الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَبَبُ نُزُولِهَا قَوْلُ الْيَهُودِ: (بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ)، وَقَوْلُ الْمُسْلِمِينَ عَكْسَهُ فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ، فَخَلَقَهُ قَبْلَهَا بِأَلْفَيْ عَامٍ وَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهَا.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى الْمَاءِ، عَلَيْهَا مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُضِعَ الْبَيْتُ فِي الْمَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ غُثَاءً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمِنْهَا دُحِيَتِ الْأَرْضُ، وَقِيلَ إِنَّ (آدَمَ حِينَ أُهْبِطَ اسْتَوْحَشَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ وَاصْنَعْ حَوْلَهُ نَحْوَ مَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي فَبَنَاهُ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ عليه السلام، فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ رُفِعَ فَصَارَ سُورًا فِي السَّمَاءِ، وَبَنَى إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام عَلَى أَثَرِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَنَاهُ آدَمُ وَحَوَّاءُ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَأَمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَبَنَاهُ آدَمُ ثُمَّ أَمَرَهُ بِالطَّوَافِ بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ وَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ شِيثُ بْنُ آدَمَ، وَكَانَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهُ يَاقُوتَةً حَمْرَاءَ يَطُوفُ بِهَا آدَمُ يَأْنَسُ بِهَا، لِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ دُثِرَ مِنَ الطُّوفَانِ إِلَى أَنْ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ بِالْأَرْضِ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ " {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] " أَهُوَ بَيْتٌ بُنِيَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: لَا، كَانَ نُوحٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ الْبُيُوتُ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَبْلَهُ، وَكَانَ فِي الْبُيُوتِ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالْهُدَى، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَتَبَيَّنَ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ غَيْرُ الْبَنَّاءِ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا الْقَوْلَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ مِنَ الْآيَةِ إِذْ وَضْعُ اللَّهِ لَهُ هُوَ جَعْلُهُ مُتَعَبَّدًا، فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْأَوَّلِيَّةِ بَيَانُ الْفَضِيلَةِ تَرْجِيحًا لَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَا تَأَثُّرَ لِأَوْلَوِيَّتِهِ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذَا الْفَضْلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا فِي الْإِسْلَامِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَلِكَ بِمَسْجِدِ قُبَاءٍ (ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ) : أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (مَسْجِدٌ) مَوْضِعُ صَلَاةٍ (فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَصْلَةٌ بِهَاءِ السَّكْتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي سَأَلْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ عَنْ أَمَاكِنَ بُنِيَتْ مَسَاجِدَ وَاخْتُصَّتِ الْعِبَادَةُ بِهَا، وَأَيُّهَا أَقْدَمُ زَمَانًا؟ فَأَخْبَرْتُكَ بِوَضْعِ الْمَسْجِدَيْنِ وَتَقَدُّمِهِمَا عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ أُخْبِرُكَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي مِنْ رَفْعِ الْجَنَاحِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِيهَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِلَفْظِ: وَكَانَ مَنْ قَبْلِي إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ، وَمَرَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرَابَهُ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ مَعْنَى حَدِيثِ:«جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَجُعِلَتْ لِغَيْرِي مَسْجِدًا لَا طَهُورًا ; لِأَنَّ عِيسَى عليه السلام كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَيُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ اهـ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ لِعِيسَى مَوَاضِعَ مِحْرَابًا لَهُ، أَوْ خُصَّ عِيسَى بِالْعُمُومِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا لِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
أَيْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ سَتَرْتَهُ إِذَا غَطَّيْتَهُ، وَبِالْكَسْرِ وَاحِدُ السُّتُورِ، وَالْأَسْتَارِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.
[بَابُ السَّتْرِ]
[8]
بَابُ السَّتْرِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
754 -
عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[8]
بَابُ السَّتْرِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
754 -
(عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنهما : هُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَمُّهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأَبُوهُ صَحَابِيٌّ قُرَشِيٌّ مَخْزُومِيٌّ (قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا» ) : بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِيِّ وَالْحَمَوِيِّ بِالْجَرِّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، أَوِ الرَّفْعِ عَلَى الْحَذْفِ، كَذَا قَالَ الْأَبْهَرِيُّ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَى الْحَذْفِ، أَيْ: حَذَفِ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَهُوَ مُشْتَمِلٌ (بِهِ)، أَيْ: بِأَنْ لَفَّهُ بِبَدَنِهِ يَعْنِي اتَّزَرَ بِبَعْضِهِ، وَأَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ مُشْتَمِلًا بِالنَّصْبِ أَيْ فِي إِزَارٍ طَوِيلٍ مُشْتَمِلًا، مَالَ الطِّيبِيُّ: وَالِاشْتِمَالُ التَّوَشُّحُ وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَيَأْخُذُ طَرَفَهُ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَعْقِدُهَا عَلَى صَدْرِهِ يَعْنِي لِئَلَّا يَكُونَ سَدْلًا (فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) : مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَاضِعًا طَرَفَيْهِ) : تَفْسِيرَ مُشْتَمِلًا (عَلَى عَاتِقَيْهِ) : الْعَاتِقُ: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَصْلِ الْعُنُقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَ مِيرَكُ.
755 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «لَا يُصَلِّينَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
755 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ» ) : قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: لَا يُصَلِّي، بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَهُوَ خَبَرٌ، بِمَعْنَى النَّهْيِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ) ، الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ حَالٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حِكْمَتُهُ أَنَّهُ إِذَا اتَّزَرَ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَعَلَ بَعْضَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِمْسَاكِهِ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَتَفُوتُ السُّنَّةُ وَالزِّينَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
قُلْتُ: فِي كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا اضْطَرَّهُمْ إِلَى مَا ذَكَرُوا جَعْلُ ضَمِيرِ " مِنْهُ " إِلَى ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى مُطْلَقِ الثَّوْبِ، فَيُفِيدُ سُنِّيَّةَ وَضْعِ الرِّدَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ طَرَفِ الْإِزَارِ، وَغَيْرِهِ إِلَى الْكَتِفِ، وَكَرَاهِيَةَ تَرْكِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَا زَادَ عليه السلام فِي رِوَايَةٍ عَلَى إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَطْرَحُهُ عَلَى عَاتِقِهِ طَرَحَ حَبْلًا حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ شَيْءٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: ارْتَدُوا وَلَوْ بِحَبْلٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ:( «إِذَا صَلَّيْتَ وَعَلَيْكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» )، وَلَفَظُ مُسْلِمٍ:( «فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوَيْكَ» ) ، فَتَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْلُوَ الْعَاتِقُ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَدَبِ، وَأَنْسَبُ إِلَى الْحَيَاءِ مِنَ الرَّبِّ، وَأَكْمَلُ فِي أَخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَطْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْجُمْهُورُ: وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَلَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَاتِرٍ عَوْرَتَهُ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ، وَأَمَّا أَحْمَدُ وَبَعْضُ السَّلَفِ فَنَسَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يُصَلِّيَنَّ لَيْسَ فِيهِمَا، بَلْ فِيهِمَا لَا يُصَلِّي، وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى عَاتِقَيْهِ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَالثَّالِثِ: أَنَّ قَوْلَهُ مِنْهُ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ: وَفِي غَرَائِبِ مَالِكٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ بِلَفْظِ: لَا يُصَلِّ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ بِلَفْظِ لَا يُصَلِّيَنَّ اهـ، أَيْ: بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ قَالَ الْأَبْهَرِيُّ.
756 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ» ) ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
756 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [قَالَ: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ» ) ، أَيْ: (وَاحِدٍ) ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ [فَلْيُخَالِفْ] : يَعْنِي: إِذَا كَانَ وَاسِعًا فَلْيُخَالِفْ (بَيْنَ طَرَفَيْهِ) : أَيْ: فَلْيَأْتَزِرْ بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَلِيَجْعَلِ الْآخَرَ عَلَى عَاتِقِهِ، وَقِيلَ: يَضَعُ طَرَفَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَالْعَكْسُ، وَقِيلَ: فَلْيَجْعَلْ كَالْمُضْطَبِعِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ضَيِّقًا عَلَى حَقْوَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
)
757 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:«صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأَتُوْنِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي» ) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ:( «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِيَ» )
ــ
757 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمِيصَةٍ) : فِي النِّهَايَةِ: الْخَمِيصَةُ ثَوْبٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ مُعَلَّمَةٌ سَوْدَاءُ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً، وَكَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ قَدِيمًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ (لَهَا)، أَيْ: لِلْخَمِيصَةِ (أَعْلَامٌ) : عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّجْرِيدِ (فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً)، أَيْ: نَظَرَ عِبْرَةٍ (أَعْلَامٌ) : عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّجْرِيدِ (فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً)، أَيْ: نَظَرَ عِبْرَةٍ (فَلَمَّا انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ [قَالَ: ( «اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: ( «أَلْهَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا» ) . (إِلَى أَبِي جَهْمٍ) : قُرَشِيٌّ وَعَدَوِيٌّ كَانَ أَهْدَاهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَأَتُوْنِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ) : وَإِنَّمَا طَلَبَ أَنْبِجَانِيَّتَهُ بَدَلَهَا لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِرَدِّ هَدِيَّتِهِ، وَهِيَ فَتْحُ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ النُّونِ وَكَسْرُ الْمُوَحَّدَةِ وَتُفْتَحُ وَتَشَدَّدُ التَّحْتِيَّةُ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَحْفُوظِ مِنَ الرِّوَايَةِ وَالِدِّرَايَةِ، فَفِي الْمَعْنَى: هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، كِسَاءٌ لَا عَلَمَ لَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَنْبِجٌ كَمَجْلِسٍ مَوْضِعٌ، وَكِسَاءٌ مَنْبَجَانِيٌّ وَأَنْبَجَانِيٌّ بِفَتْحِ بَائِهِمَا نِسْبَةً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَحْفُوظُ فِي أَنْبِجَانِيَّةٍ كَسْرُ الْبَاءَ، وَهُوَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى " مَنْبِجَ " بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالشَّامِ وَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ فَفُتِحَتْ فِي النَّسَبِ وَأُبْدِلَتِ الْمِيمُ بِهَمْزَةٍ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَنْبِجَانُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَعَسُّفٌ، وَهُوَ كِسَاءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الصُّوفِ لَهُ خَمَلٌ، وَلَا عَلَمَ لَهُ، وَهُوَ مَنْ أَدْوَنِ الثِّيَابِ الْغَلِيظَةِ، وَالْهَمْزَةُ فِيهَا زَائِدَةٌ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَقَدْ حُذِفَ بَعْضُ حُرُوفِهَا وَعُرِّبَ، قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَهْدَاهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَلْهَاهُ عَلَمُهَا، أَيْ: شَغَلَهُ عَنِ الصَّلَاةِ بِوُقُوعِ نَظْرَةٍ إِلَى نُقُوشِ الْعَلَمِ وَأَلْوَانِهِ، أَيْ: تَفَكَّرَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا لِلرُّعُونَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ رَدَّهَا إِلَيْهِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ لِلصُّوَرِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ تَأْثِيرًا مَا فِي النُّفُوسِ الطَّاهِرَةِ: قِيلَ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهِيَةِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يَتَعَاطَاهَا النَّاسُ عَلَى أَرْدَائِهِمْ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا (فَإِنَّهَا) : أَيِ: الْخَمِيصَةَ (أَلْهَتْنِي)، أَيْ: شَغَلَتْنِي (آنِفًا) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، أَيْ: فِي هَذِهِ السَّاعَةِ (عَنْ صَلَاتِي)، أَيْ: عَنْ كَمَالِ حُضُورِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ مِيرَكُ:«قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي خَمِيصَةٍ ذَاتِ أَعْلَامٍ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ (اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي فِي صَلَاتِي» ) فَانْظُرْ فِي اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ.
[فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ ( «كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَمَلِهَا وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَأَخَافُ أَنْ يَفْتِنَنِيَ» ) : أَيْ: بِمَعْنَى مِنَ الصَّلَاةِ وَيَشْغَلَنِي عَنْ حُضُورِهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يُلْهِيَنِي عَنِ الصَّلَاةِ لَهْوًا أَتَمَّ مِمَّا وَقَعَ مِنْهَا، وَإِلَّا فَلَا تَنَافِي بَيْنَ جَزْمِهِ بِوُقُوعِ الْإِلْهَاءِ بِهَا ثَمَّ، وَخَشْيَةِ وُقُوعِهِ بِهَا هُنَا فَتَأَمَّلْهُ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ حِكْمَةُ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ حَيْثُ عَبَّرَ أَوَّلًا بِالْإِلْهَاءِ وَثَانِيًا بِالْفِتْنَةِ اهـ.
وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، فَأَخَافُ أَنْ يُوقِعَنِيَ فِي الْعَذَابِ أَوْ فِي فِتْنَةٍ تُؤَدِّي إِلَيْهِ قَالَ تَعَالَى:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَى أَلْهَتْنِي أَرَادَتْ أَنْ تُلْهِيَنِي فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ: فَأَخَافُ أَنْ يَفْتَتْنِي بِمَعْنَى يُلْهِينِي، بَلْ يَكُونُ الثَّانِي تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهَا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ وَخَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْإِلْهَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَطَّطَاتِ فِي صَلَاتِهِمْ، لَكِنَّ مِنْ زَعَمَ مِنَ الْأُمَّةِ أَنَّ قَلْبَهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ، فَقَدْ جَهِلَ طَرِيقَ السُّلُوكِ لِأَنَّهُ لَا يُقَاسُ الْحَدَّادُونَ بِالْمُلُوكِ، وَأَمَّا جَزْمُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّ قَلْبَهُ عليه السلام تَأَثَّرَ بِذَلِكَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَوْلُ الْأَشْرَفِ تَأْثِيرًا إِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: يُسَنُّ لِمَنْ صَلَّى فِي ذَلِكَ أَوْ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَيْهِ أَنْ يُغْمِضَ بَصَرَهُ، حَتَّى لَا يَخْتَلَّ خُشُوعُهُ وَحُضُورُهُ، قُلْتُ: سَبَقَ مِنْهُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ إِلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَتَغْمِيضُ الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، فَكَيْفَ يُسَنُّ مَكْرُوهٌ لِدَفْعِ مَكْرُوهٍ، مَعَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
758 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ «كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا ; فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
758 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ قِرَامٌ) : وَهُوَ بِالْكَسْرِ سِتْرٌ رَقِيقٌ فِيهِ نُقُوشٌ وَرَقْمٌ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْقِرَامُ هُوَ السِّتْرُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ الصَّفِيقُ مِنْ صُوفٍ ذِي أَلْوَانٍ، وَقِيلَ مُطَلَّقُ السِّتْرِ، وَقِيلَ الْقِرَامُ السِّتْرُ الرَّقِيقُ وَرَاءَ السِّتْرِ الْغَلِيظِ وَلِذَا أَضَافَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَقِيلَ: الْقِرَامُ سِتْرٌ، (لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا) : وَهُوَ يَحْتَمِلُ جَانِبَ الْبَابِ وَجَانِبَ الْجِدَارِ (فَقَالَ) : أَيْ لَهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ [النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَمِيطِي) : أَيْ: أَزِيلِي (عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ) : الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوِ الْقِرَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَإِنَّهَا فَالضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ (لَا يَزَالُ تَصَاوِيرُهُ) : جَمْعُ تَصْوِيرٍ. بِمَعْنَى الصُّورَةِ، أَيْ: تَمَاثِيلُهُ أَوْ نُقُوشُهُ (تَعْرِضُ) ،]، أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْنِي: تَظْهَرُ (فِي صَلَاتِي) : وَتَشْغَلَنِي عَنْهَا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، أَيْ: مُنْفَرِدًا بِهِ قَالَ مِيرَكُ.
759 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجَ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» ) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
759 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) : مِنْ قَبِيلَةِ جُهَيْنَةَ كَانَ وَالِيًا عَلَى مِصْرَ لِمُعَاوِيَةَ (قَالَ: أُهْدِيَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ)، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ هُوَ الْقَبَاءُ الَّذِي شُقَّ مِنْ خَلْفِهِ (فَلَبِسَهُ) : قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَوَّلِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّهُ عليه السلام صَلَّى فِي قَبَاءِ دِيبَاجٍ ثُمَّ نَزَعَةٍ، وَقَالَ (نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ)، فَمَعْنَى قَوْلِهِ (ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا لِشَرِّهِ لَهُ) : لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّعُونَةِ أَوْ لِمَا جَاءَهُ الْوَحْيُ بِالنَّهْيِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَنَزَعَهُ نَزْعَ الْكَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّعُونَةِ كَمَا بَدَا لَهُ فِي الْخَمِيصَةِ، وَقِيلَ: كَانَ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا لَبِسَهُ اسْتِمَالَةً لِقَلْبِ مَنْ أَهْدَاهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، أَوْ صَاحِبُ دُومَةَ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ اهـ، كَلَامُهُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنَّ لُبْسَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا لِلِاسْتِمَالَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، سِيَّمَا صَلَاتُهُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِيهِ نَزْعُهُ الْكَارِهُ [ثُمَّ قَالَ:(لَا يَنْبَغِي)، أَيْ: لَا يَلِيقُ (هَذَا لِمُتَّقِينَ)(أَيْ: لِلْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُتَّقِينَ عَنِ الشِّرْكِ، وَلَا يَنْبَغِي. بِمَعْنَى لَا يَجُوزُ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَ مِيرَكُ.
الفصل الثاني
760 -
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه، قَالَ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ؟ أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَازْرُرْهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ.
ــ
الفصل الثاني
760 -
(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) : هُوَ أَسْلَمِيٌّ، مَدَنِيٌّ، وَكَانَ مِنَ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ رَاجِلًا (قَالَ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي رَجُلٌ أَصِيدُ» ) ، كَأَبِيعُ، أَيْ: أَصْطَادُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَأُكْرِمُ، فِي النِّهَايَةِ: رَوَى أَصِيدُ أَيْ لَهُ عِلَّةٌ فِي رَقَبَتِهِ لَا يُمْكِنُ الْتِفَاتٌ مَعَهَا، وَالْمَشْهُورُ أَصِيدُ مِنْ الِاصْطِيَادِ، وَالثَّانِي أَنْسَبُ ; لِأَنَّ الصَّيَّادَ يَطْلَبُ الْخِفَّةَ، وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ الْإِزَارُ مِنَ الْعَدْوِ خَلْفَ الصَّيْدِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ الْمَعْنَيَيْنِ وَمَا فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ [أَفَأُصَلِّي فِي الْقَمِيصِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ (نَعَمْ)، أَيْ: صَلِّ فِيهِ (وَازْرُرْهُ) : بِضَمِّ الرَّاءِ، أَيِ: اشْدُدْهُ (لَوْ بِشَوْكَةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ جَيْبُ الْقَمِيصِ وَاسِعًا تَظْهَرُ مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَزُرَّهُ لِئَلَّا يَكْشِفَ الْعَوْرَةَ، قَالَ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: وَمِنْ آدَابِ الصَّلَاةِ زَرَّ الْقَمِيصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ سَتْرَ عَوْرَتِهِ عَنْ نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْلُولَ الْجَيْبِ، فَنَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَفْتَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ بِأَنَّهُ إِذَا رَأَى عَوْرَتَهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ، (وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ)، أَيْ: بِمَعْنَاهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
761 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلَ إِزَارِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ) فَذَهَبَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ رَجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
761 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يُصَلِّي مُسْبِلَ إِزَارِهِ) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِرَجُلٍ أَيْ: مُرْسَلَةً أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبِ تَبَخْتُرًا وَخُيَلَاءَ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمُسْبِلُ الَّذِي يُطَوِّلُ ثَوْبَهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَى الْأَرْضِ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَبَخْتُرًا وَاخْتِيَالًا اهـ، وَإِطَالَةُ الذَّيْلِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَمَالِكٌ يُجَوِّزُهَا فِي الصَّلَاةِ دُونَ الْمَشْيِ لِظُهُورِ الْخُيَلَاءِ فِيهِ، (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِ لِكَوْنِ صَلَاتِهِ صَحِيحَةً، فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَقَالَ:(اذْهَبْ فَتَوَضَّأْ) : قِيلَ: لَعَلَّ السِّرَّ فِي أَمْرِهِ بِالتَّوَضُّؤِ، وَهُوَ طَاهِرٌ أَنْ يَتَفَكَّرَ الرَّجُلُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَيَقِفَ عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَأَنَّ اللَّهَ بِبَرَكَةِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام إِيَّاهُ بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ يُطَهِّرُ بَاطِنَهُ مِنْ دَنَسِ الْكِبْرِ ; لِأَنَّ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ مُؤَثِّرَةٌ فِي طَهَارَةِ الْبَاطِنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ) : فَكَأَنَّهُ جَاءَ غَيْرَ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَمَرْتَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ طَاهِرٌ [قَالَ: ( «إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ مُسْبِلٌ إِزَارَهُ» ) : وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ، أَيْ: قَبُولًا كَامِلًا صَلَاةَ رُجُلٍ مُسْبِلٍ إِزَارَهُ، ظَاهِرُ جَوَابِهِ عليه السلام أَنَّهُ إِنَّمَا أَعَادَهُ بِالْوُضُوءِ، وَالَّذِي أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي وَمَا تَعَلَّقَ الْقَبُولُ الْكَامِلُ بِصَلَاتِهِ، وَالطَّهَارَةُ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَأَجْزَائِهَا الْخَارِجَةِ فَسَرَى عَدَمُ الْقَبُولِ إِلَى الطَّهَارَةِ أَيْضًا، فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الطَّهَارَةِ حَثًّا عَلَى الْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، فَقَوْلُهُ: يُصَلِّي، أَيْ: يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الْمُسْبِلُ بِقَطْعِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ الْوُضُوءِ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33](رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي التَّقْرِيبِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ، مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ نَقَلَهُ مِيرَكُ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ:«أَنَّهُ عليه السلام أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي، وَقَدْ أَسْدَلَ ثَوْبَهُ فَدَنَا مِنْهُ عليه السلام فَعَطَفَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ» .
762 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
762 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُقْبَلُ) : بِالتَّأْنِيثِ أَصَحُّ، وَالْمَعْنَى لَا تَصِحُّ إِذِ الْأَصْلُ فِي نَفْيِ الْقَبُولِ نَفْيُ الصِّحَّةِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الثِّيَابَ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هِيَ طَوَافُهُمْ عُرَاةً، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْفُرُوعِ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَسَائِلِهِ، (صَلَاةُ حَائِضٍ)، أَيْ: بَالِغَةٍ (إِلَّا بِخِمَارٍ)، أَيْ: مَا يُتَخَمَّرُ بِهِ مِنْ سَتْرِ رَأْسٍ، وَهَذَا فِي الْحَرْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَأَرَادَ بِهَا بِهَا الْحُرَّةَ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ، وَقِيلَ: الْأَصْوَبُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَائِضِ مِنْ شَأْنِهَا الْحَيْضُ لِيَتَنَاوَلَ الصَّغِيرَ أَيْضًا، فَإِنَّ سَتْرَ رَأْسِهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاتِهَا أَيْضًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ بِخِلَافِ الْأَمَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، قَالَ: صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.
763 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ قَالَ:(إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ وَقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ.
ــ
763 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ» )، أَيْ: قَمِيصٍ (وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا)، أَيْ: لَيْسَ تَحْتَ قَمِيصِهَا أَوْ فَوْقَهُ (إِزَارٌ) ؟ ، أَيْ: وَلَا سَرَاوِيلَ، أَيْ:(قَالَ)، أَيْ:(إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا)، أَيْ: كَامِلًا وَاسِعًا (يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا) : قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ ظَهْرَ قَدَمِهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوِ انْكَشَفَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَعَلَيْهَا الْإِعَادَةُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدَيْنِ الْكَفَّانِ، وَفِي مُخْتَلِفَاتِ قَاضِي خَانْ ظَاهِرُ الْكَفِّ وَبَاطِنُهُ لَيْسَا عَوْرَتَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرُهُ
عَوْرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالذِّرَاعُ عَوْرَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّ فِي الْمُقَدَّمَيْنِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ظَهْرِ الْكَفِّ وَبَطْنِهِ، خِلَافًا لِمَا قِيلَ: إِنَّ بَطْنَهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَظَهْرَهُ عَوْرَةٌ، قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَا قِيلَ: وَقَالَ فِي الْخَانِيَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّ انْكِشَافَ رُبُعِ الْقَدَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ عَوْرَةٌ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، أَيْ: مَرْفُوعًا مَالَ: وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَوْقُوفًا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، (وَذَكَرَ)، أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (جَمَاعَةً)، أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ (وَقَفُوهُ)، أَيِ: الْحَدِيثَ (عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ، أَوْ أَحَدُ الرُّوَاةِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَقَفُوا هَذَا الْحَدِيثَ وَقَصَرَهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ اهـ.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَلَعَلَّ الْمَوْقُوفَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَذَكَرَ هُوَ أَنَّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ وَقْفُهُمْ لَهُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مَنْ رَفَعَهُ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ فَيُقَدَّمُ، وَأَيْضًا هَذَا الْمَوْقُوفُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عليه السلام:( «عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ» ) ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنِ لِلْغَالِبِ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَجُلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ إِلَّا أَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ تَجْبُرُهُ وَهِيَ أَحَادِيثُ أَرْبَعَةٌ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ: (الْعَوْرَةُ السَّوْأَتَانِ فَقَطْ لِمَا فِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ عليه السلام: كَانَ مَكْشُوفَ الْفَخِذِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَلَمْ يَسْتُرْهُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَسَتَرَهُ» ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ الْمَكْشُوفَ حَصَلَ الشَّكُّ فِيهِ فِي مُسْلِمٍ هَلْ هُوَ السَّاقُ أَوِ الْفَخِذُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ كَشْفِ الْفَخِذِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهِيَ وَاقِعَةُ حَالٍ احْتَمَلَتْ أَنَّ الْمَكْشُوفَ مِنْ نَاحِيَتِهِ لَا مِنْ نَاحِيَتِهِمَا.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ الْكَشْفُ لَهُ حَالَةَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالسَّتْرِ بَعْدَمَا أَفَاقَ، وَأَمَّا فِي خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ، «أَنَّهُ عليه السلام أَجْرَى فَرَسَهُ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، ثُمَّ حَسِرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ الشَّرِيفِ حَتَّى رَآهُ أَنَسٌ» ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ انْحَسَرَ بِنَفْسِهِ لِأَجْلِ الْإِجْرَاءِ لِرِوَايَتِهِمَا أَيْضًا، فَانْحَسَرَ الْإِزَارُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ قَالَ فِي كُلٍّ مِنْهَا: أَنَّهُ حَسَنٌ أَنَّهُ عليه السلام، قَالَ لِجَرْهَدٍ، بِجِيمٍ وَهَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ: غَطِّ فَخِذَكَ ; لِأَنَّ الْفَخِذَ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ:" «لَا تَمْشُوا عُرَاةً» "، وَلِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْأَرْبَعَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ:( «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: (اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» ) ، ثُمَّ الْعَارِي وَالْمُسْتِرُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى الثَّانِي مُتَأَدِّبًا، وَالْأَوَّلَ تَارِكًا لِلْأَدَبِ اهـ.
وَقَوْلُهُ: " يَجِبُ " لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْ يُقَالُ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْذُورَاتِ لِمَا جَاءَ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَسَتُّرُ الْعَوْرَةَ عَنْ أَعْيُنِ الْجِنِّ، وَالْأَمْرُ اسْتِحْبَابُ التَّسَتُّرِ حَالَةَ الْخَلَاءِ لَا الْوُجُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
764 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
764 -
(وَعَنْ أَبِيً هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ» )، قِيلَ: هُوَ إِرْسَالُ الْيَدِ، وَقِيلَ: إِرْسَالُ الثَّوْبِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَفِي الْفَائِقِ: السَّدْلُ إِرْسَالُ الثَّوْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ جَانِبَيْهِ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِثَوْبِهِ وَيُدْخِلَ يَدَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ فَيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَنَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي: السَّدْلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: السَّدْلُ أَنْ يَضَعَ الثَّوْبَ عَلَى كَتِفِهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ عَلَى عَضُدَيْهِ أَوْ صَدْرِهِ، وَقِيلَ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَتِفِهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: هُوَ أَنْ يَجْعَلَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى عَاتِقِهِ، وَيُرْسِلَ جَانِبَيْهِ أَمَامَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَالْكُلُّ سَدْلٌ فَإِنَّ السَّدْلَ فِي اللُّغَةِ: الْإِرْخَاءُ وَالْإِرْسَالُ، وَفِي الشَّرْعِ: الْإِرْسَالُ بِدُونِ الْمُعْتَادِ، وَكَرَاهَتُهُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ اهـ.
وَحِكْمَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ، بِمُحَافَظَتِهِ وَالِاحْتِيَاجِ بِمُعَالَجَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ مَغْرُوزًا أَوْ مَرْبُوطًا
بِطَرَفٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْوُقُوعِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا ( «وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ» )، أَيْ: فَمَهُ فِي الصَّلَاةِ، كَانَتِ الْعَرَبُ يَتَلَثَّمُونَ بِالْعَمَائِمِ، وَيَجْعَلُونَ أَطْرَافَهَا تَحْتَ أَعْنَاقِهِمْ، فَيُغَطُّونَ أَفْوَاهَهُمْ كَيْلَا يُصِيبَهُمُ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، فَنُهُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ حُسْنَ إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ وَكَمَالَ السُّجُودِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنْ عَرَضَ لَهُ التَّثَاؤُبُ جَازَ أَنْ يُغَطِّيَ فَمَهُ بِثَوْبٍ أَوْ يَدِهِ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ الطِّيبِيِّ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّهْيِ اسْتِمْرَارُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَمِنَ الْجَوَازِ عُرُوضُهُ سَاعَةً لِعَارِضٍ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ أَوْ أَنْفَهُ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، إِلَّا عِنْدَ التَّثَاؤُبِ، وَالْأَدَبُ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ أَنْ يَكْظِمَهُ، أَيْ: يُمْسِكَهُ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الِانْفِتَاحِ إِنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام: ( «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» )، وَفِي رِوَايَةٍ:( «فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ، عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّطِّيَّانَ يَدْخُلُ فِيهِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، «وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ أَوْ كُمَّهُ عَلَى فِيهِ» ، كَذَا رَوَى عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، قِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ يَدَهُ الْيُسْرَى ; لِأَنَّهَا لِدَفْعِ الْأَذَى.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْقِيَامِ عِنْدَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ، فَيَضَعُ ظَهْرَ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى فَمِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، التِّرْمِذِيُّ) : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التِّرْمِذِيِّ: وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ التَّخْرِيجِ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عِسْلٍ، وَهُوَ ابْنُ سُفْيَانَ التَّيْمِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ، كُنْيَتُهُ أَبُو قُرَّةَ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أَيْضًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِتَمَامِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ، وَغَيْرُهُمَا، وَجُزْؤُهُ الْأَخِيرُ صَحِيحٌ كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا جُزْؤُهُ الْأَوَّلُ، عَنِ النَّهْيِ عَنِ السَّدْلِ فَضَعَّفَهُ كَثِيرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عُمُومُ النَّهْيِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ إِسْبَالِ الْإِزَارِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: يُكْرَهُ إِطَالَةُ الثَّوْبِ عَنِ الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبِ الْأَرْضَ مَا لَمْ يَقْصِدْ خُيَلَاءَ، وَإِلَّا حُرِّمَ.
765 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «خَالِفُوا الْيَهُودَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
765 -
(وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) : هُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَانَ ذَا عِلْمٍ وَحِلْمٍ نَزَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَاتَ بِالشَّامِ، [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خَالِفُوا الْيَهُودَ)، أَيْ: بِالصَّلَاةِ فِي نَحْوِ النُّعُولَ ( «فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي وَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا إِذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَا الْمُنْذِرِيُّ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ، وَقَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَضِيَّتُهُ نَدْبُ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ وَالْخِفَافِ، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، الْأَدَبُ خَلْعُ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي الْجَمْعُ بِحَمْلِ مَا فِي الْخَبَرِ عَلَى مَا إِذَا تَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا، وَيَتَمَكَّنُ مَعَهُمَا مِنْ تَمَامِ السُّجُودِ بِأَنْ يَسْجُدَ عَلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، وَمَا فِي الْإِمَامِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ اهـ.
وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْمَهَارَةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَعَهُ إِتْمَامُ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ خَلْعُ النَّعْلِ أَدَبًا مَعَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْأَدَبَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَخِرَ أَمْرِهِ عليه السلام خَلْعُ نَعْلَيْهِ، أَوِ الْأَدَبَ فِي زَمَنِنَا عِنْدَ عَدَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ عَدَمِ اعْتِيَادِهِمَا الْخَلْعَ، ثُمَّ سَنَحَ لِي أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: خَالِفُوا الْيَهُودَ فِي تَجْوِيزِ الصَّلَاةِ مَعَ النِّعَالِ وَالْخِفَافِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ أَيْ لَا يُجَوِّزُونَ الصَّلَاةَ فِيهِمَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عليه السلام كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي تَأْكِيدًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَتَأْيِيدًا لِلْجَوَازِ خُصُوصًا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الدَّلِيلَ الْفِعْلِيَّ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ.
766 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:«بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ؟) ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا، فَلْيَمْسَحْهُ، وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا» ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
766 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ) : أَيْ: نَزَعَ (نَعْلَيْهِ)، أَيْ: مِنْ رِجْلَيْهِ (فَوَضَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ) : صَحَّتْ رِوَايَتُهُ بِلَفْظِ (عَنْ) ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّجَاوُزِ، أَيْ:
وَضْعِهِمَا بَعِيدًا مُتَجَاوِزًا عَنْ يَسَارِهِ، وَكَذَلِكَ أَلْقَى الْأَصْحَابُ نِعَالَهُمْ تَأَسِّيًا بِهِ عليه السلام قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ بِوَضْعِ النِّعَالِ عَلَى الْيَسَارِ دُونَ الْيَمِينِ، قُلْتُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَمِلٍ قَلِيلٍ، (فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مُتَابَعَتِهِمْ [فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ، قَالَ:( «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ» ؟) : بِالنَّصْبِ ( «قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا» ) : قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ عليه السلام ; لِأَنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنِ الْحَامِلِ فَأَجَابُوهُ بِالْمُتَابَعَةِ، وَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْمُخَصَّصُ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي)، أَيْ: لِشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ تَعَالَى بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ عليه السلام (فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: خُبْثًا، وَفِي أُخْرَى: قَذَرًا أَوْ أَذًى أَوْ دَمَ حَلَمَةٍ، وَهِيَ بِالتَّحْرِيكِ الْقُرَادُ الْكَبِيرُ، قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَصْحِبَ لِلنَّجَاسَةِ إِذَا جَهِلَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ خَلَعَ النَّعْلَ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ، قَالَ: وَمَنْ يَرَى فَسَادَ الصَّلَاةِ حَمَلَ الْقَذَرَ عَلَى مَا تَقَذَّرَ عُرْفًا كَالْمُخَاطِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فَإِخْبَارُهُ إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَيْلَا تَتَلَوَّثَ ثِيَابُهُ بِشَيْءٍ مُسْتَقْذَرٍ عِنْدَ السُّجُودِ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَعْفُوِّ مِنَ النَّجَاسَةِ وَإِخْبَارُهُ إِيَّاهُ لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَأْخِيرِ الْإِخْبَارِ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ عليه السلام لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا بِمَا يُعَلَّمُ، أَوْ لِيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ هَذَا الْحُكْمَ مِنَ السُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَأَجَابَ أَئِمَّتُنَا عَنْ خَبَرِ الْبَابِ بِأَنَّ الْقَذَرَ الْمُسْتَقْذَرُ وَلَوْ طَاهِرًا، وَبِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبِأَنَّ رِوَايَةَ خُبْثًا مُفَسَّرَةٌ بِرِوَايَةِ الدَّمِ، (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ) : أَيْ: فِي نَعْلِهِ (فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ) : أَوْ أَحَدِهِمَا (قَذَرًا، فَلْيَمْسَحْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْقَذِرَةِ (وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا) : قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَنَجَّسَ نَعْلُهُ إِذَا ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ طُهْرَ وَجَازَ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ يَرَى خِلَافَهُ أُوِّلَ بِمَا ذَكَرْنَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ إِنْ كَانَ لَهَا جِرْمٌ خَفِيفٌ وَمَسَحَهُ بِالتُّرَابِ أَوْ بِالرَّمْلِ، مَسَحَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ يُطَهَّرُ، وَكَذَلِكَ بِالْحَكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِرْمٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْغَسْلِ بِالِاتِّفَاقِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، قَالَ مِيرَكُ (وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سَنَدُهُ حَسَنٌ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ يَكْفِي مَسْحُهَا مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي رِجَالِهِ، وَعَلَى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَهُوَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فِي طِينِ الشَّارِعِ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَمَسْحُهُ إِنَّمَا هُوَ لِإِذْهَابِ قُبْحِ صُورَتِهِ وَتَقْدِيرُ الْمَسْجِدِ لَا لِكَوْنِهِ يُطَهِّرُهُ.
767 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، فَتَكُونَ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ، وَلِيَضَعْهَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» )، وَفَّى رِوَايَةٍ:(أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ.
ــ
767 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ) : أَيْ: أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ (فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ) : بِالْجَزْمِ جَوَابٌ إِذَا (عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا عَنْ يَسَارِهِ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (فَتَكُونَ) : بِالتَّأْنِيثِ عَلَى الصَّحِيحِ، أَيْ: فَتَقَعَ النَّعْلُ (عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّهْيِ، أَيْ: وَضْعُهُ عَنْ يَسَارِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ سَبَبٌ لِأَنْ تَكُونَ عَنْ يَمِينِ صَاحِبِهِ، يَعْنِي: وَفِيهِ نَوْعُ إِهَانَةٍ لَهُ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحِبَّ لِصَاحِبِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ (إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَلَى يَسَارِهِ (أَحَدٌ) : أَيْ: فَيَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ (وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) : أَيْ: قُدَّامَهُ إِذَا كَانَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: زِيَادَةً لَا بَدَلًا.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا، لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» اهـ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَوْ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَقَعَ قُدَّامَ غَيْرِهِ، أَوْ لِئَلَّا يَذْهَبَ خُشُوعُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْرَقَ (" أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا ")، أَيْ: إِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ الْبَصْرِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّخْرِيجِ، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
768 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
768 -
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (- «صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ» ) : فِي الْفَائِقِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ نَبْتَ مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَا، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ أَفْضَلُ إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ نَجَاسَةٍ، وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: الصَّلَاةُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ كَالْحَصِيرِ أَفْضَلُ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَفِيهِ خُرُوجٌ عَنْ خِلَافِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، (يَسْجُدُ عَلَيْهِ) : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْ يُصَلِّي ( «قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ» )، أَيْ: وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
769 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
769 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَافِيًا» ) : أَيْ: تَارَةً (وَمُتَنَعِّلًا) : أَيْ: أُخْرَى مِنْ الِانْتِعَالِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: مُتَنَعِّلًا مِنَ التَّنَعُّلِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
770 -
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِيَ أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
770 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) : مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ (قَالَ: صَلَّى) ، أَيْ: بِنَا كَمَا فِي نُسْخَةِ (جَابِرٍ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ وَثِيَابِهِ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، عِيدَانٍ يُضَمُّ رُءُوسُهَا وَيُفَرَّجُ بَيْنَ قَوَائِمِهَا، وَتُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ لِتُنْجَرَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟) : هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مَحْذُوفَةٌ أَنْكَرَهُ إِنْكَارًا بَلِيغًا كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ صَحِبْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَا شَعَرْتَ بِسُنَّتِهِ فَتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَثِيَابُكَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَلِذَلِكَ زَجَرَهُ وَسَمَّاهُ أَحْمَقَ (فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِيَ أَحْمَقُ مِثْلُكَ) : فَيَعْلَمُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْأَحْمَقِ الْجَاهِلُ، وَالْحُمْقُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، (وَأَيُّنَا)، أَيْ: كَيْفَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَأَيُّنَا (كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ : فِي الْفَائِقِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبَيْنِ أَفْضَلُ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ لَعَجَزَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ، وَأَمَّا صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَفِي وَقْتٍ كَانَ لِعَدَمِ ثَوْبٍ آخَرَ، وَفِي وَقْتٍ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ: قُلْتُ: وَفِي وَقْتٍ لِلْمُسَامَحَةِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .