المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أبو بكر الشبلي - مختصر تاريخ دمشق - جـ ٢٨

[ابن منظور]

فهرس الكتاب

- ‌يزيد بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن يزيد بن ذكوان أبو القاسم

- ‌يزيد بن مرثد أبو عثمان الهمداني

- ‌يزيد بن أبي مريم بن أبي عطاء

- ‌يزيد بن أبي المساحق السلمي

- ‌يزيد بن أبي مسلم أبو العلاء الثقفي

- ‌يزيد بن معاوية بن صخر أبي سفيان

- ‌يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي

- ‌يزيد بن أبي يزيد مولى بسر بن أبي أرطاة

- ‌يزيد بن يعلى بن الضخم

- ‌يزيد بن يوسف أبو يوسف الصنعاني

- ‌يزيد ذو مصر المقرائي

- ‌يزيد غير منسوب

- ‌يزيد أبو حفصة مولى مروان بن الحكم

- ‌يسار بن سبع أبو الغادية

- ‌يساف بن شريح اليشكري

- ‌يسرة بن صفوان بن جميل

- ‌اليسع وهو الأسباط بن عدي

- ‌يعقوب ويقال يعبوث بن عمرو بن ضريس القضاعي ثم المشجعي

- ‌يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد أبو عوانة النيسابوري ثم الإسفرائيني

- ‌يعقوب بن إسحاق بن حنش

- ‌يعقوب بن إسحاق أبو يوسف اللغوي

- ‌يعقوب بن دينار ويقال ميمون

- ‌يعقوب بن سعيد أبو سعيد الطرميسي

- ‌يعقوب بن سفيان بن جوان

- ‌يعقوب بن سلمة بن عبد الله

- ‌يعقوب بن طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي المدني

- ‌يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي

- ‌يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي

- ‌يعقوب بن علي بن يعقوب أبو إسحاق

- ‌يعقوب بن عمر بن قتادة بن النعمان

- ‌يعقوب بن عمير بن هانئ العنسي

- ‌يعقوب بن كعب بن حامد أبو يوسف

- ‌يعقوب بن مسدد بن أبي يوسف

- ‌يعقوب بن يوسف بن كلس

- ‌يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان

- ‌يعقوب بن يوسف بن يعقوب

- ‌يعقوب مولى هشام بن عبد الملك

- ‌يعلى بن الأشدق أبو الهيثم العقيلي

- ‌يعلى بن أمية أبو خالد

- ‌يعلى بن حكيم الثقفي

- ‌يعلى بن الضخم العنسي

- ‌يعلى بن عطاء العامري

- ‌يعلى بن مرة بن وهب بن جابر

- ‌يعمر بن مسعود

- ‌يعيش بن الوليد بن هشام بن معاوية

- ‌يغمر بن ألب سارخ أبو الندى

- ‌يلتكين التركي

- ‌يمان بن عفير

- ‌يمكجور التركي

- ‌يموت بن المزرع بن يموت

- ‌ينجوتكين التركي

- ‌ذكر من اسمه يوسف من الرجال

- ‌يوسف بن إبراهيم بن مرزوق بن حمدان

- ‌يوسف بن إبراهيم أبو الحسن الكاتب

- ‌يوسف بن إسماعيل بن يوسف

- ‌يوسف بن أيوب بن شادي الملك الناصر صلاح الدين

- ‌يوسف بن بحر بن عبد الرحمن

- ‌يوسف بن الحسن بن محمد أبو القاسم

- ‌يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب

- ‌يوسف بن الحكم بن أبي عقيل

- ‌يوسف بن دوناس بن عيسى أبو الحجاج

- ‌يوسف بن رباح بن علي بن موسى

- ‌يوسف بن رمضان بن بندار أبو المحاسن

- ‌يوسف بن الزبير المكي مولى عبد الله بن الزبير

- ‌يوسف بن سعيد بن مسلم أبو يعقوب المصيصي

- ‌يوسف بن السفر

- ‌يوسف بن عبد الله بن سلام

- ‌يوسف بن عبد العزيز بن علي

- ‌يوسف بن عروة بن عطية السعدي

- ‌يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي

- ‌يوسف بن عمرو الشعيثي

- ‌يوسف بن القاسم بن يوسف بن فارس

- ‌يوسف بن محمد بن عروة بن محمد بن عطية

- ‌يوسف بن محمد بن مقلد بن عيسى

- ‌يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي

- ‌يوسف بن ماهك المكي الفارسي

- ‌يوسف بن مكي بن علي بن يوسف

- ‌يوسف بن موسى بن عبد الله

- ‌يوسف بن الهيذام بن عامر

- ‌يوسف بن يعقوب أبو عمرو النيسابوري

- ‌يوشع بن نون بن أفرائيم

- ‌ذكر من اسمه يونس من الرجال

- ‌يونس بن إبراهيم أبو الخير

- ‌يونس بن رطاجة

- ‌يونس بن سعيد بن عبيد

- ‌يونس بن أبي شبيب الرقي

- ‌يونس بن عبد الرحيم بن سعد

- ‌يونس بن محمد بن يونس بن محمد

- ‌يونس بن متى ذو النون نبي الله

- ‌يونس بن ميسرة بن حلبس أبو عبيد

- ‌يونس بن يزيد بن أبي النجاد

- ‌يونس المديني الكاتب

- ‌ذكر من سمي بكنيته

- ‌حرف الألف

- ‌أبو أحمد بن علي الكلاعي

- ‌أبو أحمد بن هارون الرشيد

- ‌أبو إبراهيم الدمشقي

- ‌أبو الأبرد الدمشقي

- ‌أبو الأبطال

- ‌أبو الأبيض العبسي الشامي

- ‌أبو أحيحة القرشي

- ‌أبو الأخضر

- ‌أبو الأزهر

- ‌أبو إسماعيل

- ‌أبو الأسود البيروتي

- ‌أبو أسيد

- ‌أبو أوس

- ‌أبو إياس الليثي

- ‌‌‌أبو أيوب

- ‌أبو أيوب

- ‌أم أبان بنت عتبة بن ربيعة

- ‌أم أبيها بنت عبد الله بن جعفر

- ‌حرف الباء

- ‌أبو البختري

- ‌‌‌أبو بردة

- ‌أبو بردة

- ‌أبو بسرة الجهني

- ‌أبو بشر التنوخي

- ‌أبو بشر مؤذن مسجد دمشق

- ‌أبو بشر المروزي

- ‌أبو بقية

- ‌ذكر من اسمه أبو بكر

- ‌أبو بكر بن أنس بن مالك بن النضر الأنصاري

- ‌أبو بكر بن حنظلة العنزي

- ‌أبو بكر بن سعيد الأوزاعي

- ‌أبو بكر بن سليمان بن أبي السائب

- ‌أبو بكر بن عبيد بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري

- ‌أبو بكر بن عبد الله بن حويطب بن عبد العزى

- ‌أبو بكر بن عبد الله بن محمد

- ‌أبو بكر بن عبد الله الأسوار بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان

- ‌أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث

- ‌أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي

- ‌أبو بكر بن محمد بن عمرو

- ‌أبو بكر بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي

- ‌أبو بكر بن يزيد بن أبي بكر بن يزيد بن معاوية الأموي

- ‌أبو بكر بن يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الموي

- ‌أبو بكر الكلبي العابد

- ‌أبو بكر رجل من أهل دمشق

- ‌أبو بكر الشبلي

- ‌أبو بكر الوراق الصوفي

- ‌أبو بكر الجصاص البصري الصوفي

- ‌أبو بكر الدمشقي

- ‌أبو بكر بن العطار الداراني

- ‌أبو بكر القلانسي

- ‌أبو بكر بن الفريابي

- ‌أبو بكر الواسطي الصوفي

- ‌أبو بكر السمرقندي الفقيه الحنفي المعروف بالظهير

- ‌كنى النساء على حرف الباء

- ‌أم البراء بنت صفوان بن هلال

- ‌أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد

- ‌حرف التاء

- ‌أبو تجراة الكندي

- ‌أبو تميمة مولى بني مروان الأموي

- ‌أبو توبة المصري

- ‌حرف الثاء

- ‌أبو الثريا الكردي

- ‌أبو ثعلبة الخشنيّ

- ‌حرف الجيم

- ‌أبو الجرح الغساني

- ‌أبو الجعد السائح

- ‌أبو جعفر الصاحي

- ‌أبو جعفر الخراساني الشافعي

- ‌أبو جعفر ابن بنت أبي سعيد الثعلبي

- ‌أبو جعفر بن ماهان الرازي

- ‌أبو جعفر الحداد الصوفي

- ‌أبو الجعيد

- ‌أبو جلتا البهراني

- ‌أبو الجلد التميمي

- ‌أبو جميع بن عمر بن الوليد

- ‌أبو جميل القدريّ

- ‌أبو جندل بن سهيل

- ‌أبو الجنوب المؤذن المؤدب

- ‌أبو الجهم بن كنانة الكلبي

- ‌أبو الجلاس العبدي

- ‌حرف الحاء

- ‌أبو حارثة

- ‌أبو الحارث الصوفي

- ‌أبو حازم الأسدي الخناصري

- ‌أبو حديرة ويقال أبو حديرج

- ‌أبو حرب اليماني المبرقع

- ‌أبو حرة الحجازي

- ‌أبو حريش الكناني

- ‌أبو حسان بن حسان البسري

- ‌‌‌أبو الحسن

- ‌أبو الحسن

- ‌أبو الحسن الأعرابي الصوفي

- ‌أبو الحسن الأطرابلسي

- ‌أبو الحسن المعاني

- ‌أبو الحسن الدمشقي

- ‌أبو الحسن الدويدة

- ‌ذكر من اسمه أبو الحسين

- ‌أبو الحسين بن أحمد بن الطيب

- ‌أبو الحسين بن بنان المصري الصوفي

- ‌أبو الحسين بن حريش

- ‌أبو الحسين بن عمرو بن محمد

- ‌أبو الحسين الرائق المعري الشاعر

- ‌‌‌أبو حفص الدمشقي

- ‌أبو حفص الدمشقي

- ‌أبو الحكم بن أبي الأبيض العبسي

- ‌أبو حلحة الفزاري

- ‌أبو حلحلة بن الرداد الشاعر

- ‌أبو حلخان الصوفي

- ‌أبو حمزة الخراساني الصوفي

- ‌أبو حملة

- ‌كنى النساء على الحاء

- ‌أم حبيب بنت فلان القرشية

- ‌أم حرام بنت ملحان

- ‌أم الحكم بنت أبي سفيان صخر

- ‌أم حكيم بنت الحارث بن هشام

- ‌أم حكيم بنت يحيى

- ‌حرف الخاء

- ‌أبو خالد الحرسي

- ‌أبو خالد القصاع

- ‌أبو خداش بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب

- ‌أبو خراسان بن تميم الفارسي

- ‌أبو الخير الأقطع التيناتي

- ‌كنى النساء ممن ابتداء أسمائهن على الخاء

- ‌أم خالد بنت عتبة بن ربيعة

- ‌أم الخير بنت الحريش بن سراقة

- ‌حرف الذال

- ‌أبو ذر الغفاري

- ‌أبو ذر البعلبكي

- ‌أبو الذكر

- ‌أبو الذيال

- ‌حرف الراء

- ‌أبو راشد الحبراني

- ‌أبو الربيع الدمشقي

- ‌أبو رجاء بن أخي أبي إدريس الخولاني

- ‌أبو الرضا الصياد العابد

- ‌أبو الرضا بن النحاس الحلبي

- ‌أبو روح شيخ صالح

- ‌أبو روق الدمشقي

- ‌أبو رويحة الخثعمي

- ‌أم الربيع

- ‌حرف الزاي

- ‌أبو زائد الدمشقي

- ‌أبو الزبير الدمشقي

- ‌أبو زرعة بن عمرو بن جرير

- ‌أبو زرعة اللخمي

- ‌أبو زرعة الدمشقي الصوفي

- ‌أبو زرعة الجنبي

- ‌أبو زكار الزاهد

- ‌أبو الزهراء القشيري

- ‌ذكر من اسمه أبو زياد

- ‌أبو زياد مولى آل دراج الجمحي

- ‌أبو زياد أو أبو ثابت أو ثابت

- ‌أبو زياد الدمشقي

- ‌أبو زياد من أهل جبيل

- ‌أبو زيد الأسدي ويقال الأزدي

- ‌أبو زيد الدمشقي

- ‌أبو زيد الأعمى

- ‌حرف السين

- ‌أبو الساكن

- ‌أبو سباع

- ‌أبو سبرة النخعي

- ‌أبو سعد بن أبي فضالة الأنصاري

- ‌أبو سعد الحمصي

- ‌ذكر من اسمه أبو سعيد

- ‌أبو سعيد المعيطي

- ‌أبو سعيد بن حبيب بن المهلب

- ‌أبو سعيد بن محمد

- ‌أبو سعيد البجلي

- ‌أبو سعيد الصوفي

- ‌ذكر من اسمه أبو سفيان

- ‌أبو سفيان بن أبي بكر بن يزيد

- ‌أبو سفيان بن خالد بن يزيد

- ‌أبو سفيان بن عبد الله الأموي

- ‌أبو سفيان بن عبد الله بن يزيد

- ‌أبو سفيان بن عتبة بن ربيعة القرشي

- ‌أبو سفيان بن عتبة الأعور

- ‌أبو سفيان بن يزيد بن عبد الملك

- ‌أبو سفيان بن يزيد بن معاوية

- ‌أبو سفيان القيني

- ‌حرف السين

- ‌أبو سلمة الصنعاني

- ‌أبو سلمى راعي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أبو سليمان الحرستاني

- ‌أبو سليمان القرشي العامري البسري

- ‌أبو سليمان العنسي

- ‌أبو سهل ويقال أبو سهيل الأسود

- ‌أبو سيار

- ‌أم سعيد بنت سعيد بن عثمان

- ‌أم سعيد

- ‌أم سعيد

الفصل: ‌أبو بكر الشبلي

‌أبو بكر الكلبي العابد

كان من عباد أهل الشام قال: ابن آدم، ليس لما بقي من عمرك في الدنيا ثمن.

وقال: عند الصباح يحمد القوم السرى، وعند الممات يحمد القوم التقى.

‌أبو بكر رجل من أهل دمشق

عن أبي بكر الدمشقي أن معاوية بن أبي سفيان قال: فذكر كلاماً.

‌أبو بكر الشبلي

أحد شيوخ الصوفية المعدودين، وزهادهم الموصوفين.

اختلف في اسمه، فقيل: دلف بن جعبر، ويقال: ابن جحدر، ويقال: بل اسمه جعفر بن يونس.

كان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، وكتب الحديث الكثير، ثم صدف عن ذلك، ولزم العبادة حتى صار رأساً في المتعبدين، ورئيساً للمجتهدين. وكان مقامه ببغداد، وقد زرت قبره بها. وقدم دمشق على ما بلغني في بعض الحكايات.

ص: 167

عن الشبلي قال: حدثنا محمد بن مهدي المصري، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فروة الرهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الق الله فقيراً، ولا تلقه غنياً. قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: ما سئلت فلا تمنع، وما رزقت فلا تخبأ. قال: يا رسول الله، كيف لي بذاك؟ قال: هو ذاك، وإلا فالنار.

وقال الشبلي: كنت وردت الشام من مكة، فرأيت راهباً في صومعة، فنظر إلي، فقلت له: يا راهب، لماذا حبست نفسك في هذه الصومعة؟ قال: ليثوب عملي، فقلت: يا راهب، ولمن تعمل؟ قال: لعيسى، قلت: وبأي شيء استحق عيسى هذه العبادة منك دون الله؟ قال: لأنه مكث أربعين يوماً لم يطعم، ولم يشرب، فقلت له: ومن يعمل ذلك يستحق العبادة له؟ قال: نعم.

قال الشبلي: فقلت للراهب: فاستوفها مني. فمكثت أربعين يوماً تحت صومعته، لا آكل، ولا أشرب. فقال لي: ما دينك؟ قلت: محمدي. فنزل، وأسلم علي يدي. وحملته إلى دمشق، فقلت: اجمعوا له أشياء، فإنه قريب العهد بالإسلام. وانصرفت، وتركته مع الصوفية.

قال الحافظ أبو القاسم رحمه الله: وقد كتبت نحو هذه الحكاية عن أبي بكر محمد بن إسماعيل الفرغاني، وسقتها في ترجمته. وقد ورد وروده يعني الشبلي الشام من وجهيت آخرين:

ص: 168

قال أبو الحسن بن سمعون: قال لي الشبلي: كنت باليمن، وكان باب دار الإمارة رحبةً عظيمة، وفيها خلق كثير قيام ينظرون إلى منظرة، فإذا قد ظهر من المنظرة شخص أخرج يده كالمسلم عليهم، فسجدوا كلهم. فلما كان بعد سنين كنت بالشام، وإذا تلك اليد قد اشترت لحماً بدرهم، وحملته. فقلت له: أنت ذلك الرجل؟ قال: نعم، من رأى ذاك، ورأى هذا لا يغتر بالدنيا.

وقال: سمعت الشبلي يقول: كنت في قافلة الشام، فخرج الأعراب فأخذوها، وأميرهم جالس يعرضون عليه. فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه إلا الأمير فما كان يأكل، فقلت له: لم لا تأكل؟ قال: أنا صائم، قلت: تقطع الطريق، وتأخذ الأموال، وتقتل النفس وأنت صائم؟! قال: يا شيخ، أجعل للصلح موضعاً.

فلما كن بعد حين رأيته يطوف حول البيت وهو محرم كالشن البالي. فقلت: أنت ذاك الرجل؟ فقال: ذاك الصوم بلغ بي إلى هذا.

قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي: دلف بن جعبر، ويقال: دلف بن جحدر، ويقال: دلف بن جعفر. ويقال: إن اسم الشبلي جعفر بن يونس. سمعت الحسين بن يحيى الشافعي يذكر ذلك، وهكذا رأيته على قبره مكتوباً ببغداد. وأظن أن الأصح: دلف بن جحدر.

وأبو بكر الشبلي أصله من أشروسنة، ومولده بسر من رأى.

ص: 169

سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: الشبلي من أهل أشروسنة، بها قرية يقال لها: شبلية أصله منها. وكان خاله أمير الأمراء بإسكندرية.

قال السلمي: كان الشبلي مولده بسر من رأى، وكان حاجب الموفق، وكان أبوه حاجب الحجاب، وكان الموفق جعل لطعمته دماوند، ثم لما قعد الموفق وكان ولي العهد من قبل أخيه حضر الشبلي يوماً مجلس خير النساج، وتاب فيه، ورجع إلى دماوند، وقال: أنا كنت حاجب الموفق، وكان ولاني بلدتكم هذه، فاجعلوني في حل. فجعلوه في حل، وجهدوا أن يقبل منهم شيئاً، فأبى. وصار بعد ذلك واحد زمانه حالاً ونفساً. سمعت أبا سعيد السجزي يذكر ذلك كله.

قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ومنهم أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي. بغدادي المولد والمنشأ، أصله من أشروسنة. صحب الجنيد، ومن في عصره، وكان نسيج وحده حالاً وظرفاً وعلماً، مالكي المذهب، عاش تسعاً وثمانين سنة، ومات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وقبره ببغداد. ومجاهداته في بدايته فوق الحد.

ص: 170

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم. ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.

وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد في الطاعات، ويقول: هذا شهر عظمه ربي فأنا أولى من يعظمه.

وقال الشبلي: مات أبي وخلف ستين ألف دينار سوى الضياع والعقار وغيرها، فأنفقتها كلها، ثم قعدت مع الفقراء حتى لا أرجع إلى مادي، ولا أستظهر بمعلوم.

وقال أحمد بن عطاء: سمعت الشبلي يقول: كتبت الحديث عشرين سنةً، وجالست الفقراء عشرين سنةً.

وكان يتفقه لمالك. وكان له يوم الجمعة نظرة، ومن بعدها صيحة. فصاح يوماً صيحةً تشوش ما حوله من الخلق. وكان بجنب حلقته حلقة أبي عمران الأشيب، فقال لأبي الفرج العكبري: ما للناس؟ قال؛ حردوا من صيحتك. وحرد أبو عمران وأهل حلقته. فقام الشبلي، وجاء إلى أبي عمران، فلما رآه أبو عمران قام إليه، وأجلسه إلى جنبه، فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يري الناس أن الشبلي جاهل، فقال له: يا أبا بكر، إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع؟ فأجاب بثمانية عشر جواباً. فقام أبو عمران وقبل رأسه، وقال: يا أبا بكر، أعرف منها اثني عشر، وستة ما سمعت بها قط.

قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: لم أر في الصوفية أعلم من الشبلي، ولا أتم حالاً من الكتاني.

وقال السلمي: سمعت أبا العباس محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت الشبلي يقول: أعرف من لم يدخل في هذا الشأن حتى أنفق جميع ملكه، وغرق في هذه الدجلة التي

ص: 171

ترون سبعين قمطراً مكتوباً بخطه، وحفظ الموطأ، وقرأ بكذا وكذا قراءةً عنى به نفسه.

قال أبو الخير زيد بن رفاعة الهاشمي: دخل أبو بكر بن مجاهد على أبي بكر الشبلي، فحادثه، وسأله عن حاله. فقال ابن مجاهد: نرجو الخير؛ يختم في كل يوم بين يدي ختمتان وثلاث. فقال له الشبلي: أيها الشيخ قد ختمت في تلك الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة إن كان فيها شيء قبل فقد وهبته لك، وإني لفي درسه منذ ثلاث وأربعين سنة ما انتهيت إلى ربع القرآن.

قال أبو بكر محمد بن عمر: كنت عند أبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ، فجاء الشبلي، فقام إليه أبو بكر بن مجاهد، فعانقه، وقبل بين عينيه، فقلت له: يا سيدي، تفعل هذا بالشبلي، وأنت وجميع من ببغداد يتصورونه بأنه مجنون؟؟! فقال لي: فعلت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به؛ وذاك أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أقبل الشبلي، فقام إليه، وقبل بين عينيه، فقلت: يا رسول الله، أتفعل هذا بالشبلي؟ قال لي: نعم، هذا يقرأ بعد صلاته:" لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم " الآية، ويتبعها بالصلاة علي.

قال الخطيب: سمعت أبا القاسم عبيد الله بن عبد الله بن الحسن الخفاف المعروف بابن النقيب يقول:

كنت يوماً جالساً بباب الطاق أقرأ القرآن على رجل يكنى بأبي بكر المعيمش، وكان ولياً لله، فإذا بأبي بكر الشبلي قد جاء إلى رجل يكنى بأبي الطيب الجلاء، وكان من أهل العلم، فسلم عليه، وأطال الحديث معه، وقام لينصرف. فاجتمع قوم إلى أبي

ص: 172

الطيب فقالوا: نسألك أن تسأله أن يدعو لنا، ويرينا شيئاً من آيات الله ومعهم صاحبان له فألح أبو الطيب عليه في المسألة، واجتمع الناس بباب الطاق، فرفع الشبلي يده إلى الله تعالى، ودعا بدعاء لم يفهم، ثم شخص إلى السماء، فلم يطبق جفناً على جفن إلى وقت الزوال. وكان دعاؤه وابتداء إشخاص بصره إلى السماء ضحى النهار. فكبر الناس وضجوا بالدعاء والابتهال. ثم مضى الشبلي إلى سوق يحيى، وإذا برجل يبيع حلواء، وبين يديه طنجير فيه عصيدة تغلي، فقال الشبلي لصاحب له: هل تريد من هذه العصيدة؟ قال: نعم. فأعطى الحلاوي درهماً، وقال: أعط هذا ما يريد، ثم قال: تدعني أعطيه رزقه؟ قال الحلاوي: نعم. فأخذ الشبلي رقاقة، وأدخل يده في الطنجير، والعصيدة تغلي، فأخذ منها بكفه، وطرحها على الرقاقة. ومشى الشبلي إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر بن مجاهد، فدخل على أبي بكر، فقام إليه، فتحدث أصحاب ابن مجاهد بحديثهما، وقالوا لأبي بكر: أنت لم تقم لعلي بن عيسى الوزير، وتقوم للشبلي؟! فقال أبو بكر: ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: يا أبا بكر، إذا كان في غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة، فإذا جاءك فأكرمه.

قال ابن مجاهد: فلما كان بعد ذلك بليلتين أو أكثر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا أبا بكر، أكرمك الله كما أكرمت رجلاً من أهل الجنة. فقلت: يا رسول الله، بم استحق الشبلي هذا منك؟ فقال: هذا رجل يصلي كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة، ويقرأ:" لقد جاءكم رسولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم "، الآية يفعل ذلك منذ ثمانين سنةً، أفلا أكرم من يفعل هذا؟

ص: 173

قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن جعفر الرازي: كان أهل بغداد يقولون: عجائب الدنيا ثلاث: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر.

قال أبو بكر الزبير بن محمد بن عبد الله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، ما تقول في الجنيد؟ قال: جمع العلم، قلت: فالشبلي؟ قال: إن صحا انتفع به كثير من الناس، قلت: فالحلاج؟ قال: استعجل.

قال الشبلي: كان بدء أمري أني نوديت: يا أبا بكر، ليس لهذا أردناك، ولا بهذا أمرناك. فتركت خدمة المعتضد، ونظرت في الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتفسير، والتحليل والتحريم. وسمعت الحديث والفقه وكتاب المبتدأ وغير ذلك، ثم أبدت علي خفقة أذهبت ما سوى الله، فإذا الله الله.

وقال: كنت في أول بدايتي أكتحل بالملح، فلما زاد علي الأمر أحميت الميل فاكتحلت به.

وقال: أطع الله يطعك كل شيء.

قال برهان الدينوري: حضر الشبلي ليلةً ومعه صبي، فقال للصبي: قم نم، فقال الصبي: إني آنس برؤيتك، فأشتهي النظر إليك إلى أن تنام. فقال الشبلي: إن جاريتي قالت: عددت عليك ستة أشهر لم تنم فيها.

ص: 174

قال جعفر الفرغاني: سمعت الجنيد يقول: لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلي بالعين التي ينظر بعضكم إلى بعض، فإنه عين من عيون الله.

قال أبو عمر الأنماطي: سمعت الجنيد يقول: لكل قوم تاج، وتاج هؤلاء القوم الشبلي.

قال أبو عمرو بن علوان: سمعت الجنيد يقول: جزى الله الشبلي عني خيراً، فإنه ينوب عني في أمر الفقراء شيئاً كثيراً.

قال الجنيد: إذا كلمتم الشبلي فكلموه من وراء الترس، فإن سيوف الشبلي تقطر دماً، فقال له ابن عطاء: هو هكذا يا أبا القاسم؟ قال: نعم يا أحمد، ما ظنك بشخص السيوف في وجهه، والأسنة في ظهره، والسهام عن يمينه وشماله، والنار تحت قدميه؟ قال: فزعقت.

قال عبد الله بن يوسف الصباغ: كنت مع أبي في الدكان نصبغ، فلما كان يوم من الأيام خرجت فإذا على باب الدكان شيخ جالس، فقلت مازحاً: الشيخ قد صلى الظهر؟ قال: نعم، والحمد لله، قلت: أين صليت؟ قال: بمكة. فدخلت إلى أبي، فقلت: يا أبه، رجل بباب الدكان قال: صليت الظهر بمكة! فخرج أبي، فلما رآه رجع وقال: هذا الشبلي.

قال أبو الحسين بن سمعون:

اعتل الشبلي، فقال علي بن عيسى للمقتدر بالله: الشبلي عليل. فأنفذ إليه بطبيب يحمل إليه ما يصف له، فلما كان يوم قال الطبيب للشبلي: والله لو كان دواءك في قطعة من لحمي ما عسر علي ذلك. قال له الشبلي: دوائي في دون ذلك، قال: وما هو؟ قال:

ص: 175

تقطع الزنار، قال: فإذا قطعت الزنار تبرأ؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

فأخبر الخليفة بذلك، فقال: أنفذنا بطبيب إلى عليل، وما علمنا أنا أنفذنا بعليل إلى طبيب.

قال أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى الوزير: كان ابن مجاهد يوماً عند أبي، فقيل له: الشبلي؟ قال: يدخل. فقال ابن مجاهد: سأسكته الساعة بين يديك؛ وكان من عادة الشبلي إذا لبس شيئاً خرق فيه موضعاً، فلما جلس قال له ابن مجاهد: يا أبا بكر، أين في العلم إفساد ما ينتفع به؟ قال له الشبلي: أين في العلم " فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأعناق "؟ قال: فسكت ابن مجاهد. فقال له أبي: أردت أن تسكته فأسكتك! ثم قال له: قد أجمع الناس أنك مقرئ الوقت؛ أين في القرآن: الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: فسكت ابن مجاهد، فقال له أبي: قل يا أبا بكر، فقال: قوله تعالى: " وقالت اليهودُ والنصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحباؤه قلْ فَلِمَ يُعَذّبُكم بذنوبِكُم ". فقال ابن مجاهد: كأنني ما سمعتهما قط.

قال السلمي: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: قال أبو العباس بن شريح يوماً للشبلي: يا أبا بكر، أنت مع جودة خاطرك وفهمك لو شغلته بشيء من علوم الفقه؟ فقال: أنا أشتغل بعلم يشاركني فيه مثلك؟! قال القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سئل الشبلي، فقيل له: أخبرنا عن توحيد مجرد بلسان حق مفرد؟ فقال: ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن

ص: 176

أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن توهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن رأى أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.

قال السلمي: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت الشبلي يقول: جل الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف.

وقال الشبلي في قوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم ": ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة.

قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: كنت واقفاً في مجلس الشبلي في جامع المدينة ببغداد، فوقف سائل على مجلسه وحلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد، فتأوه الشبلي، وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود، ومخلوق يقول في شكله: من الطويل

تعوّد بسط الكف حتى لو أنه

ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله

تراه إذا ما جئته متهلّلاً

كأنّك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفّه غير روحه

لجاد بها فليتّق الله سائله

هو البحر من أيّ النّواحي أتيته

فلجّته المعروف والجود ساحله

ثم بكى وقال: بلى يا جواد، فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت

ص: 177

بعد ذلك على أقوام بالاستغناء عنهم، وعما في أيديهم، فإنك الجواد كل الجواد، فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حد له، ولا صفة. فيا جواد يعلو كل جواد، وبه جاد كل من جاد.

وقال الشبلي: ما قلت الله قط إلا واستغفرت الله من قولي الله.

قال السلمي: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال: الصبر في الله، قال: لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، قال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله، فصرخ الشبلي صرخةً كادت روحه أن تتلف.

وسئل الشبلي عن المحبة، فقال: الميم محو الصفات، والحاء: حياة القلوب بذكر الله، والباء بلى الأجساد، والهاء: هيمان القلوب في ذات الله.

قال بندار بن الحسين:

سمعت الشبلي يقول يوم الجمعة وهو يتكلم على الناس، وقد سأله شاب فقال: يا أبا بكر، لم تقول: الله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟ قال الشبلي: أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود فلا اصل إلى كلمة الإقرار. قال الشاب: أريد حجةً أقوى من هذه، فقال: يا هذا، قال الله تعالى:" قُلِ اللهُ ثمّ ذَرْهُمْ في خوضِهم يَلْعَبُون "، قال: فزعق الشاب زعقةً، فقال الشبلي: الله، فزعق ثانية، فقال الشبلي: الله، فزعق الثالثة، فمات. فاجتمع إليه أبواه، فقدماه إلى الخليفة، وادعيا عليه الدم، فقال له الخليفة: يا أبا بكر، ماذا صنعت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، روح جنت فرنت، ودربت، فعلمت، ودعيت، فأجابت، فما ذنبي؟ فصاح الخليفة ثم أفاق فقال: خليا سبيله، لا ذنب له. هذا قتيل لا دية له ولا قود.

ص: 178

قال السلمي: سمعت أبا بكر الأبهري الفقيه ببغداد يقول: سمعت الشبلي يقول: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب، وترك الأدب يوجب الطرد، ومن لم يراع أسراره مع الحق لا يكاشف عن عين الحقيقة بذرة.

قال أبو العباس الدامغاني: أوصاني الشبلي فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن القوم، واستقبل الجدار حتى تموت.

قال السلمي: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: كان الشبلي يقول لمن يدخل عليه: عندك خبر، أو عندك أثر؟! وينشد: من الطويل

أسائل عن سلمى فهل من مخبر

بأنّ له علماً بها أين تنزل

ثم يقول: لا وعزتك ما في الدارين عنك مخبر.

وقال الشبلي: ما أحد يعرف الله، قيل: كيف؟ قال: لو عرفوه لما اشتغلوا عنه بسواه.

قال أبو محمد جعفر بن محمد الصوفي: كنت عند الجنيد، فدخل الشبلي، فقال جنيد: من كان الله همه طال حزنه، فقال الشبلي: يا أبا القاسم، لا بل، من كان همه زال حزنه.

قال البيهقي: قول الجنيد محمول على دار الدنيا، وقول الشبلي محمول على الآخرة، وقول الجنيد محمود على حزنه عند رؤية التقصير في نفسه في القيام بواجباته، وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهم هماً واحداً. والله أعلم.

ص: 179

وسئل الشبلي عن الزهد فقال: تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء.

وقال: ليكن همك معك لا يتقدم، ولا يتأخر.

وسئل: لم سموا صوفية؟ فقال: لمصافاة أدركتهم من الحق فصفوا. فمن صفا فهو صوفي. وقيل للشبلي: يا أبا بكر، أوصني، فقال: كلامك كتابك إلى ربك، فانظر ما تملي فيه.

وقال: سهو طرفة عين عن الله شرك بالله.

قال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سئل الشبلي وأنا حاضر: هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة، أو الحق؟ فقال: لا بد من الاجتهاد والمجاهدة، ولكنهما لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة، لأن الحقيقة ممتنعة عن أن تدرك بجهد واجتهاد، فإنما هي مواهب، يصل العبد إليها بإيصال الحق إياه لا غير. وأنشد على أثره: من الطويل

أسائلكم عنها فهل من مخبّرٍ

فمالي بنعمٍ بعد مكثتنا علم

فلو كنت أدري أين خيّم أهلها

وأيّ بلاد الله أو ظعنوا أمّوا

إذاً لسلكنا مسلك الريح خلفها

ولو أصبحت نعمٌ ومن دونها النجم

قال السلمي: وحكي عن بعضهم قال: كنت يوماً في حلقة الشبلي فسمعته يقول: الحق يفني بما به يبقي، ويبقي بما به يفني، ويفني بما فيه بقاء، ويبقي بما فيه فناء. فإذا أفنى عبداً عن إياه أوصله به، وأشرفه على أسراره. وبكى، وأنشد على أثره: من الوافر

لها في طرفها لحظات سحرٍ

تميت به وتحيي من تريد

ص: 180

وسئل الشبلي: ما علامة صحة المعرفة؟ قال: نسيان كل شيء سوى معروفه. قيل: وما علامة صحة المحبة؟ قال: العمى عن كل شيء سوى محبوبه.

وقال: ليس للعارف، ولا لمحب سلوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار.

قال الحسن الفرغاني: سألت الشبلي: ما علامة العارف؟ فقال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. والعارف الذي عرف الله، وعرف مراد الله، وعمل لما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله. والصوفي من صفا قلبه فصفا، وسلك طريق المصطفى، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا. والتصوف التآلف والتطرف، والإعراض عن التكلف.

وقال أيضاً: هو التعظيم لأمر الله، والشفقة على عباد الله.

وقال أيضاً: الصوفي من صفا من الكدر، وخلص من الغير، وامتلأ من الفكر، وتساوي عنده الذهب والمدر.

وقيل له: ما علامة القاصد؟ قال: أن لا يكون للدرهم راصداً.

وقيل له: في أي شيء أعجب؟ قال: قلب عرف ربه ثم عصاه.

وقال: المعارف تبدو فتطمع، ثم تخفى فتؤيس، فلا سبيل إلى تحصيلها، ولا طريق إلى الهرب منها؛ فإنها تطمع الآيس، وتؤيس الطامع.

وسئل: إلى ماذا تحن قلوب أهل المعارف؟ فقال: إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب من حسن العناية. وأنشد: من الكامل

ص: 181

سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن

ما كان قلبي للصبابة معهدا

وقال: الدنيا خيال، وظلها وبال، وتركها جمال، والإعراض عنها كمال، والمعرفة بالله اتصال.

وسئل: ما الفرق بين رق العبودية، ورق المحبة؟ فقال: كم بين عبد إذا عتق صار حراً، وعبد كلما عتق ازداد رقاً.

وقال: من البسيط

لتحشرنّ عظامي بعد إذ بليت

يوم الحساب وفيها حبّكم علق

وسئل: هل يتسلى المبتلى عن حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشأ يقول: من السريع

والله لو أنك توجتني

بتاج كسرى ملك المشرق

ولو بأموال الورى جدت لي

أموال من باد، ومن قد بقي

وقلت لي لا نلتقي ساعة

اخترت يا مولاي أن نلتقي

وسئل: هل يعرف المحب أنه محب؟ قال: نعم، إذا كتم حبه، ثم ظهر عليه مع كتمانه.

وأنشد: من البسيط

قد يسحب الناس أذيال الظنون بنا

وفرّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذبٌ قد رمى بالظن غرّكم

وصادق ليس يدري أنه صدقا

ص: 182

قال زيد بن رفاعة الهاشمي: سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله: من الطويل

يقول خليلي كيف صبرك عنهم

فقلت وهل صبر فتسأل عن كيف

بقلبي هوى أذكى من النار حرّه

وأخلى من التقوى وأمضى من السيف

قال أبو جعفر الفرغاني: كنت أنا وأبو العباس بن عطاء، وأبو محمد الجريري جلوساً عند الجنيد، إذ أقبل الشبلي وهو متغير، فلم يتكلم مع أحد، وقصد الجنيد، فوقف على رأسه، وصفق بيديه، وقال: من الخفيف

عوّدوني الوصال والوصل عذب

ورموني بالصّدّ والصدّ صعب

لا وحسن الخضوع عند التلاقي

ما جزا من يحبّ الاّ يحبّ

قال: فضرب الجنيد برجله الأرض وقال: هو ذاك يا أبا بكر، هو ذاك! قال عامر الدينوري: كنت جالساً عند الشبلي، فاجتاز أبو بكر بن داود الأصبهاني، فسلم عليه. فقال له الشبلي: أنت الذي أنشدت لك وحقيقة: من الخفيف

موقف للرقيب لا أنساه لست أخشى.

ص: 183

مرحباً بالرقيب من غير وعدٍ

جاء يجلو عليّ من أهواه

لا أحبّ الرّقيب إلاّ لأني

لا أرى من أحبّ حتى أراه

فقال ابن داود: ما علمت أن لله فيها إشارة حتى نبهني الشبلي عليها.

وسئل الشبلي عن حقيقة التوكل، فقال: حفظ العبد حركات همته من الطلب بما ضمنه الباري عز وجل من رزقه.

وقال الشبلي: ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.

وقال: ذكر الغفلة يكون جوابه اللعن. وأنشد: من البسيط

ما إن ذكرتك إلاّ همّ يلعنني

ذكري وسري وفكري عند ذكراكا

حتى كأن رقيباً منك يهتف بي

إياك ويحك والتذكار إياكا

وقال: ليس مع العالم إلا ذكر؛ قال الله تعالى: " إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمِين ".

وسئل: من أقرب أصحابك إليك؟ قال: ألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله.

قال أبو نصر محمد بن علي الطوسي: سمعت الشبلي يوماً في مجلسه، وقد غلبه حاله، جثا على ركبتيه وهو يقول: من الطويل

إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا

كفى لمطايانا بذكرك هاديا

وقطع المجلس.

وسمعته يوماً ينشد وهو في مثل هذه الحال: من الطويل

إذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ

وعارض فيك الشكّ أثبتك القلب

ولو أن ركباً أمّموك لقادهم

نسيمك حتى يستدلّ بك الركب

فقطع المجلس أيضاً بمثل هذا.

ص: 184

وسئل الشبلي عن التصوف فقال: ترويح القلوب بمرواح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبشر في اللقاء.

وقال السلمي: سمعت

والسجزي يقولان: بلغنا أن رجلاً قال للشبلي من أصحابك؟ وهم في المسجد الجامع فقال الشبلي: مر بنا إليهم، فمر الرجل معه حتى دخل المسجد، فرأى الشبلي قوماً عليهم المرقعات والفوط، فقال؛ هؤلاء هم؟ قال: نعم. فأنشأ يقول: من الكامل

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

قال عيسى بن علي الوزير: دخل الشبلي على أبي، فدفع إليه صرة فيها أربعون ديناراً، فقال له: خذ هذه نفقة للصوفية. فأخذها وخرج. فقيل لأبي: إنه عبر على الجسر، فرأى رجلاً صوفياً قد وقف على دكان الحجام يقول له: قد احتجت إليك ساعة، أتفعل ذلك من أجل الله؟ فقال له: ادخل، فدخل إليه، فأصلح وجهه، وحلق رأسه، وحجمه، والشبلي بباب الدكان، فلما فرغ وجاء الرجل ليخرج قال الشبلي للحجام: خذ هذه الصرة أجرة خدمتك لهذا الرجل، فقال الحجام: إنما فعلت ذلك من أجل الله، فقال له: إن فيها أربعين ديناراً! فقال الحجام: ما أنا بالذي أحل عقداً عقدته بيني وبين الله بأربعين ديناراً. فلطم الشبلي وجهه وقال: كل أحد خير من الشبلي حتى الحجام.

قال أحمد بن جعفر السيرواني: دخلت أنا وفقير على الشبلي، فسلمنا عليه، فقال: إلى أين تريدان؟ فقلنا: البادية، فقال: على أي حكم؟ فقال صاحبي: على حكم الفقراء، فقال: احذروا ألا تسبقكم همومكم، ولا تتأخر!

ص: 185

قال أبو الحسن السيرواني: فجمع لنا العلم كله في هذه الكلمة.

قال أبو حاتم الطبري: سمعت أبا بكر الشبلي يقول في وصيته: وإن أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها فانظر إلى مزبلة، فهي الدنيا، فإذا أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفاً من تراب، فإنك منها خلقت، وفيها تعود، ومنها تخرج. ومتى أردت أن تنظر ما أنت فانظر إلى ما يخرج منك في دخولك الخلاء، فمن كان حاله كذلك لا يجوز أن يتطاول ويتكبر على من هو منه.

قال أبو طالب العلوي: كنت مع الشبلي بباب الطاق، فجاء رجل راكب، وبين يديه غلام، فقال رجل لرجل: من هذا؟ قال: صقعان الأمير ومسخرته، فغدا الشبلي، فقبل فخذه، فرمى الرجل نفسه من الفرس فقال: يا سيدي، أحسبك ما عرفتني! قال: بلى قد عرفتك، أنت تأكل الدنيا بما تساويه، اركب، فأنت خير ممن يأكل الدنيا بالدين.

قال أبو بكر الرازي: سمعت الشبلي يقول: ما أحوج الناس إلى سكرة تفنيهم عن ملاحظات أنفسهم، وأفعالهم، وأحوالهم، والأكوان وما فيها. وأنشد: من الطويل

وتحسبني حيّاً وإنّي لميّت

وبعضي من الهجران يبكي على بعضي

وسئل عن متابعة الإسلام، فقال: أن تموت عنك نفسك.

وقال: ليس في الوقت مرح، الوقت جد كله.

وقال: من فني عن نفسه وقام الحق بتوليه لا ينكر له تقليب الأعيان، واتخاذ المفقود.

ص: 186

وقال: احذر أماكن الاتصال، فإنه خدع كلها، وقف بحيث وقف العوام تسلم.

وقال: لا أشك إلا أني قد وصلت، ولا أشك إلا أن الوصل دوني، ولكن أبكي. ثم أنشأ يقول: من الوافر

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

فتسخن عينه عند التنائي

وتخسن عينه عند التلاقي

وسئل الشبلي: ما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة، لأن الحيلة إما رشوة، أو قرار، وهما بعيدان عن طرق الحقيقة، فاطلب الدواء من حيث جاء الداء، فلا يقدر على شفائك إلا من أعلك وأنشد: من البسيط

إنّ الذين بخيرٍ كنت تذكرهم

هم أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا

لا تطلبن دواء عند غيرهم

فليس يحييك إلا من توفاكا

واجتاز الشبلي بدرب سليمان عند الجسر في شهر رمضان، فسمع البقلي ينادي: من كل لون. فحال لونه، وأخذه السماع، وأنشأ يقول: من المتقارب

فيا ساقي القوم لا تنسني

ويا ربّة الخدر غنّي رمل

وقد كان شيء يسمّى السرور

قديماً سمعنا به ما فعل

خليليّ إن دام هذا الصّدود

على ما أراه سريعاً قتل

وفي رواية:

خليليّ إن دام همّ النفوس

على ما تراه قليلاً قبل

مؤمّل دنيا لتبقى له

فمات المؤمّل قبل الأمل

ص: 187

وقال الشبلي: لولا أن الله خلق الدنيا على العكس لكان منفعة الإهليلج في اللوزينج.

وقال: كن مع مولاك مثل الصبي مع أمه؛ تضربه ويمسكها، ويقول: يا أمي لا أعود.

وقال: ما ظنك بمعان هي شموس كلها، بل الشموس فيها ظلمة.

وقيل له: يا أبا بكر، الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه، فيؤاخذ عليه، لم هذا؟! فأنشأ يقول: من الرمل

ربّ ورقاء هتوفٍ بالضحى

ذات شجوٍ صدحت في فنن

ذكرت إلفاً ودهراً صالحاً

فبكت حزناً فهاجت حزني

فبكائي ربما أرّقها

وبكاها ربما أرّقني

ولقد تشكو فما أفهمها

ولقد أشكو فما تفهمني

غير أنّي بالجوى أعرفها

وهي أيضاً بالجوى تعرفني

وقال الشبلي: الوجد اصطلام. ثم قال:

الوجد عندي جحود

ما لم يكن عن شهود

وشاهد الحق عندي

يفني شهود الوجود

قال السلمي: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي ليلة في مجلس سماع، وحضره المشايخ، فغنى قوال شيئاً، فصاح

ص: 188

الشبلي والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر، أليس هؤلاء يسمعون معك؟ مالك من بين الجماعة؟ فقام، وتواجد، وأنشأ يقول: من الكامل

لو يسمعون كما سمعت حديثها

خرّوا لعزة ركّعاً وسجودا

وقال: من البسيط

لي سكرتان وللندمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

قال: وسمعت أبا العباس البغدادي يقول: كنا جماعة من الأحداث نصحب أبا الحسين بن أبي بكر الشبلي، وهو حدث، ونكتب الحديث، فأضافنا ليلة أبو الحسين، فقلنا: بشرط ألا يدخل علينا أبوك، فقال: لا يدخل. فدخلنا داره، فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة، ثماني شموع. فجاء وقعد في وسطنا، فاحتشمنا منه، فقال: يا سادة عدوني فيما بينكم طست شمع. ثم قال: أين غلامي أبو العباس؟ فتقدمت إليه، فقال لي: غنّ الصوت الذي كنت تغني: من الهزج

ولما بلغ الحير

ة حادي جملي حارا

فقلت احطط بها رحلي

ولا تحفل بمن سارا

فغنيته، فألفى الشموع من يده وخرج.

قال أبو يعقوب الخراط: كنت في حلقة الشبلي، فبكى رجل حتى علا صوته، وبكى الشبلي وأهل الحلقة ببكائه، وأنشأ يقول: من السريع

أنافعي دمعي فأبكيكا

هيهات مالي طمع فيكا

لو كنت تدري بالذي نالني

أقصرت عن بعض تجنيكا

وقيل للشبلي: كم تهلك نفسك بهذه الدعاوى، ولا تدعها! فقال: من المنسرح

ص: 189

إني وإن كنت قد أسأت بي ال

يوم لراج للعطف منك غدا

أستدفع الوقت بالرجاء وإن

لم أر منكم ما أرتجي أبدا

أغرّ نفسي بكم وأخدعها

نفسٌ ترى الغيّ فيكم رشدا

وسئل: هل يقع بين الإلفين تهاجر؟ فقال: يزاد رشدا، ثم أنشأ يقول: من الوافر

هجرتك لا قلىً مني ولكن

رأيت بقاء ودك في الصدود

كهجر الحائمات الورد لمّا

رأت أنّ المنية في الورود

وسئل عن قوله تعالى: " وللهِ على النَّاسِ حجُّ البيتِ "، فوصفه بصفة تضبط عنه، ثم قال: من الخفيف

لست من جملة المحبّين إن لم

أجعل القلب بيته والمقاما

وطوافي إجالة السرّ فيه

وهو ركني إذا أردت استلاما

قال أبو السري: وقفت يوم عيد على حلقة الشبلي، والناس عليه، فجاء حدثٌ من أولاد الوزراء حسن الوجه والزي، وكثر الناس. فلما رآه الشبلي قال: من نظر اعتباراً سلم، ومن نظر اختياراً فتن. ثم قال له: مر من عندي وإلا أخرق ثيابك.

قال أبو الحسن علي بن محمد بن أي صابر الدلال: وقفت على الشبلي قي قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجهاً منه يعرف بابن مسلم، فقال له: تنح، فلم يبرح، فقال له الثانية: تنح يا شيطان عنا، فلم يبرح، فقال له الثالثة: تنح، وإلا والله خرقت كل ما عليك، وكان عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كبيرة. فانصرف الفتى.

ص: 190

وقيل: خرج الشبلي يوماً من منزله وعليه خريق وأطمار، فقيل له: ما هذا؟ فقال: من الطويل

فيوماً ترانا في الخزوز نجرّها

ويوماً ترانا في الحديد عوابسا

ويوماً ترانا في الثريد نبسه

ويوماً ترانا نأكل الخبز يابسا

وقال الشبلي: ضاق صدري ببغداد، فضاقت علي أوقاتي، فوقع لي أن أنحدر إلى البصرة، فاكتريت سمارية، وركبت فيها، فلما بلغت البصرة، وخرجت من السمارية زاد علي ما كنت أجده ببغداد أضعاف ذلك. فركبت تلك السمارية، ورجعت إلى بغداد، فلما بلغت دار الخليفة إذا جارية تغنيى له في التاج: من الطويل

أيا قادماً من سفرة البحر مرحباً

أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا

قدمت على قلبي كما قد تركته

كئيباً حزيناً بالصّبابة متعبا

فلما سمعت غناءها طرحت نفسي في دجلة، فقيل: أدركوا الرجل! فأخذت إلى الشط، فقال المقتدر: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر الشبلي؛ فحملت إليه، ووقفت بين يديه، فقال: يا أبا بكر، تبلغنا عنك في كل وقت أعاجيب فما هذا؟، فقصصت عليه القصة، وخرجت.

وفي رواية: فصاح صيحة، ووقع في دجلة مغشياً عليه، فقال الخليفة: الحقوه، واحملوه، فحمل إلى بين يديه، فقال له: أمجنون أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كان من أمري كيت وكيت، فتحيرت فيما هو يجري علي. فبكي الخليفة مما رأى من حرقته.

قال أبو الصقر الصوفي: دخلت على شيخ من شيوخنا أهنئه يوم عيد، فرأيت عنده نخالة وهندباء وخلاً، فشغل ذلك قلبي، فخرجت من عنده، ودخلت على أحد أرباب الدنيا، فذكرت ذلك له، فدفع إلي صرة فيها دراهم، فقال: احملها إليه.

ص: 191

فعدت ودخلت إليه، فأخبرته، فقال: وما الذي رأيت من حالي؟ قلت: رأيت هندباء وخلاً ونخالة. فقال: كأنك افتقدت منزلي، وكذلك لو كانت في بيتي حرمة أكنت تفتقدها؟ قم فاخرج! أشهد لا كلمتك شهراً. قال: فخرجت، فنطح الباب وجهي، ففتحته، فمسحت الدم ومشيت. فلقيني الشبلي، فقلت: يا أبا بكر، رجل مشى في طاعة الله ينطح وجهه، ما يوجب هذا؟ قال: لعله أراد أن يجيء إلى شيء صاف فيكدره.

وقال للشبلي رجل: يا أبا بكر، اليوم يوم العيد، فأنشأ يقول: من البسيط

الناس بالعيد قد سرّوا وقد فرحوا

وما سررت به والواحد الصمد

لمّا تيقنت أنّي لا أعاينكم

غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد

قال السلمي: وبلغني أن الشبلي كان واقفاً على قبر الجنيد، فسئل عن مسألة، فنظر إلى الرجل، ونظر إلى القبر، وقال: من الطويل

وإني لأستحييه والترب بيننا

كما كنت أستحييه حين يراني

وقيل له: إن فلاناً رجلاً من أصحابه مات فجاءة، فقال: من الطويل

قضى الله في القتلى قصاص دمائهم

ولكن دماء العاشقين جبار

ومات أخ من إخوان الشبلي، فعز عليه، فرجع من جنازته وهو يقول: من الكامل

سأودّع الإحسان بعدك والنّهى

إذ حال منك البين والتوديع

ولأستقلّ لك الدموع صبابةً

ولو أن دجلة لي عليك دموع

ص: 192

وحكايات الشبلي رحمه الله كثيرة في إنشاده للشعر الحسن، والتمثل به، والطرب عليه، والتواجد من سماعه.

وأنشد: من البسيط

كادت سرائر سرّي أن تشير بما

أوليتني من سرورٍ لا أسمّيه

فصاح بالسر سرّ منك ترقبه

كيف السرور بسرّ دون مبديه

فظل يلحظني فكري لألحظه

والحق يلحظني أن لا أراعيه

وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي

وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه

وقال: من الطويل

وكم كذبةٍ لي فيك لا أستقلّها

أقول لمن ألقاه إنّي صالح

وأيّ صلاحٍ بي وجسمي ناحلٌ

وقلبي مشغوفٌ ودمعي سافح

وقال: من الطويل

ذكرتك لا أنّي نسيتك لمحةً

وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

وكدت بلا وجدٍ أموت من الهوى

وهام عليّ القلب بالخفقان

فلما أراني الوجد أنك حاضرٌ

شهدتك موجوداً بكل مكان

فخاطبت موجوداً بغير تكلم

ولاحظت معلوماً بغير عيان

وقال: من البسيط

إنّي عجبت وما في الحبّ من عجبٍ

فيه الهموم وفيه الوجد والكلف

أرى الطريق قريباً حين أسلكه

إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف

قال جعفر الخلدي: أحسن أحوال الشبلي أن يقال له مجنون.

ص: 193

وقال الشبلي: من الخفيف

كلما قلت قد دنا حلّ قيدي

قدّموني وأوثقوا المسمارا

وقال لأصحابه ذات يوم: ألست عندكم مجنوناً وأنتم أصحاء؟ زاد الله في جنوني، وزاد في صحتكم. ثم قال: من البسيط

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم

ما لذّة العيش إلا للمجانين

وقال أيضاً: من الخفيف

بي جنون الهوى وما بي جنون

وجنون الهوى جنون الجنون

قال أبو نصر الهروي: كان الشبلي يقول: إنما يحفظ هذا الجانب بي يعني من الديالمة فمات هو يوم الجمعة، وعبرت الديالمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت. مات هو وعلي بن عيسى في يوم واحد.

قال منصور بن عبد الله: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه، فقالوا: كيف نجدك يا أبا بكر؟ فقال:

إن سلطان حبه

قال لا أقبل الرّشا

فسلوه ت فديته

لم بقلبي تحرشا

وسأل جعفر بن نصير بكران الدينوري وكان يخدم الشبلي: ما الذي رأيت منه؟ فقال: قال لي: علي درهم مظلمة، وتصدقت عن صاحبه بألوف، فما على قلبي

ص: 194

شغل أعظم منه. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته، وقد أمسك على لسانه، فقبض على يدي، وأدخلها في لحيته، ثم مات. فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟ وفي رواية: ما يمكن أن يقال في رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء في وقت نزع روحه.

وقيل: دخل عليه قوم من أصحابه وهو في الموت، فقالوا: قل لا إله إلا الله. فأنشا يقول: من المديد

إنّ بيتاً أنت ساكنه

غير محتاجٍ إلى السّرج

وجهك المأمول حجتنا

يوم يأتي الناس بالحجج

لا أتاح الله لي فرجاً

يوم أدعو منك بالفرج

وقال بكير صاحب الشبلي: وجد الشبلي في يوم الجمعة آخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفة من وجع كان به، فقال: تنشط نمشي إلى الجامع؟ قلت: نعم. فاتكأ عل يدي حتى انتهيت إلى الوراقين من الجانب الشرقي، فتلقانا رجل جاء من الرصافة، فقال بكير؟ قلت: لبيك، قال: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. ثم مضينا، وصلينا، ثم عدنا. فتناول شيئاً من الغداء، فلما كان الليل مات رحمه الله فقيل: في درب السقائين رجل شيخ صالح يغسل الموتى. قال: فدلوني عليه في سحر ذلك اليوم. فنقرت الباب نقراً خفياً، فقلت: سلام عليكم، فقال: مات الشبلي؟ قلت: نعم، فخرج إلي، فإذا به الشيخ، فقلت: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، تعجباً. ثم قلت: لي الشبلي أمس لما التقينا بك في الوراقين: غداً يكون لي مع هذا الشيخ شأن. بحق معبودك، من أين لك أن الشبلي قد مات؟ قال: يا أبله، فمن أين للشبلي أنه يكون له معي شأن من الشأن اليوم؟!

ص: 195