المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب أحكام المياه] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

- ‌[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ السَّتْرِ]

- ‌[بَابُ السُّتْرَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرُّكُوعِ]

- ‌[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[بَابُ التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ السَّهْوِ]

- ‌[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

- ‌[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

الفصل: ‌[باب أحكام المياه]

الْحَمِيدَةِ اهـ. وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّرَادُفِ جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا اهـ. وَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاصِلُ بِالتَّأْيِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ: حَدِيثُ أَنَسٍ أَصَحُّ مِنْ هَذَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

ص: 445

471 -

وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: أَوْ قَالَ: بِسُؤْرِهَا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ــ

471 -

(وَعَنِ الْحَكَمِ) : بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ عَمْرٍو) : أَيِ: الْغِفَارِيِّ، وَلَيْسَ غِفَارِيًّا ; إِنَّمَا هُوَ مِنْ وَلَدِ ثَعْلَبَةَ أَخِي غِفَارٍ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُضَمُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا النَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِلتَّنْزِيهِ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِفَضْلِ الْمَاءِ الَّذِي اغْتَسَلَ بِهِ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ» ، مَعَ أَنَّهَا أَعْلَمَتْهُ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ:" «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ» "، وَكَذَا النَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ) : أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (أَوْ قَالَ: بِسُؤْرِهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: شَكَّ الرَّاوِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " «بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ، أَوْ بِسُؤْرِهَا» "، وَهُوَ بِالْهَمْزَةِ: بَقِيَّةُ الشَّيْءِ اهـ. وَقَدْ يُخَفَّفُ الْهَمْزُ بِالْإِبْدَالِ (وَقَالَ) : أَيِ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ (حَسَنٌ صَحِيحٌ) : وَخَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ; فَقَالُوا: إِنَّهُ ضَعِيفٌ.

ص: 445

472 -

وَعَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ، كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ. زَادَ مُسَدَّدٌ: وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِهِ:«فِي أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلٍ» .

ــ

472 -

(وَعَنْ حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْحِمْيَرِيِّ) : بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ الْبَصْرِيُّ، مِنْ ثِقَاتِ الْبَصْرِيِّينَ وَأَئِمَّتِهِمْ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مِنْ قُدَمَاءِ التَّابِعِينَ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا) : قِيلَ: هُوَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ، كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ) : لِأَنَّ إِسْلَامَهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ الصَّحَابِيُّ، وَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ، وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ. ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ» ) : أَيْ: بِزِيَادَةِ مَاءِ اغْتِسَالِهِ (أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ) : أَيْ: بِفَضْلَتِهَا (زَادَ مُسَدَّدٌ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ، سَمِعَ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَأَبَا عَوَانَةَ وَغَيْرَهُمَا. وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَمُسَدَّدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا، وَمُسَرْهَدٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ. (وَلْيَغْتَرِفَا) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُكْسَرُ (جَمِيعًا) : ظَاهِرُهُ مَعًا، وَيَحْتَمِلُ الْمُنَاوَبَةَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ (وَزَادَ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِهِ: فِي أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا) : أَيْ: يُسَرِّحُ شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَرَأْسِهِ (كُلَّ يَوْمٍ) : لِأَنَّهُ شِعَارُ أَهْلِ الزِّينَةِ، وَإِنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ يَجْعَلَهُ غِبًّا ; يَفْعَلُهُ يَوْمًا وَيَتْرُكُهُ يَوْمًا، أَوِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ هُنَا: الْوَقْتُ (أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلٍ) : لِأَنَّهُ يُورِثُ الرِّيبَةَ وَالْوَسْوَسَةَ فَيُكْرَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.

ص: 445

473 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ.

ــ

473 -

(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَعَ الِانْصِرَافِ، وَقِيلَ بِعَدَمِهِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ.

ص: 445

[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

ص: 445

(7)

بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

474 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ". قَالُوا: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا» .

(7)

- بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ

مِنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَجَمْعُ الْمَاءِ عَلَى الْمِيَاهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَاءٍ، وَأَصْلُ الْمِيَاهِ مُوَاهٌ لِدَلَالَةِ جَمْعِهِ الْآخَرِ عَلَى الْأَمْوَاهِ، وَتَصْغِيرُ الْمَاءِ عَلَى مُوَيْهٍ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ; لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

474 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (" لَا يَبُولَنَّ ") : بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّأْكِيدِ (" أَحَدُكُمْ ") أَيْ: أَيُّهَا الْأُمَّةُ (فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ) : أَيِ: الرَّاكِدِ السَّاكِنِ مِنْ دَامَ الشَّيْءُ سَكَنَ وَمَكَثَ (" الَّذِي لَا يَجْرِي ": صِفَةٌ ثَابِتَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى، أَوْ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لَهَا، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَجْرِي بِشَيْءٍ مِنْ تَبْنَةٍ وَغَيْرِهَا، وَفِي مَعْنَى الْجَارِي الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ الْعَشْرُ فِي الْعَشْرِ عِنْدَنَا، وَمِقْدَارُ قُلَّتَيْنِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ. (" ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ") : الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ ; أَيْ: لَا يَبُلْ ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ فِيهِ، فَيَغْتَسِلُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَبُولَنَّ، وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا جَزْمُهُ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ لَا يَبُولَنَّ، وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَإِعْطَاءِ ثُمَّ حُكْمَ وَاوِ الْجَمْعِ، أَمَّا الْجَزْمُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا دُونَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، بَلِ الْبَوْلُ فِيهِ مَنْهِيٌّ، سَوَاءٌ أَرَادَ الِاغْتِسَالَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ أَمْ لَا. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ، وَالْمَنْهِيُّ هُنَا الْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ. قَالَهُ مِيرَكُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ احْتِمَالَيْنِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ النَّصْبَ إِنَّمَا يُفِيدُ مَنْعَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا فَيُؤْخَذُ مِنَ الْخَارِجِ.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: ثُمَّ يَغْتَسِلُ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَنْعِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ، فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ بِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالدَّائِمِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَارِيَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ عَطْفُ يَغْتَسِلُ عَلَى يَجْرِي بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ رَكَّةٌ فِي الْمَعْنَى وَإِبْهَامُ خِلَافِ الْمُرَادِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ النَّهْيُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنَ الْحُرْمَةِ ; إِذِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ حِينَئِذٍ الْغُسْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ لَا الْبَوْلُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَيَلْزَمُهُ فَرْضُ ذَلِكَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ رَاكِدٍ، إِذْ هُوَ الْمُتَأَثِّرُ بِالْبَوْلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَالْأَظْهَرُ عَنْهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَثُمَّ بِحَالِهَا، فَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَيْئَيْنِ: الْبَوْلُ فِيهِ مُطْلَقًا، وَالْغُسْلُ فِيهِ مُطْلَقًا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ صَرِيحًا فِي مُسْلِمٍ كَمَا يَأْتِي، وَالنَّهْيُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا تَارَةً يَكُونُ لِلتَّنْزِيهِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ اهـ.

قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى يَبُولَنَّ، وَيَكُونُ ثَمَّ مَثْلَ الْوَاوِ فِي: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ، أَوْ مِثْلَ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] أَيْ: وَلَا يَكُنْ مِنْ أَحَدٍ الْبَوْلُ فِي الْمَاءِ الْمَوْصُوفِ، ثُمَّ الِاغْتِسَالُ، فَثُمَّ اسْتِبْعَادِيَّةٌ، أَيْ: بَعِيدٌ مِنَ الْعَاقِلِ ذَلِكَ أَيِ: الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ تَعْتَمِدُ فِي نَصْبِ يَغْتَسِلُ حَتَّى يَتَمَشَّى لَكَ هَذَا الْمَعْنَى؟ قُلْتُ: إِذَا قَوِيَ الْمَعْنَى لَا يَضُرُّ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ: أَحْضُرُ الْوَغَى. كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ نَقْلُ الْمُغْنِي فَاسْتَحْضِرْهُ، فَإِنَّ الطَّالِبَ بِهِ يَسْتَغْنِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 446

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) : أَيْ: لَهُ رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَثَانِيهِمَا هَذِهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ:" لَا يَغْتَسِلُ ") : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ (" أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ ") : هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِاغْتِسَالِ الْجُنُبِ، فَحِينَئِذٍ قَدْ أَفْسَدَ الْمَاءَ عَلَى النَّاسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاغْتِسَالِ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِالْحَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ إِذَا كَانَ رَاكِدًا لَا يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ الْمُقَيَّدِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ إِمَّا بِزَوَالِ الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، أَوْ بِزَوَالِ الطَّهُورِيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ اهـ. وَكَذَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، لَكِنَّ حُجَّتَهُ تَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (قَالُوا: كَيْفَ يَفْعَلُ) : أَيِ: الْجُنُبُ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا) : أَيْ: يَأْخُذُهُ اغْتِرَافًا وَيَغْتَسِلُ خَارِجًا. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ إِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ لِيَتَنَاوَلَ الْمَاءَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ لِيَغْسِلَهَا مِنَ الْجَنَابَةِ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ اهـ. وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَنَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْجُنُبِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْغُسْلُ فِيهِ لِلتَّنْظِيفِ أَوْ لِلسُّنَّةِ، كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ مَوْجُودٌ فِي الْأَخِيرِ، إِذْ لَنَا وَجْهٌ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْغُسْلِ غَيْرُ طَهُورٍ ; لِأَنَّ الِاسْتِقْذَارَ مَوْجُودٌ فِي غُسْلِ نَحْوِ التَّنْظِيفِ، فَالْوَجْهُ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْجُنُبِ لِكَوْنِهِ أَغْلَظَ.

ص: 447

475 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

475 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» ) : أَيِ: الْوَاقِفِ ; وَهَذَا لِأَنَّ الْمَاءَ السَّاكِنَ إِنْ كَانَ دُونَ قُلَّتَيْنِ تَنَجَّسَ، وَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَلَعَلَّهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ فَيَصِيرُ نَجِسًا بِالتَّغَيُّرِ، وَكَذَا إِنْ كَثُرَ غَايَةَ الْكَثْرَةِ إِذْ لَوْ جُوِّزَ الْبَوْلُ فِيهِ لَبَالَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيَتَغَيَّرُ مِنْ كَثْرَةِ الْبَوْلِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا النَّهْيُ فِي بَعْضِ الْمِيَاهِ لِلتَّحْرِيمِ، وَفِي بَعْضِهَا لِلْكَرَاهَةِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا جَارِيًا لَمْ يَحْرُمُ الْبَوْلُ فِيهِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، لَكِنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَارِيًا فَقِيلَ: يُكْرَهُ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ ; لِأَنَّهُ يُنَجِّسُهُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا رَاكِدًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ، وَلَوْ قِيلَ: يَحْرُمُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا إِذْ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَنَجُّسِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِتَغَيُّرِهِ أَوْ تَنَجُّسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الْغَدِيرَ الَّذِي يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الْآخَرِ يُنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَأَمَّا الرَّاكِدُ الْقَلِيلُ فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالصَّوَابُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ ; لِأَنَّهُ يُنَجِّسُهُ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: التَّغَوُّطُ فِي الْمَاءِ كَالْبَوْلِ فِيهِ بَلْ أَقْبَحُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُكْرَهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَاءِ مُطْلَقًا بِاللَّيْلِ خَشْيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ الْجِنُّ لِمَا قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ مَأْوَى لَهُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 447

476 -

«وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

476 -

(وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) : قِيلَ: أَزْدِيٌّ، وَقِيلَ هُذَلِيٌّ، وَقِيلَ كِنْدِيٌّ، وُلِدَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، حَضَرَ مَعَ أَبِيهِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَذْهَبَتْنِي (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مَرِيضٌ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ: ذُو وَجَعٍ (فَمَسَحَ رَأْسِي) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الشَّمَائِلِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَجَعَ كَانَ بِرَأْسِهِ، فَمَسَحَهُ عليه الصلاة والسلام بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشِفَائِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبَلَغَ السَّائِبُ نَحْوَ الْمِائَةِ وَلَمْ يَشِبْ لَهُ شَعْرٌ وَلَا سَقَطَ لَهُ سِنٌّ. (وَدَعَا لِي) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: بِالْفَاءِ (بِالْبَرَكَةِ) : أَيِ: النَّمَاءِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ وَالنَّعْمَاءِ، (ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَاءِ وُضُوئِهِ. قَالَ مُلَّا حَنَفِي فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَضُوءِ هَنَا فَضْلُ وَضُوئِهِ، يَعْنِي: الْمَاءُ الَّذِي بَقِيَ فِي الظَّرْفِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِمَا يَقْصِدُهُ الشَّارِبُ مِنَ التَّبَرُّكِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى التَّدَاوِي أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ عليه الصلاة والسلام، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا، وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ طَهَارَتِهِ كَانَ بَعْدَهُ؟ فَتَدَبَّرْ. اهـ.

ص: 447

وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ السَّائِلَ مِنْ أَعْضَائِهِ - لِشَرَفِهَا - لَا يَنْجُسُ، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا طَهَارَةَ فَضَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم. (ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) : أَيْ: صلى الله عليه وسلم (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا، وَقِيلَ: الْخَاتَمُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الطَّابِعُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَاتَمِ هُنَا هُوَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابِعُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى النُّبُوَّةِ إِمَّا لِأَنَّهُ خُتِمَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِحِفْظِهَا وَحِفْظِ مَا فِيهَا؛ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِهَا، أَوِ اسْتِيثَاقِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِنُبُوَّتِهِ عليه الصلاة والسلام (بَيْنَ كَتِفَيْهِ) : حَالٌ مِنَ الْخَاتَمِ أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي. قَالَ بَعْضُهُمْ: خَاتَمُ النُّبُوَّةِ أَثَرٌ كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ نُعِتَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَانَ عَلَامَةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَصِيَانَةً لِنُبُوَّتِهِ عَنْ تَطَرُّقِ التَّكْذِيبِ وَالْقَدْحِ، كَالشَّيْءِ الْمُسْتَوْثَقِ عَلَيْهِ بِالْخَتْمِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ بِهِ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعِيسَى عليه الصلاة والسلام لَا يَنْزِلُ بِنُبُوَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ يَنْزِلُ عَامِلًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَيَقْتَدِي بِبَعْضِ أُمَّتِهِ، وَقَتْلُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ شَرِيعَتِنَا ; لِأَنَّ أَخْذَهَا مُغَيًّا بِنُزُولِهِ لِزَوَالِ شُبْهَتِهِمْ حِينَئِذٍ الْمُجَوِّزَةُ لِقَبُولِهَا مِنْهُمْ. قِيلَ: لَا تَتِمُّ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إِلَّا لَوْ كَانَ الْخَاتَمُ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ خَاتَمًا فَلَا يَتِمُّ اهـ.

وَيُرَدُّ بِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ: هَذَا الْخَاتَمُ الْمَخْصُوصُ فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ الدَّالِّ عَلَى تَمَيُّزِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّ خَوَاتِيمَهُمْ كَانَتْ فِي أَيْمَانِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ وَهْبٍ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَقُرْبِ خَاتَمِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ أَيْ: تَقْرِيبًا ; حَتَّى لَا يُنَافِيَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرَ، بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَتُفْتَحُ فَمُعْجَمَتَيْنِ، وَهُوَ أَعْلَى الْكَتِفِ، أَوِ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي عَلَى طَرَفِهِ، أَوْ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ التَّحَرُّكِ أَقْوَالٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَوْنُهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ: أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ وَحِكْمَةُ الْأُولَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَوْقَ الْقَلْبِ، فَبِخَتْمِهِ لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ شَيْءٍ إِلَى الْقَلْبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (مِثْلَ) : نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: كَمِثْلِ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ هُوَ هُوَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الشَّمَائِلِ: فَإِذَا هُوَ مِثْلُ (زِرِّ الْحَجَلَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الزِّرُّ بِتَقَدُّمِ الزَّايِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى مَا يَكُونُ فِي حَجَلَةِ الْعَرُوسِ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ بِفَتْحَتَيْنِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يُسْتَرُ بِالثِّيَابِ، وَيَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ. قُلْتُ: وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْآنَ النَّامُوسِيَّةَ. قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّايِ بِمَعْنَى الْبَيْضِ، وَالْحَجَلَةُ: هِيَ الْقَبَجَةُ، وَهِيَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ بِتَقَدُّمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ. وَقَالَ مُلَّا حَنَفِي: إِنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحِيحَ الرَّاءُ قَبْلَ الزَّايِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ الْمُرَادُ وَاحِدُ الْأَزْرَارِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا فِي حِجَالِ الْعَرَائِسِ مِنَ الْحُلَلِ وَالسُّتُورِ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَلَاغَةِ، قَاصِرٌ فِي التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُلَائِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بَيْضَةَ الْحَجَلَةِ، وَهِيَ الْقَبَجَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ أَنَّ الزِّرَّ بِمَعْنَى الْبَيْضِ لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا هُوَ رِزٌّ بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ عَلَى الزَّايِ مِنْ: رَزَزَتِ الْجَرَادَةُ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَنْبَهَا فِي الْأَرْضِ وَأَلْقَتْ بَيْضَهَا، وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تُسَاعِدْهُ، وَالَّذِي يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ كَتِفَيْهِ غُدَّةً حَمْرَاءَ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ. قِيلَ: يَكْفِي الْمُشَابَهَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا نَاتِئًا مِنَ الْجَسَدِ لَهُ نَوْعُ مُشَابَهَةٍ بِزِرِّ الْحَجَلَةِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَاتٍ مَا قَدْ يُخَالِفُ مَا مَرَّ مِنْ كَوْنِهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَنَّهَا الثَّآلِيلُ السُّودِ، وَرِوَايَتُهُ أَيْضًا كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَرِوَايَةُ صَحِيحِ الْحَاكِمِ: شَعْرٌ مُجْتَمِعٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ: مِثْلَ السِّلْعَةِ، وَالشَّمَائِلُ: بَضْعَةٌ نَاشِزَةٌ أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ، وَابْنُ عَسَاكِرَ: مِثْلَ الْبُنْدُقَةِ، وَصَحِيحُ التِّرْمِذِيِّ: كَالتُّفَّاحَةِ كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللَّحْمِ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: شَامَةٌ خَضْرَاءُ مُحْتَفِرَةٌ فِي اللَّحْمِ، وَلَهُ أَيْضًا شَامَةٌ سَوْدَاءُ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ حَوْلَهَا شَعَرَاتٌ مُتَرَاكِبَاتٌ كَأَنَّهَا عُرْفُ الْفَرَسِ، وَالْقُضَاعِيُّ: ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمِ: كَبَيْضَةِ

ص: 448

حَمَامٍ مَكْتُوبٌ فِي بَاطِنِهَا: اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي ظَاهِرِهَا: تَوَجِّهْ حَيْثُ كُنْتَ فَإِنَّكَ مَنْصُورٌ. وَابْنٌ عَائِذٍ: كَانَ نُورًا يَتَلَأْلَأُ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ: كَالنُّقْطَةِ الَّتِي أَسْفَلَ مِنْقَارِ الْحَمَامَةِ، وَتَارِيخُ نَيْسَابُورَ: مِثْلَ الْبُنْدُقَةِ مِنْ لَحْمٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ بِاللَّحْمِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. لَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِهِ حَقِيقِيًّا، بَلْ كُلٌّ شَبَّهَ بِمَا سَنَحَ لَهُ وَالْكُلُّ مُؤَدٍّ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ، وَمَنْ قَالَ: شَعْرٌ ; فَلِأَنَّ الشَّعَرَاتِ حَوْلَهُ مُتَرَاكِبَةٌ عَلَيْهِ شَاخِصَةٌ فِي جَسَدِهِ، قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ جَمْعُ الْكَفِّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، لَكِنَّهُ أَصْغَرُ مِنْهُ، وَرِوَايَةُ: إِنَّهُ كَالْمِحْجَمِ أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاءِ أَوِ الْخَضْرَاءِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ مَا مَرَّ، لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَغَلَطَ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَصْحِيحِهِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ ذَكَرَ الْكِتَابَةَ هُنَا، فَإِنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِخَاتَمِ يَدِهِ الَّذِي كَانَ يَخْتِمُ بِهِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِ بَعِيدٌ جِدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابَةُ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً أَوْ صُورِيَّةً لَكِنَّهَا كَانَتْ تُدْرِكُهَا الْبَصِيرَةُ النَّوَوِيَّةُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِوَقْتِ وَضْعِ الْخَاتَمِ، وَكَيْفَ وُضِعَ، وَمَنْ وَضَعَهُ فِي «حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ وَبِمَ عَلِمْتَ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ؟ قَالَ: (" أَتَانِي آتِيَانِ ") وَفِي رِوَايَةٍ: (" مَلَكَانِ، وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهْوَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ رَجَلٌ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: " ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: شُقَّ بَطْنَهُ. فَشَقَّ بَطْنِي، فَأَخْرَجَ قَلْبِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ الشَّيْطَانِ وَعَلَقَ الدَّمِ فَطَرَحَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اغْسِلْ بَطْنَهُ غُسْلَ الْإِنَاءِ، وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غُسْلَ الْمِلَاءِ - أَيِ: الثَّوْبِ الَّذِي يَتَرَدَّى بِهِ - ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْ بَطْنَهُ. فَخَاطَ بَطْنِي، وَجَعَلَ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفِي كَمَا هُوَ الْآنَ، وَوَلَّيَا عَنِّي، وَكَأَنِّي أَرَى الْأَمْرَ مُعَايَنَةً» ". وَعِنْدَ أَحْمَدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ: ("«اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ائْتِنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ ائْتِنِي: بِمَاءٍ وَبَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسِّكِينَةِ، فَزَادَهَا فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خِطْهُ فَخَاطَهُ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ» ") . وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِي عِيَاضًا لَمْ يُعَلِّقْ فِي قَوْلِهِ: هَذَا الْخَاتَمُ هُوَ أَثَرُ شَقِّ الْمَلَكَيْنِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عليه الصلاة والسلام ; لِأَنَّ " بَيْنَ " ظَرْفٌ لِلْخَاتَمِ لَا لِلشَّقِّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَاتَمَ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ إِجْمَاعًا، وَأَنَّ الشَّقَّ لَمَّا وَقَعَ فِي صَدْرِهِ ثُمَّ خِيطَ حَتَّى الْتَأَمَ كَمَا كَانَ، وَوَقَعَ الْخَاتَمُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ الشَّقِّ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ: أَنَّهُ خُتِمَ بِهِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَقِيلَ: وُلِدَ بِهِ وَلَا مَنْعَ مِنَ التَّعَدُّدِ وَزِيَادَةِ أَثَرٍ مَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 449

الْفَصْلُ الثَّانِي

477 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنَ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ فَقَالَ: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارْمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ: " فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ ".

الْفَصْلُ الثَّانِي

477 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ) : صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (فِي الْفَلَاةِ) : أَيْ: فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ الْمَحَلِّ الْوَاسِعِ (مِنَ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ) : عُطِفَ عَلَى الْمَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ نَحْوُ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمَهُ، يُقَالُ: نَابَ الْمَكَانَ أَوْ نَابَهُ إِذَا تَرَدَّدَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ) : بَيَانٌ لِمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ نَجِسٌ، وَإِلَّا لَا يَكُنْ لِسُؤَالِهِمْ وَجَوَابِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا وَرَدَتِ الْمِيَاهَ أَنْ تَخُوضَ فِيهَا وَتَبُولَ، وَرُبَّمَا لَا تَخْلُو أَعْضَاؤُهَا مِنْ لَوَثِ أَبْوَالِهَا وَرَجِيعِهَا. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُنَا، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (فَقَالَ) عليه الصلاة والسلام:(" إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ ") : قِيلَ: الْقُلَّةُ: الْجَرَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تَسَعُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رِطْلًا بِالْبَغْدَادِيِّ، فَالْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائَةُ رِطْلٍ، وَقِيلَ: سِتُّمِائَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْقُلَّةُ مَعْرُوفَةٌ بِالْحِجَازِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الْقُلَّةُ الَّتِي يُسْتَسْقَى بِهَا ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تُقِلُّهَا. وَقِيلَ: الْقُلَّةُ مَا يَسْتَقِلُّهُ الْبَعِيرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْبَعِينَ قُلَّةً غَرْبًا أَيْ: دَلْوًا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ مُوقِعَةٌ لِلشُّبْهَةِ، وَرِوَايَةُ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْمَجْهُولِيَّةِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى الْجَارِي، هَذَا وَتُرِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي الْمُتَغَيِّرِ بِنَجَاسَةٍ لِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ، أَوْ لِخَبَرِ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى طَعْمِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ رِيحِهِ، وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ

ص: 449

عُلَمَائِنَا: خَبَرُ الْقُلَّتَيْنِ صَحِيحٌ، وَإِسْنَادُهُ ثَابِتٌ، وَإِنْ تَرَكْنَاهُ ; لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا الْقُلَّتَانِ؛ وَلِأَنَّهُ رَوَى قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى الشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّونَ. اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ كَمَا فِي النُّخْبَةِ، فَلَا يَدْفَعُهُ تَصْحِيحُ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِمَّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ جَيِّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ عُلَيَّةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ زِنْجِيًّا مَاتَ بِزَمْزَمَ فَنَزَحَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِمَّا ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ دَمَهُ غَيَّرَ مَاءَهَا، أَوْ نَزَحَهَا اسْتِحْبَابًا؛ إِذِ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِيهِ فُسْحَةٌ عَظِيمَةٌ لِلنَّاسِ مُخَالِفٌ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمَذْكُورِ كَمَا عَلِمْتَ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ يَعْنِي مَاتَ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأُخْرِجَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنْزَحَ، قَالَ: فَغَلَبَتْهُمْ عَيْنٌ جَاءَتْ مِنَ الرُّكْنِ قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ بِالْقَبَاطِيِّ وَالْمَطَارِقِ حَتَّى نَزَحُوهَا، فَلَمَّا نَزَحُوهَا انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهَا الطَّحَاوِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ حَبَشِيًّا وَقَعَ فِي زَمْزَمَ فَمَاتَ، فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَنُزِحَ مَاؤُهَا، فَجَعَلَ الْمَاءُ لَا يَنْقَطِعُ، فَنَظَرَ فَإِذَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ قِبَلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: حَسْبُكُمْ. وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِاعْتِرَافِ الشَّيْخِ بِهِ فِي الْإِمَامِ. وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: كُنْتُ أَنَا بِمَكَّةَ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ أَرَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا يَعْرِفُ حَدِيثَ الزِّنْجِيِّ الَّذِي قَالُوا: إِنَّهُ وَقَعَ فِي زَمْزَمَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْرَفُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ يَرْوِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(" «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ") وَيَتْرُكُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ فُعِلَ فَلِنَجَاسَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، أَوْ لِلتَّنْظِيفِ فَدُفِعَ بِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ كَعِلْمِكَ أَنْتَ بِهِ فَكَمَا قُلْتَ يَتَنَجَّسُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَقَعَ عِنْدَكَ فَلَا تَسْتَبْعِدُ مِثْلَهُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السَّوْقِ وَلَفْظِ الْقَائِلِ: مَاتَ فَأَمَرَ بِنَزْحِهَا أَنَّهُ لِلْمَوْتِ لَا لِنَجَاسَةٍ أُخْرَى عَلَى أَنَّ عِنْدَكَ أَيْضًا لَا تُنْزَحُ لِلنَّجَاسَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا أَيِ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَالشَّافِعِيَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ، فَكَانَ إِخْبَارُ مَنْ أَدْرَكَ الْوَاقِعَةَ وَأَثْبَتَهَا أَوْلَى مِنْ عَدَمِ عِلْمِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ مَكَّةَ؟ اسْتِبْعَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الطَّرِيقِ، وَمُعَارَضٌ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَحْمَدَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمُونِي ; حَتَّى أَذْهَبُ إِلَيْهِ كُوفِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا، فَهَلَّا قَالَ: كَيْفَ يَصِلُ هَذَا إِلَى أُولَئِكَ وَيَجْهَلُهُ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ؟ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّحَابَةَ انْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ خُصُوصًا الْعِرَاقِ. قَالَ الْعِجْلِيُّ فِي تَارِيخِهِ: نَزَلَ الْكُوفَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَنَزَلَ قِرْقِيسَا سِتُّمِائَةٌ، وَقِرْقِيسَا بِالْكَسْرِ وَيُقْصَرُ: بَلَدٌ عَلَى الْفُرَاتِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ.

(" لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ ") : قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ بِمَنْطُوقِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَنْجُسْ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى لَمْ يَحْمِلْ يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَحْمِلُ ضَيْمًا إِذَا امْتَنَعَ عَنْ قَبُولِهِ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَإِنْ تَغَيَّرَ نَجُسَ، وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُخَصِّصُ حَدِيثَ:" «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا» " عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَجْرَاهُ عَلَى عُمُومِهِ كَمَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا يَنْجُسُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالتَّغَيُّرِ، وَقِيلَ:

لَمْ يَحْمِلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِضَعْفِهِ لَمْ يَحْمِلْهُ أَوْ لِقُوَّتِهِ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَبِالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتَرَجَّحُ الثَّانِي.

قُلْتُ: التَّرَجُّحُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَحَمْلُ الرِّوَايَةِ الشَّاذَّةِ عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُحْتَمَلُ

ص: 450

أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أَحَدِ الرُّوَاةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ التَّعْلِيلِيَّةُ، فَإِنَّ الْحَمْلَ لَمَّا كَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْجِسْمِ كَفُلَانٍ لَا يَحْمِلُ الْحَجَرَ، أَيْ: لَا يُطِقْهُ لِثِقَلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمَعْنَى ; كَفُلَانٍ لَا يَحْمِلُ الْغَمَّ، أَيْ: لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] أَيْ: لَمْ يَقْبَلُوا أَحْكَامَهَا، عَلَّلَ الرَّاوِي بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ، لَكِنْ يَبْقَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ، قِيلَ: وَلَا يَكُونُ الْجَوَابُ كَافِيًا شَافِيًا. نَعَمْ لَوْ قِيلَ: مَعْنَى لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ صَرِيحًا ; لَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلْمَالِكِيَّةِ، وَيَظْهَرُ لِذِكْرِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ أَغْلَبِيَّةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

(وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَرُوِيَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ.

ص: 451

478 -

«وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرٍ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

478 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرٍ بُضَاعَةَ؟) : بِضَمِّ الْبَاءِ، وَأُجِيزَ كَسْرُهَا، وَحُكِيَ أَيْضًا بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ بِئْرٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ التُّورِبِشْتِيُّ: بُضَاعَةُ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَضُمُّونَ الْبَاءَ وَيَكْسِرُونَهَا، وَالْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ الضَّمُّ (وَهِيَ بِئْرٌ) : بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ (يُلْقَى) : يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ (فِيهَا الْحِيَضُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ جَمْعُ حَيْضَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الْمَرْأَةُ فِي دَمِ الْحَيْضِ أَوْ تَسْتَثْفِرُهَا (وَلُحُومُ الْكِلَابِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَوَجْهٌ مُعَيَّنٌ يُلْقَى فِيهَا أَنَّ الْبِئْرَ كَانَتْ بِمَسِيلٍ مِنْ بَعْضِ الْأَوْدِيَةِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْزِلَ فِيهَا أَهْلُ الْبَادِيَةِ، فَتُلْقَى تِلْكَ الْقَاذُورَاتُ بِأَفْنِيَةِ مَنَازِلِهِمْ فَيَكْسَحُهَا السَّيْلُ فَيُلْقِيهَا فِي الْبِئْرِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ الْقَائِلُ بِوَجْهٍ يُوهِمُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ مِنَ النَّاسِ لِقِلَّةِ تَدَيُّنِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُجَوِّزُهُ مُسْلِمٌ، فَأَنَّى يُظَنُّ ذَلِكَ بِالَّذِينِ هُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ وَأَزْكَاهُمْ (وَالنَّتْنُ؟) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الشَّيْءُ الْمُنْتِنُ كَالْعَذِرَةِ وَالْجِيفَةِ. قِيلَ: كَانَتِ السُّيُولُ تَكْسَحُ الْأَقْذَارَ مِنَ الطُّرُقِ وَالْأَفْنِيَةِ، فَتَحْمِلُهَا وَتُلْقِيهَا فِي هَذِهِ الْبِئْرِ، وَكَانَ مَاؤُهَا كَثِيرًا سَيَّالًا يَجْرِي بِهَا، فَسَأَلُوا عَنْ حُكْمِهَا فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الْمَاءَ ") : قِيلَ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، فَتَأْوِيلُهُ: إِنَّ الْمَاءَ الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَاءُ بِئْرِ بُضَاعَةَ. فَالْجَوَابُ مُطَابَقِيٌّ لَا عُمُومٌ كُلِّيٌّ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٍ (" طَهُورٌ ") : أَيْ: طَاهِرٌ كَمَا تُفِيدُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ ; لِكَوْنِهِ جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ (لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) : أَيْ: مَا يَتَغَيَّرُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُتَغَيِّرِ، فَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّهُ كَانَ كَنُقَاعَةِ الْحِنَّاءِ مَحْمُولٌ عَلَى لَوْنِ جَوْهَرِ مَائِهَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ أَضْعَافَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنَ عُمَرَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَدَدْتُ فِيهِ رِدَائِي فَإِذَا عَرْضُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اهـ.

وَفَى الْمَصَابِيحِ: وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَيْ: فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ قَالَ: " «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ ". قَالَ شَارِحُهُ ابْنَ الْمَلَكِ: قَاسَ الشَّافِعِيُّ اللَّوْنَ عَلَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: أَخْذُ مَالِكٍ بِعُمُومِ هَذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِلْغَاءُ الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، مَعَ عَدَمِ الْمُسَوِّغِ لِذَلِكَ. قُلْتُ: الْمُسَوِّغُ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ الْمَاءَ يَتَنَجَّسُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا عَظُمَ بِحَيْثُ لَا يَتَحَرَّكُ طَرَفُهُ بِتَحَرُّكِ طَرَفِهِ الْآخَرِ، مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَنْطُوقِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَضُرُّ إِذْ مَا خَالَفَهُمَا، إِلَّا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا يُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِلَّةُ الْقِلَّةِ وَعِلَّةُ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَخْذِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.

ص: 451

479 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

479 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ) أَيْ: مَرَاكِبَهُ مِنَ السُّفُنِ (وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ) : أَيْ: مَاءِ الْحُلْوِ (فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟) وَهُوَ ضِدُّ الْبَرِّ، يَعْنِي: أَوْ نَتَيَمَّمُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هُوَ ") أَيِ: الْبَحْرُ (" الطَّهُورُ ") : أَيِ: الْمُطَهَّرُ (" مَاؤُهُ ") : لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ تَطْهِيرِ مَائِهِ لَا عَنْ طَهَارَتِهِ، وَالْحَصْرِ فِيهِ قُلْتُ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ جَائِزٌ مَعَ تَغَيُّرِ طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّ طَعْمَهُ وَلَوْنَهُ جِبِلِّيَّانِ لَا أَنَّهُمَا مُتَغَيِّرَانِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، مَعَ أَنَّ التَّغَيُّرَ بِاللُّبْثِ لَا يَضُرُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ عُدُولَهُمْ عَنْ صِيغَةِ الْفَاعِلِ إِلَى فَعُولٍ أَوْ فَعِيلٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَبَانِي لِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي كَمَا فِي: شَاكِرٌ وَشَكُورٌ، لَكِنَّ زِيَادَةَ الطَّهَارَةِ لَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَاهِرٍ آخَرَ هُوَ أَطْهَرُ مِنْهُ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، فَفِيهِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، بِخِلَافِ طَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الطَّهَارَةِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهِّرُ ; لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ التَّطْهِيرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الطَّهُورُ مَا يَتَكَرَّرُ فِيهِ التَّطْهِيرُ كَالصَّبُورِ، فَجُوِّزَ الْوُضُوءُ بِالْمُسْتَعْمَلِ اهـ.

وَهُوَ احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ؛ وَلَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ، وَعَلِمَ جَهْلَهُمْ بِحُكْمِ مَائِهِ قَاسَ جَهْلَهُمْ بِحُكْمِ صَيْدِهِ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَزَادَ فِي الْجَوَابِ إِرْشَادًا وَهِدَايَةً، كَمَا هُوَ حَالُ الْحَكِيمِ الْعَارِفِ بِالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، قَالَ:(" الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ") : فَالْمَيِّتُ مِنَ السَّمَكِ حَلَالٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِيمَا عَدَاهُ خِلَافٌ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ مَعَ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُ:" «تَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ» " حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً، ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لِلْكَرَاهَةِ.

ص: 452

480 -

وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ:" مَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: نَبِيذٌ. قَالَ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ.

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ.

ــ

480 -

(وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ) : أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ (لَيْلَةَ الْجِنِّ) : أَيْ: لَيْلَةَ ذَهَبَ الْجِنُّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِهِمْ لِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ الدِّينَ، وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ (" مَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ") : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ فِي مِطْهَرَتِكَ؟ فِي النِّهَايَةِ: الْإِدَاوَةُ بِالْكَسْرِ: إِنَاءٌ صَغِيرٌ مِنْ جِلْدٍ (قَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (قُلْتُ: نَبِيذٌ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: نَبِيذُ تَمْرٍ، وَهُوَ مَاءٌ يُلْقَى فِيهِ تَمَرَاتٌ لِيَحْلُوَ، وَقِيلَ: النَّبِيذُ هُوَ التَّمْرُ أَوِ النَّبِيذُ الْمَنْبُوذِ أَيِ: الْمُلْقَى فِي الْمَاءِ لِتَغْيِيرِ مُلُوحَتِهِ وَمَرَارَتِهِ إِلَى الْحَلَاوَةِ (قَالَ: " «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ") : وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ: وَتَوَضَّأَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ جَائِزٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ: إِذَا تَغَيَّرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا (وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ شَيْبَةَ مُطَوَّلًا، وَفِيهِ:" «هَلْ مَعَكَ مِنْ وَضُوءٍ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَمَا فِي إِدَاوَتِكَ؟ ". قُلْتُ: نَبِيذُ تَمْرٍ. قَالَ: " تَمْرَةٌ حُلْوَةٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ» ". ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ اهـ. وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلِهِ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى طَهُورٍ حَتَّى لَا يُوهِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ.

ص: 452

(وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو زَيْدٍ) أَيِ: الرَّاوِي هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (مَجْهُولٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ، أَنَّ أَبَا زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، رَوَى عَنْهُ رَاشِدُ بْنُ كَيْسَانَ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، وَأَبُو رَوْقٍ، وَهَذَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْجَهَالَةِ اهـ.

قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: أَجَمَعَ الْمُحَدِّثُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: حَدِيثُ نَبِيذِ التَّمْرِ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي أَسَانِيدِ سَائِرِهَا لِأَهْلِ النَّقْلِ مَقَالٌ، غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ كَوْنُهُ حَقًّا، خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ عُدُولًا فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ.

ص: 453

481 -

وَصَحَّ عَنْ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

481 -

(وَصَحَّ عَنْ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ) : أَيْ: فَلَمْ يَكُنْ مَا رُوِيَ عَنْهُ ثَابِتًا، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا بَلْ كَانَ مُعَدًّا لِلشُّرْبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَجْتَذِبَ مُلُوحَةَ مَائِهِمْ، فَيَكُونُ أَوْفَقَ وَأَنْفَعَ لِأَمْزِجَتِهِمْ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ صِحَّةِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ، لَكُنَّا نَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْجِنِّ وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مَعَهُ بِمَدْرَجَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ فَخَطَّ لِي خَطًّا، وَأَجْلَسَنِي فِيهِ، وَقَالَ:(" لَا تَخْرُجْ مِنْ هَذَا ") فَبِتُّ حَتَّى أَتَانِي مَعَ السَّحَرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَوَّلًا حِينَ خَرَجَ ثُمَّ لَحِقَهُ آخِرًا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقُ لِمَا فِي بَعْضِ طُرِقِ حَدِيثِ عَلْقَمَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ صَحِبَهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّا فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا: اغْتِيلَ اسْتُطِيرَ مَا فَعَلَ؟ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ، فَإِذَا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ إِذَا نَحْنُ بِهِ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ» . وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْلَةَ الْجِنِّ ; لِأَنَّ سَحَرَهَا مِنْهَا، وَتَعْلِيلُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ وَنُزُولِ الْمَائِدَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ أَوْجَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى رَدِّ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ، وَرَوَى أَيْضًا أَبُو حَفْصٍ بْنُ شَاهِينَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنْ جَمْعَنَا فَالْمُرَادُ مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ غَيْرِي نَفْيًا لِمُشَارَكَتِهِمْ وَإِبَانَةَ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ أَكْمَامِ الْمَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الْجَانِّ: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي وِفَادَةِ الْجِنِّ أَنَّهَا كَانَتْ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا مَرَّةً فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ حَضَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ وَمَرَّةً رَابِعَةً خَارِجَ الْمَدِينَةِ حَضَرَهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْطَعُ بِالنَّسْخِ اهـ.

وَفَى خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ قَالَ: التَّوَضُّؤُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ جَائِزٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَيُتَيَمَّمُ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يَتَوَضَّأُ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَرَوَى نُوحٌ الْجَامِعُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْخِزَانَةِ: قَالَ مَشَايِخُنَا: إِنَّمَا اخْتَلَفَ أَجْوِبَتُهُ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِنْ كَانَتِ الْحَلَاوَةُ غَالِبَةً لَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَا يَتَوَضَّأْ. وَسُئِلَ مَرَّةً: إِذَا لَمْ يَدْرِ أَيُّهَا الْغَالِبُ؟ قَالَ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. فَقَوْلُ ابْنُ حَجَرٍ فَلَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَةِ هَذِهِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَإِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّوَوِيُّ بِجَوَازِهِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ فُقْدَانِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُبَالِيَا بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 453

{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] مِنْ أَنَّهُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا التَّيَمُّمُ، فَتَجْوِيزُ النَّبِيذِ حِينَئِذٍ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِأُولَئِكَ أَنْ يُئَوِّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لِيُوَافِقَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ التَّمْرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي الْمَاءِ لَمْ تُغَيِّرْهُ تَغَيُّرًا ضَارًّا، وَتَسْمِيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُ نَبِيذًا مِنْ مَجَازِ الْأَوَّلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مَا يُنْبَذُ فِيهِ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يُغَيَّرِ اهـ. إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ قِلَّةِ اطِّلَاعٍ عَلَى كَلَامِهِمْ أَصْلًا وَفَصْلًا، وَكَأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى الْآيَةِ إِلَّا بِفَهْمِهِ الْفَاتِرِ وَعَقْلِهِ الْقَاصِرِ، ثُمَّ فِي نِسْبَتِهِ عَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِصَرِيحِ الْآيَةِ إِلَى الْإِمَامَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ قِلَّةُ مُبَالَاةٍ فِي الدِّينِ وَكَثْرَةُ جَرَاءَةٍ عَلَى أَرْبَابِ الْيَقِينِ، سَامَحَهُ اللَّهُ. مِمَّا زَلَقَ قَدَمُهُ وَسَبَقَ قَلَمُهُ، ثُمَّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا الْمَاءُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ غَلَطٌ صَرِيحٌ ; لِأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُهُ، بَلْ قَالَ أَبُو لَيْلَى بِجَوَازِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ.

ص: 454

482 -

«وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» ".

رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

482 -

(وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجَيٌّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: هِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، حَدِيثُهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ، رَوَتْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَعَنْهَا حُمَيْدَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ (وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ) : وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٌّ الْأَنْصَارِيُّ، فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْمُ ابْنِهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى: كَانَتْ زَوْجَةَ وَلَدِهِ (أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى كَبْشَةَ (فَسَكَبَتْ) أَيْ: كَبْشَةُ، يَعْنِي: صَبَّتْ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، وَيَجُوزُ السُّكُونُ عَلَى التَّأْنِيثِ اهـ. لَكِنَّ أَكْثَرَ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِالتَّأْنِيثِ، وَيُؤَيِّدُ الْمُتَكَلِّمَ مَا فِي الْمَصَابِيحِ قَالَتْ: فَسَكَبَتْ (لَهُ) : أَيْ: لِأَبِي قَتَادَةَ (وَضُوءًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: مَاءَ الْوُضُوءِ فِي إِنَاءٍ (فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ) : حَالٌ أَوْ صِلَةٌ (فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ) : أَيْ: أَمَالَهُ إِلَيْهَا (حَتَّى شَرِبَتْ) : أَيْ: سَهْلًا (قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي) : أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (أَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى فِعْلِهِ مُتَعَجِّبَةً (فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ) : أَيْ: بِشُرْبِهَا مِنْ وَضُوئِي (يَا ابْنَةَ أَخِي؟) : هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ ; أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَإِنْ كَانَا ابْنَا عَمَّيْنِ، وَيَا أَخَا فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَيَجُوزُ فِي تَعَارُفِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - مُرَادُهُ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ - تَعْلِيلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ، بَلْ لِكَوْنِهَا بِنْتَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّهَا ") : أَيِ: الْهِرَّةُ أَوْ سُؤْرُهَا (" لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ") : مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَلَوْ قِيلَ بِكَسْرِ الْجِيمِ لَقِيلَ بِنَجِسَةٍ ; لِأَنَّهَا صِفَةُ الْهِرَّةِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَذَكَرَ الْكَازَرُونِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ قَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَالنَّجَسُ النَّجَاسَةُ، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ نَجَسٍ، وَفِيمَا سَمِعْنَا وَقَرَأْنَا عَلَى مَشَايِخِنَا هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ أَيْ: لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَلَمْ يَلْحَقِ التَّاءَ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا فِي مَعْنَى السُّؤْرِ اهـ. وَأَكْثَرُ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ ; لِأَنَّ النَّجَسَ بِالْفَتْحِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَبِالْكَسْرِ الْمُتَنَجَّسُ (" إِنَّهَا ") : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَنَّهَا (" مِنَ الطَّوَّافِينَ ") : الطَّائِفُ الَّذِي يَخْدِمُكَ بِرِفْقٍ شَبَّهَهَا بِالْمَمَالِيكِ وَخَدَمَةِ الْبَيْتِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ لِلْخِدْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] وَأَلْحَقَهَا بِهِمْ ; لِأَنَّهَا خَادِمَةٌ أَيْضًا حَيْثُ تَقْتُلُ الْمُؤْذِيَاتِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُوَاسَاتِهَا كَمَا فِي مُوَاسَاتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهَا طَاهِرٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ " مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ إِشْعَارًا بِالْعِلِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ

ص: 454

يَكُونَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَةِ فَمِهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، كَطِينِ الشَّارِعِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ، هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَبِي حَامِدِ الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَحْسَنُ تَعْمِيمُ الْعَفْوِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: سُؤْرُ الْهِرَّةِ طَاهِرٌ لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا، وَلَا يُكْرَهُ، وَلَوْ تَنَجَّسَ فَمُهَا ثُمَّ وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: التَّفْصِيلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِنَّهَا إِنْ غَابَتْ بِمِقْدَارٍ يَحْتَمِلُ وُلُوغَهَا فِي مَاءٍ مُطَهَّرٍ كَانَ طَاهِرًا وَإِلَّا نَجِسًا اهـ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُغَايِرِ ; عَلَّلَ إِصْغَاءَهُ لَهَا الْإِنَاءَ بِأَمْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الطِّيبِيِّ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ، وَضَعَّفَهُ بِقَوْلِهِ: قِيلَ: وَيَصِحُّ. . . إِلَخْ. فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ طُرُقُ الزَّلَلِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَكَفَى فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ، فَيُكْرَهُ كَمَا لَوْ غَمَسَ الصَّغِيرُ يَدَهُ فِيهِ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى سُقُوطِهَا بِعِلَّةِ الطَّوَافِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ " يَعْنِي أَنَّهَا تَدْخُلُ الْمَضَايِقَ، وَلِمُلَازَمَةِ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ صَوْنُ الْأَوَانِي مِنْهَا، بَلِ التَّنَفُّسُ وَالضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَسْقَطَتِ النَّجَاسَةَ، كَمَا أَنَّهُ سبحانه وتعالى أَوْجَبَ الِاسْتِئْذَانَ، وَأَسْقَطَهُ عَنِ الْمَمْلُوكِينَ بِقَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور: 58] أَيْ: عَنْ أَهْلِهِمْ فِي تَمْكِينِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ لِلطَّوَافِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ عَقِيبَهُ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] اهـ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ سُؤْرَ الْهِرَّةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتِ الْمَاءَ عَلَى الْفَوْرِ يَتَنَجَّسُ، وَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً وَلَحِسَتْ فَمَهَا فَمَكْرُوهٌ. وَلَيْسَ بِنَجَسٍ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ بِغَيْرِ الْمَاءِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ. (" عَلَيْكُمْ ") : فَيَتَمَسَّحُونَ بِأَيْدِيكُمْ وَثِيَابِكُمْ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَأَمَرْتُكُمْ بِالْمُجَانَبَةِ عَنْهَا، فَهَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ:" إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ "، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالتَّحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ (" أَوِ الطَّوَّافَاتِ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: شَبَّهَ ذُكُورَهَا بِالطَّوَّافِينَ، وَإِنَاثَهَا بِالطَّوَّافَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَتْ لِلشَّكِّ ; لِوُرُودِهِ بِالْوَاوِ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ، وَكَوْنُ ذِكْرِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ تَمُرُّ بِهِ عليه الصلاة والسلام، فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا، وَضَعَّفَهُ عَبَدُ رَبِّهِ، وَلَكِنْ قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَمُرُّ بِهِ الْهِرَّةُ، فَيُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا» . وَأَبُو يُوسُفَ أَدْرَى بِعَبْدِ رَبِّهِ مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ ; لِعِلْمِهِ بِحَالِ شَيْخِهِ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ مَا رَوَاهُ هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَارِثِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ» ، وَمَا فِي السُّنَنِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ «سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْهِرَّةِ؟ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَرْضٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهَا: بُطْحَانَ، فَقَالَ:(" يَا أُنَيْسُ، اسْكُبْ لِي وَضُوءًا ") فَسَكَبْتُ لَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ أَقْبَلَ إِلَى الْإِنَاءِ، وَقَدْ أَتَى هِرٌّ فَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ، فَوَقَفَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْفَةً حَتَّى شَرِبَ الْهِرُّ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقَالَ:(" يَا أَنَسُ، إِنَّ الْهِرَّ مِنْ سِبَاعِ الْبَيْتِ، لَنْ يُقَذِّرَ شَيْئًا وَلَنْ يُنَجِّسَهُ» ") . وَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(" إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ هِيَ كَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ» ") . وَفِي سُنَنِ الدَّارِمِيِّ: " «هِيَ كَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ» "، وَأَمَّا خَبَرُ:" «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً» " مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَى الطَّحَاوِيِّ، وَلِذَا قَالَ: سُؤْرُ الْهِرَّةِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَطَعَ ذَيْلَ ثَوْبِهِ الَّذِي رَقَدَتْ عَلَيْهِ هِرَّةٌ، فَلَا أَصْلَ لَهُ.

ص: 455

483 -

«وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أُمِّهِ، أَنَّ مَوْلَاتَهَا أَرْسَلَتْهَا بِهَرِيسَةٍ إِلَى عَائِشَةَ. قَالَتْ: فَوَجَدْتُهَا تُصَلِّي، فَأَشَارَتْ إِلَيَّ: أَنْ ضَعِيهَا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَلَاتِهَا، أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ. فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ ". وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

483 -

(وَعَنْ دَاوُدَ) : مَوْلَى الْأَنْصَارِيِّ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (ابْنِ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ) : أَيِ: التَّمَّارِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مَدَنِيٌّ، رَوَى عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ (عَنْ أُمِّهِ) : لَمْ تُسَمَّ، قَالَهُ مِيرَكُ أَيْ: عَنْ أُمِّ دَاوُدَ (أَنَّ مَوْلَاتَهَا) : أَيْ: مَوْلَاةَ أُمِّهِ، أَيْ: مُعْتَقَتُهَا، وَلَمْ تُسَمَّ أَيْضًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (أَرْسَلَتْهَا) : أَيْ: أُمُّهُ (بِهَرِيسَةٍ) : فِي الْقَامُوسِ: الْهَرْسُ الْأَكْلُ الشَّدِيدُ، وَالدَّقُّ الْعَنِيفُ، وَمِنْهُ الْهَرِيسُ وَالْهَرِيسَةُ (إِلَى عَائِشَةَ قَالَتْ) : أَيْ: أُمُّهُ (فَوَجَدْتُهَا) : أَيْ: عَائِشَةُ (تُصَلِّي، فَأَشَارَتْ) : أَيْ: عَائِشَةُ (إِلَيَّ) : بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ (أَنْ ضَعِيهَا) : مُفَسِّرَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: بِوَضْعِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ فِي الْإِشَارَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ جَائِزَةٌ فِي الصَّلَاةِ اهـ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَمَلِ كَثِيرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ كَلَامٌ، لَغْوٌ (فَجَاءَتْ هِرَّةٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا) : أَيْ: بَعْضُهَا (فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَلَاتِهَا، أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ) : أَيْ: مِنْ مَحَلِّ أَكْلِهَا. (فَقَالَتْ) : هُوَ إِمَّا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ مُحَقَّقٍ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ": بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ (إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ) : ظَاهِرُهُ أَنَّ أَوْ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلشَّكِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَا اقْتِصَارًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّغَلُّبِ (وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا) : أَيْ: بِفَضْلِ الْهِرَّةِ يَعْنِي: فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ شُرْبِهَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ، وَبَيَانِ الْجَوَازِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِهَذَا اللَّفْظِ. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ التَّخْرِيجِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعِيَ لِدَارٍ فَأَجَابَ، وَلِأُخْرَى فَلَمْ يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (إِنَّ فِي تِلْكَ كَلْبًا) فَقِيلَ: وَفِي هَذِهِ هِرَّةٌ. فَقَالَ: " إِنَّ الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: اسْتُحِبَّ اتِّخَاذُ الْهِرَّةِ وَتَرْبِيَتُهَا ; أَخْذًا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: "«حُبِّ الْهِرَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ» " فَمَوْضُوعٌ عَلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ كَالصَّغَانِيُّ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْجُرْجَانِيِّ وَالتَّفْتَازَانِيِّ فِي بَحْثِهِمَا فِيهِ، وَمُنَاقَشَتِهِمَا فِي أَنَّ إِضَافَتَهُ هَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ مَفْعُولِهِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.

ص: 456

484 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

484 -

(وَعَنْ جَابِرٍ) أَيْ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَتَوَضَّأُ؟) بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ (بِمَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَلِمَةُ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى الَّذِي، وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْمَدِّ، وَلَا أَرَاهُ إِلَّا تَصْحِيفًا (أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟) : أَيِ: الْأَهْلِيَّةُ أَوِ الْوَحْشِيَّةُ، بِضَمَّتَيْنِ: جَمْعُ حِمَارٍ، أَيْ: أَبْقَتْهُ مِنْ فُضَالَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَشْرَبُهُ. (قَالَ: " نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ طَاهِرٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إِلَّا سُؤْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا نَجَسٌ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ السِّبَاعِ نَجَسٌ، وَذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ. كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ مِنَ التَّخْرِيجِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَحَدِيثُ: سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الْآتِي عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ، أَوْ عَلَى مَا قَبْلَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ

ص: 456

الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ، لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ وَأَمَّا سُؤْرُ الْحِمَارِ، وَكَذَا الْبَغْلُ، فَمَشْكُوكٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَبَبُ الشَّكِّ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي إِبَاحَتِهِ وَحُرْمَتِهِ، فَحَدِيثُ خَيْبَرَ فِي إِكْفَاءِ الْقُدُورِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِإِكْفَائِهَا فَإِنَّهُ رِجْسٌ. رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ يُفِيدُ الْحُرْمَةَ، وَحَدِيثُ «غَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ - بِمَفْتُوحَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ فَجِيمٍ مَفْتُوحَةِ الرَّاءِ - حَيْثُ قَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام:" هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ " فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ إِلَّا حُمَيْرَاتٍ لِي - بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ - فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» " يُفِيدُ الْحِلَّ، وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَجَاسَتُهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ طَهَارَتُهُ. كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.

ص: 457

485 -

وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: " اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَمَيْمُونَةُ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

485 -

(وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : بِالْهَمْزَةِ هِيَ أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: اسْمُهَا فَاخِتَةَ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَطَبَهَا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ فَزَوَّجَهَا أَبُو طَالِبٍ مِنْ هُبَيْرَةَ، وَأَسْلَمَتْ، فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هُبَيْرَةَ، وَخَطَبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُحِبُّكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ؟ وَلَكِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ، فَسَكَتَ عَنْهَا. رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: عَلِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. (قَالَتْ: اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَمَيْمُونَةُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ، وَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِسَرِفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ بِسَرِفَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ (فِي قَصْعَةٍ) : بِفَتْحِ الْقَافِ ظَرْفٌ كَبِيرٌ (فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ) : وَهُوَ الدَّقِيقُ الْمَعْجُونِ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ كَثِيرًا مُغَيِّرًا لِلْمَاءِ، وَجَازَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَثَرَ الْعَجِينِ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا مُغَيِّرًا لِلْمَاءِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ السَّيِّدُ: وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا.

ص: 457

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

486 -

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا. فَقَالَ عَمْرُو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

486 -

(عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْيَى مَدَنِيٌّ سَمِعَ أَبَاهُ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عُمَرَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَاطِبٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، مَدَنِيٌّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَمَاعَةٌ عَنْهُ (قَالَ: إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَرَجَ فِي رَكْبٍ) : أَيْ: جَمَاعَةٍ مِنَ الرَّاكِبِينَ (فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا) : أَيْ: وَحَضَرُوا صَلَاةً (فَقَالَ عَمْرُو: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ، لَا تُخْبِرْنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ إِخْبَارَكَ بِوُرُودِهَا وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا بِسُوءِ الْحَالِ فَهُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ سَائِغٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّا لَا نَمْتَنِعُ مِمَّا تَرِدُهُ ; لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ الْمُقْتَضِي لِبَقَائِهِ

ص: 457

عَلَى طَهَارَتِهِ (فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا) : أَيْ: لَا نُخَالِطُ السِّبَاعَ وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَيْنَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّا نَرِدُ عَلَى مَا فَضَلَ مِنْهَا، وَهِيَ تَرِدُ عَلَى مَا فَضَلَ مِنَّا اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: لَا تُخْبِرْنَا عَلَى إِرَادَةِ عَدَمِ التَّنَجُّسِ، وَبَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سُؤَالُ الصَّحَابِيِّ، وَإِلَّا فَيَكُونُ عَبَثًا، ثُمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّا. . . إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَالَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّفَرِ، وَمَا كُلِّفْنَا بِالتَّفَحُّصِ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ عَلَى أَنْفُسِنَا لَوَقَعْنَا فِي مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

ص: 458

487 -

وَزَادَ رَزِينٌ، قَالَ: زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي «قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: " لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا طَهُورٌ وَشَرَابٌ» ".

ــ

487 -

(وَزَادَ رَزِينٌ، قَالَ: زَادَ بَعْضَ الرُّوَاةِ فِي قَوْلِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَهَا ") أَيْ: لِلسِّبَاعِ (" مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا ") : أَيْ: مِمَّا شَرِبَتْهُ (" وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا طَهُورٌ وَشَرَابٌ ") يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ لَهَا فِي هَذَا الْمَاءِ مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، فَمَا شَرِبَتْهُ حَقُّهَا الَّذِي قُسِمَ لَهَا، وَمَا فَضَلَتْ فَهُوَ حَقُّنَا، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبْهَامِ وَعَدَمِ التَّنَجُّسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَيَأْتِي مَعْنَاهَا عَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ، وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ; نَشَأَ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْ فَهْمِ الْحَدِيثِ الثَّانِي، فَإِنَّ فِيهِ ذِكْرَ الْكِلَابِ، وَهِيَ مُنَجَّسَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَجَوَابُهُمْ يَكُونُ جَوَابُنَا، وَجَوَابُهُمْ بِأَنَّ نَجَاسَةَ الْكَلْبِ عُلِمَ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ مَدْفُوعٌ بِعَدَمِ عِلْمِ التَّارِيخِ، وَأَمَّا سُكُوتُ عَمْرٍو عَلَى قَوْلِ عُمَرَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَحَمْلُ مَاءِ الْحَوْضِ وَالْحِيَاضِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ، دَلِيلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَوْضَ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ: وَزَعْمُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّبَاعِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مَا حُرِّمَتْ إِلَّا تَدْرِيجًا كَمَا أَنَّهَا مَا فُرِضَتْ إِلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] " قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ - مُحَرَّمًا غَيْرَ هَذِهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُرُودَ التَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ آخَرَ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَصُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَالْمُحَرَّمُ بِنَصِّ الْكِتَابِ مَا ذُكِرَ، وَقَدْ حَرَّمَتِ السُّنَّةُ أَشْيَاءً يَجِبُ الْقَوْلُ بِهَا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ إِلَّا مَالِكًا، فَإِنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، هَذَا وَحَدِيثُ:«سُئِلَ عَنِ الْمَاءِ فِي الْفَلَاةِ وَتَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ. . . . .» . حُجَّةٌ إِلْزَامِيَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ.

ص: 458