الدهر

بحادث غير منتظر، ومن أعظم واجباتنا وأقدسها أن نعمل بكل ما في إمكاننا لإتمام

مشروعاته الجليلة، والسير على منهاجه في أعماله) .

ثم ذكر أن أول من اقترح هذا العمل المفيد هو السيد قطب أحمد خان، وأن

مليون روبية (مائة ألف جنيه) تكفي لإنجازه، واستنهض همم الشبان الأذكياء

لتأليف اللجان في جميع المدائن والقرى للحض على الاكتتاب، وخصص بالذكر

الشبان الذين تخرجوا من مدرسة (عليكره) وحتم على جميع الجرائد الإسلامية

موالاة الكتابة في الموضوع والتحضيض على الاكتتاب، وأوجب على رئيس

الجمعية وكبار أعضائها المؤسسين التجوال في البلاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً،

وصرح بأن على الجمعية أن تقبل قليل التبرع وكثيره، مع الشكر والامتنان،

ليتمكن مجموع الأمة من الاشتراك في هذا المشروع الشريف. ولقد لبى الهنديون

النداء بكل رغبة وحمية، فانبرت جرائدهم للكتابة، وفصحاؤهم للخطابة، وعامتهم

وخاصتهم للإجابة، انتهازًا للفرصة، واغتنامًا للنهزة، فعسى أن يقتدي بهم

المصريون وسائر العثمانيين، فيلتفتوا إلى هذا الأمر الذي هو كل أمر وهو

(التربية والتعليم) والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.

_________

ص: 389

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأثير الاعتقاد في العمل

يحكى أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل

كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبًا على بغلة له وعليها

كل ما يحتاج المسافر إليه في سفره من الزاد والنفقة، فبينا هما يتحدثان إذ قال

المجوسي لليهودي: ما مذهبك وما اعتقادك يا هذا؟ قال اليهودي: أعتقد أن في هذه

السماء إلهًا عبده بنو إسرائيل، وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق وطول

العمر وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصر على الأعداء، أريد منه الخير

لنفسي، ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي،

بل أعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي ماله ودمه، وحرام علي

نصيحته ونصرته ومعاونته والرحمة له والشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد

أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني، فأخبرني أنت أيضًا عن مذهبك واعتقادك.

قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم،

ولا أريد لأحد من الخلق سوءًا، لا لمن كان على ديني ووافقني، ولا لمن يخالفني

ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم. قال:

لأني أعلم أن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عادلاً حكيمًا عالمًا، لا يخفى عليه خافية

من أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. فقال

اليهودي له: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: كيف ذاك؟

قال اليهودي: لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني أمشي متعبًا جائعًا وأنت راكب

شبعان مرفه. قال: صدقت، فما تريد؟ قال اليهودي: أطعمني شيئًا واسقني

واحملني ساعة، فقد بليت لأستريح ساعة. فنزل المجوسي عن بغلته وفتح سفرته

وأطعمه وسقاه حتى أشبعه وأرواه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن

اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد عيي حرك البغلة وسبقه، وجعل

المجوسي يعدو ويمشي ولا يلحقه فنادى له (يا موشا) قف لي فقد عييت واحملني

معك ولا تتركني في هذه البرية، فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا، وارحمني

كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن

بصره، فلما يئس منه المجوسي وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له

بأن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية،

فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي قد علمت أني أعتقد مذهبًا ونصرته وحققته

ووصفتك بما سمعته وعلمته فحقق عند (موشا) ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت،

فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي

واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها فلما لحق المجوسي بغلته وركبها ومضى لسبيله

وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت ناداه: (يا مضا) ارحمني واحملني

ولا تتركني في هذه البرية فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا وحقق مذهبك

وانصر اعتقادك. فقال المجوسي: قد فعلت مرتين ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم

تفعل ما وصفت لك، فقال اليهودي: فكيف ذلك؟ قال: لأني وصفت لك مذهبي ولم

تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، ذلك أني قلت:

إن في هذه السماء إلهًا خيرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي

المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت

وعلمت ما وصفت (يا مضا) . قال المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلته لك

(يا موشا؟) قال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد اعتقدته وألفته، وصار

عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات

والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب

علي تركها والإقلاع عنها، فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة،

فسلمه إلى أهلها مكسورًا وحدث الناس بحديثه وقصته معه، فجعل الناس يتعجبون

من أمرهما، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف رحمته بعد شدة جفائه بك وقبيح

مكافأته إحسانك إليه؟ فقال المجوسي: اعتذر إلي وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد

صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة، يصعب الاقتلاع عنها

والترك لها. وأنا أيضًا قد اعتقدت مذهبًا قد صار عادة وجبلة وطبيعة أخرى يصعب

علي تركها والاقتلاع عنها.

_________

ص: 392

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رواية الفتاة الشركسية

أهدانا جناب الشاب النبيه المهذب زكريا نامق أفندي نسخة من (رواية الفتاة

الشركسية) التي ألفها وطبعها حديثًا، وهي قصة وقعت في غضون المحاربة

الأخيرة بين الدولة العلية واليونان، قصها عليه من وقف عليها، فأدخلها هو في

سمط التأليف وزينها بالصور؛ لتكون حوادثها أكثر وقعًا في النفوس.

موضوع الرواية أدبي وطني غرامي، وهي من النزاهة بالمكان المحمود،

وقد تصفحناها فلم نر فيها منتقدًا معنويًّا إلا ما ذكره في فاتحتها من أن أصل

الشراكسة من عرب قريش، وأن (السبب في مبارحتهم بلاد العرب هو أن كبيرهم

كساء بن عمرو بن عبد ود العامري آذى أحد الأنصار في مدة خلافة أمير المؤمنين

عمر بن الخطاب الذي أراد أن يقتص منه طبقًا للشرع، فلم يقبل كساء وسرى هو

وقومه، فقالت العرب: سرى كساء أو جرى كساء، ومن هذا جاء اسم الشراكسة

أو الجراكسة ولما سكنوا شمال جبال القوقاز حفظوا دينهم وعوائدهم، وفقدوا لغتهم

العربية) . نقل المؤلف أصل هذه الدعوى (كون الجركس من العرب) عن محدثه

بخبر الرواية وتفصيلها عن التاريخ، والذي يعرفه التاريخ الصحيح أن الشركس من

سكان بلاد القافقاس أو القوقاس الأصليين، وكانوا متوحشين لا يدينون بدين، إلا

أنهم اتخذوا لهم شجرة يسمونها (قودوش) وصاروا يعبدونها هم وقبائل الإبازة

المجاورون لهم، ومظهر الألوهية في تلك الشجرة عندهم أنها مكونة من وشائج

أشجار مختلفة، وشجت واشتبكت، فكانت دوحة واحدة، وأنه يأتيها في كل سنة

طائر عظيم يسمى (بوغه) فيهوي إليها ويجثم بجانبها، يبتغي أن يكون قربانًا

لأجلها، ولذلك لا ينفر من مريد اصطياده عندها، وقد جرت عادتهم أن يأخذوه

ويذبحوه ويصبوا على رأسه وعينيه خمرًا، ثم يرفعون عماراتهم (جمع عمارة

بالفتح وهي كل ما يلبس على الرأس) عن رءوسهم ويجأرون بالدعاء قائلين: إلهنا

إن عنايتك بعبيدك ليس لها كم ولا كيف، فلا تحصر ولا تحدد، ثم يسجدون للشجرة

مخبتين متضرعين، وبعد ذلك يقسمون لحم البوغة وجلده بينهم، وينصرفون

شاكرين معبودهم، ويتخذون لإلههم (قودوش) نوابًا من الشجر في الأرجاء

المختلفة، يجعلون للشجرة التي تعجبهم حظيرة تحجب عن العيون ساقها وأطرافها

ويلفون على أعلاها أكداسًا من الحشيش، يربطونها بالحبل ويكورونها كالعمامة،

ويسمون هذا النائب الإلهي (طغالك) ويسجدون له ويطلبون منه سائر المصالح

والحوائج، ولهم في ذلك خرافات غريبة، ولقد أسلم كثير من قبائلهم على أيدي

العرب عندما بلغوا بلادهم وسرى إليهم الإسلام أيضًا من ممازجتهم التتار

واختلاطهم بهم في بلاد القرم، وما زال إسلامهم ممزوجًا بالباطل والخرافات، حتى

جاءهم فرح علي باشا واليًا من قبل المرحوم السلطان عبد الحميد الأول، وفي عهده

عمهم الدين ونزعوا عن التقليدات والشوائب التي كانت تشوب عقيدة المسلم منهم.

أين هذا مما جاء في الرواية من كونهم عربًا مسلمين وليسوا من أهل تلك البلاد

الأصليين، وإذا التفتنا إلى التاريخ الطبيعي نراه أيضًا يفند القول بكونهم من عرب

الحجاز كما هو ظاهر للعيان، ولا لوم على المؤلف في ذكره، فإنه ناقل، لكن كان

عليه أن يشير إلى ضعفه على الأقل، ولقد أطلنا في ذكر عقيدتهم الأقل مناسبة

لما فيه من الغرابة والفائدة. أما المنتقدات اللفظية في الرواية فهي كثرة اللحن

والغلط، فعسى أن يعتني حضرة المؤلف بضبطها وتصحيحها في طبعة ثانية.

وفي الختام نحث الأدباء على مطالعة الرواية ونرجو لها الرواج.

ــ

ص: 395

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات من الجرائد

(هبات علمية)

لا نظن أن قارئًا يقرأ عنوان هذه النبذة إلا ويعلم أننا سنذكر فيها بعض الهبات

الأميركية، ولو كان أهالي أميركا مشغولين بالحرب المستعرة نارها بينهم وبين

الأسبانيين، نعم، إن الهبات لأميركية، فقد جاء في جريدة سينس (العلم) أن

الدكتورة إليصابات باتسن تركت لمدرسة مشيغان الجامعة 125 ألف ريال لينفق

ريعها في تعلم أمراض النساء والأطفال، وأن زوجة مستر باتون في نيويورك

تركت مائة ألف ريال لمدرسة برنستن الجامعة، وأن زوجة المستر هارست ستبني

بناء في مدرسة كليفورنيا الجامعة لأجل تعليم الهندسة المعدنية تنفق عليه 300

ألف ريال، وأن المستر بونت ترك لمدرسة بنسلفانيا الغربية 300 ألف ريال

تستولي عليها بعد وفاة زوجته، والمستر فيليب أرمور وهب مدرسة الصناعة في

شيكاغو خمسمائة ألف ريال، وقد وهبها قبلاً مليونًا وخمسمائة ألف ريال، فصارت

هباته لها مليوني ريال، أي أربعمائة ألف جنيه، وأن المستر وشنطون ديوك وهب

مدرسة الثالوث في درهم مائة ألف ريال، فصارت هباته لها 425 ألف ريال،

ووهب الدكتور بيرسنس مدرسة بحيرة الملح الكلية خمسين ألف ريال مشترطًا أن

يجمع أصحابها مائة ألف ريال أخرى في مدة سنة.

هؤلاء أناس يعلمون أن عظمتهم وعظمة بلادهم تقومان بالإنفاق على العلم، لا

على المآدب والولائم. وهم وأمثالهم سيملكون الأرض، ويصير المتباهون بالباطل

عبيدًا لهم.

***

(رواتب الملوك)

جاء في مجلة كاسل أن راتب قيصر الروس السنوي 1800000 جنيه،

وراتب إمبراطور ألمانيا 700000، وراتب إمبراطور النمسا 900000، وراتب

ملك إيطاليا 580000 جنيه، وراتب شاه العجم 480000 جنيه، وراتب ملكة

الإنكليز 385000 جنيه، أما رؤساء الجمهوريات، فأولهم رئيس جمهورية فرنسا،

وراتبه السنوي 49000 جنيه، وراتب رئيس جمهورية الولايات المتحدة 10000

جنيه فقط، وهو رئيس أعظم الجمهوريات وأغنى البلدان، وأقل الرؤساء راتبًا

رئيس جمهورية سويسرا وراتبه السنوي 600 جنيه أي أقل من راتب أصغر مدير

في القطر المصري، وسكان سويسرا نحو ثلاثة ملايين نفس.

...

...

...

...

... (المقتطف)

***

يبلغ عدد الجرائد في القطر المصري على اختلاف أنواعها 87 جريدة ما عدا

الجرائد الرسمية، منها 60 جريدة تطبع في مصر، و22 في الإسكندرية، و5 في

بورسعيد، والجرائد العربية: 30 جريدة سياسية، و4 هزلية، و9 مجلات علمية

أدبية صناعية، و3 زراعية، و3 قضائية، و3 طبية، و3 دينية، و2 نسائية،

و1 مدرسية، ومن الإفرنجية: 21 سياسية، و1 هزلية، و3 مجلات علمية أدبية

صناعية، و1 تجارية، و1 قضائية، و1 مدرسية، و1 خاصة بطوابع البوسطة،

فمجموع الجرائد الإفرنجية: 29 جريدة.

...

...

...

...

... (المقطم)

_________

ص: 397

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المنار

لم يكد ينتشر العدد الأول والثاني من المنار حتى طفق الأدباء يقرّظونه، وقد

اعتذرنا في العدد الثالث عن نشر ما يرد إلينا من التقاريظ (إذ من المنتقد عندنا أن

ينشر الإنسان مدح نفسه، لا سيما إذا كانت الأماديح تخيلات شعرية، وألقابًا ونعوتًا،

كما عليه أكثر المقرظين) فقلّ ورودها، لكن لم يكاتبنا أحد من الفضلاء في قطر

من الأقطار إلا ويثني على المنار أطيب الثناء، كما نسمع الثناء شفاهًا من

الفضلاء وعنهم، وقد اضطرنا الضغط من مراقبي بيروت إلى الإلماع بذلك غير

مرة، لأجل الاحتجاج عليهم، وإننا ننشر الآن رقيمًا ورد علينا من فضيلة الأستاذ

الشيخ علي أفندي رشيد الميقاتي من أشهر علماء طرابلس الشام المعروفين بمحبة

الحضرة السلطانية المعظمة، والمواظبين على الدعاء لها بالنصر والتأييد، قال فيه

بعد رسوم المخاطبة ما نصه:

إن يكن قد مضى الوقت العرفي لتقديم التبريك لحضرتكم والثناء على المنار

الذي ضربت أشعة نوره في سائر الأقطار، فإن أداء الدعوات مطلوب في جميع

الأوقات، وعلى الخصوص صار أمامي مجال واسع وميدان فسيح لمدح المنار،

وترتيل آيات الثناء عليه، فقد مضى زمن تحققت فيه غايته النبيلة ومقاصده الشريفة

الجليلة، وتجلت آيات فضله البينات وتوالت محكمات حكمه التي هي غاية الغايات

في إرشاد الخلق إلى طريق الكمالات، فالآن يا سامي الكعب على الأقران الذي إن

شاء الله ستفخر به الأوطان، أقدم لك التبريك بما وفقت إليه من السير على النهج

القويم، وأثني على المنار المنير، وأعيذه من شر كل حاسد وكيد كل شيطان رجيم.

أيها الرشيد:

دم على ما أنت عليه من الميل القويم والإخلاص الصادق لدولتنا العلية دولة

الإسلام، أيّدها الله، ولمليكها مولانا وسيدنا السلطان الأعظم، نصره الله، وانشر

مآثره الغراء وأياديه البيضاء وابذل الجهد بأن لا يخلو المنار دائمًا مما فيه مسرة

قلوب المسلمين عمومًا والعثمانيين خصوصًا، وادفع بالتي هي أحسن ما يصلكم من

عوامل الإساءة، كما تدفع بعدم المبالاة عوامل الاعتراضات، فالإساءة لكل مشروع

والاعتراض عليه قبل سبر غوره وظهور خيره أو شره، هو سنة فينا ولن تجد لها

تبديلاً عنا إلا بعد تعميم التعليم والتربية (كما أفاد المنار) .

هذا وإني أرفع أكف الضراعة لحضرة الحق المتعال، متوسلاً بروحانية

حضرة صاحب الشفاعة والكمال صلى الله عليه وسلم، أن يديم عرش الخلافة

العظمى، وسرير السلطنة العثمانية الأسمى، وينصر حضرة سيدنا ومولانا أمير

المؤمنين السلطان الأعظم الغازي عبد الحميد خان، وأن يوفق رجاله لما فيه خير

الملة والدولة والوطن، وأن يأخذ بيدكم في مهامكم، وينيلكم رغائبكم ويمدكم

بالتوفيق فهو نعم الرفيق، ويقطع بسيف قلمكم الباتر رقاب جيوش الأباطيل، ويكثر

رجال الحق من أمثالكم، كما يكثر بين الصحف العربية الإسلامية العثمانية من أمثال

المنار، آمين.

_________

ص: 399

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشائخ الطرق

إننا نرى بعض المتصدرين للإرشاد - عن غير أهلية ولا استعداد - قد جعلوا

الطريق زعامة سياسية وأنشأوا لهم جرائد يبثون أفكارهم المضرة فيها، ولقد تسلق

بعضهم إلى الكلام في مقام الخلافة، والإرجاف بأن بعض العظماء يسعى لها سعيها

يوهمون الناس أن الخلافة على طرف الثمام، وأنها يمكن أن تنال بالسعي والإقدام

وهم مع ذلك يعلمون أن هذا المرمى بعيد المنال، لا تتطاول إليه أعناق الرجال

ويعتقدون - كما يعتقد العقلاء أجمعون - أنهم يتذقحون ويتجرمون، ويقولون الكذب

وهم يعلمون، ولكن إرجافهم لا يخلو من تغرير بعقول العامة وخداع البسطاء، كما

أنه جرأة على مقام الخلافة الرفيع، ولو صدقوا في قولهم أنهم يخدمون الخليفة

لسكتوا عن إذاعة هذا الدث والرجم من القول - حتى لو فرض أنه واقع - لئلا

يوهموا الناس إمكانه، وهو ليس بالممكن، ويسوؤنا أن نرى أرباب المظاهر فينا

يتصدى أحدهم للأمر الذي لا يحسنه، ويعمل بغيره مما لا يحسنه فيضل عن رشاده،

ولا يكون ظافرًا بمراده.

يوشك أن يكون بعض هؤلاء المرجفين مندفعًا إلى عمله السيئ بدسيسة أجنبية،

فقد استخدمت فرنسا أرباب الطريقة التيجانية لنفوذها في الجزائر وتونس،

واستخدمت إنكلترا أرباب الطريقة الميرغنية لنفوذها في شرقي إفريقيا، وسنكتب

في هذا الموضوع رسالة مسهبة في العدد التالي، إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 401

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌هكذا فليكن

يحضر في هذا اليوم من أوروبا رجل العلم والفضل، ومثال الهمة والإقدام

صاحب العزة سعد بك زغلول، المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية. لماذا رحل

إلى أوروبا وبماذا رجع؟ هل كانت رحلته لأجل أن يستنشق هواءً غير هواء بلاده،

ويحتسي ماءً غير ماء النيل، مبالغة في الترف والرفاهة؟ أم ذهب ليستحم في المياه

المعدنية خدمة لجسده؟ أم ظعن لمعاقرة الخمور ومعانقة الحور، والتمتُّع

بالشهوات، والانغماس في اللذات؟ أم سافر للتشرف بتلك البلاد والتفاخر بمخالطة

أهلها وتقليدهم واحتذاء مثالهم في حركاتهم وسكناتهم وسائر عادهم (جمع عادة) .

وهل رجع يحمل أثقالاً من الأزياء والحلي والماعون النفيس كما يفعل المتطرزون

(المتأنقون في الملبس) من المصريين الذين يتبجحون في المسابقة إلى احتذاء

الإفرنج في آخر طراز (مُودَة) يبتدعونه. أم عاد بأوزار من الخمور والأشربة

الخبيثة، وأنواع من الأعطار النفيسة، كما هو شأن المتنوقين والمتورنين

(المبالغين في التنعم والتطيب) من هذه البلاد؟ أم راح يملأ ماضغيه فخرًا بما نال

من الشرف الرفيع بمثافنة المسيو فلان، ومخاصرة المدام فلانة، وبما رأى في

الأوبرا والباللو والأوتيل؟

كل ذلك لم يكن، وما كان لهذا الفاضل أن يقضي أيام إجازته كما يقضيها

السفهاء من الناس، وإنما سافر ليؤدي الامتحان النهائي لنوال شهادة الحقوق

(لسانسيه) فأداه أحسن أداء، ورجع نائلاً الشهادة على أكمل وجه.

رُبَّ ناظر فيما كتبنا يعجب أن مستشارًا في محكمة الاستئناف يذهب إلى

أوروبا لأداء الامتحان وأخذ الشهادة في علم الحقوق، ويُحب أن يقف على شيء من

سيرة الرجل العلمية، وإننا نشير إلى مجمل منها بوجيز القول لتكون أسوة للمجدين

وحجة على المقصرين، فنقول:

جاور سعد بك في الأزهر، وأخذ من علومه جملة صالحة، ونهض به من

خمول الأزهريين، إنه صادف أستاذًا حكيمًا نفث في روعه روح الإقدام والهمة،

وحبب إليه أن يكون عضوًا عاملاً في الأمة، ألا وهو العلامة الشيخ محمد عبده

الشهير، فجدَّ الرجل واجتهد، وارتقى من حرفة المحاماة إلى مرتبة القضاء في

الاستئناف، ولم يكن هذا كله بالذي يقنعه أو يقف بهمته عن تحصيل المعارف، تعلم

اللغة الفرنساوية بإتقان ودرس فيها علم الحقوق، وما أدراك ما علم الحقوق، حتى

نال الشهادة التي علمتَ، كل هذا ومدرسته بيته، ولقد بلغ من اجتهاده أنه يدرس في

اليوم والليلة ست عشرة ساعة إلى ثماني عشرة ساعة رغمًا عن كثرة عمله القضائي

وغيره، ولقد اعتراه من كثرة الدرس أرق شديد بقي له ليالي لا يطعم النوم، فكان

يقضي الليل كله بالمطالعة، لعمر الحق لو أنجبت الملايين العشرة من المصريين

ألف رجل مثل هذا الرجل لنهضوا بمصر نهضة الأبطال، وأنالوها سعادة

الاستقلال، داحضين بأعمالهم حجة الاحتلال، فنرحب بالقادم ونهنئه ببلوغ الآمال

منشدين قول الشاعر:

هكذا هكذا وإلا فلا لا

ليس كل الرجال تدعى رجالا

_________

ص: 402

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه أدوار، ومرت عليه أجيال وأعصار،

وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين، للقائمين عليهما

النفوذ التام في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما: سلطة الدين وسلطة

السياسة، أو كما يقول أهل العصر: السلطة الروحية والسلطة الزمنية.

سلطتان لا يتم نظام الاجتماع بدونهما، ولا تحصل السعادة إلا بهما، بل لا تتكون

الأمم والشعوب إلا بإحداهما أو كلتيهما؛ لأن معنى الشعب: المجتمع أو الأمة

المتمدنة، أفراد من صنف واحد، وأصناف متعددة تجمعها وتضمها رابطة توحد

المتعدد بوحدة الاعتقاد والعمل، أو وحدة الحكم والنظام، ولا معنى للسلطتين

المتحدَّث عنهما إلا بما به قوام هاتين الوحدتين من القوانين الاعتقادية والأدبية،

والشرائع العملية والقضائية، ولما كانت سعادة الأمم بالوحدة القائمة بالسلطة كان

شقاؤها بانفصام عرى الوحدة الناشئ عن نقص القوانين والشرائع عن حاجة الأمة

وعن نكوب القائمين بتعليمها وتنفيذها عن جادة الحق فيها، وهكذا ينزل البلاء من

جهة النعماء، ويأتي الضعف من جانب القوة؛ لأن النسبة بين السعادة والشقاء

ونحوهما، كالنسبة بين البصر والعمى، فإذا تُصُور العمى فإنما يُتصَور حيث يكون

البصر؛ لأنه فقدُه وعدمُه، وكذلك يقال في سائر ما يسمون المقابلة فيه مقابلة العدم

والملكة أو النقيضين وما بمعناهما، كالسعادة والشقاء، والقوة والضعف، والغنى

والفقر، والعزة والذلة، وما أشبه هاتا.

إذا فوض أمر السلطة الزمنية أو الروحية في الأمة لرجل واحد، طاعته

واجبة، ومشيئته نافذة، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، فسعادة تلك الأمة وشقاؤها

وعلمها وجهلها وغناها وفقرها، إنما يكون ذلك كله وأمثاله تابعًا لحال ذي السلطة،

فإذا كان خيِّرًا فاضلاً حكيمًا خبيرًا أحوذيًّا (هو المشمر للأمور، القاهر لها الذي

لا يشذ عليه شيء) شمّريًا (بتثليث المعجمة وتشديد الميم: المجرب الماضي في

الأمور) نهض بالأمة ورقاها في معارج الفلاح، وصعد بها إلى قمة السعادة، وإذا

كان شريرًا جاهلاً أخرق أو إمعاء (بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لا رأي له ولا

عزم، يتابع كل أحد على رأيه في الدين وغيره) أو غِملاجًا (بكسر المعجمة:

وهو الذي لا يثبت على حالة، يكون تارة حسن الخلق، وتارة سيِّئَه، فمرة ظالمًا،

ومرة عادلاً، وآنًا محسنًا وآخر مسيئًا) انحط بالأمة إلى درك الشقاء، ويضرب عليها

الذلة والمسكنة، وينتهي بها إلى شر مصير.

وبالجملة: إن أمة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقدح الراكب، لا تثبت على

حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضعة، وعلم وجهل،

وسعادة وشقاء، فقد كان مرجعه لتصرف الأمراء والحاكمين والرؤساء الروحيين

ولقد كان الشر أغلب على الأمم من الخير، والضلال أكثر استحواذًا عليها من

الهدى، والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من

العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت، وقد يهدم الرئيس الجاهل الغوي في مدة

قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال الطويلة.

لهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نوالها أو كمالها على تحديد القوانين

والشرائع الروحية والزمنية، وجعل الناس فيها شَرَعًا - بالتحريك، أي: سواءً -

لا مزية لرئيس على مرءوس إلا بما يمتاز به المرءوسون بعضهم على بعض، وبما

لا تقوم الرياسة بدونه، كوجوب الطاعة للسلطان، ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء

الشريعة والقانون، ولكن لم تأت شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا

التحديد والمساواة، حتى جاءت الديانة الإسلامية فحددت الشريعتين (الزمنية

والروحية) معًا، وجعلت الناس فيهما سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم

والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء، وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا

بالحجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا

وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسر العلماء (البصيرة) بالحجة الواضحة، وقوله

تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .

وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي قائلين:

هل هذا شيء قلتَه من عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو من

عندي جاءوا بما عندهم من الرأي بما يُرجع النبي إلى رأيهم، كما جرى في بعض

الغزوات، وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا مع رجل من آحاد

يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعدَ المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه وبين خصمه؛ لأنه كناه

وسمى خصمه، وفي التكنية تعظيم، وتعظيم أحد المتخاصمين ولو بمثل هذا منافٍ

للعدالة والمساواة، وراجعت امرأة عمر وهو على المنبر في مسألة تحديد المهر

محتجة عليه بآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20)

فقال: (أصابت امرأة وأخطأ عمر) . وأبلغ من هذا كله أن النبي عليه الصلاة

والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا نصل له ولا ريش) في بطنه وهو

مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر، فقال: قد أوجعتني فأقدني، فكشف له عن

بطنه ليقتص منه، فطفق يتمسح به، وكان ذلك منه توسلاً للتوصل إلى هذا الشرف

العظيم.

وآذن صلى الله عليه وسلم الناس قبل موته بأن مَن له حق عنده فليطلبه، وإذا

كان نحو ضرب فليقتص منه، وأذن لرجل أن يضربه حين ادعى أنه ضربه يومًا،

فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر، فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف،

وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية.

والنتيجة أن الإسلام قرر العبودية لله وحده، والحرية في ضمن دائرة الشريعة،

والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وإطلاق الإرادة والفكر من سلطة كل

زعيم، وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا كاملاً لله،

حرًّا كاملاً بالنسبة لما سواه.

لقد ولينا وجهنا في هذه المقالة شطر السلطة الروحية، وأما الشطر الآخر،

فالتاريخ يشرح ما كان من شأن حكام المسلمين وأمرائهم بإزاء تحديد الشريعة وتقييد

السلطة الذي جاءت به الديانة الإسلامية، وكتب الفقه تشرح حقوق ووظائف الإمام

الأعظم والقضاة والحكام، فليرجع إليهما.

ونعني بالسلطة الروحية: سلطة العلماء والوعاظ والمتصدين للإرشاد وتهذيب

الأخلاق، وتقويم الملكات، مضى الصدر الأول من سلف الأمة والمسلمون كما قال

الله تعالى إخوة، وعلوم الدين مبذولة لهم على السواء، يتناول كل أحد من الكتاب

والسنة ما وصل إليه فهمه، فإن عرضت واقعة لأحد ولم يهتدِ للحكم فيها راجع

غيره من إخوانه، فإن وجد عند مَن راجعه نصًّا أخذ به وإلا رجع إلى اجتهاده إن

كان من أهل الاجتهاد، أو قلد من تثق به نفسه ممن يعتقد بهم العلم على تفصيل في

ذلك ليس هذا محله، وما كان عالم يترفع على جاهل، ولا مرشد يترأس على

مسترشد، ولم يدَّعِ فرد من الأفراد أو صنف من الأصناف الامتياز في الدين لذاته أو

الوساطة بين الله وبين سائر الناس في عرض أعمالهم عليه، والتوسل إليه في قبولها

أو إيصال الخير منه سبحانه إليهم، ولم يكن هناك إلا العلم والتعليم من غير

حجر ولا استئثار، بل كان أعلم الناس بدين الله وأشدهم تمسكًا به أبعدهم عن دعوى

الامتياز، وأكثرهم خوفًا من ربه أن يأخذه بذنبه وعمله السيئ، ولا يقبل منه عمله

الصالح لاتهام نفسه بالرياء وعدم الإخلاص، فضلاً عن دعوى الوساطة بين العباد

وربهم.

كان الأمر على ذلك حتى ظهرت في الأمة فرقة الصوفية العظيمة، وتصدى

شيوخها للإرشاد والتربية العملية ونعمَّا هي. ساروا في هذه التربية على منهاج

الكتاب والسنة، وأظهروا ما فيهما من دقائق الآداب والتهذيب علمًا وعملاً وتخلقًا

وتحققًا، فصلحت بذلك سرائر، واستضاءت بصائر، وظهر لمن يعرف التاريخ

الفرق بين التهذيب العقلي المحض - كتهذيب فلاسفة اليونان المشوب بالرذائل،

الملطخ بحمأة المقاذر - وبين التهذيب الديني العقلي الصافي من الأكدار، الراقي

بذويه إلى مصاف الملائكة الأخيار (سننشئ مقالات في تراجم الفريقين للمقابلة

بينهما إن شاء الله تعالى) لكن لما كانت التربية العملية تدور على قطب التأسي

والاقتداء، ولا تسكن النفس المميزة للاقتداء إلا بمَن تعتقد به الكمال - بالغ القوم في

التسليم لشيوخهم والأدب معهم، والاعتقاد بكمالهم إلى درجة ألزموا فيها المريد

بالطاعة العمياء لأستاذه، واعتقاد أن جميع ما يصدر عنه من قول وعمل هو فضيلة

وكمال، وأوجبوا عليه أن يؤول له ما يتراءى له أنه ذنب أو نقيصة، وغالوا في ذلك

حتى قال بعضهم: إذا رأى المريد شيخه يشرب خمرًا فينبغي أن يعتقد أن الخمر

استحالت ماء أو عسلاً قبل أن تدخل إلى فمه المبارك كرامة له. وحتموا عليه أن

يعتقد بأنه لا يصل إلى مقام المعرفة بالله تعالى، ولا ينال الزلفى والرضوان من لدنه

إلا بهذا الاعتقاد، والطاعة من غير إنكار في الظاهر ولا في الباطن، وإن خالف في

ذلك أو ترك الشيخ لغيره أو مطلقًا فهو على خطر حتى على أصل إيمانه ودينه.

قلنا: إن السلطة المطلقة، والطاعة العمياء تكون فيها سعادة المرءوس منوطة

بحال الرئيس، وكذلك كان الشأن في طريقة الصوفية، فلقد قام فيهم أئمة عارفون

يهدون بالحق وبه يعدلون، سلكوا سبيل السلف الصالح في التواضع والتبرؤ من

دعوى الامتياز والترفع على الناس، والتنصل من الشطحات والطامات التي لا يشهد

لها الشرع، وحصروا الإرشاد بالعلم النافع والعمل الصالح، والتخلق

بالأخلاق الفاضلة، واهتدى بهم خلائق لا تحصى، وكيف لا يهتدي من يقتدي

بالعالم العامل، ويطيع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر.

نعم، قد اهتدى بالسلطة الروحية المطلقة والطاعة العمياء لشيوخ الطريق

أقوام، ولكن الذين ضلوا أكثر من الذين اهتدوا، وفاقًا لما قررناه آنفًا، فقد قام بعد

أولئك الشيوخ العارفين شيوخ جهال، ألقوا بذور الضلال في نفوس أتباعهم فنبتت

وأثمرت ثمرًا خبيثًا، تجني الأمة منه حنظلاً، وتطعم زقومًا. لقنوا الناس الجبر

بعنوان التوحيد واسم القضاء والقدر، وعلقوا نفوسهم بالشيوخ أحياء وأمواتًا،

وعلموهم الاستعانة بهم في مصالحهم بحجة أنهم أصحاب كرامات، وشفعاء عند الله،

يتوسطون بينه وبين عباده في حاجهم وإن كانوا رممًا في قبورهم، حتى قال

بعضهم: لا فرق في طلبنا الحاجة من الحي وطلبنا إياها من الميت؛ لأن كلاًّ منهما

لا فعل له ولا تأثير في الإيجاد، وكلاًّ منهما قد يكون واسطة - الحي واسطة جسدية

والميت واسطة روحية - وكسلوهم عن الأعمال النافعة والمصالح العمومية باسم

الزهد والتسليم للقدر، وغير ذلك مما لا سعة في هذه المقالة لشرحه.

ولم تقف مضرات جهلهم عند هذه الوساوس الدينية، بل استعملوا نفوذهم

لخدمة سياسة الأجانب وتمكينها من الاستيلاء على أمتهم، وإننا نروي لك بعض

شأنهم في ذلك فاعتبر بما يروى.

(البقية للآتي)

...

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) فاتحة العدد الثاني والعشرين، الصادر في 28 ربيع الأول سنة 1316.

ص: 404

الكاتب: محمد رشيد رضا

]‌

‌ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [[*]

ألممنا في المقالة السابقة ببعض تعاليم الجهلاء من شيوخ الطريق، وذكرنا أن

منها تعليق النفوس وإناطة الآمال بالشيوخ أحياءً وأمواتًا، وتعليم الناس الاستعانة

بهم على قضاء الحاج، بحجة أنهم أصحاب كرامات وشفعاء يتوسطون بين الله

تعالى وبين عباده في درء المفاسد والمضار، وجلب المنافع والمصالح، ولما كان

هذا من الاعتقادات المضرة التي هدمها الإسلام كما ألمعنا في المقالة المتقدمة، وكان

ما كتبناه سابقًا في منكرات الموالد لم يكفِ لإقناع جميع الآخذين به - لإيجازه

وإجماله - أحببنا أن نزيده إيضاحًا ليتميز الحق من الباطل، فنقول:

الذاهبون إلى أن من الدين الاستغاثة بمَن يعتقد فيهم الولاية أحياءً وأمواتًا،

والوقوف على الأجداث والقبور لطلب المصالح التي عز طلابها، والحاج التي

جُهلت أسبابها وأُغلقت أبوابها - ينقسمون إلى قسمين: عامة وخاصة.

أما العامة: فمنهم من يعتقد أن صاحب القبر حي في قبره، يخرج لقضاء

الحاج فيقضيها بنفسه مهما كانت، ولا يفتكر في تدقيق الأشاعرة في الفرق بين

الجبر والكسب وخلق الفعل، وحجة هؤلاء على اعتقادهم الحكايات التي يتناقلونها عن

كرامات صاحب القبر، وإن هي إلا أكاذيب اخترعتها الخيالات والأوهام، فإذا سئل

هؤلاء عن التأثير وعدمه تحير أكثرهم، وإذا لقنوا أية عقيدة في ذلك ممن يظنون به

خيرًا أخذوها بالقبول، وهؤلاء هم الأكثرون فيما يظهر للمختبر، ومنهم من له بعض

إلمام بما يقول الخاصة.

وأما الخاصة: فيحتجون بالشبهتين اللتين أشرنا إليهما وهما: الكرامات

والشفاعة، وإننا نستعين بالله تعالى وحده في بيان فساد الاحتجاج بهما على وجه

مختصر مفيد فنقول:

أما جواز وقوع الكرامة فلا يقتضي أن من قواعد الإسلام وأحكامه أن يستعين

الناس على حوائجهم بمن يجوز أن تصدر منه، وذلك لوجوه:

(1)

أن الله تعالى أقام هذا الكون على سنن حكيمة، ونواميس ثابتة، وأمر

الناس بالعمل بحسب القوى التي منحهم إياها - كما يعرفون ذلك بالوجدان - مراعين

سنن الله تعالى ونواميس خليقته، وأن يعتقدوا أن لا متصرف في الوجود سواه، ولا

قدرة غيبية إلا له، وأمرهم أن يخصوه بالاستعانة على ما لا يبلغه كسبهم، كما

يخصونه بالعبادة، حيث قال في السبع المثاني التي يثنونها في صلاتهم كل يوم:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) نعم أمر الناس بالتعاون في الأمور

الكسبية بقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ، والناس في ذلك

سواء، وفي الحديث الصحيح:(إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)

والكتاب والسنة طافحان بأمثال هذه النصوص.

(2)

أن ذلك لم يُعهد في الصدر الأول من سلف الأمة الذين يقتدى بهم، فلم

يُنقل أن الصحابة كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه رد

ضوالهم، وشفاء مرضاهم ودفع الجوائح عن زرعهم ونحو ذلك، مما يطلبه العوام

من الأولياء عند قبورهم في هذه العصور المظلمة، وقد جاء في حديث الموطأ

وغيره (لا تتخذوا قبري وثنًا) وهو مما أوصى به صلى الله عليه وسلم عند موته،

بل ما كانوا يعتمدون على الخوارق في زمن حياته، وهو زمن المعجزات القطعية

لا الخوارق المشكوك بها، وإنما يعتمدون على عملهم وكسبهم، فإن أعانهم الله تعالى

بخارقة شكروا وإلا عملوا وصبروا.

(3)

صرح العلماء بأن الخوارق أمور نادرة، مجهول أمرها، فلا يُبنى

عليها حكم.

(4)

صرح السبكي وغيره بأن الولي لا يجوز له إظهار الكرامة إلا

لضرورة، وعدوا هذا من الفرق بينها وبين المعجزة الواجب إظهارها، وليس من

الضرورة حاجة الناس إليها في دنياهم مثلاً، وقد التمس السبكي في الطبقات الكبرى

أسبابًا ضرورية، لما نقل عن بعض السلف من الخوارق، وقد قال سيدي أحمد

الرفاعي الكبير قُدس سره: (إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم

الحيض) فإذا كان هذا حال الكرامة عندهم، فكيف نرخي للعامة العنان في

الاعتماد عليها.

(5)

صرح الشيخ الأكبر - قُدس سره - بأن الكرامة لا تتكرر؛ لأنها أمر

خارق للعادة، وإذا تكررت كانت معتادة، فلا تكون خارقة، وظاهر أن ما يطلبه

العامة من ذلك يشبه بعضه بعضًا، ويزعمون أنه وقع مثله من كل ولي يطلبون منه،

فتكرار الطلب عبث وغرور.

(6)

قسم بعض المتأخرين الخارقة إلى أقسام، من مقتضاها أنها تظهر على

يد كل صنف من أصناف الناس، لا فرق بين بر وفاجر، وتختلف أسماؤها

باختلاف من ظهرت على يده، فإن ظهرت على يد فاسق أو كافر سميت: استدراجًا

فإذا أضفنا إلى هذا عدم التفرقة بين الحي والميت في اعتقاد أن الفعل لله تعالى وأن

الخارقة سبب لنيل الحاجة، فلا بأس بأن يذهب الناس لقبور الفساق والكفار،

ويطلبوا منها حاجتهم، بناء على جواز أن يحصل ذلك لهم استدراجًا لأمثال الأموات،

وإن شئت فرضت ذلك مع الأحياء من المذكورين.

(7)

إن الاعتماد على الأمر النادر الغير موثوق به كالكرامة، كالاعتماد

على ما يسمونه فلتات الطبيعة، أو على الكنوز - وهو من الجهل والغرور الذي

ينبغي إنكاره وعدم تقرير فاعله عليه.

وأما طلب قضاء الحاج وتقويم الاعوجاج من الأضرحة والقبور بناء على أن

أصحابها شفعاء يتوسطون إلى الله تعالى فيها، فهذا بعيد عن دين الإسلام ومخالف

لعقائده وآدابه أيضًا؛ لأن الذين أثبتوا الشفاعة من المسلمين - وهم أهل السنة - قالوا:

إنها إكرام من الله تعالى لنبيه أو له ولمن شاء الله من المصطفين في الآخرة لا في

الدنيا، والشفاعة المتفق عليها عند المسلمين هي التي ترجع الأخبار فيها إلى حديث

معناه: أن لكل نبي دعوة مُجابة على سبيل القطع، وكل نبي قد دعا بها في الدنيا

فاستُجيبت له، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد ادخرها للشفاعة في الآخرة، ولا محل

هنا لإيراد الخلاف في الشفاعة، وما لكل فريق من مثبتها ونافيها من الأدلة القرآنية

على ذلك، ويكفي فيما نحن فيه أنها مختصة بالآخرة، وأنها لا يقطع بها (ولا في

الآخرة) لأحد من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين يطلب الناس منهم حاجاتهم

المتعسرة عليهم، ويحملنا محسنو الظن على التأويل لهم بأنهم يعتقدون فيهم الشفاعة

والتوسط بينهم وبين الله تعالى، لا الإيجاد والتأثير، كأن الإنكار لا يكون إلا على

الشرك المحض والكفر الصريح.

إن عباد الأوثان والأصنام والبشر، منهم من كان يعبدها لأنها شافعة لا لأنها

خالقة وموجدة، وقد أنكر القرآن عليهم بآيات منها قوله تعالى حكاية عنهم في

معرض الإنكار {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية

وقوله تعالى {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي

السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} (يونس: 18) الآية وهي ترشدنا إلى أنه لا يجوز لنا

أن نفتات عليه سبحانه باتخاذ شفعاء لم يأذن لنا باتخاذهم، وإعلامه بما لا يعلم فيما

إذا لم يكونوا ممن ارتضاهم للشفاعة.

وإن فيما تقدم في بحث الكرامة، وفي الآيات والأخبار الكثيرة التي تأمرنا

بالالتجاء إلى الله وحده؛ لأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، في العقيدة المقطوع بها

عند جميع فرق المسلمين من أن الله تعالى لم يجعل واسطة بينه وبين خلقه في الإعدام

والإيجاد، وإنما جعل الواسطة للتعليم والإرشاد، وهم الأنبياء (ومن جرى على

آثارهم فهو كالنائب عنهم) وقد انقطعت هذه الوساطة بخاتم الأنبياء الذي هو آخر

وسيط، وفي الحديث الشريف الذي أشرنا إليه من أن الله تعالى منح كل نبي دعوة

واحدة مستجابة فما يدعو به وغيرها موكول لفضل الله تعالى غير مقطوع بإجابته،

وفي الأحاديث الكثيرة التي بينت أن الرخصة في زيارة القبور بعد النهي عنها

إنما هي لأجل الاعتبار بالموت وتذكر الآخرة، لا لأجل الانتفاع بالميت، ولذلك يزار

قبر الكافر والفاسق، وفيما ورد في الأحاديث من أن الميت تحت رحمة الله تعالى

كالغريق المتغوث (طالب الغوث) وأنه يستحب الدعاء له، وفيما شاهدنا من فساد

عقائد العامة بإقرارهم على ما يصدر منهم عند زيارة الصالحين (وهو ما فصلناه

سابقًا) الذي انتهى ببعضهم إلى اعتقاد التأثير لهم، وإلى تسييب السوائب، كالعجول

ونحوها باسمهم، كما كان المشركون يسيبونها للأصنام، ونهى عنها القرآن،

وإلى المفاضلة بينهم وبين الأنبياء، وإلى الحلف بالله باطلاً والتحرج والتأثم من

الحلف بالولي كاذبًا، وإلى ترك الأسباب في المصالح الكلية اعتمادًا على الأولياء،

كما جرى في بخارى عند زحف الروسيا عليها، حيث أجاب العامة وكثير من الخاصة

من أمرهم بالتأهب والاستعداد للمدافعة عن البلاد بقولهم: إن شاه نقشبند رضي الله

تعالى عنه هو حامي بخارى وهو الذي يرد الأعداء عنها، وفيما ورد في الكتاب

والسنة من أن آباء بعض الأنبياء وأبناءهم كانوا كفارًا، وأبناء كثير من الأولياء كانوا

فساقًا أشقياء، ولو كان الأمر في يدهم فعلاً أو شفاعة لما كانوا كذلك.

في ذلك كله وفي غيره من الآيات والعبر ما يوجب على العلماء أن يبينوا

للناس قولاً وكتابة أن لا يعتقدوا بقدرة غيبية إلا لله تعالى، وأن يسيروا في

مصالحهم الدنيوية على السنن والنواميس التي طبع الله الكون عليها، ودلتهم

المشاهدة على صدق الكتاب في عدم تبديلها وتحويلها، وأن لا يعتمدوا على الخوارق

الموهومة، ولا على الشفاعات التي هي في الدنيا معدومة، وفي الآخرة غير

معلومة، بمعنى: أنه لا يعلم لولي بخصوصه شفاعة في الآخرة، على أنهم {وَلَا

يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) وإن سيد

الشفعاء عليه السلام كان يقول لأهله وعشيرته الأقربين (اعملوا، لا أغني عنكم من

الله شيئًا) وأمثال هذه الإرشادات التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، لا أن نسكت للعوام

على منكراتهم المشاهدة هي ومضراتها بناء على حسن الظن المبني على أمور

مشكوك في حصولها، وهل مع مشاهدة المنكر مجال لحسن الظن؟! والقاعدة أن

اليقين لا يزول بالشك.

نعم إن لزيارة العلماء والصالحين أحياءً وأمواتًا فائدة معقولة، لم يرد بها

الشرع فيما نعلم، وهي تأثر الزائر بتذكر ما أوتيه المزور من الفضيلة والكمال،

وانفعال روحه بما ينهض الهمة ويبعث على التشبه والاقتداء إذا كان الزائر ذا

بصيرة صافية تتمثل لها شمس الكمال، فيفيض عليها من أنوار الهمة والعزيمة ما

يبعث على احتذاء ذلك المثال، والنسج على ذلك المنوال، ولعل هذا ما يعنيه السادة

الصوفية بقولهم: (التبرك بالزيارة واستمداد الهمة من مزور) {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ

نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) .

_________

(*)(الأحزاب: 4) .

ص: 410

الكاتب: حسين أفندي الجسر

‌الشعر العصري

من نظم صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ حسين أفندي الجسر الطرابلسي الشهير.

بالجد يبلغ ذو الآمال ما طلبا

وبالوفاق ينال المرء ما رغبا

يا عصبة الملة الغراء أنشدكم

ربًّا بعزة علياه قد احتجبا

ما السر في أن أسلافًا لنا سلفوا

سادوا البرية فيما أورث العجبا

يا جاهلاً قدْر علياهم وما اكتسبوا

سل الأناسي أو سل عنهم الكتبا

تخبرك أنهم سادوا الأنام علا

ودوخوا الكون حتى السبعة الشهبا

يجيء إليهم خراج الأرض قاطبة

بذاك خاطب هارون الهدى السحبا

هل كان ذاك بغير الجد حالَفَه

حُسن الوفاق وإلا فاذكروا سببا

لله در علوم بينهم برزت

من كل فن عن الأفكار قد حجبا

أصول فقه وتوحيد وفلسفة

وهيئة وسياسات غدت نخبا

جغرافة وتواريخ مهذبة

وفن حرب وما نكفي به النوبا

صنائع وفلاحات ونافعة

وجملة من علوم أصبحت أدبا

نحوًا وصرفًا وإنشاء وقافية

وقرض شعر ونظمًا يبعث الطربا

بلاغة وبيانًا والبديع وما

قد يعجز الحاسب المطري إذا حسبا

ما في الطبيعة علم فات مقصدهم

ولا الرياضة فن عنهم احتجبا

أكان تدوينهم هذي العلوم لأن

ينال منها سوانا كل ما رغبا

أم أنهم وضعوا تلك الصنائع كي

تكون في سلب أموال لنا سببا

أم أنهم رتبوا فن الفلاحة كي

يعود ربع سوانا عامرًا خصبا

أم (الشفاء) تقول الشيخ ألفه

لغيرنا فاستفادوا منه ما وجبا

ودونوا كتبًا منه وقد نسبوا

إبداعها للذي في دارهم نجبا

أم (الحريري) أبدى من بلاغته

تلك المقامات كي تغدو لهم أدبا

لو شام ناظره بين الأنام لها

تلك التقاليد أنَّ الدهرُ وانتحبا

كلا وربك ما راموا بما سمحوا

إلا لنكسب منه خير ما اكتسبا

فلا يليق بأن الغير وارثه

ونحن فيه كمن عن إرثه حجبا

وإن ترى من ديار الغير لامعة

بروقه ونراه منهم انسكبا

فنغدو كالبحر تنهل السحاب به

من مائه وترى ذا البحر قد نضبا

هذا وقد أذعنت قهرًا لسطوتهم

كل الطوائف ممن شط أو قربا

لو رمت تعداد ما نالوه من عظم

على البرايا غدوت اليوم منغلبا

لكن عليك بأخبار الصحابة إذ

فيه شفاء ، ومن في نهجهم سربا

مثل الذي أنضج الآلاف صارمة

من قبل ما أنضجت شمس الضحى العنبا

أو المقيم على أرباض خرشنة

أشقى العدا بجيوش أسعدت حلبا

أو الذي بفتوحات له اتصلت

غدا له فاتح بين الورى لقبا

فيا عصابة دين الله حيهلا

على الذي فيه حقًّا نبلغ الأربا

واسترجعوا ذكر أسلاف لكم تركوا

مفاخرًا لم ينلها غيرهم حسبا

وجانبوا الحسد المذموم مسلكه

وجردوا سيف عزم يقصم الهضبا

كونوا بجمع قلوب عند سعيكم

إلى المعالي تنالوا كل ما طلبا

إن القداح إذا ما جمعت عجزت

عنها الأكف وإذا ما فرقت فهبا

هذا الخليفة قد أبدى لنا طرقًا

من الهدى وإلى ساحاتها ندبا

أنشا مدارس تعليم وزينها

بكل فن علينا قبلُ قد صعُبا

ولم يدع سببًا يفضي لثروتنا

إلا بهمته قد سهل السببا

فما عليه من الإحسان أرسله

فما علينا سوى أن نهجر اللعبا

إن لم نكن بهداه نهتدي فلنا

يقال ما في ثمود قد أتانا نبا

يا صاحبي لا يكون المرء مفتخرًا

إلا إذا عزمه مع رأيه اصطحبا

رأي يريك الدجى صبحًا يصاحبه

عزم يقد الصخور الصم والقضبا

فلا يفيدك تصقيل الشعور إذا

لم يغد عقلك مصقولاً بما كسبا

ولا يصونك " بسطون " بحربته

إن لم يكن منك عزم يشطر الحربا

يا سعد عرج على ربع العلوم فقد

أقوى لعلك تحييه لمن طلبا

ويا كواكب ذي الفيحا وجيرتها

كونوا طوالع سعد عندها ارتقبا

واستسلموا لهدي المولى خليفتنا

فلن يفوز امرؤ عن هديه انقلبا

إذ جل مقصده أنَّا بنعمته

بين البرايا نفوق العجم والعربا

أدامه الله شمسًا تهتدي أبدًا

ألبابنا بسناها ثم لا غربا

ما نال بالجد والآمال ما طلبا

وبالوفاق حوى ذو الجد ما رغبا

_________

ص: 416

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات من الجرائد

(التسلح في العثمانية)

نشرت جريدة (الستندرد) منذ أيام رسالة وردتها من فيينا موسومة بهذا العنوان،

معربها كما يأتي:

الظاهر أن الحكومة العثمانية تروم أن تسالم جيرانها بالإصلاحات العسكرية،

فهي ليست فقط باذلة جهدها وعنايتها في تحسين أحوال جيشها، بل قد ورد أخيرًا

من الآستانة أن المساعي مبذولة فيها لزيادة هذا التحسين والمبالغة في ذلك التنظيم.

وقد ظهر تقدم جدير بالذكر في جميع أنواع السلاح التي لديها، ولا سيما

المدافع، فقد كانت مدافعها في الحرب الأخيرة من طرز كروب الحديث، ولكن منذ

زمن وجيز بدئ في الطوبخانة بإنشاء معمل لصنع مدافع سهلية من طرز هويتزر

فأصبحت كياتر بذلك تسابق معامل ألمانيا وأوستريا في صنع هذه المدافع،

وستجهز مدفعية السهل بمدافع من ذوات الطلق السريع، ويقال: إن الحكومة تخابر

الآن معمل كروب بشأن إرسال هذه المدافع، ولا يمضي زمن طويل حتى تصبح

جميع العساكر مسلحة ببنادق موزر، وهي قد أنشأت منذ مدة معملاً لصنع البارود

الذي بلا دخان في موضع يدعى زيتون برنو قرب الآستانة، ولكن البارود الذي

يصنع فيه ليس وافيًا بالمراد، فلذلك أرسلت وزارة الحربية توصي معامل ألمانيا

على صنع مقدار منه برسمها، وعمل مائة مليون من قراطيس البارود

(الخرطوش) .

ثم إن مسألة القلاع والحصون شاغلة أفكار رضا باشا وزير الحرب، ويقال إن

المعاقل التي حول أدرنة ومعاقل دجوماجا الواقعة على الحدود البلغارية ستعزز

بأسلحة جديدة، ويكمل تسليح استحكامات كرك كيليس (لعله يريد قرق كليسا)

الواقعة بين أدرنة والبحر الأسود.

أما فيما يتعلق بتنظيم الجيش، فقد تقرر منذ بضعة أيام إنشاء 170 أورطة

جديدة من الجنود الاحتياطية التي لا تخدم خدمة منتظمة، والتي تتمرن على الفنون

العسكرية في أوطانها في أيام الأعياد والعطلة، وقد صدرت الأوامر الآن إلى حكام

الإقليمين المجاورين للجبل الأسود وصربيا وبلغاريا بتشكيل ذلك العدد من الأورط

من أهاليها، فتستدعى في زمن السلم مدة شهر أو شهرين، وتقدر نفقاتها بثلاثة

ملايين فرنك في السنة، ثم إن الخيالة المعروفة بالحميدية المؤلفة الآن من 61 فرقة

سيغير نظامها ويشكل منها ستة ألوية من الفرسان، وينفذ المشروع القديم القاضي

بإضافة كوكبة أو نصف كوكبة من سائر الفرسان إلى كل فرقة من الفرق الحميدية،

ومما يذكر في هذا السياق أن جماعة من الضباط الأتراك قد اشتروا أخيرًا عددًا كبيرًا

من الخيول من هنغاريا الشرقية برسم الخيالة العثمانية.

...

...

...

...

... (الأهرام)

***

(ترقي الصنائع في ألمانيا)

نشر مؤخرًا في برلين إحصاء جدير بالاعتبار، تفهم منه درجة ارتقاء الصنائع

في ألمانيا، فقد كان عدد المشتغلين في معاملها عام 1882 غربية 5831622

من الرجال و1509167 من النساء، وفي سنة 1895 بلغ عدد الصناع

7921942 رجلاً و2339325 امرأة، وكان عدد الأنوال التي يشتغل بها من

العامل الواحد إلى الخمسة عام 1882 نحو 2882718 نولاً، وعدد عملتها

4435882، وفي سنة 1895 بلغ عدد هذه الأنوال الصغيرة 2924732 نولاً،

ومقدار عملتها 47765 شخصًا، والأنوال المتوسطة التي تستخدم من الستة صناع

إلى خمسين صانعًا كان عددها سنة 1882 نحو 112715 نولاً، وعدد عملتها

1391720 عاملاً، وعام 1895 بلغ عدد الأنوال 191299، وعدد العملة

2454257 عاملاً، وسنة 1882 كان عدد المعامل الكبيرة التي تستخدم من الواحد

وخمسين عاملاً إلى ألف عامل 9974 معملاً، وعدد عملتها 1613247 عاملاً،

وفي عام 1895 بلغ عدد هذه المعامل 18955 معملاً وعدد عملتها 3404343

عاملاً، وما زال عدد المستخدمين والمستخدمات في هذه المعامل يزداد آنًا فآنًا،

حتى كان عدد المستخدمين عام 1882 نحو 205061 مستخدمًا فبلغوا عام 95 نحو

448134 مستخدمًا.

أما عدد الذين لم يبلغوا السادسة عشرة من العمر المشتغلين في هذه المعامل فهم

عبارة عن 464424 ولدًا و138736 بنتًا، وعدد الذين جاوزوا هذه السن هم كناية

عن 6871504، وقد بلغت قيمة مصنوعات هاته المعامل عام 1882 زهاء

1279900000 مارك (المارك فرنك وربع) وبلغ مقدار ما صدر منها

17200009 طن (الطن أربع قناطير شامية) وقد بلغت صادرات عام 92 نحو

2380000000، وقيمة الصادرات 3424000000 مارك، فهذه الزيادة المهمة

تدل على ما وصلت إليه البلاد الألمانية في خلال السنين الأخيرة من الترقي الخارق

للعادة، فلله ما يفعل الإقدام والثبات.

***

(نبات يُضحك بالعَهُ!)

قالت جريدة (آهنك) الأزميرية: إنه قد اكتشفت في بلاد العرب شجيرة

خضراء الأوراق لامعتها، لها ثمر يشبه الفاصولية، يحتوي على حبتين أو ثلاث

سوداء اللون، وهذه الحبات ذات رائحة تميل للأفيون حلوة الطعم، فإذا سحقت

سحقًا جيدًا وبلع منها الإنسان مقدارًا، يستغرق حالاً في الضحك الطويل بصفة لا

تقاوم، ويزداد ضحكه بالتدريج، فيطفق يقفز ويلعب ويتغنى ويتحرك فيه هذا الهوس

مدة ساعة ثم يسكن، وعندها يستولي النعاس عليه فينام ملء جفونه ساعات طوال،

ومتى أفاق من غفلته يصبح ما اعتراه نسيًا منسيًّا، فإذا ضاق ذرع المرء أو بكى بكاءً

مرًّا، وبلع من هاته الحبات يعتريه ذلك الحال، على أنه إذا أدمن على ابتلاعها

يعرض نفسه لمرض الأعصاب، وقد أوصى الأطباء كل عبوس قمطرير أن يبتلع من

هذا النبات على نحو ما قررناه، فيزول ما به من الكآبة. هذا كلام الجريدة ترجمناه

على سبيل الفكاهة، والله أعلم بحقيقة الشجيرات وثمراتها.

...

...

...

...

...

(الشام)

***

من أخبار الآستانة العلية أن مولانا السلطان الأعظم أنعم على قواد الأساطيل

الأجنبية في كريت بوسامات مختلفة باختلاف درجاتهم العسكرية؛ جزاء حسن

خدمتهم في الجزيرة، وصدرت الإرادة السنية بإنشاء مأوى للأرامل اليونانيات في

سلانيك، فما هذا الإنعام الشامل والحنان الكامل؟

ومنها: أن رائف أفندي أحد الحذاق من رجال المدفعية قد اخترع طربوشًا

يصنع من النبات والكلأ بدلاً من الصوف، وهو اختراع مفيد جدًّا، لا سيما للعسكر،

وهو يسعى الآن في أخذ براءة الامتياز به، فعسى أن ينالها مع الجزاء الحسن.

ومنها: أطلق 5 آلاف جندي انتهت مدة خدمتهم فانصرفوا حاملين رتب

الشرف العسكري، داعين لمولانا السلطان بالنصر والتأييد والعمر المديد.

ومنها: يهتم الباب العالي بتجهيز وتعبئة 170 كتيبة (طابور) من العسكر في

جهات أدرنة ومناستير، ويقال: إن وزير الحربية يسعى بإلغاء إعفاء أهل الآستانة

من الخدمة العسكرية الذي هو نظام السلطان محمود، وقد أظهر أن ذلك يزيد في

الجنود 20 ألفًا من مسلمي الآستانة ما عدا البدلات المالية التي تؤخذ من سائر الملل.

ومنها: أعلنت السفارة الألمانية رسميًّا أن الإمبراطور والإمبراطورة يصلان

إلى الآستانة في 17 أكتوبر (أيلول) القادم.

ومنها: صدرت الإرادة السنية بالإصلاح في مدينة القدس الشريف، فشرع في

توسيع شارع باب الخليل الموصل للحرم الشريف، وفي إقامة الأبنية الجميلة على

جانبيه.

_________

ص: 419

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

(تابع ما قبله)

لما رأى الفرنسويون عند تداخلهم في الجزائر نفوذ شيوخ الطريقة التيجانية

الروحي وشدة خضوع العامة وتسليم الخاصة لهم، اكتنهوا شؤونهم فألفوهم قد اتخذوا

هذه الرياسة وسيلة للمال والجاه، وذريعة للمكاثرة والمفاخرة، وظهر لهم إمكان

استخدام هذا النفوذ لمد ظلال فرنسا وتمكين سلطتها في تلك البلاد، وكذلك كان.

أظهر جماعة من الفرنسويين العارفين بالعربية الإسلام، وامتزجوا بشيوخ

الطريقة امتزاج الماء بالراح وأمدوهم بالمال، ففرقوا الكثير منهم في مراتب الطريقة،

كالنقابة والخلافة، وجعلوا منهم شيوخًا مسلكين، ثم صاروا أئمة وخطباء

ومدرسين، وناهيك بالأوروبي إذا صار رئيسًا مطاعًا كيف يخدم أمته وحكومته،

ولقد ساعد رؤساء هذه الطريقة البعوث الفرنساوية التي أرسلتها فرنسا للصحراء

الكبرى والسودان الغربي، ومكنوا لهم في أرض الجزائر وتونس، وكانوا أكبر

الخاذلين للأمير عبد القادر في محاربة فرنسا، حتى أنهم حاربوه جهاراً عند حصار

مدينة (عين المهدي) وبمساعدتهم حصل ليون روس الفرنساوي الذي تظاهر

بالإسلام على فتوى من علماء القيروان اتخذها الفرنسويون مع الفتوتين اللتين حصل

عليهما هذا الدخيل من مصر ومكة (بوسائط لا محل لها هنا) أدلة لإخماد حمية

مسلمي الجزائر ليقعدوا عن محاربة فرنسا، ونقلت الجرائد الفرنسوية عنهم في تلك

الأيام أنهم كانوا يلقون في نفوس عامة العرب: (أن الخوف من الفرنسويين هو

الخوف من الله تعالى) ولا غرابة في ذلك؛ فإن لشيوخ الطريق الجهال في كل

البلاد من الوساوس التي يمكن الاستعانة بها على مثل هذا الغرض ما لا يحصى.

منها: الرضا بالقضاء والاستسلام للقدر.

ومنها: أن هذا من علامات قيام الساعة وانتهاء الزمان، وإنه لواقع ما له من

دافع، فمعارضته عبث.

ومنها: أن وقوع هذه المصائب على المسلمين أمور أخبر بها النبي صلى الله

علية وسلم، فالسعي في إبطالها سعي في إظهار عدم صدقه، ولقد سمعت مثل هذا

التعليل الغريب عمن يدعي العلم ويُعرف بالصلاح.

ومنها: أن الولي الفلاني أو الشيخ الفلاني علم بالكشف والاطلاع على الغيب

أن الأمر الفلاني لابد من إنفاذه، ومن عارضه يخسر ولا يظفر.

ومنها: أن هذا شيء أشارت إلى حصوله الجفور، فمعارضته جهل وغرور.

ومنها: أننا نقاوم هذا الخَطب بالدعاء والتوجهات، أو بالخوارق والكرامات،

كما نقل عن أهل بخارى أنهم قالوا أن شاه نقشبند يرد روسيا عن بلادهم، وكما نقل

عنهم وعن غيرهم من الاجتماع لقراءة البخاري الشريف لرد الأعداء عن بلادهم.

أمثال هذه الوساوس المصادِمة للعقل والدين، منتشرة بين المسلمين في جميع

الأقطار، وهي على ضررها وعللها مأخوذة بالتسليم من غير إنكار، ومن أنكر عليها

وقال: إنها تَعِلَاّت غير صحيحة، أقاموا عليه النكير، وحرفوا الكلم عن

مواضعه، فبعضهم يقول: هذا معتزلي أو وهابي، لا يعتقد بالدعاء والكرامات

وشفاعة الأولياء، ولا يؤمن بالقضاء والقدر. وبعضهم يقول: إن هذا فلسفي لا

يصدق بقرب الساعة وانتهاء الزمان، وينكر بركة الحديث الشريف، وبعضهم يقول:

إن هذا عدو مبين؛ لأنه ينكر على المسلمين.

وهكذا تشيع بينهم تسمية خادم الدين عدو الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله

العلي العظيم.

ولننقل عن الفرنسويين أنفسهم ما يشهد بصحة كلامنا في استخدامهم أهل تلك

الطريقة، قال علامة تقويم البلدان (الجغرافيا) المسيو أليزيه روكلوا في الصفحة

639 من المجلد الحادي عشر من كتابه المسمى: (رسم الأرض) ما نصه:

(إن بعضاً من رؤساء الطرق في الجزائر شرهون طامحون لنيل المال والجاه،

بُعَداء عن التمسك الحقيقي بالدين، لا يتحامون إدخال كثير من النصارى في زمرة

إخوانهم ولا يتخلفون عن مساعدتهم عند الحاجة) .

وجاء في رسالة طويلة للمسيو دوكنستان، نشرت في مجلة (العالمين) الشهيرة

في العدد الصادر في أول مارس سنة 1886 شرح فيها الكاتب المساعدات العظيمة

التي يأتيها شيوخ الطريقة التيجانية خدمة للفرنساويين، فهي الطريقة المثلى التي

ينبغي أن تسلكها حكومة فرنسا في موالاتهم السرية؛ لأن المجاهرة قد تضر، كما

حصل في إبان محاربة الأمير عبد القادر.

ومما جاء في تلك الرسالة قوله: (إنني - بغاية الأسف - ألاحظ انكباب

ضباطنا الفرنساويين في الجزائر على الدخول في زمرة الطريقة التيجانية وتهافتهم

على أخذ العهد بتظاهر زائد، وإلى حد لا يقبله الذوق والاستحسان، وإن كان من

الحكمة والرشد أن يدخل بعض رؤسائنا العارفين بلغة العرب في زمرة الطريقة

التيجانية، توصلاً للفوائد السياسية التي تنتج من ذلك، إذ لا ينكر أنهم بهذه الوسيلة

يمكنوننا من نشر الأمن في الأقطار والصحاري، ومن تقوية نفوذنا على العرب،

كما هو حاصل الآن بكل سهولة بسبب المصالح المتبادلة والمتكافئة بيننا وبين

رؤساء هذه الطريقة، فإذا أردنا أن نستفيد بانتظامنا فيها، ويقوى سلطاننا على

المسلمين وينتشر نفوذنا السياسي، وجب أن نقف في طريق أخذ العهود عند الحد

الملائم المقبول، وإلا صرنا وإياهم (أرباب الطريقة التيجانية) في موضع هزؤ

وسخرية أمام أعين العرب أجمعين.

ثم تكلم عن الشيخ السنوسي وما يجب من الوسائل لمقاومته وتشتيت طائفته،

ثم قال ما نصه: (يلزم أن يكون على حدود مستعمراتنا رجال من أصحاب الدهاء

والخبرة التامة بأحوال الطوائف الإسلامية الذين يعلمون دخائلها وعيوبها ليستعملوا

كل خلل يجدونه لصالح وطننا، ولا يصح للحكومة أن تغيرهم من مراكزهم إلا إذا

تعذر بقاؤهم فيها، على أنه لا ينبغي تغييرهم إلا بعد فرصة من الزمن، يوقفون

فيها من يخلفهم على تلك التجارب ويحيطونهم علمًا بكل من يوالينا محبة وإخلاصًا،

ويلزم أن يكون لهؤلاء العمال ارتباط تام وعلاقات شخصية مع الأهالي ومشايخ

الطرق ومن على شاكلتهم من أرباب المظهر الديني، مثل ما لضباطنا العسكريين مع

التيجانية، ولكن ينبغي أن تعطى لهم أوامر تقضي عليهم أن لا يتظاهروا بالمحبة

الزائدة للطوائف الخاضعة لنا، ولا بالكراهة الزائدة للطوائف المخالفة لنا، فإن

السياسة الممزوجة بالدهاء والمهارة تستلزم أن نتجافى ظاهرًا عن المصافين لنا،

ونتظاهر بالميل لأعدائنا، وتَنَكُّب هذه الطريقة يُنتج إضاعة نفوذ أولئك

الأصفياء، ويقوي نفوذ أعدائنا عليهم، وبعبارة أجمل: ينبغي أن تكون فوائدنا

الظاهرة موجهة منا إلى أعدائنا، إذ لا يصعب علينا أن نستميل من كان شرهًا

ناقص الشجاعة والدين، ونلجؤه إلى الدخول في زمرتنا والخضوع لنا، ثم نوالية سرًّا

بهدايانا الخفية، لكيلا يأسى على ما فرط في جنب الله من ترك دينه وخيانته وطنه.

أما تلك الطوائف الشديدة البغضاء لنا التي يخشى اجتماع كلمتها علينا، فمن

الحمق والغباوة أن نظهر لها الكراهة وعدم الرضا؛ لأننا بذلك نحملها على التألب

علينا والاجتماع لمصادتنا، وإنني لا أنكر أن مثل هذه السياسة عديمة الشرف،

ولكنها مملوءة بالفوائد العائدة على بلادنا، ولهذه الوجهة أرفض رأي القومندان

(رين) الذي يرى أن السياسة الحالية مع العرب لا تليق بشرف مملكة عظيمة مثل

فرنسا، فما على حكامنا الفرنساويين في تلك الجهات إلا أن يحصروا كل قواهم في

جلب أكابر مشايخها واستمالتهم بالمال والفوائد المادية والتظاهر بعلامات الاحترام؛

إذ بهذه الطريقة وحدها نحصل على سكوت هؤلاء الرؤساء وسكوت المرءوسين تبعًا

لهم، والإغضاء عن كل ما يحصل، وغض الطرف عن جميع أعمالنا ومساعينا،

فضلاً عن كوننا نتمكن بغاية السهولة من إلقاء بذور الشقاق والفتن بينهم، وأقرب

منفعة لنا من ذلك أننا نفرق شمل هذه الطوائف الدينية. انظر إلى كم شظية شظينا

الطريقة القدرية التي شتتناها ومزقنا لفيفها، وبمثل هذا نتمكن من جعل القوة

السنوسية التي هي أشد صلابة من الحجر الصلد مفتتة كأجزاء الرمل، فلا يبقى

ارتباط بين أجزائها، وإنما يكون ذلك إذا ثابرنا على بث الدسائس ونفخ روح

البغضاء فيها، وواظبنا على إسناد كل وصمة تلحق العار بها وتوجب احتقارها

والإزراء بها) . اهـ.

(البقية للآتي)

_________

(*) نشرت في العدد 23 الصادر في 5 ربيع الثاني سنة 1316.

ص: 423

الكاتب: محيي الدين الخياط

‌حالنا

حضرة الفاضل صاحب الإمضاء

كلمة صدق أقولها، وإن كنت أعلم أن الصدق قد صار تقريعًا والنصح

والإخلاص تضييعًا.

إن جل شباننا (وأخص من يدعي التنبه منهم) تائهون في فيافي الغرور،

زائغون عن محجة السداد، لا يعرفون هريرًا من غرير، ولا قبيلاً من دبير، إن

بحثوا فبغير رابطة تربط عروة بحثهم، ولا ثبات على فكر يؤيد حجتهم، وإن

سكتوا فبغير نتيجة ولا وصول إلى حقيقة، وإن انتقدوا فمن وراء حجاب، وإن

استصوبوا فبغير اهتداء إلى الصواب. بينما ترى المتمدن منهم يطنب في فوائد العلم

العصري ومزاياه وذم كل شيء سواه، إذ تراه خاض بذم ما مدحه، ومدح ما ذمه من

غير أن يشعر، وإن ادعى أنه شاعر، فلا نكاد نعرفه هل هو عدد للعلم ما له هم

ولا سلام، أم حليف له يدافع عنه بالسيف والقلم، وفي الحقيقة هو لا في العير ولا

في النفير، وهذه على ما أرى من النقط الموعرة التي وقفنا بها وتعذر علينا قطع

مجاهلها ومفاوزها، والسير في جدد التقدم والنجاح، والتدرج في معراج الترقي

والفلاح.

وما تلك إلا نتيجة الجهل وعدم دراسة العلم الصحيح وسوء التربية الحقة،

وإن شئت التفصيل فقل: هو نتيجة حب الأثرة ممن لا نسميهم

، وعدم الاعتناء

بتعميم العلوم وتسهيلها للعموم والاكتفاء بشقشقة اللسان، ولوك الألفاظ المصنعة

الموهمة بالعلم، والانكباب على حب الترقي الشخصي مع الجهل والرغبة في

التنافس والتحاسد، والمزاحمة بالمناكب في المراتب، والافتخار بما يوجب العار،

والعار بما يوجب الافتخار، والادعاء ولو بغير حق، وغمط الحقوق، وعدم

الاعتراف بالجميل، والذهاب مع

وعدم الانقياد لمن يصدع بالحق، وتفرق

الكلمة وتشتت الآراء، والاكتفاء من العلوم العصرية باللباس الفاخر والفرش الباهر،

والتحلي بالأحجار الثمينة التي لو قومت كلها لبلغت ما استهلكته من الدراهم مبلغًا

يقوم بفتح المصانع العمومية والمدارس العلمية، من طبية وصناعية وزراعية

وتجارية ونحو ذلك.

فإن افتخارنا معشر الشرقيين بآثار أسلافنا لا يجدينا نفعًا ما دمنا لا نرى شيئًا

من حاجياتنا - فضلاً عن كمالياتنا - إلا وهو من صنع الأغيار الذين استنزفوا منا

البصائر والأبصار، فضلا عن الدرهم والدينار، ومع ذلك لم يزل أكثرنا مكتفيًا

بقوله: إن التمدن الغربي استمد من التمدن الشرقي، نعم إن هذه الحقيقة لا ينكرها

الغربي، فضلاً عن الشرقي، لكن يا ترى هل يفيدنا مجرد معرفتها إن لم تكن

آثارها ظاهرة علينا، وهل يا ترى لو كانت معنا جوهرة ثمينة وسلبها الغير منا

واستفاد وأفاد غيره، وعجزنا نحن عن الاستفادة منها - فضلاً عن استردادها - فأي

فخر يبقى لنا، بل أي عار يبقى علينا، فليجبني المفتخر بعظام أجداده من الشرقيين

بشرط إنصاف الضمير، وصفاء الفكر عن شوائب التحيز لأضوائه، ومزالق

الاستبداد بمنشوراته، بعد أن يعلم أن الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية.

ورب منصف حلب الدهر أشطره وسبر حلوه مره أسمعه في عالم الخيال

يقول:

لقد أصبت وصمصام الحق كبد الحقيقة، وسلكت من صراط الصدق أقوم

طريقة، وشخصت المرض العضال الذي أصاب جسم أكثر الشرقيين وتركهم

يتخبطون كالذي تتخبطه من المس الشياطين، ولكن أين من يسمع، أين من يعي،

أين من يتفكر؟

وكل يدعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاكا

بل كل يغني على ليلاه، والعارف معهم يقول: وا ويلاه، خشب مسندة، لا

تجر بالآلات الميكانيكية التي تجر الأثقال، وقلوب موصدة، لا تنفذ فيها أشعة

رانتجن التي تخرق الجبال، وعقول عقم لا تعرف نتيجة الاختراع، وألسن بكم، لا

تعرف من الإفصاح إلا وصف المقرطق أو ذات القناع، وآذان صم لا تسمع

بالتليفون الذي يسمع الصم الجماد، وعيون عمي لا تنظر بالمكبرات

(المكروسكوبية) التي تقرب الأبعاد، بل لا تنظر بنور الكهرباء التي هي كالقمر،

ولا بالغاز الذي هو كالزهر أو الزهر، حتى ولا بشمس النهار هي التي تُستمَد منها

الأنوار، بل ولا بنور الذي خرق طبقات الأرض، بل اخترق ما فوقنا من الطباق،

فأرانا سير الكواكب في الأفلاك، والبرق في الآفاق، وتموج صدى الإنسان تحت

الماء، حيث تنقله الأسلاك، وتسمع صريره الأسماك، إنك لا تجني من الشوك

العنب، كما لا تستنشق رائحة العود من الحطب.

مَساوٍ لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

هذه آيات القرآن العظيم، هذه أحاديث الرسول الكريم، هذه الكتب المقدسة

كالتوراة والإنجيل، كل ما ذكر يأمر بجلب الخير لبني الإنسان، وتحصيل العلم ولو

بالصين، بل أينما كان، والتقاط الحكمة حيثما وجدت.

هذه جرائدنا تنادي بالنصح على رءوس الأشهاد على حد قول القائل:

أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى

فأحسب أن الحي ليس بآهل

منها ما هو له ربع قرن ونحو ذلك (كالثمرات والأهرام) ، ومنها ما هو له

أقل من ذلك (كالمؤيد) ومنها ما هو ابن سنته لكنه يعد في مصاف الكهول

(كالمنار) ومنها ومنها إلخ، فأين الذي جنى ما أثمرته (الثمرات) وأين الشعب

الذي أيد استقلاله بإرشادات (المؤيد والأهرام) وأين الأمة التي استنارت من

(المنار) وأين وأين إلخ

، فأقول له مجيبًا: مهلاً مهلاً أيها المنتصر للحق

والحقيقة، فلعلنا نجد للإقناع بالحسنى طريقة، فإن الحقيقة بنت البحث، ولا

تتولد إلا بازدواج در الأفكار، وتصادم زند البصيرة، حتى يندلع منها لسان الحق

بساط الأنوار، وقد يركب الصعب من لا ذلول له، ويستصحب الإنسان من لا

يلائمه.

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا

فما حيلة المضطر إلا ركوبها

والاعتدال في الكلام أوقع في النفوس من وقع السهام، وليس من العدل سرعة

العذل (لعل لهم عذرا وأنت تلوم) فإن الغربى دخل بيننا أيها الشرقي باللطف

والملاينة، فنال منا ما أراد، أفلا يجدر بنا ونحن من وطن واحد وعنصر واحد

المجاملة بقيام الحجة حتى نصل إلى المحجة.

من المعلوم أن الغير بلغ من التقدم شأوًا بعيدًا ليس بعده شأو لراكب ولا مجال

لطالب، بل لا أبالغ إذا قلت: زاحم الكواكب بالمناكب (شأن أسلافنا الأندلسيين

والمصريين وسواهم) وهو مع ذلك لم يخرج عن الطور البشري، ولا تنزلنا عنه،

غير أن تقاعسنا عن تحصيل العلوم وإهمال الآباء عن تعليم الأبناء، وعدم اتحاد قلوبنا

على نجاحنا ونجاح بلادنا هو الذي أخرنا وثبط همم رجالنا وشبابنا، فإن أحدًا منا

لو جاء بنصيحة أو قام بمشروع يفيد البلاد ويستفيد هو منه بالطبع، لعكر عليه آحاد

بل عشرات بل مئات بل ألوف وأفسدوا عمله وقاموا ضده وظنوا فيه الظنون، غير

ناظرين إلى نصيحته أو مشروعه، بل إلى شخصه، وهو عين الغفلة عن حقوق

الأشخاص نحو البلاد، والعبث بمصالحهم ومصالحها، وهو الداء القتال الذي فتك فينا

وفي بلادنا فتكًا ذريعًا، وما علينا إلا أن نتداركه قبل أن يزمن ويتعذر علينا علاجه

بأن نكون يدًا واحدة على نفع البلاد، وجلب كل ما يعود بالخير عليها وعلى

متوطنيها أيًا كانوا، مقتفين بذلك آداب الشرائع الغراء، وأثار من ساروا على آثارنا

وجاسوا خلال ديارنا واستمدوا من أنوارنا - وهو أمر سهل على الكل - بأن ينبذ كل

منا النفع الخاص، ويتمسك بالنفع العام الذي يدخل فيه الخُلّص، فإننا باحتياج زائد

إلى ترقية بلادنا بنشر العلوم والمعارف فيها، وترويج مصنوعاتها، حتى نستغني عن

مصنوعات الغير، وتبقى ثروة البلاد في البلاد، واتحاد القلوب وحده هو الكفيل

بحسن الاستقبال وبلوغ البلاد معارج الكمال.

...

...

...

...

محيي الدين الخياط

_________

ص: 428

الكاتب: محمد ضيا

‌الإسلام في الصين

مترجمة بقلم حضرة الفاضل صاحب الإمضاء

جاء في جريدة الكرسنت الإسلامية التي تصدر في لفربول بالإنكليزية تحت

هذا العنوان ما نصه:

لقد نشرنا قبل الآن التقارير التي وضعها اثنان من رصفائنا عن انتشار

الإسلام وتقدمه في بلاد الصين، وهذان الاثنان هما الأستاذ فيوسلوف، والمستر

تيرسنت.

أما الأول فيقول: إن الإسلام سائر بسرعة عظيمة في سبيل التقدم والنجاح،

وإن الصينيين يحبونه حبًّا كثيرًا، ويميلون إلى أهله ميلاً كبيرًا، وإن كثيرًا منهم

يتسابق إلى التدين به.

ويقول أيضًا: وفوق ذلك، فإن من يمعن النظر في تقدم الدين الإسلامي

الحاضر يرى أنه ليس من المستحيل أن جميع أهل الصين ربما يتدينون بالإسلام،

ويصير هذا الدين أخيرًا الدين الرسمي لبلادهم. وإذا استمر الإسلام في تقدمه

الحاضر وانتشاره السريع وازداد عدد الداخلين فيه إلى أن تصير الصين بحذافيرها

بلادًا إسلامية وجزءًا من العالم الإسلامي، فإنه من المحقق أنه يخشى على

النصرانية؛ لأنها تعدم وسائل التقدم في تلك الأصقاع؛ لأن رسوخ الإسلام في بلاد

الصين يفقدها كل سلطة فيها.

أما الكاتب الثاني: فإنه قد اتفق مع الأول لكنه زاد في قوله بأنه منذ شرع

الصينيون ينتحلون الدين الإسلامي بكثرة هائلة تزايدت عداوة الروسيين للإسلام في

الشرق، فإنه لا يروق في أعينهم أن يروا الصينيين يدخلون في دين الإسلام أفواجًا؛

لأن انتشار الإسلام بهذه السرعة مما يضاد أغراضهم السياسية، ولذلك لا يفترون

عن إيجاد القلاقل في آسيا الوسطى، وفي قلب المملكة الصينية، لكن عناية القادر

قدَّرت أن ينتشر الإسلام في مقاطعات تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع تقريبًا.

ودخول الإسلام في الصين كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله

وأصحابه - بزمن قصير، فكان أول بزوغ شمسه فيها في عهد الخلفاء، والتاريخ

ينبئ بأنه كانت بين العرب والصينيين علاقات تجارية في عهد الخليفة الأول من

الخلفاء الراشدين، وأوضح أيضًا التاريخ الإسلامي أن أحد الصحابة رحل إلى

الصين بتجارة طائلة مع جماعة من قومه، وكانوا يحملون معهم سلعًا تجارية وكتاب

نبيهم المقدس، ونعني به القرآن، وقد قام هو وجماعته بالدعوة إلى الإسلام، فلم

يلتفت إليه أحد ويترك دين الوثنية، فذهب الصحابي وجماعته إلى مقاطعة كانتون

واستعمروا فيها، وأخيرًا أتيح له النجاح وأسلم على يديه الجم الغفير من أهالي هذه

الجهة، وابتنى فيها جامعًا. وقد منحت المملكة الصينية امتيازات كثيرة للعرب،

واختلط الصينيون بهم وتشبهوا بآدابهم وأخلاقهم خصوصًا وأن مكارم الأخلاق

وحسن المعاشرة والآداب التي اختص بها هؤلاء الغرباء جذبت إليهم قلوب الصينيين

فدخلوا في دينهم وازدادت محبة أهل الصين للدين الإسلامي بثبات أهله على

الاستقامة وحسن السلوك، وبالتدريج أصبح الفريقان أصدقاء، وتزوج كل فريق من

الآخر وهو ما قوى الرابطة بينهم.

وبمرور الزمن أصبح العرب مساوين للصينيين من كل الوجوه، وأصبح

الصينيون مسلمين، وعلى هذا فقد العرب شيئًا من عاداتهم الأصلية، وفقد

الصينيون دينهم القديم. وتوجد أسباب أخرى انتشر بها الإسلام هذا الانتشار السريع،

وهي أن الأغنياء من المسلمين يشترون أولاد الوثنيين وبناتهم ويربونهم بمعرفتهم،

وهم فوق ذلك يتصدقون على الفقير ويطعمونه، ويكسون العريان، ويساعدون

المحتاج، ويشفقون على المريض، وكانوا لا يتأخرون عن تشييع جنازات الوثنيين،

فبهذه الخطة التي اتبعها العرب جذبوا إليهم عقول الصينيين وقلوبهم، ونما بذلك

دين الإسلام بقوة في المملكة الصينية.

ومما يناسب ذكره في هذا المقام أنك لا تجد فرقًا عظيمًا بين المسلمين في الهند

والمسلمين في الصين، فكلاهما يتبعان كتابًا سماويًّا واحدًا هو القرآن الكريم،

فتراهم متشابهين في الأخلاق والعادات والآداب، إلا أنهم يختلفون في أمر واحد

وهو الزواج، فالصيني لا يتزوج بأكثر من واحدة، والهندي يميل إلى تعدد

الزوجات، وهم في ذلك لم يخرجوا عن أصول الإسلام وأوامر القرآن؛ لأنه مباح

للمسلم أن يتزوج بأربع نساء إن استطاع مرضاتهن جميعًا، والمسلم الصيني لا ينكر

حقيقة هذه الإباحة، لكنه لا يحب تعدد الزوجات، وسبب ذلك ناشئ من معاشرة

المسلمين للصينيين الوثنيين الذين لا يستحسنون تعدد الزوجات طبقا لعاداتهم.

ومن أهم دواعي حب الصينيين للمسلمين أن هؤلاء المسلمين لم يخرجوا عن

طاعة أولياء أمورهم، ونحن لا نستطيع أن نصف المسلمين بالخيانة لرؤسائهم،

سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل نقول: إنهم مطيعون للرؤساء من أي دين،

سواء كانوا في أوطانهم أو في أي بلاد يذهبون إليها ويختلطون بأهلها، فهم قوم

مطيعون لكل حاكم - عادلاً كان أو ظالمًا شفوقا أو قاسيًا مسلمًا أو غير مسلم - لأنهم

مكلفون بذلك طبقًا لأصول الدين الإسلامي، لذلك تجد المسلمين دائمًا يطيعون أولياء

أمورهم، ويظهرون الولاء لهم، ويكرهون كل مشاغبة؛ لأن قلب الحكومات لا

يروق في أعينهم، هذه هي أكبر الدواعي وأهمها التي جعلت الصينيين يميلون

بكليتهم إلى المسلمين اهـ.

مصر في 16 أغسطس سنة 1896

...

...

...

...

... محمد ضيا

_________

ص: 433

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات من الجرائد

(تربية البنات)

نشرت جريدة (مصباح الشرق) الغراء في عددها الأخير ضمن رسالة مكاتبها

في الآستانة العلية الفقرة الآتية:

(كانت إحدى الجرائد في دار السعادة قد نشرت بروجرام مدرسة الألمان،

وذكرت أن المدرسة المذكورة مستعدة لقبول البنات المسلمات، ولما كان تعليم بنات

المسلمين في مدارس الأوربيين ممنوعًا بمقتضى نظام الدولة عادت تلك الجريدة

فكذبت نفسها بنفسها) اهـ.

وخليق بالمصريين أن يتخذوا هذه القاعدة التي جعلتها الدولة العلية أساسًا في

نظام التعليم منهجهم القويم في تربية بناتهم؛ لأن الحكمة في هذا الحظر ظاهرة لا

تكاد تخفى على عاقل.

ذلك أن الغرض الأول من تعليم البنات: تربية نفوسهن وتهذيب أخلاقهن،

وجعلهن صالحات لتربية أولادهن صغارًا، وتدبير أمور منازلهن بما يضمن السعادة

والراحة في داخلية العائلات، وظاهر أن أشد التعاليم تأثيرًا في النفوس -

وخصوصًا نفوس النسوة - تعاليم الأديان القويمة الآمرة بالمعروف والناهية عن

المنكر، المُعْلِمة أن القصد في النفقات فضيلة، وأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين،

وأن الشيطان كان لربه كفورًا، الباثّة روح المحبة العائلية والحنان الوالدي،

الحاضة على حسن المعاملة واصطناع المعروف مع ذوي القربى والجيران، الملقنة

أن النظافة من الإيمان، وأن أشرف فضيلة للمرأة طهرها وحصانتها، ورعاية

حقوق زوجها كما ترعى حقوق الله عز وجل.

هذه هي التعاليم التي تجعل المرأة صالحة في بيتها، وأساس نظام العائلة،

وهي التعاليم التي خص الدين الإسلامي بأوفر حظ منها.

وما نُكب المسلمون في جامعتهم إلا بعد ما نُكبوا في نظام عائلاتهم بسبب

إهمال تربية المرأة الدينية الصحيحة النافعة.

فإذا أريد تعليم البنات - بعد ما أهمل أمرهن لقرون، فتناسين مبادئهن الدينية -

على نمط التعليم الإفرنجي، فقد جاء تعليمهن ضغثًا على إبالة الذهن، إذ هن

يكرهن بعد ذلك جامعتهن ولا يهمهن شأنها، يكرهن عاداتهن الأولى، ويتبعن

العادات الجديدة، فلا يأتلفن بذلك مع بقية العنصر الذي نشأن منه، فلا يقوم معوج

للعادات القومية، ولا يمكن إرغام مخالطيهن على قبول ما لذ لهن، فيقع التنافر

الذي يفسد به نظام العائلات.

وبالله ماذا ينفع العائلة المصرية أن تربي بناتها في مدرسة أوروبية، فتستفيد

اللغات الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب إحداهن بها أمها وأباها، وربما أخواتها

وزوجها. وأن تتقن عمل الأزهار الصناعية، وكيف تلبس النطاق (البسط) الضيق

في خصرها وتضرب البيانو على أضبط نوتة (نقطة) من الألحان الإفرنجية. ثم

هي إذا رجعت إلى المنزل الذي نشأت منه وجدت من أهلها عالمًا غير العالم الذي

ألفته في المدرسة، ووقع التنازع بينه وبينها في كل شيء ألِفت ضده، وكان منها

أن تمج وتبغض كل ما ألفوا وأحبوا دون أن تستطيع تغييرشيء من الوسط الذي عادت

إليه.

ألا يكون التعليم على هذه الحالة شقاء دائمًا للبنات، وبترًا في العائلة، وبذر

شقاق بين بعض أفرادها والبعض الآخر لا يداوي جرحه غير أن تتزوج تلك الفتاة

المتعلمة في مدرسة أوروبية بمتعلم في مدرسة الفرير والجزويت، وتنشأ منهما عائلة

لا تعرف على أي دين هي، وربما أنكرت نسبتها لمصر لو وجدت إلى ذلك سبيلاً؟

أو لم يكن الأوفق والأليق بأن تتعلم البنت تلك المبادئ الشريفة التي أشرنا إليها

لتعود إلى بيت أهلها مُصلحة ما فسد من أموره بلا جفاء ولا نفور، ولتكون مثالاً

صالحا لأخواتها، أمًّا وربة بيت قادرة على إدارة شؤونه، فتكون كاليد الكريمة

لزوجها والقلب الرحيم لأولادها، والصدر الرحب للجار ذي القربى بلا أذى للجار

الجنب.

وإذا وجدت العائلة المصرية على هذا الأساس وجدت الجامعة المصرية كلها

على أشرف أساس، وعاشت سعيدة تحس بوجودها وتلتذ بنعيمها، وتلك الحياة الطيبة

التي يكون بها الإنسان إنسانًا، وإنسان عينه قرير.

***

(اختراع عجيب لمعرض باريس)

شرعت إحدى الشركات بإنشاء قصر ذي خمسة وعشرين طبقة من الفولاذ

النقي المغطى بألواح زجاجية ذات ألوان شتى، وهو يدور على محور متين، بحيث

يتمكن جميع من يوجد في غرفه أن ينظروا غرائب المعرض وهم جلوس في نوافذه

وشرفاته، وسينار بأربعين ألف مصباح كهربائي، تنعكس أنوارها على زجاجه من

الداخل والخارج، وسيكون ارتفاعه 350 قدمًا، وهو على شكل هياكل الصينيين.

...

...

...

...

...

(لبنان)

***

(جامع ليفربول)

جادت مناهل الحضرة السلطانية بإهداء شمعدانين من الفضة الخالصة المقدر

ثمنهما بمائتين وخمسين ليرة عثمانية للجامع الشريف الذي استشاده (كذا) المسلمون

في ليفربول، وقد جاء في أخبار المدينة المذكورة أن المسلمين القاطنين بها احتفلوا

احتفالاً شائقًا بوضع هذين الشمعدانين في المسجد المشار إليه، ثم رفعوا عريضة

شكر للأعتاب الملوكية لما أنعمت عليهم بهذا الأثر الملوكاني، لا زالت بيوت الدين

ودور الموحدين آهلة مزدانة بإحسان الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى.

...

...

...

...

... (طرابلس)

***

(الكتب والجرائد)

ذكرت جرائد دار السعادة أن نظارة البريد والبرق العلية قد أوعزت إلى جميع

إدارات البريد العثماني بأن تسلم الكتب والجرائد التي ترد إلى أصحابها للحال، لأن

في تأخيرها ضررًا بينًا لا يسوغ إتيانه، وقد قالت: إن النظارة المشار إليها طالما

أنذرت الإدارات بالجري، كما تقرر آنفًا، فإذا حدث بأن تكرر وقوع مثل هذه

الأحوال فإن المسئولية ترجع إلى مديرية البريد، فتبوء بالعقاب الواجب.

(المنار)

إن إدارات البريد لا تفتأ تتلف الكتب والجرائد تارة، وتؤخر تسليمها لذويها

تارات، ما دامت تحت إدارة مراقبين جهلاء، وولاة وحكام عميان، يعتقدون أن

الحث على التربية والتعليم مضر بالدولة والأمة، وأن النهي عن البدع والمعاصي

مضر بالدين، وأن الحض على الاتفاق والائتلاف والتعاون على المنافع الوطنية

ومساعدة الحكومة على تعميم المعارف منبه للأفكار (وهو جرم عظيم) فسواء على

إدارات البريد في السلطنة أنذرتهم النظارة العليا في الآستانة أم لم تنذرهم. وما تغني

الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون.

تقول النظارة: إذا تكرر هذا الجرم - وهو تأخير تسليم الكتب والجرائد إلى

أربابها من أي مديرية - فإن المسئولية ترجع على تلك المديرية بالعقاب الواجب.

فليت شعري من السائل ومن المعاقب؟ ليسأل لنا إدارة بريد دمشق الشام

لماذا حبس العدد السابع من المنار خمسة أيام بلياليها؟ ولماذا حبس العدد التاسع

منه نحو عشرة أيام ثم أعطي لذويه ممزق الغلف مقطع الحزم؟ ولماذا أعدم

العدد 18 و20 و21 بله غيرها من أعداد سابقة؟ وإنما طلبنا سؤال إدارة الشام

لأن خللها محدود، وذنبها معدود، أما إدارة بيروت فهي لا تسأل عما تفعل، لا يعبأ

الناس بالقول ولا بكتابة الأوامر والنواهي، فإذا عاقبت النظارة بعض المديرين

الخائنين يَعتبِر باقيهم ويسلكون طريق الاستقامة، فتعود للناس الثقة بهم - المفقودة

الآن - التي اضطرت العثمانيين، حتى أصدق المخلصين منهم للدولة العلية، إلى

إرسال الكتب والرسائل بالبرد الأجنبية ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ياليت إدارتَي بريد

بيروت والشام كإدارتَي بريد طرابلس الشام واللاذقية، وما كان أجدر موقع بيروت

المهم أن يكون مدير البريد فيه مثل سعيد بك مدير بريد طرابلس. لتبرهن النظارة

الكبرى على إتقان العمل بالعمل، لا بالقول الذي هو رماد يذر في العيون، ولتعلم

أنه إذا أمكن ذر الرماد في الأبصار، فلا يمكن ذره في البصائر والأفكار.

هذه نصيحة غيور يود أن لا يُنسب لبريد دولته خلل ولا قصور، لكنه يعلم أن

الخِلابة اللسانية غرور، لا تقنع سامعًا ولا تخدع ناظرًا، فإنما العبرة بالأعمال وعلى

الله الاتكال.

_________

ص: 436

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عيد الجلوس الهمايوني [*]

في مثل هذا اليوم (19 و31 أغستوس) من سنة 1293هـ الموافقة سنة

1876 م بويع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأعظم على جميع العثمانيين

السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان (نصره الله تعالى وأيده)

بالخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، وهو يوم يحتفل فيه العثمانيون على اختلاف

مِلَلهم ونِحَلهم، والمسلمون على اختلاف أقطارهم وحكوماتهم، ويظهرون فيه

الابتهاج والسرور، ويزينون المعاهد والقصور، ويهنئ بعضهم بعضًا بهذا الموسم

الحميد، ولقد طفق المصريون يستعدون للاحتفال وإقامة معالم الزينة من أول شهر

أغستوس، والجرائد العثمانية - وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء - تحدو بهممهم،

وتحرك من نفوسهم الأريحية العثمانية والمكارم العربية.

تجول في شوارع القاهرة وأسواقها، فتسمع فوقك في كل بقعة حفيفًا كحفيف

الأجنحة الخافقة، وما هو إلا خفقان الرايات الحمر ذات الأهلة والنجوم البيض التي

تمثل لك سماء من الياقوت، كواكبها من الماس واللؤلؤ، أو تخيل لك النيل يجري

من فوق الرءوس وقد عم فيضانه حتى رؤي ماؤه الأحمر مزينًا بزبده الأبيض في كل

جو، كما روي منه كل قاع. وإذا أصخت بسمعك لخفقان الراي (جمع راية)

والأعلام سمعتها تتناجى مع أرواح النسيم بأن ارتباط مصر بالدولة العلية كارتباط

الروح بالجسد، وأن كل ذرة من ذرات مصر تنجذب إلى العثمانية بطبيعتها، وكل

نفس منفوسة في مصر تخضع لجلالة السلطان الأعظم بطوعها وإرادتها.

قال قائل: إن الاحتلال الإنكليزي أنمى محبة الحضرة السلطانية في قلوب

المصريين، وفسره بما يبعد عن الصواب، ونحن نقول: إن لم يكن الاحتلال أنمى

ذلك الحب فقد أيقظه ونبهه، وإن لم يكن أوجد الرابطة العثمانية فقد أحكمها وقوَّاها؛

لأن السلطان أذن للإنكليز في احتلال مصر وإصلاحها، كما زعم الزاعم، بل لأن

استبداد الإنكليز في البلاد وتهديدهم استقلالها وإفسادهم معارفها واستيلاءهم على

سفنها ومراكبها وأراضيها وأموالها، كل ذلك نبه المصريين إلى رحمة حكامهم

الأتراك، وعرفهم أن من وجد في الأتراك إخوانهم من حاكم ظالم، فإن ظلمه ناشئ

عن جهله، لا عن إرادة الدولة العلية بمجموعها -سلطانها وحكامها- لهم السوء،

على أن مصر جزء من أجزاء السلطنة، وعضو طبيعي من أعضائها، تربطها بها

رابطة الجنس والدين، فلو أن الحضرة السلطانية أو أي حاكم عثماني اختص نفسه

بشيء من مصر لكان ذلك في نظر المصريين كانتقال الخاتم من أصبع إلى أصبع،

أما أخذ الإنكليز له فهو إضاعة وفقد لا يرجى عوضه. هذا ما نبه المصريين على شدة

التعلق بأذيال الدولة العلية، والإخلاص في الحب للذات الشاهانية، مقتدين في ذلك

بخديويهم عزيز مصر عباس حلمي باشا، الأمين المخلص لسلطانه، والخليفة عليه.

وستقام في مساء هذا النهار (ليلة الخميس) الزينة الكبرى في حديقة الأزبكية

وقد استعدت الجمعية المصرية المؤلفة برياسة سعادة حسن بك مدكور التاجر

الشهير لهذه الزينة أتم الاستعداد، وقد صدرت أوراق الدعوة لحضور الاحتفال

ببيتين كل شطر منهما تاريخ للسنة الهجرية الحاضرة وهما:

أعز الإله خليفتنا

متين التجاريب عبد الحميد

78 67

1172 500 647 76 93

ــ

ــ

... 1316

...

... 1316

وأبلغه في دوام المنى

سعود المفاخر في كل عيد

1044 90 51 131

140 952 90 50 84

ــ

ــ

...

1316

...

... 1316

أما الزينات الخاصة التي تقام في القاهرة وفي سائر مدن القطر، فهي لا تدخل

تحت الإحصاء، فإنك لا تكاد تجد بيتًا من بيوت الوجهاء، ولا إدارة جريدة من

الجرائد العثمانية، ونخص بالذكر إدارة جريدتي المؤيد والفلاح الغراوين، وإدارة

هذه الجريدة (المنار) ولا مكتبًا من مكاتب المحامين إلا وترى الأعلام خافقة في

رحابه، والمصابيح تتألق على جدرانه وأبوابه، وبالجملة أن القلم ليعجز عن

إعطاء هذه المظاهر الاحتفالية حقها من الوصف، ولا سيما إذا أراد أن يصف ما

تمنحه من الشعور العام بمعنى الوطنية، وما تحكمه من روابط الجامعة العثمانية،

لكننا أشرنا للإجمال وندع التفصيل للجرائد اليومية. وإننا نرفع على أعمدة الجريدة

هذه القصيدة لأعتاب مقام الخلافة العظمى، ومقر السلطنة الكبرى، مسترحمين من

مكارم مولانا إتحافها بالقبول وهي:

يوم الجلوس على العرش الحميدي

أجلُّ عيد على الدنيا سياسي

ذاك الجلوس قيام بالأمانة أو

نوم مع الأمن أو نيل الأماني

قيام راعٍ يبيت الليل منتبهًا

كيما ينام قريرًا كل مرعي

قيامه بشؤون الملك تابعة

حكم الخلافة في الدين الحنيفي

عبد الحميد وذو الرأي الرشيد بنا

وخير هادٍ ومأمون ومهدي

مقرونة طاعة الباري بطاعته

كما قرأناه في النص القرآني

ذو همة تحسب الأفلاك أنجمها

دارت على محور منها مجازي

إذا خبا البرق في الآفاق أومض في

أفكاره بين إيجاب وسلبي

يعارض البرق منهلاً ومنسجمًا

بعارض من نداه حافل الري

بين المحيا وكفيه مناسبة

كالبدر والبحر في الجذب الطبيعي

تقلد الملك والأخطار مهطعة

من كل صوب كأعناق البخاتي

فاستَّل صارم عزم من إضاءته

تنصلت صبغة الخطب الدجوجي

فلم يدع هام خطب غير منفلق

ولم يذر عنق كرب غير مفري

وشاد للدولة العظمى دعائمها

من دنيوي به تسمو وديني

شكت له البؤس والضرا فأتحفها

بمعنوي من النعمى وصوري

وبث روح الترقي في عناصرها

من عسكري ومالي وعلمي

وكف عنها زحوف الطامعين

وقد كانت تهدد منهم بالآلافي

مآثر كهتون المزن هامية

تواترت بين مروي ومرئي

قد طوقت كرة الدنيا مناطقها

منها بنور ولكن غير شمسي

بالكَمِّ والكيف تأبى الاشتراك بها

بالرغم عن هذيان الاشتراكي

تعزى إلى شخصه السامي فلست ترى

سوى حميدية اسم أو حميدي

يا خادم الحرمين الأشرفين ويا

رب النفوذين حسي وروحي

وحاملاً راية السلم الشريف وميـ

ـزان السياسة للقطر الأوروبي

يخشى خلافك بل يرجى حلافك من

ملوكه كل مرجو ومخشي

يهنيك عيد به عاد السرور

على كل الرعية من عرب وتركي

وعش لأمثاله بالله معتصمًا

مؤيدًا منه بالنصر الإلهي

وإننا نختم القول بأبيات ذات تاريخ، قدمها لنا حضرة الأستاذ الشهير الشيخ

سليمان العبد من علماء الجامع الأزهر الشريف وهي:

عيد الجلوس مبشر

بالنصر والفتح المبين

وسعوده تزهو بسعـ

ـدك يا أمير المؤمنين

وتقلدت مصر بطا

لع يمنه عقدًا ثمين

وتيمنت ببهائه

واستبشرت بالمخلصين

وأضاء في أرجائها

فزهت وضاء بها الجبين

في كل عيد تجتلي

صفو الهناء مع البنين

ونراك خير خليفة

تحمي البلاد من المهين

ونرى الرعايا في صفا

في ظل عدلك آمنين

ونرى لملكك عزة

ونراك في عز متين

ونراك يقظان العيو

ن على صلاح المسلمين

ونراك في سعد السعو

د وأنت أرقى الظافرين

ونراك تحفظ حوزة الـ

إسلام فينا كل حين

ونراك فياض العطا

كرمًا لكل الطالبين

ونراك بسامًا لدى

بذل الندى للسائلين

ونراك وثابًا على

محق البغاة المارقين

ونرى سهامك والموا

ضي في نحور المعتدين

وعلى دياجي المشكلا

ت بنور وجهك تستعين

ومن الحوادث والكوا

رث دمت في حصن حصين

واسلم فما في الأمر من

خلل إذا كنت الأمين

واسعد فما في الملك من

عوج إذا كنت المعين

واهنأ بعيد جلوسك الزا

هي على مر السنين

أرخته في بيت شعـ

ـر فائق الدر الثمين

عيد الجلوس كمال بشـ

ـر يا أمير المؤمنين

1316

_________

(*) فاتحة العدد الرابع والعشرين، الصادر في 12 ربيع الثاني سنة 1316.

ص: 441

الكاتب: محمد رشيد رضا

]‌

‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

ورد علينا رقيم من مصر بإمضاء (أحد مشتركي المنار) ينتقد صاحبه علينا

ويخطئنا في أمور هو فيها مخطئ، وأغلاط الرقيم اللفظية تحاكي أغلاطه المعنوية،

ولذلك أضربنا عن نشره ونكتفي بذكر المسائل التي أنكرها وبيان الحق فيها فنقول:

(المسألة الأولى) : قولنا في العدد الرابع: إن أكثر العلماء ذهبوا إلى

عدم انتفاع الأموات بقراءة القرآن من الأحياء. زعم صاحب الرقيم أن الأكثرين

ذهبوا إلى الانتفاع والإثابة. دلالتنا ما صرح به العلامة المحدث الشمس محمد بن

علي العسقلاني أحد شيوخ الحافظ ابن حجر في رسالته (القول بالإحسان العميم) وقد

لخصها الزبيدي في شرح الإحياء، فليراجع صاحب الرقيم الصفحة 369 من الجزء

العاشر من ذلك الشرح إن لم يكن له وصول للرسالة.

(المسألة الثانية) : قولنا في العدد الماضي: إن الرخصة في زيارة

القبور إنما هي لأجل التذكر والاعتبار، ولذلك كانت عامة لزيارة قبر المسلم

والكافر، والصالح والفاسق. ولقد أنكر صاحب الرقيم هذا القول أشد الإنكار، وأتى

بكلمات تنبئ عن دعوى مع جهل وقلة اطلاع، حيث قال: (ومن الغريب الذي

تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع الذي ما سمعنا به ولا من قبلنا ولا أحد نطق به أو

قال بطلبه، زيارة قبور الكفرة والفساق، سوى حضرتك، مع أن المروي والمتلقى

هو طلب الإسراع بالمشي عند المرور صوب قبورهم، فكيف هذا مع مدعاكم

بطلب زيارتهم، فهل عندكم لهذا دليل من كتاب أو سنة أو عن سلف صالح؟) .

اهـ.

نقول بعد الاستعاذة بالله من افتئات الجهلاء على الدين وأهله: إن هذه المسألة

منصوص عليها في شروح البخاري ومسلم، وفي كثير من كتب الفقه والتصوف،

ولنذكر بعض النقول في ذلك من الصفحة 361 من الجزء العاشر من شرح الإحياء:

قال الشارح في الكلام على حديث (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها

تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرًا) : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أذن

النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي، وعلله بأنها تذكر الموت والدار

الآخرة، وأذن إذنًا عامًّا في زيارة قبر المسلم والكافر، والسبب الذي ورد عليه لفظ

الخبر يوجب دخول الكافر، والعلة موجودة في ذلك كله إلخ. ثم نقل عن شرح

المناوي للجامع الصغير: أن هذه الزيارة يستوي فيها سائر القبور، ولا يخص قبر

دون قبر، قال: قال السبكي: متى كانت الزيارة بهذا القصد لا يشرع فيها قصد قبر

بعينه، ولا تشد الرحال لها، وعليه يحمل ما في شرح مسلم من منع شد الرحال

لزيارة القبور، وكذا بقصد التبرك إلا للأنبياء فقط. اهـ

(فليعتبر الذين يشدون الرحال لزيارة قبور الشيوخ) . قال: وقال بعضهم:

استُدل به على حِل زيارة القبور، هب الزائر ذكرًا أم أنثى، والمزور مسلمًا أم

كافرًا، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي (مقابل قول

الجمهور) : لا يجوز زيارة قبر الكافر. وهو غلط اهـ.

وبهذا القدر مقنع لمن يطلب الحق، وجزم الإمام النووي بغلط صاحب الحاوي

في مخالفة الجمهور هو مساوٍ للقول بأن المسألة لا خلاف فيها، فليعتبر صاحب

الرقيم.

(المسألة الثالثة) : تخطئتنا للذين يستغيثون بالأموات ويستعينون بهم على

قضاء حاجهم في معاشهم وسائر شؤونهم الدنيوية، وقد خبط صاحب الرقيم في هذه

المسألة خبط عشواء في مدلهمة ظلماء، وزعم أنها من أصول الدين، وأن الأحاديث

في الطلب من الموتى مستفيضة ومجمع عليها، ونُقول السلف فيها كثيرة، مع أن

السلف ما سمعوا بهذا الضلال، ولم يرد فيه إلا حديث واحد مكذوب موضوع لعن

الله واضعه (وستعلمه) وعجبت كيف لم يورده صاحب الرقيم وقد أورد ما هو أبعد

منه في الدلالة على المقصود، كحكاية الشهيد الذي قاتل ثم نام فإذا هو ميت، فعلموا

أنه قام من بين الأموات من باب الكرامة وحياة الشهداء.

ونحن نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، والاعتقاد لا يؤخذ من

الحكايات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا من أقوال الشيوخ وأفهامهم، وإن

سماهم صاحب الرقيم أو أصحاب المطابع الذين يطبعون كتبهم (أئمة) كما سمى

الشيخ داود البغدادي إمامًا لأنه اقتدى به في قوله: إن الأموات يتصرفون في قبورهم.

فلنضرب بالحكايات وأقوال الشيخ التي استنبطتها أفكارهم أو أوهامهم عرض الحائط،

ولنتكلم على الآيات القرآنية التي أوردها واشتبه عليه معناها، كما اشتبه على كثير

من المحرفين أو المخرفين، فإن القرآن هو الإمام الحق الذي لا يضل من اتبعه.

أما هذه الآيات فهي قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ

أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) وقوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5)

ولقد وفى مسألتنا حقها في تفسير الآية الأولى العلامة الآلوسي المحقق في تفسيره

روح المعاني، وإننا ننقل زبد كلامه وعيونه في ذلك.

قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ

الْوَسِيلَة} (المائدة: 35) : هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز

وجل، من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرب إليه بشيء.

ثم قال ما نصه:

واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين

وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال:

اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو الميت من

عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى لي ليرزقني كذا وكذا. ويزعمون

أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون - وهم كاذبون - عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) أو فاستغيثوا بأهل القبور.

وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة

بمخلوق وجعله وسيلة - بمعنى طلب الدعاء منه - لا شك في جوازه إن كان المطلوب

منه حيًّا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول،

فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في

العمرة: (لا تنسَنَا يا أخي من دعائك) . وأما إذا كان المطلوب منه ميتًا أو غائبًا فلا

يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف.

ثم ذكر الدعاء للأموات وقال: (ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله

تعالى عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئًا، بل قد صح

عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرًا:

السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم

ينصرف ولا يزيد على ذلك، ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم

أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله تعالى عنهما - شيئًا، وهم أكرم من

ضمته البسيطة، وأرفع قدرًا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة) .

ثم ذكر الدعاء في ذلك المحل، وأنه لم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند

الدعاء، ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يُستقبل، بل ويُستدبر، وأن

المعول عليه استقبال القبر وقت السلام، واستقبال القبلة وقت الدعاء.

ثم قال: (فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على

الحقيقة صلى الله تعالى عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه

الصلاة والسلام، ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة

العباد) .

ثم ذكر مسألة القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، وذكر أن ابن عبد السلام

أجازه في النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه نقل عن أحمد مثل ذلك، وأن

(من الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه) قال:

(وهو الذي يَرشَح به كلام المجد بن تيمية، ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله

تعالى عنه وأبى يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام) .

وأطال في البحث وذكر فيه مسألة استسقاء الصحابة بالعباس، وأن معنى

التوسل به طلب الدعاء منه، ولذلك دعا وأمنوا على دعائه، ثم قال: والناس قد

أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه - عز شأنه - بمن ليس في

العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون

من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة، وتيسير كل

عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور إلخ، وهو حديث مفترى

على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من

العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى - صلى الله تعالى

عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك. فكيف يتصور منه - عليه

الصلاة والسلام - الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها، سبحانك هذا بهتان عظيم،

وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة

المسجون بالمسجون، ومن كلام السَّجَّاد رضي الله تعالى عنه: إن طلب المحتاج

من المحتاج سفه في رأيه، وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام: وبك

المستغاث. وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا

سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) الخبر. وقال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .

ثم ذكر أنه لا يرى بأسًا بالتوسل بجاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -

وحرمته اللذين هما من فضل الله تعالى ورحمته عليه، وكذلك القسم، فكأن المتوسل

توسل وأقسم على الله بصفة من صفاته، قال: إذ معناه: اللهم اجعل رحمتك وسيلة

في فعل كذا، ثم صرح بقوله: (ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت،

نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم،

ولعلَّ ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم

قريبو عهد بالتوسل بالأصنام - شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين) .

ومن العجيب أنه مع هذا قال: لا بأس بالتوسل بجاه غير النبي - صلى الله

تعالى عليه وسلم - إن كان المتوسَّل بجاهه مما عُلم أن له جاهًا عند الله تعالى

كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يُتوسَّل بجاهه، لما

فيه من الحكم الضمني على الله - تعالى - بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي

ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى.

وفي هذه الإجازة انتقادات:

الأول: خروجها عن سنة سلف الأمة، وفي الحديث الصحيح: (فعليكم

بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات

الأمور، فإن ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .

الثاني: أن الولاية ظنية فلا يقطع بها لأحد إلا بنص من الشارع، وأين النص

إلا ما ورد من بشارة بعض الصحابة بالجنة.

الثالث: أنه يخشى من عموم الجهل في هذه الأيام ما لم يكن يخشى في زمن

نزول الوحي وبيان الحق من الباطل، والتمسك بالتوحيد على أكمل وجهه، وإنه يعلم

كما يعلم كل مختبر أن النزغات الوثنية عادت إلى الناس من جراء ذلك، ولا منكِر ولا

مرشِد.

الرابع: أن التوسل بالمعنى الذي ذكره لا يعقله إلا عالم فقيه في دينه، وإنه

لتأويل حسن لمن يفهمه؛ لأن تفسيره التوسل بقوله: (معناه: اللهم اجعل رحمتك

وسيلة في فعل كذا) هو كقولك: اللهم اشملني برحمتك التي رحمت بها فلانًا

وأعطني من فضلك الذي أعطيته، ولقد ختم هذا الفاضل البحث بجملة صالحة

وإننا ننقلها بنصها زيادة في البيان وهي:

(البقية بعدُ)

((يتبع بمقال تالٍ))

...

...

...

...

_________

(*)(غافر: 14) .

ص: 447

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي في موضوع المنار

ورد لنا هذا الرقيم الحكيم من بعض الفضلاء في دار السعادة فعهدنا بترجمته

لبعض البلغاء العارفين باللغتين العربية والتركية فترجمه بتصرف ونشرناه مع

ترجمته لما فيه من الفائدة والتنبيه وهو:

فضائلمند أفندم:

بويكتا، بوبي همتا جريدة كز ايجون رأيمي صوريور سكز، نه ديه يم! آنك

شاننده نه ديسه م ازدر: لسانم قاصر قلمم عاجز أولمسه كو كلمك اسيتديكني

سويلردم. فقط تفاخر وياتمدح ده أولى شوني ديه جكم: بنده كز سويلديكم على

الخصوص يا زدينم هرسوزي إعمال فكر ونظر دن صكره سويلر يازارم (أول

انديشه وانكهي كفتار) بنديني هنوز كوجوك ايكن آلمشدم. بودرس حكمتي نصل

دستور عمل اتخاذ ايتمه يه يم كه (إنسان هرسويلد يكني بيلمه لي فقط هربيلد يكنى

سويلمه ملي) در. اولكي مكتوبمده جريدة كزدن كناية (أوقدر بكندم كه ملكمزده

هنوز مثلي نشرا ولنمديغنه حكم ايتدم) ديمشدم بوسوزم نه برفلتة لسان نه زلة قلمدر،

برامعان برتأمل بر انتقاد نتيجة سيدركه كلمة حق قدر طوغريدر. سز منهج

مستقيمكز ده دوام ايتدكجة بن ده حكمده ثبات ايدرم. سزدن شوني رجا ايدرم كه

يازد قلر كزي فهم سقيم بلا سيله معوكسا تلقي اييتسه لرده فتور كترميكز. عزم

وحزمكزدوجاروهن وخلل أولمسون. حق انكار أولنور ابطال أولنه ماز. قره

بلوطلر كونشي أورتر فقط كيز له يه مز. شبيره متأذي أولورديه كونش ضياسني

نشر ايتمسونمي؟ جاهللر يا كلش اكلارديه طوغري سوز سويلنمسونمي؟ سز دائمًا

حقه اتكال وانكله اشتغال ايديكز. جاحدلر البته دوجار نكال اولور.

(منارك) أوغرا مقده اولد يغي صدماتدن بن سزدن أول خبر اليورم

وسزدن زيادة متأثر أوليورم. بونكله متسلى أوله لم كه بيك أوج يوز بوقدر سته

أول ده منكرين كلام الله بويله يا بمشلردي. كنديسني احيا ايدني افنايه جاليشمق،

خير وشرايله حق وباطل بينني آييره ما مق جاهللرك اك اجينة جق حاللر ندندر.

سزاقد سحر آفرين فصاحت أو اعجاز نماي بلاغت أو ناطق حق وحكمت أوتربيه

أموز امت أولان قلمكزي الكزدن براقميكزهمان يا زيكز. بزي منهاج رشاد وسهراه

سداد سوق يجون مشعل كش هدايت أو لكز. أو كمزده وادئى ويل قدر مخوف

وخطرناك ورطة لر واردر دوشمة يه لم. بزده نه بصرنه بصيرت قالمشدر. يا

زيكزكه انسا تلغمزي اكلايه لم. ترقي وكمالمزه جاليشه لم. هر قاريش طوبراغي

اجداد مزدن برقاج شهيدك قاني بدلي أولان وطنمزدشمنك حرص وطمعندن نعمل

محافظة أو لنور أوكره نه لم. دشمنه عرض افتقار مذلتندن قور تلمق نه ايله ميسر

أو لور بيله لم. نصل برجهل وغفلت ايجنده بولند يغمزي فهم ايده لم. بلكه كندي

مزدن اوتانبرز ونفسمزه خصو صيلة اخلافمزاوله جق اولا دمزه اجيرزد، بر

آزكوزمزي آجارزبلكه (فرق فاحكم) سياستتك نتيجة سيئة سي أو لمق اوزره عدد

مجموعمز قدر متفرق اولان افرادملتمر له اتحاد أو لمق وجوبني تقدير ايدرز باقي

عرض سلام واحترام ايله ختم كلام ايلرم.

***

التعريب

سيدي صاحب الفضائل:

رغبتم إلي في إبداء رأيي بشأن صحيفتكم المنزهة في مشربها وأسلوبها عن

الكفء والنديد، وأحببتم بأن أتناولها بشيء من النقد، وآخذ عليها الطريق ببيان

سقاطها، والتبحث في عثرتها، يارب ماذا أقول؟ مهما أغرقت في نعتها وغلوت

في تبيين مزيتها أكن مضجعًا منقطعًا دون الحقيقة، لو أن لي قوة غير النطق

والكتابة أعبر بها عما يحوك في نفسي من وصف مناركم؟ فإن لساني قاصر وقلمي

حصير كليل، وأيم الله إن في مناركم من حر الكلام وبليغ المعنى وثاقب الرأي ونافذ

البصيرة وخالص النصح ورائع الحكمة وواسع العلم، ما لا يحسن واصف وصفه،

ولا طاقة له بتحديده، إني محدثك ببعض خلائقي وإن عُدَّ مني تمدحًا وتبجحًا، لا

أخط حرفًا ولا أنبس بكلمة ما لم أعمق النظر وأجيل قداح الفكر فيما أكتب أو أقول،

ولقد ألقي في نفسي منذ الحداثة كلمة نصح لم تزل تشملني بركتها إلى الآن، وهي:

(فكر أولاً ثم تكلم) وما أذكر أني سمعت أحسن من قول بعض الحكماء: (ليعلم

المرء كل ما يقول، ولا يقولن كل ما يعلم) وقد اتخذت هذا الذي أُسيِّر به قلمي

قانونًا أعرض عليه جميع أقوالي.

كنت أتيت على وصف المنار في مكتوبي السابق بقولي (ذهب بي الإعجاب

إلى أنه خير ما نشر في بلادنا من الصحف إلى الآن) أجل والله، إن كلمتي هذه

ليست فلتة لسان ولا زلة قلم، بل هي نتيجة الروية وبنت الإمعان، وإن شئت قلت:

توازي كلمة التوحيد في الصحة والصدق، اللهم غفرًا، وأرى أن ثباتكم على هذه

الشاكلة المثلى، ومواصلتكم السير في هذا اللقم القاصد، يضطرني للِّجاج في حكمي

والتصميم على رأيي، ومما أتقدم إليكم بالنصيحة فيه أن لا يلحقكم يأس وقنوط ولا

يرهقن همتكم فتور أو كلال، من أناس مُنوا بضعف المدارك وسفه العقول، فغدوا

يحرفون كلامكم، ويفهمون منه ما لا تريدون، ويحملونه على عكس ما تقصدون،

فويل لهم مما يأفكون، بل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون. الحق يُنكر ولا يُبطَل، السحب

السوداء تستر قرص الشمس ولا تخفى آياتها (شعاعها) تَأَذي الخفاش من ضوء

الشمس هل يمنعها من نثر نضار أشعتها على العالم، ألفة الجهلة لخطأ القول هل

يصرفنا عن النطق بصوابه؟ لا أرى إلا أن تعمدوا أنتم إلى نصرة الحق، وتعكفوا

على خدمته وإعلاء كلمته، ثم تعرضوا عن أغمار القوم وشذاذهم، فإن مصيرهم إلى

زاوية الخزي وهاوية الخذلان.

سيدي: وجمت جدًّا لما يصادفه مناركم من العقبات، وساءني أمره أكثر مما

ساءكم ونما إليّ خبره قبل أن تخبروني، فلنتحصن من زحوف الملمات بمعاقل

الصبر والثبات، ولنبدد جيوش الأسى بالأسي (ج أسوة) بكلام الله الذي قاومه

الجاحدون منذ ألف وثلاثمائة سنة، وحاولوا إطفاء نوره، وأبى الله إلا أن تكون

العاقبة للمتقين، وارحمتاه للجهلة الأغبياء؛ يجتهدون في إماتة ما يحييهم

ويحرصون على إطفاء نورهم الذي يسعى بين أيديهم، لا يفرقون بين الخير والشر،

ولا يفاضلون بين الحق والباطل، ألا ساء ما يفعلون. أليس فعلهم هذا مما يبعث

الأسف والرقة لحالهم، ويثير الحذر والإشفاق على مستقبل هيئة اجتماعهم؟

لا يلفتنكم ما يعرض لكم من العقبات عن الجد في أمركم والسعي وراء

مقصدكم، ولا يجرمنكم ويحملنكم جهل الجاهلين على نبذ القرطاس والقلم، وإنزال

آية الحجاب على ما عندكم من مخدَّرات الحقائق والحكم، دعوا قلمكم وهو خالق

سحر الفصاحة، ومظهر إعجاز البلاغة، والناطق بالحق والحكمة، المعلم تربية

الأمة، يعرج بالأمة إلى مستوى العزة والفخر، ويريها الجادة، ويحذرها ملتويات

الأمور. احملوا أمامنا نبراس الهداية، لنرى سبيل الرشاد، ونسلك نهج السداد، فلا

نقع فيما نُصب في طريقنا من المخاتل، ونتردى فيما أعد لنا من العواثير والمهاوي

التي تضارع وادي الويل الجهنمي. كلَّتْ والله منا البصائر، بل والأبصار.

فاكتبوا لنفهم أننا لم نزل بعد في أفق الإنسانية، لنجِدَّ في بلوغ مراتب المدنية

والكمال الاجتماعي. لنتعلم كيف نحسن الذود عن حوضنا، والذب عن حقيقتنا،

والدفاع عن وطننا الذي شرينا كل شبر من صعيده بدم عدة شهداء من أفراطنا

(أجدادنا) ونعرف كيف ننتاشه من مخالب الأعداء التي ضريت بتمزيقه وتكالبت

على نهشه، لنعلم كيف يتسنى لنا التلُّفت من حبائل الذلة والاستخذاء للعدو،

والتفصي من أثر الحاجة والافتقار إليه. لنكون على بينة من تلك الغفلة التي أظلنا

ركامها، وذلك الجهل الذي نحن في غيابته.

استنهضوا الهمم الخامدة، ونبهوا الأفكار الجامدة، لعلنا نخجل من أنفسنا

ونتبصر في أن لها حقوقًا لا ينبغي إهمالها، فنرثي لحالها، ونفكها من أغلال

الأخلاق والملكات الفاسدة، ومقاطر العادات والتقاليد الخبيثة، ثم نتدرج في التدبر

والحزم فنضع على إحدى عينينا نظارة معظمة، وعلى الأخرى نظارة مقربة،

ونستشرف بهما عماء المستقبل، فنمهد لأعقابنا وأنسالنا فيه مستقرًّا ومتاعًا إلى حين،

ونبوئهم فيه ما نأمن معه على حفظ استقلالهم وجامعتهم، وصيانة دينهم ووطنهم،

لعلنا نتدبر عاقبة التفرق والتشعب، والتخاذل والتواكل، فتسمو هممنا لجمع الأقوام

المتفرقة، وضم الأهواء المتمزقة، ألم يأنِ لأبناء الملة الواحدة أن يقدروا وجوب

الاتحاد والالتحام قدره؟ ألم يأن لهم أن يتفلتوا من شرك هذه السياسة المضرة،

سياسة (فرِّق تَسُدْ) التي مكنت يد العدو من نواصيهم؟ ونير حكمه في رقابهم؟

هل في قدرة غير الله أن يحول هذا البدد إلى لبد، وأن يديل الاتحاد والانضمام من

التصدع والانقسام. وأختم كلامي بعرض سلامي واحترامي.

(المنار)

إن مثل والي بيروت هو الذي يحمل مثل هذا الفاضل من العثمانيين

الصادقين في حب دولتهم المخلصين لسلطانهم على التأفف والتضجر وإطلاق القول

في الانتقاد. قرأ صاحب هذا الرقيم في المنار المقالات الكثيرة التي حضضنا فيها

على اتفاق العثمانيين على الأعمال النافعة التي ترقي أوطانهم، وحذرنا فيها من

الإصغاء لوسوسة الأجانب والأعداء الذين أوضعوا خلال الديار يبغون الفتنة وفيها

سماعون لهم، ورأى أن هذا المنهج لم يرض والي بيروت ومراقبي الجرائد فيها

فسعوا بمنع المنار، ولذلك أشار بقوله:(سياسة فرِّق تَحْكُمْ) وهذه السياسة

الخرقاء يتهم الأعداء فيها الدولة العلية بجريرة بعض الولاة الخائنين الذين يحبون

التفريق لمنافعهم الخاصة، وكفاك بمن ألقى الخلاف والنزاع بين طوائف النصارى

في بيروت، فتحيز لبعضهم وأعرض عن بعض، ولولا أن لرؤسائهم من العقل ما

أمسك بحجزاتهم لوقعت الفتنة وفاض طوفانها على المسلمين والإفرنج، وتداخلت

الدول الأوروبية وكان ما لا تحمد مغبته. ينهي والي بيروت عطوفتلو رشيد بك

بمنع المنار؛ لأننا لم نسر فيه مسراه في (تقويم وقائع) أيام كان يكتب فيها ما كان

جزاؤه عليه من الحضرة السلطانية: الغضب والحرمان من خدمة الحكومة خمس

سنين. إذا كان يدعي أن ما ينشره المنار - وما هو إلا الحث على الاتفاق تحت

لواء الدولة والتربية والتعليم- مضر، فلم لم يرشدنا إلى النافع عندما طلبنا ذلك منه

كتابة غير مرة! هل من العذر اتباعه في ذلك بشارة مراقب الجرائد العربية الذي

طُرد من المكتب الإعدادي طردًا لما لا حاجة لذكره، وخرج جاهلاً لم يتعلم غير

السعي في إيذاء الناس وأكل أموالهم بالباطل! أليس هو الذي سافر في خدمة محمد

أفندي سلطان مصر وأنشأ الأفندي المذكور جريدة (الرياض المصرية) فجاء خادمه

عبد الرحمن الحوت لسوريا، وجمع من بلادنا قيم الاشتراك في الجريدة سلفًا

وأستأثر بها دون صاحب الجريدة، فعطلت لذلك الجريدة وضاعت الأموال على

أربابها، حيث التقمها الحوت وهو مليم؟ هل يعذر الوالي في إناطة مراقبة الجرائد

والكتب التي ترد إلى الولاية بمثل هذا الجاهل الخائن، ليتحكم في العلم والدين بما

تربى عليه، ويكون سببًا في الطعن بالدولة العلية، ونسبتها إلى حب الجهل والفتن

وبُغض العلم والوفاق بين رعاياها؟! إن كان هذا عذرًا فهو كما يقولون (عذر أقبح

من ذنب) أو هو أعظم ذنب.

إنما كتبنا هذه النبذة مع أن مشربنا عدم الكلام في الشخصيات؛ لأجل تبرئة

الدولة العلية مما يرمي إليه رقيم فاضل الآستانة، وبيان أن سياسة الجهالة والتفريق

التي يجري عليها بعض الولاة وأذنابهم لا ترضي سيدنا ومولانا أمير المؤمنين،

وهو بريء منهم ومنها، وهؤلاء الخائنون يوجد مثلهم في كل مملكة، فنسأل الله

تعالى أن يظهر مولانا السلطان الأعظم على أعمالهم المضرة ويوفقه لاصطلامهم،

وتطهير المملكة من خبائث أحكامهم، والله ولي التوفيق.

_________

ص: 453

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نصيحة في معالجة فضيحة

البغايا على قسمين: مسافحات، وهن اللواتي يجاهرن بالفاحشة، ولهن في

مدن القطر المصري مواخير رسمية يتخذنها بمعرفة الحكومة التي تكشف عليهن

أطباؤها الكشف الطبي، وتعطيهن براءات تعلن سلامتهن من الأمراض المُعدية،

وتأخذ منهن رسومًا مالية، كما هو الشأن في مدن أوروبا.

وذوات أخدان، وهن اللائي يزنين سرًّا ولهن أخدان (زبونات) مخصوصون،

وكان العرب يسمونهن: (ذوات الأخدان) ويكنى عنهن في البلاد المصرية

لهاته الأيام: (بصواحب البيوت السرية) . وقد عزمت خيرًا الحكومة المصرية أن

تنقل مواخير المسافحات رسميًّا من داخل المدن وتجمعها من أحشائها إلى بقعة

مخصوصة من كل بلد، وقد أحصت أخيرًا هذه المواخير في الإسكندرية فكانت 82

ماخورًا، قالت جريدة البصير:(أي عبارة عن بلدة صغيرة من بلاد القطر)

وزادت عليها جريدة السلام بقولها: (لو أضيف إليها المحلات المستترة لكانت بلدة

كبيرة تقتضي مأمور مركز أو قائمقام) .

ونحن نقول: إن صواحب البيوت السرية يكدن يكن من المسافحات؛ لأنهن

إنما يبالغن بالاستتار من الحكومة هربًا من الكشف الطبي، ومن أداء المفروض

على أمثالهن من المسافحات، ولابد في كل بلد من وجود ذوات أخدان يتحامين حتى

البيوت السرية ويستترن وأخدانهن من كل أحد، فإذا ضممنا هؤلاء وهن لا يحصين

إلا بالخَرْص والحدس إلى أولئك اللواتي قدرن بأهالي بلدة كبيرة - تجلّى لنا مقدار

ضرر حرية الفحش وإهمال التربية الدينية التي هي الدواء الوحيد لهذا الداء المبيد،

وعلمنا أننا في حاجة - أي حاجة - لاستبدال المدارس الوطنية بهذه المواخير

الجهرية والسرية، وهيهات أن يقاومها مثلها عددًا والشر أغلب، والفحش أرغب،

فالتربيةَ الدينيةَ التربيةَ الدينيةَ، عالجوا بها داء البلاد قبل استحكامه، وانتاشوا بها

الوطن من مخالب حِمامه، فالفسق مدعاة الخراب والدمار، وما للظالمين من أنصار.

_________

ص: 461

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌سجايا العلماء [*]

العلماء والحكماء من مجموع الأمة بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من

الإنسان، فصلاح حال العلماء والحكام يُصلح حال الأمة، وفساد حالهما مُفسد لحال

الأمة بأسرها، فإذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها

من الرذائل فاشية في أمة فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى

علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس، ولا يصدنك عن الجزم بهذا

الحكم المؤرخون الكاذبون والشعراء الغاوون، الذين يرفعون هياكل الإطراء،

وينصبون تماثيل المدح والثناء لكل رئيس من أولئك الرؤساء، بما ينشئونه من

الجرائد، وما ينظمونه من القصائد، ولا تعول في الاحتجاج والاستدلال، إلا على

الآثار والأعمال، فهي التي تشرح الحقائق وتترجم عن السجايا والخلائب، من غير

كذب ولا محاباة وبلا مصانعة ولا مداجاة.

خذ بيد عقلك هذا الميزان وطف به جميع عالم الإنسان، يظهرك على ما في

الضمائر ويطلعك على مخبآت السرائر، ويبين لك الراجح من المرجوح والعادل من

المجروح، بشرط أن تقيم الوزن بالقسط ولا تخسر الميزان ولا تطغى فيه، كما أشار

إلى ذلك الفرقان الحكيم.

إذا التزمت الشرط فلا ريب أنك لا تقيم وزنًا لكثير ممن يزعم الدهماء أنهم

يوازنون الجبال، ويرجحون في الفضل والكمال، وربما رجح في قسطاسك

المستقيم من يَنقِصه وزنه أكثر الأقران والأقتال.

قلنا: لا يعول في الاستدلال على حال الإنسان إلا على أعماله؛ لأن الأعمال

تنشأ عن الأخلاق والملكات الاعتقادية والأدبية، ولا أخالك تذهل عن كون الكلام من

جملة الأعمال اللسانية، ودلالته مقبولة فيما نحن بصدده، من حيث كونه مظهرًا

لمعلومات المتكلم، ومَجلًى لأخلاقة وآدابه، لا من حيث مدلول الألفاظ في المدح

والذم، فإن هذا هو الذي لا يعول عليه، إلا بعد تطبيقه على ما في الخارج وشهادة

الأعمال والآثار له.

من علامات علماء السوء الذين يفسدون آداب العامة وأخلاقهم ويزعزعون

اعتقادتهم وأديانهم، الانتصار لأنفسهم الخبيثة وحظوظهم وأهوائهم الباطلة،

بعنوان الانتصار للدين والغيرة على الحق، فيذمون من يحسدون وينالون من دينه

وعرضه قولاً أو كتابة، بحيث يوهم أحدهم سامعه أو الناظر في كتابته أنه ينتصر

للدين ويبين الحق من الباطل، وينقسم هؤلاء إلى أقسام: منهم من لا يذم إلا ما يراه

باطلاً ومن يعتقد صدور الباطل منه، ومن أدلة كذبه في دعواه إذا لم يذم إلا الباطل،

حقيقة كونه يأتي بهذه المذمة غيبة، ولا ينصح من جاء بالباطل بينه وبينه، وكونه

يحب أن تشيع الفاحشة وينتشر الباطل، حيث لم يسعَ بمنعه من قِبل من جاء به،

وكونه يمدح صاحب الباطل في وجهه ويعظمه بدلاً من نصيحته وتقريعه، وكونه ينكر

ما نسب له أمام مذمومه أو بعض ذويه سيما إذا كان المذموم ذا مكانة عالية ومنزلة

سامية، وكونه يدفن الحسنات ويعلن السيئات، إلى غير ذلك مما لا يخفى على ذوي

البصائر، ومنهم من يريه حسده وهواه الحق باطلاً، والصحيح فاسدًا، ويكفيك

عمى بصيرته دليلاً على كذبه في دعواه الانتصار للحق أو الغيرة على الدين، ومنهم

الذين يقولون كذبًا ويخلقون إفكًا، لا يكتفون بإخفاء المحاسن والمناقب وإبداء

المساوى والمثالب، بل يتذقحون ويتجرمون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون

(أنه كذب){أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) ومن علاماتهم أنهم لا يكادون يعترفون بخطأ، بل يؤولون لأنفسهم

ولمن يوافق قوله أهواءهم، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه والخروج باللغة عن

أساليبها، كما يفعلون للغميزة والإزراء بمن يحسدونه، ومن لا يطابق قوله أغراضهم

وأهوائهم، وأن لباب الحق كما علمت.

من علامات علماء الآخرة وأنصار الحق الذين يهتدى بهديهم، وتصلح أحوال

الأمم بالاقتداء بعملهم، أنهم إذا رأوا معروفًا وخيرًا من أحد إخوانهم يذيعونه،

وينوهون به ويثنون على صاحبه بما هو أهله، وإذا رأوا سوءًا وأمرًا منكرًا

يسترونه وينصحون فاعله، من غير أن يشعروا أحدًا آخر به، فإن أصر على

منكره عامدًا متعمدًا، وكان المنكر مما يتعدى ضرره، حذروا منه من يُخشى عليه

منه، سواء كان في غيبة صاحب المنكر أم في مشهده، ومن علاماتهم أنهم يقبلون

النصيحة من أي ناصح، ويقابلون عليها بالثناء والشكر، ويرجعون عن الخطأ متى

علموا به، ضالتهم الحكمة ينشدونها حيث وجدوا، ويأخذونها حيث وجدت.

كل من نظر في كلامنا هذا يعلم بما أعطيناه من الفرقان أن علماء الحق أمسوا

أندر من الكبريت الأحمر، وأن علماء السوء أعمّ وأكثر، ولا يغتر بالعمائم المكورة

والأردان المكبرة والأذيال المجررة، وإن كانت محل غرور الأكثرين والعنوان

عندهم على العلم والدين، وإذا تنبه لعدم الاغترار بالمظاهر، وعول على الاستدلال

بالأعمال والمآثر، وأحب معرفة سيرة بعض رجال العلم والدين، بما أشرنا إليه من

السلطان المبين، فإننا نقص عليه خبر رجلين منهما، مع الإشارة إلى ضدهما فنقول:

ألف حكيم الأمة الأستاذ الفاضل، والعلامة الكامل الشيخ محمد عبده (رسالة

التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في الإسلام، فطفق بعض علماء السوء يوسوسون إلى

أوليائهم ويوحون إلى تلامذتهم وأصحابهم أن هذه الرسالة فيها نزغة اعتزالية،

وبعضهم تهور فقال: إن فيها إنكار الوحدانية، وهذا في غيبة المؤلف، وفي مشهده

يثنون عليها أطيب الثناء، ويطرونه عليها أشد الإطراء، ومنهم من قيد ذلك الثناء

والشكر بالكتابة، وهؤلاء كما علمت من الذين يجعلون الحق باطلاً والحالي عاطلاً،

حسدا أو عمى بصيرة.

وقد كشفنا بهتانهم من غير أن نعرف أعيانهم في مقالة مخصوصة نشرناها في

العدد 12 من جريدتنا.

هل أتاك حديث علماء الآخرة وأنصار الحق، وما كان من شأنهم تلقاء (رسالة

التوحيد) قرأ الرسالة العلامة المحدث الذي انتهت إليه رئاسة علوم اللغة والحديث في

هذه الديار، لا سيما علم الرواية للحديث الشريف ولأشعار العرب والمخضرمين،

ألا وهو الأستاذ الفاضل الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، فتوقف في بعض

حروف وفي بعض مواضيع منها، فولى وجهه شطر بيت الأستاذ المؤلف،

حتى إذا ما جاءه طلب منه أن يقرأ الرسالة معه، فقرآها في يومين وتذاكرا فيما توقف

فيه، فأزال له الأستاذ المؤلف بعض ما أشكل عليه، واعترف له بالإصابة في بعض

ما انتقده، وانتهى الأمر بشكر كل منهما للآخر. ومن حسن أخلاق الأستاذ المؤلف

واعترافه بالحق وشكره عليه: أنه قص هذه القصة على تلامذته في الجامع الأزهر،

وأثنى لهم على أخلاق الأستاذ الشنقيطي وعلمه ودينه، وقال: هذه هي مزايا

العلماء. أما الانتقاد الذي اعترف المؤلف فيه للمنتقد بالإصابة فهو نحو قوله:

(دعيت للتدريس) وكان ينبغي أن يقول: (دعيت إلى تدريس) فسبق القلم. هذا

من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فمسألة البحث في خلق القرآن، انتقد

الشنقيطي بأن فيها مخالفة لما التزمه المؤلف من سلوكه في العقائد مسلك السلف،

قال: والسلف لم يبحثوا في هذه المسألة، فاعترف له المؤلف بذلك وقال: إنني

خالفت في هذه المسألة بخصوصها الشرط لأهميتها واشتباه كثير من الناس فيها.

لم يكتف الأستاذ الشنقيطي بالشكر للمؤلف في مشهده وعلى سمعه على هذا

الأثر الجليل، بل قرظه بقصيدة غراء ذات حكم ونصائح، وجاء الرواق العباسي

في الجامع الأزهر الشريف، ولما حشر العلماء والطلاب لسماع درس الأستاذ

المؤلف استأذن منه بقراءة القصيدة عليهم، وصعد كرسي الدرس وافتتح الكلام

بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على خير الأنام، وأنشد القصيدة والناس

مصيخون، والأستاذ المؤلف بينهم وهي:

ألا إن خير الناس من كان قصده

لنفع الورى أو كان في الضر زهده

لقد مات دين الله وانحل عقده

فأحياه بالذكرى (محمد عبده)

فذكر من يخشى بذا الدين وحده

ومن كان لا يخشى وبالله أيده

ونشر للإسلام من بعد طيه

لواء على الأعلام يخفق بنده

ونوه بالإسلام تنويه ماجد

بتنويهه بالدين يزداد مجده

وجدد للآنام توحيد ربهم

براهينه المهداة إذ طال عهده

براهين عقل ثم نقل مبينة

حباهم بها عفوًا وما جد جده

وسار بها سير المجد نصيحة

لطالب دين الله فاشتد عقده

ولم يستعن في ذا الرئيس وجنده

ولكن جنود الله والعلم جنده

ولم يستعن أهل الإدارة كلهم

ولا بعضهم فالله منه ممده

ولم يستعن بالأزهريين إنهم

إذا استقدحوا زندًا ورى قبل زنده

ولم يتخذ حكم المحاكم عُدة

ولكن حكم الدين قسطًا يعده

ولم يعتبر في حسن تأليفه الرضي

تقاريظ من في الجهل لم يدر حده

ولم يسترق تأليف أستاذه الذي

به لاح برق العلم يحدوه رعده

وخير كلام المرء ما زان نفسه

بصدق حديث ليس يمكن رده

وشر مقال الحر ما شان ربه

ببهتان قول لا يحاول جحده

فلازم دليل العقل والنقل صادعًا

بأمر إله الخلق يلزمك رشده

ولا تعدون عيناك عنه فإنه

إلى الله هذا الخلق طرًا مرده

ولا تسلكن سبل الضلالة سادرًا

ففيها نرى المخذول يمتد كده

وإياك والتقليد في الجهل إنه

بناء لدى النحرير يسهل هده

وجادل بسلطان مبين أولي النهي

به كل من ماراك قهرًا ترده

ودع عنك تقوال الحسود وبغيه

ففي نار غيظ الحقد يشويه حقده

ودع عنك بهتان الجهول وغيه

فإخوانه في الغي كل يمده

فعاموا كعوم الحوت في بحر جهلهم

وفي بحر طغواهم وقد طم مده

فإن تعددن ما حرفوه وصحفوا

لجهلهم بالعلم يتعبك عده

أراك نصرت الدين بالحق حسبة

إليها الفتى المقدام يشتد شده

وننصر مولانا ونعلم أنه

هو الله فقر العبد منه ووجده

وينصرنا المولى ويصدق وعده

وأصدق وعد النصر لا شك وعده

فدونك نصحًا مخلصًا واعلم أنه

هو الدين نصح يا (محمد عبده)

واحمد رب الناس سرًّا وجهرة

على كل حال يلزم الناس حمده

_________

(*) فاتحة العدد الخامس والعشرين الصادر في يوم الثلاثاء 19 ربيع الثاني سنة 1316.

ص: 462

الكاتب: محمد رشيد رضا

]‌

‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

(تابع ما قبله)

(إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء، الأحياء منهم

والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في

شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده

أناس من العلماء شركًا، وأن لا يُكِنُّه فهو قريب منه، ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك

إلا وهو يعتقد أن المدعو - الحي الغائب أو الميت المغيب - يعلم الغيب أو يسمع

النداء، ويقدِر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح

فاه. وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم. فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من

الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد.

ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي -

صلى الله تعالى عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله تعالى

عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من هذا المنافق،

فجاءوا إليه فقال: (إنه لا يُستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى) لم يشك في أن

الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن

الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن

إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول

ارتكابه. ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تُقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك

ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث

به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله

وأغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام

إلخ) . اهـ.

أقول: إن شياطين الأوهام والخيالات كافية لخداعهم بكل ما ذكر، ويوجد مثل

ذلك عند جميع الأمم والملل، ومَن قرأ التاريخ وكتب الأديان رأى من أمثال

الحكايات التي يتناقلها هؤلاء عن شيوخهم شيئًا كثيرًا، ولو روعيت في نقلها شروط

رواية الحديث لم يكد يثبت منها شيء. هذا وإن ما أورده هذا المفسر الواسع

الاطلاع في الآية مغنٍ عن البحث في غيرها.

وأما قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) فمعناها كما عليه جماهير المفسرين: أن أولئك الآلهة الذين

يدعونهم - أي يعبدونهم أو ينادونهم لكشف الضر عنهم - يبتغون إلى ربهم الوسيلة

أيهم أقرب، أي القربة بالطاعة والعبادة، وأيهم أقرب معناه: من هو أقرب منهم

يطلب الوسيلة إلى الله تعالى، كسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام فكيف بالأبعد.

وجوز الحوفي والزجاج: أن (أيهم أقرب) في محل نصب (يبتغون) والمعنى:

يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به، أي بدعائه لا بذاته، كما قال المحقق الآلوسي،

وهذا التجويز إنما هو من حيث وجوه الإعراب، لا أنه متبادر من اللفظ أو مأثور

عن السلف فيحتج به، لا سيما في الاعتقاد، ومع ذلك فقد تعقبه في (البحر) بأن في

إضمار الفعل المعلق نظرًا، قال: ومع هذا هو وجه غير ظاهر. وصاحب الرقيم قد

حرف الكلم عن مواضعه، وتعدى على كتاب الله، وافترى على رسوله وعلى

السلف الصالح، حيث قال ما نصه: (أمر الله تعالى بابتغاء الوسيلة، وفسرها

تعالى في الآية الآخرى، أعني قوله: يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به إلى الله تعالى،

وهو عام سواء كان التوسل بدعائه أو بشفاعته أو بجاهه أو بكرامته أو بذاته في حياته

وبعد مماته، ولكلٍّ شاهد من الكتاب وصحيح الأخبار والآثار عن السلف الصالح) .

اهـ.

نعوذ بالله من الجرأة على الله ورسوله، والتلاعب في الدين بمحض الهوى.

إذا كان عند هذا الجاهل المنحرف آيات قرآنية وأحاديث صحيحة على

التوسل بذوات الأموات والأحياء تشهد لما أخذه من وجه الإعراب الضعيف المردود

الذي اتخذه عقيدة فما باله لم يأتِ بها؟ !

وأما قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5) فقد قال بعضهم: يحتمل

أن تكون المدبرات: الأرواح بعد انفصالها من الجسد، وفسروه بأن الإنسان قد يرى

أباه في المنام فيرشده إلى شيء مفيد أو يرى شيخه فيحل له مسألة عويصة،

ومثل هذا واقع استشهدوا له بما ينقل عن جالينوس أنه مرض فرأى في المنام

من أرشده إلى علاج فتناوله في اليقظة فبرئ من مرضه.

وقد اعترف المفسرون بأن هذا الاحتمال لم يرد في خبر نبوي ولا أثر سلفي،

وأوردوه بصيغة الضعف، فهل يصح أن نمده مد الأديم، ونضيف إليه الإضافات،

ونلحق به الملحقات التي انتحلتها الأوهام والخيالات، ونجعل ذلك كله عقيدة دينية

ونقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} (الزخرف: 22){وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف

: 28) حاش لله! لا تؤخذ العقائد من الاحتمالات، ولا يُستدل عليها بالأحلام

والمنامات.

هذا ما يحتمله المقام من الكلام على الآيات. وأما الأحاديث فليس في الباب إلا

حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، وهو حجة على صاحب

الرقيم ومَن على رأيه ومذهبه من وجهين:

(الأول) : قول عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم،

وإننا لنتوسل بعم نبينا فاسقنا، فهو دليل على أن المراد بالتوسل طلب الدعاء من

الحي، كما نقلنا ذلك في تفسير الآلوسي، ولو صح التوسل بالذات لما عدل عمر

عن التوسل بالنبي - وذاته الشريفة موجودة - إلى التوسل بعمه العباس، على أن

وقائع الأحوال يعروها الاحتمال، فيكسوها ثوب الإجمال، فيسقط بها الاستدلال،

كما قال الأصوليون، وذلك بالنسبة للأحكام التي يكتفى فيها بالأدلة الظنية، فما بالك

بالعقائد التي تبنى على البراهين اليقينية.

(الثاني) : قول العباس رضي الله تعالى عنه في دعائه على ما في رواية

الزبير بن بكار: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) إلخ، وهو

نص صريح في أن كشف البلاء لا يكون إلا بتوبة من خلاف الشريعة الإلهية الذي

أوجب البلاء والرجوع إلى العمل بها، والنفي يشمل التوسط الذي ما أنزل الله به من

سلطان، ولو شئنا لنأتين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنفي الوسائط

الشركية والشفاعات الوثنية، وإن كادت تكون غير محصية، لكن من لا يقنعه

القليل لا يقنعه الكثير، والمدار على التربية العملية والتعليم.

هذا وإن سابق كلامنا ولاحقه لم يُبنَ على إنكار الكرامات، ولا على نفي

شفاعة الأصفياء في الآخرة، وصرحنا بأن زيارة قبور الصالحين فيها من الفائدة

والاعتبار ما ليس في زيارة سائر القبور، وهو الذي عبر عنه الغزالي بالبركة،

وقد فسرناها تفسيرًا معقولاً في العدد (22) وأن هذه الفائدة أو البركة إنما تحصل

لأهل القلوب المتفقهة والعزائم الصادقة، ولكن كثيرًا من الناس لا تطمئن قلوبهم

بالتوحيد الخالص لله تعالى، وإنما يلوكونه بألسنتهم، ولا تنشرح صدورهم لأن

يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، ولذا اتبعوا سنن من قبلهم حتى في النزغات

الوثنية وتحريف الكلم عن مواضعه، فضلوا كثيرًا وأضلوا عن سواء السبيل،

ومحوا مزايا الإسلام وخصائصه، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، إنا لله

وإنا إليه راجعون.

_________

(*)(غافر: 14) .

ص: 468

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العقيدة الإسلامية

(كتاب يحتوي على ذكر شهادات علماء أوروبا وأشهر كتابها بفضل الدين

الإسلامي في نشر المدنية وارتقاء العمران، مع بيان الأساسات الجوهرية التي بني

عليها الدين المبين، وتطبيقها على القواعد العقلية والأصول الفلسفية) .

هذا عنوان كتاب ألفه بالإنكليزية الشيخ عبد الله كويلبام، شيخ المسلمين

ورئيسهم في ليفربول من بلاد الإنكليز، وقد عربه الفاضل محمد أفندي ضيا

المصري، وأهدانا نسخة منه تصفحناها فألفيناها جديرة بالمطالعة، ولكن عنوان

الكتاب أكبر منه، فإنه وإن بين الكثير من الأسس الجوهرية التي بني عليها هذا

الدين، لم يستوفها مع التطبيق الذي يشعر به العنوان، ومما يحسن ذكره في تقريظ

هذه العقيدة: أنها تتكلم عن الإسلام من الوجوه التي تستلفت نظر الأوروبيين وسائر

أبناء التمدن العصري إليه، من ذكر محاسنه وفوائده للنوع الإنساني، وتأثيره في

سوق من يأخذ به على حقه للمدنية الصحيحة، والجواب عن انتقاد متمدني العصر

على بعض أحكامه: كالطلاق وتعدد الزوجات، وبمثل هذا ينبغي أن يدعى إلى الدين

في هذه الأيام، لا بمثل كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم: كحواشي السنوسية

والجوهرة التي تبحث عن مزايا الدين وفوائده وتأثيره في سعادة أهله، بناءً على أن

هذا ليس من أصول العقائد، لكنها تذكر أن خوارق العادات تقع من كل صنف أو

على يد كل صنف من أصناف البشر، حتى الكفار والفساق وتسمى كل نوع من تلك

الأنواع باسم، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب الله ولا سنة رسوله وسيرة أصحابه

وسائر سلف الأمة الصالح، وإنما هو تقسيم لاح في ذهن بعض المؤلفين الذين لا

يؤخذ بقولهم في فروع الدين فضلاً عن أصوله وعقائده، التي اختُلف في صحة

إيمان المقلد فيها، ولو للأئمة المجتهدين.

ومما نقله في هذه العقيدة عن علماء أوروبا في وصف الإسلام، مسألة حقيقة

بأن يلتفت لها طلاب العلم، بل والعلماء المسلمون، وهي أن دين الإسلام سهل

قريب من الفهم يمكن لكل إنسان أن يتناوله من طرف الثمام مع التعقل والإذعان في

مدة قليلة جدًّا، وإنما أستلفت لهذه المسألة أهل العلم مع أنها لا نزاع فيها؛ لأن كتبهم

وتآليفهم التي يتداولونها اليوم قد جعلت السهل حزنًا والقريب بعيدًا، وصار تناول

الدين الذي كان يأخذه الأعراب من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مجلس واحد

يحتاج فيه إلى سنين طويلة، فعسى أن يضعوا لنا كتبًا سهلة العبارة، خالية من

الحشو والأبحاث الغريبة والمسائل المبنية على الفرض واحتمال الوقوع، لأجل

تعليم الناس الدين بها، فإن أكثر منتحلي علوم الدين - إن لم نقل كلهم - في عجز

عن إلقاء الدروس الدينية من غير كتب يقرءون بها، والكتب كما تعلم، فالحاجة إلى

غيرها شديدة، وما ينتقد به على هذه العقيدة أنها تنقل مسائل دينية عن علماء أوروبا

مخالفة لما عليه المسلمون، وتقر أصحابها عليها، مثل: الجزم بأن سيدنا إبراهيم

عليه الصلاة والسلام كان يعبد النجوم، كما يلوح لغير العالم بدين الإسلام من آيات

سورة الأنعام، ومثل: نقله عن بعض كتب التاريخ الإفرنجية أن النبي عليه الصلاة

والسلام كان شاعرًا، وعبارته المنقولة هي: وهكذا انتهت حياة الرجل الوحيد في

تاريخ العالم الذي جمع في آن واحد بين شاعر ونبي، ومتشرع ومؤسس لدين

ومملكة، ومثل: نقله أن أكثر القرآن منزل بالنثر المسجع، وليس كذلك، ومثل:

نقله عن بعضهم في القرآن أنه يثبت انقلاب هذه الأرض القاحلة على بغتة أرضًا طيبة

تجري من تحتها الأنهار، وهو ناجم عن عدم فهم القرآن. هذا ما سنح لنا الآن،

وربما نطالع العقيدة ثانية بدقة وإمعان، ونوفيها حقها في التقريظ والانتقاد، ونختم

الكلام بالثناء على حضرة المترجم، ونستلفته إلى العناية بتصحيح الترجمة في طبعة

ثانية، ونحث أبناء العربية على الإقبال على هذه العقيدة كما أقبل عليها أهل اللغات

الأجنبية.

_________

ص: 472

الكاتب: محمد رشيد رضا

مقتطفات الجرائد

(شاه العجم ومنظوماته)

إن لشاه العجم شغفًا شديدًا بنظم الشعر، وهو يعد نفسه من أشعر شعراء

مملكته، ففي ذات يوم طرق أذنه خبر وجود شاعر مجيد من مدينة طهران،

فاستقدمه على جناح السرعة إلى بلاطه، ودفع إليه منظوماته ليرى رأيه فيها ويعلمه

علم اليقين عنها، فلما طالعها ذلك الشيخ الشاعر التفت إلى الشاه بدون خشية وقال له

بحرِّية ضمير: إن قصائدك يا مولاي متباينة القوافي، وعارية عن المعاني، ولما

كان الشاه ينتظر من الشاعر تقريظها، وسمع منه بجرأة هذه العبارات أخذت منه

الحدة مأخذها، وكاد يتميز من الغيظ، فأمر حالاً بأن يساق الشاعر إلى الإسطبل

ويجلد، ونفذ على عجل أمره فيه، وبعد مضي مدة أيام استحضره الشاه إليه وكلمه

برقة وبشاشة عن الشعر والشعراء، فأخذ ذاك يتداول معه الحديث حتى اتصل بالشاه

أن يتلو عليه أبيات كان قد نظمها مؤخرًا، فما كاد الشاعر يسمع منها بيتين حتى

نهض حالاً من حضرته وسار متخذًا وجهة الإسطبل لا يلوي على شيء، فناداه

الشاه قائلاً له: إلى أين أنت متوجه؟ فأجابه الشيخ الشاعر بكلام متقطع وهو يهز

رأسه: إنني ذاهب يا مولاي إلى الإسطبل لأستعد للجلد ثانية، فما كاد يتم هذه

العبارة اللطيفة حتى استغرق الشاه في الضحك ثم عينه عضوًا في بلاطه.

***

(النساء في مملكة سيام)

كل فرد من المدرينيين في تلك الجهة يقتني من النساء من اثنتي عشرة إلى

ثلاثين امرأة بحسب قلة ثروته أو كثرتها، ولا يمتاز الشريف منهم إلا بكثرة عدد

حرمه وجمال هيئتهن.

ثم إن بين حرم الواحد منهم من تسمى: (كبرى) وهي التي يكون قد اقترن بها

بعد خطبة رسمية، أما الباقيات فيسمين:(صغريات) وكلهن تقريبًا يشترين بالمال،

فإن المدريني منهم يمكنه أن يشتري عدة نساء جميلات بسبعمائة أو بثمانمائة

فرنك بالأكثر، وإذا دفع ألف وخمسمائة فرنك يحصل على نساء يحاكين حور

الجنان، أما زوجته الكبرى التي أشرنا إليها فهي التي تشتري له بقية زوجاته بحسب

مطلوبه، وهي التي يلقي إليها أيضًا مقاليد رئاستهن، فتذهب بهن إلى التنزه وتكون

المقدَّمة عليهن في كل ما يتعلق بشؤون بيته، وبعد وفاته تكون وحدها وريثته،

ويكون ولدها خلفًا لأبيه، ولا يمكن بيعها ألبتة.

***

(الآلام العصبية والبيانو)

يزعم أحد علماء الفرنسويين أن أغلب الآلام العصبية التي تعتري السيدات

تنجم عن لعب البيانو.

***

(ميتة شنيعة)

نشرت جرائد بريكسول خبر ميتة شنيعة، وهو أن بعض العملة كانوا يتعاطون

المدام في إحدى الحانات، فمر بهم بائع سمك فاستوقفه أحدهم ليشتري منه، فرأى

بين السمك فرخ انقليس (حنكليس) حيًّا، فقبض عليه للحال، وخاطر رفاقه على

شرب كأس خمر على نفقتهم إذا قطع رأس ذلك الفرخ بأسنانه، فحالما فغر فاه

وأدنى الفرخ منه انتفض هذا من يده وانساب في حلقه إلى جوفه، وبعد مضي دقيقة

انتابت ذاك المسكين آلام شديدة في أمعائه، وملأ صراخه تلك الناحية، ومع كل

الوسائط التي أجريت له لم يلبث إلا بضع ساعات ومات مأسوفًا عليه.

...

...

...

...

... (لبنان)

***

(فتح أم درمان والقضاء على السودان)

لم تكد ترتفع الشمس في يوم الأحد الماضي إلى ربع السماء حتى فاجأتنا

أصوات المدافع من قلعة مصر، وأول ما خطر لنا من السبب في ذلك، فتح أم

درمان والنصر على السودان، وكان كذلك، فقد بعث سعادة كتشنر باشا سردار

الجيش المصري في صبيحة ذلك اليوم (الأحد) رسالة برقية رسمية إلى صاحب

السعادة فخري باشا، نائب القائم مقام الخديوي يؤذنه فيه باحتلال الجنود المصرية

المظفرة (أم درمان) فصدر أمره سريعًا بإطلاق واحد وعشرين مدفعً من القلعة إعلامًا

بالنصر، فأطلقت الساعة التاسعة صباحًا.

وأرسل سعادته رسالة برقية يبشر فيها سمو الخديوي المعظم ورسالة أخرى

لعطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار (وهما في أوروبا) .

كانت الملحمة الكبرى في صباح يوم الجمعة الماضي، وكان البادئ بالهجوم

التعايشي بدراويشه، ولقد جالدوا مجالدة الأبطال، لكنهم رأوا بأعينهم أنه لا قبل لهم

بالسردار وجنوده وما لديهم من المدافع والعدد الكاملة والأهب التامة، وما هم عليه من

التنظيم والشجاعة، فولوا الأدبار وأركنوا إلى الفرار، وكان التعايشي يقاتل في قلب

الجيش فتقهقر، ثم ولى وأدبر، فَكَرَّ رجاله على أثره، كما هو شأن الجيوش الغير

منظمة إذا قتل أو ولى رئيسها لا تقوم لها قائمة، اتباعًا لنظام الشطرنج، وهاك

تفصيل خبر الملحمة والفتح نقلاً عن الأخبار البرقية الواردة من مكاتب شركة روتر

(نقلاً عن المؤيد الأغر) .

كان أول من رأى العدو قادمًا هم طلائع السواري، حيث رأوا جيوش الأعداء

زاحفة كالسيل على بعد ثلاثة أو أربعة أميال، وهم بين راجل وفارس، رافعين

الأعلام، مترنمين بالأناشيد الحربية الحماسية. حينذاك اصطفت البيادة وعلى

يسارها الأورطة العشرون والأورطة الخامسة من الريفل والجاردس، وانضمنت

إليها أورطة مكسيم فيوزلرس الأيرلندية، وأورط وارويكس وكمرون وسيفورث

ولينكولن ورويال وتيلري، وأورطتا مكسويل ومكدونالند السودانيتان، ثم وضعت

المدافع على الجانبين، وأقيمت ألوية لويس وكولنسن وراء الجيش للحاجة.

وما جاءت الساعة 7 والدقيقة 20 حتى زحف العدو من المرتفعات جملة واحدة

وقبل ذلك أطلقت مدافعنا حيث كانت الساعة 6 والدقيقة 40 فجاوبتها بنادق

الدراويش، ثم حملوا حملة منكرة مندفعين من الأعالي على الجناح الأيسر، إلا أننا

أسرعنا وصوبت نحوهم البنادق من كل صوب وحدب، وانصبت عليهم النيران من

جميع الجهات، فاضطروا إلى الانسحاب نحو قلب الجيش ليحملوا حملة أخرى،

وكان فرسانهم يقابلون النيران بقوة ثبات، إلا أن أورط الكمرون واللينكولن

والسودانيين سحقوا العدو سحقًا، فتأخر وتقدمنا، وصارت بعد ذلك الأرض مغطاة

بجثث القتلى، ولا يمكننا أن نقدر خسائرنا تمامًا، ومهما وصف الكاتب شجاعة

الدرويش وحملتهم وثباتهم، فإنه لا يعد مبالغًا ولا متغاليًا، فإنك ترى حاملي

الأعلام منهم يجدون في الزحف وليس بيننا وبينهم سوى مائة ياردة.

أما الأمراء الممتطون صهوات الجياد، فكانوا يبذلون أرواحهم عن طيب

خاطر ثباتًا واستماتة.

وقد أوقف العدو إطلاق الرصاص هذه الساعة، وربما كان لغرض اجتماع

قوتهم لكي يحملوا حملة ثانية، ولذلك كان هذا اليوم يومًا مشهودًا، قتل فيه من

الدراويش ألف، وتقدمت فيه جيوشنا، حتى صارت على أبواب أم درمان، وإليك

ما عرفته لهذه الساعة من القتلى والجرحى: قتل الليفتنت غرنفل من الأورطة الثانية

عشرة اللانسرس، والكبتن كالديكوت من الوارويكس وجرح كثيرون.

(الجمعة مساءً)

زحفت الجنود وأخذت أم درمان وفر التعايشي وخلص نيوفلد.

جرح الكولونل رود (مكاتب التيمس) ولما تأخر الدراويش وراء التلال

أعطى السردار الأوامر لألوية لويس وكولنس بأخذ الحذر والتيقظ التام، وحاول

الدراويش الهجوم على الجناح الأيسر ولكنهم فشلوا في أمرهم ونكصوا على عقبهم،

وقد تقدمت قواتنا أورطة أورطة نحو أم درمان.

وبينما كانت الألوية الإنكليزية تسير على الجانب المكون لشكل هلال من النيل

(قرب أم درمان) وإذا بالدراويش قد هجموا على الجناح الأيمن من الجنود

المصرية التي كانت تسير من المعسكر، وقد تجمعت الدراويش وراء صخور

مرتفعة عالية تبعد نحو ميلين عن المعسكر، وساروا تحت لواء أسود للتعايشي

ليقاوموا ما استطاعوا، فكانت القوة المهاجمة للجنود المصرية مؤلفة من خمسة عشر

ألفًا من الأشداء الأقوياء، قد جعلوا قبلتهم الجناح الأيمن، فصدرت في الحال أوامر

السردار بتطويح الجناح الأيسر والقلب حول الأعداء، وتركت الأورطة الأولى من

برتيش بريجاد لنقل المهمات، بينما احتلت أورطة مكسويل السودانية (الاكت)

التي كان يجتمع عندها الدراويش، وانضمت بقية لواء مكدونالند لضرب النار.

في خلال عشر دقائق تمكنت جنودنا الباسلة من حصر قوة الدراويش (قبل تمكنها

من الرجوع إلى المنازل) تحت نيران ثلاثة ألوية وبعض مدافع للطوبجية.

ولطالما حاول الدراويش المخلصون أن يقاوموا مقاومة شديدة بكل شجاعة

وإقدام، ولكنهم كانوا يُسحقون سحقًا، ويرتدون على أعقابهم المرة بعد المرة، ومع

ذلك كانوا يرفعون أعلامهم بكل زهو وخُيَلاء ويموتون تحت ظلالها، ولا ريب أن

مثل هذه الأعمال أكثر ما يقدر على مقاومته الجسم البشري، إذ كلما مُحيت كتيبة

تقدمت أخرى، حتى فني أكثرهم وولى الباقون الفرار تاركين الأرض وراءهم

مغطاة بالجثث المتلحفة بالمفرقعات.

تلغراف آخر:

ناوشت الأورطة الحادية والعشرون اللانسرس بعض الأعداء، فوجدت كتيبة

من فرسان الأعداء مستترة، فصبت عليها رَصاص البنادق، حتى أوقفتها مكانها،

ولكن قتل من جنودنا ضابط وقتل أيضا 21 جنديًّا وجرح 20، هذا بينما كانت

الخيالة المصرية مشتبكة القتال طوال النهار مع فرسان البقارة الذين أخذوا مدفعًا بقي

معهم مدة من الزمان، ولكن جنودنا ردته ثانية بعد ذلك بهمة وإقدام غريبين.

وإن الإنسان ليأخذه الإعجاب والتأثر الزائد من شجاعة الدراويش وإقدامهم، فكلما

انفرط عقد اجتماعهم واضمحلت قوتهم تألبوا ثانية مقدمين للحرب حتى يقطعوا إربًا

إربًا، ولا يبقى لهم أثر ما، وترى الأمراء يقتحمون الأهوال ويدفعون بأنفسهم

للموت، تنشيطًا لأتباعهم حتى كاد بعضهم يصل صفوفنا قبل أن يحترق جسمه

بالرصاص المذاب المنصب عليه، وكم من جريح يعالج سكرات الموت يدير رأسه

ليطلق من بندقيته طلقة الوداع.

وعند الساعة 11 والدقيقة 15 أمر السردار بالزحف، فتقدمت القوة وطردت

من بقي من الأعداء أمامها في عرض الصحراء، بينما كان الفرسان يقطعون خط

رجعتهم عن أم درمان.

وعند الساعة 12 والدقيقة 15 دخلت الجنود جميعها أم درمان، تحت قيادة

السردار وراية التعايشي السوداء مرفوعة.

وأنا أكتب هذا في ضواحي هذه المدينة المضمحلة منتظرًا احتلال المدينة

بأجمعها هذا اليوم.

وتقدر خسائرنا تقريبا بنحو 200 نفر، وخسائر الدراويش بالألوف، وقد

انقرضت المهدوية بذلك انقراضًا لا تقوم لها بعده قائمة. اهـ.

وأنت ترى أن تهور هؤلاء الدراويش وغرورهم دفع بهم إلى مبارحة حصون

عاصمتهم (أم درمان) المنيعة والهجوم على الجيش الذي يفوقهم تنظيمًا واستعدادًا،

وهكذا إذا وقع القضاء عمي البصر.

_________

ص: 474

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مأثرة جليلة

نفتخر بالكرم الشرقي، ونخص القطر المصري بالنصيب الأوفر من هذا

الفخر، ولكننا إذا نظرنا في تواريخنا الحاضرة أو في جرائدنا التي تجعل الحبة قبة،

والحصاة جبلاً، لا نكاد نرى فيها نبأ عن آثار الكرم الحميد والسخاء الصحيح، وما ثم

إلا منافسة الإسراف والتبذير عند الولائم والوضائم، ونحوها من مجتمعات الحزن

والأفراح، اللهم إلا ما يكون أحيانًا قليلة من بعض رجال الفضيلة، ولقلة هؤلاء

سارت كلمة السموأل: (إن الكرام قليل) مثلاً.

أفضل الإنفاق ما كان في أفضل الأعمال، ولا أفضل من العلم، فالذين ينفقون

أموالهم ويبذلون كرائم مقتناهم لتعزيز العلوم والمعارف وتوسيع دوائرها، هم

فضلاء الكرماء وكرماء الفضلاء، وهم أقل القليل في كل قطر وجيل.

نقول هذا تمهيدًا لذكر المأثرة الجليلة والمكرمة الجميلة، التي يحق للتاريخ أن

يفتخر بها، وهي وقف السروات الأفاضل أبناء سليمان باشا أباظة (تغمده الله

برحمته) مكتبة والدهم الشهيرة على طلبة الأزهر الشريف.

هذه المكتبة تدخل في نيف وألفي مجلد، منها نحو ألف كتاب من نفائس الكتب

الخطية، ومنها ما هو بخط ابن مقلة وابن هلال الشهيرين، وغيرهما من مشاهير

قدماء النساخ، وفيها أكثر من مائة كتاب بخطوط مؤلفيها من العلماء السالفين، ولقد

أنفق سليمان باشا - رحمه الله تعالى - على جمع هذه الكتب الأموال الكثيرة؛ لأنه

كان من الأفاضل المغرمين بالعلوم، والمشغوفين بجمع كتبها النفيسة، وأحب أولاده

البررة أن تكون تذكرة له في أشهر معاهد العلم، وصدقة جارية ينتفع بها من بعده،

فعهدوا بتنفيذ ذلك لأخيهم الفاضل الكامل محمد بك أباظة، وهو أمضاه وأنفذه بمعرفة

وإرشاد العلامة المفضال الأستاذ الشيخ محمد عبده العضو العامل في إدارة الأزهر

الشريف، وقد جاء البك المشار إليه بتلك الكتب القيمة النفيسة إلى الأزهر الشريف في

(10 ربيع الآخر سنة 1316) فاستُقبل أحسن استقبال، وتلقاه الأستاذ الأكبر شيخ

الجامع الأزهر بالشكر والترحاب، وكتب له كتابًا يتضمن الثناء عليه وعلى إخوته

الكرام، والدعاء للمرحوم والدهم، ويعده بتخصيص خزانات للكتب (يكتب عليها ما

يفيد أنها كتب المرحوم سليمان باشا أباظة التي وقفها ورثته الأكرمون) .

ونحن نرفع أعلام الشكر والثناء في منارنا لآل أباظة السراة الكرام، ونرجو

أن يكونوا خير قدوة لأبناء الأمراء والأغنياء في الديار الذين أصبحوا على أمتهم

عارًا، وحملوا أنفسهم وأهليهم أوزارًا، وكانوا لأوطانهم خرابًا ودمارًا، أصلح الله

شؤوننا وشؤونهم بمنه وكرمه.

***

أنِسنا بلقاء حضرة الفاضل محمد أفندي مصطفى الدرملي الإسكندري وكيل

جريدة (معلومات) وقد أهدى إلينا أبيات مطرزة باسم (المنار) يقرظه بها،

فننشرها شاكرين له وممتنين من لطفه وهي:

اأنعِمْ بمَن أنشا وصاغ (منارا)

ببديع دُرٍّ قد زها وأنارا

ل لاحت معارفُهُ بنور فضائل

وبلاغة تدع الفهوم حيارى

م مالت عقول أُولي العقول له كما

عنه أخو الجهل انثنى وتوارى

ن نِعم المؤسس للمنار وحبذا

طرق لخير الناس فيها سارا

االله يمنحه (رضا) ويزيده

(رشدا) ونُجْحًا دائمًا ووقارا

ر رام الهدايةَ للأنام فمَن نحا

نهج الهدى فليتخذه منارا

_________

ص: 481

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعصب [*]

(1)

قد علمت أن التعصب هو عبارة عن القيام بالعصبية، وأن مناط العصبية في

اصطلاح هذا العصر هو: الجنس أو الدين، وأن الإفرنج ومن احتذى مثالهم من

أبناء المشرق حذو القذة للقذة يغرقون في مدح التعصب للجنس على إطلاقه،

ويعدونه المشكِّل للدول، والمقوِّم للأمم، ويفتخرون بالتغالي به والاستبسال في سبيله

ويرون أن الشرف الأعلى والكمال الأرفع في بذل النفس والنفيس في تقوية

الجنسية ونصب الأشراك والأحابيل لإيقاع سائر الشعوب فيها.

ويخصون التعصب للدين بالإزراء والازدراء والثلب والسب والطعن والقدح،

ويعدونه منبع الشرور، ومولد الفتن، وعدو المدنية، ومنار الحروب، ومقطع

الصلات بين الأمم، ويتقذرون الاتصاف به، ويتنصلون من الانتساب إليه، بل

استعملوا لفظه للسباب والشتيمة، ويزعمون أن صاحبه خابط في ظلمات الجهالة،

والتعصب غشاوة على عينه، أو حجاب كثيف يحول بينه وبين نور المعرفة، بل هو

أكمه، لا قابلية فيه لإدراك نور المدنية الصحيحة!

فليت شعري، هل يرى هؤلاء الدين المطلق هو منبع الشرور ومصدر

الرذائل، والعقبة الكؤود في طريق المعارف! وأن اللغة من حيث هي لغة مجمع

أزِمّة الفضائل، ومنبعث أشعة العلوم والعرفان! كيف وجلهم أو كلهم ينتسب للدين

تشرفًا به، ولو رمي بلقب الكفر تقوم قيامته ويتبرأ من هذا اللقب الشائن الذي رماه

به الشانئ، بل إن عقلاء الكفار من هؤلاء المتمدنين يعترفون بفضل الدين، وإن

كانوا لا يدينون به، ويشهدون أنه المهذب للنفوس، الرادع لها عن الشرور، وأنه

يَزَعُ ما لا يزع السلطان؛ لأنه مهيمن على النفوس لا يفارقها في حنادس الليالي،

ولا يزايلها وراء الحجب والأستار، حيث تنام أعين القضاة، ولا تصل أيدي

الشرطة والأعوان.

لا ترجع الأنفس عن غيها

ما لم يكن منها لها زاجر

فلم يبق من شبهة لمن يخص التعصب الديني بالمقت والذم، والجنسي

بالشرف والإطراء - إلا الغرض، وأنا أقص عليك غرض الأوروبيين منه، فاستمع

لما يتلى.

أنت تعلم أن المنفعة مدار كل عمل عند هؤلاء القوم. فأما انتفاعهم من

التعصب للجنس وتربية الأمة على حب جنسهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم، فهو

أنهم تمكنوا به من توحيد أممهم، وأمنوا من عواصف الثورات التي كانت تهب في

بلادهم كالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وهو الذي

نقاسي اليوم عناءه ونساور بلاءه، في أرمينيا وكريت وغيرهما من البلاد

العثمانية، التي فقد منها هذا التوحيد؛ لإهمال التربية على التحاب والتواد

والاعتصاب بالجنسية العثمانية الجامعة.

وأما انتفاعهم من التعصب الديني فهو أنهم شكلوا الجمعيات الدينية، وجعلوها

من آلات الفتوح، وأرسلوها إلى آسيا وإفريقيا أوزاعًا أوزاعًا (جماعات متفرقة)

تحت حماية دولهم، فعملت ما لا يعمل السيف، بل كانت تسير على أثرها الجواري

المنشآت في البحر كالأعلام، تحمل المدافع الفوهاء التي تدمر كل قطر ينظر فيه

لأحد المرسلين شزرًا، أو تستعمره استعمارًا.

انظر تاريخ أوروبا مع المشرق كله، وبين يديك الآن شاهد قريب وهو اندفاع

دول أوروبا الكبار على الصين، ومبدؤه احتلال ألمانيا لكياوتشاو بسبب قتل بعض

المرسلين، ولم يكتفوا بهذه المنافع والمغانم، بل هم ينفخون هذا الروح (التعصب)

في نصارى الشرق بواسطة جمعياتهم السرية والجهرية، ويربونهم عليه في

المدارس السياسية الدينية التي ينشئونها في بلادهم، يمثلون لهم لدى تعليم التاريخ

صورة ماضيهم مع بني وطنهم مشوهة، تنفر منها النفوس وتقشعر الجلود،

ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء، ثم يعدونهم بالحماية والنصر، ويمنونهم بالاستقلال

إذا هم شقوا عصا الطاعة، وخلعوا رداء السلطة. ذلك وعد غير مكذوب،

يجتهدون في الوفاء ما وجدوا للوفاء سبيلاً.

واعتبر ذلك في الفتن الأخيرة في بلاد الدولة العلية من عهد مقدمات الحرب

الروسية إلى عهد المسألة الأرمنية، والمسألة الكريدية، تَلْقَه واضحًا جليًّا.

ومما يقضي على العاقل بالعجب أن هذه الدول لا تتحاشى المجاهرة

بالانتصار للنصارى بعنوان حماية الديانة النصرانية.

ولو أن دولة أو إمارة إسلامية سألت عن حال المسلمين في مستعمرات تلك الدول

من حيث زراعتهم أو تجارتهم، فضلاً عن الانتصار لهم، لقامت عليها قيامة أوروبا،

وأجمع دولها على وجوب تأديبها؛ لأنها حركت سواكن التعصب الديني الذي يقوض

أساس العمران، بل لو انفجرت براكين العدوان في بلادهم، فأحرقت جميع أرباب

المذاهب لا تتحرك لهم عاطفة رحمة، ولا تجيش في صدورهم حمية، سواء كان

المحترقون بتلك النيران نصارى أم غير نصارى، اللهم إلا إن كانوا من جنسهم،

فالفرنساوي لا يحن في أوروبا إلا للفرنساوي، والإنكليزي لا ينظر إلا للإنكليزي،

وهلم جرا.

فالتعصب الديني عندهم محرم في الغرب واجب الشرق، اللهم أنه واجب كونه

مذمومًا لفظه لا فعله، وعلى اجتناء المنافع المدار، وهو المبدأ وإليه المآل.

وأما ما يثرثر به هذا النشء الجديد في الشرق من لفظ التعصب والمتعصب

في معرض الذم، فهو لفظ عن غير عقل ولا بصيرة، بل ليس إلا صدى ما يقوله

أولئك المختلِبون [1] ، يرجّعه هؤلاء المختلَبون، أو هو حكاية أصواتهم من غير

ملاحظة ما ترمي إليه، ألا تراهم يرددون كثيرًا لفظ (فناتيك فناتيك) أي تعصب

ديني.

يقول ما قالا له

كما تقول الببغا

إلا من انفصل من جنسيته الشرقية واتصل بهؤلاء الإفرنج، كما تنفصل

النيازك من كوكب فيجذبها إليه كوكب آخر تتصل به، وتكون جزءًا داخلاً في بنيته.

ومن تجرد من جلابيب الحظوظ والأغراض، وترفع عن التحزب للأديان

والأجناس، ونظر في الشؤون بعين الإنصاف، جاعلاً مطمح نظره الحقيقة - تجلى

له أنه لا فرق بين التعصب للجنس والتعصب للدين، إلا بما يكون به الأول أشرف

رابطة وأقدس مناطًا، وأن كلاًّ منهما فضيلة، إذا وقف عند حد الاعتدال، وأن

الغلو في كل منهما رذيلة تدعو إلى ايذاء المتعصب لمخالفه فيما قامت به العصبية،

وتحمله على التعدي وهضم الحقوق واختلاس المنافع.

والعقل المجرد عن الشوائب يحكم بقبح ومذمة التعدي والإيذاء لذاتهما، من

غير نظر إلى سببهما، ومن نظر في التاريخ يرى أن كلاًّ من هذين النوعين

للتعصب قد نشأ من الإفراط فيه منازعات وحروب أهريقت فيها الدماء، ويتمت

الأطفال، وأيمت النساء.

نعم إن للحروب وجهًا يرجع إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وليس هنا

مجال للبحث فيه.

يرمي الإفرنج والمتفرنجون المسلمين بالتعصب الديني الذميم، أي الإفراط فيه

المؤدي إلى إيذاء المخالف، وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا، تحملهم عليه

الأغراض السياسية، وهم يعلمون أنهم كاذبون، هذا الإفراط في التعصب لم يوجد

في ممالك المسلمين إلا بين أرباب المذاهب الإسلامية، كالمعتزلة والخوارج والشيعة

من أهل السنة، وأما بين أهل الأديان المختلفة فلم يكن له أثر، إلا ما لا تخلو عنه

طبيعة الوجود مما يكون مثله ببن أبناء المذهب الواحد، حتى أضرمت ناره أوروبا

بالحروب الصليبية، فاستضاءت هي بنورها، ورمي بشرر شرورها آخرون.

ومن يجهل التاريخ ينخدع بما يلغط به المذاعون من الإفرنج والمتفرنجين،

ويصدق جرائدهم فيما تزعم من براءة أوروبا من التعصب الديني، ويغتر بتلفيقهم

وتمويههم الحقائق وإبرازها في أثواب الزور المدبجة بألوان التمدن العصري، لكن

أسفار التاريخ على علاتها واختلافها تشهد على أوروبا بالتعصب المشوه منذ دخلت

في النصراينة إلى ما بعد الحرب الصليبية، وبالتعصب المموه في هذه القرون

الأخيرة. غض بصرك عن إبادة أسبانيا للمسلمين في بلاد الأندلس، وعن معاملتها

هي وروسيا لليهود الذين أجبروا على النصرانية، ومن لم يقبل كان جزاؤه القتل

أو الإجلاء عن وطنه، ومصادرته في ماله وعقاره، وارم بأشعة النظر إلى الأمتين

العظيمتين زعيمتي التمدن وناشرتي لواء الحرية والعدالة والمساواة

إنكلترا

وفرنسا، لم تكتف الواحدة منهما بتأليف الجمعيات لتنصير المسلمين وغيرهم، ولا

بغرس التعصب الذميم في نفوس تلامذة المدارس التي ينشئونها في البلاد الشرقية،

وعلى الأخص بلاد الدولة العلية، ولا إلقاء الدسائس والفتن بين النصارى والمسلمين

في البلاد التي قوي نفوذهم وتداخلهم فيها، لكثرة النصارى الآخذين عنهم

والمخالطين لهم، ولا بالتحامل على الدولة العلية والاجتهاد في سلخ بلادها التي يكثر

فيها المسيحيون، وإعطاء تلك البلاد الاستقلال عن الدولة أو إلحاقها بحكومة مسيحية،

بل لا يزال روح التعصب الذميم محركًا لألسنتهم، ومالكًا أزمة عامتهم وخاصتهم،

وناهيك بعظيم إنكلترا وفقيدها المستر غلادستون وخطبه ضد الإسلام، وكلمته

الأولى في وجوب إعدام القرآن، وكلمته الآخرة في وجوب تطهير أوروبا من

المسلمين، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.

ودونك كلمة أخرى من عظماء الإنكليز عُبر بها عن قاعدة من قواعد السياسة

التي يجب على أوروبا العمل بها، وهي كلمة اللورد سالسبري في وجوب إعادة ما

أخذه الهلال من الصليب للصليب دون العكس، كبرت كلمة هو قائلها، وعليه

وزرها ووزر من عمل بها، ولا تنس معاملة البريطانيين لمسلمي ليفربول،

ورجمهم بالأحجار في مصلاهم، بله معاملتهم للهنود وغيرهم من البعداء عن أرض

التمدن والحرية، بل لا تنس تعصبهم على كاثوليك أرلنده وعدم مساواتهم

بالبورتستان!!

واذكر ما نقله (المقطم) من عهد غير بعيد عن الفرنساويين واستنكافهم من

السفر مع المسلمين في حوامل (عربات) السكك الحديدية في تونس والجزائر،

ولديك الآن في فرنسا مسألة دريفوس التي أقامت الأمة الفرنسوية وأقعدتها، فتألب

حكامها ومحكوموها على اليهود جميعهم بجريرة أسندت إلى بعضهم كذبًا وبهتانًا

وتعصبًا ذميمًا، ومن وقف على دخائل هذه المسألة ودقائقها يتعجب من غلواء

الفرنساويين وطيشهم وتعصبهم الأعمى، ويحكم بأن التهذيب لا يمكن أن يلابس

النفوس إلا بالدين السماوي من غير غلو فيه ولا تفريط ولا إفراط، وهو ما فقده

الأوروبيون في الجملة والفرنسويون في الجملة والتفصيل.

قال قائل: إن ظل الديانة قد تقلص عن فرنسا وعن عامة أوروبا، وإن

الحكومة الفرنسوية صرحت رسميًّا بأنه لا دين لها، فكيف تغلو في التعصب للدين

وهي ليست على دين؟

ونحن نقول: صدق القائل فيما حكاه عن فرنسا وسائر أوروبا، ويؤيد قوله

هذا ما نقل عن كثير من العارفين بأحوال أوروبا: كالخطيب لوازون الفرنسوي في

خطبته في الأوبرا الخديوية بمصر وغيره، وجاء في مجلة المقتطف الغراء عن

الدكتور يعقوب أفندي صروف أحد منشئيها أنه دخل إحدى كنائس باريس متفرجًا،

فرأى فيها جماعة -ولم يكن يوم أحد- فقال: ما أراكم إلا متدينين يا أهل باريس،

فقال له الدليل وهو فرنسوي: لا تغرنك الظواهر، لكن التعصب على المخالف في

الدين لا يستلزم تمسك المتعصب بالدين حقيقة، وإنما يكفي فيه الانتماء له ولو اسمًا،

فكيف إذا انضم إلى ذلك جعله عاملاً من عوامل السياسة، وأداة من أقطع أدواتها،

وتأيد بالوراثة الطبيعية عن الآباء والأجداد، والغرائز والسجايا المورثة لا تنزع

وتمحى آثارها بمجرد اعتقاد بطلان مناشئها وقبح مصادرها ومواردها.

قال القائل: إن تحامل الدول الأوروبية على الدولة ناجم عن محض المطامع

السياسية، أو خدمة الإنسانية بإزالة الظلم وإصلاح البلاد، وليس للتحمس الديني فيه

يد، ولولا أن جميع حركات أوروبا وسكناتها صادرة عن منازع السياسة دون منازع

الديانة لما حارب بعضهن بعضًا، ولما وازرن الدولة العلية في حرب القرم، بل

وفي الحرب اليونانية الأخيرة؟

والجواب عن هذا في غاية الظهور: أما كون المطامع السياسية هي المالكة

لإرادة دول أوروبا والمصرّفة لها، فهو مما لا ريب فيه، إلا أن هذه المطامع لما

أوجبت معاملة الدولة العلية معاملة لا تنطبق على معاملة بعضهن لبعض، وكان من

المشاهد أنهن يكلن لها في السلم والحرب بغير المكيال الذي يكلن فيه لأنفسهن في

السلم والحرب، حتى إنهن يسلبن من بلادها في الحالتين على السواء - علمنا أن

المطامع السياسية الأوروبية مشوبة بالتعصب الديني الذميم تلقاء الدولة العلية، بل

أقول: إن للنزغات الدينية أثرًا عظيمًا في السياسة الأوروبية العامة، تشهد لذلك

علاقات الشعوب البلقانية مع روسيا، وعلاقة أيرلندا مع فرنسا، ومن أقوى شواهده

ما كان للحرب الأميركية الأسبانية من الأثر المختلف عند أُمَّتَيْ: الحرية إنكلترا

وفرنسا، فقد كان ضلع الأولى مع الأولى، والثانية مع الثاينة، ولا ينكر أن لاتفاق

المذهب واختلافه يداً في ذلك، وإن كابر المكابرون وموه المموهون.

نعم، إن الجنسية والوطنية في تنازع دائم مع الدين عند الأمم الغربية، حتى

إن الكاثوليكي الأميركي قد يحارب أخاه الأسباني، إلا أنهم لم يصلوا في ذلك إلى

محو سلطة الدين والمذهب على النفوس بسلطة الوطنية والجنسية.

وأما دعوى خدمة الإنسانية والسعي في إزالة الظلم وإصلاح البلاد، فهي خداع

وتغرير للعقول، أليس في بلاد بعضهن وفي مستعمرات جميعهن من الظلم ما يجب

إزالته أو لا؟ لمَ لم تتعرض الدول الأوروبية لإغائة أهالي كوبا، كما تعرضن لإغاثة

أهالي كريت، مع أن ظلم أسبانيا لكوبا مما لا ريب فيه، وهو الذي حملها على

العصيان، بخلاف كريت، فإن عصيانها كان بدسائس أوروبا التي صادفت من أهل

كريت نفوسًا خبيثة، مجبولة على الفتن والشغب، كما وصفهم مقدسهم بولس في

إحدي رسائله!

وأما انتصار بعضهن للدولة العلية في حرب القرم ومحاربة بعضهن بعضًا،

فلا ينهض حجة على نفي التعصب ولا إثباته، بل بعض ذلك من مطامع السياسة

المحضة، وبعضه من المطامع المشوبة بالنزغات الدينية، يعرف ذلك المؤرخون

المدققون.

أما المسلمون فقد كانوا في شبيبة دينهم وعنفوان قوتهم يحترمون مخالفيهم في

الدين، ويساوون بينهم وبين أنفسهم في الحقوق (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهذا في

حق الذمي والأجنبي المعاهد دون الحربي، وقد ذكرنا في العدد الثاني والعشرين

محاكمة الإمام علي - وما أدراك من هو - مع يهودي عند أمير المؤمنين عمر بن

الخطاب ومعاتبة علي لعمر بعد المحاكمة على عدم المساواة بينه وبين خصمه، حيث

كناه وسمى خصمه (وسنذكر ما فرضت الشريعة الإسلامية من الحقوق للذمي

والأجنبي المعاهد في فرصة أخرى) فهل وصل الأوربيون في نهاية مدنيتهم إلى

شيء مما كان عليه المسلمون في بدايتهم وبداوتهم من المساواة؟

كلا إنهم لا يحتلون بلاداً ولا يطأون أرضًا إلا ويجعلون أنفسهم فوق كل

شريعة وقانون، وهو ما يسمونه بالامتياز، سواء كان حلولهم في الأرض حلول فتح

واستعمار أو حلول ارتياد واتجار!

لم يقف المسلمون عند هذا الحد من المساواة والعدل، بل تخطوه إلى حد أبعد

منه، وهو معاملتهم للمخالف معاملة الأكفاء فيما يتعلق بالشرف والفضل

(التشريفات) وتقليدهم المناصب العالية إن كانوا أهلاً لها، حتى كان منهم من تولى

قيادة الجيش في أسبانيا، وكثير منهم ارتقى إلى رئاسة الدواوين القلمية

وغيرها وحفظ أسرار الخلفاء والملوك (سكرتير) ولم يكن ذلك خوفًا من مراقبة

دولة أخرى تنتصر لهم، ولا استمالة لهم ولقومهم للإسلام. كيف وقد كان من عمال

الأمويين من يكره دخول المخالفين في الإسلام لئلا تنقص مبالغ الجزية.

لو شئنا سرد الشواهد على حسن معاملة المسلمين لمن خالفهم في الدين أيام

تمسكهم بالدين وعملهم بآدابه واهتدائهم بهديه لاحتجنا إلى تأليف رسالة أو كتاب،

لكننا نزيد على ما أشرنا إليه شاهدًا واحدًا مما كان أيام الدولة العباسية، ونشير إلى

بعض الشواهد في عهد الدولة العثمانية، فنقول

(ستأتي البقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) فاتحة العدد السادس والعشرين الصادر في 26 ربيع الثاني سنة 1316.

(1)

الاختلاب كالخلابة: الخديعة بالكلام.

ص: 483

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اقتراح القيصر

اهتز العالم للمنشور الذي أبلغه قيصر روسيا بلسان ناظر خارجيته لعامة دول

أوروبا يقترح فيه عقد مؤتمر للبحث في وضع حد للاستعدادات الحربية التي أثقلت

كواهل الدول، واستنزفت ثروة الأمم واستأصلت منها الخيرات والبركات والقوى

المادية والأدبية، وما صرح به المنشور أن آلات الهلاك والدمار الحديثة التي أنفقت

عليها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ربما تمسي بعد قليل من الزمن ألقاء [1]

لا ينتفع بها بمخترعات جديدة يبطل فعلها، وذلك مما يجتاح الثروة، والخطر الناجم

عنه يجعل السلم المسلح وقرًا ينوء بالأمم، فإذا طال الأمد، فلا بد أن يفضي إلى

الويل الذي ترغب الدول في مجانبته، ويروع العقل البشري توقعه.

الاقتراح لا خلاف في شرفه، ولم تذكره جريدة في أوروبا إلا وأثنت على

مقترحه، وإنما وقع الخلاف والنزاع في أمور:

(1)

هل اقترحه القيصر حبًّا بالسلام عن سلامة نية وإخلاص طوية، أم

هناك أغراض سياسية.

(2)

هل استشار أحدًا من الدول فأجازه عليه أم افتحره افتحارًا.

(3)

هل الاقتراح في هذا الوقت ابتسار وإرغال، أم جاء في إبانه وأوانه،

وصادف محله وأهله.

(4)

أي الدول يوافق مصلحتها وأي الدول يخالفها.

(5)

هل تجيب جميع الدول أو العظام منها الدعوة وينفذ الاقتراح.

(الامر الأول) : قال بعض السياسيين: إن القيصر قد جعل الاقتراح تمويهًا

على مقاصده السياسية، والغرض منه كيد إنكلترا ليتم مقاصده في الصين ومأربه في

حدود الهند من غير أن يتهم بشيء يوجب حذر إنكلترا وزيادة قوتها في تلك الأصقاع،

وإذ تم أمر المؤتمر فهو واثق بأن الرأي العام يوافقه ضد إنكلترا في التحكيم

فيقضي لباناته براحة وسلام، ولم أر من ذكر مأربه في الشرق الأدنى ومعاكسته

للدولة العلية التي رآها ناشطة في هذه الأيام لزيادة قواتها البرية والبحرية، وحاول

صدها عن ذلك بطلب الغرامة الحربية فلم يفلح، وإذا كان الرأي العام يوافقه ضد

إنكلترا فهو يوافقه ضد الدولة العلية بالأولى.

ومن الناس من يقول: إن القيصر مخلص في اقتراحه، لا يقصد نكرًا ولا

يحاول مكرًا؛ لأنه متشبع في حب السلم الحقيقي الذي يمكنه من ممالكه الواسعة

وإسعادها، حقق الله ذلك بمنه وكرمه.

(الأمر الثاني) : الجرائد والسياسة تضرب من أجله في أودية الخرص

والتخمين، ويرجح الكثيرون أنه استشار إمبراطور ألمانيا، وزعم البعض أنه ربما

كان استشار حليفته فرنسا، لكن لهجة الجرائد الفرنسوية وتبرمها من الاقتراح

يقضي بخلاف هذا، والأرجح أنه افتحره افتحارًا، ويقال: إن الإمبراطور غليوم

كان عازمًا على هذا الاقتراح في أثر زيارته للقدس الشريف فسبقه إليه قيصر.

(الأمر الثالث) : من الناس من يقول فيه بالابتسار [2] وأن هذه الأمنية التي

يتمناها كل العقلاء يحتاج في تحققها إلى قرن كامل على الأقل، ولذلك قد أوجب

الاقتراح غرابة ودهشة.

(الأمر الرابع) : مما لم يقع فيه اختلاف أن هذا الاقتراح يوافق مصلحة كل

من أوستريا وإيطاليا؛ لأنهما مثقلتان بالنفقات الحربية، مستغرقتان بالديون التي لا

يجدان لها وفاء مع هذه الاستعدادت الحربية، ويوافق مصالح جميع الدول الضعيفة

أيضًا، اللهم إذا كانت في مأمن على بلادها ومنافعها، ولم يكن للمؤتمر حق بأن

يهب ما يشاء من غير معارضة ولا منازعة، فإن أعطى المؤتمر هذا الحق فيكون

معنى الاقتراح: اتفاق الأقوياء على ابتلاع الضعفاء وهضمهم بدون تعب ولا نصب،

والاتفاق عزيز، والاقتراح على هذا سلمي في مظهره، حربي في حقيقته،

ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، اللهم أجر اللهم سلم سلم.

(الأمر الخامس) : أوستريا وإيطاليا قد أجابتا الدعوة وسلمتا تسليمًا،

وألمانيا تظهر بألسنة جرائدها الابتهاج، وكذلك إنكلترا، إلا أن هذه تقول: إن

الوضع من قوة السلاح ينبغي أن لا يتناول البحرية، يعني أنه يجب على الدول كلها

أن تضع من أسلحتها إلا بريطانيا العظمى، فيجب أن تزيد قواها، وتستأثر بمنافع

العالم وحدها، ومتى جاء وقت العمل يلغى هذا القول ويبطل الأمل، ولا ريب أن

ثناء الجرائد الإنكليزية على القيصر وإظهارهم الابتهاج بالاقتراح وفوائده، كل ذلك

من المصانعة والدهاء المعهود من سياسة الإنكليز، ونقل عن جريدة إقدام وغيرها

من الجرائد التركية مثل ذلك، وكيف لا يكون ما تظهره جرائد البريطانيين

والعثمانيين مصانعة وأهم فوائد الاقتراح عند المقترح: إيقاف الأولى، وتلقف منافع

الثانية على ما يرى البصراء، وأقل ما يقال: إن ذلك يحذر منه ويحتاط لأجله.

وأما الجرائد الفرنساوية فقد ملأت الأرض صراخًا وعويلاً، فلا يرون في الآذان

منعكسًا عن صفحاتها إلا: ألزاس لورين! ألزاس لورين!

جاء في بعض الجرائد أن إنكلترا هي العقبة الكؤود في سبيل إنفاذ الاقتراح،

ولا شك أن فرنسا هي العقبة العنود. أليس من العجب أن يتوقع العالم مقاومة أعظم

ثمرات المدنية والمعارف من أعظم الدول مدنية ومعارف؟ ! بلى وهذا العجب

يضاهي العجب من طلب وضع السلاح وتحديد قواعد السلم من ملك أقوى دولة

حربية، وصاحب حكومة استبدادية.

إن أمام هذا الاقتراح عقبة كبرى تتبعها عقبات عظيمة، وهي الاتفاق على

قانون التحكيم ومكان المحكمة التي تفصل المنازعات. وإذا تيسر حل المشكلات

الحاضرة كالإلزاس واللورين ومصر وكريد، فما وراءها من المستقبل أيسر حلاًّ،

وقد رأينا من عجز الدول العظام في صغرى هذه المشكلات - وهي مشكلة كريد - ما

دلنا على أنهم عن غيرها أعجز، وإن إلى ربك المنتهى وهو على كل شيء قدير.

_________

(1)

الإلقاء: جمع لَقا بفتح اللام وهو الشيء الذي يطرح ويلقى لنحو الاستهانة به.

(2)

الابتسار: الإتيان بالشيء قبل أوانه.

ص: 493

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ثورة السودان

(من 1881 إلى 1898)

وضعت زميلتنا جريدة الإجبشن غازت تاريخًا موجزًا لحوادث السودان من

بدء ثورتها إلى الآن، أي من سنة 1881 إلى 1898، فرأينا تلخيصه فيما يلي:

سنة 1881. في أغسطس كان بدء الثورة المهدية.

سنة 1883. في يناير سقطت بارا والأبيّض في يد المهدي.

في 4 نوفمبر فنيت حملة هكس باشا عند شيكان في طريقها إلى الأبيض.

في أكتوبر فصلت سنكات عن سواكن.

في ديسمبر سلم سلاطين في أم شنجر.

سنة 1884. في يناير سقط جيش باكر باشا قرب التيب.

في 18 فبراير وصل غوردون إلى الخرطوم.

في فبراير وصل إلى سواكن 4000 جندي إنكليزي بقيادة السير

جرالد كراهام.

في 29 فبراير جرت موقعة التيب وقتل فيها 1500 من الدراويش.

في 14 مارس جرت موقعة طماوى وقتل فيها 2000 درويش.

في 28 أبريل ترك لوبتون بك من رجاله.

في 20 مايو سقطت بربر في أيدي الدراويش، فسدت الطريق منها إلى

سواكن، وانقطعت المواصلات مع غوردون.

في 30 أغسطس برح اللورد ولسلي لندرا قاصداً مصر لاستلام قيادة الحملة

الذاهبة لإنقاذ غوردون.

في سبتمبر قتل محمود باشا في أم دبان بعد فوزه في بعض المواقع حول

الخرطوم.

في 10 سبتمبر بعث غوردون إلى القطر الكولونل ستيوارت والمسيو هربين

قنصل فرنسا والمستر فرانك بيوير على سفينة بخارية.

في 18 سبتمبر جنحت هذه السفينة على صخر على بعد 30 ميلاً من أبي حمد،

فذبح الدراويش الكولونل ستيوارت ورفقاءه في منزل في الهبة.

سنة 1885. في 17 يناير جرت موقعة أبو قلية.

في 19 يناير الوصول إلى كوبات.

في 21 منه التقت سفن غورودن بالإنكليز بعد إقامتها اثني عشر يومًا في النيل.

في 24 منه سافر السير ويلسون على سفينة بخارية من كوبات إلى الخرطوم.

في 26 منه سقطت الخرطوم وقتل غوردون

في 28 يناير نظر السير ويلسون الخرطوم في مسيره إليها.

في 7 فبراير وصلت إلى اللورد ولسلي أوامر من لندرا بتقويض سلطة

الدراويش في الخرطوم.

في 10 فبراير جرت مسألة كربيكان وقتل الجنرال أول.

في 15 فبراير بدأ نكوص الحملة النيلية.

في 22 مارس الهجوم على زريبة ماك نايل وخسرت الإنكليز خسارة عظيمة.

في شهر مايو تجمع الدراويش للحملة على مصر.

في 14 يونيو وفاة محمد أحمد المهدي وخلافة التعايشي.

في 15 يونيو انسحب الإنكليز من دنقلة وصرفت حملة النيل ونكصت جنود

الحدود مع المعسكر العام إلى أسوان.

في 26 نوفمبر برح ولد النجومي أم درمان محاولاً شن الغارة على القطر

المصري.

في 30 ديسمبر كسر الدراويش في جينيس.

سنة 1886 في شهر أبريل جرى تحديد التخوم تحديداً نهائيًّا عند وادي حلفا،

فانسحبت كل المراكز العسكرية التي إلى جنوبيه.

سنة 1887 في يناير جرى إعداد الحملة لإنقاذ أمين باشا.

سنة 1888 في 20 ديسمبر قهر الدراويش في سواكن.

سنة 1889 في ديسمبر وصلت حملة أمين باشا إلى زنجبار.

سنة 1896 في 13 مارس استؤنفت الحملة على السودان.

في 7 يونيو قهر الدراويش في فركه.

في 8 يونيو احتلال سوارده.

في 9 سبتمبر موقعة الحفير.

في 23 سبتمبر دخل الجيش إلى دنقلة.

سنة 1897 في 7 أغسطس أخذ أبي حمد.

في 7 سبتمبر احتلت القبائل المصافية للحكومة بربر.

في شهر أكتوبر انتهى مد السكة الحديدية من وادي حلفا إلى أبي حمد.

في 31 أكتوبر أطلقت المدفعيات قنابلها إلى حصون المتمة.

سنة 1898 في 2 أبريل الاستيلاء على شندي.

في 9 أبريل قهر الدراويش في النخيلة على الأتبرة، وأسر الأمير محمود.

في 13 أغسطس استئناف الزحف إلى الخرطوم.

في 2 سبتمبر دخول أم درمان.

...

...

...

...

... (الأهرام)

...

...

***

السودان المصري

أهم ما يذكر من أخبار السودان المصري رفع الراية الإنكليزية بجانب الراية

العثمانية المصرية في أم درمان والخرطوم، وتحقق وجود حملة مرشان الفرنسوية

في فشودة.

أما رفع الراية الإنكليزية فقد اضطرب له أهل مصر أي اضطراب، وكان

النصر على التعايشي عندهم شرًّا من الانكسار، لا سيما وقد بشرهم المقطم بأن رفع

الراية دائم، والمقصود منه أن بريطانيا شريكة لمصر فيه؛ لأنه فتح بالجيشين

وأنفق عليه من المالين. ولكن سائر الجرائد المصرية تهون الأمر وتقول: إن رفع

الراية مؤقت، لا يقصد منه حماية رسمية، ولا اشتراك بالملكية، وإنما هي عادة

كل جيش ظافر يرفع رايته عند احتلاله العسكري في أي مكان، ثم يرجع كل شيء

إلى أصله، ولقد رفع الإنكليز رايتهم على قلعة مصر عند احتلالهم لها مدة وما

عتموا أن أنزلوها، ولكن لا ريب أن نفوذ الإنكليز في السودان سيكون أقوى منه في

مصر على أنه في مصر ليس بالقليل.

وأما تحقق احتلال الفرنسويين لفشودة، فهو أعظم خذلان للإنكليز في السودان،

بل في إفريقية؛ لأن فشودة وما يليها هي البلاد الخصبة من السودان، والموقع

المهم الذي يتمكن محتله من الاستيلاء على كردفان ودارفور وبحر الغزال

والسودان الغربي كله، ولأن ذلك يقطع رجاء الإنكليز من امتداد نفوذهم من رأس

الرجاء الصالح إلى الإسكندرية، وتحقيق أماني المسترسل رودس في إنشاء

مستعمرة إفريقية تضاهي المستعمرة الهندية. لكن إذا خابت مساعي الإنكليز بقبض

الفرنسويين على قلب إفريقيا (الأقاليم الاستوائية) وحيلولتها بينهم وبين ما

يشتهون، فماذا يكون نصيب مصر من ذلك؟ إذا كان تنازع الذئب والضبع يؤدي

إلى حفظ الغنم فحبذا التنازع، وإذا كان يؤول إلى فتك هذه ببعضها، وذاك بالبعض

الآخر، فهل ثَم من فائدة غير التشفي بخذلان أنكى العدوين في الجملة؟ اللهم هيئ لنا

من أمرنا رشدًا واحفظ لنا بلادنا، وكف يد الطامعين عنا يا أرحم الراحمين.

_________

ص: 497

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌متفرقات

جاء في الأنباء الرسمية أن الحضرة السلطانية قد أمرت بأن يُكتفَى بإيقاد

المصابيح دون الألعاب النارية المعتاد إجراؤها ليلة عيد الجلوس السلطاني بجوار

قصر يلديز الهمايوني، وأن توزع قيمة ذلك - ما بلغت - على طلبة (مدرسة نشين)

كما صدرت الإرادة السنية أيضاً بأن يتلى المولد النبوي الشريف في جميع مدارس

الآستانة، وأن يعطى لكل مدرسة منها ألف وخمسمائة قرش من الخزينة الخاصة،

وذلك لابتياع قراطيس من الحلوى توزع على التلامذة، وبتوزيع الباقي على الطلبة

استجلاباً للدعوات الخيرية بتأييد الحضرة السلطانية.

وذكرت جرائد الآستانة أن مولانا أمير المؤمنين قد أصدر أمره الكريم ببناء

أربعة مساجد صغيرة في محلات (مائدة) و (ناقة) و (مصلى) و (بغلة)

الكائنة بباب الجمعة ظاهر المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلوات وأتم

التسليم، على أن تكون نفقاتها المقدرة بثمانية عشر ألفاً و500 قرش من الخزينة

السلطانة الخاصة.

***

وجاء أيضا في صحف الآستانة أن حضرة النظام حاكم حيدر آباد من أعمال

الهند قد أمر رئيس وكلائه باستنساخ جميع كتب التفسير والحديث بواسطة نساخ

مخصوصين.

***

نقلت صحف الآستانة عن جريدة (الستندارد) الإنكليزية فصلًا قالت هذه فيه:

إنه لما كانت الدولة العثمانية لا تضمر لليونان إلا كل ما فيه الولاء والسلم، فلا

حاجة إذ ذاك إلى تداخل الدول بحسم الأمور التي يختلف فيها موظفو هاتين

الحكومتين، فإن فيهما الكفاءة التامة لحلها حلاًّ مرضيًا، دون تداخل قط، ويستفاد

من التقرير الذي رفعه هنري بك الكاتب الأول في السفارة العثمانية بأثينا بعد أن تفقد

أحوال تساليا: أن مسلمي هذه المقاطعة قد نالهم من بني وطنهم اليونانيين ظلم

واعتداء، كما فصلناه في حينه، فلذا أمر الملك جورج ملك اليونان بأن تعاد المحكمة

الاستئنافية في مدينة (يكي شهر) التي ألغيت بأمره سابقًا، وذلك لكي تنهي هذه

الدعاوي المتعلقة بالمسلمين وتجازي الذين ظلموا.

***

جاء في أخبار بريد أوروبا أن حملة السودان كانت تقتل في الحرب نساء

الدراويش، وحجتهم على هذه الغلظة الوحشية أن أحد الضباط رأى جثة امرأة بين

القتلى وفي يدها عصا مشظاة، فاستنبط من ذلك أنها كانت تذفف بها على الجرحى،

ولا يستغرب هذا الخبر عن حملة قوادها من الإنكليز (حماة الإنسانية؟) فإنهم

ينتقمون أقبح الانتقام لذنوب مزعومة أو موهومة، ولا تنس ما جاء في رسائل

روتر البرقية الخاصة عن السودان من (أن مئات من جرحى الدراويش المهشمة

أبدانهم تهشيمًا زحفوا إلى أقذر حي في المدينة، وأن سيول الدماء تجري من الأكواخ

وتشرق عليها الشمس فتصير بركًا سوداء، ولكن هؤلاء لا يستحقون الشفقة

والرحمة؛ لأنهم نبشوا جثث موتانا من قبل!) . هذا قول الكاتب الإنكليزي

وهو يحكي عن عمل القواد الإنكليز، فما قولك بهذه المدنية والخدمة الإنسانية؟ !

أما وسر العدل لو جرى مثل هذه الأعمال الوحشية لهذه العلل الواهية من الدولة

العلية لقامت عليها قيامة أوروبا، وفي مقدمتها الإنكليز، ونالوا منها ما نالوا،

ونسبوا لها الغلو في التعصب للدين إن كان عملها هذا مع المسيحيين، وكنا نحن لهم

من المصدقين.

_________

ص: 501