المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب سجود القرآن] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

- ‌[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ السَّتْرِ]

- ‌[بَابُ السُّتْرَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرُّكُوعِ]

- ‌[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[بَابُ التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ السَّهْوِ]

- ‌[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

- ‌[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

الفصل: ‌[باب سجود القرآن]

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1021 -

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1021 -

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: " حُجْرَتَهُ " وَفِيهِ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيُ الْكَثِيرُ سَهْوًا وَهُوَ مُبْطِلٌ عِنْدَنَا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، (فَقَامَ إِلَيْهِ) : أَيْ: فِي أَثْنَاءِ دُخُولِ مُنْزِلِهِ (رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ وَفِي آخِرِهِ قَافٌ، لَقَبُهُ أَوِ اسْمُهُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَسْلَمَ فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَاشَ حَتَّى رَوَى عَنْهُ مُتَأَخِّرُو التَّابِعِينَ، وَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ السَّابِقُ كَمَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَغَيْرُ ذِي الشِّمَالَيْنِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ كَالزُّهْرِيِّ وَالشَّارِحِ هُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَلَائِيَّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي اسْمِ ذِي الْيَدَيْنِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ فَضْلَةَ السُّلَمِيُّ، ذَكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَالثَّانِي: خِرْبَاقٌ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، قُلْتُ: وَعُمَيْرُ بْنُ عَمْرٍو بْنِ فَضْلَةَ هُوَ ذُو الشِّمَالَيْنِ لَا ذُو الْيَدَيْنِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهِمَ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ اهـ.

وَذَهَبَ أَبُو حَاتِمِ، وَابْنُ حِبَّانَ إِلَى أَنَّ الْخِرْبَاقَ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ وَذِي الشِّمَالَيْنِ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقُرْطُبِيُّ فَقَالَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِرْبَاقُ ذَا الْيَدَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، (وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ) : أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلِذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ) : أَيْ: مِنْ تَسْلِيمِهِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ لِنِسْيَانٍ أَوْ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ؟ (فَخَرَجَ) : أَيْ: مِنْ مَنْزِلِهِ (غَضْبَانَ) : لِأَمْرٍ مَا (يَجُرُّ رِدَاءَهُ) : أَيْ: مُسْتَعْجِلًا (حَتَّى؛ انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: " أَصَدَقَ هَذَا؟ " قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 808

1022 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ، فَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1022 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ ") : أَيْ: وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ وَطَرَفٌ رَاجِحٌ (" فَلْيُصَلِّ ") : أَيْ: فَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ (" حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ ") : فَإِنَّ زِيَادَةَ الطَّاعَةِ خَيْرٌ مِنْ نُقْصَانِهَا قَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَنْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ مَثَلًا وَشَكَّ هَلْ هِيَ ثَالِثَةٌ أَوْ رَابِعَةٌ؟ فَيُصَلِّي الرَّابِعَةَ فَهُوَ فِي هَذَا شَاكٌّ أَهِيَ رَابِعَةٌ أَمْ خَامِسَةٌ؟ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 808

[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

ص: 808

(21)

بَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1023 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ (بِالنَّجْمِ) وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» ؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[21]

- بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ

أَيْ: سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ سَجْدَةٌ مُفْرَدَةٌ مَنْوِيَّةٌ مَخْفُوفَةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَتَيْنِ، مَشْرُوطٌ فِيهَا مَا شُرِطَ لِلصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ يَدٍ وَقِيَامٍ وَتَشَهُّدٍ وَتَسْلِيمٍ، وَتَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: سُنَّةٌ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا لِلْقِرَاءَةِ بَلْ حَصَلَ لَهُ سَمَاعٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا فِي الرَّوْضَةِ الِاسْتِحْبَابُ أَيْضًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ، فَقِيلَ: عَلَيْهِمَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقِيلَ: لَا سَجْدَةَ لَهُمَا اهـ، وَعِنْدَنَا تَتَدَاخَلُ السَّجَدَاتُ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ سَجَدَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1023 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّجْمِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ سُورَةُ النَّجْمِ، قُلْتُ: الْمُرَادُ آيَةُ السَّجْدَةِ مِنْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، (وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ، وَالْإِنْسُ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ اللَّامَاتُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَهُ، وَهَذَا كَانَ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَبَبُ تَقْدِيمِ الْجِنِّ لِمَا فِي سُجُودِهِمْ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَسَبَبُ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا وَصَلَ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ قَرَأَ الشَّيْطَانُ مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَأَدْخَلَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ قَدْ أَثْنَى عَلَى آلِهَتِهِمْ فَفَرِحُوا، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدُوا، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، أَيْ: قَرَأَ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، أَيْ: قِرَاءَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ عليه السلام جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَحَاشَا مَقَامِهِ عَنْ ذَلِكَ، كَذَا نَقَلَهُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَالْغَرَانِيقُ: بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ، طُيُورُ الْمَاءِ شُبِّهَتِ الْأَصْنَامُ الْمُعْتَقِدُونَ فِيهَا أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ بِالطُّيُورِ، وَتَعْلُو فِي السَّمَاءِ وَتَرْتَفِعُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: وَقِيلَ: أَنَّهُ شَقَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَوَلِّي قَوْمِهِ عَنْهُ وَمُبَاعَدَتُهُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ، فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادِيَةٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، وَتَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ اللَّهُ بِمَا يُقَارِبُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَنْ لَا يَأْتِيَهُ بِمَا يَنْفِرُونَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ النَّجْمِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقَ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، فَفَرِحَتْ قُرَيْشٌ، وَمَضَى كُلٌّ عَلَى قِرَاءَتِهِ وَسَجَدَ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ، وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَفَرَّقُوا مَسْرُورِينَ بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ عليه السلام وَمَا رَأَوْهُ مِنَ السَّجْدَةِ، وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا فَأَحْسَنَ الذِّكْرَ، فَنَحْنُ نُوَافِقُهُ كَمَا وَافَقَنَا فِي مَدْحِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا انْتَهَى صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ! تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَحَزِنَ عليه السلام حُزْنًا شَدِيدًا، فَخَافَ مِنْهُ تَعَالَى خَوْفًا بَلِيغًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدِمَ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ مَدْحِ آلِهَتِنَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَازْدَادُوا شَرًّا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا سُجُودُ الْجِنِّ، فَكَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ وَمُشْرِكُونَ فَوَافَقُوا الرَّسُولَ كَمَا وَافَقَ الْإِنْسُ اهـ.

ص: 809

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى مِنْوَالِ لِسَانِهِ وَحِكَايَةِ صَوْتِهِ عليه السلام فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْإِلْقَاءِ، وَلَا قُدْرَةُ الْإِغْوَاءِ عَلَى سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَنَدِ الْأَصْفِيَاءِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ عليه السلام سَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُفْتَتَحِ السُّورَةِ مِنْ أَنَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَذَكَرَ شَأْنَ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، وَأَنَّهُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا سَمِعُوا أَسْمَاءَ طَوَاغِيتِهِمُ اللَّاتِ وَالْعُزَّى سَجَدُوا مَعَهُ، وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَمَّا مَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَاطِيلَهُمْ فَقَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الزَّنَادِقَةِ اهـ.

لَكِنَّ تَعْلِيلَهُ السَّجْدَةَ، بِمَا ذَكَرَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ سَجْدَتَهُ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: سَبَبُ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ فِي مَحَالِّهَا الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَنَّ آيَاتِهَا مَسُوقَةٌ لِمَدْحِ السَّاجِدِينَ أَوْ ذَمِّ مَنْ أَبَى السُّجُودَ أَوِ الْأَمْرَ بِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ لَا سَجْدَةُ شُكْرٍ اهـ.

فَشَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حُسْنِ التَّوَارُدِ، وَيُؤَيِّدُهُ عُنْوَانُ الْبَابِ؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ رَدَّهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الطِّيبِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ لَكِنَّ الشَّيْخَ ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَطَالَ فِي ثُبُوتِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى ذَلِكَ فِي سَكْتَةٍ مِنْ سَكَتَاتِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا عليه السلام وَسَمِعَهَا غَيْرُهُ فَأَشَاعَهَا، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ السَّامِعُونَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا وَنَبَّهَ عَلَيْهِ، قَالَ شَيْخُنَا عُمْدَةُ الْمُفَسِّرِينَ الشَّيْخُ عَطِيَّةُ نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الْعِصْمَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ اهـ.

لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: إِجْرَاءُ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ عليه السلام جَبْرًا بِحَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فَفِي حَقِّهِ بِالْأَوْلَى؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا أَوْ غَفْلَةً مَرْدُودٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، سِيَّمَا فِي حَالِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَلَوْ جَازَ لَبَطَلَ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ، ثُمَّ اخْتَارَ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَتَكَلَّمُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَادَى يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَقَالَ يَوْمَ بَدْرٍ:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 810

1024 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1024 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] » ، أَيْ: عَقِبَ: لَا يَسْجُدُونَ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أَيْ: آخِرِهَا، وَهُمَا مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.

ص: 810

1025 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ (السَّجْدَةَ) وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1025 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ السَّجْدَةَ)، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ مُتَّصِلَةً بِمَا قَبْلَهَا، أَوْ بِمَا بَعْدَهَا لَا مُنْفَرِدَةً، أَوِ التَّقْدِيرُ يَقْرَأُ سُورَةَ السَّجْدَةِ، أَيْ: سُورَةً فِيهَا آيَةُ سَجْدَةٍ، (وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، فَنَزْدَحِمُ)، أَيْ: نَجْتَمِعُ حَيْثُ ضَاقَ الْمَكَانُ عَلَيْنَا (حَتَّى مَا يَجِدُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (أَحَدُنَا) : قَالَ مِيرَكُ: أَيْ " بَعْضُنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ وَلَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ (لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ)، أَيْ: مَعَهُمْ فَيُؤَخِّرُ السَّجْدَةَ عَنْهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: «كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: رُوِيَ «عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ تَلَا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» ، وَالسُّنَّةُ فِي أَدَائِهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ التَّالِي وَيُصَفَّ السَّامِعُونَ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ هَذَا اقْتِدَاءٌ حَقِيقَةً بَلْ صُورَةً، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَسْبِقُوهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ، فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةُ الِائْتِمَامِ لَوَجَبَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهِ، فَعِنْدَنَا هُوَ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أُمِرْنَا بِالسُّجُودِ يَعْنِي لِلتِّلَاوَةِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ، فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى قَرَأَهَا فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ.

قُلْتُ: الْحَدِيثَانِ مَوْقُوفَانِ، وَمَعَ هَذَا فَإِمَّا مَحْمُولَانِ عَلَى اجْتِهَادِهِمَا، أَوْ عَلَى بَيَانِ نَفْيِ وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ، قَالَ: وَيَتَأَكَّدُ لِلْمُسْتَمِعِ أَكْثَرَ لِمَا صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ فَوْرِيَّتُهُ عَلَيْهِ لِمَا فِي تَأْخِيرِهِ مِنْ ظُهُورِ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْمُومَةِ، سِيَّمَا إِذَا سَجَدَ الْقَارِئُ، أَوْ سَجَدَ، مَعَهُ الْحَاضِرُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 811

1026 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رضي الله عنه، قَالَ:«قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَالنَّجْمِ) ، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1026 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ)، أَيْ: سُورَتَهَا إِلَى آخِرِهَا (فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا) : قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَنَّ زَيْدًا لَمْ يَسْجُدْ ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى طُهْرٍ، أَوْ مَنَعَهُ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، أَوْ سَجَدَ فِي وَقْتٍ وَتُرِكَتْ فِي آخَرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْفَرْضِ، وَأَيْضًا فَالْوُجُوبُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّمَا تَرَكَهُ ; لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ هُوَ الْإِمَامُ أَيِ: الْقَارِئُ؛ وَلَمْ يَسْجُدْ فَتَرَكَهُ تَبَعًا لَهُ أَيْ: بِنَاءً عَلَى تَوَقُّفِ سُجُودِ السَّامِعِ عَلَى الْقَارِئِ كَمَا قِيلَ بِهِ عَجِيبٌ مِنْهُ، فَإِنَّ كَوْنَ التَّرْكِ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، وَالتَّرْكُ مَعَ ثُبُوتِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي النَّسْخَ وَإِنْ عَلِمَ تَأْخِيرَهُ، وَبِهَذَا يُرَدُّ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ التِّلْمِيذَ إِذَا قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ لَمْ يَسْجُدِ الشَّيْخُ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ التِّلْمِيذُ.

قُلْتُ: هَذَا نَقْلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلِذَا قَالَ السُّبْكِيُّ: إِنْ صَحَّ مَا قَالُوهُ، فَحَدِيثُ زَيْدٍ حُجَّةٌ لَهُمْ، وَأَمَّا تَصْرِيحُ النَّوَوِيِّ: بِأَنَّهَا لَا تُسَنُّ لِلْمُفَسِّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ؛ وَهُوَ يَبْعُدُ جِدًّا، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأِ اللَّفْظَ وَيُعَبِّرْ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 811

1027 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ:«سَجْدَةُ (ص) ، لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا» .

ــ

1027 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجْدَةُ " ص ") : بِسُكُونٍ أَوْ فَتْحٍ أَوْ كَسْرٍ بِتَنْوِينٍ وَبِدُونِهِ، وَقَدْ تُكْتَبُ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ بِاعْتِبَارِ اسْمِهَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ (لَيْسَ) : تَذْكِيرُهُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى السُّجُودِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَيْسَ فِعْلُهَا (مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ) : الْعَزِيمَةُ: عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْأَصَالَةِ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْفَرِيضَةِ أَكْثَرُ مِنَ السُّنَّةِ، فَمَعْنَاهُ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ، فَمَعْنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ لَيْسَتْ مِنْ سَجَدَاتِ التِّلَاوَةِ، بَلْ سَجْدَةُ شُكْرٍ، (وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا) : أَيْ: فِي سَجْدَةِ (ص) فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.

ص: 812

1028 -

وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَأَسْجُدُ فِي (ص) ؟ فَقَرَأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] حَتَّى أَتَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1028 -

(وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَأَسْجُدُ فِي (ص) فَقَرَأَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) : أَيْ: ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَيْ: ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ لُوطًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ إِجْمَاعًا، دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حَتَّى أَتَى) : أَيْ: وَصَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى، أَوْ حَتَّى أَتَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، (فَقَالَ) : أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْآيَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِتْيَانِ السَّجْدَةِ (نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ (بِهِمْ) : أَيْ: بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لِتَجْتَمِعَ فِيهِ مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهِمْ مُتَفَرِّقَةً، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدُ، وَهُوَ قَدْ سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَنْتَ أَوْلَى بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، أَوْ بِهِ عليه السلام فَإِنَّهُ اقْتَدَى بِدَاوُدَ وَسَجَدَ فِيهَا، وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ أَيْضًا يَشْمَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلِلنَّسَائِيِّ مَعْنَاهُ.

ص: 812

الْفَصْلُ الثَّانِي

1029 -

عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رضي الله عنه، قَالَ:«أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ (الْحَجِّ) ، سَجْدَتَيْنِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1029 -

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَقْرَأَ) : أَيْ: عَمْرًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَقْرَأَنِي، أَيْ: أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ (خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ حَمَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي قِرَاءَتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً (فِي الْقُرْآنِ) : فِي النِّهَايَةِ: إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ، أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ، أَيْ: حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ، (مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ) : وَهِيَ: (النَّجْمُ) ، (وَانْشَقَّتْ) ، وَ (اقْرَأْ) ، وَقَدْ عَلِمَ مَحَالَّهَا، (وَفِي سُورَةِ (الْحَجِّ) : أَيْ: وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ (سَجْدَتَيْنِ) : أَيْ: عَقِبَ مَا يَشَاءُ، وَ (تُفْلِحُونَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ سَجْدَةَ (ص) ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْحَجِّ، قُلْتُ:

ص: 812

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ الْمُفَصَّلَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ، بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ:«وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً» وَإِسْنَادَهُ وَاهٍ اهـ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ اهـ.

وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنَيْنٍ، بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَبِنُونَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَابْنُ مُنَيْنٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَالٌ اهـ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ نَقْلًا عَنِ السَّبِيعِيِّ التَّابِعِيِّ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ سَبْعِينَ سَنَةً يَسْجُدُونَهَا، فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ فِي الْأَعْرَافِ عَقِبَ آخِرِهَا، وَالرَّعْدِ عُقَيْبِ (الْآصَالِ) ، وَالنَّحْلِ عَقِبَ (يُؤْمَرُونَ)، وَقِيلَ:(يَسْتَكْبِرُونَ) ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ، وَ (سُبْحَانَ) عَقِبَ (خُشُوعًا) وَ (مَرْيَمَ) عَقِبَ (وَبُكِيًّا) ، (وَالْفُرْقَانِ) عَقِبَ (نُفُورًا) ، وَ (النَّمْلِ) عَقِبَ (الْعَظِيمِ)، وَقِيلَ:(يُعْلِنُونَ) وَرُدَّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ لَا تَوْقِيفَ يُعْلَمُ هُنَا، وَ (الم السَّجْدَةَ) عَقِبَ (يَسْتَكْبِرُونَ) وَفُصِّلَتْ عَقِبَ (يَسْأَمُونَ)، وَقِيلَ:(يَعْبُدُونَ) ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ سَجَدَاتِ الْقُرْآنِ فَقَالَ أَحْمَدُ: خَمْسَ عَشْرَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عَمْرٍو هَذَا فَأَدْخَلَ سَجْدَةَ (ص) فِيهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، مِنْهَا ثِنْتَانِ فِي الْحَجِّ، وَثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَلَيْسَتْ سَجْدَةَ (ص) مِنْهُنَّ، بَلْ هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام:" «سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» "، أَيْ: عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ تَعَالَى دَاوُدَ، وَهِيَ قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَأَسْقَطَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَثْبَتَ سَجْدَةَ (ص)، وَقَالَ مَالِكٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، فَأَسْقَطَ سَجْدَةَ (ص) وَسَجَدَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، «لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَا يَسْجُدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي آخِرِ سُورَةٍ، فَالرُّكُوعُ يَكْفِي عَنِ السَّجْدَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ اهـ.

وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَفْصِيلُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: كُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَرَكَعَ وَنَوَاهَا فِيهِ، أَوْ لَمْ يَنْوِ فَسَجَدَ لِلصَّلَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ بَعْدَهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفِيمَا إِذَا قَرَأَ ثَلَاثًا خِلَافٌ، فَإِنْ قَرَأَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَلَا بُدَّ مِنَ السُّجُودِ لَهَا قَصْدًا، وَلَا يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ وَلَا بِسُجُودِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَقْضِي خَارِجَهَا.

ص: 813

1030 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رضي الله عنه، قَالَ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ (الْحَجِّ) بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": " فَلَا يَقْرَأْهَا "، كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

1030 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ) : بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا قُصِدَ بِهِ طَلَبُ التَّقْرِيرِ مِنْهُ عليه السلام وَلَا يَخْفَى بَعْدَهُ (سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟) : وَفِي غَيْرِهَا سَجْدَةٌ؟ (قَالَ: " نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا ")، أَيِ: السَّجْدَتَيْنِ (" فَلَا يَقْرَأْهُمَا ")، أَيْ: آيَتَيِ السَّجْدَةِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ السَّجْدَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ وُجُوبَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَلَمْ يَقْرَأْهُمَا، أَيْ: فَكَأَنَّهُ مَا قَرَأَهُمَا حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِمَا، وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَلَا يَقْرَأْهَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى السُّورَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ السُّورَةُ كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأْهَا بِكَمَالِهَا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا وَجَدْنَاهَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ فَلَا يَقْرَأْهُمَا بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى السَّجْدَتَيْنِ، وَكَذَا وَجَدْنَا فِي كِتَابَيْ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ النَّهْيِ أَنَّ السَّجْدَةَ شُرِعَتْ فِي حَقِّ التَّالِي بِتِلَاوَتِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا مِنْ حَقِّ التِّلَاوَةِ، فَإِذَا كَانَ بِصَدَدِ التَّضْيِيعِ، فَالْأَوْلَى بِهِ تَرْكُهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا وَاجِبَةٌ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا، أَوْ سُنَّةٌ فَيَتَضَرَّرُ بِالتَّهَاوُنِ بِهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَنَا؟ لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالْأَمْرِ بِالرُّكُوعِ، وَالْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْقُرْآنِ كَوْنُهُ مِنْ أَوَامِرِ مَا هُوَ رُكْنُ الصَّلَاةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ نَحْوَ:{وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ:)، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) : قَالَ مِيرَكُ: يُرِيدُ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ لَهِيعَةَ، وَمِشْرَحَ بْنَ هَاعَانَ وَفِيهِمَا كَلَامٌ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَأَنَّهُ لِأَجْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، وَقَالَ: أَيْ أَبُو دَاوُدَ: وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا وَلَا يَصِحُّ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا نُقِمَ أَيْ: كُرِهَ اخْتِلَاطُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَجْهُ ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سُجُودِ الْحَجِّ: الْأُولَى عَزْمَةٌ، وَالْأُخْرَى تَعْلِيمٌ، فَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا نَأْخُذُ.

(وَفِي الْمَصَابِيحِ: " فَلَا يَقْرَأْهَا ")، أَيِ: السُّورَةَ، أَوْ آيَةَ السَّجْدَةِ، (كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: كَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَلَا يَقْرَأْهَا بِغَيْرِ مِيمٍ وَهُوَ غَلَطٌ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي أُصُولِ رِوَايَاتِنَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ.

ص: 814

-

ص: 815

1031 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ قَرَأَ (تَنْزِيلَ السَّجْدَةَ) » ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1031 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ)، أَيْ: سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ (ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَمَّا قَامَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ رَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بَعْدَ السَّجْدَةِ شَيْئًا مِنْ بَاقِي السُّورَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ جَائِزَةً، قُلْتُ: بَلِ الْقِرَاءَةُ بَعْدَهَا أَفْضَلُ، وَلَعَلَّهَا كَانَتِ الصَّلَاةُ تَطُولُ أَوْ تَرَكَهَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، مَعَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي عَدَمِ قِرَاءَتِهِ عليه السلام آخِرَ السُّورَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالرُّكُوعِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا اخْتِيَارًا لِلْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: ثُمَّ النَّصُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ السُّجُودَ بِهَا أَفْضَلُ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي الْبَدَائِعِ، وَوَجْهَهُ أَنَّهُ إِذَا سَجَدَ ثُمَّ قَامَ وَرَكَعَ حَصَلَ قُرْبَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَكَعَ، وَلِأَنَّهُ بِالسُّجُودِ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ فَمَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَفْضَلُ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ تَأَدِّيَهَا فِي ضِمْنِ الرُّكُوعِ هُوَ الْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ عَدَمُهُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَكَانَا فِي حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ إِمَّا اقْتِدَاءٌ بِمَنْ عَظُمَ، وَإِمَّا مُخَالَفَةٌ لِمَنِ اسْتَكْبَرَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَوَازُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُهُ، (فَرَأَوْا)، أَيْ: عَلِمُوا (أَنَّهُ قَرَأَ تَنْزِيلَ السَّجْدَةَ) : بِنَصْبِ (تَنْزِيلَ) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَبِرَفْعِهِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَ (السَّجْدَةَ) مَجْرُورَةٌ، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا بِتَقْدِيرِ (أَعْنِي) وَرَفْعُهَا بِتَقْدِيرِ (هُوَ)، وَالْمَعْنَى: سَمِعُوا بَعْضَ قِرَاءَتِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِبَعْضِ مَا يَقْرَأُ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ السِّرِّيَّةِ، لِيَعْلَمُوا سُنِّيَّةَ قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّورَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّامِعِينَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ يَلُونَهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَزَادَ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الظُّهْرِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْتُرِضَ بِمَا لَا يُجْدِي، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَرَضَ الْقُرْطُبِيُّ، مِنْ أَكَابِرِ الْمَالِكِيَّةِ، بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْعَ مَالِكٍ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي نَدْبِهِ، فَضْلًا عَمَّا صَرَّحَ بِهِ مِنْ جَوَازِهِ إِذْ لَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَحْمِلَهُ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ.

ص: 815

1032 -

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1032 -

(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا لِلسُّجُودِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلسُّجُودِ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَتَيْنِ مَنْدُوبَتَانِ لَا وَاجَبَتَانِ، فَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ أَيِ: الرَّفْعُ، لِلْتَحْرِيمَةِ، وَلَا تُحَرَّمُ وَإِنِ اشْتُرِطَ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُكَبَّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ، وَعَنْهُ يُكَبَّرُ عِنْدَهُ لَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ: يُكَبَّرُ فِي الِابْتِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي الِانْتِهَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَعَمْ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ أَيْ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِلِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّ الْخُرُورَ الَّذِي مُدِحَ بِهِ أُولَئِكَ فِيهِ أَكْمَلُ اهـ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيُّ، وَفِيهِ كَلَامٌ، لَكِنْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

ص: 815

-

ص: 816

1033 -

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1033 -

(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ)، أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ (سَجْدَةً)، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ بِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، أَوْ مُفْرَدَةٌ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ; لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِهَا خِلَافُ الِاسْتِحْبَابِ عِنْدَنَا لِإِيهَامِ تَفْضِيلِ آيِ السَّجْدَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْكُلُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فِي رُتْبَةٍ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا بِسَبَبِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ذِكْرِ صِفَاتِ الْحَقِّ جل جلاله زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ، وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إِيجَابِ السَّجْدَةِ، إِذِ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ، فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إِلَى التِّلَاوَةِ لَا إِلَى إِيجَابِ السُّجُودِ (فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ عَلَى الْأَرْضِ) : مُتَعَلِّقٌ بِالسَّاجِدِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ لَا يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ جَعَلَ غَيْرَ السَّاجِدِ عَلَيْهَا قَسِيمًا لَهُ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ لِلسُّجُودِ بِالْأَرْضِ (حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ) : بِكَسْرِ إِنَّ وَتُفْتَحُ (لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ)، أَيِ: الْمَوْضُوعَةِ عَلَى السَّرْجِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَجِدَ الْحَجْمَ حَالَةَ السَّجْدَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ يَصِحُّ إِذَا انْحَنَى عُنُقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ اهـ.

وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: لَوْ سَجَدَ بِسَبَبِ الزِّحَامِ عَلَى فَخِذِهِ جَازَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بِهِ عُذْرٌ مَنَعَهُ عَنِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ الْفَخِذِ فِي الْمُخْتَارِ، وَلَا يَجُوزُ بِلَا عُذْرٍ عَلَى الْمُخْتَارِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ وَضَعَ كَفَّهُ بِالْأَرْضِ وَسَجَدَ عَلَيْهَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: إِذَا تَلَا رَاكِبًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ.

ص: 816

1034 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رِضَى اللَّهُ عَنْهُمَا، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1034 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُجَّةٌ لِمَا صَحَّ «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَفِي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْوُونَهَا فِيهِ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَرْوِي فِي الصِّحَاحِ «أَنَّهُ عليه السلام سَجَدَ بِالنَّجْمِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصِّحَاحِ أَقْوَى مِنَ الْمَرْوِيِّ فِي الْحِسَانِ.

قُلْتُ: عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَإِلَّا فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ بِهِ الِاحْتِجَاجُ، لَكِنْ وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَحْمِلَ سُجُودَهُ فِي النَّجْمِ عَلَى مَا قَبْلَ تَحَوُّلِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَالْمُعْتَمَدُ قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ أَبُو قُدَامَةَ الْبَصْرِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لَا جَرَمَ! .

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، قُلْتُ: مَعَ كَوْنِهِ ضَعِيفًا مُنَافٍ لِلْمُثَبَتِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الِانْشِقَاقِ، وَ (اقْرَأْ) ، وَهُمَا مِنَ الْمُفَصَّلِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.

ص: 816

1035 -

وَعَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ» "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ــ

1035 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ) : حِكَايَةً لِلْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ بِهِ (" سَجَدَ وَجْهِي ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا، وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ (" لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ") : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أَيْ: فَتَحَهُمَا وَأَعْطَاهُمَا الْإِدْرَاكَ، وَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِمْدَادَ بَعْدَ الْإِيجَادِ (" بِحَوْلِهِ ") : أَيْ: بِصَرْفِهِ الْآفَاتِ عَنْهُمَا (" وَقُوَّتِهِ ") : أَيْ: وَقُدْرَتِهُ بِالثَّبَاتِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِمَا، قَالَ ابْنُ الْهَمَّامِ: وَيَقُولُ فِي السَّجْدَةِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ:{سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَقَالَ: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108] وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا صُحِّحَ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنْ كَانَتِ السَّجْدَةُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقُولُ فِيهَا مَا يُقَالُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَرِيضَةً قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، أَوْ نَفْلًا قَالَ: مَا شَاءَ مِمَّا وَرَدَ، كَسَجَدَ وَجْهِي، وَقَوْلِ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي إِلَخْ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ قَالَ كُلَّ مَا أُثِرَ مِنْ ذَلِكَ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: بَعْدَ " خَلَقَهُ " وَ " صَوَّرَهُ "، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ بَعْدَ: " وَقُوَّتِهِ " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ") .

ص: 817

1036 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ» ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

1036 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ، (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ) : أَيْ: أَبْصَرْتُ ذَاتِي الْبَارِحَةَ (وَأَنَا نَائِمٌ) : حَالٌ فَاعِلٌ أَوْ مَفْعُولٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَأَى هُنَا قَلْبِيَّةٌ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّحَدَ فَاعِلُهَا وَمَفْعُولُهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُنَاسِبُ الرُّؤْيَا، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:(كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السَّجْدَةُ صَلَاتِيَّةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، وَأَنَّ الْآيَةَ آيَةُ (ص) ، (فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا) : أَيِ: الشَّجَرَةَ (تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي) : أَيِ: أَثْبِتْ لِأَجْلِي (بِهَا) : أَيْ: بِسَبَبِ هَذِهِ السَّجْدَةِ أَوْ بِمُقَابَلَتِهَا، وَالضَّمِيرُ لِلسَّجْدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ سَجَدْتُ (عِنْدَكَ) : ظَرْفٌ لِـ " اكْتُبْ " أَيْ: حَيْثُ لَا يَتَبَدَّلُ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِكَ (أَجْرًا) : أَيْ: عَظِيمًا (وَضَعْ) : أَيْ: حُطَّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَنِّي بِهَا وِزْرًا)، أَيْ: ذَنْبًا ثَقِيلًا جَسِيمًا (وَاجْعَلْهَا لِي) : أَيْ: بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا (عِنْدَكَ ذُخْرًا) : أَيْ: كَنْزًا ضَخِيمًا، قِيلَ: ذُخْرًا بِمَعْنَى: أَجْرًا، وَكُرِّرَ لِأَنَّ مَقَامَ الدُّعَاءِ يُنَاسِبُ الْإِطْنَابَ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ طَلَبُ كِتَابَةِ الْأَجْرِ، وَهَذَا طَلَبُ بَقَائِهِ سَالِمًا مِنْ مُحْبِطٍ أَوْ مُبْطِلٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، (وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ) : عَبْدًا كَرِيمًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَجْدَةَ (ص) لِلتِّلَاوَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هُوَ مُسَلَّمٌ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ مَدْفُوعٍ بِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ كَوْنِهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ وَسَجْدَةَ شُكْرٍ؛ لِمَا قَرَّرْنَا فِيمَا سَبَقَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ كَوْنُ الْقَائِلِ مَلَكًا، وَيَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا نُطْقًا، كَمَا فِي شَجَرَةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام قُلْتُ: حَالَةُ الرُّؤْيَا خَيَالِيَّةٌ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَتْ مُحَقَّقَةً لِتَحْتَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ.

ص: 817

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَةً)، أَيْ: آيَةَ سَجْدَةٍ مَعَ مَا قَبْلَهَا أَوْ مَا بَعْدَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا آيَةُ (ص) ، أَوْ سُورَةُ سَجْدَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَهَا لِيُبَيِّنَ مَشْرُوعِيَّةَ مَا سَمِعَهُ أَبُو سَعِيدٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَنْ يَكُونَ وَقَعَتْ قِرَاءَتُهُ اتِّفَاقًا، فَبَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ فِيهَا، قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الثَّانِي بَعِيدٌ، وَيُعَارِضُ الْأَوَّلَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ لَا يُنْدَبُ وَلَا يُكْرَهُ قِرَاءَةُ آيَةِ سَجْدَةٍ لِيَسْجُدَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، (ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: (مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مَسْنُونٌ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ لِقِرَاءَتِهِ عليه السلام.

قُلْتُ: لَا سِيَّمَا فِي سَجْدَةِ (ص) ، وَلَعَلَّهُ عليه السلام أَوَّلَ الشَّجَرَةَ بِذَاتِهِ الْأَقْدَسِ، وَالصَّحَابِيُّ مُقْتَدٍ بِهِ، وَأَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ نَقْلُ الصَّحَابِيِّ رُؤْيَاهُ إِلَيْهِ سَبَبًا لِسُجُودِهِ عليه السلام رَأَى أَنَّهُ سَجَدَ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ، هَذَا مِمَّا خَطَرَ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ: " اللَّهُمَّ احْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا "، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ، (إِلَّا أَنَّهُ)، أَيِ: ابْنُ مَاجَهْ (لَمْ يَذْكُرْ: وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَكِنْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ، وَبِفَرْضِ ضَعْفِهِ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْفَضَائِلِ، قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغَرَابَةَ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ وَالْحُسْنَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ غَرِيبًا كَوْنُهُ ضَعِيفًا.

ص: 818

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1037 -

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: وَالنَّجْمِ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1037 -

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ وَالنَّجْمِ)، أَيْ: سُورَةَ (وَالنَّجْمِ) ، إِلَى آخِرِهَا (فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ: مَنْ كَانَ حَاضِرًا قِرَاءَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، حَتَّى شَاعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ الْإِخْبَارِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ، أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَتِهِمْ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَبَاطِلٌ، لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ مَدْحَ إِلَاهٍ غَيْرِ اللَّهِ كُفْرٌ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَقُولُهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَقَامِ، وَأَنَّ الْعَسْقَلَانِيَّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَطَالَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأَنَّ لَهَا طُرُقًا صَحِيحَةً وَطُرُقًا أُخَرَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، قَالَ: وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا تَأْوِيلُهَا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَتِّلُ تِلَاوَتَهُ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ ذَلِكَ فِي سَكْتَةٍ مِنْ سَكَتَاتِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا وَسَمِعَهَا غَيْرُهُ فَأَشَاعَهَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهُوَ - أَيْ نَقْلُ الْقِصَّةِ وَسَبْقُ لِسَانِهِ سَهْوًا - مَرْدُودٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ صَحَّ فَابْتِلَاءٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الثَّابِتُ عَلَى الْإِيمَانِ عَنِ الْمُتَزَلْزِلِ فِيهِ.

ص: 818