المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ تَابِعٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

- ‌[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ السَّتْرِ]

- ‌[بَابُ السُّتْرَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرُّكُوعِ]

- ‌[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[بَابُ التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ السَّهْوِ]

- ‌[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

- ‌[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

الفصل: فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ تَابِعٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ

فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ تَابِعٌ لِلشَّرْعِ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، فَعَلَيْهِ التَّعَبُّدُ الْمَحْضُ بِمُقْتَضَى الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُبْتَدَعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الْعَقْلِ، وَتَرْكِ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا: لَوْ قُلْتُ بِالرَّأْيِ لَأَوْجَبْتُ الْغُسْلَ بِالْبَوْلِ أَيْ: لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْوُضُوءُ بِالْمَنِيِّ ; لِأَنَّهُ نَجِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَأَعْطَيْتُ الذَّكَرَ فِي الْإِرْثِ نِصْفَ الْأُنْثَى ; لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْهُ، هَذَا وَقَالَ فِي النَّوَوِيَّةِ نَقْلًا عَنِ الْمَبْسُوطِ فِي قَوْلِ عَلِيٍّ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ مَسْحُ بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ بَاطِنَهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ عَادَةً فَيُصِيبُ يَدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِنِ عِنْدَهُمْ مَحَلُّ الْوَطْءِ لَا مَا يُلَاقِي الْبَشَرَةَ، لَكِنْ بِتَقْدِيرِهِ لَا يَظْهَرُ أَوْلَوِيَّةُ مَسْحِ بَاطِنِهِ وَلَوْ كَانَ بِالرَّأْيِ، بَلِ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ الْأَسْفَلُ هُوَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَالُوهُ، فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَسْحِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَسْفَلَ أَحْوَجُ إِلَى التَّطْهِيرِ ; فَإِنَّهُ أُجْمِعَ فِيهِ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ، وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ إِيمَاءٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلِ ; لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الرِّجْلِ لَكَانَ فِي مُقْتَضَى الرَّأْيِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى لَا عَلَى الْأَسْفَلِ، فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ (وَلِلدَّارِمِيِّ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ مُبْتَدَؤُهُ:(مَعْنَاهُ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ دُونَ لَفْظِهِ.

ص: 480

[بَابُ التَّيَمُّمِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

526 -

عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(10)

بَابُ التَّيَمُّمِ

وَهُوَ لُغَةٌ: الْقَصْدُ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَشَرْعًا: قَصْدُ التُّرَابِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي مَفْهُومِهِ اللُّغَوِيِّ وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِيهِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ أَصْلَيْهِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَيْضًا الْغُسْلُ بِالْمَاءِ طَهَارَةٌ حِسِّيَّةٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ إِلَّا لِخُصُوصِ الْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَفِي الظَّاهِرِ إِنَّمَا هُوَ غَبْرَةٌ صُورِيَّةٌ، فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ ; لِيَصِيرَ بِهَا كَالطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ التَّيَمُّمُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ فَرْضِيَّتِهِ وَمَكَانِهَا وَسَبَبِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى انْهُ مُخْتَصٌّ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَإِنَّ كَانَ الْحَدَثُ أَكْبَرَ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِجْمَاعًا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

526 -

(عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فُضِّلْنَا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا (عَلَى النَّاسِ) أَيْ: فَضَّلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ (بِثَلَاثٍ) أَيْ: بِثَلَاثِ خِصَالٍ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا ; لِأَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يَقِفُونَ فِي الصَّلَاةِ كَيْفَمَا اتُّفِقَ، وَلَمْ تَجُزْ لَهُمُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ التَّيَمُّمُ، وَلَيْسَ فِيهِ انْحِصَارُ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ خَصَائِصُ أُمَّتِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيُخْبِرُ عَنْ كُلِّ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِنْزَالِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهُ (جُعِلَتْ صُفُوفُنَا) أَيْ: وُقُوفُنَا فِي الصَّلَاةِ (كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ) قِيلَ: فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقِيلَ: فِي الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: فِي الطَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ - وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 165 - 166](وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا) تَأْكِيدٌ لِيَشْمَلَ مَا فِي حُكْمِهَا مِنَ الْجِبَالِ (مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا) أَيْ: تُرَابُ الْأَرْضِ لَنَا طَهُورًا) أَيْ: مُطَهِّرًا (إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ) وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ: أَنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَكُونُ طَهُورًا، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِغَيْرِنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 480

527 -

وَعَنْ عِمْرَانَ رضي الله عنه، قَالَ:«كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، إِذَا هُوَ بَرْجَلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ; فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

527 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ) أَيْ: ابْنِ الْحُصَيْنِ الْخُزَاعِيِّ الْكَعْبِيِّ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ (قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ) : أَيْ: إِمَامًا (فَلَمَّا انْفَتَلَ) : أَيْ: انْصَرَفَ وَفَرَغَ (مِنْ صَلَاتِهِ، إِذَا هُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِرَجُلٍ) : فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ بِرَجُلٍ (مُعْتَزِلٍ) : عَنِ الْقَوْمِ أَيْ: خَارِجٍ مِنْ بَيْنِهِمْ وَاقِفٍ فِي نَاحِيَةٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ) : وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِمَا، أَيْ: فَلَمَّا انْفَتَلَ فَاجَأَهُ رُؤْيَةُ رَجُلٍ مُعْتَزِلٍ غَيْرِ مُصَلٍّ (فَقَالَ) : صلى الله عليه وسلم: ( «مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ» ؟) : أَيْ: مِنْ صَلَاتِكَ مَعَهُمْ (قَالَ: «أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، وَلَا مَاءَ» ) : أَيْ: مَوْجُودٌ هُنَا ( «قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ» ") : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ وَالْزَمْ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوِ الْمَعْنَى: يَلْزَمُ عَلَيْكَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ، وَهُوَ التُّرَابُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَوَجْهُ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، سَوَاءٌ كَانَ تُرَابًا أَمْ لَا ; لِأَنَّ الصَّعِيدَ مَا صَعِدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مَا يَصِيرُ رَمَادًا أَوْ مُذَابًا (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الصَّعِيدُ (يَكْفِيكَ) : أَيْ: لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَيُغْنِيكَ وَيُجْزِئُكَ عَنِ الْمَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 481

528 -

وَعَنْ عَمَّارٍ رضي الله عنه، قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ؟ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ» .

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ، وَفِيهِ: قَالَ: " «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ» ".

ــ

528 -

(وَعَنْ عَمَّارٍ: أَيْ: ابْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ سَائِلًا: (إِنِّي أَجْنَبْتُ) : أَيْ: صِرْتُ جُنُبًا أَوْ دَخَلْتُ فِي الْجَنَابَةِ (فَلَمْ أَصِبُ الْمَاءَ) : مِنَ الْإِصَابَةِ أَيْ: لَمْ أَجِدْهُ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ عُمَرُ فِي جَوَابِهِ: لَا تُصَلِّ حَتَّى تَجِدَ الْمَاءَ، وَيُمْكِنُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ نَاسِيًا لِلْقَضِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ (فَقَالَ عَمَّارٌ لِعُمَرَ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فِي سَرِيَّةٍ. أَيْ: طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ (أَنَا وَأَنْتَ؟) تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِضَمِيرِ كُنَّا، فَالْمَعْنَى فَأَجْنَبْنَا كُلُّنَا (فَأَمَّا أَنْتَ) : تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ (فَلَمْ تُصَلِّ) : لِأَنَّهُ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْوُصُولَ إِلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ الْحُكْمَ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ سُؤَالُ الْحُكْمِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إِذْ ذَاكَ (وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ) : أَيْ: تَمَرَّغْتُ وَتَقَلَّبْتُ فِي التُّرَابِ ظَنًّا بِأَنَّ إِيصَالَ التُّرَابِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَاجِبٌ فِي الْجَنَابَةِ كَالْمَاءِ (فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) : أَيْ: فِعْلِي أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ امْتِنَاعِ عُمَرَ عَنِ الصَّلَاةِ وَتَمَعُّكِي فِي التُّرَابِ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ هَكَذَا "، مُجْمَلٌ تَفْسِيرُهُ (فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ) : هَذَا تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِعْلَامِ الْقَوْلِيِّ (وَنَفَخَ فِيهِمَا) : لِيَقِلَّ التُّرَابُ الَّذِي حَصَلَ فِي كَفَّيْهِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّطْهِيرُ لَا التَّغْيِيرُ الْمُوجِبُ لِلتَّنْفِيرِ (ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ) : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ تَبَعًا لِجَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِضَرْبَتَيْنِ أَوْ وَضْعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ وَالْأُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ; بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَارِّ فِي آخِرِ بَابِ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ بِالْكَفَّيْنِ الذِّرَاعَانِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ اهـ.

وَالذِّرَاعُ بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ وَهُوَ السَّاعِدُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ جَاءَ حَقِيقَةً فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَجَازِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْكَفُّ الْيَدُ أَوِ الْكُوعُ، وَمَعَ هَذَا لَابُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَضَرَبَ - لِيَتِمَّ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِلْمَذْهَبِ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ:«التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ» ، وَأَخَذُوا بِهِ، وَإِنْ أُعِلَّ بِالْوَقْفِ وَالضَّعْفِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُعَضِّدُهُ إِذْ هُوَ بَدَلٌ، فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُحَاكِيَ الْمُبْدَلَ، وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ. وَأُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ الْمَتْنِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ صُورَةُ الضَّرْبِ لِلتَّعْلِيمِ لَا بَيَانُ جَمِيعِ مَا

ص: 481

يَحْصُلُ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي التَّيَمُّمِ بِمَسْحِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الِاقْتِصَارُ عَلَى الْكَفَّيْنِ أَصَحُّ رِوَايَةً، وَوُجُوبُ مَسْحِ الذِّرَاعَيْنِ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ، وَأَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ اهـ.

أَيْ: لِأَنَّهُ بَدَلٌ، فَأُعْطِيَ حُكْمَ مُبْدَلِهِ، وَبِهِ يَعْتَضِدُ الْخَبَرُ الْمَوْقُوفُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ ظَاهَرُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي الْأَصْلِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ ; لِأَنَّهُ أَصْلُهُ، وَيُؤَيِّدُنَا مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ:" «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا "، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ وَجْهَهُ» اهـ. فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ التَّرْتِيبِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعِيدٌ جِدًّا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) : أَيْ: مَعْنَاهُ (وَفِيهِ) : أَيْ: فِي مُسْلِمٍ، أَوْ فِي نَحْوِهِ (قَالَ) : صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ، ثُمَّ تَنْفُخُ، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ» ) : وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ فِي التَّعْلِيمِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ; تَأْكِيدًا لِلْإِعْلَامِ؛ وَتَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ.

ص: 482

529 -

وَعَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ رضي الله عنه، قَالَ:«مَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ، فَحَتَّهُ بِعَصًى كَانَتْ مَعَهُ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ» . وَلَمْ أَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي: الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَا فِي " كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ "، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ــ

529 -

(وَعَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ) : فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهِ: بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: بِتَخْفِيفِهَا (قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : الْمُرُورُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَعَلَى، (وَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ (يَبُولُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ هُوَ الْمُصَحَّحُ (عَلَيَّ) : السَّلَامَ (حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ) : لَعَلَّهُ كَانَ جِدَارَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ رِضَاهُ أَوْ كَانَ جِدَارَهُ (فَحَتَّهُ) : بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: حَكَّهُ وَخَدَشَهُ (بِعَصًى كَانَتْ مَعَهُ) : حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ التُّرَابُ، قَصْدًا إِلَى الْأَفْضَلِ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ، أَوِ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجِدَارِ، فَلَا يَكُونُ نَصًّا عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَقْ بِالْيَدِ غُبَارٌ (ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ) : أَيْ مَرَّتَيْنِ (عَلَى الْجِدَارِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: " يَدَهُ " عَلَى الْإِفْرَادِ ; لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ (فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ) : مَعَ مِرْفَقَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الضَّرْبَةَ الْوَاحِدَةَ كَافِيَةٌ، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ (ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ) : أَيِ: السَّلَامَ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الطَّهَارَةِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَفِي تَأْخِيرِهِ عليه الصلاة والسلام رَدَّ الْجَوَابِ تَعْلِيمٌ بِأَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَذَا قِيلَ، وَأَقُولُ: هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ عليه الصلاة والسلام، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَلَمْ أَجِدْ) : أَيْ: نَقَلْتُ هَذَا الْحَدِيثَ هُنَا تَبَعًا لِلْمُصَنِّفِ، وَلَمْ أَجِدْ (هَذِهِ الرِّوَايَةَ) : أَيْ: هَذَا اللَّفْظَ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) : وَرِوَايَتُهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، (وَلَا فِي: كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : فَالِاعْتِرَاضُ وَارِدٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصِّحَاحِ الْمَوْضُوعِ فِي اصْطِلَاحِهِ لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.

(وَلَكِنْ ذَكَرَهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ، وَفِي نُسْخَةٍ ذَكَرَهَا، أَيْ: هَذِهِ الرِّوَايَةَ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : مَنْ كَتَبَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بِسَنَدِهِ (وَقَالَ فِيهِ) : أَيْ: فِي حَقِّهِ (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) : فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 482

الْفَصْلُ الثَّانِي

530 -

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ; فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ إِلَى قَوْلِهِ: " عَشْرَ سِنِينَ ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

530 -

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الصَّعِيدَ ") : أَيِ: التُّرَابَ، أَوْ وَجْهَ الْأَرْضِ (الطَّيِّبَ) : الطَّاهِرَ الْمُطَهَّرَ (وَضُوءُ الْمُسْلِمِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ ; لِأَنَّ التُّرَابَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الْوَاوِ أَيْ: اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ كَوُضُوءِ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يُفِيدُ أَنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ لَا مُبِيحٌ لَهُ، كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِوَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ) : إِنْ لِلْوَصْلِ (عَشْرَ سِنِينَ) بِسُكُونِ الشِّينِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ لَا الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلتَّيَمُّمِ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ، مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ يُعَضِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَإِنَّ ضَعُفَ سَنَدُهُ -: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلَّى بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ إِلَّا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يُجَدِّدُ لِلثَّانِيَةِ تَيَمُّمًا، وَمَا قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابَةِ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى الصَّحِيحِ، مَحَلُّهُ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَعَ رَفْعِهِ يَدُلُّ عَلَى السُّنِّيَّةِ لَا عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ أَوْجَبَ طَهَارَتَيْنِ. وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِفْصَاحِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى مَنْ جَوَّزَ فَرَضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي وَالرُّوَيَانِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ قَبْلَ الْوَقْتِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِيَةِ وَقَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ - وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ - مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ التَّيَمُّمَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْوُضُوءِ (فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ) : أَيْ: كَافِيًا لِغُسْلِهِ أَوْ وُضُوئِهِ، وَفَاضِلًا عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى شُرْبِهِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ (فَلْيُمِسَّهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْإِمْسَاسِ (بَشَرَتَهُ) : أَيْ: فَلْيُوصِلِ الْمَاءَ إِلَى بَشَرَتِهِ وَجِلْدِهِ، يَعْنِي: فَلْيَتَوَضَّأْ أَوْ يَغْتَسِلْ (فَإِنَّ ذَلِكَ) : أَيِ: الْإِمْسَاسَ (خَيْرٌ) : مِنَ الْخَيُورِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كِلَيْهِمَا جَائِزٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ خَيْرٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] " مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ وَلَا أَحْسَنِيَّةَ لِمُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ ; لِمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: " التُّرَابُ كَافِيكَ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حُجَجٍ، وَإِنْ وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَكَ» " وَهَذَا أَمْرٌ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ - أَيْ: وُجُودَ الْمَاءِ - خَيْرٌ مِنْ فَقْدِهِ، فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنْحَةٌ جَسِيمَةٌ ; لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً بِهِمَا، وَفِيهِمَا خَيْرٌ كَثِيرٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى.

(وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْ: مَعْنَاهُ (إِلَى قَوْلِهِ: عَشْرَ سِنِينَ ") .

ص: 483

531 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مَنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، فَاحْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ، قَالَ: " قَتَلُوهُ، قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْا لَمْ يَعْلَمُوا ; فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

531 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ) : أَيْ: أَوْقَعَ الشَّجَّ فِيهِ نَحْوَ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ مِيرَكُ: فِيهِ تَأَمَّلٌ، وَوَجْهُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ " فِي " فِي سَفَرٍ " لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، بَلْ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ: خَرَجْنَا لِإِرَادَةِ سَفَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ: خَرَجْنَا مُسَافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّأْسَ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّ الشَّجَّ هُوَ كَسْرُ الرَّأْسِ، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى: فَجَرَحَهُ فِي رَأْسِهِ (فَاحْتَلَمَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ احْتَلَمَ أَيْ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ، وَخَافَ لَوِ اغْتَسَلَ أَنْ يُصِيبَ

ص: 483

الْمَاءُ الْجِرَاحَةَ فَيَضُرُّهَا» (فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ) : أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى زَعْمِهِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ (هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً) : وَهُوَ ضِدُّ الْعَزِيمَةِ (فِي التَّيَمُّمِ؟) : أَيْ: فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ وُجُودُ الْمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتِ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ، حَمَلُوا الْوِجْدَانَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوِجْدَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي حُكْمِ الْفُقْدَانِ (فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (بِذَلِكَ. قَالَ: " قَتَلُوهُ ") : أَسْنَدَ الْقَتْلَ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لَهُ بِتَكْلِيفِهِمْ لَهُ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِ الْجُرْحِ فِي رَأْسِهِ ; لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ (قَتَلَهُمُ اللَّهُ) : أَيْ: لَعَنَهُمْ، إِنَّمَا قَالَهُ زَجْرًا وَتَهْدِيدًا، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَوَدَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُفْتِي، وَإِنْ أَفْتَى بِغَيْرِ الْحَقِّ.

(أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا) : أَلَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ دَخَلَ عَلَى الْمَاضِي، فَأَفَادَ التَّنَدُّمَ، وَإِذَا ظَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ إِذْ وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنَ النُّسْخَتَيْنِ، وَالْفَاءُ الْآتِيَةِ لِلتَّسَبُّبِ، وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَسْأَلُوا، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مَا لَا يَعْلَمُونَ.

(فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ عَدَمُ الضَّبْطِ، وَالتَّحَيُّرِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ (السُّؤَالُ) : فَإِنَّهُ لَا شِفَاءَ لِدَاءِ الْجَهْلِ إِلَّا التَّعَلُّمُ، عَابَهُمْ عليه الصلاة والسلام بِالْإِفْتَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَلْحَقَ بِهِمُ الْوَعِيدَ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُقَصِّرِينَ فِي التَّأَمُّلِ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ) أَيِ: الرَّجُلَ الْمُحْتَلِمَ (أَنْ يَتَيَمَّمَ) : أَوَّلًا (وَيَعْصِبَ) : أَيْ: يَشُدَّ (عَلَى جُرْحِهِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ (خِرْقَةً) : حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ (ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى الْخِرْقَةِ بِالْمَاءِ (وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَغَسْلِ سَائِرِ الْبَدَنِ بِالْمَاءِ، دُونَ الِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِهِمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

وَالْجَوَابُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -: أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ خَافَ التَّلَفَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ خَافَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَرَضِ أَوْ تَأْخِيرَ الْبُرْءِ جَازَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ بِلَا إِعَادَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ كَانَ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ قَرْحٌ أَوْ كَسْرٌ أَوْ جُرْحٌ، وَأَلْصَقَ عَلَيْهِ جَبِيرَةً، وَخَافَ مِنْ تَرْكِهَا التَّلَفَ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَيَضُمُّ إِلَى الْمَسْحِ التَّيَمُّمَ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ وَضَعَ الْجَبِيرَةَ عَلَى طُهْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِذَا كَانَ بَعْضُ جَسَدِهِ جَرِيحًا أَوْ قَرِيحًا وَبَعْضُهُ صَحِيحًا ; إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا غَسَلَهُ، وَمَسَحَ عَلَى الْجُرْحِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ جَرِيحًا تَيَمَّمَ، وَيَسْقُطُ الْغُسْلُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يَغْسِلُ الصَّحِيحَ، وَيَتَيَمَّمُ لِلْجُرْحِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: لَا يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ. يَعْنِي: بَابَ الْمَسْحِ عَلَى الْعَصَائِبِ وَالْجَبَائِرِ، وَلَكِنْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِعْلُهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

ص: 484

532 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ". عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

ــ

532 -

(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَقِيبَ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ، فَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ بِتَخْرِيجِ ابْنِ مَاجَهْ، وَكَأَنَّهُ ذَهَلَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ الْهَادِي.

ص: 484

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ اتِّفَاقًا، كَخَبَرِ:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ عَلِيًّا بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ» اهـ. وَقَوْلُ غَيْرِهِ: إِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْجُمْهُورِ، مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ، وَدَعْوَى ابْنِ حَجَرٍ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا أُخْرَى صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ; لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى بَيَانِهَا، وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِاحْتِمَالِهَا. وَقَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّ سَكَتَ أَبُو دَاوُدَ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ سُكُوتَهُ لَا يُقَاوِمُ تَصْرِيحَ غَيْرِهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَمِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ نَظَرُوا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَبِيرَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُصَرِّحٌ بِهَا. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ ابْنُ قَمِئَةَ قَالَ: رَأَيْتُهُ إِذَا تَوَضَّأَ حَلَّ عَنْ عِصَابَتِهِ، وَمَسَحَ عَلَيْهَا بِالْوَضُوءِ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: انْكَسَرَتْ إِحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ» وَقِيلَ: وَالْأَصَحُّ وَقْفُهُ، لَكِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ الْإِبْدَالَ لَا يُنْصَبُ بِالرَّأْيِ.

ص: 485

533 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بِوُضُوءٍ، وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ. ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَا ذَلِكَ. فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: " لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ.

ــ

533 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) : أَيْ: جَاءَ وَقْتُهَا. (وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا) : أَيْ: قَصَدَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَوْ فَتَيَمَّمَا بِالصَّعِيدِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ (فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ) : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهَا، وَهِيَ صَحِيحَةٌ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ الصَّلَاةِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى بُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ (فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بِوُضُوءٍ) إِمَّا ظَنًّا بِأَنَّ الْأُولَى بَاطِلَةٌ، وَإِمَّا احْتِيَاطًا (وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ صَحِيحَةٌ (ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ) : أَيْ: مَا وَقَعَ لَهُمَا ( «فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: " أَصَبْتَ السُّنَّةَ» ") أَيْ؟ صَادَفْتَ الشَّرِيعَةَ الثَّابِتَةَ بِالسُّنَّةِ (وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا سَبَقَ (وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ) : أَيْ: لِلصَّلَاةِ (وَأَعَادَ) : أَيِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ: ( «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» ) : أَيْ: لَكَ أَجْرُ الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَحِيحَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَثُوبَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَحْوَطِ أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) : يَعْنِي مُتَّصِلًا (وَرَوَى النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) : أَيْضًا.

ص: 485

534 -

وَقَدْ رَوَى هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا.

ــ

534 -

(وَقَدْ رَوَى هُوَ) : أَيِ: النَّسَائِيُّ (وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا) : اعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مُتَّصِلًا، ثُمَّ قَالَ غَيْرُ ابْنِ نَافِعٍ يَرْوِيهِ: عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُمَيْرَةَ بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي سَوَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَذَكْرُ أَبِي سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ اهـ. لَكِنْ قَالَ الْحَاكِمُ: رِوَايَةُ الِاتِّصَالِ صَحِيحَةٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 485