الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد عبده
فلسفة التربية الحقة [*]
بقلم حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عبده الشهير
وهي رسالة نقلها عن درس للأستاذ العلامة الفيلسوف الشيخ جمال الدين
الأفغاني الحسيني رحمه الله، كان ألقاه على طلبته الأفاضل عندما كان يدرس كتاب
الإشارات للشيخ الرئيس أبي علي بن سيناء، وجعل ذلك الموضوع فاتحة تدريسه.
قال حفظه الله:
إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو
الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلية في قوامها تفاعلاً متناسبًا
بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها، غلبة تقضي بظهور بعض
خواصه وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى
بالمزاج المعتدل الحامل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها
واضمحلت خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى
المرض على الجسم.
وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها
كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه، كالبرد الشديد المذهب
لروح الحرارة الغريزية، والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة
الضرورية المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء.
ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث
في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم، ويحترز
من تسلط الحوادث الخارجية عليه ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج عنها
لتتم حكمة الله في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية. فالنباتيون
يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات ويحددون الفصول الملائم
هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية النباتات،
وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية وماذا يجب أن يتخذ منها لكل مزاج،
ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد البدن
إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة، حتى يحفظ بذلك على البدن صحته ويرجع
إليها إن انحرف عنها.
ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى يكون على علم بالتاريخ
الطبيعي وعلوم النباتات ليعلم خواصها ويميز نافعها من ضارها، وعلى بصيرة من
اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على حسبه وخبيرًا بعلل
الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف، وتاريخها من قدم وحدوث، حتى
يعالج كلًّا بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من وجوده، فإن
الطبيب الجاهل رسول ملك الموت، إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه يهيج
المرض، ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته، فيفضي كل إلى هلاك المريض،
وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومته الطبيعية لولا مساعدة الجاهل وعونه، وكما
يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا،
لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعل المعالجة، فإنه إن كان قاسيًا عديم الرأفة،
أو كان خائنًا فلربما صار آلة في أيدي أعداء المريض، يستعملونه لهلاكه بإلقائه
السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمون إليه من العرض الفاني،
وكذلك إن قصرهما على ما يناله من الدينار والدرهم، فإنه إن كان على تلك الصفة
لم يكترث بحال المريض ما دام يوفى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن
مكافأته، وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات فعدمه أيضًا خير من وجوده.
وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حين تجتمع أصول متضاربة ينشأ من
تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من
حيث أتى كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة
وملكات متخالفة، يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن
لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على
الآخر فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًا سيئ الحال وسقط في مهواة
التعب والعناء المفضيين إلى الحَين والهلاك.
ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجراءة وخلق المخافة وهما
متضادان؟ ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كلاًّ فيما يليق به من
المواقع تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضة
لتعدي جميع الحيوانات عليه ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته على خطر
يتهدده في جميع أوقاته. ولو أن الجراءة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها كانت
تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة، فيلقي
بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه. وكذلك لابد لها من
خلق الإمساك والبذل وهما متخالفان متعارضان يتقوم من تغالبهما في النفس فضيلة
السخاء والبذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا، ولو أن الإمساك تغلب على ضده
حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه الضرورية، فلا يأتي باللائق من
الأغذية مثلاً والألبسة فيضر ببدنه، ولم يوف بحقوق مشاركيه في المعيشة كزوجته
وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده، فيقع الشقاق بينهم ويتأدى به إلى شقاء
دائم وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو تغلب البذل لأنفق جميع ما
بيده في المفيد وغير المفيد، حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك،
وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي وسط لطرفين متضادين لابد من
ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة وبغلبة أحدهما على الآخر يختلف نظام
الفضيلة ولا محالة، وينهدم بيت السعادة دنيوية كانت أو أخروية، ولا يسعنا المقام
لتفصيل ذلك. وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا
بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة، كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد
بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم،
وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب
الأغراض الفاسدة الدنيئة المذيعين للأفكار الرديئة المؤيدين للعقائد الباطلة التي ينبعث
منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة فللنفوس علل وأمراض كما للأبدان ذلك.
ومن ثم قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها وتردها
عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع الطب
ولوازمه لحفظ صحة الأبدان كما بينا.
فالحكماء العمليون القائمون بأمر التربية والإرشاد وبيان مفاسد الأخلاق
ومنافعها وتحويل النفوس من حالة الكمال - بمنزلة الأطباء. وكما لزم للطبيب أن
يكون عالمًا بالتاريخ الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها
ودرجاتها من شدة وضعف، كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا
رقي منبر الإرشاد أن يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها
من الأمم أيضًا، وأن يسبر أخلاقها بمسبار الحكمة، ليعلم أسباب أمراضها النفسية
ويقف على درجات الداء وتمكنه فيهم وأنه حديث أو قديم، قوي في النفوس أو
ضعيف، وما هو العلاج اللائق بكل صنف.
وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام بمنافع الأعضاء
وغايتها، كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع الأخلاق ومضارها
على طِبق ما في نفس الأمر والواقع.
وكما يلزم أن يكون الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنيا ولا
ينحط إلى المقاصد السافلة، كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي
الاستقامة والفضيلة مرتفعي الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا
ولا بالتقرب والتزلف إلى الأمراء والكبراء. أولئك هم المرشدون الحقيقيون، فإن
رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن رزئت بمطببين لا أطباء بأن صعد على
منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن
المرشد الضال والنصوح الجاهل يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل،
ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا ولا
يريد إلا خيرًا ولكن جهله يعميه عن سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله، فتقع
الأرواح في الجهل المركب وهو شر من الجهل البسيط فإن دق الثاني على باب
الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه، وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل
واستتر تحت نقع الرذيلة واعتقد ذلك ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا
بعد مكابدة شديدة وعناء طويل، فلا ريب إذا كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من
وجودهم. وكذلك إن كان خائناً أو دنيئًا ينحط إلى سفاسف الأمور، أو عديم الشفقة
الإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية، فلا
يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو
انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت، فيكون آلة بيد الأشرار وذوي الأهواء،
يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء أوطارهم.
ألا وإن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قبيلين: قبيل الخطباء والوعاظ،
وقبيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد فإن كانوا على نحو الأوصاف
الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام والتبجيل
والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص، وقاموا بخدمة أوطانهم
وأبناء جلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد ووجب على كل من يهمهم أمر
الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كيلا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر على
المبتلى، بل يتعداه بالسراية إلى كل مَن سواه. اهـ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(الموسوعات)
_________
(*) فاتحة العدد السابع والثلاثين، الصادر في يوم السبت (19) رجب، سنة 1316.
الكاتب: محمد رشيد رضا
] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [[*]
المرشدون والمربون
أو
المتصوفة والصوفيون
(5)
الإسلام دين علَّم الناس أن يعتمدوا في سعادتهم الدنيوية والأخروية على
أعمالهم النفسية والبدنية، وفضَّل أهل العمل والكسب على المنقطعين لعبادة الله
المعتمدين في أمر معاشهم على من يمونهم من أهليهم أو غيرهم وأقام لكل قاصر
وليًّا يتولى شؤونه ويعنى بتربيته، حتى يرشد ويقوى على العمل، وعند ذلك يدعه
وشأنه، وجعل لكل عاجز قيمًا يتعهده وينفق عليه ويقوم بأمره الذي عليه مدار
حياته، وجعل هذه الولاية والقيام في الأقربين؛ لأنهم أولى بالمعروف، وأقرب إلى
العناية الصحيحة بأمر الصغير والعاجز، على ترتيبٍ معروفٍ في فن الفقه، فمن لم
يكن له أقارب فعلى أهل وطنه من المسلمين الذين جعلهم الإسلام عائلة واحدة،
وفرض عليهم القيام بأمر بعضهم، على ترتيب يراعى فيه الأقرب فالأقرب نسبًا
وجوارًا ووطنًا وديناً. بل فاض عدل الإسلام وعمت رحمته فعلم الآخذين به أن
يشملوا بعنايتهم هذه كل من تفيأ ظلالهم ودخل في سلطانهم من أي دين كان، فهو
يحض على تربية اليتيم وإطعام الجائع وكسوة العاري واعتهاد الضعيف وتجهيز
الميت من غير المسلمين إذا لم يوجد لهؤلاء أولياء من ذويهم وأقاربهم، وجعل ذلك
حقًّا على المسلمين للذميين، على تفصيل يعرف من الفقه.
ومن وظائف الحكام إلزام المسلمين بما ذكر مع مراعاة شروطه إذا هم قصروا
فيه.
وغرضنا من هذه الكلمات هنا بيان أن تعميم التربية واجب في الإسلام، وكما
تجب تربية كل صغير حتى يكبر ويرشد، يجب الأخذ على يد كل كبير إذا اجترح
السيئات واقترف المنكرات، أو أخل بالآداب العامة وعبث بمصالح الناس، وذلك
بإلزامه بترك المنكر فعلاً أو إرشاده إلى ذلك قولاً. ومن أخل بهذا الواجب هبط إلى
أسفل درج الإسلام وسقط في أضعف الإيمان الذي ليس بينه وبين الكفر إلا خطوة
واحدة (إذ لا معنى لكونه أضعف الإيمان إلا هذا) وهذا على تقدير أنه ساخط على
من فعل القبيح منكرًا له في قلبه، كما ورد في الحديث الشريف. وفرض مع
هذا أيضًا القيام بالأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإنذار الناس بعواقب التفريط
لعلهم يرجعون.
على هذا كان الإسلام في مبدأ ظهوره، ولو ظل أهله على منهاجه القويم
وصراطه المستقيم لما ضل أحد منهم عن سعادته، ولما أهمل أمر التربية والإرشاد
من الكافة، انفردت به فئة من الناس سارت في الجادة زمنًا، وانحرفت عنها
أزمانًا، وجعلت عنايتها في التربية الروحية فقط، وأفرطت في الزهادة، كما أفرط
الذين من قبلهم، فأهملوا مصالح الدنيا ولم يوفوا البدن حقوقه، وذلك مما جاء
الإسلام لتعديله
…
وبالجملة: إنهم حتى في طور كمالهم لم تكن تربيتهم وإرشادهم
على الوجه الذي يكفل للأمة سعادة الدارين. ولذلك لم يتبع طريقتهم في كل عصر إلا
بعض الناس، وصاروا فرقة مستقلة سميت الصوفية، عدها بعض المؤرخين من
الفرق المشتقة من الإسلام المخالفة لسائر الفرق في الأصول، كالمعتزلة والشيعة
وأهل السنة. وكيف لا وقد عاملهم فقهاء أهل السنة وحكامهم بأشد ما عاملوا به سائر
الفرق، فحكموا ببدعة بعضهم وكفروا كثيرًا من أكابر شيوخهم وقتلوا منهم خلقًا
كثيرًا، ثم غلوا بعد ذلك في تعظيمهم والتسليم الأعمى لهم غلوًّا كبيرًا.
مَن هم الصوفية وما هو شأنهم؟ قال الإمام القشيري في رسالته ما حاصله:
إن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم
بتسمية علم سوى الصحابة، إذ لا أفضلية فوقها، ثم سمي من أدركهم التابعين، ثم
من أدركهم تابعي التابعين، ثم تباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة
عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي من الفرق،
فكل فريق ادعوا أن فيهم زهدًا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله
تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم
لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة اهـ.
وقال العارف الشهاب السهروردي في عوارف المعارف بعد ما ذكر الصحابة
والتابعين ما حاصله: (ثم لما بعُد عهد النبوة وتوارى نورها واختلفت أيضًا الآراء
وكدر شرب العلوم شرب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم
الزاهدين، وغلبت الجهالات وكشف حجابها، وكثرت العادات وتملكت أربابها،
وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها - تفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سَنية، واغتنموا
العزلة واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة أهل الصُّفة،
تاركين الأسباب، مبتهلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال وسَني
الأحوال، وتهيأ صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان وبعد
العرفان عرفان، وبعد الإيمان إيمان، كما قال حارثة:(أصبحت مؤمنًا حقًّا) لما
كوشف بمرتبة الإيمان غير ما عهد، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها تعرب
عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف من السلف، حتى صار رسمًا مستمرًّا وخبرًا
مستقرًّا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به، فالاسم سمتهم
والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم والتقوى شعارهم وحقائق الحقيقة أسرارهم) اهـ
أقول: يعلم من كلام هذين الإمامين في التصوف وغيرهما أن ما كانوا عليه لا
يمكن أن تكون عليه الأمة بتمامها؛ لأن العزلة والانفراد وترك العمل للدنيا يفضي
إلى ضعف الأمة واضمحلالها وينتهي ذلك بزوالها. وأنه قد تجددت لهم علوم
ومعارف وأحوال لم تكن تعهد عند سلفهم من الصحابة والتابعين، وذلك كالكلام على
ما وراء الحس والعقل من العوامل الغيبية، وهو ما يسمونه علم الأسرار، قال ابن
الفارض رحمه الله تعالى:
وثم وراء العقل علم يدق عن
…
مدارك غايات العقول السليمة
ولهم علوم كثيرة جدًّا تعلم أسماؤها من كتاب الفتوحات المكية، وإنما جاءهم
ذلك من الرياضات والمجاهدات النفسية، والعناية بمعرفة ما انطوى عليه الروح
الإنساني من الخواص والمزايا، والقوى الإدراكية والتأثيرية، ومن ذلك ما يسمونه
الكشف والإمداد والتصرف بالهمة. ولقد سبقهم إلى ذلك فلاسفة اليونان والهنود،
ولكن الصوفية وصلوا منه إلى غاية لم ينته إليها غيرهم. وكل هذا من علم أسرار
الكون وطبائع الخلق، كالعلم بنواميس النور والكهربائية وخواصهما، ولكنه لما جاء
بصبغة دينية من رجال الدين حدث عنه ما أشرنا إليه من حط الفقهاء والحُكام على
أهله وتكفيرهم وسفك دمائهم، كما فعلوا مع الفلاسفة الذين بحثوا في بقية أسرار
الخلق، وصبغوا علمهم بصبغة الدين وخلطوه بعلم العقائد الذي سموه (علم الكلام)
وكان اضطهادهم للصوفية أشد من اضطهادهم للفلاسفة، كما يعلمه من قرأ التاريخ،
وما ذلك إلا لأن علم الصوفية الغريب عن فهم الفقهاء أمَسُّ بالدين، بل هو ثمرة
التمسك بفضائل الدين وآدابه، كما يقول عامة أصحابه، ولذلك مزجوه بالقرآن
والسنة مزجًا، ولكن جاء بعضه مخالفًا لظاهر الشرع.
ليس غرضنا من هذه المقالة بيان مواضع الخلاف بين الفقهاء والصوفية، ولا
بيان الصواب والخطأ في ذلك، وإنما نقول إن الصوفية انفردوا بركن عظيم من
أركان الدين، وهو التهذيب علمًا وتخلقًا وتحققًا، ولم يكن أمرهم في أول العهد إلا
عملًا صالحًا وتخلقًا بالأخلاق الفاضلة. ثم لما دونت العلوم في الملة كتب شيوخ هذه
الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس، فجاءوا بما قصرت عنه الفلاسفة الأولون، ثم
حدث فيهم الخوض في الكلام على ما وراء الحجاب، وشرح ما تنتجه المجاهدة من
الأذواق والمواجد وعجائب الخيال، ومزجوا كلامهم بالفلسفة العقلية والطبيعية
والعلمية، وسلكوا في فهم القرآن مسلك طوائف الباطنية الذين كانوا أعظم صدمة
على الإسلام، فذهبوا إلى أن للقرآن معاني غير ما تعطيه اللغة وأساليبها وإشاراتها،
وزعم الباطنية أنها هي المقصود بالذات، وقد جاء الصوفية من ذلك بالصحيح
والفاسد والباطل الذي ينابذ القرآن والدين بالكلية، وقد ورد في حسان الأخبار
وصحاحها: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) والمراد برأيه هواه
الذي يؤيد مذهبه. نعم، إن لبعض الصوفية فهمًا في القرآن ترقص له العقول،
وتعجز عنه العلماء الفحول، وقد أنكر الإمام الغزالي على المتصوفة نحو تأويل
فرعون بالقلب القاسي، والاحتجاج على مجاهدته بقوله تعالى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى} (طه: 24) وإن كان الغرض به صحيحًا، ولهم من تحريف الكلم
عن مواضعه ما هو أشد من هذا كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا
دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) : الملوك هي الله (تعالى عن ذلك) ،
والقرية: (القلب) والإفساد: تبديل الصفات المذمومة بالممدوحة، وكقول بعضهم
في قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ بِإِذْنِه} (البقرة: 255) : من ذل ذي
يشفع، أي: من أذل نفسه ينال مقام الشفاعة عند الله تعالى. وقد قال ابن الصلاح
الفقيه الشهير في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال:
صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد
كفر، ثم قال: وأنا أقول: إن الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئًا من ذلك أنه لم
يقله تفسيراً، ولا ذهب مذهب الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا
مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم تنظير ما ورد به القرآن والنظير يذكر بالنظير،
ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك؛ لما فيه من الإيهام والإلباس اهـ
أقول: وقد وقع بالفعل الالتباس فضلّ به كثير من الناس، وما كان من
غرائب الصوفية صحيح المعنى في ذاته كان خطوة موصلة لأباطيل الباطنية عند
غير البصير المحقق، والذي يدرك الفرق قليل، والتفسير المطبوع المنسوب لسيدي
الشيخ الأكبر هو لبعض الباطنية، وفيه من تحريف القرآن ما لم يأت بمثله محرفو
التوراة، ومع ذلك تزين به المكاتب وتحترمه العلماء، وقد قال العلامة النسفي في
عقائده: النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطن
إلحاد. قال العلامة التفتازاني: وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية.
هذا من شر ما ترتب على مذهب التصوف من مضرة الأمة، وهو ما ذكرناه
أولاً من الإفراط في الزهادة وترك الفعل للدنيا، وقد نفر أهل العلم والتعليم من
النظر في كتبهم، لا سيما في هذا الزمان. ومن العجيب أن أهل هذا العصر يقدسون
شيوخ الصوفية ولا يعترضون على أحد منهم، ولا على شيء من عادات أهل
طرائقهم، وإن كان بدعة وضلالاً، بل يقيمون النكير على من أنكر عليهم ولو
بالحق، ومع ذلك لا يلتفتون لكتبهم ولا يتدارسونها، وإن كانت لأئمتهم الذين جمعوا
بين علمي الظاهر والباطن زعمًا أن هذه كماليات لا يطالعها إلا من أراد أن يتفرغ
لها! وبذلك اندرس علم تهذيب الأخلاق الذي هو روح الدين وقوامه، لأنه لا يوجد
إلا في كتبهم وكتب الفلاسفة، وكتبهم هي التي تذكره على الطريقة الدينية. أليس
من العجيب أن الأزهر - أعظم المدارس الدينية عند المسلمين - لا يُقرأ فيه علم
تهذيب الأخلاق الذي لا دين بخلافه؟ إنني كنت أطالع في كتب الأخلاق والتصوف
قبل طلب العلم، وكنت مولعًا بها، وأذكر أنني قلت لبعض شيوخنا: اقرأ لنا الجزء
الثالث من إحياء علوم الدين بدلاً من مقامات الحريري القليلة الجدوى، فأبى علي
ذلك متعللاً بما لا حاجة لشرحه! فالصوفية قد نفروا العلماء من كتبهم بما ذكرناه
من شأنهم، فشدة زهادتهم في الدنيا كانت سببًا لزهادة المسلمين في الدنيا والآخرة
معًا، وكلامهم في الغوامض التي تخالف ظواهر الشرع مع التسليم لهم فتحت بابًا
لإفساد العقائد، وصار كل زنديق يدخل ما يشاء في كتب الدين منسوبًا لأولياء
الصوفية، وقد شرحنا بعض هذه المفاسد في مقالات سابقة، ولا سيما مقالات الموالد
ومقالات سلطة مشيخة الطريق الروحية، وبينا سريان النزغات الوثنية في المسلمين
بسببهم. ومن يستطيع اليوم أن يتجرأ بالإنكار على شيء من شؤونهم وإن برَّأ منه
الأئمة العارفين الذين ينسبونه لهم؟ أي عاقل يصدق أن السيد عبد القادر الجيلي
وهو إمام في كل العلوم والمعارف الإسلامية يقول: أعطيت سجلاًّ مد البصر، فيه
أسماء أصحابي ومريدي إلى يوم القيامة، وقيل لي: قد وهبوا لك! أيقول هذا عبد
القادر؟ والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول لبنته سيدة النساء: (يا فاطمة يا
بنت محمد، اعملي لا أغني عنك من الله شيئًا) . هل الذين قال الله تعالى فيهم:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) كانوا يلقبون أولئك
الأحبار والرهبان بأعظم مما لقب به هذا العبد الخاضع لله تعالى عبد القادر الجيلي،
الذي ذكروا من ألقابه التي ينادى بها: (يا محيي الرمم، يا بارئ النسم، يا ضياء
السموات والأرض) هل قالوا فيهم أعظم من قول بعض جهلاء أهل الطريق:
(إن أحد مريدي الغوث الأعظم مات فسأله الملكان عن ربه ودينه ونبيه فأجابهما بأنه
لا يعرف إلا شيخه عبد القادر، فأراد الملكان أن يوقعا به العذاب، فجاء الغوث
الأعظم فشفع له وأنجاه الله) اللهم إن هذا ضلال مؤدٍّ للإباحة، يتبرأ منه
الشيخ عبد القادر قدس الله سره الطاهر، وكل من يؤمن بالله واليوم الآخر ومثله في
كتب أهل الطريق كثير.
سيقول السفهاء من الناس: إن مثل هذه الانتقادات لا ينبغي أن تنشر في
الجرائد، ولكن الكتب التي هي فيها قد طبعت مرارًا كثيرة، وتوجد في كل بقعة من
بقاع الأرض يتبوأها المسلمون، ولا نجد لها منكرًا، فهل هذا هو الدين؟
وسيقول آخرون منهم: إن ذكرها كان لغرض من الأغراض. ونحن نقول:
إن الذي يحاسب على المقاصد والنيات وخطرات القلوب هو الله تعالى، وما دام
الكلام حقًّا فلا يُعترض عليه (لنا الظاهر والله يتولى السرائر) .
وقد تبين بهذا ومما نشرناه قبلاً كيف كانت إطاعة هؤلاء الرؤساء مضلة للأمة،
ولو أردنا أن نشرح حالة القوم اليوم لجئنا بالعجب العجاب، وكفاك أن مقام الإرشاد
ينال بإجازة تشترى بريال واحد، وما من أحد ينكر أن الفرق بين هذا الخلف وذلك
السلف كالفرق بين الثرى والثريا، وفقنا الله لمرضاته وألهمنا رشدنا لنتدارك
ما مضى.
_________
(*)(الأحزاب: 67) .