الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
586 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ إِلَى خَمْسَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
586 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوْ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ: أَعْنِي (فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ) : أَيْ: مِنَ الْفَيْءِ (إِلَى خَمْسَةِ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا أَمْرٌ مُخْتَلِفٌ فِي الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي طُولِ الظِّلِّ وَقِصَرِهِ هُوَ زِيَادَةُ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ وَانْحِطَاطِهَا، فَكُلَّمَا كَانَتْ أَعْلَى وَإِلَى مُحَاذَاةِ الرُّءُوسِ أَقْرَبَ كَانَ الظِّلُّ أَقْصَرَ، وَبِالْعَكْسِ. وَلِذَلِكَ ظِلَالُ الشِّتَاءِ أَبَدًا أَطْوَلُ مِنْ ظِلَالِ الصَّيْفِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَهُمَا مِنَ الْإِقْلِيمِ الثَّانِي، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ الظِّلَّ فِي أَوَّلِ الصَّيْفِ فِي شَهْرِ آذَارَ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ وَشَيْءٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْوَقْتِ الْمَعْهُودِ، فَيَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ، وَأَمَّا الظِّلُّ فِي الشِّتَاءِ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي تِشْرِينَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَقْدَامٍ أَوْ خَمْسَةٌ وَشَيْءٌ، وَفِي الْكَانُونِ سَبْعَةُ أَقْدَامٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَشَيْءٌ، فَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنَزَّلٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ دُونَ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَالْبُلْدَانِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْإِقْلِيمِ الثَّانِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ: اضْطَرَبُوا فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: وَكَانَ يُؤَخِّرُ فِي الصَّيْفِ إِلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُ الظِّلِّ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، وَلِلنَّسَائِيِّ: فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ، وَالَّذِي عِنْدِي فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الصَّيْفِ بَعْدَ نِصْفِ الْوَقْتِ، وَفِي الشِّتَاءِ أَوَّلَهُ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ حَدُّ الْإِبْرَادِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِلْإِبْرَادِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى فِي الْإِبْرَادِ عَنْ نِصْفِ الْوَقْتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
587 -
عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي:«كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْر َ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْفَيْءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ بِالسِتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(2)
بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ
وَفَى نُسْخَةٍ: الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا جِنْسُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّلَاةِ تَعْجِيلُهَا وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيِّرَاتِ} [البقرة: 148] إِلَّا مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهَا.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
587 -
(عَنْ سَيَّارِ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ (بْنِ سَلَامَةَ) : بَصْرِيٌّ تَمِيمِيٌّ، مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا الْعَالِيَةَ، وَسَمِعَ مِنْهُ عَوْفٌ، وَشُعْبَةُ (قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (الْأَسْلَمِيِّ) : هُوَ نَضْلَةُ بْنُ عُبِيدٍ (فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟) : أَيِ: الْمَفْرُوضَةَ بِاعْتِبَارِ أَوْقَاتِهَا (فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ) : فِي النِّهَايَةِ: الْهَجْرُ وَالْهَاجِرُ اشْتِدَادُ الْحَرِّ فِي نِصْفِ النَّهَارِ (الَّتِي تَدْعُونَهَا) : أَيْ: تُسَمُّونَهَا. فِي الْفَائِقِ: أَنَّثَ صِفَةَ الْهَجِيرِ أَعْنِي: الْمَوْصُولَ ; لِكَوْنِ الصَّلَاةِ مُرَادَةً، وَقِيلَ: أَنَّثَهَا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْهَاجِرَةِ أَوِ التَّقْدِيرُ: صَلَاةُ الْهَجِيرِ، وَقِيلَ: الْهَجِيرُ هُوَ صَلَاةُ الظُّهْرِ فِي لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي الْهَاجِرَةِ (الْأُولَى) : فِي النِّهَايَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ وَصُلِّيَتْ. وَقَالَ الْقَاضِي: لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ يَعْنِي الْعُرْفِيَّ (حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ مِنْ: دَحَضَتْ رَحْلُهُ إِذَا زَلِقَتْ، أَيْ تَزُولُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ
الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا انْحَطَّتْ لِلزَّوَالِ كَأَنَّهَا دَحَضَتْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: غَرَضُ الرَّاوِي أَنْ يِعْرِفَ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ الْهَجِيرَ وَالْأُولَى وَالظُّهْرَ وَاحِدٌ (وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ) : أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ (أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ) : أَيْ: مَنْزِلِهِ (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : صِفَةٌ لِرَحْلِهِ، وَلَيْسَ بِظَرْفٍ لِلْفِعْلِ. أَيِ: الْكَائِنُ فِي أَبْعَدِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ: أَيْ: صَافِيَةُ اللَّوْنِ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالِاصْفِرَارِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: حَيَاةُ الشَّمْسِ مُسْتَعَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ لَوْنِهَا وَقُوَّةِ ضَوْئِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْمَغِيبَ مَوْتَهَا (وَنَسِيتُ) : أَيْ: قَالَ سَيَّارُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: قَالَ عَوْفٌ، قِيلَ هُوَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ وَهُوَ سَهْوٌ، إِذْ هُوَ رَاوٍ عَنْ سَيَّارٍ (مَا قَالَ) : أَيْ: أَبُو بَرْزَةَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَعَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ سَيَّارًا (فِي الْمَغْرِبِ) : أَيْ: فِي حَقِّ صَلَاتِهِ (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَانَ يُصَلِّي (يَسْتَحِبُّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ (أَنْ يُؤَخِّرَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ (الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ) : قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَتَمَةُ هِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي بَعُدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَائِدَةُ الْوَصْفِ هَنَا نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الْأَوَّلِ، وَلِمَا يَأْتِي أَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهَا إِلَّا بِالْعَتَمَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْعِشَاءِ عَتَمَةً الَّتِي هِيَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، الْحَدِيثَ. وَتَسْمِيَتُهَا عَتَمَةً فِي خَبَرِ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي الصُّبْحِ وَالْعَتَمَةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ النَّهْيَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورِ لِلتَّنْزِيهِ، أَوْ أَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ لَهَا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ، وَإِنْكَارُ الْأَصْمَعِيِّ لَهُ غَلَطٌ فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِهِ اهـ.
وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. (وَكَانَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا) : لِخَوْفِ الْفَوْتِ (وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) : أَيِ: التَّحَدُّثَ بِكَلَامِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ عَلَى عِبَادَةٍ، وَآخِرُهُ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، أَكْثَرُهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا، وَبَعْضُهُمْ رَخَّصَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَدْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. قَالَ: لَأَنْ أَنَامَ عَنِ الْعِشَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللَّغْوِ بَعْدَهَا، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمُ التَّحَدُّثَ فِي الْعِلْمِ، وَفِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْحَوَائِجِ وَمَعَ الْأَهْلِ وَالضَّيْفِ. وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَضَ بَيْتَ شِعْرٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» " وَخُصَّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ الْمَذْمُومِ، وَفِي خَبَرِ أَحْمَدَ:«لَا سَمَرَ إِلَّا لِمُصَلٍّ وَمُسَافِرٍ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمِنَ الْمُحَرَّمِ قِرَاءَةُ نَحْوِ: سِيرَةِ الْبَطَّالِ، وَعَنْتَرَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فِي خَيْرٍ أَوْ لِعُذْرٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ (وَكَانَ يَنْفَتِلُ) : أَيْ: يَنْصَرِفُ أَوْ يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَأْمُومِينَ (مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ) : أَيِ: الصُّبْحِ (حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ) : أَيْ: مُجَالِسَهُ بِجَنْبِهِ (وَيَقْرَأُ) : أَيْ: فِي الصُّبْحِ (بِالسِتِّينَ) : أَيْ: آيَةً، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ (إِلَى الْمِائَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا أَنْسَبُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
(وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ (وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) : بَلْ يَسْتَحِبُّهُ لِمَا تَقَدَّمَ (وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
588 -
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ:«سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ: إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
588 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: ثِقَةٌ مِنَ الرَّابِعَةِ (قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ) : أَيْ: أَوْقَاتِ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ) : أَيْ: جَابِرُ (كَانَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ) : أَيْ. شِدَّةِ الْحَرِّ يَعْنِي بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَقِيلَ أَيْ: فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ (وَالْعَصْرَ) : أَيْ: وَيُصَلِّي الْعَصْرَ (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) : أَيْ: بَاقِيَةٌ عَلَى ضَوْئِهَا (وَالْمَغْرِبَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ (إِذَا وَجَبَتْ) : أَيْ: سَقَطَتِ الشَّمْسُ فِي الْمَغِيبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] . وَهَذَا غَفْلَةٌ مِنْهُ عَنْ ذِكْرِهَا فِي قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ. قَالَ الْفَائِقُ: أَصْلُ الْوُجُوبِ السُّقُوطُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وَالْمُرَادُ بِسُقُوطِهَا غَيْبُوبَةُ جَمِيعِهَا (وَالْعِشَاءَ) : نُصِبَ لِمَا مَرَّ (إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَتَانِ الشُّرْطِيَّتَانِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ حَالَانِ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: يُصَلِّي الْعِشَاءَ مُعَجَّلًا إِذَا كَثُرَ النَّاسُ، وَمُؤَخَّرًا إِذَا قَلُّوا، أَوْ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَا مِنَ الْمَفْعُولِ، وَالرَّاجِعُ مُقَدَّرٌ أَيْ عَجَّلَهَا أَوْ أَخَّرَهَا اهـ. وَالتَّقْدِيرُ مُعَجَّلَةٌ وَمُؤَخَّرَةٌ. (وَالصُّبْحَ) : بِالنَّصْبِ (بِغَلَسٍ) : الْغَلَسُ: بِفَتْحَتَيْنِ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِضَوْءِ الصَّبَاحِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
589 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «قَالَ: إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
ــ
589 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَهِيَ جَمْعُ الظَّهِيرَةِ مِنَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِهَا الظُّهْرَ وَجَمْعُهَا إِرَادَةُ الظُّهْرِ كُلَّ يَوْمٍ (سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا) : قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهَا الثِّيَابُ الْمَلْبُوسَةُ، وَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الثِّيَابُ الْمُصَلَّى عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُجِزِ السُّجُودَ عَلَى ثَوْبٍ أَنْتَ لَابِسُهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابٍ يَعْنِي ظَاهِرًا (اتِّقَاءَ الْحَرِّ) : مَفْعُولٌ لَهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِبْرَادَ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالسَّجْدَةُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ تَرْتَفِعُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشِّيعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
590 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» ".
ــ
590 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ ") : أَيْ: بِصَلَاةِ الظُّهْرِ.
591 -
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ فَمِنْ سَمُومِهَا وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا» .
ــ
591 -
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " بِالظُّهْرِ ") : أَيْ: أَدْخِلُوهَا فِي وَقْتِ الْبَرْدِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ (فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) : بِفَاءٍ ثُمَّ يَاءٍ ثُمَّ حَاءٍ أَيْ: نَفْسِهَا أَوْ حَرَارَتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ سُطُوعُ حَرِّهَا وَانْتِشَارُهَا اهـ. إِذِ الْفَيْحُ الْوُسْعُ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْوَاوُ مِنْ فَاحَ يَفُوحُ، فَهُوَ فَيْحٌ كَهَانَ يَهُونُ فَهُوَ هَيِّنٌ فَخُفِّفَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، قِيلَ: مَنْدُوبٌ لِطَالِبِ الْجَمَاعَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: التَّعْجِيلُ أَوْلَى لِحَدِيثِ خَبَّابٍ أَنَّهُ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا، وَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ: لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا وَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فِي التَّأْخِيرِ» اهـ. وَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالتَّأْخِيرُ يُقَيَّدُ إِلَى آخِرِ
الْوَقْتِ لِئَلَّا يُعَارَضَ. (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا) : جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْأُولَى، وَإِنْ دَخَلَتِ الْوَاوُ بَيْنَ الْمُبَيِّنِ وَالْمُبَيَّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ} [البقرة: 74](فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ يَكُونَ مَجَازًا فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ (فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ) : أَيْ: فِيهَا (نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) : أَنَّ الْمُرَادَ الْحَقِيقَةُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ نَبَّهَ أَنَّ أَحَدَ النَّفَسَيْنِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشَدُّ الْحَرِّ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشَدُّ الْبَرْدِ بِقَوْلِهِ:(أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) : أَيِ: الْبَرْدِ، وَقَالَ الْقَاضِي: اشْتِكَاءُ النَّارِ مَجَازٌ عَنْ كَثْرَتِهَا وَغَلَيَانِهَا، وَازْدِحَامِ أَجْزَائِهَا بِحَيْثُ يَضِيقُ مَكَانُهَا عَنْهَا، فَيَسْعَى كُلُّ جُزْءٍ فِي إِفْنَاءِ الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَكَانِهِ، وَنَفَسُهَا لَهَبُهَا، أَوْ خُرُوجُ مَا بَرَزَ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنْ نَفَسِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الدُّخَّانِيُّ الَّذِي تُخْرِجُهُ الْقُوَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَيَبْقَى مِنْهُ حَوَالَيِ الْقَلْبِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّهُ كَمَا جَعَلَ مُسْتَطَابَاتِ الْأَشْيَاءِ وَمَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا أَشْبَاهَ نَعِيمِ الْجِنَانِ، لِيَكُونُوا أَمْيَلَ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [البقرة: 25] الْآيَةَ. كَذَلِكَ جَعَلَ الشَّدَائِدَ الْمُؤْلِمَةَ وَالْأَشْيَاءَ الْمُؤْذِيَةَ أُنْمُوذَجًا لِأَحْوَالِ الْجَحِيمِ، وَمَا يُعَذَّبُ بِهِ الْكَفَرَةُ وَالْعُصَاةُ لِيَزِيدَ خَوْفُهُمْ وَانْزِجَارُهُمْ، فَمَا يُوجَدُ مِنَ السَّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، فَمِنْ حَرِّهَا، وَمَا يُوجَدُ مِنَ الصَّرْصَرِ الْمُجَمَّدَةِ فَهُوَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَهُوَ طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَحِيمِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ وُجُوهًا أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: نَفَسٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَجُوزُ الرَّفْعُ، وَقَوْلُهُ: أَشَدُّ بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: ذَلِكَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ السَّيِّدُ: وَيُرْوَى بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَرُوِيَ بِنَصْبِ أَشَدَّ صِفَةٌ لِنَفَسَيْنِ أَوْ بَدَلًا، وَفِيهِ: أَنَّ نَفَسَيْنِ مَجْرُورٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُوِيَ فِي أَشَدَّ النَّصْبُ أَيْضًا، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ أَعْنِي، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (فَمَا) إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمِنَ الْحَرِّ وَمِنَ الزَّمْهَرِيرِ بَيَانٌ لَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ فَمِنْ سَمُومِهَا ") : بِفَتْحِ السِّينِ (وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا) : قَالَ بَعْضُهُمْ: فَعُلِمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ فِي النَّارِ شِدَّةَ الْحَرِّ وَشِدَّةَ الْبَرْدِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنْهُمَا طَبَقَةٌ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَحِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ حَيْثُ أَظْهَرَ آثَارَ الْفَيْحِ فِي زَمَانِ الْحَرِّ، وَآثَارَ الزَّمْهَرِيرِ فِي الشِّتَاءِ لِتَعَوُّدِ الْأَمْزِجَةِ بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَلَوِ انْعَكَسَ لَمْ تَحْتَمِلْهُ ; إِذِ الْبَاطِنُ فِي الصَّيْفِ بَارِدٌ فَيُقَاوِمُ حَرَّ الظَّاهِرِ، وَفِي الشِّتَاءِ حَارٌّ فَيُقَاوِمُ بَرْدَ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ حَرِّ الصَّيْفِ وَبَرْدِ الشِّتَاءِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِأَنْ يَحْفَظَ تِلْكَ الْحَرَارَةَ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ يُرْسِلَهَا عَلَى التَّدْرِيجِ حِفْظًا لِأَبْدَانِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ، وَكَذَا الْبَرْدُ.
592 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
592 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ) : أَيْ: فَيَتَوَجَّهُ (الذَّاهِبُ) : أَيْ: بَعْدَ الْعَصْرِ (إِلَى الْعَوَالِي) : جَمْعُ عَالِيَةٍ، وَهِيَ أَمَاكِنُ مَعْرُوفَةٌ بِأَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَوْضِعٌ عَلَى نِصْفِ فَرْسَخٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: اسْمُ قُرَى مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، وَبَيْنَ بَعْضِهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ (فَيَأْتِيهِمْ) : أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَيْ: إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ فَيَصِلُ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) : أَيْ: لَمْ تَصْفَرَّ (وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ) : ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ، أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، بَيَّنَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَوَالِي فِي الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ مُوهِمٌ لِخِلَافِ الْمَقْصُودِ، وَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي إِلَخْ. كَذَا حَقَّقَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ) : أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا بُعْدُ الْعَوَالِي مِنْ جِهَةِ نَجْدٍ، فَعَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: أَدْنَاهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَأَقْصَاهَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ. وَالْمِيلُ: ثُلُثُ فَرْسَخٍ، وَالْفَرْسَخُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ خُطْوَةً، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ. (أَوْ نَحْوِهِ) : أَيْ: نَحْوِ الْمِقْدَارِ الْمَذْكُورِ أَيْ: قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَبَعْضُ الْعَوَالِي إِلَخْ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
593 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ ; قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ــ
593 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى مَذْكُورٍ حُكْمًا أَيْ: صَلَاةُ الْعَصْرِ الَّتِي أُخِّرَتْ إِلَى الِاصْفِرَارِ (يَجْلِسُ) : حَالٌ (يَرْقُبُ الشَّمْسَ) : أَيْ: يَنْتَظِرُ نُورَهَا (حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ) : أَيِ: الشَّمْسُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: حَتَّى زَائِدَةٌ أَيْ: يَرْقُبُ وَقْتَ اصْفِرَارِهَا (وَكَانَتِ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: قَرُبَتْ مِنَ الْغُرُوبِ (قَامَ) أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ (فَنَقَرَ أَرْبَعًا) : أَيْ: لَقَطَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ سَرِيعًا، فَالنَّقْرُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّرْعَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: عَنْ سُرْعَةِ الْقِرَاءَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا) : أَيْ: ذِكْرًا يُعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ أَوْ لِخُلُوِّ إِخْلَاصِهِ (إِلَّا قَلِيلًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ أَيْ: لَكِنَّهُ فِي زَمَنِ قَلِيلٍ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ بِلِسَانِهِ فَقَطْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الذِّهْنِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالْخَبَرُ بَيَانٌ لِمَا فِي الذِّهْنِ، وَيَجْلِسُ إِلَخْ. جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَإِذَا: لِلشَّرْطِ، وَقَامَ: جَزَاؤُهُ، وَالشَّرْطِيَّةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ: فَنَقَرَ مَنْ نَقْرِ الطَّائِرِ الْحَبَّةِ نَقْرًا. أَيِ الْتَقَطَهَا، وَتَخْصِيصُ الْأَرْبَعِ بِالنَّقْرِ، وَفِي الْعَصْرِ ثَمَانِي سَجَدَاتٍ اعْتِبَارًا بِالرَّكَعَاتِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَصْرَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي فِي وَقْتِ تَعَبِ النَّاسِ مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي مَنْ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ إِلَى الِاصْفِرَارِ فَقَدْ شَبَّهَ نَفْسَهُ بِالْمُنَافِقِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، بَلْ إِنَّمَا يُصَلِّي لِدَفْعِ السَّيْفِ، وَيُبَالِي بِالتَّأْخِيرِ إِذْ لَا يَطْلُبُ فَضِيلَةً وَلَا ثَوَابًا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُخَالِفَ الْمُنَافِقَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.
594 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
594 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الَّذِي تَفُوتُهُ ") أَيْ: لِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ (صَلَاةُ الْعَصْرِ: أَيْ: عَنْ آخِرِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: عَنِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ (فَكَأَنَّمَا وُتِرَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: سُلِبَ وَأُخِذَ (أَهْلَهُ وَمَالَهُ) : بِنَصْبِهِمَا وَرَفْعِهِمَا أَيْ: فَكَأَنَّمَا فَقَدَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ نُقِصَهُمَا. قَالَ السَّيِّدُ: رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِوُتِرَ، وَأُضْمِرَ فِي وُتِرَ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي تَفُوتُهُ، فَالْمَعْنَى أُصِيبَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] أَوْ هُوَ بِمَعْنَى سُلِبَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ وُتِرَ بِمَعْنَى أُخِذَ، فَيَكُونُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ هُوَ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فِي الْفَائِقِ أَيْ: خُرِّبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَسُلِبَ، مِنْ وَتَرْتُ فُلَانًا إِذَا قَتَلْتُ حَمِيمَهُ، أَوْ نُقِّصَ وَقُلِّلَ مِنَ الْوِتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّهُمُ الْمُصَابُونَ الْمَأْخُوذُونَ، فَمَنْ رَدَّ النَّقْصَ إِلَى الرَّجُلِ نَصَبَهُمَا، وَمَنْ رَدَّهُ إِلَى الْأَهْلِ رَفَعَهُمَا اهـ.
أَيْ: نَقَصَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فَبَقِيَ وِتْرًا فَرْدًا بِلَا أَهْلٍ وَمَالٍ، يُقَالُ: وَتَرَهُ حَقَّهُ أَيْ: نَقَصَهُ، قِيلَ مَعْنَاهُ، فَوْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَكْثَرُ خَسَارًا مَنْ فَوْتِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ فَلْيَكُنْ حَذَرُهُ مَنْ فَوْتِهَا كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَابِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ نَبَّهَ بِالْعَصْرِ عَلَى غَيْرِهَا، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى فَتَرْكُهَا أَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ خُصُوصِيَّةٍ لَمْ نُدْرِكْ وَجْهَهَا، وَقِيلَ: وَجْهُ تَخْصِيصِ الْعَصْرِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيَكُونُ فِيهِمَا إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
595 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
595 -
(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ") : أَيْ: عَمْدًا، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَنْ فَاتَتْهُ (حَبِطَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَقَدْ حَبِطَ (عَمَلُهُ) : أَيْ: بَطُلَ كَمَالُ عَمَلِ يَوْمِهِ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يُثَبْ ثَوَابًا مُوَفَّرًا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَتَعْبِيرُهُ بِالْحُبُوطِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ لِلتَّهْدِيدِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. يَعْنِي: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ مَا سَبَقَ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ مَاتَ مُرْتَدًّا لِقَوْلِهِ:" {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217] " بَلْ يُحْمَلُ الْحُبُوطُ عَلَى نُقْصَانِ عَمَلِهِ فِي يَوْمِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَرَّرَ أَنْ يُرْفَعَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ دَلَائِلُ مَشْهُورَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، يَعْنِي: مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَأَمَّا الِارْتِدَادُ فَمُجَرَّدُهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
596 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ:«كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ نَبْلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
596 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا الصُّغْرَى، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَصَابَهُ فِيهِ سَهْمٌ، وَانْتَقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ مَرْوَانَ فَمَاتَ. (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيْ: جَمَاعَةً (فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا) : أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ (وَإِنَّهُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَحَدَنَا (لَيُبْصِرُ) : أَيْ: بَعْدَ الِانْصِرَافِ (مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَسَاقِطَ سَهْمِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي يُصَلِّي الْمَغْرِبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ رُمِيَ سَهْمٌ يُرَى أَيْنَ سَقَطَ. قُلْتُ: وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، قَالَهُ مِيرَكُ.
597 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
597 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانُوا) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ (يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ) أَيْ: صَلَاةَ الْعِشَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. وَلَعَلَّ قَوْلَهَا الْعَتَمَةَ لِلْعِشَاءِ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ اهـ. أَوْ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبِّرْ (فِيمَا بَيْنَ) : أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ (أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ) : أَيْ: وَمَا بَعْدَهُ، وَحُذِفَ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صِحَّةِ (بَيْنَ) لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ (إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ ثُلُثٍ، وَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ فِيمَا بَيْنَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَثُلُثِ اللَّيْلِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَدَّرَ لِمَغِيبِ الشَّفَقِ أَجْزَاءٌ لِيَخْتَصَّ (بَيْنَ) بِهَا، وَنَجْعَلُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ حَالًا مِنْ فَاعِلِ يُصَلُّونَ أَيْ: يُصَلُّونَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُنْتَهِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ تَقَعَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي أَجْزَاءِ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَأَثْنَائِهَا، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا.
598 -
وَعَنْهَا، قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
598 -
(وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ الْخَبَرُ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ أَيْ: لَهُوَ يُصَلِّي (فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ) : أَيِ: اللَّاتِي يُصَلِّينَ مَعَهُ وَكُنُّ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ عَلَى أَعْلَى غَايَةِ الصِّيَانَةِ، فَمَا كَانَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِنَّ وَلَا بِهِنَّ فِتْنَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَمَّا حَدَثَتِ الْفِتَنُ لَهُنَّ وَبِهِنَّ مَنَعَهُنَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةَ: لَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا أَحَدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (مُلْتَفِعَاتٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ: مُسْتَتِرَاتٍ وُجُوهَهُنَّ وَأَبْدَانَهُنَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّلَفُّعُ شِدَّةُ اللِّفَاعِ وَهُوَ مَا يُغَطِّي الْوَجْهَ وَيُتَلَحَّفُ بِهِ (بِمُرُوطِهِنَّ) : الْمِرْطُ: بِالْكَسْرِ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَقِيلَ: الْجِلْبَابُ، وَقِيلَ: الْمِلْحَفَةُ (مَا يُعْرَفْنَ) : مَا: نَافِيَةٌ أَيْ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، وَلَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا (مِنَ الْغَلَسِ) : مِنَ: ابْتِدَائِيَّةٌ بِمَعْنَى لِأَجَلٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الِاتِّسَاعِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الصَّبَاحِ، وَقِيلَ: مِنْ غَلَسِ الْمَسْجِدِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ ظُلْمَتِهِ وَعَدَمِ إِسْفَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَظْهَرُ النُّورُ فِيهِ إِلَّا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا.
599 -
وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى. قُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
599 -
(وَعَنْ قَتَادَةَ) : بَصْرِيٌّ سُدُوسِيٌّ، يُعَدُّ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ تَابِعِي الْبَصْرَةِ، كَانَ أَعْمَى قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا) : أَيْ: أَكَلَا السَّحُورَ (فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا) : بِفَتْحِ السِّينِ اسْمٌ لِمَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَقِيلَ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّحُورُ: بِفَتْحِ السِّينِ هُوَ الْمَحْفُوظُ أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ، وَلَوْ ضُمَّ جَازَ فِي اللُّغَةِ كَالْوَضُوءِ وَالْوُضُوءِ (قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى الصَّلَاةِ) : أَيِ: الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ ذِهْنًا وَهِيَ هُنَا صَلَاةُ الصُّبْحِ (فَصَلَّى) : أَيْ: إِمَامًا وَهُوَ مَعَهُ (قُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ) : أَيِ: الْمِقْدَارُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اشْتُقَّ مِنْهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ أَيْ: أَيُّ زَمَانٍ كَانَ (بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: قَدْرَ) : بِالنَّصْبِ خَبَرٌ لَكَانَ الْمُقَدَّرِ، أَيْ: كَانَ مَا بَيْنَهُمَا قَدْرَ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: الْفَاصِلَةُ قَدْرُ (مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا تَقْدِيرٌ لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْذُ بِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِطْلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ كَانَ رَجُلٌ عَارِفٌ حَاذِقٌ بِدُخُولِ الصُّبْحِ يَقِينًا بِعِلْمِ النُّجُومِ جَازَ لَهُ هَذَا التَّأْخِيرُ أَيْضًا إِلَى هَذَا الْمِقْدَارِ. قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لَهُ الْيَقِينُ مَعَ احْتِمَالِ خَطَئِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ. وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا لَهُ الصِّيَامَ وَالْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِ بِالْهِلَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.
600 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ - أَوْ قَالَ: يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا -؟ قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا. فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ ; فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ.» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
600 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ أَنْتَ ") : أَيْ: كَيْفَ الْحَالُ وَالْأَمْرُ بِكَ (إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ) : جَمْعُ أَمِيرٍ، وَمُنِعَ صَرْفُهُ لِأَلِفِ التَّأْنِيثِ أَيْ: كَانُوا أَئِمَّةً مُسْتَوْلِينَ عَلَيْكَ (يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ) : أَيْ: يُؤَخِّرُونَهَا (- أَوْ يُؤَخِّرُونَهَا ") : أَيِ: الصَّلَاةَ (عَنْ وَقْتِهَا) : أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: شَكُّ أَبُو ذَرٍّ مَحَلُّ بَحْثٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا حَالُكَ حِينَ تَرَى مَنْ هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْكَ مُتَهَاوِنًا فِي الصَّلَاةِ يُؤَخِّرُهَا عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِنْ صَلَّيْتَ مَعَهُ فَاتَتْكَ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ خِفْتَ أَذَاهُ وَفَاتَتْكَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَعَلَيْكَ خَبَرُ كَانَ أَيْ: كَانَ الْأُمَرَاءُ مُسَلَّطِينَ عَلَيْكَ قَاهِرِينَ لَكَ، وَفِي الْحَدِيثِ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ فَكَانَ مُعْجِزَةً (قُلْتُ: فَمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَمَاذَا (تَأْمُرُنِي؟) : أَيْ: فَمَا الَّذِي تَأْمُرُنِي بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (قَالَ: " صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ") : أَيْ: لِوَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ، (فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا) : بِأَنْ حَضَرْتَهَا (مَعَهُمْ، فَصَلِّ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِلَا هَاءٍ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَقَعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَصَلِّهْ عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ، وَالثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فَصَلِّهَا أَيِ الصَّلَاةَ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ يُرْوَى: فَصَلِّ هَكَذَا، وَيُرْوَى: فَصَلِّهَا، وَيُرْوَى: فَصَلِّهِ أَيِ الْفَرْضَ، أَوْ مَا أَدْرَكْتَ أَوْ هُوَ هَاءُ السَّكْتِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لَا نَفْلَ بَعْدَهُمَا، وَالْمَغْرِبُ لَا تُعَادُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ ثُلَاثِيًّا وَإِنْ ضُمَّ إِلَيْهَا رَكْعَةٌ، فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْإِمَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ شَفْعًا فَإِنْ أَعَادَهَا يُكْرَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ فَتُرْفَعُ الْكَرَاهَةُ لِلضَّرُورَةِ؛ إِذِ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَالْمَعْنَى فَصَلِّهَا مَعَهُمْ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْوِي الْإِعَادَةَ أَوِ النَّافِلَةَ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ، وَمِنْ مَنَعَهَا مَحْجُوجٌ بِهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْوِي النَّافِلَةَ لَا الْقَضَاءَ وَلَا الْإِعَادَةَ قَوْلُهُ (فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ) : أَيْ: فَإِنَّهَا لَكَ زِيَادَةُ خَيْرٍ وَعَلَيْهِمْ نُقْصَانُ أَجْرٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالْأَرْبَعَةُ قَالَهُ مِيرَكُ.
601 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ. وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؟ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
601 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً ") : قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَرَادَ رَكْعَةً بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا فَفِيهِ تَغْلِيبٌ (مِنَ الصُّبْحِ) : أَيْ: صَلَاتِهِ (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَالَ مَعْنَاهُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَقْتَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَارَ أَهْلًا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ رَكْعَةٍ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَقَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ; فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ وَقْتُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْحَدِيثُ حَجَّةٌ عَلَيْهِ، وَجَوَابُهُ: مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْجُزْءَ الْمُقَارِنَ لِلْأَدَاءِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَآخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ وَقْتٌ نَاقِصٌ إِذْ هُوَ وَقْتُ عِبَادَةِ الشَّمْسِ، فَوَجَبَ نَاقِصًا فَإِذَا أَدَّاهُ أَدَّاهُ كَمَا وَجَبَ، فَإِذَا اعْتُرِضَ الْفَسَادُ بِالْغُرُوبِ لَا تَفْسُدُ، وَالْفَجْرُ كُلُّ وَقْتِهِ وَقْتٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تُعْبَدُ قَبْلَ طُلُوعِهَا فَوَجَبَ كَامِلًا، فَإِذَا اعْتُرِضَ الْفَسَادُ بِالطُّلُوعِ تَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا وَجَبَ فَإِنَّ قِيلَ هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ! قُلْنَا: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ رَجَعْنَا إِلَى الْقِيَاسِ كَمَا هُوَ حُكْمُ التَّعَارُضِ، وَالْقِيَاسُ رَجَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَحَدِيثَ النَّهْيِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَلَا تَجُوزُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمَكْرُوهَةِ لِحَدِيثِ النَّهْيِ الْوَارِدِ إِذْ لَا مُعَارِضَ لِحَدِيثِ النَّهْيِ فِيهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
602 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ; فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ. وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
602 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً ") : أَيْ: رَكْعَةً إِطْلَاقًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ سُمِّيَتِ الرَّكْعَةُ سَجْدَةً لِإِتْمَامِهَا بِهَا (مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؟ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ) : أَيْ: لِيُكْمِلَهَا بِالْبَاقِيَةِ (وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ) : أَيْ: بِالْقَضَاءِ عِنْدَنَا بِأَنْ يُعِيدَهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا قَبْلَهُ لِعُنْوَانِ الْبَابِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا اسْتِطْرَادًا، أَوْ يُقَالُ فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ أَجْزَاءِ وَقْتِهَا، فَلَا يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَجَّلَهَا فِي الْجُمْلَةِ حَيْثُ أَدَّاهَا قَبْلَ الْفَوْتِ.
603 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
603 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً ") : أَيْ: مَنْ تَرَكَهَا نِسْيَانًا (أَوْ نَامَ عَنْهَا) : ضَمَّنَ نَامَ مَعْنَى غَفَلَ أَيْ: غَفَلَ عَنْهَا فِي حَالِ نَوْمِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ نَامَ غَافِلًا عَنْهَا (فَكَفَّارَتُهَا) : هِيَ فِي الْأَصْلِ فَعَّالَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ صَارَتِ اسْمًا لِلْفَعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ أَيْ: تَسْتُرُ إِثْمَهَا وَتَمْحُوهُ (أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا) : أَيْ: بَعْدَ النِّسْيَانِ أَوِ النَّوْمِ، وَقِيلَ: فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلنِّسْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالذِّكْرِ وَأَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الِاسْتِيقَاظَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّوْمَ لَمَّا كَانَ يُورِثُ النِّسْيَانَ غَالِبًا قَابَلَهُمَا بِالذِّكْرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ لَا يُكَفِّرُهَا غَيْرُ قَضَائِهَا أَوْ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ نِسْيَانِهَا زِيَادَةُ تَضْعِيفٍ وَلَا كَفَّارَةٌ مِنْ صَدَقَةٍ، كَمَا يَلْزَمُ فِي تَرْكِ الصَّوْمِ أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ إِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكٍ فَدِيَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَائِتَةَ الْمُتَذَكَّرَةَ لَا تَتَأَخَّرُ (وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ زَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هَذِهِ الْعِبَارَةَ، لَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَدَلٌ عَلَى الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَقْتَضِي مُشَارًا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا جِيءَ بِالثَّانِيَةِ تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لَهَا كَفَّارَةً غَيْرَ الْقَضَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، قُلْتُ: يَظْهَرُ وَجْهُهُ فِي مُرَاجَعَةِ الْأُصُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : أَيْ: بِرِوَايَتَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ أَيْ: بَقِيَّتُهُمْ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَابِ صِحَاحِ السِّتِّ.
604 -
(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ. فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا ; فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ــ
604 -
(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ فِي النَّوْمِ ") : أَيْ: فِي حَالِهِ (تَفْرِيطٌ) : أَيْ: تَقْصِيرٌ يُنْسَبُ إِلَى النَّائِمِ فِي تَأْخِيرِهِ الصَّلَاةَ (إِنَّمَا التَّفْرِيطُ) : أَيْ يُوجَدُ (فِي الْيَقَظَةِ) : أَيْ: فِي وَقْتِهَا بِأَنْ تَسَبَّبَ فِي النَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَهُ، أَوْ فِي النِّسْيَانِ بِأَنْ يَتَعَاطَى مَا يَعْلَمُ تَرَتُّبَهُ عَلَيْهِ غَالِبًا كَلَعِبِ الشَّطْرَنْجِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مُقَصِّرًا حِينَئِذٍ، وَيَكُونُ آثِمًا (فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا ; فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا ") : أَيْ: بَعْدَ النِّسْيَانِ أَوِ النَّوْمِ (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] : اللَّامُ فِيهِ لِلْوَقْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُصَارَ إِلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَالْمَعْنَى أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِهَا يَعْنِي: وَقْتَ ذِكْرِهَا. قَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَهَا فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ يَعْنِي أَقِمِ الصَّلَاةَ إِذَا ذَكَرْتَنَا، قَالَ: أَوْ يُقَدَّرُ الْمُضَافُ أَيْ لِذِكْرِ صَلَاتِي، أَوْ وُضِعَ ضَمِيرُ اللَّهِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الصَّلَاةِ لِشَرَفِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: لِلذِّكْرَى، وَرَوَاهَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، كَذَا رَوَى النَّسَائِيُّ، وَرَوَى أَيْضًا مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لِلذِّكْرَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْآيَةُ لَمْ تُذْكَرْ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا، بَلْ لِبَعْثِ الْمُكَلَّفِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: فَلْيُصَلِّهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خُوطِبَ الْكَلِيمُ بِذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ وَنِسْبَةِ التَّفْرِيطِ إِلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
605 -
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَا عَلِيُّ! ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا: الصَّلَاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجِنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ لَهَا كُفُؤًا.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
605 -
(عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَا عَلِيُّ! ثَلَاثٌ ") : أَيْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَهُوَ الْمُسَوِّغُ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى ثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ. وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالْجِنَازَةُ وَالْمَرْأَةُ، وَلِذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ (لَا تُؤَخِّرْهَا) : فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ، بَلْ تَعَجَّلْ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:«الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (" الصَّلَاةُ ") : بِالرَّفْعِ أَيْ: مِنْهَا أَوْ إِحْدَاهَا أَوْ هِيَ، فَالرَّبْطُ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (إِذَا أَتَتْ) : بِالتَّاءَيْنِ مَعَ الْقَصْرِ، أَيْ: جَاءَتْ يَعْنِي وَقْتَهَا الْمُخْتَارَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ وَالنُّونِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ أَتَتْ بِالتَّاءَيْنِ، وَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ. وَالْمَحْفُوظُ مِنْ ذَوِي الْإِتْقَانِ آنَتْ عَلَى وَزْنِ حَانَتْ، يُقَالُ: أَنَى يَأْنِي آنًى إِذَا حَانَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ آنَ يَئِينُ أَيْنًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَلَى وَزْنِ حَانَتْ مِنْ آنَ يَئِينُ أَيْنًا إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ، وَقِيلَ: مِنْ أَنَى يَأْنِي بِمَعْنَى حَانَتْ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: إِذَا أَنَتْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنَى يَأْنِي.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ} [الحديد: 16] وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْإِتْيَانِ قِيلَ: وَهُوَ تَصْحِيفٌ وَالْمَحْفُوظُ آنَتْ عَلَى وَزْنِ حَانَتْ وَبِمَعْنَاهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ مِنْ أَنَى يَأْنِي أَيْنًا وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى حَانَ (وَالْجِنَازَةُ) بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَعَ كَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ فِي النَّعْشِ وَالْمَيِّتِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلْأَوَّلِ وَالْفَتْحُ لِلثَّانِي، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لِلْمَيِّتِ فِي النَّعْشِ (إِذَا حَضَرَتْ) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تَكُونُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا إِذَا حَضَرَتْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَأَمَّا إِذَا حَضَرَتْ قَبْلَهَا وَصُلِّيَ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَمَكْرُوهَةٌ، وَكَذَا حُكْمُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ الصُّبْحِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ فَلَا يُكْرَهَانِ مُطْلَقًا (وَالْأَيِّمُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ: الْمَرْأَةُ الْعَزْبَةُ وَلَوْ بِكْرًا (إِذَا وَجَدْتَ) : أَنْتَ أَوْ وَجَدَتْ هِيَ (لَهَا كُفْؤًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، ثَيِّبًا كَانَ أَوْ بِكْرًا، وَالْكُفْؤُ: الْمِثْلُ. وَفِي النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالصَّلَاحِ وَالنَّسَبِ وَحُسْنِ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَهُ مِيرَكُ.
606 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَالْوَقْتُ الْآخَرُ عَفْوُ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
ــ
606 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْوَقْتُ الْأَوَّلُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيِ التَّعْجِيلُ فِيهِ اهـ. وَخُصَّ مِنْهُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَوَّلُ وَقْتِ الْمُخْتَارِ (" مِنَ الصَّلَاةِ ") : بَيَانٌ لِلْوَقْتِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ (رِضْوَانُ اللَّهِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: سَبَبُ رِضَائِهِ كَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَهُوَ خَبَرٌ إِمَّا بِحَذْفِ مُضَافٍ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ سَبَبُ رِضْوَانِ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى رِضَاهُ، أَوْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَيْنُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَالْوَقْتُ الْآخَرُ) : أَيْ: بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجًا عَنِ الْوَقْتِ. أَوِ الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ الْكَرَاهِيَةِ نَحْوُ: الِاصْفِرَارِ فِي الْعَصْرِ، وَالتَّجَاوُزِ عَنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فِي الْعِشَاءِ (عَفْوُ اللَّهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: رِضْوَانُ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهُوَ مُؤَدٍّ إِلَى رِضَاهُ، أَوْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَيِ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ عَيْنُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ، وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ الرَّحْمَةَ تَكُونُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجْرٍ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ: وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ أَيْ: أَنَّ إِبَاحَةَ التَّأْخِيرِ إِلَى وَسَطِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَبَاحَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمُ الْأَدَاءَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ التَّقْسِيمُ يُفِيدُ أَنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ هُوَ الثُلُثُ الْأَوَّلُ مِنْهُ، وَهَكَذَا قِيَاسُ الْبَاقِي فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مُفِيدٌ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَأْخِيرُ الصُّبْحِ إِلَى الْإِسْفَارِ، وَالْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءِ إِلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهَا فَضِيلَةَ انْتِظَارٍ وَتَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ وَنَحْوَهُمَا، وَالْعَفْوُ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْفَضْلِ. قَالَ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] : يَعْنِي: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِكُمْ وَقُوتِ عِيَالِكُمْ، فَالْمَعْنَى فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَضْلُ اللَّهِ كَثِيرٌ اهـ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ أَوْ مُطْلَقٌ، لَكِنَّهُ خُصَّ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ اهـ. وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ الْآتِي فِي الْحَدِيثِ بَعْدُ، قَالَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ ضَعِيفٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، فَلْيُحْمَلْ تَحْسِينُ مَنْ حَسَّنَهُ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
607 -
وَعَنْ أُمِّ فَرْوَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُرْوَى الْحَدِيثُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
ــ
607 -
(وَعَنْ أُمِّ فَرْوَةَ) : أَنْصَارِيَّةٌ: مِنَ الْمُبَايِعَاتِ، وَهِيَ غَيْرُ أُمِّ فَرْوَةَ، أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدَةٌ فَلَا تَكُونُ حِينَئِذٍ أَنْصَارِيَّةً، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟) : أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ بِمَعْنَى " فِي " وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أَيْ وَقْتِ حَيَاتِي لِأَنَّ الْوَقْتَ مَذْكُورٌ، وَلَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ: قَبْلَ عِدَّتِهِمْ لِذِكْرِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُرْوَى الْحَدِيثُ) : أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ (إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ) : أَيْ: ابْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ بْنِ الْخَطَّابِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَهُوَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) : وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ) : قَالَ مِيرَكُ: قَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَمُسْلِمٌ مَوْقُوفًا، وَتَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
608 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى» : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
ــ
608 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً لِوَقْتِهَا الْآخِرِ مَرَّتَيْنِ) : لَعَلَّهَا مَا حَسَبَتْ صَلَاتَهُ مَعَ جِبْرِيلَ لِلتَّعَلُّمِ، وَصَلَاتَهُ مَعَ السَّائِلِ لِلتَّعْلِيمِ (حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى) : يَعْنِي أَنَّ أَوْقَاتَ صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام كُلَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ، إِلَّا مَا وَقَعَ مِنَ التَّأْخِيرِ إِلَى آخِرِهِ نَادِرًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ.
609 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ ـ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
ــ
609 -
(وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ) : أَيِ: الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَزَالُ ") : بِالتَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْفَوْقِيَّةِ (أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ -) : أَيِ: السُّنَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، أَوِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ تَبْدِيلٌ فِي أَرْكَانِهِ وَمُتَمِّمَاتِهِ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ) : أَيْ: تَصِيرَ مُشْتَبِكَةً كَالشَّبَكَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. أَيْ: يَظْهَرُ جَمِيعُهَا وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا كَرَاهَةَ بِمُجَرَّدِ الطُّلُوعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ تَخْتَلِطَ لِكَثْرَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَارَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَعْجِيلَ الْمَغْرِبِ
اهـ. وَمَا وَقَعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ عليه الصلاة والسلام فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَصَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ، قَالَهُ مِيرَكُ.
610 -
وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ.
ــ
610 -
(وَرَوَاهُ) ص: وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَوَى (الدَّارِمِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ) .
611 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
611 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ") أَيْ: لَوْلَا كَرَاهَةُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ (لَأَمَرْتُهُمْ) : أَيْ وُجُوبًا (أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) أَيْ فِي الصَّيْفِ (أَوْ نِصْفِهِ) : أَيْ: فِي الشِّتَاءِ. قَالَ مِيرَكُ: أَوْ يَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَحْتَمِلُ الشَّكَّ مِنَ الرَّاوِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ (وَابْنُ مَاجَهْ) .
612 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
612 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَعْتِمُوا ") : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (بِهَذِهِ الصَّلَاةِ) : أَيِ: الْعِشَاءِ، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ: ادْخُلُوهَا فِي الْعَتَمَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيِ: ادْخُلُوا فِي الْعَتَمَةِ مُلْتَبِسِينَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ أَعْتَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ وَهِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعَتَمَةُ مِنَ اللَّيْلِ مَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَيْ صَلُّوهَا بَعْدَمَا دَخَلْتُمُ الظُّلْمَةَ، وَتَحَقَّقَ لَكُمْ سُقُوطُ الشَّفَقِ، وَلَا تَسْتَعْجِلُوا فِيهَا فَتُوقِعُوهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ، يَعْنِي: بَلْ يَكُونُ بَيَانًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْتَمَ الرَّجُلُ أَيْ قَرَى ضَيْفَهُ فِي اللَّيْلِ إِذَا أَخَّرَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَتْمِ الَّذِي هُوَ الْإِبْطَاءُ. يَعْنِي: فَيَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ إِلَى الثُّلُثِ أَوِ النِّصْفِ لِمَا تَقَدَّمَ (فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدِ النَّسْخُ (وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ) : التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ; إِنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ كَانَتْ تُصَلِّيهَا الرُّسُلُ نَافِلَةً لَهُمْ أَيْ: زَائِدَةً، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَى أُمَمِهِمْ كَالتَّهَجُّدِ، فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، أَوْ نَجْعَلُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْإِسْفَارِ فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ ; يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ تُصَلِّهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تُصَلُّونَهَا مِنَ التَّأْخِيرِ وَانْتِظَارِ الِاجْتِمَاعِ فِي وَقْتِ حُصُولِ الظَّلَامِ وَغَلَبَةِ الْمَنَامِ عَلَى الْأَنَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، قَالَهُ مِيرَكُ.
613 -
«وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ ; صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَالِثَةٍ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
613 -
(وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ النُّونِ (بْنِ بَشِيرٍ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ) : هَذَا مِنْ بَابِ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ السَّامِعِينَ عَلَى اعْتِمَادِ مَرْوِيِّهِ، وَلَعَلَّ وُقُوعَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ غَالِبِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَحُفَّاظِهِمُ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ. (صَلَاةِ الْعِشَاءِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (الْآخِرَةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: الْأَخِيرَةِ؛ صِفَةُ الصَّلَاةِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ) : أَيْ: وَقْتَ غُرُوبِهِ، أَوْ سُقُوطِهِ إِلَى الْغُرُوبِ (لِثَالِثَةٍ) : أَيْ: فِي لَيْلَةٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الشَّهْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِسُقُوطِ الْقَمَرِ أَيْ وَقْتَ غُرُوبِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُقُوطِ الْقَمَرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةِ: لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ بِالنَّصْبِ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: إِضَافَةُ اللَّيْلِ إِلَى الثَّالِثَةِ بِتَأْوِيلِ الْعَشِيَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَعَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَمَرُ غَالِبًا يَسْقُطُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قُرْبَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَفِيهِ أَصْرَحُ دَلِيلٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى الْعِشَاءُ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، فَإِنَّ الْقَمَرَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرُبُ غَيْبُوبَةَ الشَّفَقِ دُونَ الثَّالِثَةِ فَتَدَبَّرْ، فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ صَحِيحٌ.
614 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ ; وَلَيْسَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ.
ــ
614 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ ") : أَيْ: صَلُّوهَا فِي وَقْتِ الْإِسْفَارِ، أَوْ طَوِّلُوهَا إِلَى الْإِسْفَارِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا (فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ صَلُّوهَا مُسْفِرِينَ، وَقِيلَ: طَوِّلُوهَا بِالْقِرَاءَةِ إِلَى الْإِسْفَارِ، وَهُوَ إِضَاءَةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْوَى جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي التَّغْلِيسِ وَالْإِسْفَارِ، قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: هَكَذَا اخْتَارَ الشَّارِحُونَ وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ فِي الْمَذْهَبِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَيَقُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَزَوَالِ الشَّكِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: أَصْبِحُوا بَدَلَ أَسْفِرُوا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّسْخِ لِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْفَرَ مَرَّةً ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِسْفَارِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْمُعْتِمَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ الصُّبْحُ جِدًّا، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى اللَّيَالِي الْقَصِيرَةِ لِإِدْرَاكِ النُّوَّامِ الصَّلَاةَ. «قَالَ مُعَاذٌ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ، وَأَطِلِ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يَطِيقُ النَّاسُ وَلَا تُمِلَّهُمْ، وَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسَ نِيَامٌ، فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا» . ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اهـ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: تَأْوِيلُ الْإِسْفَارِ بِتَيَقُّنِ الْفَجْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ شَكٌّ فِي طُلُوعِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ إِذْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَضْلًا عَنْ إِثَابَةِ الْأَجْرِ عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ مَا يَنْفِيهِ وَهُوَ: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ، فَكُلَّمَا أَسَفَرْتُمْ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَلَيْسَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: " فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ ") .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
615 -
عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تُنْحَرُ الْجَزُورُ فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، ثُمَّ تُطْبَخُ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
615 -
(عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيْ: غَالِبًا أَوْ أَحْيَانًا (ثُمَّ تُنْحَرُ) : بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ التَّذْكِيرُ، وَإِنَّمَا عُبِّرَ بِهِ لِأَنَّهُ السُّنَّةُ فِي الْإِبِلِ وَنَحْوِهِ مِمَّا طَالَ عُنُقُهُ، وَيَجُوزُ فِيهِ الذَّبْحُ (الْجَزُورُ) : وَهُوَ الْبَعِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ مُؤَنَّثَةٌ يُقَالُ: هَذِهِ الْجَزُورُ وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ تَأْنِيثُ تُنْحَرُ (فَتُقْسَمُ) بِالتَّأْنِيثِ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَدَّمَ (عَشْرَ قِسَمٍ) : بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ (ثُمَّ تُطْبَخُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ثُمَّ نَطْبُخُ بِالنُّونِ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمَنَعَ (فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا) : أَيْ: مَشْوِيًّا (قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَخْصِيصِ الْقَسْمِ بِالْعَشْرِ وَالطَّبْخِ بِالنُّضْجِ وَعَطْفِ تُنْحَرُ عَلَى نُصَلِّي إِشْعَارٌ بِامْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَاقِعَةٌ أَوَّلَ الْوَقْتِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي أَوْقَاتِ الصَّيْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَمْكَنَ فِي الْبَاقِي إِلَى الْغُرُوبِ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ، وَمَنْ شَاهَدَ الْمَهَرَةَ مِنَ الطَّبَّاخِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ ذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
616 -
ــ
616 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَكَثْنَا) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَبِثْنَا فِي الْمَسْجِدِ (ذَاتَ لَيْلَةٍ) : أَيْ: لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي (نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِشَاءِ) : ظَرْفٌ لِقَوْلِ: نَنْتَظِرُ أَيْ: نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ (الْآخِرَةِ) : بِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ، وَلَعَلَّ تَأْنِيثَهَا بِاعْتِبَارِ مُرَادِفِ الْعِشَاءِ وَهُوَ الْعَتَمَةُ، وَجُوِّزَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ الصَّلَاةِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ) : أَيْ مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ: عَطْفٌ عَلَى حِينِ ذَهَبَ وَ " أَوْ " شَكٌّ لِلرَّاوِي (فَلَا نَدْرِي: أَشَيْءٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَيُّ شَيْءٍ (شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ) : أَيْ: عَنْ تَقْدِيمِهَا الْمُعْتَادِ (أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) : بِأَنْ قَصَدَ بِتَأْخِيرِهَا إِحْيَاءَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِالسَّهَرِ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ، وَغَيْرُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى شَيْءٍ، وَبِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى أَهْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ (فَقَالَ حِينَ خَرَجَ) : أَيْ: مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونِ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، أَيِ: انْتِظَارُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِكُمُ الَّتِي خَصَّكُمُ اللَّهُ بِهَا، فَكُلَّمَا زِدْتُمْ يَكُونُ الْأَجْرُ أَكْمَلَ، مَعَ أَنَّ الْوَقْتَ زَمَانٌ يَقْتَضِي الِاسْتِرَاحَةَ، فَالْمَثُوبَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَلِأَنَّ الذَّاكِرَ فِي الْغَافِلِينَ كَالصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَفْضَلِيَّةِ تَأْخِيرِهَا لِأَنَّ ثَوَابَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ يَعُمُّ كُلَّ صَلَاةٍ، وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الْعِشَاءِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعَصْرِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَصْرُ مِنْهَا أَفْضَلَ لِكَوْنِهَا الْوُسْطَى اهـ. وَيَرُدُّهُ أَيْضًا قَوْلُهُ:" وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ " أَيْ: (هَذِهِ السَّاعَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَزِمْتُ عَلَى صَلَاتِهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ (ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَلَّى) : أَيْ: بِالنَّاسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ:، اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَفْضَلُ تَقْدِيمُ الْعِشَاءِ أَوْ تَأْخِيرُهَا؟ فَمَنْ فَضَّلَ التَّأْخِيرَ احْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَنْ فَضَّلَ التَّقْدِيمَ احْتَجَّ بِأَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقْدِيمُهَا، وَأَخَّرَهَا فِي أَوْقَاتٍ يَسِيرَةٍ لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ عُذْرٍ. قُلْتُ: فِي الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَصَّ عَلَى الْعُذْرِ لِلْعَمَلِ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَلَا مَعْنَى لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ عُذْرٍ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ قَصْدًا لَا لِعُذْرٍ، وَلَا يَصِيرُ تَرَدُّدُ الصَّاحِبِيِّ أَوَّلًا أَنَّهُ لِعُذْرٍ أَوْ لَا. فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِهَذَا التَّرَدُّدِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَفْضَلِيَّةِ التَّأْخِيرِ مَعْلُولٌ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَمَقْبُولٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْخِيرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثُهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
617 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلَاتِكُمْ شَيْئًا، وَكَانَ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
617 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا) : أَيْ: قَرِيبًا (مِنْ صَلَاتِكُمْ) : أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُعْتَادَةِ لَكُمْ (وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ) : أَيِ: الْعِشَاءَ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِ النَّهْيِ إِلَيْهِ، أَوْ لِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّهَا أَشْهَرُ عِنْدَهُمْ (بَعْدَ صَلَاتِكُمْ) : فِي وَقْتِكُمُ الْمُعْتَادِ (شَيْئًا) : أَيْ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا (وَكَانَ يُخَفِّفُ الصَّلَاةَ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا كَانَ إِمَامًا، وَذَلِكَ أَغْلَبِيٌّ أَيْضًا لِمَا يَأْتِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَوَّلَ بِهِمْ حَيْثُ قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيِ الْمَغْرِبِ. قُلْتُ: وَمَعَ هَذَا كَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ صَلَاةِ غَيْرِهِ عليه الصلاة والسلام، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
618 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: " خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ "، فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ، لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالنَّسَائِيُّ
ــ
618 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَلَّيْنَا) : أَيْ: أَرَدْنَا أَنْ نُصْلِّيَ جَمَاعَةً (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَتَمَةِ) : أَيِ: الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ (فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَى نَحْوٌ) : أَيْ: قَرِيبٌ (مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ) : أَيْ: نِصْفِهِ (فَقَالَ) : أَيْ: فَخَرَجَ فَقَالَ: (خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ) : أَيِ: الْزَمُوهَا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اصْطَفُّوا لِلصَّلَاةِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا لِلْحَدِيثِ (فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا) : أَيْ مَا تَفَرَّقْنَا عَنْ أَمَاكِنِنَا (فَقَالَ " إِنَّ النَّاسَ ") : أَيْ: بَقِيَّةَ أَهْلِ الْأَرْضِ لِمَا فِي خَبَرٍ آخَرَ: لَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.؟ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى أَهْلِ دِينٍ غَيْرِكُمْ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ أَهْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَدْ صَلَّوْا) : بِفَتْحِ اللَّامِ (وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ) : أَيْ: مَفَارِشَهُمْ أَوْ مَكَانَهُمْ لِلنَّوْمِ يَعْنِي: وَنَامُوا (وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ) : أَيْ: حُكْمًا وَثَوَابًا (مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ عِبَادَةٌ (وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ) مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ أَوِ الْبَدَنِ (وَسَقَمُ السَّقِيمِ) : بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَبِفَتْحِهِمَا (لَأَخَّرْتُ) : أَيْ: دَائِمًا (هَذِهِ الصَّلَاةَ) : أَيِ: الْعِشَاءَ (إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ) : أَيْ نِصْفِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَهُوَ الثُّلُثُ كَمَا تَقَدَّمَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .
619 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْهُ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ
ــ
619 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْمُخَالَفَةِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ الْأَصْحَابِ، وَفِي الْجُمْلَةِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعَصْرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .
620 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
620 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ) : أَيْ: بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْجُمُعَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ) : أَيْ: بِهَا، وَبِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّاهِرُ فِي الظُّهْرِ أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا وَأَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّعْجِيلِ حَتَّى عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .