المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب القراءة في الصلاة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

- ‌[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ السَّتْرِ]

- ‌[بَابُ السُّتْرَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرُّكُوعِ]

- ‌[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[بَابُ التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ السَّهْوِ]

- ‌[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

- ‌[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

الفصل: ‌[باب القراءة في الصلاة]

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

820 -

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ:" «إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَقِنِي سَيِّئَ الْأَعْمَالِ، وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ، لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» "، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

820 -

(عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ)، أَيْ: بِالِاسْتِقْبَالِ وَالنِّيَّةِ (كَبَّرَ) : لِلتَّحْرِيمَةِ (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي)، أَيْ: بَقِيَّةَ عِبَادَتِي (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي)، أَيْ: أَحْوَالِي فِيهِمَا (لِلَّهِ) : أَيْ خَالِصَةٌ لِلَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ) : أَيِ الْإِخْلَاصِ (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَفْظُ التَّنْزِيلِ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَإِنَّمَا قَالَ: أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ كُلِّ نَبِيٍّ مُقَدَّمٌ عَلَى إِسْلَامِ أُمَّتِهِ اهـ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّ نَبِيَّنَا عليه الصلاة والسلام مَأْمُورٌ بِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] الْآيَةَ لَكِنْ كَانَ يَقُولُ هَذَا تَارَةً، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُخْرَى، كَمَا تَقَدَّمَ تَوَاضُعًا حَيْثُ عَدَّ نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ:" «وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» " وَفِي الْأَزْهَارِ قَوْلُهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَقْرَأُ كَذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، قُلْتُ: وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا مَا لَمْ يُرِدْ لَفْظَ الْآيَةِ، يَعْنِي: لَا يَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ، بَلْ تَالِيًا لِلْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قِيلَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِلْكَذِبِ، وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَالٍ لَا مُخْبِرٌ ( «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَعْمَالِ» ) ، أَيِ الظَّاهِرَةِ ( «وَأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ» )، أَيِ الْبَاطِنَةِ ( «لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا» ) : أَيِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ( «إِلَّا أَنْتَ وَقِنِي سَيِّئَ الْأَعْمَالِ، وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ، لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» ) : وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْأَسْوَأِ الْمُقَابِلِ لِلْأَحْسَنِ إِلَى السَّيِّئِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 681

821 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ: " «اللَّهُ أَكْبَرُ، وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَ حَدِيثِ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:" «وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» "، ثُمَّ قَالَ:" «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» "، ثُمَّ يَقْرَأُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

821 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ) : أَنْصَارِيٌّ، أَوْسِيٌّ، شَهِدَ الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا تَبُوكَ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا) : ظَاهِرُهُ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا الْمُخْتَارَ أَنَّهُ يَقْرَأُ بِوَجَّهْتُ وَجْهِي فِي النَّوَافِلِ أَوِ السُّنَنِ (قَالَ: " اللَّهُ أَكَبَرُ، وَجَّهْتُ وَجْهِي) : بِالْوَجْهَيْنِ، أَيْ: وَجَّهْتُ قَصْدِي أَوْ ذَاتِي (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، أَيْ: أَبْدَعَهُمَا (حَنِيفًا) : مَائِلًا عَمَّا سِوَاهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، وَوَقَعَ فِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ لَفْظُ " مُسْلِمًا " بَعْدَ " حَنِيفًا "، وَهُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : تَأْكِيدٌ وَتَعْرِيفٌ وَإِظْهَارٌ لِلتَّلَذُّذِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَتَحَدُّثٌ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، (وَذَكَرَ)، أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (الْحَدِيثَ مِثْلَ جَابِرٍ، إِلَّا أَنَّهُ)، أَيْ: مُحَمَّدًا (قَالَ: " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : بَدَلَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ» "، ثُمَّ يَقْرَأُ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 681

[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

ص: 681

(12)

بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

822 -

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَصَاعِدًا» ".

ــ

(12)

بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

822 -

(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (لَا صَلَاةَ)، أَيْ: كَامِلَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ صَحِيحَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ (لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ يَبْدَأِ الْقِرَاءَةَ بِهَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي عَدَّى يَقْرَأُ بِالْبَاءِ مَعَ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَبْدَأُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادٌ عَلَى مَذْهَبِهِ لِانْحِلَالِهِ إِلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ عَمَّنِ ابْتَدَأَ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَسُمِّيَتْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ لِافْتِتَاحِهِ بِهَا، وَالْفَاتِحَةُ لِذَلِكَ وَلِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِهَا اهـ، أَوْ يُقَالُ: لِأَنَّهَا تَفْتَحُ عَلَى قَارِئِهَا أَبْوَابَ الْخَيْرِ فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ، وَتُغْلِقُ عَلَيْهِ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، وَيَنْفَتِحُ بِهَا آخِرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَوِ السَّبْعَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهَا، كَمَا اخْتُلِفَ فِي آيِ الْفَاتِحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» ) : سُمِّيَتْ بِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَقَاصِدِهِ مِنْ إِثْبَاتِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَمَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ كَذَلِكَ، وَعَلَى أَحْوَالِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَعَلَى الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ، وَعَلَى الْقَصَصِ، وَعَلَى مَدْحِ الْمُهْتَدِينَ وَذَمِّ ضِدِّهِمْ وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَضَالِّينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمِيعُ الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ فِي الْفَاتِحَةِ، وَجَمِيعُ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَجَمِيعُ الْبَسْمَلَةِ فِي بَائِهَا، وَجَمِيعُ بَائِهَا فِي نُقْطَتِهَا، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنُّقْطَةِ الْمَعْنَى التَّوْحِيدِيَّ؛ وَلِذَا قِيلَ: الْعِلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا الْجَاهِلُونَ، أَيْ: صَارُوا سَبَبًا لِلْكَثْرَةِ حَيْثُ مَا فَهِمُوا إِجْمَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَصَاعِدًا)، أَيْ: فَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِنَ الصُّعُودِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ زَائِدًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، أَوْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَالَ كَوْنِ قِرَاءَتِهِ زَائِدًا عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِيهِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ: قِيلَ: فِي الْحَدِيثَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَوْلَهُ: فَصَاعِدًا يَدْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ.

قُلْتُ: بَلْ قَوْلُهُ فَصَاعِدًا يَدُلُّ عَلَى تَأْوِيلِنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفِيُ الْكَمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ مُتَعَيِّنَةٌ أَمْ لَا لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَعَ غَيْرِهَا وَاجِبَةٌ، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ لَا عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: الْفَاتِحَةُ وَاحِدَةُ حَالٍ كَوْنِهَا مَقْرُونَةً بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ اهـ، وَهُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَصْحِيحِ جُلِّ كَلَامِهِ مَحْمُولٌ عَلَى زَعْمِهِ الْفَاسِدِ؟ فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَاجَبَتَانِ عَلَى مَذْهَبِ سَادَاتِنَا الْحَنَفِيَّةِ، غَايَتُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ دُونَ الْمَرْتَبَةِ الْفَرْضِيَّةِ لِتَخْصِيصِ الْفَرَائِضِ بِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ دُونَ الظَّنِّيَّةِ.

ص: 682

823 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ " ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ "، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ، قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

823 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً) : قَالَ مِيرَكُ: التَّنْكِيرُ فِيهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضِيَّةُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَغَيْرِهِمَا كَانَ مَفْعُولًا بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ اسْمًا لِتِلْكَ الْهَيْئَاتِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالْفِعْلُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُرِيدَ الْجِنْسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا ( «لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْمٍ كَرِهُوا تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ (فَهِيَ) : أَيْ: صَلَاتُهُ (خِدَاجٌ) : أَيْ نَاقِصَةٌ أَوْ مَنْقُوصَةٌ أَوْ ذَاتُ نُقْصَانٍ، مِنْ

ص: 682

خَدَّجَتِ النَّاقَةُ وَلَدَهَا قَبْلَ أَوَانِ خُرُوجِهِ وَإِنْ كَمُلَ خَلْقُهُ فَهِيَ مُخَدِّجَةٌ أَوْ ذَاتُ خِدَاجٍ (ثَلَاثًا)، أَيْ: قَالَهَا ثَلَاثًا (غَيْرُ تَمَامٍ) : بَيَانُ خِدَاجٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، وَفِي نُسْخَةٍ غَيْرُ تَامٍّ، أَيْ: غَيْرُ كَامِلٍ، قِيلَ: إِنَّهُ تَأْكِيدٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ تَفْسِيرٌ لِلْخِدَاجِ، ذِكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا مِنْ نُقْصَانِ صَلَاتِهِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام:" لَا صَلَاةَ " أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْيُ الْكَمَالِ لَا الصِّحَّةِ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَبِنَفْيِ لَا صَلَاةَ نَفْيُ صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تُقْبَلُ تَأْوِيلًا مِنْهَا مَا صَحَّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَمَرَنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّهُمْ مَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِ السُّورَةِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى:" مَعَ " أَوْ بِمَعْنَى: " أَوْ " وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْفَاتِحَةِ إِجْمَاعًا، وَمُجْزِئٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فِي مَذْهَبِنَا، قَالَ: وَمِنْهَا خَبَرُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمِ فِي صِحَاحِهِمْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ:«لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجْزَاءِ الْكَامِلِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا مَا صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقَالَ لَهُ: ثُمَّ افْعَلْ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ لَفْظُهُ: ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، مَعَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ وَرَدَ بَعْضُ الْأَوَامِرِ لَا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ إِجْمَاعًا، قَالَ: وَمِنْهَا مُدَاوَمَتُهُ عليه السلام قِرَاءَتَهَا فِي صَلَاتِهِ، كَمَا فِي مُسْلِمٍ مَعَ خَبَرِ الْبُخَارِيِّ:" «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» "، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْلَا مُوَاظَبَتُهُ عليه السلام عَلَى قِرَاءَتِهَا لَقُلْنَا بِسُنِّيَّتِهَا لَا بِوُجُوبِهَا وَبِعِصْيَانِ تَارِكِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ، فَمَخْصُوصُ الْبَعْضِ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ عليه السلام سُنَنٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ: وَأَمَّا خَبَرُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَقَلُّ مُجْزِئٍ الْفَاتِحَةُ كَصُمْ وَلَوْ يَوْمًا.

قُلْتُ: لَوْ صَحَّ ضَعْفُهُ فَهُوَ يُقَوِّي الْمَعْنَى الْمُرَادَ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، وَجَعْلُهُ الْحَدِيثَ نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ نَظِيرُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ:" «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» " فَيُفِيدُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا مُجْزِئَةٌ، مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ ضَمُّ سُورَةٍ مَعَهَا، قَالَ: وَمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِمَّا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَصْلِهَا ضَعِيفٌ أَيْضًا.

قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْفَاتِحَةِ دُونَ وُجُوبِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، قَالَ: وَقَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ أَيْ طَرِيقَةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَقَايِيسَ الْعَرَبِيَّةِ، قُلْنَا: وَالْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ فَرْضِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] بِظَاهِرٍ مُطْلَقٍ، قَالَ: وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي الْعَصْرَيْنِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ، عَلَى أَنَّ رُوَاةَ الْأَوَّلِ وَمَا بِمَعْنَاهُ أَكْبَرُ سِنًّا وَأَقْدَمُ صُحْبَةً، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَكَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لَا، وَغَيْرُهُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ جَزَمُوا بِالْقِرَاءَةِ، فَكَانُوا أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، أَوْ عَلَى إِخْفَائِهِ الْقِرَاءَةَ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْيِيدُهُ بِالْعَصْرَيْنِ، قَالَ: وَخَبَرُ: أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَسَبَّحَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ضَعِيفٌ، قُلْتُ: عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا، لَكِنْ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَصَاحِبُهُ مُسِيءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ)، أَيْ: فَهَلْ نَقْرَأُ أَمْ لَا؟ قَالَ: اقْرَأْ بِهَا) ، أَيْ: بِأُمِّ الْقُرْآنِ (فِي نَفْسِكَ) : سِرًّا غَيْرَ جَهْرٍ، وَبِهِ أَخْذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ مَعَ احْتِمَالِ التَّقْيِيدِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ كَمَا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَوْ فِي السَّكَتَاتِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ كَمَا قِيلَ لِلْمَسْبُوقِ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، أَوْ مَعْنَاهُ فِي قَلْبِكَ بِاسْتِحْضَارِ أَلْفَاظِهَا أَوْ مَعْنَاهُ أَوْ مَعَانِيهَا دُونَ مَبَانِيهَا، (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 683

يَقُولُ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ)، أَيِ: الْفَاتِحَةَ وَسُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَكَوْنُهَا جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَيِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِهَا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ: ( «بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» ) : وَالصَّلَاةُ خَالِصَةٌ لِلَّهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْقُرْآنُ اهـ.

وَتَتِمَّةُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَالتَّنْصِيفُ يَنْصَرِفُ إِلَى آيَاتِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ، ثَلَاثٌ ثَنَاءٌ، وَثَلَاثٌ سُؤَالٌ، وَالْآيَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ، فَإِذَنْ لَيْسَتِ الْبَسْمَلَةُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّنْصِيفَ رَاجِعٌ إِلَى جُمْلَةِ الصَّلَاةِ لَا إِلَى الْفَاتِحَةِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَبِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا يُخْتَصُّ بِالْفَاتِحَةِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَامِلَةِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُتَابِعُوهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ التَّسْمِيَةَ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: " «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَنِي عَبْدِي» " كَذَا ذِكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهَا لَمْ تَنْزِلْ إِذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهَا تُذْكَرُ أَوَّلَ سُورَةِ: اقْرَأْ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ لِكَوْنِ الرَّاوِي أَبَا هُرَيْرَةَ، وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرُوِيَ:«أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِالْفَاتِحَةِ مَعَ اسْتِقْلَالِهَا، قُلْتُ: الِاسْتِقْلَالُ مَمْنُوعٌ مُحْتَاجٌ بِمَا بِهِ الِاسْتِدْلَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ، وَقِيلَ: التَّنْصِيفُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ الدُّعَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الثَّنَاءِ وَهُوَ إِلَى قَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ (نِصْفَيْنِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَ آيَاتِهَا يُعُودُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ فَائِدَةٍ وَنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، كَالِامْتِنَانِ عَلَيْهِ بِمَسْئُولَةٍ وَمَرْغُوبَةٍ، وَبَعْضُهَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ غَيْرُ مَحْضِ التَّعَبُّدِ وَالِامْتِثَالِ، فَجُعِلَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّ ذَاكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ التَّعَبُّدِ، وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ الْإِعْظَامِ وَالْإِجْلَالِ، (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)، أَيْ: أَحَدُ النِّصْفَيْنِ دَعَاهُ عَبْدِي إِيَّايَ وَلَهُ مَا سَأَلَ أَيْ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُعَلَّقًا عَلَى السُّؤَالِ، وَإِلَّا فَمِثْلُهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ وَنَحْوِهَا بِهَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِذَاتِي مَا وَصَفَ مِنَ الثَّنَاءِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ مِنَ الدُّعَاءِ؛ وَلِذَا قَالَ:(فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ)، أَيِ: الْمَذْكُورُ أَوَّلًا مَعَ التَّشْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى رَبِّهِ لِتَحَقُّقِهِ بِصِفَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَقِيَامِهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ وَشُهُودِهِ لِآثَارِهِمَا وَأَسْرَارِهِمَا فِي صَلَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِعْرَاجُ الْأَرْوَاحِ وَرُوحُ الْأَشْبَاحِ، وَغَرْسُ تَجَلِّيَاتِ الْأَسْرَارِ الَّتِي يَنْجَلِي بِهَا الْأَحْرَارُ عَنِ الْأَغْيَارِ؛ وَلِذَا زِيدَ فِي تَشْرِيفِهِ بِتَكْرِيرِ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَوْصَافِ الَّذِي خَلَقَ لَهُ الْأَوْضَاعَ وَالْأَشْرَافَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَهَذَا هُوَ غَايَةُ كَمَالِ الْإِنْسَانِ، وَنِهَايَةُ جَمَالِ الْإِحْسَانِ؛ وَلِذَا وُصِفَ نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام بِهِ فِي مَقَامِ الْفَخَامَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْكَرَامَةِ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا مَقَامَ أَشْرَفُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ إِذْ بِهَا يَنْصَرِفُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ (قَالَ اللَّهُ) : قِيلَ لَعَلَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ مُبَاهَاةً (أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي) : ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ الثَّنَاءُ

ص: 684

بِجَلَائِلِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَدَقَائِقِ الْعَوَاطِفِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي أَخْرَجَتِ الْخَلْقَ مِنْ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ إِلَى نُورِ الْوُجُودِ؛ لِيَتَسَارَعُوا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلِيَتَزَوَّدُوا فِي الْمَسِيرِ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ وَدَرَجَاتِ جَنَّاتِهِ (وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، أَيِ: الْجَزَاءِ (قَالَ: مَجَّدَنِي)، أَيْ: عَظَّمَنِي (عَبْدِي) : وَالتَّمْجِيدُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمَجْدِ وَهُوَ الْكَرَمُ أَوِ الْعَظَمَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: التَّمْجِيدُ الثَّنَاءُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ، وَوَجْهُ مُطَابَقَتِهِ لِقَوْلِهِ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، هُوَ أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ فِيهِ كَمَا فِي الدُّنْيَا، وَفِي هَذَا الِاعْتِرَافِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْوِيضِ لِلْأَمْرِ مَا لَا يَخْفَى (وَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، أَيْ: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، أَيْ: نَخُصُّكَ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا (قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي) : لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَانَةَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] لِلْعَبْدِ (وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)، أَيْ: بَعْدَ هَذَا (فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، أَيْ: ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ طَرِيقِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ عليه الصلاة والسلام {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] : مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي الْوُقُوفِ، مِنْ أَنَّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةٌ، بِخِلَافِ الْكُوفِيِّينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَسْمَلَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، أَيِ: الْيَهُودِ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، أَيِ: النَّصَارَى ( «قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» )، أَيْ: غَيْرُ هَذَا أَوِ الْمَعْنَى هَذَا وَنَحْوُ هَذَا، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَدْعُوَّ إِنْ قَدَّرَ وُقُوعَهُ، فَهُوَ وَاقِعٌ، وَإِنْ فُقِدَ الدُّعَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَإِنْ وَقَعَ الدُّعَاءُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يُرْشِدُ إِلَى سُرْعَةِ إِجَابَتِهِ قُلْتُ: وَإِلَى الرَّجَاءِ إِلَى إِجَابَةِ سَائِرِ حَاجَتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: اللَّفْظُ لَهُ وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

ص: 685

824 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، رضي الله عنهم، كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

824 -

( «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ) : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُسِرُّونَ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا يُسِرُّونَ بِالتَّعَوُّذِ، ثُمَّ يَجْهَرُونَ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَوَّلَ الشَّافِعِيُّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ كَانُوا يَبْتَدِئُونَ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ السُّورَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] كَمَا يُقَالُ: قَرَأَتُ الْبَقَرَةَ، وَفِي أُخْرَى لَهُ: فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] " لَا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمَ} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَتِهِ، وَلَا فِي آخِرِهَا، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ بَيْنَهُ مَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَيَقُولُ: لَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: هُوَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى تَلَوُّنِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ قَالَ: كَبِرْتُ وَنَسِيتُ، وَأَنَّهُ سُئِلَ أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أَوْ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْجَهْرِ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ عَلَى الْإِعْلَامِ تَعْلِيمًا كَمَا فِي سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ أَحْيَانًا فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ، وَيَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِهِ أَيْضًا: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْقِرَاءَةِ، بَلِ السَّمَاعَ لِلْإِخْفَاءِ بِدَلِيلِ مَا صُرِّحَ بِهِ عَنْهُ، فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ {بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» اهـ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَارِضٍ لَهُ إِذِ الْمُرَادُ بِالْإِثْبَاتِ إِخْفَاؤُهَا، وَبِالنَّفْيِ جَهْرُهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنْزِيلِ فِي إِقَامَةِ الْمُعَارَضَةِ كَيْفَ تُعَارِضُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهَا حَدِيثَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ عليه السلام فِي الْجَهْرِ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا أَجَابَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ رِوَايَتَيْ مُسْلِمٍ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رِوَايَةٌ لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ

ص: 685

بِالْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِمَا ذَكَرَ بِحَسْبِ فَهْمِهِ، وَلَوْ بَلَّغَ الْغَيْرَ بِلَفْظِهِ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ لَأَصَابَ فَهُوَ طَعْنٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَإِنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ انْسَدَّ بَابُ الْخِطَابِ، ثُمَّ يُقَالُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رُوَاةَ الْبُخَارِيِّ نَقَلُوا بِاللَّفْظِ، وَرُوَاةَ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَقَلُوا بِالْمَعْنَى، مَعَ أَنَّ الْإِسْنَادَيْنِ أَقْوَى مِنْ إِسْنَادٍ وَاحِدٍ، وَزِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ إِجْمَاعًا فَتَأَمَّلَ فَإِنَّهُ مَحَلُّ زَلَلٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثٌ أَنَسٍ هُنَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ: مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِلَا تَفَاوُتِ حَرْفٍ، فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ فِي آخِرِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ تَأَمَّلْ اهـ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ عَنْهُ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » ) اهـ، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ، بَلْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَفَظُهُ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِلَافِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ اللَّفْظِيَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ فِي الْجُمْلَةِ.

ص: 686

825 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: " «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ.

وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ:" «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ".

ــ

825 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: قَالَ: آمِينَ (فَأَمِّنُوا) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ قُولُوا آمِينَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْخِيرِ كَمَا فِي قَوْلِكَ: إِذَا رَحَلَ الْأَمِيرُ فَارْحَلُوا، يَعْنِي: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ فَأَمِّنُوا مَعَهُ لِلرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَيِّنٌ عَلَى مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّهُ يُسِرُّ فِي آمِينَ (فَإِنَّهُ)، أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ وَافَقَ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ عُطِفَ عَلَى مُضْمَرٍ وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ. الْحَدِيثَ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مَنْ طَابَقَ (تَأْمِينُهُ)، أَيْ: فِي الْإِخْلَاصِ وَالْخُشُوعِ، وَقِيلَ: فِي الْإِجَابَةِ، وَقِيلَ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ (تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ الْحَفَظَةُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: غَيْرُهُمْ؛ لِخَبَرِ " مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ " وَنَقَلَ الْعَسْقَلَانِيُّ اخْتِيَارَهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، لَكِنَّهُ قَالَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَنْ يَشْهَدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ، وَتَأْمِينُهُمُ اسْتِغْفَارُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ حَفَظَةً أَوْ غَيْرَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْمِينَهُمْ عَلَى قَوْلِ الْمُصَلِّي: اهْدِنَا إِلَخْ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْتَجِبْ، أَوِ اللَّهُمَّ افْعَلْ (غُفِرَ) : مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: مَعْلُومٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: غَفَرَ اللَّهُ (لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَيَحْتَمِلُ الْكَبَائِرَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ زِيَادَةٌ: وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ زِيَادَةٌ شَاذَّةٌ لَهَا طُرُقٌ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ، قَالَ مِيرَكُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ)، أَيْ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، (قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ» ) : مَدًّا، وَيَجُوزُ قَصْرُهُ، وَفِي شَرْحِ الْأَبْهَرِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ: هِيَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ وَعَنْ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ اهـ، وَهُوَ اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهُ اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ أَوْ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ، فَلْيَكُنْ، أَوِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْأَبْهَرَيُ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَمِّنَا بِخَيْرٍ ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَأَمَّا آمِّينَ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ فَهُوَ خَطَأٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَاخْتُلِفَ فِي فَسَادِ صَلَاةِ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالْأَصَحُّ عَدَمُ فَسَادِهَا لِمَجِيئِهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، أَيْ: قَاصِدِينَ، أَوْ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَّنَا بِخَيْرٍ أَيْ قَصَدَنَا بِخَيْرٍ، حَالَ كَوْنِنَا قَاصِدِينَ طَاعَتَكَ أَوْ رِضَاكَ أَوْ بَابَكَ أَوْ سُؤَالَكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَقُولَ: " {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، ( «فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) : بِمَعْنَاهُ.

(وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا «أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ) : وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ:" «وَكَانَ إِذَا قَالَ آمِينَ يَسْمَعُ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ» "، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ:" «فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ» "، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا قَالَ:" {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] " قَالَ: " «رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينَ» "، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ عليه السلام أَمَّنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُ سِرًّا.

ص: 686

826 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، يُجِبْكُمُ اللَّهُ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ "، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" فَتِلْكَ بِتِلْكَ "، قَالَ: وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ» "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

827 -

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ:" «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» ".

ــ

826 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا صَلَّيْتُمْ)، أَيْ: أَرَدْتُمُ الصَّلَاةَ (فَأَقِيمُوا)، أَيْ: سَوُّوا (صُفُوفَكُمْ) : فَيُسَنُّ تَسْوِيَتُهَا بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا اعْوِجَاجٌ وَلَا فُرَجٌ (ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَسُكَّنُ (أَحَدُكُمْ) : وَالْأَفْضَلُ أَفْضَلُ، فَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ: أَكْبَرُكُمْ؛ لِأَنَّهَا لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ، وَتِلْكَ لِبَيَانِ حُصُولِ أَصْلِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ مَحْمُولَةٌ عَلَى اسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) : يُرِيدُ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْمَأْمُومِ عَنْ جَمِيعِ تَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ، فَمَتَى تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ بِهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ قَارَنَهُ فِيهَا أَوْشَكَّ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (وَإِذَا قَالَ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى السُّكُوتِ وَالِاسْتِمَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُفِيدَ مِنْهُ نَدْبُ مُقَارَنَةِ تَأْمِينِ الْمَأْمُومِ تَأْمِينَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِمَامَ يُنْدَبُ لَهُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْفَاتِحَةِ التَّأْمِينُ، وَالْمَأْمُومُ أُمِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ يُؤَمِّنَ عَقِبَ فَرَاغِ الْإِمَامِ أَيْضًا، فَوَقَعَ تَأْمِينُهُمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، فَتَعِيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ السَّابِقِ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، أَيْ: أَرَادَ مُقَارَنَةَ التَّأْمِينِ لِيَجْتَمِعَ الْحَدِيثَانِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ السَّابِقَةِ، حَيْثُ أَنَّ الْأُولَى أَفَادَتِ الْوُجُوبَ، وَالثَّانِيَةَ النَّدْبَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَتَدَبَّرْ (يُجِبْكُمُ اللَّهُ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ (فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا، وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْلِيلٌ لِتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مُسَبَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبَّبِ (فَقَالَ) : أَيْ بَعْدَ مَا قَالَ مِنَ التَّعْلِيلِ قَالَ: (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَضْبُوطَةِ بِالتَّصْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ عليه السلام، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاوِيَ أَبُو مُوسَى: (فَتِلْكَ بِتِلْكَ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّحْظَةَ الَّتِي سَبَقَكُمُ الْإِمَامُ بِهَا فِي تَقَدُّمِهِ إِلَى الرُّكُوعِ تَنْجَبِرُ بِتَأَخُّرِكُمْ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ رَفْعِهِ لَحْظَةً فَتِلْكَ اللَّحْظَةُ بِتِلْكَ اللَّحْظَةِ، وَصَارَ قَدْرُ رُكُوعِكُمْ كَقَدْرِ رُكُوعِهِ (قَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا قَالَ) : أَيِ الْإِمَامُ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) : بِالضَّمِّ وَيُسَكَّنُ (فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: قِيلَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَزِيدُ الْمَأْمُومُ عَلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ وَلِأَنَّهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ، وَالْمُنْفَرِدُ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام قَالَ:" «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " اهـ، وَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَوْلِيَّ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَشْرِيعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ بِخِلَافِ فِعْلِهِ، وَأَيْضًا يُحْمَلُ جَمْعُهُ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَإِفْرَادُهُ عَلَى حَالَةِ الْجَمْعِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيُوَافِقُ:" «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ لَكَ الْحَمْدُ بِلَا وَاوٍ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْوَاوِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَائِزَانِ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اهـ.

وَقَالَ مَوْلَانَا أَبُو الْمَكَارِمِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ: جَاءَ فِي التَّحْمِيدِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي الْقِنْيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ هُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي الْقِنْيَةِ الْأَظْهَرُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَاللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فِي الْمُحِيطِ هُوَ الْأَفْضَلُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَهُوَ الْأَحْسَنُ، وَالْكُلُّ مَنْقُولٌ عَنِ النَّبِيِّ كَذَا فِي الْكَافِي اهـ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَدْيِهِ: صَحَّ عَنْهُ عليه السلام ذَلِكَ كُلُّهُ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ فَلَمْ يَصِحَّ اهـ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُنَا بَعْدَ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَوْ وَلَكَ الْحَمْدُ وَهُوَ الْأَفْضَلُ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: عَلَى إِثْبَاتِ الْوَاوِ يَكُونُ قَوْلُهُ: رَبَّنَا مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَا رَبَّنَا فَاسْتَجِبْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا وَلَكَ الْحَمْدُ اهـ.

وَتَقَدَّمَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ (يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ يَقْبَلْهُ، وَكَانَ مَجْزُومًا لِجَوَابِ الْأَمْرِ فَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: يَكْتَفِي الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

ص: 687

827 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ)، أَيْ: لِمُسْلِمٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَتَادَةَ)، أَيْ: وَعَنْ قَتَادَةَ فَيَكُونُ أَثَرًا لَا حَدِيثًا، قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَصْلًا، فَإِنَّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قِيلَ لِمُسْلِمٍ، فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا أَصَحِيحٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَاهُنَا؟ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هُنَا إِنَّمَا وَضَعْتُ هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ، قَالَ الْحُفَّاظُ: جُمْلَةُ فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا لَيْسَتْ صَحِيحَةً عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بُطْلَانِهَا، وَذَكَرَ عِلَلَهَا، وَنَقَلَ بُطْلَانَهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَأَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ وَغَيْرِهِمْ، (وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا)، أَيِ: اسْكُتُوا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي عِنْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى السُّورَةِ اهـ، وَهُوَ حَمْلٌ بَعِيدٌ مَعَ عَدَمِ بَيَانِ مُرَادِهِ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ السُّورَةَ فَأَنْصِتُوا أَوْ إِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا عَنِ السُّورَةِ، وَفِيهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ مَا لَا يَصِحُّ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ فَتَدَبَّرْ وَأَنْصِفْ وَلَا تَتَكَدَّرْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ زِيَادَةً فِي حَدِيثِ: إِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا، وَقَدْ ضَعَّفَهَا أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ صِحَّةِ طَرِيقِهَا وَثِقَةِ رُوَاتِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّاذُّ الْمَقْبُولُ وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي حَدِيثِ مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ اهـ.

وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ، فَعَلَيْكَ بِهِ إِنْ أَرَدْتَ الْبَسْطَ، وَسَتَجِيءُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ حَدِيثًا مُسْتَقِلًّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 688

828 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

828 -

(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ) ، يَعْنِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةٌ (وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ)، أَيْ: فَقَطْ، فَلَا تُسَنُّ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الْمَغْرِبِ، وَالنَّسَائِيُّ فِيهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ يُسَنُّ ذَلِكَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَيْضًا لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمَالِكٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَيُقَاسُ بِهِ الْعِشَاءُ (وَيُسْمِعُنَا) ، مِنَ الْإِسْمَاعِ (الْآيَةَ)، أَيْ: مِنَ الْفَاتِحَةِ مُطْلَقًا أَوِ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ (أَحْيَانًا)، يَعْنِي نَادِرًا مِنَ الْأَوْقَاتِ مَعَ كَوْنِ الظُّهْرِ صَلَاةً سِرِّيَّةً قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِبَعْضِ الْكَلِمَاتِ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، بِحَيْثُ يُسْمِعُ حَتَّى يُعْلَمُ مَا يَقْرَأُ مِنَ السُّورَةِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَيَقْرَأُ نَحْوَهَا مِنَ السُّورَةِ فِي نَحْوِهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِغَلَبَةِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي التَّدَبُّرِ يَحْصُلُ الْجَهْرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ لِبَيَانِ جَوَازِهِ، أَوْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ يَقْرَأُ أَوْ يَقْرَأُ سُورَةً بِهَذَا لِيَتَأَسَّوْا بِهِ اهـ.

وَقَوْلُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِخْفَاءَ وَاجِبَانِ عَلَى الْإِمَامِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِبَيَانِ الْجَوَازِ أَنَّ سَمَاعَ الْآيَةِ، أَوِ الْآيَتَيْنِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ السِّرِّ (وَيُطَوِّلُ) : بِالتَّشْدِيدِ (فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ) ، نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، أَيْ: إِطَالَةً لَا يُطِيلُهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) ، أَوْ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: غَيْرَ إِطَالَتِهِ فِي الثَّانِيَةِ، فَتَكُونُ هِيَ مَعَ مَا فِي حَيِّزِهَا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّ النَّشَاطَ فِي الْأُولَى أَكْثَرُ، فَيَكُونُ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ فِيهَا كَذَلِكَ، فَطَوَّلَ فِيهَا لِذَلِكَ وَخَفَّفَ فِي غَيْرِهَا حَذَرًا مِنَ الْمَلَلِ، وَأَيْضًا لِيُدْرِكَهَا النَّاسُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَاخْتُلِفَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ هَلْ يُسَنُّ إِطَالَةُ الْأُولَى أَمْ لَا (وَهَكَذَا)، أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ وَتَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ (فِي الْعَصْرِ وَهَكَذَا) ، أَيِ الْمَسْطُورُ مِنْ إِطَالَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِطَالَةَ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الثَّنَاءِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، وَسَيَجِيءُ مَا يَرُدُّهُ (فِي الصُّبْحِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَزْرِيِّ: أَنَّ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ هَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ فَتَأَمَّلْ.

ص: 688

829 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ -: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَحَزَرْنَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

829 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ) : بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا رَاءٌ مِنَ الْحَزْرِ، هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْخَرْصُ، أَيْ: نَقِيسُ وَنُخَمِّنُ (قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَيْ: مِقْدَارَ طُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاتَيْنِ (فَحَزَرْنَا)، أَيْ: قَدَّرْنَا (قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ: الم تَنْزِيلُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ وَنَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي (السَّجْدَةَ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يَجُوزُ جَرُّ السَّجْدَةِ عَلَى الْبَدَلِ وَنَصْبُهَا بِأَعْنِي، وَرَفْعُهَا عَلَى خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ (تَنْزِيلُ) حِكَايَةً، وَأَمَّا عَلَى إِعْرَابِهِ فَيَتَعَيَّنُ جَرُّ السَّجْدَةِ بِالْإِضَافَةِ، (- وَفِي رِوَايَةٍ - فِي كُلِّ رَكْعَةٍ)، أَيْ: فَحَرَزْنَا قِيَامَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ (قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ)، أَيْ: مِنَ الظُّهْرِ قَدَرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام ضَمَّ السُّورَةَ بِالْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عليه السلام عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى السُّنَّةِ (وَحَزَرْنَا)، أَيْ: قِيَامَهُ (فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 689

830 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

830 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]- وَفِي رِوَايَةٍ - بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ)، أَيْ: يَقْرَأُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَ مِنَ السُّورَتَيْنِ (وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ)، أَيْ: مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، قَالَ الْعُلَمَاءُ وَاخْتِلَافُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا كَانَ بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ إِيثَارَ التَّطْوِيلِ طَوَّلَ، وَإِلَّا خَفَّفَ، وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ الْمُؤْمِنُونَ، وَالرُّومَ وَيس، وَالْوَاقِعَةَ، وَق، وَإِذَا زُلْزِلَتْ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَفِي الظُّهْرِ لُقْمَانَ، وَتَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَالذَّارِيَاتِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، لَكِنْ مَعَ الْجَهْرِ بِبَعْضِهَا لِلتَّعْلِيمِ، وَفِي الْعَصْرِ السَّمَاءَانِ، وَالْأَعْلَى، وَالْغَاشِيَةُ.

ص: 689

831 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه، قَالَ:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ الطُّورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

831 -

(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ بَاقٍ إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ عَلَى التَّأَنِّي، وَسُورَةُ الطُّورِ إِذَا قُرِئَتْ عَلَى التَّأَنِّي يَقْرُبُ الْفَرَاغُ مِنْهَا مِنْ غُرُوبِ الشَّفَقِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ غَرِيبٌ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَرَأَ بِبَعْضِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ قَرَأَ بَعْضَهَا فِي رَكْعَةٍ، وَبَعْضَهَا فِي أُخْرَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ قَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ السُّورَةَ بِكَمَالِهَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا ثُمُنُ الْجُزْءِ، وَنَحْنُ نَتَدَارَسُ جُزْأَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَذَانِ الْعِشَاءِ، مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَوَّزَ إِطَالَةَ الصَّلَاةِ إِلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ عليه السلام قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا الْأَنْفَالَ وَالدُّخَانَ وَالْقِتَالَ وَالْأَعْلَى وَالْكَافِرُونَ وَالتِّينَ وَالْقَارِعَةَ، وَفِي الْعِشَاءِ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَالسَّمَاءَانِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالتِّينُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 689

832 -

«وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

832 -

(وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] ، أَيْ: أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا قِرَاءَةُ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

ص: 690

833 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقَتْ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

833 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ)، أَيْ: فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيِ: الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ يُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، كَذَا فِي الشُّمُنِّيِّ شَرْحِ النُّقَايَةِ، (ثُمَّ يَأْتِي)، أَيْ: مَسْجِدَ الْحَيِّ (فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ)، قَالَ الْقَاضِي الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى فَرْضًا ثُمَّ أَعَادَ يَقَعُ الْمُعَادُ نَفْلًا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ النِّيَّةَ أَمْرٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِخْبَارِ النَّاوِي، فَجَازَ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الصَّلَاةِ وَيَتَبَارَكَ بِهَا، وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تُهْمَةَ النِّفَاقِ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْفَرْضَ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ أَفَضَلُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْمُتَّفَقُ عَلَى جَوَازِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، قَالَ الْقَاضِيَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدَّى الْفَرِيضَةَ بِجَمَاعَةٍ جَازَ إِعَادَتُهَا، قُلْتُ: ثَبِّتِ الْعَرْشَ ثُمَّ انْقُشْ (فَصَلَّى)، أَيْ: مُعَاذٌ (لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ)، أَيْ: بَعْدَ الْفَاتِحَةِ أَوْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفَاتِحَتِهَا (فَانْحَرَفَ رَجُلٌ)، أَيْ: مَالَ عَنِ الصَّفِّ فَخَرَجَ مِنْهُ، أَوِ انْحَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ وَالرَّجُلُ حِزَامُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَوْ أَرَادَ الِانْحِرَافَ (فَسَلَّمَ) ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ قَطَعَ صَلَاتَهُ لَا أَنَّهُ قَصَدَ قَطْعَهَا بِالسَّلَامِ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّلَامِ إِنَّمَا هُوَ آخِرُهَا فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَحَلِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ هَذَا مَحَلُّهُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ الَّذِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَاصُّ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَبَعًا لِمَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُرِيدَ الْقَطْعِ هَلْ يُسَلِّمُ قَائِمًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، فَالتَّسْلِيمُ بِمَا وَرَدَ أَسْلَمُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ)، أَيِ: اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ فَارَقَ بِالنِّيَّةِ وَانْفَرَدَ وَأَتَمَّ بِلَا اسْتِئْنَافٍ لَجَازَ فِيهِ ذَلِكَ، ذَمَّهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ تَوَهُّمُ جَوَازِ نِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ (وَانْحَرَفَ)، أَيْ: خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ (فَقَالُوا) : أَيْ قَوْمُهُ لَهُ: (أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟)، أَيْ: أَفَعَلْتَ مَا فَعَلَهُ الْمُنَافِقُ مِنَ الْمَيْلِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الصَّلَاةِ قَالُوهُ تَشْدِيدًا لَهُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ) : إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَوَازِ، أَيْ: وَاللَّهِ لَا أُنَافِقُ وَلَآتِيَنَّ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَإِمَّا إِنْشَاءُ قَسَمٍ آخَرَ وَالْمُقْسَمُ بِهِ مُقَدَّرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لَآتِيَنَّ، فَخَطَأٌ نَشَأَ مِنْ عَدَمِ تَصْحِيحِ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَلَآتِيَنَّ بِالْوَاوِ (فَلْأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحُ) : جَمْعُ نَاضِحَةٍ أُنْثَى نَاضِحٍ، وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ (نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ)، أَيْ: نَكُدُّ فِيهِ بِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ لِأَجْلِ أَمْرِ الْمَعَايِشِ الَّذِي يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى أَمْرِ الْمَعَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَذَلِكَ عَمَلٌ مُشِقٌّ جِدًّا وَلَوْ بَعْضَ النَّهَارِ، فَكَيْفَ وَنَحْنُ نَعْمَلُ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ جَمِيعِهِ، فَغَيْرُ مَقْبُولٍ لِعَدَمِ دَلَالَةٍ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ (وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى)، أَيْ: قَوْمَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ مُعَاذٌ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَهَا وَيَرْكَعَ، فَتَوَّهَمَ الْمُقْتَدِي أَنَّهُ أَرَادَ إِتْمَامَهَا فَقَطَعَ صَلَاتَهُ، فَعَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِيهَامِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلتَّنْفِيرِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ وَقَعَ لِخَوَاجَهْ كَلَهْ كَوَى، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَكَانَ مُتَرَافِقًا مَعَ مَوْلَانَا جَامِي فِي سَفَرِ الْحَجِّ، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ إِطَالَةُ الْقِرَاءَةِ خُصُوصًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ وَهُمَا فِي بَرِّيَّةٍ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ دَخَلَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَابْتَدَأَ بِسُورَةِ الْفَتْحِ فَاضْطَرَبَ الْمُقْتَدِي اضْطِرَابًا قَوِيًّا، فَلَمَّا قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ رَكَعَ وَعُدَّ

ص: 690

هَذَا مِنْ مُلَاطَفَاتِهِ وَمُطَايَبَاتِهِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: أَنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزْتُ أَيْ مِنْ صَلَاتِي يَعْنِي اخْتَصَرْتُهَا وَخَفَّفْتُهَا، وَقِيلَ: تَرَخَّصْتُ بِتَرْكِ الْمُتَابَعَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَوْزِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَةِ الْإِمَامِ وَيُتِمَّهَا لِنَفْسِهِ بِالِاسْتِئْنَافِ، فَزُعِمَ: عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: زَعَمَ النَّاسُ أَنِّي مُنَافِقٌ، (فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ) : إِقْبَالَ إِعْرَاضٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَيِ الرَّجُلَ ذَهَبَ إِلَيْهِ عليه السلام فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَتَبِعَهُ مُعَاذٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ غُدْوَةً وَمُعَاذٌ حَاضِرٌ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَذَكَرَ لَهُ، وَلَمَّا حَضَرَ مُعَاذٌ أَقْبَلَ إِلَيْهِ عليه السلام (فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ) : خِطَابُ عِتَابٍ (أَفَتَّانٌ)، أَيْ: أَمُنَفِّرٌ (أَنْتَ؟) : وَمَوْقِعٌ لِلنَّاسِ فِي الْفِتْنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى كَرَاهَةِ صُنْعِهِ لِأَدَائِهِ إِلَى مُفَارَقَةِ الرَّجُلِ الْجَمَاعَةَ فَافْتَتَنَ بِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، الْفِتْنَةُ: صَرْفُ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ وَحَمْلُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، قَالَ تَعَالَى:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162]، أَيْ: بِمُضِلِّينَ (اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]، أَيْ: فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ عليه السلام {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] : وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] : الْوَاوُ فِيهِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا إِشْكَالَ أَوْ بِمَعْنَى اقْرَأْ هَذِهِ السُّورَةَ وَأَمْثَالَهَا مِنْ أَوْسَاطِ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى سُنِّيَّةِ تَخْفِيفِ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ وَأَنْ يَقْتَدِيَ بِأَضْعَفِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ مَعَ كُلٍّ أَنَّ الْأُولَى لِلرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةَ لِلثَّانِيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا كَوْنُ السُّورَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ، وَخِلَافُهُ قِيلَ: مَفْضُولٌ، وَقِيلَ: خِلَافُ الْأَوْلَى قَالَ أَئِمَّتُنَا: فَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: قُلْ أُعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ.

فَإِنْ قُلْتَ: مَا فِي الْحَدِيثِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَيُنَافِيهِ، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ، بَلْ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مُطْلَقِ بَيَانِ أَنَّ الْمُتَأَكَّدَ عَلَى الْإِمَامِ لِغَيْرِ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ بِالتَّطْوِيلِ أَنْ يُخَفِّفَ فَمَثَّلَ عليه السلام بِتِلْكَ السُّوَرِ وَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنْ عَدَمِ نَدْبِ التَّرْتِيبِ وَالْمُوَالَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ، كَمَا عُلِمَ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ بِقَوْلِهِ:" «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ".

فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ الْآيِ أَثِمَ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ: فَرَّقُوا بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ، قِيلَ: ظَنِّيٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عليه السلام، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ قَطْعِيٌّ، فَمُيِّزَ الْقَطْعِيُّ بِحُرْمَةِ مُخَالَفَتِهِ بِخِلَافِ الظَّنِّيِّ، وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّ عَكْسَ الْآيِ مُخِلٌّ بِالْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ عَكْسِ السُّوَرِ اهـ، وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّ عَكْسَ الْآيِ مُخِلٌّ بِالْمَعْنَى غَالِبًا، فَلَا يَحِلُّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 691

834 -

«وَعَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

834 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ) : وَهِيَ مِنْ قِصَارِ الْأَوْسَاطِ (وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: " «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ، إِلَّا بَعَثَهُ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ حَتَّى بَعْثَ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ، فَبَعَثَهُ حَسَنَ الْوَجْهِ وَحَسَنَ الصَّوْتِ» "، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ، أَنَّ صَوْتَهُ عليه السلام كَانَ يَبْلُغُ مَا لَا يَبْلُغُ صَوْتُ غَيْرِهِ، فَفِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ خَطَبَ فَأَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي خُدُورِهِنَّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ رَوَاحَةَ: كَانَ فِي بَنِي تَمِيمٍ، فَسَمِعَ قَوْلَهُ عليه السلام عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اجْلِسُوا فَجَلَسَ مَكَانَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ: إِنَّ أُمَّ هَانِئٍ كَانَتْ تَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ عليه السلام فِي جَوْفِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ عَلَى عَرِيشِهَا.

ص: 691

835 -

«وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

835 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) : ابْنِ أُخْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَنَحْوِهَا) : بِالْجَرِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (وَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَكَانَتْ (صَلَاتُهُ بَعْدُ)، أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ (تَخْفِيفًا) : فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ عليه السلام كَانَ يُطَوِّلُ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ لِقِلَّةِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَشَقَّ عَلَيْهِمُ التَّطْوِيلُ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ أَعْمَالٍ مِنْ تِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ رِفْقًا بِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ: كَانَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تُفِيدُ الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَقِيلَ: لَا تُفِيدُهُ، وَتَوَسَّطَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فَقَالَ تُفِيدُهُ عُرْفًا لَا وَضْعًا، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَتْ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] بَلْ لِلْحَالَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 692

836 -

«وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

836 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) : مُصَغَّرًا مَخْزُومِيٌّ، رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَمَسَحَ عليه السلام بِرَأْسِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، أَيْ: أَدْبَرَ، وَقِيلَ: أَيْ أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اكْتَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ عليه السلام اكْتَفَى بِقِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فَيُفِيدُ التَّخْفِيفَ فِي الصُّبْحِ اهـ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ عليه السلام؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ قَطُّ اكْتَفَى بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه السلام اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ لَهُ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا؛ إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ: يَعْنِي بِهِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بِتَمَامِهَا وَإِنْ قَصُرَتْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهَا وَإِنْ طَالَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، فَالْمَعْنَى قَرَأَ سُورَةً، هَذِهِ الْآيَةِ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَ:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ كَثِيرُونَ: السُّورَةُ الْكَامِلَةُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ سُورَةٍ وَإِنْ طَالَ، كَمَا أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِشَاةٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعِيرٍ، وَإِنْ كَانَ الشِّرْكُ أَكْثَرَ لَحْمًا؛ وَلِأَنَّ السُّورَةَ لَهَا مَقْطَعٌ وَمَفْصِلٌ تَامٌّ عَنْ غَيْرِهَا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ بَعْضِ السُّورَةِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنَّ قِرَاءَةَ الْكَوْثَرِ مَثَلًا أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ بِخُصُوصِهَا مِنْ مُعْظَمِ الْبَقَرَةِ لِكَوْنِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَزِيَّةِ مَا يُعَادِلُ الثَّوَابَ الْكَثِيرَ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ، كَمَا نَظَرُوا لِذَلِكَ فِي تَفْضِيلِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُضَاعَفَةِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ بِالْبَيْتِ عَلَيْهَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ أَيْضًا، وَالْغَالِبُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عليه السلام السُّورَةُ التَّامَّةُ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عليه السلام قِرَاءَتُهُ السُّورَةَ إِلَّا كَامِلَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ التَّفْرِيقُ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ قَرَأَ فِيهَا الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ قَرَأَ بِآيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ قَدْرِهَا فَقَطْ، قَالُوا عَمَلًا بِالْقِيَاسِ: إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ بِعِشَرَةٍ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا: الْأَطْوَلُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ، وَالسُّورَةُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا سُورَةٌ كَامِلَةٌ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ، فَتَجْزِئَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا بِحَيْثُ يُخْتَمُ جَمِيعُهُ فِي الشَّهْرِ أَفْضَلُ مِنَ السُّوَرِ الْقِصَارِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْقِيَامُ فِيهَا بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَأَفْتَى بَعْضُ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةً فِي رَكْعَتَيْنِ إِنْ فَرَّقَهَا لِعُذْرٍ كَمُرْضٍ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ السُّورَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي سُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَالْأَعْرَافِ بِخِلَافِ سُورَةٍ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعٍ فَتَفْرِيقُهَا خِلَافُ السُّنَّةِ اهـ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ اهـ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، أَنَّهُ عليه السلام قَالَ:" لَا تَقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِدُونَ عِشْرِينَ آيَةً، وَلَا تَقْرَأْ فِي الْعِشَاءِ بِدُونَ عَشْرِ آيَاتٍ " اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِشْرِينَ وَالْعَشْرِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي أَحَدِ الْأَسْفَارِ: إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْتِيلُ أَرْبَعِينَ آيَةً فِي الْإِعَادَةِ لَوْ وَقَعَ فَسَادٌ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ.

ص: 692

837 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه، قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ (الْمُؤْمِنِينَ) ، حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ فَرَكَعَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

837 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، أَيْ: فِي فَتْحِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالصَّحَابَةُ مَحْصُورُونَ وَهُمْ قَطْعًا يَرْضَوْنَ بِتَطْوِيلِهِ عليه السلام، أَوْ أَذِنُوا لَهُ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرُوا بِالْمَدِينَةِ خَفَّفَ اهـ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَهُ: أَوْ أَذِنُوا لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْبُعْدِ.

(فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ) : أَرَادَ بِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1](حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالنَّصْبِ، أَيْ: حَتَّى وَصَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَهَارُونَ)، أَيْ: قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون: 45](- أَوْ ذِكْرُ عِيسَى -) : وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50](أَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : لَمْ يُضْمِرْ حَذَرًا مِنْ إِيهَامِ مَا وَإِنَّ بَعُدَ (سَعْلَةٌ) : بِالْفَتْحِ وَيَجُوزُ الضَّمُّ قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: سُعَالٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ صَوْتٌ يَكُونُ مِنْ وَجَعِ الْحَلْقِ وَالْيُبُوسَةِ فِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السَّعْلَةُ فِعْلَةٌ مِنَ السُّعَالِ، وَإِنَّمَا أَخَذَتْهُ مِنَ الْبُكَاءِ يَعْنِي عِنْدَ تَدَبُّرِ تِلْكَ الْقَصَصِ بَكَى حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ السُّعَالُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِتْمَامِ السُّورَةِ (فَرَكَعَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 693

838 -

«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: الم تَنْزِيلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] » ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

838 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] بَلْ هُوَ لِلْحَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] (وَيَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ)، أَيْ: فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ، وَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ ذِكْرُ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَخَلْقُ آدَمَ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهَا، وَأَحْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَائِنٌ وَيَقَعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (بِـ الم: الْبَاءُ زَائِدَةٌ (تَنْزِيلُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ (فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] : وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي مُدَاوَمَةَ ذَلِكَ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ تَرْكُ تِينِكَ السُّورَتَيْنِ، أَوِ السُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، أَقُولُ: بَلْ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّ عِنْدَ نُزُولِ النَّاسِ إِلَى السَّجْدَةِ يَحْسَبُ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ سَبَقُوهُ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ، فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقُومُ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي زَمَانِنَا بِخُصُوصِهِ لِبَعْضِ الْعَوَامِّ، بَلْ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ بَعْضَ الْعَجَمِ رَاحُوا إِلَى بُخَارَى فَقَالَ وَاحِدٌ: رَأَيْتُ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي مَكَّةَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَقَالَ الْآخَرُ: إِنَّمَا يُصَلُّونَ بِهَذَا صُبْحَ الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقًا، وَسَبَبُ هَذَا كُلُّهُ مُدَاوَمَةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا، وَتَرَكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْعَمَلَ مُطْلَقًا، فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ أَيْضًا كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَعَلَّ مُلَاحَظَتَهُمْ أَنَّ فِي مُحَافَظَةِ الْعَوَامِّ فِي تَرْكِهِ أَظْهَرَ مَنْ فِعْلِهِ؛ وَلِذَا جُوَّزُوا تَرْكَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ قَالَهُ مِيرَكُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُدِيمُ قِرَاءَةَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَتَصْوِيبُ أَبِي حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ لَا يُنَافِي الِاحْتِجَاجَ بِهِ، فَإِنَّ الْمُرْسَلَ يُعْمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ لَهُ شَاهِدًا، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " كُلَّ جُمُعَةٍ " نَعَمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: ثَبَتَ أَنَّهُ عليه السلام قَرَأَ بِغَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَبَرُ " أَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا بِسَجْدَةٍ غَيْرِ الم تَنْزِيلُ " فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَرَأَ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَسَجَدَ بِهِمْ فِيهَا، وَزُعِمَ: احْتِمَالُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ " الم تَنْزِيلُ " وَلَمْ يَسْجُدْ بَاطِلٌ، فَقَدْ صَحَّ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَجَدَ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ فِي " الم تَنْزِيلُ ".

ص: 693

839 -

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه، قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، «فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ سُورَةَ (الْجُمُعَةِ) ، فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَفِي الْآخِرَةِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

839 -

(وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) : تَابِعِيٌّ، سَمِعَ عَلِيًّا وَأَبَاهُ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ (ابْنِ أَبِي رَافِعٍ) : الْمَدَنِيِّ، مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ كَاتِبَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَهُوَ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ، ذَكَرَهُ فِي التَّقْرِيبِ (قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ، أَيْ: جَعَلَهُ خَلِيفَتَهُ وَنَائِبَهُ (عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ)، أَيْ: مَرْوَانُ (إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ)، أَيْ: صَلَاتَهَا (فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي السَّجْدَةِ)، أَيِ: الرَّكْعَةِ (الْأُولَى، وَفِي الْآخِرَةِ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ)، أَيْ: سُورَتَهَا أَوْ إِلَى آخِرِهَا (فَقَالَ)، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ)، أَيْ: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (يَقْرَأُ بِهِمَا)، أَيْ: تَيْنَكَ السُّورَتَيْنِ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ)، أَيْ: فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ.

ص: 694

840 -

«وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ: بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ، قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

840 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] قَالَ)، أَيِ: النُّعْمَانُ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا)، أَيْ: بِالسُّورَتَيْنِ (فِي الصَّلَاتَيْنِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 694

841 -

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا: بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

841 -

(وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ)، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيِّ، الْمَدَنِيِّ، الْإِمَامِ التَّابِعِيِّ، أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، سَمِعَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، كَذَا فِي التَّهْذِيبِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ) : لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ وَلَا اسْمُ أَبِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو وَاقِدٍ صَحَابِيٌّ، قِيلَ: اسْمُهُ حَارِثُ بْنُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَوْنٍ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوْنُ بْنُ الْحَارِثِ (مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟)، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا؟ ، فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا: بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وَ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ، فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ بِلَا شَكٍّ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ: سَأَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ اهـ، وَلَعَلَّ سُؤَالَ عُمَرَ رضي الله عنه لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّمَكُّنِ فِي ذِهْنِ الْحَاضِرِينَ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ لَهُ وَالْعَالِمِينَ بِأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ عليه السلام.

ص: 694

842 -

«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

842 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، أَيْ: كُلَّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 694

843 -

«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] ، وَالَّتِي فِي (آلِ عِمْرَانَ) : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

843 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ)، أَيْ: سُنَّتِهِ فَفِي الْأُولَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] : تَمَامُهُ {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136](وَالَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ) : فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] : بَقِيَّتُهُ: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] فَفِي قِرَاءَتِهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ضَمُّ السُّورَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا إِلَى الْفَاتِحَةِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 695

الْفَصْلُ الثَّانِي

844 -

(23)«عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ.

الْفَصْلُ الثَّانِي

844 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] : أَيْ سِرًّا لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ مَا كَانَ يُبَسْمِلُ، بَلْ كَانَ يَفْتَتِحُ بِـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] "، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: افْتِتَاحُهُ عليه السلام بِالْبَسْمَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِجَوَازِ افْتِتَاحِهِ بِهَا اسْتِحْبَابًا، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ افْتَتَحَ مَخَافَةَ خِلَافِ الظَّاهِرِ، قُلْتُ: وَإِنَّمَا ارْتَكَبَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ) : أَيْ، بِذَاكَ الْقَوِيِّ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَاكَ مَا فِي ذِهْنِ مَنْ يَعْتَنِي بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَيَعْتَدُّ بِالْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهْمٌ لِمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عِيسَى بِإِخْرَاجِهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ حَدِيثٌ لَا جَرَمَ أَنَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَجْرُوحٌ قَالَهُ فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ تَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا وَظَنًّا لَا قَطْعًا لِصِحَّةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ فِيهَا، مِنْهَا: أَنَّهُ عليه السلام قَرَأَهَا ثُمَّ الْفَاتِحَةَ وَعَدَّهَا آيَةً مِنْهَا، صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام: "«إِذَا قَرَأْتُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَاقْرَءُوا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِحْدَى آيَاتِهَا» "، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَنَازَعَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهَا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] فَقِيلَ: أَيْنَ السَّابِعَةُ؟ فَقَالَ: الْبَسْمَلَةُ، قَالَ: وَمَذْهَبُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلِاتِّبَاعِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَعِشْرُونَ صَحَابِيًّا بِطُرُقٍ ثَابِتَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.

قُلْتُ: يُعَارِضُهُ «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا جَهَرَ عليه السلام فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ» ، وَقَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْجَهْرَ مَنْسُوخٌ، وَسَيَأْتِي «حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَيْ بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ الْجَهْرُ بِدْعَةٌ.

ص: 695

845 -

«وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فَقَالَ: آمِينَ، مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

845 -

(وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ) : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ الْمَضْمُومَةِ عَلَى الْجِيمِ السَّاكِنَةِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قَالَ: آمِينَ يَمُدُّ بِهَا)، أَيْ: بِالْكَلِمَةِ يَعْنِي فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَدٌّ عَارِضٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقَصْرُ، أَوْ مَدٌّ بِأَلْفِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَصْرُهَا وَمَدُّهَا، وَهُوَ مَدُّ الْبَدَلِ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا (صَوْتَهُ) : وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِهِ الْجَهْرُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْجَوَازِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَقَالَ: خَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى غَلَطِهِ فِيهَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ الْمَعْرُوفَ مَدَّ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. قَالَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ، (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: رِوَايَةُ مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرِوَايَةُ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ اهـ، وَكَأَنَّهُ نُقِلَ بِالْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ: «أَمَّنَ حَتَّى سَمِعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ» ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِآمِينَ اهـ.

وَحَمَلَ أَئِمَّتُنَا مَا وَرَدَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ لِلتَّعْلِيمِ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَمَلَ بِالْإِخْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا: «حَسَدَنَا الْيَهُودُ عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هُدِينَا إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى الْجَمَاعَةِ، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ:«إِنَّهُمْ لَمْ يَحْسُدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ ثَلَاثٍ: رَدُّ السَّلَامِ وَإِقَامَةُ الصُّفُوفِ، وَقَوْلُهُمْ خَلْفَ إِمَامِهِمْ فِي الْمَكْتُوبَةِ آمِينَ» ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ عَدِيٍّ:«حَسَدُوكُمْ عَلَى إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَآمَيَنَ» .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو يُعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، «عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بَلَغَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قَالَ: " آمِينَ " وَأَخْفَى بِهَا صَوْتَهُ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، فَقَدْ خَالَفَ سُفْيَانُ شُعْبَةَ فِي الرَّفْعِ، وَلَمَّا اخْتُلِفَ فِي الْحَدِيثِ عَدَلَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُخْفِي، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ عليه السلام الْإِخْفَاءُ، قُلْتُ: مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] شَكَّ أَنَّ آمِينَ دُعَاءٌ، فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الْإِخْفَاءُ بِذَلِكَ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ؛ وَلِأَنَّ آمِينَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ إِجْمَاعًا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى صَوْتِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِتَابَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ؛ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى إِخْفَاءِ التَّعَوُّذِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْ لَا.

ص: 696

846 -

«وَعَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتِ يَوْمٍ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ "، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: " بِآمِينَ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

846 -

(وَعَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا (فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ)، أَيْ: سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ لَيْلَةٍ (فَأَتَيْنَا)، أَيْ: مَرَرْنَا (عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ)، أَيْ: بَالَغَ فِي السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ مِنَ اللَّهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَوْجَبَ)، أَيِ: الْجَنَّةَ لِنَفْسِهِ، يُقَالُ: أَوْجَبَ الرَّجُلُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُ بِهِ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ لِذَنْبِهِ، أَوِ الْإِجَابَةُ لِدُعَائِهِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِهِ، وَإِنْ جَازَ لَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي (إِنْ خَتَمَ)، أَيِ: الْمَسْأَلَةَ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: " بِآمِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: آمِينَ بَعْدَ دُعَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَدْعُو وَالْقَوْمُ يُؤَمِّنُونَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْمِينِ الْإِمَامِ اكْتِفَاءً بِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ إِذِ الْقِيَاسُ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يُؤَمِّنَ الْإِمَامُ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي الْخَارِجِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ كُلٌّ بَيْنِ الدُّعَاءِ وَالتَّأْمِينِ، قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِلتَّرْجَمَةِ، قُلْتُ: الْمُنَاسِبَةُ هِيَ التَّبَعِيَّةُ فِيهِ، أَوِ الدُّعَاءُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ.

ص: 696

847 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ بِسُورَةِ (الْأَعْرَافِ) ، فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

847 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَزَلْ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ بَيَانًا يُعْرَفُ بِهِ الْأَتَمُّ الْأَكْمَلُ وَالْأَوْلَى، وَيَفْصِلُ تَارَةً بِقَوْلِهِ، وَتَارَةً بِفِعْلِهِ مَا يَجُوزُ عَمَّا لَا يَجُوزُ، وَلَمَّا كَانَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ أَضْيَقَ الصَّلَوَاتِ وَقْتًا اخْتَارَ فِيهَا التَّجَوُّزَ وَالتَّخْفِيفَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي النُّدْرَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ أَدَاءَ تِلْكَ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَضْلُ فِي التَّجَوُّزِ فِيهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَتَّسِعُ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ الْأَعْرَافَ عَلَى التَّأَنِّي يَدْخُلُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَلِيلًا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِيُدْرِكَ رَكْعَةً مِنَ الْمَغْرِبِ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ قَرَأَ بَاقِيهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَلَا بَأْسَ بِوُقُوعِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّورَةِ بَعْضُهَا اهـ.

قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يُلَائِمُ قَوْلَ الرَّاوِي (فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي الرَّكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ بَعِيدٌ يَعْنِي لِتَطْوِيلِ الْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ دَعَتْهُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، قُلْتُ: لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَضِيقُ كَمَا قَالَ بِهِ قَوْمٌ مَعَ عَدَمِ مُلَائَمَةِ حُمِلَ فِعْلُهُ عليه السلام عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِتَمَامِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْوَقْتِ عَلَى طَرِيقِ طَيِّ اللِّسَانِ وَالْمُعْجِزَةِ.

قُلْتُ: قِرَاءَةُ تَمَامِهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا فِي رَكْعَةٍ، وَبَعْضُهَا فِي أُخْرَى لَيْسَ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ إِذِ الْوَقْتُ يَسَعُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّهَا بِكَمَالِهَا جُزْءٌ وَرُبْعٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَنَحْنُ نَتَدَارَسُ جُزْأَيْنِ فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقُ، وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه صَلَّى الصُّبْحُ فَقَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا وَهِيَ جُزْءَانِ وَقَرِيبُ نِصْفِ جُزْءٍ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى ضِيقِ وَقْتِهَا وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا عَلَى امْتِدَادِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُكْثِرُ التَّدَبُّرَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَقِرَاءَةُ الْأَعْرَافِ كَذَلِكَ تَسْتَغْرِقُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ غَالِبًا، أَوْضَحُ دَلِيلٍ لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ وَقْتِهَا مَثَلًا أَنْ يَمُدَّهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَذَا غَيْرُهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا بِجَامِعِ أَنَّهُ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ هُوَ فِي عِبَادَةٍ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ، وَإِنْ لَمْ يُوقِعْ فِيهَا رَكْعَةً مِنْهَا فَهِيَ قَضَاءٌ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِمَا فَعَلَهُ فِي الصُّبْحِ فَقِيلَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ، فَقَالَ: إِنَّهَا إِنْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ اهـ.

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَالَغَ فِي الْإِسْفَارِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا، وَالْقِيَاسُ السَّابِقُ إِنَّمَا هُوَ الْفَارِقُ، فَإِنَّ خُرُوجَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مُسْتَلْزَمٌ لِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقْتٌ لِلصَّلَاتَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِ وَقْتِ الصُّبْحِ، نَعَمِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحِ خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: وَبِمَا قَرَّرْتُهُ فِي الْحَدِيثِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَدَّ لِبَيَانِ جَوَازِ الْمَدِّ، وَلِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْمَدِّ وُقُوعُ رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ، أَقُولُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوُقُوعِ، وَلَا عَلَى اللَّاوُقُوعِ، وَكَانَ الْبَيْهَقِيُّ أَخَذَ التَّقْيِيدَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، وَهُوَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ فَقَدْ أَدْرَكَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ» ، غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءَنَا فَرَّقُوا بَيْنَ الصُّبْحِ وَالْعَمَلِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ: مِيرَكُ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

ص: 697

848 -

«وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَتَهُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لِي: " يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟ "، فَعَلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، قَالَ: فَلَمْ يَرَنِي سَرَرْتُ بِهِمَا جَدًّا، فَلَمَّا نَزَلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ، الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: " يَا عُقْبَةَ! كَيْفَ رَأَيْتَ؟» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

848 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قَالَ: كُنْتُ أَقُودُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَتَهُ)، أَيْ: أَجُرُّهَا مِنْ قُدَّامِهَا لِصُعُوبَةِ تِلْكَ الطَّرِيقِ، أَوْ صُعُوبَةِ رَأْسِهَا، أَوْ شَدَّةِ الظَّلَامِ، (فِي السَّفَرِ فَقَالَ لِي: " يَا عُقْبَةُ أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا؟) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا أَوْ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ مَعَ سُهُولَةِ حِفْظِهِمَا فِي التَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ خَاصَّةً

ص: 697

فِي السَّفَرِ، وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ، (فَعَلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا تَقَصَّيْتَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ إِلَى آخِرِهِ سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ مَا وَجَدْتَ فِي بَابِ الِاسْتِعَاذَةِ خَيْرًا مِنْهُمَا (قَالَ)، أَيْ: عُقْبَةُ (فَلَمْ يَرَنِي) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (سُرِرْتُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ جُعِلْتُ مَسْرُورًا وَفَرِحًا (بِهِمَا جِدًّا)، أَيْ: سُرُورًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَنَّهُ اعْتَنَى بِهِمَا وَصَلَّى بِهِمَا فِي صَلَاةٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَصْلًا فِي مَعْنَى جِدًّا لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا (فَلَمَّا نَزَلَ) : صلى الله عليه وسلم (لِصَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى بِهِمَا صَلَاةَ الصُّبْحِ لِلنَّاسِ) : بِحُكْمِ عَجَلَةِ السَّفَرِ أَوْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ مِنَ الْحَذَرِ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا كَانُوا يَقُولُونَ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي، هَذَا مِمَّا خَطَرَ بِبَالِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَلَمَّا فَرَغَ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا عُقْبَةُ كَيْفَ رَأَيْتَ؟)، أَيْ: عَلِمْتَ وَوَجَدْتَ عِدَّةَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ حَيْثُ أُقِيمَتَا مَقَامَ الطَّوِيلَتَيْنِ، يَعْنِي لَوْ لَمْ تَكُونَا عَظِيمَتَيِ الْقَدْرِ لَمَا قَرَأْتُهُمَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ تَسُدَّا مَسَدَّ الطِّوَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُقْبَةَ مَا سُرُّ ابْتِدَاءً لَمَّا لَمْ يَكْشِفْ لَهُ خَيْرِيَّتَهُمَا، وَمَا زَالَ مِنْهُ مَا كَانَ هُوَ فِيهِ مِنَ الْفَزَعِ، وَلَمَّا صَلَّى بِهِمَا كُشِفَ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ، وَأُزِيلَ ذَلِكَ الْخَوْفُ، فَمَعْنَى كَيْفَ رَأَيْتَ، كَيْفَ وَجَدْتَ مِصْدَاقَ قَوْلِي خَيْرَ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا فِي بَابِ التَّعَوُّذِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قُرِئَتَا صِفَةً مُمَيِّزَةً، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَشَارَ عليه السلام إِلَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عُقْبَةُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرِهِ، وَقَدْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَرَآهُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَعَلُّمِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْوَيْلَ، وَشَرَّ مَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَعَيَّنَ السُّورَتَيْنِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ وَجَازَةِ اللَّفْظِ وَالِاشْتِمَالِ عَلَى الْمَعْنَى الْجَامِعِ، وَلَمْ يَفْهَمْ عُقْبَةُ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّخْصِيصِ، فَظَنَّ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى مِقْدَارِ السُّورَةِ وَقِصَرِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَمْ يَرَنِي سُرِرْتُ بِهِمَا جَدًّا، وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا لِيُعَرِّفَهُ أَنَّ قِرَاءَتَهُمَا فِي الْحَالِ الْمُتَّصِفِ عَلَيْهَا أَمْثَلُ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمَا يَسُدَّانِ مَسَدَّ الطَّوِيلَتَيْنِ اهـ.

وَفِي جَوَاهِرِ الْفِقْهِ: يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرَ مُؤَوِّلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَفَرَ مُطْلَقًا أَوَّلَ أَوْ لَمْ يُؤَوِّلْ، وَفِي بَعْضِ الْفَتَاوَى فِي إِنْكَارِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَفَرَ، كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ ظَنِّيَّةً لَمْ يَكْفُرْ إِجْمَاعًا جَاحِدُهَا وَلَا مُثْبِتُهَا، إِذِ التَّكْفِيرُ لَا يَكُونُ بِالظَّنِيَّاتِ، بَلْ وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَطْعِ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ، كَمَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ بِإِنْكَارِ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ كَمَا جَاءَ عَنْهُ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: إِنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ رُدَّ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَصْلَ الْقُرْآنِيَّةِ، بَلْ إِثْبَاتُهُمَا بِالْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ أَمْرُهُ عليه السلام بِإِثْبَاتِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَا صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ إِسْقَاطِ الْفَاتِحَةِ مِنْ مُصْحَفِهِ.

قُلْتُ: يُحْمَلُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِ عَلَى إِنْكَارِ أَصْلِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَيَكُونُ مَقْبُولًا لَا مَرْدُودًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُقْبَةَ، وَالْقَاسِمُ هَذَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 698

849 -

«وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

850 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ".

ــ

849 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ)، أَيْ: فِي فَرْضِهِ وَيَحْتَمِلُ سُنَّتَهُ (لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] : عَلَى التَّوْزِيعِ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ: (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ)، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَتَمَامُهُ: " «وَفِي الْعِشَاءِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقُونَ» يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي إِسْنَادِهِ سَعِيدُ بْنُ سِمَاكٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ قَرَأَ بِهِمَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.

ص: 698

850 -

(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَظَاهِرُ إِسْنَادِهِ الصِّحَّةُ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: أَخْطَأَ بَعْضُ رُوَاتِهِ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: (إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ لَيْسَ عَلَى الدَّوَامِ، بَلْ يَقْرَأُ فِي كُلِّ وَقْتٍ شَيْئًا لِيُعْلِمَ النَّاسَ جَوَازَ مَا يَقْرَأُ.

ص: 699

851 -

«وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

852 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: " بَعْدَ الْمَغْرِبِ ".

ــ

851 -

(وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أُحْصِي) : " مَا " نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا أُطِيقُ أَنْ أَعُدَّ (مَا سَمِعْتُ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: سَمَاعِي (رَسُولَ اللَّهِ يَقْرَأُ) : أَيْ لَا أَقْدِرُ أَنْ أَعُدَّ الْمَرَّاتِ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِيهَا، أَوْ مُدَّةَ سَمِعْتُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْعَائِدِ إِلَى " مَا " وَكَانَ الْأَصْلُ مَا سَمِعْتُ قِرَاءَتَهُ فَأُزِيلَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ مَقَرِّهِ وَجُعِلَ حَالًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي} [آل عمران: 193]، أَيْ: نِدَاءَ الْمُنَادِي اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ مُنَادِيًا مَفْعُولٌ لِسَمِعْنَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي نَادَى هَلْ هُوَ صِفَةٌ لِمُنَادِيًا، أَوْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى مَا فِي إِعْرَابِ أَبِي الْبَقَاءِ، وَقِيلَ: سَمِعْتُ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] إِلَخْ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهُمَا وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِلَخْ: فِي الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَاصِمٍ اهـ، وَعَاصِمٌ هَذَا قَالَ الذَّهَبِيُّ: ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ.

852 -

(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا أَنَّهُ) : أَيِ ابْنَ مَاجَهْ أَوْ أَبَا هُرَيْرَةَ (لَمْ يَذْكُرْ: " بَعْدَ الْمَغْرِبِ)، أَيْ: لَمْ يَذْكُرْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.

ص: 699

853 -

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ سَلْمَانُ: " صَلَّيْتُ خَلْفَهُ فَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخِفِّفُ الْعَصْرَ وَيَقْرَأُ الْمَغْرِبَ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ.

ــ

853 -

(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ)، أَيْ: بِصَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فُلَانٍ) : قِيلَ: هُوَ عَلِيٌّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْعٍ، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهَا، قِيلَ: لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ أَوْ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: تَسْعٍ، وَأَمَّا أَنَسٌ فَرَوَى نَحْوَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الرُّكُوعِ مَعَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَنَصَّ أَنَّ فُلَانًا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَنَسًا تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُخْتَارُ الطِّيبِيِّ (قَالَ سُلَيْمَانُ: صَلَّيْتُ خَلْفَهُ)، أَيْ: خَلْفَ ذَلِكَ الْفُلَانِ فَكَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ

ص: 699

الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ) ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّهْرِ (وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ) : وَيَلْحَقُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِالْعِشَاءِ فِي مَذْهَبِنَا (وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا فَسَهْوٌ مِنْهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: طَالَ امْتَدَّ فَهُوَ طَوِيلٌ وَطُوَالٌ كَغُرَابٍ (ج) ، طِوَالٌ وَطِيَالٌ بِكَسْرِهِمَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: السَّبْعُ الْمُفَصَّلُ أَوَّلُهُ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ سُمِّيَ مُفَصَّلًا؛ لِأَنَّ سُوَرَهَا قِصَارٌ، كُلُّ سُورَةٍ كَفَصْلٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَقِيلَ طِوَالُهُ إِلَى سُورَةِ عَمَّ، وَأَوْسَاطُهُ إِلَى وَالضُّحَى، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ قِيلَ: سُورَةُ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ سُورَةُ الْفَتْحِ، وَقِيلَ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ اهـ.

وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: أَمَّا الطِّوَالُ فَمِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِلَى الْبُرُوجِ، وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَمِنَ الْبُرُوجِ إِلَى سُورَةِ (لَمْ يَكُنْ) : وَأَمَّا الْقِصَارُ فَمِنْ سُورَةِ (لَمْ يَكُنْ) : إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ) .

ص: 700

854 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ:" «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِلنِّسَائِيِّ مَعْنَاهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، قَالَ:" «وَأَنَا أَقُولُ: مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآنُ فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ» ".

ــ

854 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ، فَثَقُلَتْ)، أَيْ: عَسُرَتْ (عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ» "، قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ يُقَرِّرُ فِعْلَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ أَجَابُوا بِنِعَمْ، كَأَنَّهُ عليه السلام عَسُرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَلَمْ يَدْرِ السَّبَبَ فَيَسْأَلُ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا لِي يُنَازِعُنِي الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا قَالَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ، وَحَقُّ الظَّاهِرِ خَلْفِي لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ تِلْكَ الْفِعْلَةَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ لِمَنْ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مُحْتَمَلٌ أَنَّ سَبَبَ الثِّقَلِ النَّقْصُ النَّاشِئُ عَنْ عَدَمِ اكْتِفَائِهِمْ بِقِرَاءَتِهِ، وَالْكَامِلُ رُبَّمَا يَتَأَثَّرُ بِنَقْصِ مَنْ وَرَاءَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه السلام افْتَتَحَ مَرَّةً فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِسُورَةِ الرُّومِ فَغَلِطَ فِيهَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ وَرَاءَهُ لَا يُحْسِنُونَ الطَّهُورَ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: عَسُرَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَى النَّبِيِّ لِكَثْرَةِ أَصْوَاتِ الْمَأْمُومِينَ بِالْقِرَاءَةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ سِرًّا بِحَيْثُ يَسْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، فَأَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِمَاعَهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَكْفِيهِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَقْرَأُ فِي السِّرِّيَّةِ وَلَا الْجَهْرِيَّةِ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ فِي الْقِرَاءَةِ فِي السِّرِّيَّةِ وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْحَدِيثَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَيْضًا، (قَالَ: " لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) : النَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ فَيُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ وَقْتَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنَ الْجَهْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِيَ أَظْهَرُ، بَلِ الصَّوَابُ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَهْرَ لَمْ يَسْتَقِمِ اسْتِثْنَاءُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ.

قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الْآتِيَةُ وَيَنْصُرُهُ سُؤَالُهُ عليه السلام أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ جَهْرًا لَمَا قَالَ: " «لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ» "، لَكِنْ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالسِّرِّ فِي الْقِرَاءَةِ لِلْمَأْمُومِ، مَعَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي الْمَقَامِ لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ الْإِمَامُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخَذَ مِنْهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ لَا سُورَةَ لِلْمَأْمُومِ فِي الْجَهْرِيَّةِ، بَلْ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَا إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَّعِظُوا، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ لَمْ يَسْمَعِ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ أَوَسَمِعَ صَوْتًا لَا يَفْهَمُهُ سُنَّتِ السُّورَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ، بِمَنْزِلَةِ السِّرِّيَّةِ، (فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، قُلْتُ: تَمَامُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخٍ بَعْدَ مَنْعٍ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِخُصُوصِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ)، أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ (وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ) : قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ لَا يُطْعَنُ فِيهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِسْنَادُهُ مُسْتَقِيمٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: صَحِيحٌ اهـ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ، غَيْرُ صَحِيحٍ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ.

ص: 700

(وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ قَالَ صلى الله عليه وسلم : مَوْضِعَ لَا تَفْعَلُوا (وَأَنَا أَقُولُ) : أَيْ فِي نَفْسِي (مَا لِي يُنَازِعُنِي)، أَيْ: يُعَالِجُنِي وَلَا يَتَيَسَّرُ (الْقُرْآنُ) : بِالرَّفْعِ، أَيْ: لَا يَتَأَتَّى لِي، فَكَأَنِّي أُجَاذِبُهُ فَيُعْصَى وَيُثْقَلُ عَلَيَّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَبِالنَّصْبِ، أَيْ: يُنَازِعُنِي مَنْ وَرَائِي فِيهِ بِقِرَاءَتِهِمْ عَلَى التَّغَالُبِ يَعْنِي: تُشَوِّشُ قِرَاءَتُهُمْ عَلَى قِرَاءَتِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةِ يُنَازِعُنِّي بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى حَذْفِ الْوَاوِ وَنَصْبِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ فِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ إِذْ لَا يَجُوزُ التَّأْكِيدُ إِلَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ بِشَرْطِ الطَّلَبِ، (فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ)، أَيْ: سِرًّا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجْهَرْ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَيْضًا سِرًّا، وَالسِّرُّ أَنَّ فِي الْجَهْرِيَّةِ اسْتِمَاعُ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ السِّرِّيَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ سُكُوتًا مُجَرَّدًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام:" «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ» "، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 701

855 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: " هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنِّي أَقُولُ: مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟» قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ.

ــ

855 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ)، أَيْ: فَرَغَ (مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: " هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟) : بِالْمَدِّ، وَيَجُوزُ قَصْرُهُ يَعْنِي الْآنَ، وَأَرَادَ بِهِ قَرِيبًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ سِرًّا، وَإِلَّا فَالْجَهْرُ لَا يَخْفَى (فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ) ، بِفَتْحِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، أَيْ: فِيهِ كَذَا، فِي الْأَزْهَارِ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ قِيلَ: عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: أُدَاخَلُ فِي الْقِرَاءَةِ وَأُشَارَكُ فِيهَا وَأُغَالَبُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ أَوِ اشْتَغَلُوا عَنْ سَمَاعِ قِرَاءَتِهِ الْأَفْضَلِ بِقِرَاءَتِهِمْ سِرًّا فَشَغَلُوهُ، فَكَأَنَّهُمْ نَازَعُوهُ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ سِرًّا قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ سِرًّا، فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ (قَالَ)، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ نَقْلَ مِيرَكُ عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَخْ، هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَا مَرْفُوعًا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ فَارِسٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمُ اهـ.

وَقَوْلُهُ: (فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ)، أَيْ: تَرَكُوهَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ شَامِلٌ لِلْجَهْرِ وَالسِّرِّ وَالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ (فِيمَا جَهَرَ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ) : وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا كَانَ يُخْفِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا (حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ)، أَيْ: مَا ذُكِرَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَمَنْ قَالَ بِقِرَاءَتِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ حُمِلَ عَلَى تَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ خَلْفَهُ اهـ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام:(هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) ، (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى التِّرْمِذِيِّ تَحْسِينَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ضِعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ ابْنَ أَكْيَمَةَ مَجْهُولٌ، وَعَلَى أَنَّ جُمْلَةَ " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ " لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ مُدْرَجَةً فِيهِ) ، هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمُ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أُكَيْمَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةً أَظُنُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ بِمَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ: " وَمَا لِي أُنَازَعُ فِيهَا؟ " قَالَ مَعْمَرٌ: فَانْتَهَى النَّاسُ إِلَخْ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَانْتَهَى النَّاسُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَالرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 701

(وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: نَحْوَهُ)، أَيْ: مَعْنَاهُ، قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ اهـ، وَكَذَا يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ " مَنْ صَلَّى خَلَفَ إِمَامٍ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ " ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَكَذَا خَبَرُ النَّهْيِ عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُمَا عَلَى الْمَسْبُوقِ، أَوْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ.

ص: 702

856 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْبَيَاضِيٍّ رضي الله عنهم، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَنْظُرْ مَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

856 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالْبَيَاضِيِّ) : الْوَاوُ عَاطِفَةٌ، وَالْبَيَاضِيُّ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْغَنَّامِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَنْسَابِ: إِنَّهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، وَفِي آخِرِهَا الضَّادُ الْمُعْجَمَةُ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْهَا بَيَاضَةُ الْأَنْصَارِ وَهُوَ بَطْنٌ مِنْهُمْ اهـ، وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمْ صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ، وَقِيلَ: لَا صُحْبَةَ لَهُ.، (قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ) ، أَيْ: يُحَادِثُهُ وَيُكَالِمُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِ الْمَعْنَوِيِّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ (فَلْيَنْظُرْ مَا يُنَاجِيهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مَا يُنَاجِي بِهِ، " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، أَيْ: مَا يُنَاجِي الرَّبَّ تَعَالَى مِنَ الذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، فَلْيَتَفَكَّرْ فِي مَعَانِيهِ، أَوْ فَلْيَتَأَمَّلْ مَا يُنَاجِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي يُنَاجِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الرَّبِّ، وَفِي بِهِ إِلَى " مَا " وَمَا مَفْعُولٌ فَلْيَنْظُرْ بِمَعْنَى فَلْيَتَأَمَّلْ فِي حَوَابِ مَا يُنَاجِيهِ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، وَمُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ اللِّسَانَ وَالْإِقْبَالِ إِلَى اللَّهِ بِشَرَاشِرِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ يُنَازِعْهُ صَاحِبُهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:( «وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» ) : وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: عُدِّيَ بِعَلَى لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْغَلَبَةِ، أَيْ: لَا يَغْلِبُ وَلَا يُشَوِّشُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ جَاهِرًا بِالْقِرَاءَةِ اهـ، وَالْبَعْضُ أَعَمُّ مِنْ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ أَوْ قَارِئٍ، وَقَوْلُهُ: بِالْقُرْآنِ أَيْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي، وَالْإِيذَاءُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنِ الْمُصَلِّينَ، فَضْلًا عَنِ الْمُقْرِئِينَ، فَعُلِمَ إِيضَاحُ وَجْهِ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلِلنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

ص: 702

857 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

857 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» )، أَيْ: لِيُقْتَدَى بِهِ ( «فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: عَقِبَهُ لَا مَعَهُ وَلَا قَبْلَهُ وُجُوبًا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْعِقَادُ لِلتَّابِعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَابِعٌ قَبْلَ مَتْبُوعِهِ، وَنَدْبًا فِي بَاقِي التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهَا مَا يُخِلُّ بِنُظُمِ التَّبَعِيَّةِ مِنْ أَصْلِهَا (وَإِذَا قَرَأَ) : ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ؛ وَلِذَا قَالَ (فَأَنْصِتُوا)، أَيِ: اسْكُتُوا وَلَمْ يَقُلْ فَاسْتَمِعُوا، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204]، أَيْ: حَالَ الْجَهْرِ وَأَنْصِتُوا حَالَ السِّرِّ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَدِلَّةِ أَئِمَّتِنَا، وَحَمَلُوا الْقِرَاءَةَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ اهـ، وَيُحْتَمَلُ التَّقْيِيدُ بِالْجَهْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ ظَاهِرًا، وَلَعَلَّهُ مُعَلَّلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ إِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوِ السُّورَةَ وَسَمِعْتُمْ قِرَاءَتَهُ، فَاسْكُتُوا عَنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَكُمْ مَعَهُ تُفَوِّتُ سَمَاعَهُ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَيَجِبُ قِرَاءَتُهَا، وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ إِمَامِهِ لَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ

) .

ص: 702

858 -

«وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي، قَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ "، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا لِلَّهِ؟ فَمَاذَا لِي؟ قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي " فَقَالَ هَكَذَا بِيَدَيْهِ وَقَبَضَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَذَا فَقَدَ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: " إِلَّا بِاللَّهِ ".

ــ

858 -

(وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ)، أَيْ: وِرْدًا أَوْ أَتَعَلَّمَ وَأَحْفَظَ (مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي)، أَيْ: عَنْ وِرْدِ الْقُرْآنِ، أَوْ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ: ( «قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ) : فَإِنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَخُلَاصَةُ الْأَذْكَارِ الطَّيِّبَاتِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ الْجَامِعَاتِ لِلصَّفَاتِ التَّنْزِيهِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِنُعُوتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ) ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلِمَاتِ ذِكْرٌ لِلَّهِ مُخْتَصٌّ لَهُ أَذْكُرُهُ بِهِ (فَمَاذَا لِي) : أَيْ: عَلِّمْنِي شَيْئًا يَكُونُ لِي فِيهِ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ وَأَذْكُرُهُ لِي عِنْدَ رَبِّي، قَالَ:(قُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي)، أَيْ: بِتَرْكِ الْمَعَاصِي أَبَدًا أَوْ بِغُفْرَانِهَا (وَعَافِنِي) : مِنْ آفَاتِ الدَّارَيْنِ (وَاهْدِنِي)، أَيْ: ثَبِّتْنِي عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دُلَّنِي عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَحْكَامِ (وَارْزُقْنِي)، أَيْ: رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا كَافِيًا مُغْنِيًا عَنِ الْأَنَامِ، أَوِ التَّوْفِيقَ وَالْقَبُولَ وَحُسْنَ الِاخْتِتَامِ (فَقَالَ)، أَيْ: فَعَلَ الرَّجُلُ (هَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَشَارَ إِشَارَةً مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ (بِيَدَيْهِ) : تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ (وَقَبَضَهُمَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَبَضَهُمَا فَقِيلَ، أَيْ: عِنْدَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِأَنَامِلِهِ وَقَبَضَ كُلَّ أُنْمُلَةٍ بِعَدَدِ كُلِّ كَلِمَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ بَيَّنَ الرَّاوِي الْمُرَادَ بِالْإِشَارَةِ بِهِمَا فَقَالَ: وَقَبَضَهُمَا أَيْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَحْفَظُ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَا يَحْفَظُ الشَّيْءَ النَّفِيسَ بِقَبْضِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُشِيرَ هُوَ الْمَأْمُورُ، أَيْ: حَفِظْتُ مَا قُلْتَ لِي وَقَبَضْتُ عَلَيْهِ، فَلَا أُضَيِّعُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّاوِي، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا هَذَا) : أَيِ: الرَّجُلُ (فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كِنَايَةٌ عَنْ أَخْذِهِ مَجَامِعَ الْخَيْرِ بِامْتِثَالِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُشِيرُ هُوَ عليه السلام حَمْلًا لَهُ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْحِفْظِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الِامْتِثَالَ فَبَشَّرَهُ وَمَدَحَهُ بِأَنَّهُ ظَفَرَ بِمَا لَمْ يَظْفَرْ بِهِ غَيْرُهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْفَظَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّخِذَهُ وِرْدًا لِي فَعَلِّمْنِي مَا أَجْعَلُهُ وِرْدًا لِي فَأَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فَلَمَّا عَلَّمَهُ مَا فِيهِ تَعْظِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى طَلَبَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالرِّزْقِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَطْلُوبَهُ مَا يَجْعَلُهُ وِرْدًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ أَبَدًا قَبْضُهُ بِيَدَيْهِ، أَيْ: إِنِّي لَا أُفَارِقُهُ مَا دُمْتُ حَيًّا وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تَعَلُّمِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ تَأْوِيلُهُ إِنِّي لَا أَسْتَطِعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" قُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ " إِلَخْ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَمْ يَعْلَمِ الْفَاتِحَةَ، وَعَلِمَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ لَزِمَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ عَدَدَ آيَاتٍ وَحُرُوفٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْهُ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ عَجْزَ الْعَرَبِيِّ الْمُتَكَلِّمِ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ تَعَلُّمِ مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ اهـ.

وَنَقْلَ مِيرَكُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، بَلْ قَوْلُهُ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مَعَ إِيرَادِ الْمُحَدِّثِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَّا لَكَانَ إِيرَادُهُ فِي بَابِ التَّسْبِيحِ أَلْيَقَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْجَلَافَةِ وَالْبَلَادَةِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ بِلَا شُبْهَةٍ، فَالِاسْتِبْعَادُ فِي مَحَلِّهِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَوْ كَانَ فِيهَا لَبَيَّنَهُ الرَّاوِي، وَلَنَقَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ زَعَمَ أَحَدٌ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، قُلْتُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْفَرِيضَةِ اهـ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا يُقَالُ لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ لِلتِّرْمِذِيِّ

ص: 703

فِي كِتَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ، وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ ثُمَّ ارْكَعْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ بِنَاؤُهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَابْنُ السَّكَنِ وَصَحَّحَهُ نَقَلَهُ مِيرَكُ، عَنِ ابْنِ الْمُلَقِّنِ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ (وَانْتَهَتْ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ:" إِلَّا بِاللَّهِ ": قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، لَكِنَّهُ اعْتَرَضَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ وَبَيَّنَ ضَعْفَهُ، وَيُجْمَعُ بِحَمْلِ التَّصْحِيحِ فِيهِ عَلَى التَّحْسِينِ لِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي حَسَّنَهُ فِيمَا مَرَّ.

ص: 704

859 -

«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

859 -

«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا قَرَأَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» . وَقَالَ الْمُظْهِرُ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي غَيْرِهَا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ يَجُوزُ فِي النَّوَافِلِ اهـ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، «عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: إِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعًا أَيْضًا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَمَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ تَقْدِيمِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى أَحْمَدَ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ.

ص: 704

860 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ (وَالْمُرْسَلَاتِ) ، فَبَلَغَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] فَلْيَقُلْ: " آمَنَّا بِاللَّهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: «وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ".

ــ

860 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِـ " التِّينِ وَالزَّيْتُونِ)، أَيْ: بِهَذِهِ السُّورَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا (فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] ، أَيْ: أَقْضَى الْقَاضِينَ يَحْكُمُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، (فَلْيَقُلْ: بَلَى)، أَيْ: نَعَمْ (وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ)، أَيْ: كَوْنِكَ أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ (مِنَ الشَّاهِدِينَ)، أَيِ: أَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ مَنْ لَهُ مُشَافَهَةٌ فِي الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنَا شَاهِدٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا فِي: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَفِي: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] أَبْلَغُ مِنْ: وَكَانَتْ قَانِتَةً، وَمِنْ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ صَالِحٌ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي عِدَادِ الْكَمَالِ وَسَاهَمَ مَعَهُمُ بِالْفَضَائِلِ لَيْسَ كَمَنِ انْفَرَدَ عَنْهُمْ اهـ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، (وَمَنْ قَرَأَ:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ} [القيامة: 40]، أَيِ: الَّذِي جَعَلَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ تُمْنَى فِي الرَّحِمِ {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]، فَلْيَقُلْ:" بَلَى) : وَفِي رِوَايَةٍ: بَلَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فَلْيَقُلْ: بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَكَأَنَّهُ حُذِفَ لِفَهْمِهِ مِنَ الْأَوَّلِ فَبَعِيدٌ (وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسِلَاتِ، فَبَلَغَ لِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) ، أَيْ: بَعْدَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ آيَةٌ مُبْصِرَةٌ وَمُعْجِزَةٌ بَاهِرَةٌ، فَحِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَبِأَيِّ كِتَابٍ بَعْدَهُ (يُؤْمِنُونَ، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ) : أَيْ بِهِ، وَبِكَلَامِهِ، وَلِعُمُومِ هَذَا لَمْ يَقُلْ آمَنَّا بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قُلْ أُخَالِفُ أَعْدَاءَ اللَّهِ الْمُعَانِدِينَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيِ: الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا، لَكِنْ مَا هُنَا مِنَ الْفَضَائِلِ، (وَالتِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (إِلَى قَوْلِهِ: " وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ.

ص: 704

861 -

«وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ سُورَةَ (الرَّحْمَنِ) ، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ، قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

861 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا: تَأْكِيدٌ (فَسَكَتُوا)، أَيْ: مُسْتَمِعِينَ (قَالَ: " لَقَدْ قَرَأَتُهَا عَلَى الْجِنِّ، لَيْلَةَ الْجِنِّ)، أَيْ: لَيْلَةَ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَكَانُوا)، أَيِ: الْجِنُّ (أَحْسَنَ مَرْدُودًا)، أَيْ: جَوَابًا وَرَدًّا لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ الْمُتَكَرِّرُ فِيهَا بِـ " أَيِّ "(مِنْكُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَرْدُودُ بِمَعْنَى الرَّدِّ كَالْمَخْلُوقِ وَالْمَعْقُولِ نَزَّلَ سُكُوتَهُمْ وَإِنْصَاتَهُمْ لِلِاسْتِمَاعِ مَنْزِلَةَ حُسْنِ الرَّدِّ، فَجَاءَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَيُوَضِّحُهُ كَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: نَزَّلَ سُكُوتَهُمْ مِنْ حَيْثُ اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَنْ هُوَ مُكَذِّبٌ بِآلَاءِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْجِنِّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّ نَفْيَهُمُ التَّكْذِيبَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاللَّفْظِ أَيْضًا أَدَلُّ عَلَى الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. (كُنْتُ)، أَيْ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ (كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ)، أَيْ: عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَيْ: أَيِّ نِعْمَةٍ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ تُكَذِّبُونَ وَتَجْحَدُونَ نِعَمَهُ بِتَرْكِ شُكْرِهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ (قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " نُكَذِّبُ " الْآتِي (مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا) : بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ النِّدَاءِ (نُكَذِّبُ) : أَيْ لَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا (فَلَكَ الْحَمْدُ)، أَيْ: عَلَى نِعَمِكَ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، الْمُخَلِّصَتَيْنِ مِنَ النِّيرَانِ، الْمُوجِبَتَيْنِ لِدَرَجَاتِ الْجِنَانِ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ أَنَّهَا عَرُوسُ الْقُرْآنِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنَّهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، قِيلَ: وَمِنَ الْغَرِيبِ إِيرَادُهُ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ، قُلْتُ: لَعَلَّ الْأُولَيَيْنِ لِاحْتِمَالِهِمَا دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، وَذَكَرَ الْأَخِيرَ تَبَعًا لَهُمَا وَاطِّرَادًا فِي حُكْمِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 705

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

862 -

«عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» ، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

862 -

(عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ) : تَابِعِيٌّ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ) : الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْبَارِزُ إِلَى مُعَاذٍ، لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ (أَنَّهُ)، أَيِ: الرَّجُلُ (سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا) : تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّبْعِيضِ، فَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ قَرَأَ فِي كُلٍّ مِنْ رَكْعَتَيْهَا {إِذَا زُلْزِلَتْ} [الزلزلة: 1] بِكَمَالِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي كُلٍّ مِنْ رَكْعَتَيْهَا (فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ) : أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْأُولَى إِذَا زُلْزِلَتْ (أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا) : وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ إِذَا ضَمَّ السُّورَةَ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ فِي مَذْهَبِنَا وَسُنَّةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَفْضَلُ عَدَمُ تَكْرَارِ سُورَةٍ، سِيَّمَا فِي الْفَرَائِضِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فَعَلَ عَمْدًا لِيُبَيِّنَ بِهِ حُصُولَ أَصْلِ السُّنَّةِ بِتَكْرِيرِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اهـ.

وَالْحَمْلُ عَلَى الْكَمَالِ أَوْلَى، سِيَّمَا فِي وَقْتِ الصُّبْحِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ مَعَ قِصَرِ السُّورَةِ الْمُتَعَلِّقِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مَعْنًى، وَأَيْضًا يَأْبَى عَنِ التَّبْعِيضِ قَوْلُهُ:(أَنَسِيَ) فَإِنَّهُ يَبْعُدُ جِدًّا حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ الْحُكْمَ أَوْ نَسِيَ بَعْضَ السُّورَةِ، هَذَا وَقَدْ وَقَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَرَأَ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي رَكْعَةٍ وَأَعَادَهُ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: لَعَلَّكُمْ قَرَأْتُمْ مَرَّةً لَكُمْ وَمَرَّةً لَنَا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 705

863 -

وَعَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رضي الله عنه، صَلَّى الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهِمَا بِـ (سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

863 -

(وَعَنْ عُرْوَةَ)، أَيِ: ابْنِ الزُّبَيْرِ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ فِيهِمَا) : أَيْ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا أَيْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ (بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا) : يَعْنِي: عَلَى تَوْزِيعِ السُّورَةِ وَتَبْعِيضِهَا فِيهِمَا لَا أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسَعُ لِذَلِكَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ نَظِيرُ قِرَاءَتِهِ عليه السلام الْأَعْرَافَ فِي رَكْعَتَيِ الْمَغْرِبِ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَازِ تَفْرِيقِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ مَا دَاوَمَ عليه السلام إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 706

864 -

وَعَنِ الْفَرَافِصَةِ بْنِ عَصْرٍ الْحَنَفِيِّ رضي الله عنهما، قَالَ مَا أَخَذْتُ سُورَةَ (يُوسُفَ) إِلَّا مِنْ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِيَّاهَا فِي الصُّبْحِ، مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُرَدِّدُهَا، رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

864 -

(وَعَنِ الْفَرَافِصَةِ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْأُولَى وَتُضَمُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ تَابِعِيِّ الْمَدِينَةِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَالْفَاءُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: هُوَ فِي غَيْرِ الْفَرَافِصَةِ: بْنِ الْأَحْوَصِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الضَّمَّ اهـ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفُرَافِصُ: بِالضَّمِّ الْأَسَدُ الشَّدِيدُ الْغَلِيظُ كَالْفَرَافِصَةِ وَبِالْفَتْحِ رَجُلٌ (ابْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي حَنِيفَةَ (قَالَ: مَا أَخَذْتُ)، أَيْ: مَا تَعَلَّمْتُ (سُورَةَ يُوسُفَ إِلَّا مِنْ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : لَا يَنْصَرِفُ وَقَدْ يَنْصَرِفُ رضي الله عنه إِيَّاهَا) ، أَيْ: تِلْكَ السُّورَةَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا (فِي الصُّبْحِ)، أَيْ: فِي صَلَاتِهِ (مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُرَدِّدُهَا)، أَيْ: يُكَرِّرُهَا فِي صَلَوَاتِ الصُّبْحِ وَ " مِنْ " تَعْلِيلٌ لَأَخَذْتُ، قِيلَ: مُدَاوَمَةُ قِرَاءَةِ سُورَةِ يُوسُفَ مُوَرِّثَةٌ لِسَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ مُجَرَّبَةٌ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا يُنَافِي قَوْلَ سُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَاضِلٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، إِذَا هُوَ كَلَامُهُ تَعَالَى فِيهِ وَمَفْضُولٍ كَـ (تَبَّتْ) إِذْ هُوَ كَلَامُهُ فِي عَدُوِّهِ، وَلَا يَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاضِلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَفْعَلْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نِسْيَانِهِ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: كَرِهُوا الْمُدَاوَمَةَ عَلَى سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَجْرِ بَاقِي الْقُرْآنِ اهـ.

قُلْتُ: لَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِدَلِيلِ عِلَّتِهِمُ الْمُدَاوَمَةُ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَمَا وَقَعَ عَنْ عُثْمَانَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ، بَلْ كَثْرَةُ تِلْكَ فِي خُصُوصِ الصُّبْحِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 706

865 -

وَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا بِسُورَةِ (يُوسُفَ) ، وَسُورَةِ (الْحَجِّ) ، قِرَاءَةً بَطِيئَةً، قِيلَ لَهُ: إِذًا لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، قَالَ: أَجَلْ رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

865 -

(وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) : يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْعَنَزِيَّ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَدِيمًا (قَالَ: صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا) ، أَيْ: فِي رَكْعَتَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا، أَيْ: فِي صَلَاتِهِ (بِسُورَةِ يُوسُفَ)، أَيْ: كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي رَكْعَةٍ (وَسُورَةِ الْحَجِّ) : كَذَلِكَ فِي أُخْرَى (قِرَاءَةً بَطِيئَةً) : بِالْهَمْزِ وَيُشَدَّدُ، أَيْ: قِرَاءَةً مُجَوَّدَةً مُرَتَّلَةً مُبَيَّنَةً (قِيلَ لَهُ)، أَيْ: لِعَامِرٍ (إِذًا لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ) : بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: أَوَّلَ مَا يَظْهَرُ الصُّبْحُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ يَعْنِي: قَالَ رَجُلٌ لِعَامِرٍ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ إِذًا، وَاللَّهِ لَقَامَ فِي الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ حِينَ الْغَلَسِ:(قَالَ: أَجَلْ)، أَيْ: نَعَمْ، قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْمُخْتَارِ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مُوَاظَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 706