الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، الذي جعل إرادة بعض عباده،
من أسباب إنفاذ مراده، فهم بقوة الإرادة يمتازون، وبحسن توجيهها للمرادات
يتفاضلون، فلولا الإرادة الإنسانية العجيبة لَمَا أشرقت شموس العلوم والعرفان،
ولولاها لما ظهرت ثمراتها العملية في الأكوان، والصلاة والسلام على أفضل
مريد ومراد، وأكمل مظهر للمشيئة الإلهية في العباد، سيد المصلحين، وخاتم النبيين
والمرسلين، المرسَل - وهو الأمي - ليعلم الأميين والمتعلمين، والمبعوث وهو
العربي إلى جميع العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه
المتقين، ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة
1315 وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه، وهو مسائل كثيرة يجمعها
الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية هي ومَن يعيش معها، وتتصل
مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر
في كل قطر وكل عصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من
الخرافات إليه، وهو عمل قد ملأ في عالم الصحافة الشرقية فراغًا، وأشرع لطلاب
الارتقاء من الأمة منهاجا، كان (المنار) فيه - على رأيهم - سراجًا وهاجًا، ظهر
على شدة حاجة الأمة إليه، واستعداد هذا القطر لظهور مثله فيه، ولكنه على هذا
وذاك بدأ كالإسلام غريبًا، وممقوتًا من السواد الأعظم لا محبوبًا، يعشي نوره
خفافيش البدع والخرافات، الذين ألفوا تلك الظلمات، حتى قال لنا خاتمة شيوخنا
الأستاذ الإمام: (إن الحق يظهر في المنار عُريانًا في الغالب ليس عليه شيء من
الحُلي والحُلل التي تجذب إليه أنظار مَن لم يألفوا الحق لذاته) ، وكتب إلينا أول
شيوخنا الشيخ حسين الجسر في 28 ذي القعدة سنة 1315 ما نصه جوابًا عن كتاب:
(وصلني كتابكم الكريم بعد مضي أشهر من وصولكم لمصر معتذرًا عن
تأخره، فقبلت العذر ودعوت لكم بالتوفيق، وأعقب وصوله ظهور المنار ساطعًا
بأنوار غريبة مرغوبة، إلا أنها مؤلفة من أشعة قوية كادت تذهب بالأبصار)
…
إلى آخر ما كتبه، وفيه انتقاد لبعض المسائل أجبناه عنها، مبينين له ما عندنا من
الحجج عليها، وأنباء بمقاومة الحكومة العثمانية للمنار، وكان ذلك كما قال.
إنني لم أُنْشِئْ المنار ابتغاء ثروة أَتَأَثَّلها، ولا رتبة من أمير أو سلطان أتجمل
بها، ولا جاه عند العامة أو الخاصة أباهي به الأقران، وأباري به أعلياء الشان،
بل لأنه فرض من الفروض يرجى النفع من إقامته، وتأثم الأمة كلها بتركه، فلم
أكن أبالي بشيء إلا قول الحق والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فكنت إن أصبت هذا بحسب علمي واجتهادي فسيان رضي الناس أم
سخطوا، مدحوا أم ذموا، قبلوا المنار أم رفضوا.
طبعت من الصحف الأولى ألفًا وخمس مائة نسخة من كل عدد، وأرسلت
أكثرها إلى من عرفت أسماءهم في البلاد المصرية والسورية، وكذا في غيرها من
البلاد (وهو الأقل) ، فأعيد إليّ أكثر ما أرسلته إلى المصريين، وما نشبت الحكومة
الحميدة أن منعت ما يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، ثم جعلت عدد المطبوع
ألف نسخة، ولكن مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون على ثلث
الألف إلا قليلاً.
ما كان انتقاص عملي منتقصًا شيئًا من أملي، ولا زهد الأمة في المنار، باعثًا
على جعله طعامًا للنار، ولا لفائف لبضائع التجار، كما هي سنة أصحاب الصحف
في هذه الديار [1] ، بل كنت أحرص عليه، حاسبًا أن الناس سيعودون إليه.
وكان يمدني في أملي هذا ما أسمعه من بعض أهل الرأي والعلم بشؤون
الاجتماع، من القول بأن هذا المنار حاجة من الحاجات الطبيعية للمسلمين في هذا
العصر، لا يستغني عنه بيت من البيوت، فإن لم يفقهوه هذا اليوم فسيفقهونه في
يوم ما، وقد اتفق رجلان من غير المسلمين في كلمة حددا بها الأجل لذلك اليوم
المجهول، أحدهما إنكليزي كان يقرأ له المنار محمود سامي باشا البارودي والآخر
سوري من قرائه، قالا كلمتهما التي تواردت عليها خواطرهما، ولا تعارف بينهما،
قالا: (إن المسلمين سيبحثون عن هذا المنار ويعنون بإعادة طبعه بعد خمسين سنة) .
وإن أدري أكانا يظنان حين قالا كلمتهما أن المسلمين لا يستيقظون لطلب هذا
الإصلاح إلا بعد خمسين سنة، أم كانا يعنيان أن المنار لا بد أن يكون قد بطل في
هذه المدة بموت صاحبه أو عجزه، فيبحث الناس عنه؛ لأنهم في الغالب لا يعرفون
قيمة الشيء إلا بفقده، ولا يعترفون بقدر العامل إلا من بعده.
لعل المسلمين خير مما ظنا فيهم، ولعل الأجل الذي ضرباه أقرب مما حدده
رأيهما، فها نحن أولاء قد أعدنا طبع مجموعة السنة الأولى، ويوشك أن نعيد طبع
الثانية والثالثة أيضًا فقد قلّت نسخهما وغلا ثمنهما.
كانت السنة الخامسة للمنار (سنة 1320هـ) مبدأ رواجه وسعة
انتشاره، فمنذ ذلك العهد صار بعض طلاب الاشتراك يطلبون مجموعات السنين
الماضية، كما يطلبها بعض المشتركين السابقين رغبة في حفظ المنار من أوله،
وضنًّا به أن يضيع شيء منه، حتى إذا قلّت مجموعات السنة الأولى رفعت الإدارة
ثمنها حتى صارت تباع المجموعة الكاملة من تلك السنة بمائتي قرش، أي بأربعة
أضعاف ثمنها الأصلي، وبِيعت المجموعة الناقصة بضعة أعداد فأكثر إلى 12
و13 عددًا بمائة قرش، ولما لم يبقَ عندنا مجموعة معدة للبيع إلا وهي ناقصة أكثر
من 15 عددًا، وكثر الطلب واقترح علينا إعادة طبع السنة كلها، شرعنا في
طبعها في النصف الأول من سنة 1325، وهي السنة العاشرة، وقد تم الطبع في
النصف الأول من هذه السنة وهي السنة الثانية عشرة.
كان المنار في السنة الأولى من عمره جريدة أسبوعية ذات ثمان صفحات
كبيرة، وكنا ننشر فيه برقيات الأسبوع وبعض الأخبار التي ليست كلها ذات فائدة
تحفظ وتدخر وإن لم تخلُ من فائدة في وقت نشرها لبعض القراء. وقد أعدنا طبعه
بشكل المجلة التي هي عليه منذ السنة الثانية، ولم نحذف منه إلا البرقيات وبعض
الأخبار التي لا فائدة في تدوينها وحفظها، وأما الأخبار التي فيها عبرة دائمة أو
فائدة تاريخية أو غير تاريخية فقد أبقيناها، وحذفنا منه أيضًا نبذ رسالة (قليل
من الحقائق عن تركيا) المترجمة عن الإنكليزية لقلة الثقة بأخبارها. وسندقق
النظر فيها، فإن وجدناها حَريَّة بالحفظ والتخليد أثبتنا ما حذفناه من السنة الأولى في
الطبعة الثانية للسنة الثانية متصلاً ببقيته فيها، وإلا حذفنا باقيها من طبعة السنة الثانية
أيضًا، ومع هذا جاء المجلد الأول في حجم المجلدات الأخيرة يناهز ألف
صفحة.
طبعنا أعداد السنة على ترتيب الأصل، فمن أراد أن يقرأ المقالات المتسلسلة
في موضوع واحد (كالمقالات التي عنوانها: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الأحزاب: 67) متصلة، فالفهرس يجمع له متفرقها بسهولة.
وقد أشرنا إلى أوائل الأعداد في الهامش عند المقالات الافتتاحية وفي أعلى الصفحات
كما هو ظاهر.
المنار في سنته الأولى والمنار في سِنِيه الأخيرة شَرَعٌ، ولو جاز لي أن
أضرب له مثلاً شرودًا يُشعر بالمدح، لقلت: (والشمس رأد الضحى كالشمس في
الطفل) ، نعم، لا فصل بين أوله وآخره في موضوعه وغايته ومسائله، ولكنا كنا
نكثر في السنة الأولى من الخطابيات، لتنبيه الأذهان وإعدادها لما هو آت، ونكتفي
في أكثر المسائل بالإجمال، لتتهيأ النفوس لطلب التفصيل، وقلما جرينا فيها على
شيء ثم تَبيَّنَ لنا خَطَؤُنا فيه إلا ما أشرنا إليه في هوامش هذه الطبعة وأكثره في
المسائل السياسية، المتعلقة بحال الدولة العلية، ومن البديهي أننا ازددنا علمًا وخُبْرًا
في جميع المسائل بطول البحث والتمحيص والوقوف على آراء الناس وأحوالهم.
قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة
من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة - قوارع
تصخُّ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعُّ
العقول إلى إطالة الفكر في الخطْبين: الغائب والعتيد، والخطرين: القريب والبعيد،
وهما: عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب
الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية
أولئك المخاطَبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم
وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست
بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد،
يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
راجع تلك السور العزيزة لا سيما قصار المفصَّل منها ك ? {الْحَاقَّةُ *
مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1-2)، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ،
و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1)، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ،
و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار:1)، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)
و {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1)، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقاً} (النازعات: 1) .
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من
سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) ، {أَلَا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في
الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا
إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23)
…
إلى 37 منها، وقوله بعد إباحة
الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
تدبر هذا ثم أَجِلْ طرفك في فاتحة المنار الأولى، وفي أكثر المقالات
الافتتاحية [2] تجدها زواجر منبّهة، وبينات في الإصلاح مجملة، ترشد المسلمين
إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم الخطر المهدد لهم في استقبالهم، وتذكرهم بما
فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوا من مجد آبائهم الأولين،
تزعجهم إلى استرداد ما فقدوا، وإيجاد ما لم يجدوا، بطريق الإجمال، في أكثر
الأقوال، وما جاء في سائر السنين فهو من قبيل التفصيل، أو إقامة البرهان
والدليل، على تلك الدعوة الإجمالية، والمقالات الافتتاحية، وترى بهذا كله اقتباس
المنار لهدي الكتاب العزيز واتباعه لسنته في الترتيب كاتباعه له في المسائل
والأحكام، والحمد لله على ذلك.
كان لتلك المقالات الخطابية الاجتماعية والفلسفية تأثير عظيم في نفوس
القارئين: فمن مبالغ في الاستحسان، كأن يطالب بعد الإقلال منها أن نعود إليها [3] ،
ومن مبالغ في الاستهجان يقول: قد بين عيوبنا وجهلنا للأجانب، ويكتبون
إلينا أن نترك مثلها [4] ولكن لم يكن يسكت عن الجمهور غضبه علينا، ويقل خوضه
فينا، حتى رأينا كثيرًا من كُتاب المسلمين وخطبائهم قد تلوا تلونا، واحتذوا في
انتقاد حال المسلمين حذونا، حتى صار ذلك في الجرائد مألوفًا، وأصبح منكره عند
الأكثرين معروفًا، ولكن معظم كلامهم في الداء، من غير بيان للعلاج والدواء.
أما المنار فكان يصف العلاج لأمراض الأمة بالإجمال، ثم بالتفصيل
والاستدلال، والغرض من كل ذلك إعداد النفوس للعمل العظيم الذي نرجو أن يكون
قد قرب زمانه، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 4-5) .
هذا ما أردت بيانه في مقدمة الطبعة الثانية للسنة الأولى. والله الموفق وبه
المستعان. وكُتب في رمضان سنة 1327.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مُنْشِئ المنار
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
_________
(1)
يبيع أصحاب الصحف ما زاد عن حاجة المشتركين والمبتاعين من صحفهم إلى التجار وأصحاب الأفران! .
(2)
راجع مقالات القول الفصل ص 31 وصيحة حق ص 217 والمدارس الوطنية 256 وإلى أي تربية وتعليم نحن أحوج 278، والجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية 299، والعلم والحرب 341، والسلطتان الروحية والسياسية 404، والمقالات المفتتحة بالآيات في ص 585 و 606 وما يتبعها، ومقالات الإصلاح الديني والسياسي، وغير ذلك إلخ.
(3)
من أعظم هؤلاء قدرًا: السيد مهدي خان محسن الملك نواب بهادر وناظم مدرسة العلوم في عليكده بالهند رحمه الله .
(4)
من أشهر هؤلاء الشيخ أبو الهدى الصيادي والشيخ حسين الجسر رحمه الله .
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الأولى للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
وإليه أنيب.
أما بعد: فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين، ونداء حق يقرع مع سمع
الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين، ينادي من مكان قريب يسمعه الشرقي
والغربي، ويطير به البخار فيتناوله التركي والفارسي.
يقول: أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك
حسبك! فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماءً أو موتاً زؤاماً، تنبه من
رقادك، وامسح النوم عن عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بُدِّلت الأرض
غير الأرض، ودخل الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير.
فهذه الجمادات تتكلم بغير لسان، وتكتب من غير قلم ولا بنان، والوحوش
حُشرت مع الأنعام، والمراكب تجوب السهوب والفيافي وتفترع الأعلام، بل طارت
في الهواء تسابق الرياح، وتساهم ذوات الجناح، واستولى أخوك المستيقظ على
قوى الطبيعة، فقرن بين الماء والنار، وولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور
فاخترق بذلك الجبال، واختبر أعماق البحار، وعرف مساحة الهواء، ونفذت أشعة
بصره الكثائف، ووصلت أمواج صوته إلى كل مكان سحيق، فقرب أبعاد الأرض
وجمع بين أقطارها، بل عرج بهمته للقبة الفلكية فعرف الكواكب ومدارها، ومادتها
ومقدارها.
حسبك حسبك! هُب من سباتك واستيقظ من هجوعك، فقد ولت حنادس
الجهالة، وأشرقت شمس المعرفة، انظر وتأمل ماذا يفعل أخوك المستيقظ يدكّ
الحصون والصياصي، ويقوض المعاقل والهياكل، وهو متكئ على أريكته ينظر
إليها بالآلة المقربة للبعيد، ويقيم الحصون والأسوار، ويشيد البوارج والأبراج،
ولا يتعب له عضل، ولا يندى له جبين، ولا يحتاج في أمثال هذه الأعمال العظيمة
إلا إلى إشارة لطيفة، وحركة خفيفة، فالطبيعة تخضع لإشارته، وتسير طوع يمينه،
فيتم له كل ما يريد. لا يهولنَّك ما تسمع، ولا يروعنك ما ترى، واعلم أن هذا
العصر عصر العلم والعمل، فمن علم وعمل ساد، ومن جهل وكسل باد، {مَا
أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) .
كانت العلوم الطبيعية على عهد أسلافك أفكارًا متضاربة، وآراءً متناقضة،
وأقوالاً متعارضة، لم تأتِ عن امتحان وعمل، ولم يكد يُبْنَى عليها عمل؛ ولذلك
كثر ذامّوها، وقلّ مادحوها، وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته العمل، أو
بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه، لا يعول عليه، فالأعمال
تنمي العلوم، والعلوم تمد الأعمال، وشاهد ذلك عندك الحديث الشريف: (مَن عمل
بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) قاعدة وُضعت في الشرق، واهتدى للانتفاع
بعمومها أهل الغرب، والذين صدرت بلُغتهم لاهون غافلون. فلا تضيع أوقاتك
بالتخيل والتفكر، ولا تجعل حظك من حياتك الأماني والتشهي، ولا تدع للأوهام في
ذهنك مجالاً واسعًا ومكانًا فسيحاً {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء: 123) ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ
لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
فعليك بالعلم والعمل رُضْ بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حَلَّ من
لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراقُ
بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض
منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة مَن
تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم
التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله،
والقنوط من رحمته جل علاه - هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال،
فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، فالجريدة تكون وصلة بينهم وبين
الأمة، تبعث بإرشادهم روح الهمة في أفرادها، وتحيي ميت الغيرة من نفوس
آحادها. وتجاري الحُدَاة لدى السير في مناهج الترقي، وتنتصب (منارًا) في
أخرات الشبهات، ومجاهيل المشكلات.
وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء
والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة
والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة
في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي
مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم
الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل،
حتى صار الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً،
ومعرفة الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون
والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة
والمهانة تواضعًا، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضًا وتسليمًا، والتقليد الأعمى
لكل متقدم علمًا وإيقانًا.
تُشَخِّص هذه الأمراض الروحية وأشباهها، وتوضح عللها وتصف علاجها،
وتجتهد في تأليف القلوب المتنافرة، ووصل العلائق المتقطِّعة، وجمع الكلمة
المتفرقة ما استطاعت، وتحاول إقناع أرباب النحل المتباينة، والمذاهب المختلفة -
أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وأن المعارضة
والمناهضة، والمناصبة والمواثبة - تُفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على
هدي الأديان. وتحث على التمسك بالدين، وتبين أنه أساس السعادة وأن الكفر فساد
العمران، وتدرأ الشبه الواردة على الشريعة الإسلامية، وتدحض مزاعم مَن قال:
إنها حجاب كثيف، وسد حائل بين الآخذين بها وبين المدنية الصحيحة، لجهلهم بما
انطوت عليه من الحكم الرائعة، والأحكام العادلة، وترشد العاملين إلى أن محاولة
الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية جهل وحرمان، وأن مراعاة السنن
الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية - كافية بتوفيق الله تعالى لبلوغ كل مقصد،
ونيل كل مرام، وتنبه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران،
وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوربا في الفنون والصنائع، لا على الملوك
والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر
المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم، وتنشر
محاسن اللغة العربية بالتحلي بفرائدها واقتناص أوابدها، وتقييد شواردها، على
سبيل التدرج في الاستعمال. ولا تأتلي أن تذكر ما تفيد معرفته من أخبار السياسة
الخارجية، وتثبت ما يهم بيانه من الحوادث المحلية، مع انتقاء الصادق والاعتدال،
لا تميل مع ريح حزب من الأحزاب، ولا تتطرف لجانب تفريط أو إفراط،
بحسب ما يصل إليه الاجتهاد. لكنها عثمانية المشرب، حميدية اللهجة، تحامي عن
الدولة العلية بحق، وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصدق، وتتحامى المطاعن
الشخصية، والأماديح الشعرية، لكنها لا تني في تقريظ الأعمال العامة الموضوع،
وتقريض الكتب المؤلفة لإفادة الجمهور بالقول الصحيح، والانتقاد الرجيح، وتقبل
الانتقاد الأدبي من كل أحد، وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع
بدره، ومن أين انبلج فجره، وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت.
هذا ما توجهت إليه النفس واعتزمت عليه بعد تصحيح النية وإخلاص القلب،
ولا أجهل أنني حاولت أمرًا جليلاً، وحملت نفسي عبأ ثقيلاً، ينوء بالعصبة أولي القوة
ويعوز إلى تأليف لجنة أو عقد جمعية، لكنني مع ذلك أعلم أن للحق أنصارًا،
وللصالحات أعضادًا تستمد الجريدة من بحار أفكارهم، وتغتذي بالكلم الطيب من
مجاني عرفانهم، وتستقي مداد الحكمة من أنابيب أقلامهم، ومن جراء هذا أو ذاك
مر عليَّ حين من الدهر بعد تصور الموضوع والعزم على الشروع، وأنا بين إقدام
وإحجام، ويأس ورجاء يحركني الباعثان، ويتنازعني العاملان حتى أعملت الأمل،
ورجحت الإقدام على العمل وما أجدرني بموقف الحيرة بين بين، وقد أنذرني بعض
عظماء هذا القطر، بما صدقه به الابتلاء والخبر، من أن الجد مرغوب عنه، لا
مرغوب فيه، وأن السواد الأعظم من الأمة قد ثار حابلهم على نابلهم، وهضم
مفضولهم حقوق فاضلهم، فأصبحوا ومطامح أنظارهم انتقاد الحكومة المحلية،
ومطارح أفكارهم العداوات الشخصية، ولا يديرون ألحاظهم، أو يعيرون التفاتهم لما
وراء الغميزة والإزراء، إلا ما كان من نكتة هزلية، أو رواية غرامية، فإذا رأوا
جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير
في العمل المفيد عمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها
لأيدي الأغيار، من المهطعين للاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى، ويضربوا
بها عرض الحائط، لكنني وطنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام، ومعاضدة
الأخيار، نعم إن الكرام قليل، ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة
العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج، وبالله المستعان وعليه التكلان، {وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اصطلاحات كُتَّاب العصر
من القضايا المُسلَّمة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مندوحة عن مراعاة ما
يتواطؤ عليه الجمهور، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان
ومكان. وقد انطلقت ألسنة أهل هذا العصر، وجرت أقلامهم بألفاظ يريدون بها من
المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة أو في عرف العصور السالفة، ولهم ألفاظ
أخرى جاءتهم من الفنون الحادثة والاكتشافات الجديدة، والكثير منها مما لم تستعمله
العرب، فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين؛ لأن الكثير من
القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله، وبالمعنى الذي يفهمه العارفون،
وقد مر منها في فاتحة هذا العدد لفظ الطبيعة، والطبيعي، والنواميس الطبيعية ،
وقوى الطبيعة، والكفر.
أما لفظ (الطبيعة) : فقد كان فيما مضى مما لا يكاد يستعمله إلا الأطباء
والصوفية والفلاسفة، وأكثر من كان يستعمله الأطباء، ويطلق لفظ الطبيعة عندهم
على عدة معان: على الهيئة التركيبية، وعلى المزاج الخاص بالبدن، وعلى القوة
المدبرة، وعلى حركة النفس، وربما أطلقت (الطبيعة) على النفس الناطقة باعتبار
تدبيرها للبدن. والطبائع الأربع في عرف الأطباء والطبيعيين: الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة، وكان يطلق لقب الطبيعي على فرقة تعبد الطبائع الأربع،
وعلى من ينسب كل شيء للطبيعة، كما يطلق على صاحب العلم الطبيعي. وقد
عرف السيد الجرجاني (قدس سره)(الطبيعة) : بالقوة السارية في الأجسام، بها
يصل الجسم إلى كماله الطبيعي، وكان الصوفية يستعملونه في غير هذا المعنى
أيضًا، وليس بين يدي الآن شيء من كتبهم أراجعه في ذلك.
وأما لفظ (الطبيعة) اليوم فهو كثير الدوران على ألسنة جميع الكُتّاب في
الفنون العلمية والأدبية حتى الشعراء والمترسلين، ويجرونه على معناه اللغوي وهو:
المخلوقات أو الحالة التي هي عليها.
وبيان ذلك أن (الطبيعة) في اللغة بمعنى: الخلقة والخليقة والفطرة، فخلق
الله الأشياء وفطرها وطبعها بمعنى واحد، وإذا قلنا: إن هذا الشيء تقتضيه طبيعة
الاجتماع الإنساني، فهو كما إذا قلنا: تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها بلا
فرق، وحاصل القول: أن لفظ (الطبيعة) حيث أطلق فالمراد به الحالة التي طبع
الله الموجودات عليها أي خلقهم، وتطلق على الموجودات أنفسها، فيقال: تأمل
محاسن الطبيعة أي المخلوقات.
وأما (الطبيعي) فهو: المنسوب للطبيعة، كالخلقي نسبة للخلقة، ويستعمل
في مقابلة الصناعي، فيراد به ما لا صنع للبشر فيه أي في هيئته التركيبية،
كالأشجار والبحار، ويطلق على العالم بالفنون الطبيعية، وإن كان متديناً، ولا
يطلق على الملحد من حيث إنه ملحد، وإن نسب الأشياء للطبيعة واعتقد أنها مُوجِدَة
لها ومؤثرة فيها من دون الله تعالى، بل يطلقون على من هذا شأنه لفظ:(الكافر)
و (الدهري) و (المادي) (لأنه ينكر ما وراء المادة، فلا يعتقد بالإله ولا بالعالم
الآخر) وفي بلاد الهند يطلقون عليه لقب: (نيشري) ، وأكثر عامة بلادنا لا
يفهمون من لفظ الطبيعي إذا أطلق على إنسان إلا هذا المعنى الأخير، وهو الذي
حملنا على هذا البيان لئلا يحملوا كلامنا على ما يفهمون.
ويدور هذا اللفظ على الألسنة كثيراً في المحاورات المتعلقة بسائر الشؤون،
ويراد به مجرد التأكيد والتحقيق أو أن هذا الشيء ظاهر بالبداهة، تراهم عند سماع
شيء من المسلمات يقولون: هذا طبيعي، يعنون أنه بديهي أو محقق لا نزاع فيه،
وأما العلماء والكتاب فيعنون بقولهم: (هذا شيء طبيعي) : أن له سببًا طبيعيًّا يعلل
به.
وأما (النواميس الطبيعية) : فالمراد من الناموس: الطريقة الثابتة المطردة
التي يحكم الله تعالى بها على الكون، وهو محرف عن لفظ:(نومس) اليوناني،
ومعناه: الشريعة، وكثيرًا ما يدور على ألسنة الطبيعيين (شريعة الطبيعة)
و (الشرائع الطبيعية) ، ويستعمله كتاب العربية في المقالات الأدبية والسياسية،
مجاراة لهم وعملاً باصطلاحهم، وكان الأولى أن يترجم لفظ:(نومس) بالسنة،
فيقال: (سنة الطبيعة) و (السنن الطبيعية) ، وبعض الكتاب يستعمل هذا الحرف
وستراه كثيرًا في هذه الجريدة، وقد نعتاض عنه أحيانًا بقولنا:(سنة الكون)
و (السنن الإلهية) و (سنة الله في خلقه) .
وأما القوى الطبيعية فهي عبارة عما تسند إليه الآثار الطارئة على الأجسام من
حركة أو سكون، ومنها ما هو حقيقي كالقوة البخارية والكهربائية، وما هو فرض
كالجاذبية، فإن تعليل سقوط نحو الحجر من الهواء على الأرض بأنه سقط بقوة
الجاذبية التي في مركز الأرض يوهم أن هناك شيئًا موجودًا له هذا الفعل وأنهم
اطلعوا عليه وسموه بهذا الاسم، وليس كذلك، بل إن هذه القوة مفروضة، والتسمية
اصطلاحية، ولما كان الفعل الذي نُسِبَ إليها يَصْدُر عنها باطراد صح إطلاق لفظ
(الناموس) عليها فقالوا: (ناموس جاذبية الثقل) ، ومثل هذا كثير، وقد أطلنا في
البيان حتى كدنا نخرج عن المقصود.
وأما لفظ (الكفر) : فيطلق في عرف الكتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا
إليه في عرض كلامنا آنفًا، فمهما أطلقنا لقب (الكافر) أو اسم الكفر في كلامنا
فنريد به ما ذكرنا، ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل
الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا؛
لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره
علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر
في العصر الأول للملة على كل مخالف؛ فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا
الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة
ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه.
ذلك أن معنى (الكفر) في أصل اللغة: الستر والتغطية، وكانوا يسمون الليل
كافرًا؛ لأنه يغطي بظلامه الأشياء، وأطلقوا لفظ (الكافر) على طلع النخل،
وأكمام النور (الزهر) لما ذكر، وعلى البحر؛ لأن الشمس تغيب فيه بحسب
الظاهر، وعلى ثوب كانوا يلبسونه فوق الدرع يقولون له:(كافر الدروع) ، وقد
سمى القرآن العظيم الزراع كفارًا، كما هو المشهور في تفسير قوله تعالى {كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) وأمثال هذا في اللغة كثيرة، ويظهر
منها أن حقيقة الكفر تغطية المحسوس بالمحسوس، ثم أطلق على من لم يذعن للدين
ومن لم يشكر النعمة تجوزًا، وكل ما نقل من العبارات المستعملة من هذه المادة
يومئ إلى ما ذكرنا (راجع الأساس وغيره) .
وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على
صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) .
ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل
مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية
الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا
في الدين) ، وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة
بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر.
جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب
معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه) اهـ.
ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب
صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك
أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم
في كل حال، وسنفرد لهذه المباحث مقالات في الأعداد التالية إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مشروع مفيد
سكة حديد بين بورسعيد والبصرة
افتتحت جريدة المؤيد الغراء عددها (2421) الصادر يوم الأحد الماضي
برسالة وردت عليها من محرر جريدة (وكيل) في بنجاب من العمالات الهندية،
ونشرتها تحت هذا العنوان.
فرأينا أن نلخص منها ما يلي:
قال الفاضل الهندي: (ربما لا يخفاكم أن شركة إنكليزية تبذل جهدها وتعمل
بكل همة سعيًا للحصول على امتياز من الباب العالي بإنشاء خط حديدي من
بورسعيد إلى البصرة أو الكويت عن طريق الجوف) .
وفي شهر ديسمبر أشار كاتب في جريدة (وكيل) إلى مشروع جليل وهو أن تشكل لجنة تحت حماية جلالة مولانا السلطان الأعظم لفتح اكتتاب من المسلمين في جميع العالم لدفع غرامة الحرب الأخيرة إلى روسيا دفعة واحدة، فتخلص بذلك
الدولة العلية من تداخلها في أحوالها، أما أنا فلم أوافق على هذا الرأي؛ لأنه لا يمكن
لروسيا أن تطلب أكثر من 320000 جنيه في السنة لمدة مائة عام، ولو فرضنا
أن اللجنة المذكورة تنجح في عملها وتجمع المبالغ اللازمة لدفع الغرامة الروسية مرة
واحدة للزمنا أن ندفع لها مبلغًا إيراده السنوي 120000 جنيه دائمًا، مع أنه لا يمكن
لروسيا أن تطلب سوى المبلغ المذكور قبل لمدة مائة سنة.
ولكنني بينما كنت أناقش ذلك الكاتب في اقتراحه إذ لاح لي مشروع، وقد
كلفت به. ذلك أن تؤلف لجنة عالية تحت رعاية ومراقبة جلالة الخليفة الأعظم
لإنشاء سكة حديدية من البصرة، ومنها عن طريق الموصل إلى حلب فالإسكندرونة
ثم ينشأ خط من حلب إلى الشام فالحجاز فاليمن.
وحيث إن نفوذ جلالة الخليفة المعنوي يزداد انتشارًا شيئًا فشيئًا في جميع
أرجاء العالم الإسلامي، فلا شك أن كل مسلم عاقل ينضم إلى هذا المشروع ويساعد
في نجاحه، وفضلاً عن استعمال اللجنة لهذا النفوذ بقدر ما يصل إليه صوتها فإنه
يلزمها أن تعلن وترسل مندوبين لها إلى جميع الجهات التي يقطنها مسلمون كمصر
ومراكش وتونس والجزائر وسكوتو والهند وإيران والصين وتركستان وسومتره
وجاوه وغيرها.
فإذا نجحنا في عمل مهم كهذا كان أفضل واسطة لاتحاد جميع مسلمي العالم
البشري المنتشرين في الأرض، بل كان واسطة لجمع مبالغ كثيرة لعمل مفيد.
وإن ألوفًا من شبابنا - الذين هم الآن بلا شغل وعمل - يتمكنون بهذا المشروع من
الاشتغال بمعاشهم بافتتاح ممالك فسيحة للتجارة والزراعة والاستعمار. وتكون
مواصلاتنا مع الحجاز تامة وبغاية السهولة، فضلاً عن المنافع السياسية والحربية
والتجارية التي تحصل للباب العالي من تنفيذ هذا المشروع الجليل.
ولقد سردت أبواب هذه الفوائد المهمة في مقالة نشرتها في جريدة (وكيل)
بتاريخ 27 ديسمبر سنة 1897 ص 54 وأشرت على المقالة بالحبر الأحمر في
جميع النسخ التي أرسلت إلى الجرائد المصرية والتركية، مؤملاً أن تفصح هاته
الجرائد عن أفكارها في هذا الشأن، وأنها إن استحسنت اقتراحي عضدتني فيه بما
تستطيعه، وطلبت أيضاً من قنصل الدولة العلية تعضيدي فيه.
ولكني أتأسف من أن ما كتبته ذهب كالنقش على الماء، فلم يلتفت إليه أحد. أليس من العار على المصريين والعثمانيين وسائر المسلمين أن يروا الأمم الأخرى تسعى في الحصول على امتيازات في أرجاء آسيا وأفريقيا، بل في تركيا نفسها،ونحن معاشر المسلمين في الأرض ننظر إليها نظر المتفرج بدون عمل ولا حركة،
كأنه لا يهمنا قط أن نكون في غبطة عيش ونعيم، وكأنه لا يهمنا أن تكون أمتنا
سعيدة بتدبير أحوال ممالكها الفسيحة وترقيتها.
وفي 21 فبراير كتبت مقالة في هذا الشأن ونشرتها في (الوكيل) اهـ، ثم
ذكر أنه دائب على تشويق أهل وطنه إلى هذا العمل العظيم، ورغب إلى صاحب
(المؤيد) أن يشوق المسلمين إلى ذلك في جريدته الشهيرة، وقد أجاب المؤيد دعاءه
ولبى نداءه، فذيل الرسالة بنبذة تنشيط ملخصها: أن ما يقترحه الكاتب أعظم
مشروع ينعش الحياة ويجدد السعادة للدولة، بل للملة الإسلامية.
وإن المسلمين إذا لم يبادروا لمثل هذا العمل فلا يبعد أن يأتي يوم يعجزون فيه
عن الإتيان بأي عمل.
فحبَّذا لو أن جلالة مولانا الخليفة الأعظم الذي اشتهر في العالم كله بحب جمع
شتات الإسلام حول عرشه استلم زمام هذا العمل العظيم بنفسه وأنفذه، ليكون الفاتح
والمجدد لعصر حضارة الإسلام على ما تقتضي ظروف الأيام اهـ.
(المنار)
لخصنا هذه المقالة لأمور منها بيان تعلق المسلمين بمولانا أمير المؤمنين -
أيده الله تعالى - في أقطار الهند، وآمالهم العظيمة في أن تقدم الأمة كلها منوط
بحكمته المشهورة ومساعيه المشكورة وخضوعهم لسلطته الروحية وسيادته الدينية.
ومنها: أن المشروع من الأعمال التي لا تقوم إلا بالشركات المالية، والحث
على الشركات المالية لأي عمل كان هو من أفضل الأعمال التي أنشئت الجريدة
لأجلها.
وأما هذا المشروع بخصوصه فلا ننكر عظيم فائدته لكننا نفوض النظر فيه
لحكمة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى) ، ولوزرائه الصادقين، فإن
لهم من المعرفة بمنافع الأمة ووسائل تقدمها ما ليس لنا، ورأينا أن سبب التقدم الذي
يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم في جميع
عناصر الأمة على طريقة واحدة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الغاية إلا بشركات
مالية تنشئ المدارس الوطنية وتختار لها المعلمين المهذبين وسنواظب على الحث
على هذا المشروع ونبين مزاياه فيما يأتي من الأعداد.
وإننا نفتخر بما لمولانا أمير المؤمنين من العناية بأمر المكاتب والمدارس حتى
أنه أنشأ من جيبه الخاص الكثير منها.
ولا ننكر ما لسمو عزيز مصر (عباس الثاني) من الاهتمام بأمر العلم،
والأزهر الشريف شاهد عدل، ورجاؤنا بأغنياء المصريين وسائر العثمانيين الاقتداء
بسلطانهم الأعظم وخديويهم المعظم في هذا الأمر الذي هو كل أمر والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجمل الأحوال السياسية
لم نَرَ عامًا كثرت مشاكله السياسية كهذا العام. فإنا نرى خلل الرماد وميض
نار ويوشك أن يكون لها ضرام، في الشرق والغرب، في العالم القديم
والعالم الجديد.
ففي مياه الصين تتجمع الأساطيل الأوربية، وتتكاثف تكاثف الغيوم قبل نزول الصواعق. وفي إفريقيا تزحف الجنود وتتسابق الحملات إلى أعالي النيل، تسابق
خيل الطراد، وفي الهند قد سُقِيَتْ الأرض بدم الإنسان وسمدتها فضلات النسور
والعقبان من جثث القتلى، فأخرجت في هذا الربيع نبتًا خصيبًا، وفي كوبا وراء
الأوقيانوس العظيم قد صارت الحرب بين الأسبان والأميركان قاب قوسين أو أدنى،
وفي كريت لا يزال السيف مصلتًا والإخوة العثمانيون يفني بعضهم بعضًا، وفي
النمسا استفحل الخلاف بين العناصر المختلفة، فصار البعض يتوقعون انتشار عقد
الوفاق وسقوط تلك المملكة العظيمة، وفي إيطاليا وفينسيا ساد الجوع إثر غلاء
الخبز وقلة الأعمال، فثار الشعب ينهب الأفران مقتحمًا حراب البوليس، وهجمت
النساء صارخات طالبات لهن ولأولادهن خبزاً، أما في فرنسا فقد مرت الزوبعة
السياسية مرور الزوابع الطبيعية على أعشاب الأرض تعبث بها ولا تجر ضرراً.
ويطول بنا المقال إن رمنا تفصيل تلك الحوادث السياسية الخطيرة. على أنه
لا بد من الإلماع إليها إلماعًا، يطلع قراء المنار على إجمال تفاصيلها الماضية،
ويكون توطئة للحوادث الآتية.
***
المسألة الصينية
قتل بعض أشقياء الصينيين بعض مراسلي الكاثوليك الألمان في البلاد
الصينية، فاتخذت ذلك ألمانيا وسيلة إلى احتلال ثغر من أهم الثغور الصينية يدعى
كياوتشو، أنفذت إليه أسطولها في الشرق الأقصى فاحتله بلا حرب ولا نزاع؛ لأن
الحامية الصينية غادرته حين علمت بقصد الجنود الألمانية. ثم احتل الأسطول
الروسي بورت آرثر مقابل احتلال الألمان لكياوتشو، فأرغت اليابان وأزبدت،
وقامت إنكلترا وقعدت، وأنفذت الدول بوارجها إلى مياه الصين تباعًا، حتى حسب
الناس أن الحرب صارت أقرب من حبل الوريد وظنوا أنه قد حان تقسيم تلك
المملكة الواسعة.
ثم بان أن الدول لا تنوي التقسيم، لما يحول دون ذلك من الموانع السياسية،
وطلبت الصين قرضًا، فتنازع روسيا وإنكلترا عقد هذا القرض، واشترطت إنكلترا
على الصين شروطًا أهمها: فتح تاليان وان، فأثار ذلك تأثر روسيا، وآذنت الصين
بأنها إن هي فتحت (تاليان وان) أساءت الروسية معاملتها، فتنازع الصين عاملان
قويان، فباتت لا تعلم أيهما تعمل، حتى جاء يوم قيل فيه: إن إنكلترا أرجأت
البحث في فتح (تاليان وان) إلى فرصة أخرى. وقد وافت الرسائل البرقية في
الأسبوع الماضي تقول: إن الصين إجابة لطلب اليابان سألت روسيا عما إذا كان
ينسحب أسطولها من بورت آرثر في فصل الربيع، فأجابت روسيا: إن في
احتلالها بورت آرثر مصلحة للصين وكوريا معًا. ثم جاء أن روسيا تلح على
الصين بأن تؤجر هاربورت آرثر وتاليان وان إلى 99 سنة، كما أجرت ألمانيا ثغر
كياوتشو وأنظرتها خمسة أيام، فإذا انقضت ولم تجبها الصين إلى طلبها عملت
روسيا في الصين عملاً عسكريًّا. فقامت التيمس بعد هذا الإنذار تقول: إن إنكلترا
منذ حرب القريم لم تكن يومًا أفرغ صبرًا مما هي الآن، وخطب ناظر البحرية في
مجلس العموم عند عرضه ميزانية البحرية فقال: إن الأسطول في غاية الاستعداد
فإن بقيت السلم كانت سلمًا شريفة، وإن نشبت الحرب (لا قدر الله) خرج
الأسطول ظافراً. أما ناظر الخارجية الإنكليزية فقد صرح أنه لا يرى دليلاً على ما
قيل من أن روسيا قدمت للصين إنذارًا. والله أعلم بمصير المسألة الصينية.
***
المسائل الإفريقية
قلنا: (المسائل الإفريقية) لا المسألة؛ لأن المشاكل في إفريقيا متعددة. أولها
حملة مصر على الدراويش. ثم الحملة الفرنساوية في النيل الأعلى. ثم ثورة أوغندا
ثم مسألة النيجر بين الفرنساويين والإنكليز. ثم مسألة الترنسفال بين البوير
والإنكليز أيضًا.
أما الحملة المصرية، فسنفرد للبحث في أمورها مقالات خصوصية، وأما
الحملة الفرنسية السائرة في مجاهل إفريقيا بقيادة الضابط الباسل مرشان، فلا يعلم
أحد الغرض الذي ترمي إليه حتى الآن. والمشهور أنها زاحفة لاحتلال الأراضي
التي وراء بحر الغزال في أعلى النيل، وبما أن تلك الأراضي هي غرض إنكلترا
أيضاً فالمنتظر أن تقوم قائمة الخلاف والنزاع بين الدولتين بشأن تلك الأصقاع في
وقت قريب. وقد أنفذت إنكلترا من جهة أوغندا إلى أعالي النيل من شهور عديدة
حملة إنكليزية بقيادة الماجور مكدونالد، غير أن تلك الحملة ما قطعت مسافة قصيرة
حتى ثار رجالها وهم من السودانيين على القائد مكدونالد، فتحصنوا في حصن هناك،
فحاصرهم الماجور قمعًا لثورتهم وإرغامًا لأنوفهم، ولطلب المدد تشديدًا للحصار،
غير أن السودانيين رأوا من المحاصرين غفلة، ففروا من الحصن ونجوا بأنفسهم،
فرجع مكدونالد أدراجه، ولم يزل مرشان يغذ السير إلى غرضه بخطى واسعة.
وأشيع يومئذ أن حملة مرشان قد ذبحت عن آخرها، غير أنه ظهر بعد ذلك أن هذا
الخبر كان مكذوبًا. هذا ويرى البعض أن احتلال فرنسا أعالي النيل سيكون بداية
فتح المسألة المصرية.
وأما الخلاف الذي بين فرنسا وإنكلترا بشأن النيجر فهو ناشِئ عن طمع كل
من الدولتين في تلك الأراضي واختلافهما على تحديد أملاكهما فيها. ويقول
الفرنسيون: إن شركة النيجر منشأ ذلك الخلاف كله، وقد عقدت في باريس من عهد
قريب لجنة من الإنكليز والفرنسيين للبحث في دعاوى الطرفين وحل تلك المشاكل
بالطريقة الودية. وقد أضيف في الأسبوع الماضي مشكلة جديدة إلى تلك المشاكل
القديمة، فإن حملة الفرنسيين اجتازت نهر النيجر وحاولت الزحف على أرض تقول
إنكلترا: إنها تحت حمايتها، وقد أمدت إنكلترا سلطان تلك الأرض بجند يساعده
على إرجاع الفرنساويين على أعقابهم، ولم يرد بعد ذلك نبأ جديد.
وأما الخلاف بشأن الترنسفال فمَنْشَؤُهُ طموح إنكلترا إلى تقييد تلك الجمهورية
الصغيرة بقيود سيطرتها، وقد نظم دكتور إنكليزي يدعى جمسن حملة هجم بها على
تلك الجمهورية على حين غفلة، فالتقتها سيوف البوير ونالت منها ما نالته سيوف
الأحباش في موقعة عدوه من الطليان، ولا يزال مستر شامبرلين وزير المستعمرات
الإنكليزية يؤكد لتلك الجمهورية، حتى الآن أنها تحت الحماية الإنكليزية. ولعمر
الحق إن إمبراطورية الأحباش وجمهورية الترنسفال قد أظهرتا بأسلوب عجيب
مقدرة الشرقيين على الدفاع عن حريتهم واستقتالهم في سبيل ذلك الدفاع
الشريف.
وسنتكلم فيما يلي من الأعداد على بقية المشاكل السياسية.
***
الحبشة
بنى السيف في القرن التاسع عشر إمبراطوريتين عظيمتين؛ الأولى:
الإمبراطورية الألمانية، والثانية: الإمبراطورية الحبشية.
فإن تسليم سيدان وباريز ألبس غليوم الأول تاج الإمبراطورية الألمانية،
وانتصار الأحباش على الطليان في موقعة عدوه أنال منليك رئاسة الحبشة وجعله
إمبراطورًا على ملوكها المتحدة.
والحبشة أمة شرقية، قد أيقظها دوي مدافع الطليان من سباتها العميق، فهبت
إلى دخول التمدن من أبوابه، ولا يبعد أن نراها بعد خمسين سنة تضاهي شقيقتها
اليابان الشرقية قوة ومنعة وعزًّا. وإذا بلغت الحبشة مبلغ اليابان كان ذلك دليلاً ثانيًا
على استعداد الشرقيين للتقدم العصري والارتقاء، وعلى قابليتهم للانتظام ومقدرتهم
على الثبات خلافًا لما يشيعه عنهم الأخصام.
وليس غرضنا الآن تبيان ما بلغته الحبشة وما ستبلغه من التقدم إن استمرت
على سيرها الحثيث.
وانما غرضنا ذكر حديث جرى في بورسعيد بين أحد مكاتبي الجرائد
الأوروبية والمسيو أتوجوزف سكرتير منليك الخاص، فإن في ذلك الحديث بعض
اللذة والفائدة، وهو بصور السؤال والجواب.
س: هل تحب مصر؟
ج: لا أحبها لأنها بلاد قوم لا يحبوننا، فهم يزعمون أن الحبشي ملك يدهم،
لذلك يسمونه " عبدا "
س: وما رأيك في الإنكليز؟
ج: لا نخشى لهم بأساً وحسبهم الآن الدراويش خصمًا. وإنا لا نحذر غير
الفرنساويين، ولو أنا انكسرنا في حربنا مع الطليان لبتنا طعمة للفرنساويين.
س: وما صنعتم بأسرى الطليان؟
ج: لقد عاملنا الجميع بكل رفق وتؤدة؛ لأن قوانين الحبشة تنهى عن مضايقة
الأسرى أو تعذيبهم، وقد أطلقنا سراحهم جميعهم، فرحل البعض بسلام إلى بلادهم،
وعلق البعض نساءنا فاستحبوا الإقامة عندنا. وقبل أن يطلق الطليان أسرانا سمعنا
أنهم أساءوا معاملتهم، فلم يحملنا ذلك على مقابلة الإساءة بالإساءة؛ لأنا نعتبر
الأسير مقدسًا، لا يجب أن يمس بسوء.
س: ما قولك فيما شاع من أن إنكلترا ستمنحكم زيلع على أن تلتزموا الحياد
في الحرب التي بين مصر والدراويش؟
ج: لا أعلم في ذلك شيئًا؛ لأني أجهل حوادث بلادي منذ سبعة أشهر، علمًا
أني لا أرى أفضل من الحياد في مثل هذا الظرف، فإن المتحاربين مسلمون، ولا
أرى ما يوجب علينا اختراط الحسام دفاعًا عن المسلمين.
س: وهل تحمل لجلالة الإمبراطور كثيرًا من الهدايا؟
ج: لقد بعث معي جلالة السلطان فرسين من الخيل الجياد، ونيشانًا باهرًا،
وبعث جلالة القيصر كلبي صيد وسيفًا ثمينًا وغير ذلك من الهدايا.
س: هل لك أن تتفضل عليّ بوصف هيئة الحكومة في بلادكم؟
ج: لا عندنا مجالس شورى ولا دستور ولا نواب، فإن جلالة الإمبراطور هو
الحاكم الأعلى وله مجلسان: عقلاء الشيوخ يستدعيهم عند الاقتضاء، وهناك محكمة
فيها قاض واحد لا يحكم في قضية إلا عند شهادة رجلين، أما القاتل فجزاؤه القتل،
وإن شاء الإمبراطور أن يعفو عن القاتل كان لعائلة المقتول أن تعترض على ذلك العفو
ولعائلة المقتول أن تنفذ بيدها حكم الإعدام.
س: وهل الملكة نبيهة متهذبة؟
ج: اسم جلالتها تايتيس أعني الشمس وهي نبيهة وشديدة الاهتمام بالآداب
العمومية.
س: بما أنك ذكرت لي معنى اسم الملكة فأرجو أن تذكر لي ما معنى اسم
(منليك) ؟
ج: إن تاريخ هذه الكلمة قديم، فقد جاء في التقاليد القديمة أن ملكة سبأ سمعت
بحكمة سليمان الحكيم، فوفدت عليه. ثم وضعت منه غلامًا فراعها ذلك فصاحت:
(ماذا يقول سليمان) . فقولها: (ماذا يقول) ترجمته في اللغة الحبشية (منليك) ،
ولذلك سمي به ابن ملكة سبأ.
س: ما عدد سكان الحبشة؟
ج: عددهم خمسة ملايين من الأحباش المسيحيين ومليونان ونصف من
المسلمين، واثنا عشر مليونًا من الوثنيين.
س: وهل يعيش هؤلاء كلهم براحة وسلام؟
ج: يعيشون بالراحة الممكنة على أن الأرض مخصبة والهواء معتدل والحرية
مطلقة للجميع. أما الآداب العمومية فنقية؛ لأن الاهتمام بها عظيم. وفي المدن
الكبرى مدارس للفرير تربي الأولاد أحسن تربية.
س: نسيت أن أسألك عن نظام البوليس؟
ج: لا بوليس في الحبشة. فإن كلاًّ منا يحترم ملك الغير وحقوقه، وعنواننا
كلنا: (أغلق شفتيك وافتح بابك) - يريد: قلة الكلام وكثرة الضيافة. انتهى
على أن تلك الأمة الخارجة من غياهب الهمجية خروج الزهور من أكمامها، لا
تزال في ظلمة التعصب الديني والجهل الوخيم، لذلك لا تُحْسِن معاملة المسلمين من
رعاياها، على أنها ستعلم خطأها حين يسقط عن عينيها برقع الجهل والغباوة وما
سبب التعصب الذميم إلا الجهل الوخيم. اهـ من ترجمة بعض الكتاب.
هذا ما اخترناه من العدد الأول وما بعده إلا (الأخبار المحلية) وبرقيات
الأسبوع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القول الفصل
محاورة في سعادة الأمة [
1]
نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر
التأمل والاعتبار، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها، من
بداوة وحضارة، وهمجية ومدنية، وقوة وضعف، وصعود وهبوط، وغلبة
وانغلاب، ونحو هذا من الصفات المتقابلة، والشؤون المختلفة، فحدا بهمته النظر
بعين البصيرة إلى طلب النظر بعين البصر، والسير في الأرض لمشاهدة آثار
العالمين، وتطبيق ما يرى على ما علم، فضرب في الأرض شرقاً وغربًا، وخالط
الأمم عجمًا وعربًا، واكتنه الأخلاق، واختبر العادات، وشاهد سير العلوم والفنون،
ووقف على أمهات الصنائع والأعمال، وسبر قوى العقول والأفكار، ثم شرع في
المقابلة والتنظير، فتجلى له أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم
واحدة وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك، والتفاوت في الاستعداد
وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات، ويخرج من عداد الإنسان،
ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور
عارضة وظروف خارجية. وأعمل فكره في معرفة مناشئ هذه العوارض، وعلل
هاته الطوارئ، وارتقى في الأسباب الكثيرة، وتبصر في تأثيرها، فعرف كيف
يمكن اتقاء العوارض المضرة، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم
فأخرتها، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي، والقوى
القدسية التي منحها الله للإنسان. ثم رجع هذا العاقل إلى وطنه وقد أوتي الحكمة
وفصل الخطاب، وصار من أطباء النفوس القادرين على مداواة أمراض أمته،
وعجب لإغفال الجماهير من قومه هذا النظر وهذه السياحة، حتى كأنهم عميان،
وصار يردد في نفسه هذه النصوص {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} (ق: 6){أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (الأعراف: 184) ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ثم وجه عنايته لتنبيه قومه على ما استفاد في سياحته {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) .
ولما أن جاء البشير القوم للسلام عليه سألوه عن رحلته من حيث سهولة السفر
ومشقته وما كان طعامه وشرابه فيه، وعن منتزهات البلاد التي زارها، فعذلهم
بلطف على هذه الأسئلة، واعتذر لهم عن نسيانه لهذه الأمور، وطفق يحدثهم عن معارف البلاد لا عن معازفها، وعن مصانعها لا عن مراقصها، وأطال في الكلام
عن الأمم المتمدنة وعما رأى فيها من موارد الراحة السائغة وبرود النعمة السابغة
حتى أدهشهم، وكان يتكلم عن انفعال وتأثر، ويشوب كلامه بالتأوه والتحسر،
فأثرت حالته في نفوسهم، وحركت منها كوامن الغيرة، وأحب فريق منهم أن يبحث
معه في سعادة الأمم وشقائها، وشدتها ورخائها، وهبوطها وارتقائها، فاعترضه
آخرون قائلين: إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال، ويزعج الخاطر، وهو عبث لا يفيد شيئًا، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم، ولا
لأعمالهم أثر في منافعهم، بل ليس لهم إرادة أيضًا، بل هم في الحقيقة كالريش في
الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به، ولا إرادة ولا اختيار، نستغفر
الله، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة، ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين:
(سُني في الظاهر جَبري في الباطن) فأجابهم أولئك قائلين: إنكم تؤمنون بلفظ
الاختيار دون معناه وكأنكم ترون أن حركة اللسان بلفظ الاختيار هي الفصل الذي
يخرجكم من عداد طائفة الجبرية الذين اتفق أساطين علماء الملة على فسوقهم من
الاعتقاد الحق، ونبذهم بلقب الابتداع في الدين.
أما علمتم أن الألفاظ لا تدخل في ماهية العقائد وحقيقة المذاهب وأن الخلاف
في إطلاق اللفظ على معنى متفق عليه يرجع إلى الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
أتزعمون أنه لا واسطة بين الجبر والقدر، وأن الذين يسمون أهل السنة هم جبرية
في الحقيقة، لكنهم لما عجزوا عن الجواب على ما يستلزمه هذا المذهب من تخطئة
تشريع الشرائع وإنزال الكتب تستروا بلفظ الكسب والاختيار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) . حاشاهم حاشاهم، ونستغفر الله من هذا الضلال
البعيد.
فأجابهم السائح العاقل: على رسلكم، فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية،
ولكن عموم الجهل جعلهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية.
كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر
ويقول: (هو بيدنا إيه) وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا
ويقول: (شو طالع باليد) وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف
{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 58) .
كلمة حق أريد بها باطل، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل، أرأيت إن ألمت ملمة
بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب، بل ويتعدون
الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها
الشرع وينبذها العقل، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين،
والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم
ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح، ويستنفرون أولئك
بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر، ويستنبئون عن حقيقة الأمور
بخطوط الرمل أو الطرق بالحصا وحبوب الفول، ويتعرفونها من الدجاجلة
والعرافين.
فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها
وتباينها، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط، فهم جبرية بإزاء
المصالح العامة، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة.
وقد نظرت في التاريخ سير العلوم واختبرت حالتها اليوم فرأيت العلماء
الباحثين في مسائل الجبر والقدر والكسب قصروا أنظارهم على مفهومات هذه
الألفاظ، وتفلسفوا فيها، ولم يلتفتوا إلى ما تحدث هذه العقائد في الإرادة من الآثار،
وما يتبع تلك الآثار من الأعمال، وما ينشأ عن تلك الأعمال من ضعف أو قوة،
فينبهوا الأمة عليه.
ألّفوا فيها المتون والشروح، وعلقوا عليها الحواشي والتقارير، فما زادت
الأمةَ تآليفُهُمْ إلا حيرة وإشكالاً، وكانوا كجواب المجاهيل يغذ أحدهم السير سحابة
نهاره وعامة ليله ثم لا يدري هل أراد بسيره قربًا أو بعدًا (سيفرد المنار مقالة
مخصوصة لهذه المسألة) .
وأما الذين لم يبلغ الجهل منهم مبلغ إنكار الوجدان والقول بالجبر الصراح،
فهم يعلمون أن الأخذ بالأسباب عملاً واعتقاد ارتباطها بالمسببات بحيث لا تتخلف
عنها إذا تمت شروطها، ولا تحصل إلا معها هو الحق، وأن انكشاف الخطوب على
أيدي الآخذين بأسبابها التي سنها الله تعالى لها لا يقتضي أنهم عاندوا الإرادة الإلهية
وكانوا هم الكاشفين لها من دون الله تعالى.
فخجل المحتجون بالجبر عند هذا البيان، واتفق القوم كلهم على البحث مع
السائح العاقل في شؤون ترقية أمتهم، وعن الأسباب التي ينبغي الأخذ بها للحصول
على هذه الأمنية الشريفة. وأجمعوا على أن يكون البحث على طريق السؤال
والجواب؛ لأنه أدعى إلى إلقاء السمع وتوجيه الفكر، وأقرب إلى التنبه والتبصر
وأن يكون السائح هو السائل؛ لأنه أعلم بحاج الأمم؛ لما أفاده العلم والاختبار، ثم
إذا اختلفوا في الأجوبة يحكمونه فيما شجر بينهم، ويكون بقوله العمل وعليه الفتوى.
فقال: إنني ملقٍ عليكم مسائل متعددة في مواضيع مختلفة، وكلها تتعلق بسعادة
الأمم، وأطلب عليها كلها جوابًا واحدًا يؤدى بكلمة واحدة. فقالوا له: يشبه أن يكون
كلامك هذا من الألغاز والأحاجي فكيف السبيل إلى حل معماه، وكشف مخباه،
وكيف يكون الجواب عن الأسئلة في المواضيع المختلفة واحدًا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ} (ص: 5) .
فقال: لا عجب، فإن كل كثرة لا بد أن تجمعها جهة وحدة، فكما أن الوحدة
التي نسميها سعادة الأمة لا تحصل إلا بأمور كثيرة ترجع إلى شيء واحد وهو
(سعادة الأمة) ، كذلك وسائل هذه الأمور الكثيرة التي منها تستمد مسائلي تئول إلى
شيء واحد. (وسيلة ترجع إليها جميع الوسائل، وسبب يجمع كل الأسباب) وهو
الجواب الذي سأشرحه لكم، ثم أنشأ يسرد الأسئلة فقال:
(س) ما هو الناموس الذي يحصل به الجذب والانجذاب بين العناصر
المتفرقة، ويحكم الالتصاق بين أفرادها فيكوِّن المجموع أمة واحدة، وبماذا
توجد الرابطة التي تجعل مدار هذا المجموع على محور واحد؟
(س) أي شيء يمحو من نفوس أفراد الأمة الأثرة والاختصاص بالمنافع
دون قومهم، ويثبت فيها حب الوطنية والجامعة الجنسية، بحيث يرى كل واحد أن
منفعته في منفعة أمته ومضرتها عين مضرته، بل ما هي الروح التي تنفخ في
آحادها، فتحيا بعد مماتها، وتجتمع بعد شتاتها، وتكون جسدًا واحدًا إذا اشتكى له
عضو تداعى له سائر الجسد، فإنني أرى هذا الروح هو المدبر لبعض الأمم، وكأنه
فقد من أمتنا بالكلية فانتثر عقد اجتماعهم، وانحل تركيب بنيتهم، وتفرقت كلمتهم،
ورُزِئُوا بالتخاصم والتنازع، والتباغض والتحاسد، وأصبحوا و {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} (الحشر:14) ،
وأَنَّى يفقهون معنى هذه الحياة الجنسية، وسر هاته الجامعة الوطنية، وكيف
تحصل لهم، وبماذا توجد فيهم، وأنَّى يجتمعون في صعيد واحد مع اختلاف
منابتهم وتقطع وشائجهم؟
(س) إذا اعتقدت الأمة بأفرادها انحطاط المدارك وضعف العقول وعدم
الاستعداد الفطري لاحتذاء الأمم الأخرى فيما جاءت به من عجائب الصناعات، وما
استنبطته من دقائق العلوم والفنون؛ لأنها شاهدت الآثار التي انتهت إليها وهي في
غيبة عن مبدئها، وكيفية نموها، فأنى يكون تنبيهها إلى ما أودع فيها من
القوى الطبيعية والقدر الوهبية الكامنة في أرواحها، ككمون النار في الحَجَر أن
قَدَحْته أورَى، وإن تركته توارى، وإنه ليس عليهم في إبراز آثار هذه
القوى إلا استعمالها فيما خلقت كما استعملها الآخرون؟
(س) إذا تمكن في النفوس اليأس من التقدم، والقنوط من الترقي؛ لاعتقاد
أن زمن التدارك قد فات، وأنه لا يمكن مجاراة المتخلف لمن بلغ الغاية، وإن كان
الاستعداد واحدًا، فغلت لذلك الأيدي عن العمل، كأنما هي مشلولة، ووقفت الأرجل
عن السعي حتى كأنها مقطورة. (أي محبوسة في المقطرة، وهي خشبة
مثقوبة توضع فيها أرجل المحبوسين) ، فبماذا تنزع الأغلال، وتكسر المقاطر،
وتنعم تلك النفوس بحلاوة الرجاء بعد مرارة اليأس، وتندفع اندفاع الجياد القرّح
إلى طلب المجد المؤثل الذي تطلبه بحق وتجري فيه على عرق؟
(س) إذا حاول بعض أهل الثراء أن يحتذي شاكلة السابقين، ويتلو
تلو الشعوب المتمدنة، فأنشأ يقلدهم في أحوال معيشتهم التي انتهت بهم إليها
طبيعة بسطة الملك وسعة الثروة، فشيد القصور، ونقش الجدران وزينها
بالأرائك والزرابي والسجوف والمصابيح، وسائر أنواع الآنية والماعون النفيس،
الذي يجلبه من بلاد تلك الشعوب، فكيف يمكن إقناع هؤلاء بأن هذا التقليد تذفيف
على جرح الأمة، وإجهاز على حياتها، وبه ينضب معين ثروتها، على أنه
ليس لديها من أمواه الثروة إلى بقية وشل. وإن التقليد النافع إنما يكون في
خدمة المعارف، والسير في طرقها التي سار فيها أولئك، وفي الأعمال
النافعة التي هم لها عاملون؟
(س) كيف تحافظ الأمم على أديانها ولغاتها وعوائدها النافعة إذا كانت مهددة
من أمم أخرى بحكم ناموس تنازع البقاء، وكيف ظلت اللغة العبرانية محفوظة في
ألسنة الإسرائيليين مع ما ابتلوا به من فقد السلطة والشتات في الأقطار، وما رُزِئُوا
به من جور الحاكمين، واضطهاد الظالمين، ولماذا فسدت ملكة اللغة العربية من
ألسنة أربابها مع نمو عمرانهم وامتداد سلطانهم؟
تسمع ولدان اليهود في روسيا وألمانيا وأوستريا وفرنسا وإنكلترا وأسبانيا
وإفريقية وأميركا يتكلمون بلسان كتابهم (التوراة) على نحو ما كان يتكلم به
آباؤهم الأولون. ولم يصدهم عن حفظه معرفة لغات الشعوب الذين هم عائشون في
بلادهم. وشيوخ العلم في مصر والشام والعراق والمغرب، بل وفي الحجاز
واليمن يكتفون بوجود لغة (القرآن) في مطاوي الكتب وبطون الدواوين؟ !
(س) كيف يمكن التفلت من إشراك العادات الرديئة وأحابيلها. والتفصي
من عقل التقليدات المضرة التي أوقفتنا عن السير، وأحدثت فينا قناعة البهم،
وبغضت إلينا كل جديد، وإن كان فيه سعادتنا، وقد استحكمت بتوالي الأيام وكرور
السنين. وقويت على سلطان العقل وإرشاد الدين، حتى اعتقد الآخذون بها حسنها،
وأنكروا على من أخل بشيء منها {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) ، أما والله لو أن أجسادنا هذه تدبرها أرواح
كأرواح آبائنا الأولين لكنا نحن السابقين إلى كل ما يسمى اختراعًا واكتشافا وعملاً
نافعًا؟
(س) إننا نرى كثيرًا من الأخلاق والعادات لها وجهة للخير ووجهة للشر،
يجتني نفعها أناس ويصاب منها بالضرر آخرون. فكيف يتفرع عن الأصل الواحد
فروع مختلفة وآثار متباينة. وبماذا اهتدى الأوربيون للانتفاع من اختلاف رجال
العلم ورجال السياسة وتنازعهم، وتبينوا من هذا الاختلاف والتنازع محجة الصواب
وحقيقة الأمر، حتى كأن نور الحقائق العلمية والمصالح السياسية لمعان البرق،
لا يظهر إلا بين الإيجاب والسلب.
ولماذا كان الاختلاف والتنازع في الشعوب الشرقية حجابًا على وجه الحقيقة،
وغشاوة على عين البصيرة، تضيع فيه المصالح، وتندرس رسوم المنافع، حتى
كان تصادم أفكارهم تصادم القوارير؟
(س) ما هو الغاسول المطهر للأذهان من أقذار الوساوس والأوهام التي
توقع في الخوف مما لا يخيف، ورجاء ما لا يفيد، وبماذا يكون ترميج (إفساد
السطور المكتوبة) ما سطر في ألواح النفوس من أساطير الخرافات أو محوه بالكلية
ورسم آيات الحكمة وإثبات نقوش الحقائق على هذه الألواح الشريفة القدسية؟
(س) بماذا يعرف المجد الصحيح من المجد الباطل، والكمال الحقيقي من
الكمال الوهمي، فتتحول مجاري نفقات الأفراح والأحزان من الولائم والوضائم وما
يتبعها إلى التعليم والتربية، ويستبدل تشييد المكاتب والمدارس الوطنية بتشييد
القصور على القبور (الأحواش) الذي استن المصريون فيه بسنة (خوفو)
و (خفرع) و (منكورع) الذين شادوا الأهرام لحفظ جثثهم الشريفة؟
(س) ما هو العلاج الذي يستأصل جراثيم الفساد، والدواء القاتل
(لميكروب) الأدواء الروحية، الشافي من الأمراض القلبية التي تتولد عنها المآثم
والموبقات؟
(س) متى تقل الأمراض الجسدية، ويتزين مجموع الأمة ببرود الصحة
الضافية، ويلقون عن وعواتقهم أسمال الأمراض وأخلاق الأسقام، ويقل فيهم فتك
الأوبئة إذا لم يكن محو هذه المصائب بالكلية؟
(س) بماذا تحصل الثروة للأمم؛ فإننا نرى بعض الشعوب استولى عليها
الفقر المدقع، فلا يوجد فيها من الأغنياء إلا أفراد قلائل، والكثير منهم ما نال
الثروة بطرق مشروعة وأعمال شريفة، والسؤال إنما هو عن ثروة الأمة من الطرق
الشريفة المشروعة. ولو وزعت ثروة من ذكرنا على الأمة بالتعديل لم تخرج من
عداد الأمم الفقيرة؟
(قال السائل الحكيم) : وإذا قلتم: زراعة، صناعة، تجارة، فإنني لا أعتد
ذلك جوابًا، بل هو يحملني على التفصيل بإلقاء أسئلة أخرى في موضوع الثروة
فأقول:
(س) ما الوسيلة إلى تحسين حالة الزراعة بحيث تفيض الأرض بالخيرات
والبركات التي هي كنوزها الحقيقية. ولماذا كان أهالي فرنسا، بل وأهالي زيلندا
(جزيرة في البحر المحيط) أكثر ثروة زراعية من أهالي مصر بالنسبة لمساحة
الأرض، مع أن أرض مصر أخصب تربة، ورجالها أكثر جلدًا على العمل،
وعندهم النيل الذي ليس له في زيلندا ولا في فرنسا نظير؟
(س) ما الذريعة إلى إتقان الصناعة وتوسيع دائرتها، والتفنن في تنويعها
بحيث تكتفي بها الأمة وتحفظ ثروتها عن اغتيال الأجانب لها، وجعلها عالة عليهم
ثم تكفي غيرها من الأمم التي أصابها مرض الجهل والكسل فأقعدها عن الأعمال؟
(س) ما هي الطريقة للتصرف بأساليب التجارة التي عليها مدار الثروة
الأكبر، والتي هي من الصناعة والزراعة كالقوة المتصرفة من المعلومات
والمدركات. أو كالشرايين والأوردة لدم الإنسان والحيوان؟
(س) كيف تسنى لأفراد من طلاب الكسب الأجانب احتكار ماء النيل وماء
نهر الكلب (نهر في لبنان تجره إلى بيروت شركة أجنبية) ، كما تحتكر السلع
وعروض التجارة، وبيعه لأهل البلاد بالمال. ومَن كان (لولا المشاهدة) يصدق
أن الأمة تنحط إلى دركة لا يمكن للوطني معها أن يتناول جرعة من ماء بلاده إلا إذا
اقتضى الأجنبي منه ثمنها المعلوم عن رضى واختيار، (أما وسر العلم والاجتهاد لو
وجد مثل هذا الخبر في كتب تاريخ الأمم القديمة لعد من هذيان القصاص المولعين
بتلفيق الأكاذيب للإعجاب والإغراب) ؟
(س) بماذا تحرز الأمم القوة والمنعة، وتعقد على ألويتها الغلبة والظفر،
وكيف استولت إنكلترا على ممالك الهند وعلى أستراليا والكاب والنيجر وكندا،
وكيف استولت فرنسا على بلاد الجزائر وتونس والسنغال ومدغسكر وأنام
وكمبوديا وكوشين صين وتونكين، وكيف استولت هولندا على كذا وألمانيا على
كذا؟
(س) كيف يسهل على نفر قليل الاستيلاء على شعب كبير، يصرفونه في
مصالحهم ويستخدمون أفراده في منافعهم، ويستعملونه كما تستعمل الدواب والأنعام،
بل يديرونه كما تدار الآلة الصماء، وهو لا يدري علة هذه السلطة ولا وقوف
لأفراده على حقيقة أسبابها، ولعله لا يتفكر فيها أيضًا، كأنما فقد كل إحساس وشعور؟
(س) كيف أمكن للأميركانيين إلقاء السلطة الإنكليزية عن عواتقهم وطرح
أوزار سيطرتها عن كواهلهم، واتحاد ولايات بلادهم تحت لواء واحد، تستضيء
بنجومه أمم، ويخشى من شهبه آخرون. حتى إن أوربا تحذر منه على ما بقي لها
في العالم الجديد، وتتوقع تنفيذ قول مونرو:(أميركا للأميركيين) ؟
وبالجملة:
(س) ما هي الآلة الرافعة للمتطوحين في عواثير التعاسة والشقاء،
والمتدهورين في مهاوي الخذلان. وما هي المدارج التي ترقى فيها الأمم إلى المدنية
الصحيحة، والمعارج التي تصعد عليها إلى مراتب الكمالات الصورية والمعنوية،
من دينية ودنيوية، وما هو النور الذي يستضاء به في ظلمات الجهل والغباوة،
والمنار الذي يهتدى به في مَهَامِهِ الحيرة ومجاهيل الخطوب؟
فلما فرغت المسائل، وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنَى (جمع بنية)
الأمم، وينفخون فيها روح الوحدة. وينشقونها نسيم الحياة الوطنية. ويمدون فيها
جداول الثروة، بما يمهدون من طرق الكسب ويحفرون من الترع ويبنون من
المعامل والمصانع، ويهيئون من الآلات والأدوات إلخ ما أشرتم إليه من أسباب
السعادة.
فرد عليه السائل قائلاً: إذا فرضنا أن الحكومة غنية مع فقر الأمة وأمكنها أن
تعمل كل هذه الأعمال فهل في استطاعة الحاكم أن يقتلع من نفوس الأمة جراثيم
الأخلاق الذميمة، وينقي منها بذور العادات الرديئة التي تنجم عنها الأفعال المضرة،
ويغرس فيها أشجار الأخلاق الفاضلة والسجايا الجميلة التي تثمر الأعمال النافعة؟
كلا إن من يلقي التبعة كلها على الحكام مخطئ في حكمه، وإنني رأيت أكثر الأمم
الشرقية لا يرون لأنفسهم وجودًا إلا بالحكام، ويرون أن صلاح الأمة وفسادها وغيها
ورشادها وصحتها ومرضها وغناها وفقرها، بل ومحياها ومماتها كل ذلك بيد الحاكم
حتى كأن الحاكم بيده ملكوت كل شيء وهو يجير لا يجار عليه، وكأن هذا الوهم
متسلسل فيهم بالإرث من عهد من قال {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258) وعهد
من قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) ، وجهلوا أن الحاكم ليس إلا رجلاً
من الأمة، وأن الحاكمية مازادت في فضائله، ولا منحته قوة فوق القوى البشرية،
بل ربما أفسدت أخلاقه وأسقمت مداركه، (كما شوهد في البعض) ، والصواب أن
إصلاح الأمة لا يكون من الحاكم، نعم إن الحاكم إذا ساعده يكون أسرع سيراً وأقرب
نجاحًا.
ثم انبرى آخر للمجاوبة وقال:
إن الطريق الوحيد لإنهاض الأمة من ضعفها وإقالة عثرتها وإقامتها في مصاف
الأمم القوية إنما هو تسليم أزمة أمورها الكلية إلى رجال من ساسة تلك الأمم،
يقيمون فيها القسط، ويرفعون لواء العدل والمساواة، ويغلون أيدي المتسلطين عن
التعدي، ويجتثون شجرة الرشوة الخبيثة من أصولها، ويعممون فيها الأمن،
وينشئون المعامل والمصانع، ويسهلون الطرقات، ويقربون الأبعاد بما يمدون من
السكك الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، ويوسعون دائرة الاكتساب بإنشاء
الشركات المالية التي هي أسس جميع أنواع التقدم من زراعة وصناعة وتجارة،
وينشرون المعارف الصحيحة التي لا توجد إلا في لغاتهم، فلا يمضي على الأمة
أربعون سنة حتى تنشأ خلقاً جديدًا.
فقال السائل وقد اضطربت نفسه وانفعلت روحه وتبيَّغ دمه حتى كان يتفصد
من وجهه:
اذا استشفيت من داء بداء
…
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
لقد أخطأ ظنك يا أخي واستحوذ عليك شيطان الوهم، ولقد نثرت الملح على
جرحي بجوابك هذا، أما علمت أن ساسة تلك الأمم الذين أشرت إلى تسليم كليات
الأمور اليهم قد تربوا في بلادهم على حب أوطانهم ووقف حيلتهم على نفع أمتهم،
وقد تطبعوا على ذلك عملاً فصار ملكة راسخة في نفوسهم تصدر عنها جميع
حركاتهم وسكناتهم من غير روية ولا تكلف.
وإن جميع ما يبرز من أعمالهم مفيدًا للأمة التي يتولون إصلاحها في الظاهر،
لا بد أن يكون في باطنه منفعة لأمتهم، فإن المنفعة هي القطب الذي تدور عليه
رحى أعمالهم، فلا ينشرون من المعارف في البلاد إلا ما يشرب القلوب حبهم،
واعتقاد عظمتهم ويفسد على الأهلين لغتهم وعوائدهم وتقاليدهم التي كانوا بها أمة
ممتازة عن غيرها مستقلة في وجودها.
ولا يوسعون دائرة الكسب إلا للعارفين بأساليبه من أبناء طينتهم، فتسهيل
طرق الثروة حسية ومعنوية، وتعميم الأمن، والضرب على أيدي المتسلطين، كل
ذلك وسيلة لتمكنهم في الأرض، وسد أَثْبَاج الثروة عن أبناء الوطن، وتحويل
تلك الأثباج والمجاري إلى الآخرين.
نعم إن الوطنيين يتمتعون منها بقليل من الراحة التي تزيد في كسلهم
ونقاعدهم، حتى يئول الأمر إلى امتلاك الأغيار لأراضيهم الواسعة ويتخذونهم
أجراء ومزارعين، فيعلمون كيف دس لهم السم في الدسم حين لا ينفعهم العلم.
سألت عما ينهض بالأمم، فأجبتني بما يقذفها في تيهور العدم، ويهبط بها إلى أسفل
سافلين.
ثم تصدى للجواب رجل ثالث فقال: إن الجرائد الحرة هي التي تنبه أفكار
الأمة وتنير عقولها بنشر المعارف، وترشدها إلى التحلي بالفضائل، والتخلي
عن الرذائل، وتدلها على أساليب المدنية، وتزعجها إلى العمل بها تارة
بالترغيب والتنشيط، وطورًا بالترهيب والتحذير من عواقب التفريط، وتحرك من
نفوسها كوامن الغيرة التي تدعو إلى المنافسة والمباراة، إلى غير ذلك من الفوائد
التي لا تعزب عن علمكم.
فقال السائل: إن الجرائد وإن كان لها الشأن العظيم عند الأمم المُمَدَّنَة والأثر
المشهود في سير مدنيتهم التي تعتبر الجرائد كالحداة له، إلا أنها ليست هي
الموجدة لتلك المدنية. فإذا لم يوجد في الأمة سير إلى المدنية الفاضلة فلماذا يكون
الحداء.
نعم، ينبغي أن تنشأ عندنا جرائد لأجل الحث على الاجتماع وتعيين الغاية التي ينبغي أن تقصد، والوجهة التي يجب أن تولى، ثم الحث على السير إلى تلك الغاية في الطرق الطبيعية التي سنها الله تعالى لها، وهدانا إلى سلوكها، ثم الحداء الذي يسهل على السائرين احتمال المتاعب وقطع المسافة مع النشاط والارتياح.
ولا أقول: إن الجرائد هي المصلحة لحال الأمة، بل هي مساعدة على
الإصلاح إذا صدقت وأخلصت، وأفضل عملها إيصال أفكار الطبقة العاقلة من الأمة
إلى سائر الطبقات تحت مبدأ واحد شريف، فإنما المدار على الوحدة كما أشرنا أولاً.
ثم التفت إلى القوم فقال: هل بقي عندكم شيء من الأجوبة؟ فأجابوا بلسان
واحد: لا، وإننا نطلب الجواب من حضرة السائل الحكيم.
فقال: إن الجواب الذي قلت: إنه وسيلة لسعادة الأمة تجمع كل الوسائل،
وسبب يرجع إليه جميع الأسباب هو (تعميم التربية والتعليم) ، وهذا اللفظ تلوكه
الألسنة كثيرًا إلا أن معناه لم يُعْطَ حقه من التبصر والتأمل. فإن كنتم في ريب
مما قلت فإنني مستعد لإقناعكم. وإنْ أذعنتم ولم توجهوا كل قواكم العقلية والمالية
للحصول على هذه الرغيبة، فأنتم العاملون على ضياع أوطانكم وخائنون
أمتكم وملتكم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
نشرت في فاتحة العدد الثاني الذي صدر في يوم الثلاثاء 29 شوال سنة 1315هـ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجمل الأحوال السياسية
ألمعنا في العدد الماضي إلى أمهات السياسة الحاضرة، وتكلمنا على بعضها،
ووعدنا بالكلام على باقيها فيما يأتي من الأعداد، وإنجازًا للموعد نأتي على
بيانها بالإجمال على الوجه الذي يوجب العظة والاعتبار مبتدئين بتمهيد في بيان
الاستعمار الذي هو منشأ هذه الأحوال فنقول:
من طبيعة العمران البشري استيلاء القوي على الضعيف، ومن هنا كان طلب
الفتوح والتغلب طبيعيًّا في البشر. ولم يكن في العصور الأولى طريق للفتوح
والتغلب إلا الحرب العوان، التي لم يُلْقِ الإنسان أوزارها عن عاتقه في دور من
الأدوار، ولقد انطبعت الأنفس عليها بالعمل المتكرر وحتى كادت تكون مقصودة
لذاتها، أعني الفتك المجرد عن ملاحظة المنفعة التي عليها مدار جميع أعمال
الإنسان. وأول تغيير مهم حصل في تاريخ الحرب فخفف ويلاتها وجعلها في ضمن
دائرة معقولة ما جاء به الدين الإسلامي، وإن لم يجر عليه المسلمون في بعض
حروبهم وغزواتهم [1] ، وسنفرد للكلام على تاريخ الحروب فصلاً مخصوصًا،
ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى (آية الجهاد) وما يتلوها من
الآيات المبينة حكمة الحرب، وسبب الإذن فيه، وما يشترط في المحاربين
إثباتًا لقولنا وهي:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) .
وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة
المحاربين (بفتح الراء) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة
التعليم، لا بواسطة الجبر والإلزام، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم،
حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة.
وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل
مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم، وفتح أبواب الرزق لأممهم، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك
سبيلاً. والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك، وهو أساس مدنيتهم ودعامة
قوتهم: الاقتصاد وتوفير الثروة، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات
التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم، ونشر لغات
أممهم وآدابها، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا، واكتفوا بالقبض على
زمام السلطة بالفعل، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها؛ ففي
الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين: نواب (الأمير المسلم) ، وراجا (الأمير الوثني) ،
وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون
بأوامره (إلا قليلاً منهم) .
وتبارت تلك الأمم في الاستعمار، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث
المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا
السيل المنهمر، فمنها ما أدركته بوادره، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وبالجملة لم
تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه، فإن لم يصبها وابل فطل، هذا
هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة، ومثار الخلاف بين
الأمم، ومولد الفتن بين الدول، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل، وإليك بيان
بعض آخر.
***
الهند
مستعمرة عظيمة شرع الإنكليز في تأسيسها عندما أحسوا بخيال الحرية يطوف في أذهان الأميركيين الذين استعمروهم من قبل، وعلموا أن التربية الصحيحة وتعلم
الفنون العقلية والعملية لا بد أن ينفخَ فيهم روح الثورة، فيهبوا إلى طلب الحرية
والاستقلال.
ولقد صدق الظن ووقع ما كانوا يحذرون واستغنوا بممالك الهند الفسيحة عن
ولايات أميركا التي اتحدت على محاربتهم، فتسنى لها الظفر عليهم واستقلت،
فسميت (الولايات) ، وهم يحذرون اليوم من الهنود ما لاقوه من الأميركيين من قبل،
وإن كانت وسائل التربية عند هؤلاء ضعيفة، والعلوم لم تنشر إلى الدرجة التي
ينشأ عنها مثل تلك الأعمال التي صدرت من الأميركيين، لكن الأمة الإنكليزية
الحكيمة تبني حياطها على أسس الاحتياط، ولذلك عملت على إنشاء مستعمرة
عظيمة في إفريقية تستغني بها عن الهند إذا أتيح لها التفصي من عُقُلها، والتملص
من سلطتها بواسطة انتشار التعليم، أو بمساعدة دولة روسيا الطامعة فيها، ومع هذا
لم تأل جهدًا في سبيل المحافظة عليها، فقد جعلت لها السلطة على ترعة السوسي
التي هي طريق الهند بحرًا واكتفت بالسد المنيع الذي بينها وبين روسيا من جهة
الشمال، وهو الأمة الأفغانية التي لا تجهل روسيا قوتها ومنعتها، وحفظت بريطانيا
العظمى لهذه الإمارة الصغرى حقوق الجوار وساعدتها على تقوية بلادها بالمال
والرجال، وعقدت معها المحالفة، كما هو الشأن بين الأكفاء والأمثال.
ثم لما شعرت بدبيب الروس نحو تلك الحدود، حاولت امتلاك المضايق
وشعاب الجبال، والاستيلاء على جميع المراكز الحربية، وساعد الأمة على ذلك
قبض حزب المحافظين على زمام الحكومة، ومن سياسة هؤلاء توسيع دائرة السلطة
في كل آن، خلافًا لحزب الأحرار. وفي العام الماضي تحرشت العساكر الهندية
الإنكليزية بالقبائل المستقلة في الحدود الهندية الأفغانية ابتغاء إدخالها تحت الحماية
البريطانية، فنفرت تلك القبائل خفافًا وثقالاً، ودافعوا عن استقلالهم، واستنفروا مَنْ
في جوارهم من القبائل، واستفحل أمر الفتنة، وكانت الحرب سجالاً، بل دارت
الدائرة في الأكثر على الإنكليز، فجهزوا جيشًا عرمرمًا يربي على السبعين ألفًا،
فجاء الشتاء ولم يقووا معه على إطفاء نار الثورة، فأرجئوا الحرب إلى فصل الربيع.
ونادَى اللورد سالسبري رئيس الوزارة بعدم الحاجة إلى توسيع نطاق الملك،
وقالت التيمس بعد بحث طويل في حرب الحدود: إن إنكلترا لا تعوزها الأراضي
الآن، فيجب أن تغض الطرف عن المضايق التي تسعى لامتلاكها إلا مضيق خبير.
ثم قالت بعد: إن قبائل الإفريدس أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم الأمانة، فإذا
وكل إليهم حراسة ذلك المضيق قاموا به أحسن قيام.
ولا يخفى أن هذه القبائل أشد الثائرين شكيمة، فقول التيمس ينبئ عن تعسر
إخضاع العصاة أو تعذره. وقد أعلن قائد الجيش الهندي أخيرًا أنه مستعد لإخضاعهم
بالقوة إذا لم يستسلموا بأنفسهم، ويتوقع إعادة الكرة قريبًا والله أعلم بمصير الأمور.
وقد منيت الهند في العام الماضي بالطاعون، وعاودها في هذه السنة، ففتك
فيها فتكًا ذريعًا. وهو الآن آخذ بالتناقص لذهاب البرد. وقد اتخذت الحكومة وسائل
صحية مخالفة لعادات أهل البلاد وتقاليدهم، فثار بعضهم على الحكومة، واعتصب
عمال المرافئ كلهم في الاحتجاج عليها، فراجعت الحكومة نفسها وأباحت أمورًا
كانت حظرتها، كما ترى في الأخبار التلغرافية [2] .
***
كوبا
أما جزيرة كوبا فهي أكبر جزائر الأنتيل، وسكانها زهاء مليون ونصف،
وعاصمتها هافانا. وهي من مستعمرات الأسبان، وقد ثار سكان الجزيرة على
الأسبان يطلبون الحرية، فأرسلت إسبانيا الجنرال ويلر لإخضاعهم بعد إخضاعه
جزائر فيلبين في بحر الصين التي انتقضت عليها أيضا. فسلك الجنرال ويلر مع
الكوبيين مسلك القسوة والشدة، فازدادت نار الثورة احتدامًا. فأنفذت إسبانيا المرشال
بلانكو مكان الجنرال ويلر، فعامل الكوبيين أحسن معاملة، واضعًا السيف في
موضع السيف، والرفق في موضع الرفق، وقد أجاب طلب الكوبيين فأنالهم برضى
الحكومة الأسبانية حكومة مستقلة تتولى إدارة الجزيرة، ففرح الكوبيون وظن الناس
أن الثورة قد خمدت نارها، غير أن هذا الاستقلال الإداري لم يرق للجنة الثورة
التي في نيويورك، فإن غرض هذه اللجنة إنالة كوبا تمام الاستقلال، ويزعم
البعض أن للولايات المتحدة يدًا في تحريك تلك اللجنة حملاً لها على رفض ما
عرضته إسبانيا عليهم من الاستقلال الإداري طمعًا في تمام الاستقلال.
وزعمهم هذا مبني على رغبة أميركا في تحرير كل المستعمرات الأوروبية في
الأقطار الأميركية عملا بقانون مونرو. والمقصود من قانون مونرو قسمة الكرة
الأرضية إلى قسمين: تسوسه الممالك الأوربية فلا تمد إليه أميركا يدا، وقسم تسوسه
الولايات المتحدة فلا تمد له أوربا يدا. وبمقتضى هذا القانون يجب أن تتخلى
الدول الأوربية للولايات المتحدة عن جميع مستعمراتها في الأقطار الأميركية.
فأضرمت اللجنة المذكورة نار الثورة ثانية، فساد الهرج في عاصمة الجزيرة،
فأنفذت أميركا إلى مياه تلك العاصمة الدارعة (ماين) ، وهي أضخم دوارعها،
فساء ذلك الحكومة الأسبانية، حيث حسبته عدوانًا أو تشديدًا لعزم الثائرين،
فأخبرتها حكومة الولايات أن القصد من إرسال الدراعة ماين إلى هافانا حماية
رعية الولايات المتحدة وتودد للأمة الأسبانية. فأجابتها إسبانيا: وأنا أيضًا سأنفذ
إحدى دوارعي إلى مياه نيويورك توددًا للأمة الأميركية.
ثم أخلد الثائرون إلى الاستكانة، فهدأت الخواطر، وشهدت الصحف الأوروبية أن الدولة الأسبانية قد صنعت كل ما يمكنها صنعه، ومنحت الثائرين مع انتصارها
عليهم فوق ما كانوا يطلبون. غير أنه لم يطل وقت السكينة حتى نشرت لجنة
الثورة في نيويورك كتابًا خصوصيًّا كتبه سفير إسبانيا في واشنطون وسرقه أحد
الكوبيين، وقد جاء في الكتاب ما خلاصته: إن رئيس الولايات المتحدة يعد في
السياسة من الطبقة السفلى، وهمته في استرضاء رعاع الأميركان. فأكبرت
الولايات المتحدة هذا الكتاب، وطلبت عزل السفير إلا أن السفير كان قد قدم
استعفاءه عندما علم بنشر الكتاب.
ولم تكد تسكن الخواطر إثر هذا الحادث حتى تلاه حادث أقام الأمة الأميركية
وأقعدها، وهو انفجار الدارعة ماين انفجارًا ذهب بها في لحظة إلى قاع البحر،
فقتل من بحارتها زهاء المائتين، ولم يسلم منهم غير القليل.
وحسب الأميركان أن الانفجار كان مسببًا عن نسف خارجي أقدم عليه الأسبان
تشفيًا وانتقامًا، فقامت الجرائد تثير خواطر الأمة، وثارت الأمة تطلب الحرب،
فأنفذت الحكومة الأميركية إلى موضع الانفجار لجنة لتحقيق تلك الحادثة المحزنة.
فوصلت اللجنة إلى موضع الحادثة، وشرعت في التحقيق وهي تكتم ما تتحققه كل
الكتمان إلى أن تقدم باكتشافاتها تقريرًا مفصلاً.
على أن الدولة الأميركية تجد في الاستعداد للحرب، فاضطرت إسبانيا إلى
مجاراتها في ذلك الاستعداد. وقد قررت الحكومة الأميركية خمسين ألف ألف دولار للدفاع، وابتاعت طرادين، وحصنت القلاع والحصون التي على الشطوط،
وحشرت عليها نحو مائة ألف من الجنود. وقد نقل البرق في هذا الاسبوع أن
إسبانيا أبلغت أميركا أن الحرب لمثل تلك الأسباب جناية على الإنسانية.
وقد أرسلت إسبانيا من قبلها لجنة لتحقيق حادثة الدارعة ماين، فقررت
اللجنة الأسبانية المذكورة أن الانفجار كان من الداخل لا من الخارج، وستتمسك
إسبانيا بذلك على ما روته الرسائل البرقية. على أن جميع العالم المتمدن في
انتظار تقرير اللجنة الأميركية. فإن جاء فيه أن الدارعة ماين نسفت من الخارج
بخيانة شبت نار الحرب بين الأمتين، وإن جاء فيه أن الانفجار كان عرضًا بقيت
كأس السلم صافية، والله أعلم.
_________
(1)
راجع ص 455 من المجلد 4 و297 من 6 و768 من 7 و865 من 9.
(2)
لم ننشر الأخبار التلغرافية في هذه الطبعة لعدم الحاجة إليها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اليهود في فرنسا وفي مصر
قبل أن يلبَس بونابرت تاج الإمبراطورية كانت حجته القوية لدى الشعب
الفرنساوي: دفاعه عن الحرية العمومية، وخدمة المبادئ الجمهورية. غير أنه بعد
ارتقائه العرش الإمبراطوري لم يألُ جهدًا في محو تلك الحرية، ودوس تلك المبادئ
الدستورية.
وهذا شأن الإنسان في كل آن، يطلب الحرية مرءوسًا، ويكرهها رئيسًا،
يستنجد العدالة مظلومًا، وينبذها ظالمًا، إلا مَن وفقه الله وقليل ما هم.
لقد شاعت أنباء المشاكل السياسية الداخلية التي قامت في فرنسا إثر
مسألة دريفوس، وقضية زولا، وما قاساه اليهود فيها من الإهانة والاضطهاد
وسوء المعاملة، ولا يحسب القراء أن هذا الاضطهاد قد نشأ عن تعصب ديني في
الأمة الفرنسوية، وكيف وهي أقرب إلى وهن العقيدة منها إلى التعصب الذي مثاره
الغلوّ في الدين. أما مصدر هذا الاضطهاد: فالتعصب الجنسي والحسد الذميم،
أثارهما في صدور الأمة فئة من أرباب الجرائد المعادين لليهود الطامعين بما في
أيديهم من خزائن الأموال.
على أن تلك الحوادث القبيحة لو جرى مثلها بين الشرقيين لطبق السماءَ
صراخُ تلك الجرائد، وسلقت الشرقيين وآدابهم بألسنة حداد، وأقلام أنفذ من السهام.
بل لو كانت تلك الجرائد في بلاد تكون فيها ضعيفة الجانب ضعف اليهود
في فرنسا - لكانت أسرع الناس طلبًا للحرية المطلقة، والعدالة العامة للبشر
على اختلاف أجناسهم ، وهذا معنى قولنا: يستنجد الإنسان بالعدالة مظلومًا وينبذها
ظالمًا.
ومن الغريب أن داء الجرائد الإفرنسية قد سرى إلى بعض الجرائد المصرية.
فقامت تُصْلِي اليهود نارًا حامية، وتأخذ عليهم في مهارتهم في الكسب، وتفننهم
في أساليب الربح، أما نحن فرأينا أن الحرية العمومية ليست مختصة بفريق دون
فريق. فإن التمدن الصحيح، والعدالة الحقيقة يفرضان المساواة المطلقة بين جميع
بني الإنسان في المنافع العمومية. والعمل والكسب بالطرق الشرعية فضيلة من
الفضائل الاجتماعية وللإنسان أن يعمل ويربح بالطرق المشروعة ما استطاع إلى ذلك
سبيلاً، ومن يعترضه في ذلك فقد اعترض مبدأ الحرية العمومية.
ولذلك لا ترى عاقلاً من عقلاء الأمة الإفرنسية راضيًا عما نال اليهود في
فرنسا من الاضطهاد قديمًا وحديثًا. وقد سمى ذلك بعض كبار فلاسفتهم مرضًا من
الأمراض العارضة، وأمل ذهابه بتقدم المدنية والآداب العمومية.
فالمأمول أن لا يُدْخِل الكُتّاب في هيئتنا الشرقية عاملاً جديدًا للنزاع والشقاق،
فحسبنا ما لدينا من تلك العوامل القبيحة، وإنا الآن أحوج إلى عوامل الاتفاق منا إلى
عوامل الشقاق.
وعسى أن يستفيد إخواننا الشرقيون - لا سيما المسلمون منهم - بما نقصّ
عليهم من أحوال الأمم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
اهـ ما اخترناه من العدد الثاني.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التربية والتعليم
ذكرنا في العدد السابق من جريدتنا مقالة مضمونها: أن مَن ينظر في تاريخ
الأمم ويكتنه شؤونها يتجلى له أن القوة والمنعة والغنى وبسطة الملك وسائر موارد
السعادة مناطها تعميم التربية والتعليم على الوجه الذي ينبغي.
وهذا الأمر وإن كان بديهيًّا عند العارفين بالتاريخ؛ لأن الوجود الإنساني كله
شاهد به ودليل عليه، فالسواد الأعظم من أمتنا غافل عنه لا يرجع إليه طرفًا، ولا
يصيخ له سمعًا، والمتنبهون أفراد قلائل يرددون الصيحات والنبآت، ولا ملبي ولا
مجيب {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) .
وإن تعجب فعجب قول من سمع الصيحة منهم: إن هذا لا ينفع ولا يفيد.
ويحتجون بحجج داحضة، ذكرنا في المحاورة السابقة منها: حجة الجبر وسلب
الاختيار، وأتينا على تزييفها بما يقطع ألسنة المثرثرين بها بقدر ما يحتمله المقام،
وبقي لهم حجج أخرى واهية، تنبئ عن قلة الاختبار. وإننا قبل بسط الكلام على
التربية والتعليم نورد ما يثرثر به الكثير من الناس في الاحتجاج على عدم الفائدة
منهما، ونبين فساده؛ ليكون ذلك أدعى إلى تأمله والنظر إليه بعين الاعتبار، ومن
الغريب أن ما ادعيناه في المقالة السابقة [*] من أن سعادة الأمة في التربية
والتعليم مبني على المشاهدة والاختبار التام، وكذلك شبه هؤلاء على عدم فائدتها
تستند على اختبار ومشاهدة، لَكِنْ ناقصين غير تامين، وإنني مورده عليك
فاستمع لما يتلى.
احتجاجهم على عدم فائدة التعليم في إصلاح الأمة:
قالوا: إنا رأينا كثيرًا ممن درج في حجر المكاتب، ثم عرج منها إلى حجرات
المدارس العالية، فتلقى العلوم والفنون، وظهرت عليه أمارات النجابة، حتى صار
قبلة آمال الوطن، ومنتهى رجاء أهله، ثم لما ألقيت إليه مقاليد الأمر فيه كان كلاً
على كاهله، وقذى في عينه، بل كان جائحة متلفة لثماره، وصاعقة منقضة على
دياره، لا يسعى إلا لمنفعة شخصه، وتنمية ماله وإن تلفت في سبيله مصالح
العالمين.
ومنهم من كان عونًا للأجنبي، وعتادًا على امتلاك بلاده، يمهد له الصعاب،
ويزيل من أمامه العواثير والعقاب، ويسهل احتمال سلطته على النفوس، بل منهم
من باع للأجنبي بلاده بثمن بخس (وكل ثمن تُباع به الأوطان فهو بخس) ، أو
وعد بأن ينيط به بعض الوظائف، أو يكون مقربًا من جنابه الرفيع. فما أغنت
التربية عن أمثال هؤلاء، وماذا أفادهم التعليم، أما والله لو لم يتعلموا لما تسنى لهم
اقتراف هذه المنكرات، ولما فطنوا لأساليبها واهتدوا إلى طرقها، ولكانت مضراتهم
محصورة في دائرة ضيقة مخصوصة بنفر قليل.
هذا بالنسبة للذين تعلموا العلوم السياسية والحقوقية، وأما الذين تعلموا العلوم
الشرعية الإسلامية، فإننا نرى الكثير منهم أيضًا قد اتخذها فخًّا لصيد الدنيا. يحتال
ويعلم الناس الحيل لهضم حقوق الله وحقوق العباد، وإذا تبوأ منصبًا (كقضاء
أو إفتاء) ، أو صار محاميًا، لا يأتي أن يجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، ليشتري
به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وياليتهم لم يكونوا من المتعلمين.
والجواب عن هذا واضح: وهو أن هؤلاء وإن تلقنوا بعض الفنون إلا أنهم لم
يتربوا تربية صحيحة، يغارون بها على دينهم ووطنهم، والعلم من حيث إنه إدراك
لصور المعلومات لا تقتضي العمل، ولئن اقتضى العمل فهو لا يستلزم أن يكون في
وجوه الخير والمنفعة لبلاد العامل إلا إذا تربى على ذلك. ثم ما يدريك أن المعلمين
لهؤلاء الخائنين والمربين لهم في المدارس كانوا من الأجانب أو ممن اصطنعهم
الأجانب فصبغوهم بصبغتهم، وجذبوا أعنة قلوبهم فقادوها إلى محبتهم، وعلموهم
كيف يعملون لمنفعتهم، أو غرسوا في نفوسهم اعتقاد عظمتهم وقدرتهم، وأنه لا
يتعاصى عليهم أمر، ولا يعز عليهم مطلب، فذللوهم بذلك واستعملوهم كما تستعمل
السوائم من الأنعام، أو أقنعوهم بأن السعادة لا تنال إلا بأيديهم، وأن الإصلاح لا
يأتي إلا على أيديهم، وأن قطرًا لم يحتلوه محروم من المدنية ورفاهة العيش، لا
ترى فيه القصور المشيدة، والسرر المنضدة، والطرق الفسيحة، ولا تنشأ فيه
الحانات والمواخير (أي مواضع الريبة، وليس هذا من التهكم؛ فإن السكر والفحش
من لوازم التمدن الحديث) ، إلى غير ذلك من المحسنات فعملوا ما عملوا بناءً على
هذا الاقتناع، فهم مجتهدون بأنهم ينفعون أمتهم من حيث ينتفعون بأنفسهم، وفي كل
صورة من هذه الصور ترى أن التربية والتعليم أفادا المعلم والمربي، فاجتنى بهما
ثمرات المنافع من خصمه ومناصبه، فكيف يكون أثرهما من مجانسه ومناسبه،
لعَمْرك إنه لعظيم.
احتجاجهم على عدم الفائدة من التربية:
قالوا: نرى كثيرًا من الولدان يهمل أمر تربيتهم الوالدان، فلا ينتهرونهم،
ولا يضربونهم، ومع ذلك ترى عندهم الدعة ولين الجانب والدماثة والصدق والوفاء
والأمانة، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق والأعمال، وبعكس ذلك نرى بعض
الناس يعامله والده بالشدة والغلظة، ولا يضحك في وجهه، ولا ينبسط له، وإذا
عمل عملاً قبيحًا صب عليه سوط عذاب، أو كما يقول بعض العامة في بلاد الشام:
(لعب العصا بجلدو) ، ومع ذلك تراه كذوبًا مرائيًا شرسًا أحمقَ خائنًا ماكرًا فاحشًا
متفحشًا سبابًا لعانًا، وبالجملة: منغمسًا في الرذائل، ملطخًا بحمأة المقاذر،
مسترسلاً في الفجور، ولولا الاعتناء بتربيته لما بلغ هذا المدى، ولا انتهى في
الفساد إلى هذه الغاية.
والنتيجة من هذه المشاهدات: أن الأخلاق مواهب وحظوظ،
وليست بالتربية. وأن التربية ربما عادت على صاحبها بالخذلان، وكانت كالدواء
لم يصادف محله فأودى بمتناوله وأورده مورد الهلكة.
فموسى الذي رباه فرعون مُرْسَل
…
وموسى الذي رباه جبريل كافر
والجواب عن هذا في غاية الظهور وإليك البيان: إن معاملة الوليد باللين
والرفق وأخذه بالرأفة والحلم، وعدم إهانته بالسب والشتم، كل ذلك من أفضل
أساليب التربية وأنجعها وأنجحها، إذا لم ينتهِ إلى حد الإهمال وإرسال الحبل
على الغارب، وإن الشدة والقسوة والإهانة بنبز الألقاب، وضروب الإيلام
مفسدة للأخلاق، ومدعاة للشرور والفجور، وإن أمهات الرذائل كالكذب
والخيانة والمكر والاحتيال والمداهنة لا تتولد إلا من الظلم والضغط على
الحرية الشخصية، كما سنوضحه فيما بعد.
فهذه الحجة دليل على نفع التربية وفائدتها، لا على ضررها، على أن
زمام التربية ليس بأيدي الوالدين والمعلمين دائمًا، بل ربما كان بأيدي
الخلطاء والمعاشرين أكثر مما هو بأيديهم. وهناك أمر آخر حقيق بالاعتبار، وهو
ناموس الوراثة، وكل ذلك سنفصله تفصيلاً.
وأما قولهم: فموسى الذي رباه فرعون
…
إلخ، البيت المار فهو من حجج
الشعراء التي لا يتبعهم عليها إلا كل غوي مبين. ويعنون بموسى الذي رباه جبريل
السامري الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل، ودعواهم تربية جبريل له باطلة وأفيكة،
انتحلها هذا الشاعر الغوي الذي جعلوه قدوة لهم ولعمري إن فيها غميزة بمقام روح
القدس وأمين الوحي عليه السلام. والحق أن جبريل إنما ربى موسى الرسول؛ لأنه
هو الروح الذي يؤيد الله تعالى به الرسل والأنبياء، لا الغواة الأشقياء (نعوذ بالله
من غلبة الجهل) .
ويا ليت شعري هل يقولون بأن تربية فرعون لموسى كان لها دخل في ارتقائه
إلى مقام الرسالة، لا وإنما يحتجون بذلك على عدم وجود فائدة للتربية بالكلية،
وجَهِلَ هؤلاء الحمقى أن الذين اجتنوا فوائد التربية من أهل أوربا وثبتت لديهم
بالاختبار والمشاهدة، اللذين هما أقوى الأدلة والبراهين، قد جعل بعض ملاحدتهم
كلام الشاعر شبهة على الطعن بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وزعموا أن
نشوءه في بيت الملك، وتربيته في حِضْن السياسة والشريعة المصرية قد نبها فكرته
للقيام بتلك الدعوة التي حرر بها أمته، وأن ما جاء به من الشريعة مقتبس من
شريعة المصريين، مع تنقيح وتحوير يناسب حال شعب إسرائيل (نعوذ بالله من
هذا الضلال البعيد) ، وليس المقام هنا مقام رد شبه الملاحدة، ولكن لا بد من كلمة
تحول دون تمكن الشبهة من فكر الجاهل، وهي إذا جاز أن يأخذ موسى (عليه
السلام) شريعته من شريعة المصريين، فهل يجوز أن يكون ما جاء به من
المعجزات التي أدهشتهم وأبطلت السحر الذي كانوا يخدعون به الناس مأخوذًا من
المصريين، كلا بل سول لهم الكفر ما يأفكون.
ثم إن التربية والتعليم متلازمان بمعنى: أن الثاني لازم للأول، لا يتم إلا به
بل هو جزء منه؛ لأن التربية على ثلاثة ضروب: تربية الجسم، وتربية النفس،
وتربية العقل، وهذا الأخير هو عين التعليم، ثم كل منها يحتاج للعلم والتعليم،
ولكننا نفرد للتعليم مقالات مخصوصة نبين فيها وظائف المعلم والمتعلم، وكيفية
التعليم، ويدخل في هذا البحثُ في المصنفات وأساليبها، ونبدأ بالكلام على القسم
المهم من التربية، وهو: تربية النفس، المعبر عنه بتهذيب الأخلاق، وموعدنا
الأعداد الآتية، إن شاء الله تعالى.
_________
(*) نشرت في فاتحة العدد 3 الذي صدر في 7 ذي القعدة سنة 1315 - 1 مارث سنة 1898.
الكاتب: محمد عبده
التمدن
لبعض فضلاء المصريين [*]
ما وصلت إليه الأمة إلا وحط عن كاهلها جميع الأتعاب والبلايا والاضطهادات
والرزايا. ولا رقي إليه شعب إلا وأمن غائلة الإعنات والاعتساف. وتحصنت
أعماله من جائحة السلب والاعتداء. فصاحبه هو الساكن في منازل الرغد والهناء،
واللابس حلة الإسعاد، نقول ولا مغالاة في الحق: إنه الضامن لتوطيد أركان
العمران، والكفيل بتشييد دعائم الاجتماع، كيف لا وهو الحقيقة الجامعة لكل فرد
من أفراد الكمالات، من غير فرق بين أن يكون أدبيًّا أو ماديًّا، حسيًّا أو معنويًّا،
فالتفنن في الصنايع فصل من فصوله، والتسابق في ميادين العلوم باب من أبوابه،
والتجافي عن مواضع النقيصة جزء من أجزائه، والتجميل بالأخلاق الفاضلة نبذ من
جواهره، فإذًا لا بدع إذا قلنا: إن صاحبه هو السعيد والواطئ بنعله غرف النعيم،
جد في طلبه من أدرك نتيجته من الأمم، فجنى ثمره اليانع، نراه يتقلب على بساط
العز، ويتدرج في معارج الإجلال والجمال، عمرت دياره بعد أن كانت قاعًا
صفصفًا بالأبنية العالية، وتزينت بالأسواق الفسيحة والصنائع العديدة، وصارت
محط رجال السياسة، ومطمح أنظار النبلاء، ضاق بسيطها عن القيام بنفقاته
الواسعة فطار على جناح العلم يستطلع بقاعًا خربتها الجهالة، وثلمتها يد البغي،
ليكون فيها هو الوارث بعد بنيها، يستخرج منها الكنوز بحكمته، ويفجر منها
الينابيع بقدرته، ليجني وأهلها الغارسون، ويقضي وهم المطيعون. تسمع أهل تلك
الديار صدى صوته في العشي والإبكار، والغدو والآصال، ولكن يغالطون الحس
ويكابرون بإنكار البداهة، ويسلون أنفسهم بأن هذا الأجنبي لا سطوة له ولا حكم،
وإنما هو غريب، دعته الحاجة للتجول في البلاد لطلب الرزق، ثم تحثهم
خواطرهم بأننا أرفع شأنًا من أولئك الغرباء، وأسبق منهم يدًا في المدنية، ولئن
تأخرنا عنهم حينًا من الزمن لكنا لحقنا بهم في انتظام الهيئة، وحسن السلوك، وهذه
قصورنا المشيدة، وثيابنا الملونة، وقدودنا المجملة، وأطعمتنا المتنوعة تشهد بأننا
قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالثروة، ونهجنا الصراط المستقيم.
يحسبون تلك الأوهام حقائق تجعلهم من ذوي النعمة واليسار، والعزة والكمال
اعتمادًا على كونها سنة الأمم المثرية، والشعوب المتنورة. وايم الله إنها بالنسبة
لأولئك البسطاء لداعية الفقر المدقع، ومجلبة الشر، وإن هذه الصور الظاهرية التي
يظنونها تمدنًا كسحابة حُشِيَتْ بالصواعق، يتوهم الغافل من بريقها ولمعانها أنها
تأتي بوابل ينعش البقل ويحيي الموات، ولكن إذا حل الأجل أمطرت ما يذهب
بالحياة ويبدد الأجسام، وذلك لأن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد
القصور وتزيين الملابس وتحسين الأثاث إلى غير ذلك من المصارف، فإنما يَكُون
على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات
الجميلة، والمخترعات الجمة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة،
وقدرًا رفيعًا. ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص
عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم،
فكلها مؤسسة على قاعدة جلب المصلحة ورفع الحاجة.
تدخل منزل الرجل منهم ترى غرفه ومخادعه مشغولات بأمتعته وبضائعه
ونقوده، وليس فيه قدر شبر عُمِّرَ لغير حاجة، حتى حديقته، ولا يشتري ثوبًا له أو
لزوجته وأولاده إلا بقدر العوز، وحلي آل بيته ثلاثة أرباعه من النحاس مهما كثرت
ثروته، وليس في إصطبله سوى عربة أو حمار للركوب، لا يجمع بينهما إلا نادرًا،
وفرشه وغطاه لا يخرج عن نوعي القطن والصوف كثيابه. أما أهل تلك الديار
الذين يزعمون أنهم قوم متمدنون (وهم في ذلك مخطئون) ، فقد ركبوا الشطط
وحملوا أنفسهم ما لا يطيقون من النفقات الباهظة، يصرف الواحد منهم آلافًا من
النقود في سبيل تعمير أرض فسيحة، وربما كفاه ما لا يبلغ العشر من مساحتها،
ويفرشها من أعلى أنواع الفرش، ويزينها بأبهج أصناف الزينة، فتبقى غرف
المنزل بلا ساكن، يعلو التراب على ما فيها من الأثاث والفرش المغشاة بالفضة
والذهب حتى يبيدها، وربما لا يستعملها مرة في العام. يتختم في إصبعه بما تجاوز
قيمته عقد الألوف من الفرنكات، ولدى زوجته من الألماس والجواهر ما يكفي ربحه
لنفقات بيته أو يزيد، لو استعمل ثمنه في شيء يتجر به (إذا كان ممن يفقهون)
إلى غير ذلك من المصارف التي يضيق بنا المقام عن تفصيلها، وما حمله عليها
سوى الطيش والانهماك في الشهوات والسفه المفرط الذي بلغ مرتبة الجنون. فإن
رجعنا إلى سيرهم في طرق جلب المنافع، وتخفيف أتعاب المعيشة، وتحسين
وسائل الاكتساب، رأيناهم واقفين على نقطة واحدة من آلاف من السنين. فإيراداتهم
الآن واقفة عند الحد الذي كانت عليه قبل أن كانوا يسكنون المنازل المصنوعة من
اللبن الأخضر، المفروشة بقصب (الحَلْفاء) ، المعرشة بقضبان شجر (الجميز)
وجذوع النخل، مكتفين من الثياب بما يستر البشرة، ومن الطعام بما يذهب النهمة
فمزروعاتهم الآن هي على ما كانت عليه في تلك الأيام، لم تغير أشكالها، ولم
تتبدل أصنافها، نعم قد زادت حاصلاتها نظرًا للتسهيلات التي أجريت في طرق
الري (هذا في بلاد الكاتب) ولكن هذا النمو لا ويعادل في الحقيقة الضعف الذي يلم
بتجارة أبناء البلاد، فقد كان يوجد قبل ورود الغريب إليهم في القرية الصغيرة
أشخاص عديدون يتجرون في جميع أصناف المزروعات وغيرها من الأقمشة
والمأكولات، يربحون من ذلك مالاً عظيمًا. أما بعد ذلك فلا ترى بَنِيهِمْ إلا يتضورن
جوعًا، ويئنون تحت أحمال المشقات، لبوار التجارة وكسادها واختصاصها بيد
النزيل. ويتبع ذلك سقوط صنعة النجارة والحدادة والحياكة، وغيرها من أصناف
الحرف اللاتي نسختها متحدثات الأمم المتمدنين. وربما ينتهي بهم الأمر لو استمروا
على الجهالة والسفه إلى خلو أيديهم من الزراعة أيضًا؛ لوجود من يحسنها سواهم.
ولا عجب بعد هذا إذا رأينا هؤلاء السفهاء واقعين في وهدة الفاقة والاضمحلال،
يئنون تحت أثقال الديون التي تستغرق جميع ما في حوزتهم من الأملاك، وهذا
يجعلهم حقراء أذلاء في قبضة الدائن الذي يكونون رهنوه أملاكهم، يتصرف فيهم
بما يريد فيلاقون منه شمماً لا تقدر على تحمله النفوس، ولا تستطيعه الطباع،
وربما كان الدائن من سفلة قومه، والمدين من أعيان بلاده، ولا تغني عنه يومئذ
قصوره العالية ولا ثيابه المزركشة ولا أثاثاته الخَزِّية والحريرية، وهذا فضلاً عما
يعتريه من البلبال، وكثرة الوساوس والأفكار، يبيت ليله يتقلب على الفراش ولا
تقلبه على جمر الغضا، يقدر محصولات زراعته قبل بذرها وينسبها لمقدار
المطلوب في إبان الحصاد، فإذا وجدها على قدره حصل له نوع من الاطمئنان
ذاهلاً عما عساه يحدث من الغرق أو الشرق أو الأندية المتساقطة من الجو، حتى إذا
حل الأجل ولم يجد لديه ما يفي بالمطلوب لإصابة الزرع بأحد الأسباب التي ذكرناها
ضرب كفًّا على كف، واسود وجهه، وساءت حالته، وتسول الناس ليكفلوه عند
عميله (دائنه) إذا لم يف ما عنده بالرهن، فلا يجد مجيبًا ولا نصيرًا. لعمر الحق
إن المفترش للحصا، المتوسد لحجر الصخر، المستكن في منازل الحيوانات،
المتكفف في معيشته، خير من هؤلاء الناس الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم
بال (ومما يسوؤنا أن نراهم أكثر من الكثير في بلادنا) ، أهذا ما حسبوه تمدنًا
وزعموه نعيمًا مقيمًا. كلا، بل هو الشقاء الأبدي الجالب للفقر المدقع والعذاب الأليم.
هذه مشاربهم في أحوالهم المعاشية، تحزن المحب، وتفرح قلب العدو،
ولعلمنا بأن تلك الحالة لا يرضاها الشرع ولا القانون جئنا بهذه النصيحة، آملين أن
تنفع الذكرى، فينهج هؤلاء صراطًا مستقيمًا، وما ذلك على الله بعزيز.
_________
(*) هذا في الأصل وهي من مقالات الأستاذ الإمام في الوقائع المصرية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اصطلاحات كُتَّاب العصر
التعصب
مادة (عصب) تدل في أصل اللغة على الليّ والشد، يقال: عصب الشيء،
إذا لواه وشده، وعصب الشجرة: ضم ما تفرق من أغصانها، وهو مأخوذ من الشد
بالعصابة، فمعنى عصب وتعصب في الحقيقة: شد العصابة، ومنه العصبة لقوم
الرجل وقرابته، وكان جمع عاصب (اسم فاعل) ككَمَلَة جمع كامل، والعصبية
نسبة للعصبة، والتعصب: ميل أفراد العصبة بعضهم إلى بعض وتشددهم في
المدافعة عمن يتصل بهم بجامعة العصبية التي كان مناطها عند العرب القرابة
والعشيرة.
ولم يكن يطلق اسم التعصب على التشدد في الدين والغلو فيه، بل كانت
العرب تسمي هذا تحمسًا، وكُتاب العصر اشتهر بينهم إطلاق اسم التعصب على
الإفراط في التشدد في الدين إلى درجة يؤذي بها المتعصب مخالفه فيه، وأجدر بهم
أن يسموه: تحمسًا، لولا أن الناقلين له عن لغات الإفرنج إلى العربية لم يتنبهوا
للفظ التحمس. ويطلقون التعصب أيضًا على الميل للجنس والإفراط في الحماية له
والمحافظة على شرفه، واتساع سلطانه، وإن غمط حقوق سائر الأجناس، وهضم
جانبهم، ويخصون هذا الضرب من التعصب بالمدح والإطراء، والأول بالغميزة
والهجاء، ولا يخفى أن الأوروبيين سرى بينهم رأي نابليون في أن مناط الجنسية
هو اللغة، فكانت هذه الاصطلاحات وبالاً علينا نحن العثمانيين، فإذا كانت سعادة
الأمة في وحدتها، والوحدة لا بد لها من جامعة تلتف عليها عناصرها وترتبط بها
هاماتها ولَهازِمها فما هي الجامعة العامة والرابطة القوية لهذه الأمة المختلفة في
الأديان واللغات؟ ، والجواب: إن سعادتنا تتوقف على رفض مذهب الأوربيين في
الجنسية واتفاقنا على أن يكون مناط جنيستنا هو العثمانية، ولا أظن أحدًا من
العناصر المستظلة بظل الدولة العلية العثمانية يرفض هذا ويرتضِي اصطلاح أوروبا
في الجنسية، وإننا لبيان هذه المهمات ننشئ مقالة في التعصب والجامعة العثمانية
في عدد تالٍ (إن شاء الله) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الطبيب الدجال
كلنا في الهوى سوا
لدينا قصة نقصها على إخواننا الغربيين الذين يستوقفهم عند أرصفة الأزبكية
اجتماع بعض الجهلاء على أحد الدجالين أو العرافين فيقفون ساخرين منهم
مستهزئين بالأمم الشرقية كلها، حاسبين أنها على شاكلة أولئك الجهلاء.
ذلك أن رجلاً دجالاً سيق إلى المحاكمة في إحدى عواصم أوروبا لإقدامه على
التطبيب بلا رخصة من الحكومة. ولما وقف أمام المحكمة سأله القاضي بصرامة:
ما حملك أيها الرجل على مخالفة القانون؛ أما علمت أن العقاب مفروض على كل
طبيب لا يكون في يده شهادة قانونية؟
فلم يحر الدجال جوابًا، ولكنه مد يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة كبيرة ثم قال:
إليك شهادتي القانونية أيها القاضي، فإنني ممن أتموا دروسهم الطبية في كلية
باريس، وقد نلت منها لقب دكتور في الطب كما ترى في هذه الشهادة. ولما أن
أنهيت دروسي خيل لي أنى بلغت أوج السعادة. فاستأجرت منزلاً ونقشت على
نحاسة وضعتها على بابه هاته الكلمة: (دكتور في الطب) ، ثم لبثت أنتظر وفود
الناس علي للمعالجة، فمرت الأسابيع والشهور ولم يأتني أحد مستشفيًا. فصرت إلى
الفقر المدقع وعلمت أن تمسكي بتلك الشهادة لا يغني عني فتيلاً. فألقيت بها إلى
جانب، وكسرت الأمَارة النحاسية، وتحولت إلى منزل صغير، وتظاهرت بمظهر
الأطباء الدجاجلة، فتقاطر عليَّ الناس للاستشفاء من كل الجهات، ووفد عليَّ ذوو
العلل فعالجتهم وربحت أموالاً عظيمة. ومازلت على ذلك حتى ألقى الشرطي القبض
عليَّ ظنًا منه أنني من الدجالين. وقد علمتم أن الذي ألجأني إلى إخفاء شهادتي ولقبي
رغبتي في اكتساب ثقة الشعب، فأطلب الآن إلى المحكمة أن تحكم ببراءتي.
فأَدْهَشَ السامعين هذا الحديثُ وبرأت المحكمة الرجل بالحال!
قالت الجريدة - التي نقلنا عنها هذه القصة -: إن هذه الحادثة عار على العلم
وعلى الشعب. قلنا: عار على العلم؛ لأنه قد عجز إلى الآن عن تنوير أذهان
العامة واكتساب ثقتهم. وعار على الشعب؛ لأنها تدل على جهله وإيثاره أوهام
الدجاجلة على الحقائق العلمية الثابتة. وإلا فما معنى إعراض الشعب عن ذلك
الرجل دكتورًا، وإقبالهم عليه دجالاً؟ ! هذا، ولا يبعد أن يفقد الرجل ثقة الشعب
فيه حين يظهر لهم أنه من الأطباء القانونيين، وإذا وقع ذلك كان منتهى الجهل
والغباوة.
ونتيجة ما تقدم أنه لا يصح إطلاق القول في ذم شعب أو مدحه استنادًا على
اختبار بعض أفراده. وإن لنا أن نعير الغربيين بأولئك الأغمار الذين لا يثقون إلا
بالدجاجلة، إذا عُيِّرْنَا بالأغمار الذين يجتمعون في أرصفة الأزبكية لضرب الرمل
واستنطاق الحصى، فلا يسخرن أحد من بسطائنا وجهلائنا، فإن لهم في الأمم
الأوروبية أقتالاً وأمثالاً من البسطاء (وكلنا في الهوى سوا) . اهـ ما اخترناه من
الجزء الثالث.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تبصرة وذكرى لقوم يعقلون
في بيان أن سعادة الأمة في التهذيب
تلك آيات من الحكمة، تتلى على مجتمع هذه الأمة، تنبه فكر الناسي، وتبعث
همة الآسي، وشذرات من معدن العلم السماوي، تُهْدَى إلى معمل الفكر الإنساني،
ليصوغ منها عقودًا، ويضرب منها نقودًا، تتحلى بها أجياد العقائل العواطل،
وتعامل بها أكف المُثْرِي والعائل، لعلهم يفلحون.
إذا تأملت في تاريخ هذا الإنسان رأيت أبناءه قد وقع منهم الاختلاف في كل
شيء {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) اختلفوا
في العقائد والمذاهب، والعادات والمشارب، وجرى هذا الخلاف منهم في مدركات
الحس، كما سرى في مدارك العقل، ألا ترى أن بعضهم لا يستطيب أكل اللحوم
ذوقًا، كما أن بعضهم يستقبحها عقلاً، أما سمعت أن منهم مَن أنكر مظاهر الوجود
وحقائق الأشياء زعمًا أنها خيالات وأوهام تتراءى للحواس ولا تحقُّق لها في نفسها.
ومن رام حصر مواد الاختلاف والافتراق بين الأمم والشعوب. وبين الآحاد
والأشخاص فقد رام عبثًا وحاول شططًا، وفيما أشرنا إليه من النموذج بلاغ لقوم
يفقهون.
إن أصالة الخلاف والمنابذة وتمكُّنهما من نفوس أفراد هذا النوع قد جعلته من
الخواص اللازمة أو الفصول المقومة لذاته والمقسمة لجنسه، بحيث يصح أن يعرف
الإنسان بأنه (حيوان مخالف) ، أفلا يجدر بنا أن نعجب بعد هذا إذا رأينا جميع
الناس أو أمة منهم قد اتفقوا على شيء، وأجمعوا على شأن؟ ألا يجب علينا أن
نغتنم ذلك الشيء فنتخذه ذريعة لجمع كلمتهم واتفاق وجهتهم، الذي لا قوام لحياتهم
على الوجه الذي ينبغي إلا به؟ بلى ولكن أَنَّى لنا الظفر بهذه الرغيبة المفقودة،
والاهتداء لهاته الضالة المنشودة، وكيف لنا أن نطمع بما يكاد يخرج به الإنسان عن
كونه الخاص به فلا يكون إنسانًا؟ ولعل قائلاً يقول: إنا لا نرتاب في أن الاختلاف
المطلق لا ينفك عن البشر، لكن ذلك لا ينافي الاتفاق على بعض الشؤون، فهل
تعلم لنا شيئًا لا تخالف فيه ولا تنازع، وهو مما يقصد بالعمل ويتوصل إليه بالسعي،
لنجعله معقدًا للارتباط، إذا أخذنا في الدعوة إلى الاجتماع على أصول العلم
الصحيح؟
والجواب: نعم، إن هؤلاء الناس مهما تباينوا في الوسائل واختلفوا في
المقاصد فهم متفقون على شيء واحد يصح أن يكون علة غائية لكل حركة وسكون
يصدران منهم، ألا وهو: التخلص من البؤس والشقاء والظفر بهناء العيش ونعمة
البال عاجلاً أو آجلاً، وإن شئت قلت: هو دفع المؤلم واجتلاب الملائم إما لنفس
العامل فقط، وإما له ولمن يشاركه في المنزل أو الوطنية أو الجنسية. وما نشاهده
من سعي الكثير منهم إلى ما يبلسهم للهلكة، ويتجافى بهم عن مضاجع الراحة والهناء
فإنما هو لإِخطاء النهج وضلال الطريق القصد.
يظهر هذا في سيرة المحكوم والحاكم، والجاهل والعالم، والتاجر والصانع،
والحارس والزارع، والمنفق والممسك، والحليم والسفيه، والشجاع والجبان،
والعفيف والشره، كل يسعى لما يرى أن فيه راحته ونعيمه. لكن ربما خفي على
البعض في نحو الجاني والمنتحر، ويظن أن الجاني على غيره بما يعود على ذاته
بالضرر أو التلف، والمتعمد إزهاق روحه بيده لا يقصدان بعملهما ما ذكر، والحق
أن عملهما هذا ليس إلا تخلصًا من بلاء؟ أو توصلاً إلى نعماء؟ بحسب ما وصل
إليه الاجتهاد. فالإنسان حريص كل الحرص على تحصيل العيشة الراضية والحياة
الطيبة، وكل سعي أفراده إنما هو في هذه السبيل. وكما يطرد هذا في سعي طالبي
الحياة الدنيا يطرد أيضًا في سعي مريدي الآخرة، فالصائم والقائم، والزاهد والعابد،
إنما يقصدون السعادة الأبدية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا
دَانِيَةٌ} (الحاقة: 21-23)، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) .
فقد تبين أن الناس متفقون مبدأ وغاية (في الجملة) ، وإنما وقع الاختلاف
بينهم في الأفكار والأعمال (غالبًا) من الخطأ في تصور الغاية بتصور ما ليس
بسعادة سعادة الذي يتبعه الخطأ في اختيار المبدأ الذي يستند اليه العمل - كأن يتصور
أن سعادته في تحصيل الثروة بأية وسيلة ومن أي طريق، ويختار المبدأ لاكتساب
المال السرقة وأمثالها. وقد يكون تصور الغاية صحيحًا ويقع الخطأ في اختيار المبدأ
فيختل العمل المترتب عليه: كأن يتصور أن السعادة في كسب المال من الطرق
الشريفة في الوجوه المشروعة، ويرى أن المبدأ لذلك صناعة الكيمياء (الكاذبة)
بتحويل المعادن إلى ذهب، كما يجوز أن يعرقل العمل مع صحة المبدأ والغاية لعدم
السلوك إليه من طريقه والدخول عليه من بابه: كأن يختار التجارة مبدأً للكسب
ويتهجم على العمل بغير علم بأساليبها ولا اختبار أو لعدم توفر دواعي النجاح من
الخارج، أي من الأمور التي لا تنالها يد الكاسب - كأن يختار التجارة أو الزراعة،
ويأتي بجميع أسبابها مستوفياً شروطها فتنزل بالزرع جائحة أو تذهب بالتجارة
الأنواء ويحطم السفين اعتلاج الأمواج.
فعلينا أن نبحث في الطريق الموصل إلى صحة الغاية ومبادئها وانتظام أمر
العمل، بحيث ينطبق على المبدأ ويؤدي إلى الغاية من غير خطأ ولا ضلال،
وبالنتيجة في انتظام أمر المعاش والمعاد بما تصل إليه يد الإمكان، ويدخل في
اختيار الإنسان. وهو أشرف الأبحاث وأفضلها، لا ينطق لسان ولا يجري يراع
بأفضل من الكلام فيه. ولا غرو فإن البحث فيما يوصل الإنسان إلى الراحة والهناء
في الدنيا والمثوبة الحسنة في العقبى لَهُوَ أَجَلّ ما يتحدث فيه المتحدثون، ويتنافس
فيه المتنافسون، فألقِ إليه السمع وأنت شهيد.
أنت تعلم أن قوام الدنيا والدين بالعمل. والعمل لا يكون إلا عن علم، فالأحرى
أن نقول بالعلم والعمل (وكلكم حارث - كاسب وعامل - وكلكم همَّام) ، يهم بالأمر
فيعمله - لكن الهم مختلف والكسب مختلف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ
الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) ، ثم كل من القسمين طبقات، فمنهم السائد
والمسود والقوي والضعيف والغني والفقير إلى غير ذلك من الطبقات المتقابلة. ولا
سبيل إلى المساواة بين الناس بجعلهم في رتبة واحدة، كما ينزع إليه بعض الملاحدة
في هذا العصر؛ لأن مُبْدِع العالَم (تعالى) فضَّل بعضهم على بعض في الرزق
وغيره، كما اقتضته حكمته في طبيعة الكون، وجرت به سُنته {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) ، وإنما السبيل الذي نقصده والطريق الذي توخينا
البحث عنه: هو الذي إذا سلكه العالم الإنساني على اختلاف الطبقات وتنوع
المراتب، فاز بالعيشة الراضية والحياة الطيبة ألا وهو: تهذيب الأخلاق، وكماله لا
يكون إلا بالاستناد إلى الدين المبين.
التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات
سعادة الحياة وحياة السعادة، شهد بذلك التاريخ الصحيح وصدقه العقل السليم. لا
راحة لفرد من الأشخاص في نفسه إلا بتهذيب أخلاقه في نفسه، ولا في منزله إلا
بتهذيب أهل المنزل، وعلى هذا النحو أهل المدينة والمملكة العظيمة. فكما أن
التهذيب الشخصي هو مدار انتظام معيشة الشخص الواحد، كذلك التهذيب العمومي
هو مدار انتظام معيشة الأمة كلها إذ ليس المهذب إلا من يقوم بحقوق نفسه وحقوق
غيره على صراط العدل المستقيم.
وإذا كان انتظام أمر الحياة معلولاً لتهذيب الأخلاق، فبالضرورة يكون
وجوده بوجود علته وعدمه لعدمها، إذ لا معنى لكونه معلولاً إلا هذا، ومن هنا نفهم
السر في اختلال معيشة الأفراد وانتظامها وانفصام عرى الاتحاد بين الجماعات
والتئامها وصعود بعض الأمم أعلى درج الارتقاء، وهبوط بعضها إلى أسفل درك الانحطاط ووقوف البعض بين بين، تتنازعه عوامل العلتين، حتى يأتي أمر الله
واعتَبِرْ ذلك في سير الإنسان من يوم علم تاريخه إلى الآن تلقه صحيحًا
مطرداً.
ربما خفي على البعض الارتباط بين الأخلاق والأعمال، فلم يسلم بأن
حسنها لحسنها، وقبحها لقبحها، مع تسليمه بأن سعادة الدارين إنما هي بالأعمال،
وهذا الخفاء لا يكون إلا عن الجهل بمعنى لفظ الأخلاق وما هو المراد منه، فإذا فهم
ما هو المعنى منه انجلى له ذلك الارتباط كالشمس ليس دونها سحاب.
الأخلاق جمع خُلُق (بالضم) ، وهو صفة النفس، كما أن الخَلْق (بالفتح)
صفة الجسد، وقد عرفه علماء التهذيب بأنه: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها
الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى روية ولا تفكر. وبيان ذلك أن مما يناجي الإنسان
به وجدانه، ويوحي إليه إحساسه أنه لا يصدر عنه عمل اختياري، فعلاً كان أو
تركًا، إلا عن داعية من النفس، وإن جميع جوارحه مسخرة لخدمة سلطان الروح،
وإن إرادة هذا السلطان التي لا ترد مهما جاءت بالجزم إنما ينفذها إلى الجوارح بريد
الفكر والخيال. وإذا دقق النظر رأى أن جميع إرادات السلطنة الروحية تصدر عن
داعيتين:
الأولى: انفعال وتأثر - كالجوع يدعو إلى الأكل - ومحلها الطبع.
والثانية: إدراك وتصور - كتصور خطر المرض يدعو إلى تناول الدواء -
ومستندها العقل.
وهاتان الداعيتان آلتان لتحريك الأعضاء للعمل والآلة لا تتحرك بنفسها، واليد
المحركة لهاتين الآلتين: خلق حسن أو خلق سيئ، إذ لا تخلو الداعية للعمل من
مصاحبة أحد أمرين:
إما الجور بتفريط أو إفراط؛ كالأكل زيادة عن الشبع شرهًا وجشعًا أو ترك
الشبع وما يناسب المزاج من الطعام حرصًا وبخلاً، وكالامتناع عن شرب الدواء
عند الاحتياج استبشاعًا لطعمه، أو تناوله مع الاستغناء عنه وسوسة ووهمًا.
وإما العدل، بإمضاء ما فيه المصلحة مع التجافي عن طرفي الإفراط والتفريط
والجور والعدل جنسان لأنواع الأخلاق الفاضلة والذميمة، فإذا أصيب ملك
الروح برزيئة الجور فأمر بما لا ينبغي ونهى عما ينبغي، ورعية الجوارح لا
مندوحة لها عن طاعته، لا تلبث مملكة البدن أن يسرع إليها الفساد ويحل بها
الدمار. وهذا واضح في مملكة البدن، كما هو واضح في المملكة الظاهرية، بل
هو في مملكة البدن أشد وضوحًا وظهورًا. وأما إذا تحلى بفضيلة العدل فيستقيم -
ولا ريب - نظام المملكة، وتبلغ من الانتظام غاية الكمال.
من فهم ما قلناه من أن جميع الأعمال إنما تصدر بإرادة الروح عن داعيتين،
وأن الروح في ذلك لا تخلو عن العدل أو الجور، وعلم مع ذلك أن العدل هو غاية
تهذيب الأخلاق، بل هو المحور الذي تدور عليه سيارات الفضائل، وأن الجور
ضده، فهم وجه الارتباط بين الأخلاق والأعمال، وأذعن لتفاوتها بحسبها ضعة
وخسة ورفعة وشممًا، وإذا لاحظ بعد هذا ما قلناه أولاً من أن الحصول على رغائب
الدنيا والآخرة موقوف على العمل لا على الأماني والتشهي، انكشف له مقدار تأثير
الأخلاق في المجتمع الإنساني صلاحًا وفسادًا.
كيف لا يكون الخلق المهذب أفضل الفضائل وغاية الكمال، وهو ثمرة الأديان
السماوية والشرائع الإلهية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم
مكارم الأخلاق) ، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا. نعم، أكثر آيات القرآن
الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق (كالعدل، والقسط في الأمور كلها،
والبر والإحسان لجميع الناس، والصبر، والحلم، والحياء، والرفق، والرحمة،
والوفاء، والصدق، والتواضع، والعفو، والأمانة، وأمثالها) ، وينهَى ويحذر من
سفسافها (كالجور، والجزع، والغلظة، والبخل، والجبن، والكبر، والرياء،
والكذب، والنفاق، والخيانة، والوقاحة، والسفه وأشباهها) ، وفي حكاية أحوال
المهذبين مع الثناء عليهم للاقتداء بهم، وحكاية أحوال فاسدي الأخلاق في معرض
الذم والتقريع للاعتبار والتنفير، كما في قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم.
وحسبك مع هذا قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ} (القلم: 4) : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلقه القرآن.
وقد ورد في ذلك من الأحاديث النبوية ما لا يكاد يحصى، فدونك حاصل بعضها.
وهو (إن أفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) . و (إن الخلق الحسن خير ما منح الله تعالى به العبد) . و (إن أحب الناس إلى النبي وأقربهم منه مجلساً أحاسنهم
أخلاقًا) . و (إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة)(انظروا وتأملوا) ، و (إنه
يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد) . و (إن العبد ينال بحسن خلقه
الدرجات العلى مع ضعفه في العبادة) . و (إن سوء الخلق يقذفه في أسفل درك
جهنم) . و (إنه يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) . و (إن الله تعالى قوَّى الإيمان
بحسن الخلق، وقوَّى الكفر بسوء الخلق) . وأبلغ من ذلك ما روي أن سائلاً جاء
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من بين يديه وسأله: ما هو الدين؟ فقال: (حسن
الخلق) ، ثم جاءه عن شماله، ثم من وراء ظهره وسأله هذا السؤال، وأجابه بهذا
الجواب. ويقرب منه ما روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - أنه قال:
لكل بنيان أساس وأساس الإسلام: حسن الخلق.
فإذا تبين أن خلق الإنسان هو دعامة سعادته وعمادها، وعليه مدار صلاح
أموره الدينية والدنيوية وفسادها، فيجب على كل فرد من أفراد الأمة أن يوجه قواه
العقلية والمالية للحصول على هذه المنقبة الكبرى والسعادة العظمى، وعلى العلماء
أن ينبهوا الأغنياء، ويعقدوا معهم الجمعيات للقيام بهذا العمل الجليل، ولا عذر في
التهاون والوَنَى تلقاء هذا المقصد الشريف، إلا لمن تخبطه شيطان الجهل، فأمسى
لا يميز الكمال من النقص، ولا يزيّل بين السعادة والشقاء، وكفاه عذره ذنبًا. وأما
من كان صحيح الفكر، وتلا أو تلي عليه ما ذكرناه، ثم لم يعره أذنًا صاغية، ولا
نفساً واعية، رغبة في جمع الحطام، والتلذذ بالشراب والطعام، واشتغالاً بمفاخرة
الأقران، وقهر الأخصام، فلتهنأ له الحياة الحيوانية في {ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لَا
ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} (المرسلات: 30-31) . والسلام على الإنسانية
وذويها، والفضيلة ومحبيها، في كل زمان ومكان.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سؤال وجواب
كتب إلينا غير واحد يسألنا عما جاء في مقالة: (القول الفصل) المدرجة في
العدد الثاني من جريدتنا، من تخطئة الذين يستعينون بالأموات من العلماء والصلحاء
على قضاء المصالح واجتناء المنافع، وقولنا في هذا البحث: (ويستنهضون هممهم
بالصياح والصراخ، وتقديم هدايا الفواتح) هل يتضمن هذا القول إنكار كرامات
الأولياء أو يلحق بهم شيئًا من الغضاضة، هل فيه إنكار لقراءة الفاتحة أو غيرها من
القرآن للأموات؟
والجواب:
معاذ الله أن نرمي بكلامنا إلى غمط حقوق أولياء الله تعالى أو ننكر ما أكرمهم
الله تعالى به من فضله. وليس كلامنا ذلك في هذا الموضوع، وإنما هو بحث في
الأسباب التي بها أناط الله تعالى أمور الكون، ولا شك أن الاستعانة بالأموات على
قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك، ولم يقل أحد من أئمة
الدين ولا من العقلاء بسببيته، أما نبذ العقل له فظاهر، وأما رفض الشرع له فيدل
عليه الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله
تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا
بالله تعالى، ومن السنة بخبر (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) ،
وأما سيرة السلف الصالح فلم يُنْقَل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة ويقولون: يا رسول الله أهلك
فلانًا عدوي، وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء
قريبي، وقرب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد
البدوي وقبر الإمام الحسين (رضي الله تعالى عنهما) ، بل إن المطالب التي تصدر
من هؤلاء تتجاوز هذا الحد، فإنهم يطلبون من الأولياء المستحيلات العقلية،
والمنكرات الشرعية التي لا يجوز أن تطلب من الله تعالى. وقد أدى بهم الإهمال
وعدم اشتداد العلماء بالإنكار إلى مروق بعضهم من الدين، كما يمرق السهم من
الرمية. وكل ذلك معلوم عند السائلين. وأما قولنا: (ويستنهضون هممهم
…
إلخ)
فهو تمثيل لحالتهم التي يحاكون بها معاملتهم للحكام الظلمة بتقديم الهدايا والرّشى أمام
أعراضهم، وقد فاتنا أن نقول: ويرشونهم بالشموع والدراهم ونحوها.
وأما مسألة قراءة الفاتحة ونحوها للأموات، فليست مما نحن فيه، وخلاف
العلماء في انتفاع الأموات بالقراءة مشهور، وأكثرهم يقول بعدمه؛ لقوله تعالى:
{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، وبعضهم يقول بإثباته؛ لأدلة
قامت لهم، ولا مجال هنا للجولان في هذه المسألة، ثم لا شك أن الأولياء والصلحاء
لا يرضون بهذه المنكرات التي يأتيها المعتقدون بهم من غير علم ولا بصيرة، سواء
كانوا أحياءً أو أمواتًا، ومن انتصر للشريعة فعرف المعروف وأنكر المنكر فهو
المحبوب المرضي عندهم، وسكوت الكثير من المتسمين بسمة العلم والصلاح عن
الإنكار لزعمهم أنه أدب مع الأولياء، لا ينهض حجة على أن المنكر صار معروفًا،
فإن إمامنا السنة والقرآن، لا صاحب الأردان الواسعة والطيلسان، وإن لنا لعودة
إلى هذه المباحث نفصل فيها ما أجملنا، ونسهب بما أوجزنا، ولعل الموعد يكون
قريبًا. اهـ ما اخترناه من العدد الرابع.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الموالد أو المعارض [*]
(بمصر كثير من المضحكا
…
ت ولكنه ضحك كالبكا)
نعم، إنها أمور تضحك منها السفهاء، وتبكي من عواقبها الألباء، أمور
ينظرها الضاحك كما ينظر الصور والتماثيل، ويبصرها الباكي كما يبصر
الصواعق والبراكين، أمور تقام لها المعارض في كل صقع، وتحشر إليها الخلائق
من كل فج، فيحضرها العالم والجاهل، والأمير والصعلوك، والغني والفقير،
والناسك والفاتك، والواهب والسالب، وإن شئت قلت: يحضرها جميع الأصناف
من جميع الطبقات، وتعرض منهم وفيهم وعليهم المضحكات المبكيات، معارض
تقفل لأجلها بعض مدارس العلم. وتعطل لبعضها مجالس الحكم، وتبطل الزراعة،
ويكون حيث تقام أعظم المساجد سوقًا ومرقصًا (بالو) ، وملعبًا وملهى وقهوة وفندقًا
(لوكاندة) ، ومستشفى (اسبتالية لكنها روحية) ، وصيدلية (أجزاخانة) ،
وماخورًا (موضع الريبة) ، كل ذلك في وقت واحد، معارض قد اشتبهت على
العامة حقيقتها فلا يعلمون هل هي دينية أو دنيوية، نافعة أو ضارة.
لا شك أن كل مصري يعرف من هذه الأوصاف ما هو المعرض الذي يقام في
بلاده، وإن كان يسميه مولدًا لا معرضًا.
وأما من لم يكن مصريًا ولا شاهد هذه المعارض في ديار مصر، فإن العجب
يأخذ منه مأخذه عندما يقرأ فاتحة هذه المقالة، وربما خيل له أنها كلام سري أو
ضرب من الألغاز؛ لأنه يرى الأوصاف لا تنطبق على ما سمع أو رأى من
المعارض في البلاد المتمدنة التي يسمع أن مصر ضمت معها في كل سهم، وأخذت
من أنواع تمدنها أوفر نصيب.
لا تغتر أيها السامع عن تمدن مصر وتقدمها بما ينقله إليك أهل السذاجة أو
تموه به عليك الجرائد، فليس في مصر من التمدن والتقدم إلا بعض قصور
وحوانيت كلها أو جلها للأجانب، وبعض طرق فسيحة لم تنشأ إلا لجولان مركباتهم،
وتِرْكَاض خيولهم ودراجاتهم، وذلك في العاصمة وبعض البلاد الكبيرة (البنادر)
فقط. وتوجد أيضًا الطرق الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، إلا أنها ليست من
صنع أبناء البلاد، وإنما هي من صنع الأجانب الذين يجتنون معظم ثمراتها، وهي
التي ملكتهم زمام التجارة والمراباة في القطر، فاستنزوفوا ثروة أهله، وامتصوا
دماءهم، ثم تخطوا ذلك إلى امتلاك رقبة أراضيهم الواسعة واتخذوهم فيها أجراء
ومزارعين.
لو أن أحدًا طار في منطاد (بالون) ونزل في الأزبكية وطاف فيما يقرب منها
لقال: إن هذه المدينة هي أخت باريس، أو بنتها، وإذا سار إلى القرافة ورأى
القصور المشيدة على القبور يذهب به الوهم إلى أن مصر قد عادت لها مدنيتها
القديمة، وعما قليل يبني أمراؤها أهرامًا كأهرام الجيزة ويتخذونها قبورًا لهم، ولكنه
إذا جال في أنحاء القطر وأرجائه ورأى بيوت السواد الأعظم من الشعب تحاكي
زرائب الغنم، ومعاطن الإبل في سائر البلاد التي تفتخر بمصر ويفتخر عليها بعض
أهل مصر (كسوريا ولبنان) ، بل هي أقل وأحقر، وإذا خالط مع ذلك هؤلاء
المساكين ورأى حالة معيشتهم في مأكلهم وملبسهم حكم حكمًا جازمًا (وربما لم يكن
بعيدًا من الصواب) بأن الشعب المصري هو أنكد الشعوب عيشًا وأشدهم بؤسًا
وأكثرهم غباوةً وجهلاً، فقد عمل بعض عقلاء المصريين حسابًا للفلاح المصري
فوجده ينفق في مدار سنته كلها على أكله ولبوسه: سبعين قرشًا أميريًّا.
ولا تحكم على القطر بمثل هذا العاقل، وهذا العالم، وذلك المثري، فإنما
كلامنا في الشعب لا في الأفراد، وسننشِئ مقالة مخصوصة في (تمدن مصر) في
عدد آخر، ونكتفي الآن ببيان مجمل عن المجتمعات الكبيرة التي تقام في مصر
ويسمونها (الموالد) ، فإن مجتمعات كل أمة هي مثال تمدنها وآدابها وعلمها وعملها،
وإنني أذكر ذلك بعبارة انتقادية لعله يبعث على تلافي الخلل ومداواة العلل وأبدأ
بالكلام عنها من الجهة الدينية فأقول:
الموالد
إن مصر تلقب بأم العجائب، وما أجدرها بهذا اللقب وأحقها بهذا الاسم، وما
أكثر وجوه التفسير والتأويل فيه. وأعجب أولاد هذه الأم شكلاً، وأغربهم وصفًا
وفعلاً، هو ما يسمونه:(الموالد) ، اسم يرمي إلى مسمى لم يلاحظ في الأصل
مدلوله اليوم، ولم يعرف واضعه إلى أي حد ينتهي.
ويظن اللغوي لأول وهلة أن إطلاق المولد على هذا الاجتماع
الخاص المعروف ليس له مجاز إلى اللغة، ولا يمس حقيقتها. لكنه لا يلبث ريثما
يرجع الطرف إلى المجتمع في مسجد السيد البدوي (رضي الله تعالى عنه) في
مثل الأسبوع الفائت إلا وينجلي له وجه للتسمية وجيه. ذلك أنه يرى المجتمع تتولد
فيه البدع والمنكرات والسفه والجهالة، وكل فعل مذموم مشؤوم.
تدخل المسجد فترى سوادًا عظيمًا وتسمع جلبة وضوضاء. ترى أناسًا قد
وضعوا في أعناقهم السلاسل والأغلال، بعضهم عار وبعضهم يلبس الأخلاق
والأسمال، وقد تجسدت عليهم الأدران والأقذار، ولبدوا شعورهم المضفورة حتى لا
ينفذها الماء، والحشرات ترتع في أجسادهم، تطوف في أطواء مرقعاتهم وأهداب
قبعاتهم، وقد قاموا إلى ما يسمونه الذكر {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
المَسِّ} (البقرة: 275) وما كان ذكرهم إلا همهمة ودمدمة، وحمحمة وجمجمة،
تشوبها صيحات ونَبْآت، وتخالطها شهقات وزفرات، ويعلوها مُكاء (صفير)
وتصدية (تصفيق) ، ويتخللها أوامر ونواه ودعاو طويلة عريضة، وتهذار وهذيان
(كلام لا يعقل ولا يفهم كالذي يصدر من المريض) ، ويعقبها نوبات صرع وإغماء،
يشترك في ذلك كله النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، هذا هو حزب
(الأولياء) الذاكرين، وثَمَّ أحزاب أخر فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فمنهم
المتصدرون للرقي والتمائم، وشفاء الأمراض والأدواء، ومنهم العرافون
المتصدون لبيان ما غاب علمه عن الناس من مصالحهم الدنيوية، المبشرون
البائسين بزوال بؤسهم والانتصار على أعدائهم، وسائر أرباب الحاجات بقضاء
حوائجهم إذا هم رضخوا لهم بشيء من الفلوس. ولهم أعمال دون ذلك هم لها
عاملون.
ثم ارجع الطرف إلى مقصورة السيد - قدس الله تعالى سره - عن الرضا بهذه
البدع والمنكرات، فإنك ترى أن قبره كعبة ثانية، تطوف بها الناس كما تطوف
بالكعبة، ويزيدون على ذلك الدعاء وطلب الحوائج من السيد نفسه معتقدين أنه هو
الذي يفعل ذلك بنفسه، لما تلقوه من القصص والحكايات في ذلك، التي منها: أن
رجلاً أضل جاموسة له أو سرقت منه، فجاء إلى قبر السيد وطلبها منه، فلم يجئه
بها، فأغلظ عليه في القول وأهانه بالكلام وهدده بانتقام الحكومة منه، فلم يلبث بعد
ذلك إلا قليلاً حتى رأى القبر يضطرب، وسمع خوار الجاموسة من تحت الستار
الذي على القبر، ثم خرجت الجاموسة من القبر وتمثلت بين يديه، فأخذها من
المسجد وانصرف. فمثل هذه الأساطير التي ترويها الآباء للأبناء، ويقرهم عليها
شيوخ العلم والإرشاد هي التي قادتهم بسلاسل التقليد إلى الاعتقاد بأن السيد يفعل ما
يشاء، ويحكم ما يريد، وتفضيله على الأنبياء، بل نقل عن اثنين من الجهلة كانا
يتساءلان عن المفاضلة بين السيد والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال أحدهما
للآخر: (اسكت يا واد دا السيد أفضل من ربنا) ! ! ! (تعالى الله عن ذلك علوًا
كبيرًا) ، وهذه الحكايات سارت بها الركبان، وعرفها أهل الشرق والغرب، كل
هذا والعلماء ساكتون حذرًا من الوقوع في إنكار الكرامات، والاعتراض على
الأولياء الذي يخشى معه أن يتصرفوا بهم ويوقعوهم في الرجز الأليم.
ثم إن للوليات من هؤلاء أعمالاً غير التي أشرنا إليها، ذلك أنهن يفضن
الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند
ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق.
رأى كاتب هذه الكلمات بعينه ولية منهن صبيحة الوجه، وفي معصمها أَسْوِرَة،
وفي أصابعها خواتيم، وفي عنقها عقود، وقد جمع رأسها إلى رأسَيْ رجلين
والتفَّت الأيدي على الأعناق، فكان عناقا مثلثاً
…
ورأى منهن فتاة مدت يدها
لمصافحته فأعرض عنها، فوثبت عليه كالثعبان وقبَّلته في وجهه قبلات متتابعة.
وفعلت ذلك مع غيره أيضًا. كل هذا يجري في بيت الله على مرأى من العلماء
ومسمع، وهم له مقرون، وبه راضون، يحذرون أن يغضب عليهم السيد إذا
غضبوا لله وانتصروا لدينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
إن سكوت العلماء بل مشايعتهم لعاملي هذه الأعمال بترك دروس العلم وتخلية
المسجد لهم، وغشيانهم مجالسهم من غير نهي ولا إنكار وتهنئتهم بهذا الموسم
الشريف والدعاء لهم بالحياة لمثله أعوامًا وأحوالاً - كل ذلك وأمثاله أوقع في أذهان
العامة أن هذه الأعمال من مهمات الدين التي تضاعف بها الحسنات وتمحى معها
السيئات، فلقد أنكرت بعض المحرمات التي رأيتها على عصابة ممن في المسجد
فأجابني بعضهم قائلاً: (أبو فراج ساحتو واسعة) فسألته الإفصاح عن هذه العبارة
وبيان معناها فقال: (يعني ما علهشي هم العلماء قالوا: إن لمس المره في أيام
المولد ما ينقضشي الوضوء) ولعمري إنه جدير بأن يقول هذا، فإن لديه كل حجة
لو عرضها على منبر جامع السيد أمام الآلاف المحشورة فيه من شيوخ العلم
والطريق وغيرهم لظلت أعناقهم لها خاضعين. ولم ينبس أحد ببنت شفة في تكذيب
روايتها أو بيان أنها لا تفيد المطلوب على تقدير ثبوتها، وما هي إلا حكاية من
الحكايات التي تروى عن كرامات السيد وتؤخذ مسلمة، سواء كان راويها عدلاً أم
فاسقًا عاقلاً أم مجنونًا. وهذه من المزايا التي يميز الجماهير بها ما يؤثر عن
الأولياء من العجائب والخوارق على ما يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من
الحكم والأحكام. وتلك الحكايات كثيرة، وكلها ترجع إلى شيء واحد، وهو أن من
يعترض على منكر يحصل في مولد السيد فلا بد أن ينكب بنكبة أو يصاب بمصيبة،
وقد غلا بعضهم غلوًا كبيرًا حيث زعم أن في ذلك خطراً على العقيدة، وأن
المعترض لا يكاد يموت على الإيمان، وجهل القائلون بهذا والمصدقون به أن هذا
الخطر من الاعتراض لا يحيق إلا بهم؛ لأنهم هم الذين نقصوا السيد حيث جعلوه
زعيم الفاسقين، وقواد الفاجرين، ورئيس العاملين على هدم الدين. (نعوذ بالله من
هذا الجهل الفاضح) ، أما والله لقد طاشت سهامهم، وامتلخت أحلامهم (انتزعت
عقولهم) ، وضل رشادهم، وعظم فسادهم، فإذا حدثتهم بما ينابذ الشرع والعقل
قبلوه، وإذا جئتهم بما يؤيدهما رفضوه ولم يتقبلوه.
وأهون ما يحكون عمن اعترض على ما يحصل في مسجد السيد أيام مولده ثم
رجع إلى الإقرار، وانضوى إلى أهل الرضى والتسليم: أن رجلاً من المغرب جاء
لزيارة السيد في أيام المولد، فشاهد من المنكرات ما ضاق له صدره، وعظم عليه
أمره، فترك الزيارة، وخرج مغاضبًا ومنكرًا ولاية السيد، إذ لم يتصرف بهؤلاء
العصاة الذين ينتهكون حرمة حماه، ويأتون المحرمات في مشهده ومغناه، فلما انتهى
إلى البحر بالت بغلته في الماء فتأثر ذلك (أي خرج إثره) رجل خرج من الماء
وقال للمغربي: يا رجل قد نجست الماء، فأجابه، وهل ينجس البحر، فقال له:
وهل السيد إلا بحر، فكيف يعكره أو ينجسه ما رأيت؟ فرجع المغربي يحدث بما
رأى، وقد أيقن أن الذي خرج من الماء وكلمه بهذا القول الهراء هو السيد البدوي.
وأنا أروي لهم رواية صحيحة المتن والسند، فهل يقبلها منهم أحد، أم
يرفضونها، لأنها أليق بمحاسن الدين، وفيها تعظيم صحيح للأولياء والصالحين،
وهي: كان بعض طلبة العلم العقلاء يحضر العلم في الجامع الأحمدي في طنطا من
نحو 30 سنة، ولما كانت أيام المولد أراد أن يصلي مع بعض أشياخه في جامع
السيد، فقام الشيخ وتوضأ من ميضأة الجامع وهي متغيرة اللون والطعم والريح من
النجاسة، فأبى أن يأتم به تلميذه وكان جاء المسجد متوضئًا، بل صرح له بالإنكار
وبأن صلاته مع النجاسة والوضوء بالماء النجس غير جائزة، فأتم الشيخ به، ولما
فرغا من الصلاة قال له الشيخ: لا بد أن تصاب بنكبة لاعتراضك وأنا لولا أن نفسي
تعاف الشرب من ماء مجاري كنف جامع السيد لشربت منها، فقال له التلميذ: إذا
كان السيد وليًا لله، بل إذا كان مسلمًا حقيقيًّا (وهو كذلك) فإنه يغار على الدين،
ويكون ما قلته أنا هو المرضي عنده، وإذا كان غير ذلك فلا أبالي برضاه وسخطه،
وهذا إذا فرضنا أنه رقيب ومهيمن على الأعمال، يرضى لحسنها ويسخط لقبيحها،
وإنني أخاف عليك أيها الأستاذ أن تصاب ببلاء لاستهانتك بمراعاة الشريعة وإقدامك
على مخالفتها، وأقول هذا مع الأسف لاحتياج مثلي إلى إرشاد مثلك، وتفارقا وفي
اليوم التالي حاول التلميذ العاقل الاجتماع بشيخه حيث كان يلقاه في المسجد، فلم
يجده وبعد السؤال علم أنه مريض في إحدى الخيام، فذهب لعيادته فألفاه مثقلاً بالدثر
الغليظة، وهو يرتعد من الحمى مع لفح الهجير واتقاد السعير حيث كان ذلك في
المولد الكبير (في أغسطس) ، وأخبره أنه منذ فارقه بعد الصلاة جاء ذلك المكان
فعاجلته الحمى فيه، فقال له التلميذ: وها أنا ذا صحيح مُعافًى، فمن الذي عوقب
على الاعتراض والإنكار؟ ثم نقله من خيمته واعتنى بخدمته.
فيا معاشر الناس إن كنتم تعتقدون أن الأمراض والمصائب تأتي من ارتكاب
الخطايا واقتراف المعاصي، فالمعاصي والخطايا هي ما ترونه وتأتونه في مسجد
السيد، وإن كنتم تعتقدون أن الله تعالى يعاقبكم في الدنيا والآخرة على إنكار المنكر
والأمر بالمعروف والعمل به، إذا حصل ذلك في جوار السيد فقد نبذتم دين الله تعالى
وراء ظهوركم، كما أنكم تنكبتم طريق العقل، وأساطيركم التي تسمونها كرامات
وتعدونها من الآيات البينات أيضًا ليس فيها على ما تدعون برهان مبين، ولا تقوى
على سلطان العقل والدين المبين، لا سيما وهي معارضة بحكايات أصح منها رواية
وأقوى دراية عن الذين أنكروا هذه المنكرات وأثّموا فاعلي هذه السيئات، ولم
يصابوا على ما عملوا بسوء، ولا صب عليهم العذاب، ومنهم من كشف عنه السوء
واكتنفته النعمة، بل منهم من ابتلي إثر التهاون بحقوق الشريعة الشريفة وترك
الإنكار على من أخل بها بالمرض، كما سمعت في الحكاية الواقعة التي قصصتها
آنفًا فاعتبروا يا أولي الأبصار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نُشرت في فاتحة العدد السادس الذي صدر في 28 ذي القعدة سنة 1315 - 9 أبريل سنة1899.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المنار في بلاد الشام
جاءنا في رسالة خصوصية من طرابلس أن صاحب العطوفة والي ولاية
بيروت الجليلة أصدر أمرًا إلى متصرفية طرابلس بوجوب جمع العدد الثاني من
جريدتنا (المنار) وإعدامه، فوقع عندنا الريب في شأن هذا الخبر، فإن المنار قد
عاهد الله تعالى على خدمة الدولة والملة بالصدق والأمانة، في ظل أمير المؤمنين
السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وخطته علمية تهذيبية من أفضل أعمالها تأليف
القلوب وجمع كلمة العناصر المؤلف منها جسم الأمة العثمانية تحت لواء جلالة
السلطان الأعظم، وقد حمد مبدأه هذا جميع العقلاء والفضلاء ومحبو خير الدولة
العلية. وليس في العدد الثاني منه سوى مقالة تهذيبية خلاصتها: أن سعادة الأمة لا
تكون إلا في تعميم التربية والتعليم بواسطة الشركات المالية الوطنية التي تنشئ
المكاتب والمدارس، وتعهد بها للعقلاء والفضلاء. وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد،
فإن أعداء الدولة العلية الذين يطعنون بجهل شعوبها وهمجيتهم يلقون تبعة ذلك على
مولانا السلطان الأعظم، مع أنه باذل قصارى همته الشريفة وموجه قواه المقدسة
إلى ترقية معارفها فكم أنشأ من المكاتب والمدارس على نفقة الجيب الهمايوني
الخاص [*] ، لكن يستحيل أن تكفي خزينة أي ملك أمة عظيمة كالأمة العثمانية،
وعليه فلابد لأغنياء الأمة من التأسي بمليكهم والاقتداء بإمامهم. هذا ما قاله المنار،
وأثبت أيضًا أن تقدم الأمة وسعادتها لا يأتي من مداخلة الأجانب واستلامهم زمام
الأحكام ولا من حرية الجرائد، وكل هذا مما يكثر الثرثرة به أعداء الدولة. والمنار
قد رد عليهم فخدم الدولة ونصح للأمة. وفيه أيضًا مقالة تبين أن الاستعمار الذي
يدعي الأوربيون خدمة الإنسانية به لا توجد حقيقته إلا في الديانة الإسلامية التي
بينت في آية الجهاد أن الحكمة في الإذن للمسلمين بالقتال هو:
(1)
اضطهاد المشركين لهم وإخراجهم من ديارهم (مكة) بغير حق إلا
أنهم يعبدون الله تعالى دون الأصنام.
(2)
وكون المدافعة تحفظ الأديان السماوية، وتمنع من هدم البيع (معابد
النصارى) ، والصلوات (معابد اليهود) ، والمساجد (معابد المسلمين) .
(3)
وقيام المسلمين إذا مكنوا في الأرض بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعليم
الناس عمل المعروف وترك المنكر. وليس في ذلك العدد وراء ما ذكرنا إلا
أخبار مجملة عن الهند وكوبا واليهود في فرنسا والسودان وبعض أخبار تلغرافية
نشرتها جرائد الآستانة العلية وجرائد سورية فضلاً عن جرائد مصر التي لم تمنع
من بلاد الدولة العلية. فليس بعد هذا إلا احتمال أن يكون الأمر صادرًا بجمع جريدة
غير جريدة المنار، وذكر اسم المنار غلطًا، أو أن بعض السعاة المَحَّالين أراد أن
يبيض وجهه بسواد الكذب فكتب للحكومة السنية أن في العدد الثاني من المنار ما لا
ينبغي نشره، وهو في هذا إما متوقع جائزة على عمل ضار في صورة نافع، وإما
عدو للدولة والأمة، يريد أن يعرقل عمل من يخدمها بصدق ومشرب صحيح يرجى
نفعه، وكان بعض العقلاء في بلاد الشام فطن إلى أن مثل هذا العمل الشريف لابد أن
يعرض له عثرات، وتقام في طريقه عقبات، فقد جاءنا في البريد الأخير كتاب من
بعض فضلاء الأمراء في تلك البلاد يقول فيه ما نصه بالحرف:
(اطلعت على العدد الأول والثاني من جريدتكم الغراء فوجدتها وايم الله من
أحسن الجرائد لهجة، وأنبلها مقصدًا، وأسماها غاية وأصدقها حديثًا، وأفصحها
لسانًا، وأكثرها بيانًا، وظهر لي أن وراءها رأيًا صائبًا، وفكرًا ثاقبًا، وعلمًا واسعًا،
وحكمة بالغة، ونظرًا دقيقا، وقد راق في عيني إفصاحها عن مواضع الداء،
ومواطن الخلل بما ليس معه زيادة لمستزيد، أو انتقاد لمنتقد أو استفهام لمُسْتَفْهِم،
مما جعلنا نوطد الآمال على انتفاع الأمة بها انتفاعًا عظيمًا، واهتدائها بهديها نهجًا
قويمًا وصراطاً مستقيمًا، سائلين المولى لكم التوفيق والثبات في هذا الطريق وأن
يقيها شر الحاسد وكيد المفسدين الذين يرمونها بالترهات ويقيمون في سبيلها
العقبات) . اهـ.
وعندنا من قبيل هذه الشهادة في المنار شهادات كثيرة. فإذا كانت الخطة التي
ذكرناها وذكرنا نموذج شهادة العقلاء والفضلاء لها خطة ضرر وعداء، فما هي
الخطة النافعة التي يجب انتهاجها في خدمة الدولة والأمة؟ ليفدنا عنها الطاعنون،
ونحن لهم شاكرون، وإلا فليمعنوا في التبصر والانتقاد قبل رفعه إلى أولياء الأمور،
لئلا يقعوا في إيذاء الأبرياء، والإساءة إلى المحسنين. ونحن نقول: لا بأس
بالمراقبة على الجرائد التي تشوش الأفكار، وتنشر ما لا يليق بحالة الأمة نشره،
لكن نرجو من أولياء الأمور أن ينيطوا بهذا الأمر جماعة من أهل الفضل والصدق
والاستقامة، ليعطوا كل شيء حقه وبالله التوفيق.
_________
(*) هذا ما كنا نعتقد؛ إذ كنا قريبي العهد بتلك البلاد التي لا يقرأ فيها أحد في الجرائد ولا يسمع من الناس عن السلطان غير هذا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشرقين الأدنى والأقصى
إن زل بالجمل منسم، فهوى إلى الأرض صار نهوضه متعسرًا لضعف
قوائمه، وقد ينكسر له في سقوطه عضو، فلا يبقى لدائه دواء غير سكين الجزار،
وهذا الذي جرى للصين من حين أن زلت بها قدمها في حربها مع اليابان. وقد
سقطت قبلها بروسيا تحت ضربات نابليون وفرنسا تحت سيوف الألمان، إلا أنهما
نهضتا نهوض الجياد من عثراتها، لما في جسم الأمتين من الحياة الأدبية، أما
الصين فهيهات أن يتسنى لها النهوض لخلوها من تلك الحياة.
ما عمرت الصين هذا العمر الطويل إلا بانغلاق أبوابها دون أوروبا، واجتنابها
مخالطة الأوربيين، حتى قد كان في شرائعها أن الصيني الذي يخرج منها لا يعود
إليها، على أن هذا الانغلاق الذي كان سبب حياتها فيما مضى يكاد يكون سبب موتها
في هذا الزمان، فإن السبب الكلي في هجوم أوروبا عليها هو فتحها للتجارة
والصناعة الأوروبية. فلو أن الصين انفتحت من تلقاء نفسها، واقتبست فضائل
التمدن الحديث، نابذة رذائله، وسارت سيرة الدول المتمدنة في طريق العمران،
لكفت نفسها شر الوقوع في أيدي الأمم الأوروبية، ولكانت بما فيها من مئات
الملايين من السكان مرهوبة الجانب عزيزة المكان.
ويجدر بسائر الأمم الشرقية أن ترى العبرة في غيرها فتعتبر. فإن الغرب
زاحف بقوة وشدة على الشرق، فإن لم يجاره الشرق ويقابله بعزم وطيد، وبأس
شديد، صار لقمة في فيه، وباتت خيراته مطمعًا لبنيه.
وأول أمة شرقية أدركت هذه الحكمة الدولة العلية والأمة اليابانية. أما اليابان
فمذ بان لها خطر الوقوع في يد الغرب تهافتت على اقتباس تمدنه لمدافعته بسلاحه
فما مضى عليها زهاء 50 أو 60 عامًا حتى اقتعدت في المجد مقعدًا قصيًّا وأصابت
وسادًا مثنيًا. وأصبحت وهي لا تخشى للغربيين بأساً ولا ترهب لهم بطشًا.
وأما الدولة العلية - أيدها الله -، فقد أخذت تنحو هذا النحو، واندفعت إلى
اقتباس فضائل التمدن العصري، رغبة في الوصول إلى وسائل القوة والسعادة،
فأنشأت دور الفنون والعلوم والمكاتب في كل جهات المملكة، والمستشفيات،
وملاجئ العجزة، وانصرفت إلى الاهتمام بالزراعة والصناعة، ولا تزال تسعى في
تلك الحلبة سعيًا حميدًا.
وقد تجرأ بعض الكتاب على تشبيه الشرق الأقصى بالشرق الأدنى وهو تشبيه
يدفعه عقلاء الغربيين أنفسهم ووجه الشبه عندهم أن في الشرقين خللاً واحدًا والدول
راغبات في التهامهما رغبة واحدة.
نقول: أما رغبة الدول فمما لا يجب البحث فيها، وهن قد يرغبن في تناول
النجم إذا استطعن إليه سبيلاً، وأما الوجه الثاني: فمما يقتضي دقة النظر وإمعان
الفكر.
الصين أمة قديمة مغلقة، لا يعلم عنها ما هو كاف للحكم عليها، فقد يكون في
باطن تلك الولايات الشاسعة المغلقة قوة وبأس وحياة، وقد يكون فيها عفن وظلمة
وانحطاط شنيع، غير أنه قياسًا على بلدانها المفتوحة، لا نظن بلدانها المغلقة أصلح
حالاً وأنعم بالاً، وبيانًا لحال البلدان المفتوحة حسبنا أن نقول: إن ألمانيا احتلت
كياوتشو بلا حرب ولا نزاع، ولما نزلت الجنود الألمانية إلى المدينة أخلتها الجنود
الصينية على الفور، خارجة منها بخوف وهلع، خروج الغنم من صيرها، فأين
هؤلاء من أبطال ملونا ودوموكو. أين تلك الشعوب الجاهلة البليدة من هذه الأمم
المتعددة الصاعدة في مراقي التمدن في الشرق الأدنى تحت أكناف الدولة العثمانية.
زر بيروت وأزمير والآستانة، ألا ترى نفسك في بلاد متمدنة. إن أمم الشرق
الأدنى خارجة من ظلمة الماضي خروج الزهور من أكمامها وما يشبهها بالشرق
الأقصى إلا كل من يريد أن يتمحل عذراً لأطماعه فيها.
والخلاصة: أن الشرق الأقصى لا يشبه الشرق الأدنى، كما ذهب إليه بعض
كتاب الغرب ونقله عنهم بعض كتابنا. ونحسب إهانة للأمة التركية والمصرية
والسورية والعربية تشبيههم بالأمة الصينية. وكفى فارقًا بين الأدنى والأقصى كون
الأول مستيقظًا عاملاً على اقتباس التمدن الحديث، مجاراة لمقتضيات العصر وعنده
من القوة ما يقاوم به أخصامه، والثاني نائمًا ببلادة وكسل فوق فوهة الهاوية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (ف)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منكرات الموالد [*]
ألمعنا في العدد الماضي من جريدتنا إلى كثير من البدع والمنكرات التي
تحصل في المسجد الأحمدي في طنطا في إبان الموسم الذي يسمونه: (مولد السيد) ،
أتينا عليها في عرض القول وإطواء الكلام، وإننا نعد منها الآن ما يعن لنا نشره
سردًا مع إجمال من الشرح، ثم نبحث في إزالته فنقول:
(الأول) من تلك المنكرات: إبطال قراءة العلم وإفادة المتعلمين، تخلية
للمسجد لتلك الجمعيات التي شرحنا بعض حالتها بحيث يصح أن يقال لنا على ذلك
باختيارهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) .
(2)
ترك صلاة الجماعة الراتبة التي يحضرها أهلها المواظبون عليها في
ذلك المسجد، نعم، إن تلك الجمعيات يتخللها بعض صلوات تقام بين عزف
العازفين وصراخ الصارخين ومدافعة المارين، إلى غير ذلك مما يخرجها عن
صورتها الشرعية الكاملة.
(3)
التشويش على المصلين بدق الطبول والدفوف، والنفخ بالشبابات
والمزامير، وصراخ المستصرخين بالسيد (قدس سره العزيز) ، وصياح المنادين
له، وجلبة الذاكرين، وضوضاء الوفود والجموع الذين يموج بعضهم في بعض
ومرور الجم الغفير بين يدي المصلي، حتى لا يدري ماذا يعمل.
(4)
الصلاة إلى قبر السيد (رضي الله تعالى عنه) الذي يلجئ إليه
الازدحام مع الجهل، نعم إن هذه البدعة السيئة لا تختص بأيام الموالد، ولكنها تزيد
فيها، وإزالتها من أهم مهمات الدين، فقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدنيا، وهو يحذر منها، ويبين أن الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
من الأمم السالفة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
(5)
الطواف بقبر السيد (رحمه الله تعالى) كما يطاف بالكعبة سواء
بسواء. وتمثيل هيئة أي عبادة مشروعة منهي عنه كما هو معروف في الفقه،
والزيارة لا تتوقف على هذا الطواف.
(6)
تقبيل أعتاب المقصورة التي فيها قبر السيد (سقى الله لحده) ، ولمس
قفصه والتمسح به وتقبيله " وكل ذلك بدع منكرة إنما يفعلها الجهال "، كما قال
السبكي وغيره من الأعلام.
(7)
طلب الحوائج والمصالح من السيد (تغمده الله تعالى برحمته) ينادونه
بصريح القول: يا سيد اشفِ مريضي، يا أبا فراج فرج كربتي، يا شيخ العرب
تصرف بعدوي، إلى غير ذلك من المهمات التي تعرض للناس، ومنها ما لا ينبغي
ذكره، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلاء أنهم يستنهضون همة السيد ويتقربون إليه
لقضاء مصالحهم بالدراهم، فقد وضع بجانب القبر صندوق كبير مخروق سطحه
خرقًا مستطيلاً بحيث يلقى منه كل نوع من النقود المتداولة، وبنذور أخرى تحار
العقول في فهمها وفي سفاهة من ينذرها ويتقرب بها. منها: أن المرأة تنذر أن
تلبس لبوس الرجال وتركب فرسًا وتطوف بالأسواق والشوارع الغاصة بالناس في
يوم المولد، وكذلك يفعلن. ترى كثيرات متسرولات بالسراويل الرسمي (البنطلون) ،
ومرتديات بالكساء المعروف (بالبالكو) ، ومتلفعات فوق (الطربوش) بمنديل
من النوع الذي يسمى (الشال) ، وراكبات على الخيول بين الجموع والوفود،
ومنهن من تنذر الوقوف مع الذاكرين في الحلقات، وغير ذلك مما يُستحيا من ذكره.
ومن سفهاء المعتقدين من يتغوث ويستنصر بالسيد مدلاًّ عليه بألفاظ البذاء والهجر
والتهديد والوعيد، لاسيما إذا طلب منه حاجته بلطف ورفق، ولم تقض عن قريب.
ولا سبيل إلى حصر وسائلهم الجهلية ومقاصدهم الجاهلية، كما لا سبيل إلى تعميم
الحكم على نذورهم المالية بالفساد. لعدم إمكان استقراء جميع الأفراد. ولكن كلامنا
في المنكرات الظاهرة للعيان. التي لا ينكرها ولا العميان.
(8)
تقذير المسجد وتنجيسه، لا سيما من الأطفال الصغار الذين يكون
المسجد ملعبهم ومبيتهم، وقد نص بعض الفقهاء على أن تنجيس المسجد ردة ومروق
من الدين، ولعله محمول على ما إذا قصد به الإهانة، ومهما كان من أمر الحكم
بالكفر والمروق. فلا خلاف في العصيان والفسوق، يشترك فيه أولياء الولدان
وأولياء الشيطان الذين يغشون مجالسهم في العشي والإبكار، ويستبدلون الإقرار
بالإنكار.
(9)
تمكين الأحداث والمعتوهين من تبوء المسجد والتمكن منه، وقد جاء
في الحديث الصحيح: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) .
(10)
اختلاط النساء بالرجال في كل نوع من أنواع الاجتماع، حتى في
النوم وما يسمونه: (الذكر) . تبصر النساء في الليل مضطجعات على جنوبهن،
ومستلقيات على ظهورهن يتخللهن كثير من الرجال (اللهم إنهن مستترات) ،
وتتخطاهن جموع الوفود الذين يردون المسجد ذهابًا وإيابًا. وتراهن في الذكر
قائمات قاعدات. وإن شئت قلت: متثنيات أو راقصات. ومنهن من يأخذها
اضطراب وارتجاف وانتفاض وقشعريرة، كما يحدث للمحموم والمصروع.
رأيت (شيخة) منهن تضطرب جميع أعضائها وتتخبط تخبط من أخذته
نوبة عصبية، وقد أمسك بها ثلاث كيلا تقع على الأرض، وأحدق بها الناس
والممسكات بها مزدهيات معجبات، قريرات العين بإقبال الناس على هذه الأسرار
والكرامات، وربما كانت المرأة مصابة بالهستيريا وجاءتها النوبة في المسجد،
وربما كان كل ذلك تعملاًّ وتصنعًا. (وأما كرامة الله لأوليائه فهي أجلّ من هذا
الهزء والجنون الذي لا ينخدع به إلا الجاهلون) .
(11)
العزف والتطريب في الذكر بضرب الدفوف والطبول، والنفخ في
الشبابات والمزامير، وقرع الصنوج وغيرها، إلى ما يلتحق بذلك من الأغاني
الغرامية.
(12)
إحياء ما أماته دين الإسلام من المكاء والتصدية الذي كان في عهد
الجاهلية قال تعالى {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ
بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35) ، تراهم يصفقون في الذكر وينفخون
ويصفرون.
(13)
العرافة والتكهن (الإخبار عن شؤون الإنسان الخفية الماضية
والمستقبلة) ، يتصدى لذلك أفراد من الشيوخ والشيخات فيلقون بكلامهم الفتن بين
الناس والعداواة والبغضاء بين الأقارب والأصدقاء، لما يأتون به من العبارات
المجملة والكلمات المبهمة، التي تذهب النفس بتأويلها كل مذهب، ويسهل على
معتقدها حملها على شؤونه وأحواله في كل زمان ومكان. ذلك أنهم يقولون للمستنبئ:
إن لك عدوا من أهلك طويل القامة، وفي بدنه علامة، يهيئ لك المهالك، ويوعر
أمامك المسالك، إن الذي سرق متاعك رجل أسمر اللون، واسع العينين، نحيل
القوام، قليل الكلام، سوف تقبل عليك السعادة، ويصدها عنك جماعة يظهرون
ودك، ولا يحفظون عهدك، تصدقهم وهم كاذبون، وتأمنهم وهم خائنون. وأمثال
هذه الجمل التي تثير رواكد الأوهام وتبعث على سوء الظن بالأبرياء، وتوقظ عين
الفتنة بين الأهلين والجيران وتمثل الأصدقاء الأبرار، بصور الأعداء الأشرار، ولا
تسل عن عاقبة الجاهلين.
(14)
الدجل والتمويه بادعاء الولاية الذي قال فيه بعض العارفين: إنه
يورث سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، ويتبع هذا المنكر منكرات منها:
(15)
التعويذ والتنجيس (تعليق خرق أو عظام نجسة للوقاية من الجن)
يخدع الناس هؤلاء المعوذون المنجسون بتمائم وتعاويذ وتناجيس يوهمونهم أنها
تجعل العاقر ولودًا، والعقيم منتجاً، وتقي من الجن والشياطين، وتحفظ من كيد
العادين والظالمين، وتمنع الحرث والنسل من الجوائح السماوية، والهوام الأرضية.
وتجذب قلب المعشوق إلى العاشق، وتنفر به عن صحبة العذول المماذق، وتشفي
من الأمراض المزمنة، والأدواء المستحكمة إلخ إلخ، ومنها.
(16)
تشويه الخلقة ولباس الشهرة، وقد ألممنا بشرحه في مقالة العدد
السابق ومنها.
(17)
أكل أموال الناس بالباطل، فإنهم إنما يأكلون بدينهم، وقد فصل
الإمام الغزالي القول في حظر هذا الأمر أحسن تفصيل.
(18)
مَسَن الرجال، وفُتوك النساء (أي مجونهما) ، وما هو إلا مداعبة
وملاعبة. وهجر وبذاء يتحاماه المتدين ويأباه كل مهذب، وقد أشرنا إلى شيء من
ذلك في العدد السابق.
(19)
البيع في المسجد: يباع فيه الأكل واللبوس من نسيج وأكسية والكتب
والسبح والأمشاط والأعطار وأنواع من الأدوية وغير ذلك. ويرون أن ما يشترى
من المسجد له فضيلة وبركة. وبعض العلماء لا يحرم البيع في المسجد إذا وقع
عرضًا ونادرًا، ولم يشغل المصلين ولم يضيق المسجد ولم يكن فيه امتهان له بجعله
كالحانوت. وأظن أنه لا يبيحه أحد بالصورة التي تحصل الآن في الجامع الأحمدي.
(20)
الإنفاق من مال الوقف على إضاءة المسجد الليل كله لأجل هذه
الأعمال الممزوج حلالها بحرامها، والغالب قبحها على حسنها. وربما كانت هذه
النفقات من النذور أو بعضها من الوقف وبعضها من النذر، ومهما كانت هذه
الأعمال محظورة وواجبة المنع فالوقوف والنذر عليها غير صحيحين.
هذا ما تذكرناه الآن مما علق بذهننا من منكرات الموالد وهو أشدها نكرًا،
ومن هذه المنكرات: ما يحصل في غير أيام الموالد، لكنه يزيد فيها. ونحن إنما
ننكر الأفعال المخالفة لهدي الدين، لا الموالد نفسها؛ لأن المولد عبارة عن اجتماع
الناس من أرجاء القطر وأنحائه في بقعة واحدة لأعمال مخصوصة. والاجتماع له
فوائد مادية وأدبية لا تنكر، بل ليست المدنية إلا الاجتماع للتعارف والتآلف والتعاون
على الأعمال النافعة للأمة. وبحثنا في المنكرات بمناسبة الموالد إنما هو لكثرتها
فيها. ونمسك الآن عن الخوض في فوائد هذه المجتمعات التجارية والأدبية، حتى
نقف عليها بالاختبار في المولد الكبير، إن أمهلنا الزمان، ونطلب الآن من علماء
الشريعة وأنصار الدين أن يوجهوا أنظارهم الشريفة لإبطال هذه البدع والمنكرات،
وينتصروا للدين الذي ائتمنوا عليه، فإنهم هم المسؤلون عن ذلك عند الله تعالى،
ولا يغني عنهم التأفف في بيوتهم، والحوقلة والاسترجاع في زوايا خلواتهم،
والتبرؤ من الحول والقوة إذا طلب منهم السعي والعمل فإن لهم بالله قوة على تلافي
ذلك كله، فقد أعطاهم سلطة روحية على شعب عظيم، هو أشد الشعوب خضوعًا
وانقيادًا إلى رؤسائه، وبذلك كان أعظم الشعوب قابلية للتربية والتهذيب.
إن سكوت العلماء في مصر على هذه الطامات الكبر، مع بروزها بالصبغة
الدينية لمما يوقع في الدهشة والعجب. يقرون في دروسهم أنه يكره المواظبة على
بعض السنن والمستحبات لئلا تتوهم العامة أنها واجبة، (ولو اعتقدوها واجبة ما
زادتهم إلا إيمانًا) ، ولا يبالون باعتقاد العامة أن تلك البدع والمنكرات من الدين،
مع أن في استحلال بعضها ردة ومروقًا منه. إذا هان على بعض المتسمين بسمة
العلماء الذين لم يرسخ علم الدين في قلوبهم، ولم يملك القرآن أعنَّة نفوسهم أن
يتهاون في شؤون هذه المنكرات بحيث يغشى مجالسها ويهنئ المقترفين لها (وهم
الذين نددنا بهم في المقالة السابقة) ، فلا نرتاب في أن الراسخين في العلم يتململون
من اجتراح الأمة لهذه السيئات، كما يتململ السليم، ويودون أن تقلع عنها. لكنهم
يظنون أن هذه العادات رسخت بكرور السنين، فلا ينجع في الآتين بها وعظ واعظ،
ولا تنبيه منبه. وهذا هو السبب في سكوتهم وسكونهم، لا الرضا والتسليم، أو
الخوف من تصرف السيد (قدس الله روحه) فيهم إذا انتصروا للدين، وتواصوا
بالحق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. بخلاف الذين يشاركون العامة في
أوهامها، ويشايعونها على أفعالها، وهم الذين أطلقنا القول في العدد الماضي
بالانتقاد عليهم.
والذي نستلفت [1] إليه أنظار هذا الفريق من العلماء الذين وصفهم الله تعالى
بخشيته أن يسلكوا في إبطال هذه البدع والمنكرات طريقين اثنين؛ أحدهما: قريب،
والآخر: بعيد، ولابد منهما كليهما. فأما الطريق القريب: فهو أن تؤلف لجنة
برئاسة الأستاذ الأكبر مفتي الإسلام وشيخ الجامع الأزهر ويدعى إليها الأستاذ الكبير
شيخ الجامع الأحمدي، وتقر على ما يظهر لها بعد المذاكرة أنه أقرب الوسائل لمنع
كل ما يخالف الشرع، ويخل بالآداب الإسلامية في المسجد الأحمدي، ولو أدى ذلك
إلى إقفاله في أيام المولد، إلا في وقت الصلاة مع مراعاة الحكم الشرعي في ذلك،
وعندنا أن أنجح الذرائع لإبطال ما ذكر أن ينشر قبل المولد بأيام (إعلان) في
الجرائد يصرح فيه بمنع الناس من كل ما اعتادوا فعله في المسجد إلا الصلاة، وأن
شيخ الجامع يقيم على أبوابه خفراء يمنعون النساء والأطفال والباعة والمشعوذين
وأصحاب المعارف من الدخول إليه ومن كل عمل غير مشروع فيه. يفصلون ذلك
في الإعلان بحيث يفي بالغرض، ثم ينفذون ذلك فعلاً في أيام المولد. ولا شك أن
شيخ الجامع إذا طلب من الحكومة نفرًا من الأعوان والشرط لأجل هذا العمل
الشريف، فإن الحكومة تجيب طلبه، لاسيما إذا كان يطلب عن قرار لجنة العلماء،
أو كان الطلب من اللجنة نفسها. وأما طلب إبطال الموالد بالكلية، فربما لا تجيب
الحكومة طلب الشيخ أو العلماء فيه؛ لأنه ليس من الأمور الدينية المنوطة بهم
بخلاف ما يحصل في المسجد.
وأما الطريق البعيد: فهو طريق الوعظ والتعليم، وهو الإصلاح الحقيقي الذي
يجب الاجتهاد به من كل من له غيرة على الأمة والدين، وهذا الطريق يتشعب منه
ثلاثة شعاب وهي:
(1)
الخطابة.
(2)
تدريس علم الأخلاق والآداب الدينية الصحيحة.
(3)
التصوف أو الإرشاد المنوط بأهل الطريق. وكل شعب من هذه
الشعاب ركن عظيم لسعادة الأمة في الدين والدنيا. وقد أهمل الاعتناء بها في كل
البلاد الإسلامية فآل الامر بالمسلمين إلى ما نرى. وسنتكلم عليها في العدد الآتي
كلامًا موجزًا يتعلق بحالة الموالد. وندع الخوض فيها من سائر الوجوه للفرص
المناسبة وبالله التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نُشرت في فاتحة العدد السادس الذي صدر في 28 ذي القعدة سنة 1315 من 9 أبريل سنة 1899.
(1)
لم تُسمع هذه الصيغة وورد لفته عن رأيه (كضرب) صرفه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
صدمة جديدة على اللغة العربية
(1)
كان من مقتضى ناموس الارتقاء أن تبلغ اللغة العربية الشأو الأعلى من التقدم
بعد ظهور الإسلام، لكن هذه اللغة لم تخط مع تقدم الإسلام إلا بعض خطوات، حتى
اعتورتها العثرات، وانتابتها الصدمات، ولولا أن الله تعالى قيَّض لها قومًا من
الأخيار تداركوا الخرق قبل اتساعه لمحيت رسومها، وطمست حدودها، ولم يبق
منها إلا ما بقي من بعض لغات الأمم البائدة - كالكلدانيين والآشوريين -، ولكن
علماء المسلمين مع عنايتهم الكبرى في علوم اللغة، واشتغالهم بها عن علوم كثيرة
كانوا في حاجة إلى التوسع فيها لم يتنبهوا في أكثر عصورهم للطريقة المثلى في
التعليم التي تحفظ ملكتها في الألسنة، وتجري في ميدانها فرسان الأقلام، فخرجوا
بالعلوم العربية عن الغرض منها، وسلكوا في قواعدها ومسائلها مسلك العلوم
النظرية من: التعليل والتدقيق، حتى صار تحصيل ملكة هذه العلوم غير تحصيل
ملكة اللغة في القول والكتابة، ثم اعتاصت الكتب المؤلفة فيها على الأفهام؛ لدقتها
التي أشرنا إليها، والإيجاز المخل في متونها، والخلط في شروحها وحواشيها بين
الفنون وكثرة الآراء التي ليست من الفن في شيء. فآل الأمر إلى قلة الطالبين لها،
ثم إلى قلة من يحصل ملكة الفن من هؤلاء الطالبين، بل صار قصارى ما يصل إليه
الطالب أن يحصل ملكة الفهم في كتبها، وعند ذلك يسمونه عالمًا أو علَاّمة في
العربية (صاحب كرّاس) ، وإذا اتفق لأحد تحصيل ملكة الفن فإن ذلك لا يفيده في
تقويم لسانه بالكلام العربي الفصيح، ولا يقتدر معه على الكتابة العربية البليغة؛ لأن
ملكة هذه الفنون لابد في الحصول عليها من سلوك طريق آخر كما ألمعنا. ولقد تنبه
جماعة من عقلاء هذا العصر وفضلائه إلى إحياء اللغة التي يئس الجماهير من
إحيائها، وذلك بإصلاح كتب الفنون وطريقة التعليم (اللتين صارتا عقبة في طريق
العربية) ، وبالتنبيه على الطريقة التي تطبع ملكة اللغة في النفوس بحيث تقتدر
على الإتيان بالكلام العربي الصحيح من غير روية ولا تكلف. لكن الدهماء من
أبناء أهل هذا اللسان لم يلتفتوا إلى هذا الإصلاح، بل منهم من يستنكره ذهابًا مع
العادة أو ترفعًا واستنكافًا من الاستفادة. والساعون في إماتة هذه اللغة الشريفة
مجدون في سيرهم، ثابتون في جهادهم، يقيمون العقبات، ويوالون الصدمات،
والصدمة الجديدة التي أشرنا إليها في عنوان هذه المقالة هي: إحياء اللغة العامية
المصرية، بجعلها لغة كتابة، لكن أتدري بماذا تكتب؟ تكتب بحروف إفرنجية
اخترعت لها، والهمة مبذولة في نشر ذلك وتعليمه للمصريين.
لهفي على اللغة العربية المقدسة. ألم يكفها تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين
ينشؤون الجرائد باللغة العامية؟ كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة
تكون من أنجح وسائل إحيائها، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة)
و (الشيطان) تعارض الإسلام، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار، بل
سقطت مجلة البيان الفصيحة، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه) ، ألم يكفها هذا
حتى قام جماعة يسعون لتعميم تعليم اللغة العامية بحروف إفرنجية يقربون بها
المصريين إلى تناول لغاتهم من حيث يبتعدون عن لغة علومهم ودينهم التي فيها
عزهم وشرفهم.
ومما يضحك الثكلى ويبكي المسْتَيْئِس الذي جاءته البشرى: قول صاحب
الكراسة في بيان فوائد هذه الحروف: (والذين يرتئون استعمال هذه الحروف
الجديدة لكتابة اللغة المصرية العامة التي يتكلمها سكان مصر على اختلاف طبقاتهم
يحسبون أن نتيجة ذلك ستكون خيرًا عظيمًا على القطر المصري) . وقوله بعد
بيانها: ونتيجة ذلك كله جعل الأمة المصرية أمة متعلمة عزيزة الجانب متحدة الكلمة.
فليت شعري ما هي العلوم والآداب المودعة في هذه اللغة العامة التي ينتج حفظها
في الكتابة الإفرنجية هذه العزة والمنعة، ويمنحها هذا الاتحاد في الكلمة، ومع من
يكون هذا الاتحاد، هل هو مع سائر إخوان المصريين في اللغة من الحجازين
والسوريين والمغاربة والعراقيين أم مع غيرهم؟ ؟
مَن أعطى هذه الخلابة بعض حقها من النظر تجلى له أن أهل هذا الاختلاب
يعتقدون فينا الجنون والاختبال، وأننا فقدنا الإدراك والشعور بوجوه المنافع
والمضار، فلا نفرق بين الخير والشر، ولا نميز بين الإصلاح والإفساد؛ فإن
الغوائل التي أبرزها صاحب الكراسة في صورة الفوائد لا يمكن أن ينخدع بها عاقل
مهما كانت مموهة الظاهر، وهي أربع، أشير إليها هنا إجمالاً، ثم أفصل الكلام في
المناقشة عليها تفصيلاً في العدد التالي إن شاء الله تعالى، وهي:
(1)
تسهيل التجارة.
(2)
تعميم التعليم.
(3)
حفظ اللغة العربية (العامية) ، ولم يخجل مؤلف الكراسة عند ذكر
هذه الفائدة من بيان أن اللغة العربية الصحيحة آخذة في الاضمحلال بتعلم اللغة
الإنكليزية واللغة الفرنساوية، وأنه ينبغي الاعتياض عنها بلغة العامة.
(4)
قلة نفقات الطبع وتوحيد اللسان بين الوطنيين والأجانب، وأن ذلك مما
يقوي الوطنية (انتهت الفوائد) .
وأنت ترى أنه ألحق بالفائدة الرابعة فائدة أخرى أهم منها، ولعله إنما عدهما
فائدة واحدة، وجعل توحيد اللسان وقوة الوطنية تابعًا لقلة نفقات الطبع مع عدم
المناسبة بينهما؛ لشدة ظهور الخلابة والخديعة في دعواه " قوة الوطنية بتوحيد
اللسان العامي بين الأوربي والمصري ". وأي شيء يكون أوضح من بطلان دعوى
من يدَّعي أن الشمس مظلمة، والطاعون الجارف نعمة، والعسل قوي المرارة،
والحنظل شديد الحلاوة.
وهَبْني قلت هذا الصبح ليل
…
أيعمى العالمون عن الضياء
وإذا صح هذا التعليل فإننا نشكر لحضرة المخترع اعتقاده أنه ربما يوجد عند
البعض منا قليل من الفهم والتمييز يفطن به لخلابته هذه فأوردها في عرض القول
وأخريات الكلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خبر واعتبار
جاء في باب المسائل من مجلة المقتطف المفيدة (جزء 4 مجلد 22) الصادرة
في غرة أبريل الجاري سؤال وجواب فيما تحدثت به جرائد العالمين من إجلاء
اليهود عن الممالك التي تضطهدهم ومهاجرتهم إلى فلسطين، فرأينا أن نبين ذلك
للقراء ونذيله بما يعنّ لنا بشأنه من التنبيهات الموجبة لليقظة والاعتبار وها هو
بحروفه:
(س) فرنكفورت على نهر الماين: أ. س. جودا، لا بد أنكم سمعتم عن
الحركة التي حدثت فجأة منذ ستة أشهر بين اليهود في بلاد النمسا وألمانيا وإنكلترا
وأمريكا وهي المعروفة باسم الصهيونية. ويظهر من الجرائد الأوروبية أن غاية
الصهيونيين إنشاء مساكن في فلسطين لليهود المضطهدين في روسيا وبلغاريا
ورومانيا وبلاد الفرس والمغرب، وذلك بإذن الدولة العلية وكفالة الدول الأوروبية
وتحت حمايتهن. ومرادهم تعمير أراضي فلسطين بالفلاحة والصناعة، فيعيشون
آمنين في ظل الحضرة الشاهانية، ويقل عدد الفقراء في أوروبا وتتسع أسباب
التجارة بين الشرق والغرب، وقد أسهمت الجرائد الشهيرة كالتيمس والدايلي
كرونكل والديلي تلغراف وأشهر جرائد النمسا في استحسان هذا الرأي وقالت: إنه
قريب المنال؛ لأن الدولة العثمانية ترغب في عمار بلادها، والدول الأوروبية لا
تمنع فقراء اليهود من ترك بلادهن والانتقال إلى البلدان الشرقية لكي ينشروا فيها
المعارف ويوسعوا التجارة والصناعة، لا سيما وأن اليهود قد اشتهروا بولائهم للدول
التي تحميهم وتحسن إليهم، فتجد الدولة العثمانية منهم كل ولاء وأمانة. وأريد أن
أعلم من المقتطف: هل اعتنت الجرائد العربية في مصر وسورية بهذا الأمر، وما
ورائكم في إمكان إجرائه؟
(ج) لا يظهر لنا مما نطالعه من الجرائد العربية أنها اعتنت بهذا الأمر
اعتناءً خاصًا، وإنما ذكره بعضها مع سائر الأخبار التي يذكرها. واليهود الذين أتوا
فلسطين حتى الآن أهل صناعة وتجارة كما تقولون، وقد أفلحوا فيها وقبضوا على
أكثر فروع التجارة والبيع والشراء، وإذا زاد عددهم قبضوا على كل موارد التجارة
وأساليب الصناعة، أما الفلاحة فلا نظن أنهم يعكفون عليها، لأنهم ليسوا أهل فلاحة
في بلاد من البلدان التي هم منتشرون فيها. وقد صار كل شيء ممكنًا لأهل المال،
فلا يستحيل عليهم أمر إذا بادروه وعقدوا النية عليه، فإذا اتفق أغنياء اليهود في
أوروبا على ابتياع الجانب الأكبر من أراضي فلسطين ونقل إخوانهم الفقراء إليها لم
يتعذر عليهم ذلك، ولم يتعذر على هؤلاء الفقراء أن يعيشوا في فلسطين بالراحة
والرخاء؛ لأن الأرض وسيعة وخيراتها كثرة، وكانت تمون أضعاف سكانها
الحاليين، ولكن بين ما يمكن للإنسان وما يقدم عليه بونًا شاسعًا، فإن الناس إذا
عملوا أعمالهم عن اختيار لا عن اضطرار جروا في الطرق التي يلاقون فيها أقل
المقاومات، وأغنياء اليهود لا يرون أنفسهم مضطرين إلى نقل إخوتهم إلى فلسطين،
ولا هذا النقل من الهنات الهينات، نعم إنه تقوم بينهم أحيانًا أناس محسنون أهل
غيرة وحمية، كالبارون هرش، فينفقون النفقات الطائلة على نقل جماهير كبيرة من
إخوانهم إلى بلاد يبتاعونها لهم ويسكنونهم فيها، ولكن ذلك نادر، ونقل اليهود إلى
فلسطين وابتياع الأرض من الحكومة ومن أصحابها أصعب من نقلهم إلى أرجنتين،
ولذلك نستبعد نجاح الصهيونيين، ونحسب أن السعي لدى حكومات روسيا ورومانيا
والبلغار في إصلاح شأن اليهود فيها أقرب منالاً، لا سيما وأن طلب كفالة الدول
الأوروبية وحمايتهن لليهود الذين يراد نقلهم في فلسطين عقبة كبيرة في سبيل هذا
الغرض، لأن الدولة العثمانية لا ترضى بها. اهـ بحروفه.
(المنار)
قد أوردنا هذه المسألة لعدة فوائد:
(1)
أن المضطهدين في جميع ممالك الأرض يرغبون الجلاء إلى بلاد
الدولة العلية ليكونوا في مأمن من الظلم والاضطهاد في ظل الحضرة السلطانية
الظليل. وما ذلك إلا لاعتقادهم أنه ليس في بلاد الدولة من الغلو في التعصب وإيذاء
المخالف ما في سائر الممالك التي يرغبون الجلاء عنها، كروسيا وبلغاريا، والتي
لا يودون الجلاء إليها كبقية ممالك أوروبا، ولا التفات لقول القائل: تحت حماية
أوروبا؛ لأننا نرى جميع اليهود في بلاد الدولة العلية سواء لا يرون فيها ثورة ولا
شغبًا، ولا يمنعون حرفة ولا كسبًا، ودانية عليهم ظلالها، ومساوية بينهم أحكامها،
نعم إن المرجح لاختيار اليهود فلسطين كونها بلادًا مقدسة وموضع آمال منتظرة.
ولكن الأمن والراحة شرط للاختيار.
(2)
توجيه الأنظار وتحويل الأفكار إلى ما فيها من مطارحات الجرائد
ومداولات الساسة في أوروبا بشأن تعمير فقراء اليهود لبلاد فلسطين، وبث المعارف،
وتوسيع التجارة والصناعة في ربوعها، لعل أهل بلادنا تجيش في نفوسهم مراجل
الغيرة، فتندفع إلى طلب ما تتوقف عليه سعادة أوطانهم من علم وعمل، ولا شك
أنهم لا يعدمون عند الطلب رشادًا.
(3)
إيقاظ قوم قد رُزئوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم إلى
الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار، وكيف
يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم، ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف
الجبال. ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم
والدينار، الذي يحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل.
فيا أيها القانعون بالخمول أقنعوا رءوسكم (ارفعوها) ، وحدقوا أبصاركم
وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم. أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون
أن يسجل في جرائد جميع الدول أن فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع
الحكومات من بلادها هم من العلم والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقدرون
على امتلاك بلادكم واستعمارها، وجعل أربابها أجراء وأغنيائها فقراء
…
تفكروا
في هذه المسألة واجعلوها موضوع محاورتكم، لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة،
صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم
وملتكم، فانظروا وتأملوا وتفكروا وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر
فهو أخلق بالنظر من اختلاق المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء،
وأَحْرَى بالمحاورة من التذقح والتجني على إخوانكم، فإن في الخير شغلاً عن الشر،
وفي الجد مندوحة عن الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رئيس الولايات المتحدة والحرب
يتشوف العالم الآن للوقوف على ما عساه يحدث بين الولايات المتحدة وأسبانيا والأنظار كلها شاخصة إلى مستر ماكنلي رئيس جمهورية الولايات المتحدة،
وكتاب السياسة يقولون: إن الحرب والسلم بين يديه، وربما يخطر في بال القارئ
أن حكومة تلك البلاد جمهورية، والحكم في البلاد الجمهورية للأمة، والرئيس ليس
إلا منفذًا لما يقرره نواب الأمة وشيوخها. ونحن ننقل من القانون الأميركي ما يتعلق
بسلطة الرئيس؛ ليعلم القراء أن ما يقوله الكتاب هو عين الصواب، فنقول: إن
شرائع جمهورية الولايات المتحدة تختلف عن شريعة الجمهورية الفرنساوية وغيرها
اختلافًا كثيرًا. ذلك أن السلطة في تلك الولايات موزعة على أصحابها توزيعًا لا يدع
للبعض حق المداخلة في شؤون البعض الآخر. وغني عن البيان أن السلطات في
هيئة كل حكومة ثلاث: (تشريعية - وتنفيذية - وقضائية) ، فكل واحدة من هذه
السلطات منفصلة في أميركا عن الآخرين انفصالاً تامًّا، ولا يد لها ألبتة في غير
شؤونها الذاتية. فرجال السلطة التشريعية يضعون القوانين، ورجال السلطة
التنفيذية ينفذونها، ورجال القضاء يراقبون سير السلطتين. فلا يجوز مثلاً للوزراء
المداخلة بالشؤون التشريعية، كتقديم مشروع قانون إلى مجلسي الأمة، أو البحث في
أمر من أمورهما، بل ليس لهم دخول ذينك المجلسين ألبتة. وكذلك لا يجوز لرئيس
الجمهورية أن يعرض مشروع قانون على المجالس أو المداخلة بشؤونها التشريعية،
فإنه مع الوزراء أصحاب السلطة التنفيذية ولا يد لهم في الأمور التشريعية.
وقد يظن البعض بناء على ما تقدم أن رئيس الجمهورية آلة بيد المجالس
النيابية، والحقيقة أن له من السلطة القانونية ما ليس لكثير غيره من رؤساء
الحكومات الجمهورية.
فهو إذا أراد وضع قانون لم يقدم به مشروعًا إلى المجالس من عند نفسه، بل
يوعز إلى أحد أنصاره السياسيين من أعضاء مجلس الأمة أو السنات فيقترح هذا
العضو على المجلس الاقتراح المطلوب، فيضعه المجلس موضع البحث والمناقشة،
وبذلك يتم ما أراده الرئيس.
فهو إذًا قادر على اقتراح وضع القوانين، إن لم يكن مباشرة فضمنًا، وهذا ما
جرى أمس في مشروع العشرة ملايين جنيه التي قررتها المجالس للدفاع عن الوطن،
فإن الرئيس أوعز إلى صديقه النائب مستر كنون أن يقترح ذلك على المجلس،
فتم ذلك على ما نقلته إلينا الرسائل البرقية.
أما وقد علمنا الآن أن للرئيس حيلة في وضع النظامات التي يرى
لزومها، بقي لنا أن نعلم مقدار ما للرئيس من السلطة وما يكون من أمره عند
خروج أحد المجلسين عن سواء السبيل بتقريره ما لا ينطبق على المصلحة العامة،
وسياسة الرئيس.
نقول: إن للرئيس - والحالة هذه - سلطة الاعتراض على المجلس فيما قرره
وإرجاع قراره إليه ليعيد النظر فيه مشفوعًا برسالة منه يظهر فيه وجه الخطأ ورأيه
في الوجهة التي يجب على المجلس قصدها، مراعاة للحق أو للصالح العام. وعلى
الرئيس حينئذ أن يطبع صورة ذلك القرار والرسالة التي بعث بها إلى المجلس
وينشرها في البلاد، لتطلع الأمة عليها، وتبدي رأيها فيها. وعند بحث المجلس في
هذا القرار المردود لا يكون تقرير رفضه أو قبوله إلا بأكثرية ثلثي الأعضاء، وبعد
قراءته ثلاث مرات في المجلس، فإن بقي المجلس مصرًّا على قراره كان للرئيس
إرسال ذلك القرار للمجلس الثاني بالصورة الأولى بعد نشره، ونشر آرائه فيه،
لتقف الأمة عليها وتكون الحكم فيها. وغني عن البيان أن المجلسين لا يستطيعان في
هذه الحال أن يحكما حكمًا لا يرضاه الرأي العام؛ لأن الشعب لهما بالمرصاد وهو
الحكم الأعلى في تلك البلاد المتمدنة.
ومن المعلوم أن إشهار الحرب مختص بالمجلسين لا برئيس الجمهورية. غير
أن للرئيس حق الاقتراح ضمنًا، وحق الاعتراض مباشرة كما ذكرنا، فإن أراد
المجلسان إعلان الحرب الآن كان له أن يقترح على أنصاره الأعضاء أن يقاوموا
مريدي الحرب أشد مقاومة. فإن غلبوا على رأيهم وتقرر إشهار الحرب، كان
للرئيس أن يرد ذلك القرار للمجلسين ليعيدا فيه النظر، ويقرره بأكثرية ثلثي
الأعضاء لا بأكثرية قليلة بعد أن ينشر سلامة آرائه في المسألة. ولا يعدم حينئذ من
عقلاء الأمة الأميركية من يرون رأيه الصحيح في إيثار السلم على الحرب، والتمدن
على البربرة، فيتكاتفون على الوقوف في وجه من يريدون إضرام نار الحرب
للتشفي والانتقام، أو للربح من وراء المضاربة والالتزام.
ففيما مر بك تفسير لما رواه روتر من عزم أسبانيا على استرجاع سفيرها من
الولايات المتحدة حين تصديق الرئيس مكنلي على قرار مجلس الأمة. ذلك أنها ترى
في تصديق الرئيس إعلانًا للحرب، وقطعًا للأمل في السلم، أما تقرير المجلس فلا
تعبأ به إذ للرئيس مكنلي أن يرده بالصورة الآنفة.
إذًا صدق مَن قال بأن السلم والحرب بين يدي مستر مكنلي رئيس الجمهورية،
فحبذا لو يحقق آمال محبي السلام في تغليب الحلم والعقل على الطيش والجهل وحب
الانتقام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ف)
_________