الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب -
وجوب الإعداد للأعداء:
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها، وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده، في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال؛ لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر، ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال، وما ذلك إلا؛ لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى، والجهاد قد يكون ابتداء وقد يكون دفاعا؛ فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد وأخذ الحذر، ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة؛ لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك. وقد صح عن رسول
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2)
سورة النساء الآية 71
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحرب خدعة (1) » ، ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد، وذلك مجرب معروف. وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه، بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من أسباب خذلان الكافرين، وتفريق شملهم، واختلاف كلمتهم، وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم، وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه، ومكره لهم كما قال عز وجل:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (2)
ومما تقدم يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله، والإعداد لأعدائه، وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية والمعنوية مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر، فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه، وقد وعدهم الله بذلك في كتابه
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم (12928) ، والترمذي في (الجهاد) باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب برقم (1675) .
(2)
سورة الأنفال الآية 30
الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده؛ ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) الآية، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (7){وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (8)
(1) سورة محمد الآية 7
(2)
سورة الروم الآية 47
(3)
سورة الحج الآية 40
(4)
سورة الحج الآية 41
(5)
سورة النور الآية 55
(6)
سورة آل عمران الآية 120
(7)
سورة الأنفال الآية 9
(8)
سورة الأنفال الآية 10
وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1){تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2){يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3){وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم، وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم، كما قال عز وجل:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (6) ولما تغير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم، وآثر أكثرهم أهواءهم، أصابهم من الذل والهوان وتسلط الأعداء ما لا يخفى على أحد. وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف، وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد، وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة، كما قال الله سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (7)
(1) سورة الصف الآية 10
(2)
سورة الصف الآية 11
(3)
سورة الصف الآية 12
(4)
سورة الصف الآية 13
(5)
سورة البقرة الآية 249
(6)
سورة آل عمران الآية 160
(7)
سورة الشورى الآية 30
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف، والإخلال بالثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه، جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) ولو أن أحدا يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض، ويقاتلون في سبيل الله، ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتهاون بأمره، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى، وأن الحراسة لم
(1) سورة الأنفال الآية 53
(2)
سورة الروم الآية 41
(3)
سورة آل عمران الآية 165