المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌التعريف بالمجلة

- ‌ترجمة صاحب المنار

- ‌التعريف بمنهج المنار

- ‌المجلد رقم (1)

- ‌شوال - 1315ه

- ‌مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار

- ‌فاتحة السنة الأولى للمنار

- ‌اصطلاحات كُتَّاب العصر

- ‌مشروع مفيد

- ‌مجمل الأحوال السياسية

- ‌29 شوال - 1315ه

- ‌محاورة في سعادة الأمة [

- ‌مجمل الأحوال السياسية

- ‌اليهود في فرنسا وفي مصر

- ‌7 ذو القعدة - 1315ه

- ‌التمدن

- ‌التعصب

- ‌الطبيب الدجال

- ‌ذو القعدة - 1315ه

- ‌تبصرة وذكرى لقوم يعقلون

- ‌سؤال وجواب

- ‌21 ذو القعدة - 1315ه

- ‌الموالد أو المعارض [*]

- ‌المنار في بلاد الشام

- ‌الشرقين الأدنى والأقصى

- ‌28 ذو القعدة - 1315ه

- ‌منكرات الموالد [*]

- ‌صدمة جديدة على اللغة العربية(1)

- ‌خبر واعتبار

- ‌رئيس الولايات المتحدة والحرب

- ‌5 ذو الحجة - 1315ه

- ‌كيف السبيل

- ‌صدمة جديدة على اللغة العربية(2)

- ‌رواية اليتيم

- ‌19 ذو الحجة - 1315ه

- ‌الأدب الصحيح [*]

- ‌سعي مشكور

- ‌26 ذو الحجة - 1315ه

- ‌ما أكثر القول وما أقل العمل [*]

- ‌الشعر والشعراء(1)

- ‌اكتشاف

- ‌الحرب

- ‌إحصاء الحجاج سنة 1315 [*]

- ‌منار عجيب

- ‌أنيس التلميذ [*]

- ‌المحرم - 1316ه

- ‌الاعتبار بما هو جار

- ‌الشعر والشعراء(2)

- ‌تونس

- ‌11 المحرم - 1316ه

- ‌كتاب الإسلام [*]

- ‌الشعر والشعراء(3)

- ‌18 المحرم - 1316ه

- ‌بهتان عظيم [*]

- ‌البوفيه وما فيه

- ‌دار السعادة

- ‌25 المحرم - 1316ه

- ‌صيحة حق [*]

- ‌القوة في المال

- ‌بيع سكك الحديد السودانية

- ‌رسالة التوحيد

- ‌أهم أخبار العدد (13)

- ‌2 صفر - 1316ه

- ‌النميمة والسعاية [*]

- ‌الدين والمدنية في الشرق

- ‌أخبار الآستانة

- ‌أهم الأخبار المحلية

- ‌9 صفر - 1316ه

- ‌المدارس الوطنية في الديار المصرية [*]

- ‌حاجة البشر إلى الرسالة

- ‌الحرب بين أمريكا وأسبانيا

- ‌مراكش

- ‌مشاكل الدول

- ‌خلاصة البهجة

- ‌اختيار الوزراء

- ‌16 صفر - 1316ه

- ‌إلى أي تعليم وتربية نحن أحوج

- ‌محاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية

- ‌وظيفة الرسل عليهم السلام

- ‌إيران

- ‌تعصب اليونان واعتداؤهم على المسلمين

- ‌قضية البرنس أحمد سيف الدين بك

- ‌23 صفر - 1316ه

- ‌الجيوش الغربية المعنويةفي الفتوحات الشرقية [*]

- ‌الشعر العصري

- ‌المنار في سوريا

- ‌الحرب

- ‌30 صفر - 1316ه

- ‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة [*]

- ‌رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية

- ‌7 ربيع الأول - 1316ه

- ‌العلم والحرب [*]

- ‌مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

- ‌من نحالف

- ‌مقتبسات من الجرائد

- ‌14 ربيع الأول - 1316ه

- ‌نهضة مسلمي الهند(1)

- ‌مناقشة

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌طول الحيوة

- ‌شؤونات إسلامية

- ‌مراقبو الجرائد في سوريا

- ‌كريت

- ‌21 ربيع الأول - 1316ه

- ‌بارقة نجاح

- ‌نهضة مسلمي الهند(2)

- ‌تأثير الاعتقاد في العمل

- ‌رواية الفتاة الشركسية

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تقريظ المنار

- ‌مشائخ الطرق

- ‌هكذا فليكن

- ‌28 ربيع الأول - 1316ه

- ‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

- ‌ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [[*]

- ‌الشعر العصري

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌5 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]

- ‌حالنا

- ‌الإسلام في الصين

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌12 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌عيد الجلوس الهمايوني [*]

- ‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

- ‌رأي في موضوع المنار

- ‌نصيحة في معالجة فضيحة

- ‌19 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌سجايا العلماء [*]

- ‌ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*]

- ‌العقيدة الإسلامية

- ‌مأثرة جليلة

- ‌26 ربيع الثاني - 1316ه

- ‌التعصب [*](1)

- ‌اقتراح القيصر

- ‌ثورة السودان

- ‌متفرقات

- ‌3 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌التعصب [*](2)

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تصريح إنكلترا بامتلاك السودان

- ‌10 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌مقدمة كتاب الحكمة الشرعيةفي محاكمة القادرية والرفاعية [*]

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌17 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌الاتحاد [*]

- ‌التشبه والاقتداء

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌تعصب أوربا على الدولة العلية

- ‌24 جمادى الأولى - 1316ه

- ‌ما لا بد منه [*]

- ‌رسالة الحاسد والمحسود(للجاحظ)

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌2 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [[*]

- ‌رسالة الحاسد والمحسود(للجاحظ)

- ‌الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌9 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [[*]

- ‌الرسالة الحاتمية

- ‌(سوانح وبوارح)

- ‌رسالة التوحيد

- ‌جرائد سوريا المستعبَدة

- ‌المسلمون في جاوا

- ‌16 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌اليأس والرجاء في مصر

- ‌الإنصاف من مزايا الأشراف

- ‌عبرةالمنار وجريدة طرابلس

- ‌23 جمادى الآخرة - 1316ه

- ‌الجرائد(وظائف أصحابها)

- ‌أدبيات

- ‌شذرات علمية

- ‌كريت

- ‌5 رجب - 1316ه

- ‌ظلم الدول للمسلمين في كريت

- ‌الموسوعات

- ‌أدبيات

- ‌ما أشبه اليوم بالأمس

- ‌12 رجب - 1316ه

- ‌مقتطفات من الجرائد

- ‌الإباء والصدق

- ‌آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس

- ‌انتقاد

- ‌19 رجب - 1316ه

- ‌فلسفة التربية الحقة [*]

- ‌شبهة وجوابها

- ‌المنار في بلاد البرازيل

- ‌الإصلاح في الدولة العلية

- ‌أخبار تونسيةملخصة من جريدة الحاضرة الغراء

- ‌26 رجب - 1316ه

- ‌الإصلاح المطلوب [*]

- ‌السعادة الحقيقية

- ‌الشعر العصري

- ‌عجيبة عجيبةأو العدل في القضاء

- ‌اقتراح على مجلس إدارة الأزهر الشريف

- ‌مدارس الخرطوم

- ‌3 شعبان - 1316ه

- ‌الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

- ‌ليلة المعراج

- ‌السعادة الحقيقية

- ‌الشعر العصري

- ‌تاريخ دول العرب والإسلام

- ‌إحياء سنة أو سننوإماتة بدع

- ‌10 شعبان - 1316ه

- ‌الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*]

- ‌الغرب الأقصى

- ‌خطبة ناظر خارجية ألمانيا

- ‌17 شعبان - 1316ه

- ‌مستقبل الإسلام [*]

- ‌عالم قريشالإمام محمد بن إدريس الشافعي

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌24 شعبان - 1316ه

- ‌محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر [*]

- ‌انتشار الإسلام

- ‌خطاب اللورد كرومر

- ‌وميض لمع في ظلمات بدع

- ‌2 رمضان - 1316ه

- ‌رمضان المبارك [*]

- ‌سيرة الإمام الشافعي

- ‌موافقة وانتقاد

- ‌الاستعمار الأوربي

- ‌9 رمضان - 1316ه

- ‌بسمارك والدين [*]

- ‌الجزية والإسلام

- ‌الاختلاف والتفرق في الدين

- ‌شكوى الزمان

- ‌أيها المسلم

- ‌الحكم بالشريعة في السودان

- ‌بغداد والتجارة

- ‌التقاريظ

- ‌16 رمضان - 1316ه

- ‌مَن المسئول الحكومة أم الشعب

- ‌الجزية والإسلام

- ‌اسطقس الحق

- ‌مصاب مصر بالسودان

- ‌23 رمضان - 1316ه

- ‌الوعظ والوعاظ [*]

- ‌الإسلام والترقي

- ‌اسطقس الحق

- ‌الاعتقاد بالجمادات

- ‌عجائب أمريكا

- ‌الشعر عند الإنكليز

- ‌الجنسية العثمانية المصرية

- ‌المدرستان الروسيتان بطرابلس الشام

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌8 شوال - 1316ه

- ‌الصنائع والتربية والتعليم [*]

- ‌صلاة الجمعة في جامع عمرو

- ‌دمشق الشام

- ‌وعود فرنسا في تونس

- ‌فرنسا والسودان

- ‌إنكلترا والسودان

- ‌الصوم والفطر

- ‌تنازع أوربا الممالك الإسلامية

- ‌سلطانا العثمانيين والمغرب الأقصى

- ‌15 شوال - 1316ه

- ‌القوة والقانون [*]

- ‌حجة ناهضة وشبهة داحضة

- ‌ملوك المسلمين والتاريخ

- ‌ولي العهد للخديوية المصرية

- ‌ليلة الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌حرية الجرائد في السودان

- ‌22 شوال - 1316ه

- ‌الأُخوَّة والصداقة [*]

- ‌الاشتراكية والدين

- ‌الإصلاح الإسلامي والجرائد

- ‌منتدى سمر

- ‌خاتمة السنة الأولى للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بارقة نجاح

لقد مر على البلاد المصرية زمن طويل ورياح الحوادث تدك مبانيها، وتنسف

أراضيها، وتغرق سفنها، وتفعل فيها الأفاعيل، ولا جرم فهي الريح العقيم، التي

لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، عصفت صرصرًا عاتية، فتركت

القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولم تكد تُبقي لمعالمهم من باقية، لكن عهدنا

برياح الحوادث والكوارث أنها كالرياح الطبيعية، منها ما يأتي بالعذاب والخراب،

ومنها ما يجيء بالخير والبركات، وكم من بصير موفق استفاد من البلاء، فعاد

عليه بالسعادة والنعماء، وكم من مخذول أخرق أصابته النعمة فأساء استعمالها؛

فكانت عليه نقمة، فما بالنا نُغتال من جانب الفائدة، ونشقى من حيث تُرتجى لنا

السعادة، وغيرنا يستفيد حتى من الغوائل، ويربح من حيث يتوقع الخسران؟ كيف

أمست معارفنا عافية، ومدارسنا دارسة، وتعليم أولادنا أخوف ما نخافه على

استقلال بلادنا؟ كيف صرنا نَفرَق من المعارف وهي روح حياة الأنام، أن تأول

بنا إلى الموت الزؤام، وكفاك بإضعاف اللغة إضعافًا ينتهي بالإعدام. أما آن لمرار

الرجاء بالحكومة أن تسحل، ولحبال الآمال بمعارفها أن تُقطَّع، ويرجع المصريون

إلى رشادهم، ويعتمدوا على قوتهم الشعبية واستعدادهم؟ أما آن لهذه الرياح التي

تعصف في بلادهم أن توقظ قومًا نيامًا، وتثير في جوّهم سحابًا رُكامًا، يجودهم

بالغيث الذي تحيا به الأرض بعد موتها، وتعشوشب الأحراز بعد إقفارها، وتزدهي

بكل زوج بهيج؟ ، بلى قد رأينا في أوائل هذا العام قزعًا من سحاب الهمم في جو

مديرية جرجا، وقد لاحت قزعة أخرى من عهد قريب في جو الإسكندرية، وإن

بريق الأمل والرجاء يلمع في هذه وتلك، يبشر بأن وراءه ربيعًا، وغيثًا مريعًا،

لكنه يأتي رويدًا رويدًا.

كعهدك في صوب العهاد مرتبا

رذاذًا وتهتانًا إذا ما تحدَّرا

أعني بهذا ما ذكرناه في العدد الخامس عشر من الجمعية التي تألفت في مديرية

جرجا بهمة سعادة مديرها الفاضل، وما كان من نجاحها في افتتاح المدارس الوطنية

الأهلية، وما بشرتنا به الجوائب (الأخبار الطارئة) الأخيرة من نشاط أهل

الإسكندرية لمثل ذلك، وتأليف جمعية للاكتتاب، وجمع النقود لإنشاء مدرسة للبنين

والبنات، وما ظهر على العمل من علائم النجاح وأمارات الفلاح.

طلب أهل الإسكندرية من الحكومة أن تنشئ لهم أربع مدارس من قبل نظارة

المعارف، فأجابت النظارة بعدم إمكان إجابة سؤالهم لإعسار خزينتها الآن، فأخذت

الأريحية بعض سكان (باب الحديد) و (محرم بك) من ذلك الثغر وحرَّكتهم

الحمية الوطنية لجمع المال بالاكتتاب وإنشاء مدرسة للبنين والبنات، فلم تمضِ

طائفة من الزمن حتى جمعوا نحو مائتي جنيه، وقد عرضت اللجنة المنتدبة لذلك

على جمعية العروة الوثقى أن يجعلوا لديها ما يجمعونه من المال، ويعهدوا لها بفتح

المدرسة، فأجابت الجمعية سُؤْلهم وقررت فتح المدرسة وتعيين المعلمين والمعلمات

لها، وقد أصاب الأهالي الغرض في تفويض هذا الأمر لجمعية العروة الوثقى، فإنها

بالمكان الذي يعرفه الجميع من السداد والانتظام.

تبشرنا هذه الأعمال الغُرَر في الجهات المختلفة من القطر بأن العناية الإلهية قد

أعدت النفوس لنهضة عامة وأن وراء هذا الطل البكور وابلاً عامًّا غدقًا (كثيرًا)

وظهر خطأ من يقول: إن جماهير المصريين لا يبذلون الأموال إلا في سبل

الشهوات واللذات والزينة الباطلة والفخفخة الكاذبة، وكل ما يسمى الإنفاق فيه

إسرافًا وتبذيرًا. إن المصريين لا قيمة عندهم للمال، وإلا لما أسرفوا فيه وبذروه،

نعم إنهم ككل البشر لا يبذلون المال إلا في اجتلاب المنافع واجتناب المضار،

بحسب إدراكاتهم وعاداتهم التي تربوا عليها عملاً وتخلقًا؛ فإن الأعمال كلها - ومنها

الإنفاق - تنشأ إما عن الانفعال الطبيعي، وإما عن الاعتقاد الراسخ في النفس

بالعمل والعادة، فاختلاف العمل وفساده إنما يأتي من فساد التربية الذي يرى الحسن

قبيحًا، والضار نافعًا، ألم تر إلى هؤلاء الشبان المسترسلين في الفجور،

المستهترين في العشق الفاسد، كيف يتبارون في تنازع الكؤوس والأكواب،

ويتنافسون في الاستئثار بالبغايا والقحاب، ولولا أنهم يرون ذلك فضيلة ويعتقدونه

كمالاً لما تفاخروا في المسابقة إليه، وتفانوا في إحراز الغاية منه، نعم إنهم لا

يطلقون عليه لقب الفضيلة والكمال؛ لأن الاستعمال اللغوي والاصطلاح الشرعي

لهما الغلبة في المواضعة اللسانية وقد مضت سنة الأولين في فساد الأديان

والقوانين المدنية، وسائر الروابط للأمم بأن الفساد يطرأ أولاً على الأخلاق والآداب

النفسية، ثم على الأعمال البدنية بالتدريج، وآخر ما يبقى للأمة المنحطة من دينها

وآدابها وقوانينها الاصطلاحات اللفظية والشارات والشعائر العامة، لكنها تبقى ألفاظًا

لا معاني لها، وأفعالاً لا فائدة منها، أو كما يقول الصوفية: قشورًا بلا لُباب،

وأشباحًا بغير أرواح.

ما ذكرنا من مناشئ الأعمال إنما هو في الأعمال التي تندفع إليها النفس من

ذاتها مع الارتياح إليها وترجيح فائدتها عن إذعان وطمأنينة. وإن من خصائص

الإنسان أن يقدر على الإتيان بعمل لا يكون مندفعًا إليه من طبيعته، ولا ترتاح إليه

نفسه، وإنما يتكلفه تكلفًا إذا ترجح عند عقله أنه يدفع عنه بلاءً، أو يعود عليه

بنعماء، فإذا كان السواد الأعظم من المصريين عادم التربية الصحيحة التي تدفع إلى

الإنفاق على تعميم المعارف التي فيها سعادته - فهو ليس فاقدًا للإنسانية التي من

خواصها أن يتكلف الإنسان العمل النافع تكلفًا إذا اقتنع بفائدته. فإذا قام خيار

المصريين وأصحاب العقل والفضيلة الملتهبون غيرةً على وطنهم وألفوا جمعية

كبرى للاكتتاب العام وجمع المال من جميع أنحاء القطر - فلا شك أنهم يلاقون إقبالاً

ويصادفون نجاحًا؛ لأن الكثير من الناس يعتقدون أن نجاح البلاد واستقلالها إنما

يكون بالتربية والتعليم، وأن تعليم الحكومة على قصوره قد اصطبغ بالصبغة

الأجنبية، فصار الخوف منه على البلاد أكثر من الرجاء به، وإذا ظل على سيره

الذي هو عليه الآن فلا يمضي زمن طويل إلا ويكون ضررًا بحتًا، وبلاءً صُراحًا

قاضيًا على الاستقلال، قاطعًا للأمل في الاستقبال، ومَن عدا هؤلاء، فإنهم وإن لم

يكونوا مدركين هذه الحقائق وأمثالها، فقد أعدهم لإدراكها الشعور العام بثقل وطأة

الأجنبي وضغطه على بلادهم واستئثاره بمنافعها الكلية من دونهم، والجرائد الوطنية

الصادقة تنبههم على ما غفلوا عنه، وتعلمهم ما جهلوه من الأخطار التي تتهددهم،

والأرزاء التي تتوعدهم، هذا ما عنيناه بقولنا: إن العناية الإلهية قد أعدت النفوس

لنهضة عامة.

وإذا تألفت الجمعية برئاسة أحد العظماء الذين تركن إليهم النفوس، وتطمئن

بهم القلوب، كدولة الوزير الخطير رياض باشا، وكانت تحت رعاية الحضرة

الخديوية الفخيمة، وأقيمت لها لجان فرعية في أنحاء القطر على نحو ما كان من

جمعية الإعانة العسكرية السلطانية، وسايرتها الجرائد المحلية في جميع سبلها

وشعابها: تكرر النداء، وتواصل الحداء، وترفع للمحسنين رايات الثناء، إذا كان

هذا كله فلا تسل عما تصادف الجمعية من إقبال، وما تجمع من مال.

إن بعض الناس ينفق في هذا السبيل ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبعضهم يجود

عن أريحية وكرم سجية، وبعضهم يبذل رغبة في اقتطاف ثمار الثناء، وطمعًا

بتخليد اسمه في سجل الأسخياء، ومنهم من يعطي محبةً في تعزيز وطنه وإعلاء

شأنه، ومنهم من يحبو مجاراة لجيرانه، ومباراة لأقتاله وأقرانه، ومنهم من

يرضخ بالقليل، خوف القال والقيل. ولا إخال أحدًا من الوجهاء والمشاهير يمسك يده

عن البذل في هذا المشروع، وهو يعلم أن الممسك فيه مذموم ومذؤوم، عند أهل الدين

وأهل الدنيا، عند المتمدنين والمتوحشين، بل عند الله وملائكته ورسله والناس

أجمعين.

إذا تسنى للمصريين تأليف هذه الجمعية وأسسوا إدارة معارف وطنية، يسهل

عليهم تحويل الأوقاف الخيرية الأهلية المخصصة لمثل هذا العمل إلى صندوق

الجمعية، ومطالبة نظارة المعارف بما تأخذه من مال الأوقاف كل سنة لتنفقه على

المكاتب الأهلية (وهذا ما اقترحه المؤيد الأغر) وتحول الجمعية تلك المكاتب إلى

إدارتها وتنفق عليها مراعية لشروط الواقفين، أو تبقى تابعة لإدارة نظارة المعارف

فيجري عليها نظام النظارة كغيرها بأن تكون عامة لجميع المصريين مسلمين

وغيرهم، وينفق عليها من صندوق المعارف الذي هو من مال جميع المصريين.

فيا أيها المصريون اعتبروا بحال إخوانكم الهنديين الذين فرطوا وقصروا

فاعتورتهم المصائب وانتابتهم النوائب، حتى علاهم الوثنيون، ووطأهم

الأوروبيون، فندموا على تضييع الفرص، وهبوا لاغتنامها بعد نوم طويل وخمول

مستغرق، اعتبروا بمن هو أقرب، لينظر المسلمون منكم إلى الأقباط يروا أن

لجمعيات الأقباط وهي عديدة ومتشعبة في جميع القطر نحو أربعين مدرسة سوى

المدرسة الكلية للبطريقخانة، وليس للمسلمين إلا جمعية خيرية واحدة، وكل ما لها

من المدارس أربع فقط، ونسبة الذين يتعلمون في أوروبا من الأقباط سواء كان على

نفقاتهم الخصوصية أو نفقة السكة الحديدية أو المعارف إلى أمثالهم من المسلمين

كنسبة الجمعيات الخيرية والمدارس الأهلية إلى كل فريق، مع أن الأقباط لا يبلغون

في الحقيقة عشر المسلمين عدًّا، والمسلمون أوفر منهم ثراءً وأكثر سخاءً (كما قلنا

من قبل) وأوقافهم الخيرية أوسع من أوقافهم.

أيها المصريون قد سنحت لكم الفرصة فلا تضيعوها، وفتحت لكم أبواب

العناية، وما عليكم إلا أن تلجوها، إن الزمان لكم بالمرصاد فيوشك أن يعارضكم

غدًا بما يعرض عنه اليوم، وأن يمنعكم بعد حين ما يمنحكم الآن، فبادروا الزمان

قبل فوات الإمكان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} (المائدة: 2) .

_________

(*) فاتحة العدد الحادي والعشرين الذي صدر في 21 ربيع الأول سنة 1316.

ص: 383