المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 564 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مُخَالَطَةِ الْجُنُبِ وَمَا يُبَاحُ لَهُ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمِيَاهِ]

- ‌[بَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[بَابُ الْمُسْتَحَاضَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ تَعْجِيلِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ فَضِيلَةِ الصَّلَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ]

- ‌[بَابُ تَأْخِيرِ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ السَّتْرِ]

- ‌[بَابُ السُّتْرَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقْرَأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الرُّكُوعِ]

- ‌[بَابُ السُّجُودِ وَفَضْلِهِ]

- ‌[بَابُ التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ]

- ‌[بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهُ]

- ‌[بَابُ السَّهْوِ]

- ‌[بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ]

- ‌[بَابُ أَوْقَاتِ النَّهْيِ]

الفصل: ‌ ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 564 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،

[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

564 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ; مُكَفِّرَاتٌ لَمَّا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ

ــ

(4)

كِتَابُ الصَّلَاةِ

فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اشْتِقَاقَ الصَّلَاةِ مِنَ الصَّلْيِ، وَهُوَ دُخُولُ النَّارِ، وَالْخَشَبَةُ إِذَا تَعَوَّجَتْ عُرِضَتْ عَلَى النَّارِ فَتُقَوَّمُ، وَفِي الْعَبْدِ اعْوِجَاجٌ لِوُجُودِ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَالْمُصَلِّي يُصِيبُهُ مِنْ وَهَجِ السَّطْوَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظَمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ مَا يَزُولُ بِهِ اعْوِجَاجُهُ، فَهُوَ كَالْمَصْلِيِّ بِالنَّارِ، وَمَنِ اصْطَلَى بِنَارِ الصَّلَاةِ وَزَالَ بِهَا اعْوِجَاجُهُ لَا يُعْرَضُ بِالنَّارِ ثَانِيَةً إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

564 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ") : أَيْ: بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ (وَالْجُمُعَةُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: صَلَاتُهَا (إِلَى الْجُمُعَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: مُنْتَهِيَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَالْأَظْهَرُ مُنْضَمَّةٌ، وَعَلَى هَذَا قَوْلِهِ:(وَرَمَضَانُ) : أَيْ: صَوْمُهُ (إِلَى رَمَضَانَ) : وَقَوْلِهِ (مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ) : خَبَرٌ عَنِ الْكُلِّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ مَعْمُولٌ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ بِالْإِضَافَةِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّكْفِيرُ: التَّغْطِيَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَحْوُ، وَقَوْلُهُ:" إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " عَلَى صِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ شَرْطٌ، جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، إِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الصَّلَاةِ مُكَفِّرَةٌ مَا بَيْنَهُمَا دُونَ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، لِمَا يَرِدُ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. يَعْنِي: إِذَا اجْتَنَبَ الْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ عَنِ الْكَبَائِرِ حَتَّى لَوْ أَتَاهَا لَمْ يُغْفَرْ شَيْءٌ مِمَّا بَيْنَهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتَكُمْ} [النساء: 31] قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ قَالَ بِهِ التُّورِبِشْتِيُّ وَالْحُمَيْدِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، بَلْ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ، فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ ; لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا بَيْنَهُنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كُلَّهَا مُغْفَرَةٌ إِلَّا الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، أَوْ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ اهـ.

وَمُنَازَعَةُ ابْنِ حَجَرٍ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا. قَالَ الشَّيْخُ الْكِلَابَاذِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ فِي الْآيَةِ: الشِّرْكُ وَجَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، أَوْ يُقَالُ: جَمَعَهُ لِيُوَافِقَ الْخِطَابَ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ عَلَى الْجَمْعِ ; لِقَوْلِهِ: إِنْ تَجْتَنِبُوا فَكَبِيرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ إِذَا ضُمَّتْ إِلَى كَبِيرَةِ صَاحِبِهِ صَارَتْ كَبَائِرَ. اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى تَقْدِيرِ إِنْ شَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَبَائِرَ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُتَعَارَفِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا عَنْهَا نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ بِالطَّاعَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: إِنْ مَكَانَ إِذَا ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ. اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِذَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ:" إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ " وَقْتَ اجْتِنَابِهَا وَخُرُوجِهَا عَمَّا بَيْنَهُنَّ؛ إِذِ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا لَا تُكَفَّرُ، قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ اجْتِنَابُهَا مُدَّةَ تِلْكَ السَّيِّئَةِ الْمَذْكُورَةِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ ظَاهِرَ خَبَرِ مُسْلِمٍ مَا لَمْ يُؤْتَ كَبِيرَةً اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً مِنْ حِينِ فِعْلِ الْمُكَفِّرِ إِلَى مَوْتِهِ، ثُمَّ مَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ مِنْ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا يُكَفِّرُهَا الصَّلَوَاتُ وَالصَّوْمُ، وَكَذَا الْحَجُّ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا غَيْرُهَا. نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا حَكَى فِي تَمْهِيدِهِ عَنْ بَعْضِ حَاضِرِيهِ أَنَّ الْكَبَائِرَ يُكَفِّرُهَا غَيْرُ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا جَهْلٌ، وَمُوَافَقَةٌ لِلْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّوْبَةِ مَعْنًى، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَالْفُرُوضُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِالْقَصْدِ. اهـ.

ص: 506

وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ فَقَطْ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فَهِيَ لَا تُكَفَّرُ بِعَمَلٍ، فَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ عَامٌّ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا غَيْرُ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمُكَفِّرَاتِ فَمَا يُكَفِّرُ غَيْرُهُ؟ قُلْتُ: أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ صَغِيرَةً أَوْ صَغَائِرَ كَفَّرَهَا، وَإِلَّا كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ بِهِ لَهُ دَرَجَاتٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ رَجَوْنَا أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ كَبَائِرِهِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهَا اهـ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَكْفِيرٌ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ أَثَرِ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا تَخْفِيفُ عَذَابِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا لَفْظُهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ رَمَضَانَ.

ص: 507

565 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: " فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

565 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَرَأَيْتُمْ ") : أَخْبِرُونِي (لَوْ) : ثَبَتَ (أَنَّ نَهْرًا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتُسَكَّنُ أَيْ: جَارِيًا (بِبَابِ أَحَدِكُمْ) : أَيْ: مَثَلًا (يَغْتَسِلُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: ثُمَّ يَغْتَسِلُ أَيْ: أَحَدُكُمْ (فِيهِ) : أَيْ: فِي النَّهْرِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظِ مِنْهُ (كُلَّ يَوْمٍ) : أَيْ: وَلَيْلَةٍ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّشْبِيهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ (خَمْسًا) : أَيْ: خَمْسَ مَرَّاتٍ (هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: وَسَخِهِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بَيَانِيَّةٌ، وَلَا يَبْعُدُ كَوْنُهَا تَبْعِيضِيَّةً (قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ) : وَلَمْ يَكْتَفُوا بِلَا لِلتَّأْكِيدِ (قَالَ: " فَذَلِكَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ، أَيْ: إِذَا أَقْرَرْتُمْ بِذَلِكَ، وَصَحَّ عِنْدَكُمْ فَهُوَ اهـ. أَيِ: النَّهْرُ الْمَذْكُورُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغُسْلِ فِي النَّهْرِ خَمْسُ مَرَّاتٍ (مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) : وَتَطْهِيرُهُ مِثْلُ تَكْفِيرِهَا، وَعَكَسَ فِي التَّشْبِيهِ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْلَ تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ مُبَالَغَةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275](يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ) : أَيْ: بِالصَّلَوَاتِ فَالنِّسْبَةُ فِي مُكَفِّرَاتٍ مَجَازِيَّةٌ (الْخَطَايَا) : أَيِ: الصَّغَائِرُ، وَالْجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَنَّ الذُّنُوبَ كَالْوَسَخِ ; لِأَنَّهَا تُوَسِّخُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَالصَّلَاةُ تُزِيلُ تِلْكَ الْأَوْسَاخَ وَالْأَقْذَارَ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، كَمَا أَنَّ النَّهْرَ يُزِيلُ الْأَوْسَاخَ الْحِسِّيَّةَ، وَهَذَا مُقْتَبَسٌ مِنَ الْآيَةِ الْآتِيَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 507

566 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:«إِنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِي هَذَا؟ قَالَ: " لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

566 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ) : حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: (قُبْلَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو الْيَسَرِ بِفَتْحَتَيْنِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا، أَيْ: تَشْتَرِيهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبُ مِنْهُ، فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ فَأَهْوَيْتُ فَقَبَّلْتُهَا. اهـ.

قُلْتُ: هَذَا شَأْمَةُ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَجْنَبِيِّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ، فَنَدِمَ (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] الْآيَةَ: (فَأَخْبَرَهُ) أَيْ: بِالْوَاقِعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: فَانْتَظِرْ أَمْرَ رَبِّي، فَصَلَّى الْعَصْرَ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي " فَأَنْزَلَ " عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَأَخْبَرَهُ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى الرَّجُلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي - " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ": قِيلَ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ طَرَفٌ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ طَرَفٌ، وَجَعَلَ الْمَغْرِبَ فِيهِ تَغْلِيبٌ أَوْ مِنْ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَكَذَا جَعَلَ الظَّاهِرَ طَرَفًا لَا يَخْلُو عَنْ مَجَازٍ " وَزُلَفًا ": أَيْ: سَاعَاتٍ " مِنَ اللَّيْلِ ": صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقِيلَ: طَرَفَيِ النَّهَارِ الْغُدْوَةُ وَالْعَشِيُّ: فَالْفَجْرُ صَلَاةُ

ص: 507

الْغُدْوَةِ، وَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ صَلَاةُ الْعَشِيِّ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عِشَاءٌ " وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ " صَلَاةُ الْعِشَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَبِهِ فَسَّرُهُ الْأَكْثَرُونَ، وَالزُّلْفَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، كَذَا قَالُوا يَعْنِي: قَرِيبَةً مِنَ النَّهَارِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13]" {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} [هود: 114] " أَيْ: كَالصَّلَوَاتِ ; فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ " يُذْهِبْنَ ": أَيْ: يُكَفِّرْنَ " السَّيِّئَاتِ ": أَيِ: الصَّغَائِرَ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْخَلْوَةِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. (فَقَالَ الرَّجُلُ) : أَيِ: السَّائِلُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِي) : أَيْ: بِسُكُونِ الْيَاءِ وَتُفْتَحُ (هَذَا؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا: مُبْتَدَأٌ، وَلِي: خَبَرُهُ، وَالْهَمْزَةُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّخْصِيصِ أَيْ: مُخْتَصٌّ لِي هَذَا الْحُكْمُ، أَوْ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؟ (قَالَ:" لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ ") : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ ; لِيَشْمَلَ الْمَوْجُودِينَ وَالْمَعْدُومِينَ، أَيْ: هَذَا لَهُمْ وَأَنْتَ مِنْهُمْ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْمُبْهَمُ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، كَمَا أَفَادَهُ تَأْخِيرُ الْمُصَنِّفِ، قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَى مَا بَعْدَهَا (لِمَنْ عَمِلَ بِهَا) : أَيْ: بِهَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنْ فَعَلَ حَسَنَةً بَعْدَ سَيِّئَةٍ، وَهَذَا الْقَيْدُ مُرَادٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْإِذْهَابِ لِلْحَسَنَاتِ يَقْتَضِي وُجُودَهَا (مِنْ أُمَّتِي) : وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ بِبَرَكَةِ الرَّحْمَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 508

567 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ـ أَوْ حَدَّكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

567 -

(وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : يُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ وَاتِّحَادُهَا (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَصَبْتُ حَدًّا) : أَيْ: مُوجِبَةً، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَعَلْتُ شَيْئًا يُوجِبُ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ (فَأَقِمْهُ) : أَيِ: الْحَدَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ (عَلَيَّ. قَالَ) : أَيِ: الرَّاوِي، وَهُوَ أَنَسٌ (وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ أَيْ: لَمْ يَسْأَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ عَنْ مُوجِبِ الْحَدِّ مَا هُوَ؟ قَالَهُ الطِّيبِيُّ قِيلَ: لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَرَفَ ذَنْبَهُ وَغُفْرَانَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) : أَيْ: إِقَامَتُهَا (فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيْ: إِحْدَى الصَّلَوَاتِ أَوِ الْعَصْرَ (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ) : أَيْ: أَدَّاهَا وَانْصَرَفَ عَنْهَا (قَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (كِتَابَ اللَّهِ) : أَيْ: حُكْمَ اللَّهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى: اعْمَلْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِي شَأْنِي مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي تَغْيِيرِهِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ غَايَةُ الذَّكَاءِ وَالْبَلَاغَةِ مِنْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام السُّكُوتَ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ: أَقِمْهُ، أَيْ: أَنَّ وَاجِبَهُ غَيْرُ الْحَدِّ، فَعَبَّرَ هُنَا بِمَا يَشْمَلُ الْحَدَّ وَغَيْرَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ (قَالَ:" أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ " قَالَ: نَعَمْ) : هَذَا يُنَافِي مَا اشْتُهِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] لَوْ قَالُوا: نَعَمْ، لَكَفَرُوا (قَالَ:" فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ حَدَّكَ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي قَالَهُ مِيرَكُ. أَيْ: سَبَبَ حَدِّكَ، قَالَهُ السَّيِّدُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ ; فَإِنَّ مُوجِبَ الْحَدِّ لَا يَكُونُ إِلَّا كَبِيرَةً، وَقَدْ صَرَّحَ صلى الله عليه وسلم بِغُفْرَانِهِ بِوَاسِطَةِ صَلَاتِهِ مَعَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الرَّجُلَ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ، فَأَرَادَ بِالْحَدِّ الْعُقُوبَةَ الشَّامِلَةَ لِلتَّعْزِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ حَقِيقَتُهُ، وَأَنَّ سَبَبَ مَغْفِرَةِ إِثْمِ مُوجِبِهِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ لَوَائِحِ التَّوْبَةِ، وَحِكْمَةُ كَوْنِهِ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلِمَ لَهُ نَوْعَ عُذْرٍ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُقِيمَهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ أَعْلَمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ تَابَ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ إِلَّا حَدَّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِلْآيَةِ، وَكَذَا حَدُّ زِنَا الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ.

وَعَلَى كُلٍّ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الصَّلَاةَ كَفَّرَتْ كَبِيرَةً، بَلْ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.

ص: 508

قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ، وَكَذَا مَا خَفِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» " وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَتَحَقَّقَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَلَيْسَ يَسْقُطُ حَدُّهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَفِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالتَّوْبَةِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ، وَخَطِيئَةُ هَذَا الرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْمَخْفِيِّ ; لِأَنَّهُ مَا بَيَّنَهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ حَدُّهَا بِالصَّلَاةِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ. وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا أَشْعَرَ بِإِنَابَتِهِ عَنْهَا وَنَدَامَتِهِ عَلَيْهَا يَعْنِي: مِنِ اعْتِرَافِهِ بِالذَّنْبِ وَطَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ يَكُونُ غُفْرَانُ الْكَبِيرَةِ مِنْهُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ حُكْمًا مُخْتَصًّا بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلِمٌ " وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ".

ص: 509

568 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:«سَأَلَتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

568 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا ": اللَّامُ فِيهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ: مُسْتَقْبِلَاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ، وَقَوْلِهِمْ: لَقِيتُهُ لِثَلَاثٍ، أَيْ: مُسْتَقْبِلًا بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَلَيْسَتْ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَ " وَقَدَّمْتُ لِحَيَاتِي " بِمَعْنَى الْوَقْتِ ; لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ الْوَقْتُ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ وُقُوعُ الصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ قُبُلُ وَقْتِهَا بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: أَوَّلُهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ. بِمَعْنَى: " فِي " إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ اللَّامَ تَرِدُ لِثَلَاثِينَ مَعْنًى. مِنْهَا: مُوَافَقَةُ " فِي " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْأَوَّلَيْنِ إِنَّمَا قُدِّرَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاللِّقَاءَ قَبْلَ الْعِدَّةِ وَالثَّلَاثِ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُسْتَقْبِلًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُفْسِدٌ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: " فِي " كَمَا قَرَّرْتُهُ فَتَأَمَّلْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَدَاؤُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. أَقُولُ: هَذَا وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنَ الْحَدِيثِ يُحْمَلُ عَلَى أَوَّلِ مَا أَوْقَاتُهُنَّ الْمُخْتَارُ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَيُوَافِقُهَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، أَيْ: خَيْرُ عَمَلٍ وَضَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِهِ. (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟) : أَيْ: أَيُّهَا أَحَبُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ لَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ (قَالَ: " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ") : أَيْ: أَوْ أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وَلِذَا قِيلَ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَدَعَا لِلْوَالِدَيْنِ بِالْمَغْفِرَةِ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ وَالِدَيْهِ. (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ هَكَذَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ:«أَيُّ الْعَمَلِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " رَجُلٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَجَابَ لِكُلٍّ بِمَا يُوَافِقُ غَرَضَهُ، وَمَا يُرَغِّبُهُ فِيهِ، أَوْ أَجَابَ بِحَسَبِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ، أَوْ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَأَصْلَحُ لَهُ، تَوْفِيقًا عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ، وَلَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: خَيْرُ الْأَشْيَاءِ كَذَا وَلَا يُرِيدُ تَفْضِيلَهُ فِي نَفْسِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ أَنَّهُ خَيْرُهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَلِأَحَدٍ دُونَ آخَرَ، كَمَا يُقَالُ فِي مَوْضِعٍ يُحْمَدُ فِيهِ السُّكُوتُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، وَحَيْثُ يُحْمَدُ الْكَلَامُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. (قَالَ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (حَدَّثَنِي) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِهِنَّ) : أَيْ: بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ (وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوِ السُّؤَالَ يَعْنِي: لَوْ سَأَلْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا (لَزَادَنِي) : فِي الْجَوَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» " قَالَ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي خِلَافِيَّاتِهِ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

ص: 509

569 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

569 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " بَيْنَ الْعَبْدِ ") أَيِ: الْمُسْلِمِ (وَبَيْنَ الْكُفْرِ) : أَيْ: مُقَارَبَتِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اتِّصَافُهُ بِهِ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَكُونُ كَافِرًا، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ تَبَجَّحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ، وَقَالَ: لَوْ فَهِمَ الشُّرَّاحُ مَا قُلْتُهُ لَمَا أَوَّلُوا وَمَا تَمَحَّلُوا (تَرْكُ الصَّلَاةِ) : مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُتَعَلِّقُ " بَيْنَ " مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: تَرْكُهَا وَصْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ يُقَالُ لِمَا يُوصِلُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ شَخْصٍ أَوْ هَدِيَّةٍ هُوَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْكُ الصَّلَاةِ مُبْتَدَأٌ وَالظَّرْفُ الْمُقَدَّمُ خَبَرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُئَوَّلَ تَرْكُ الصَّلَاةِ بِالْحَدِّ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ تَرَكَهَا دَخَلَ الْحَدَّ، وَحَامَ حَوْلَ الْكُفْرِ، وَدَنَا مِنْهُ، أَوْ يُقَالُ: الْمَعْنَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَصْلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَيْهِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُهُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، أَوْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَوَضَعَ الْعَبْدَ مَوْضِعَ الْمُؤْمِنِ ; لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَنْ يَخْشَعَ لِمَوْلَاهُ وَيَشْكُرَ نِعَمَهُ، وَوَضَعَ الْكُفْرَ مَوْضِعَ الْكَافِرِ وَجَعَلَهُ نَفْسَ الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ تَرْكُ أَدَاءِ الشُّكْرِ، فَعَلَى هَذَا الْكُفْرُ بِمَعْنَى الْكُفْرَانِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ الْفَرْضِ عَمْدًا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَرْكُهَا كُفْرٌ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِهَا جُحُودًا أَوْ عَلَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تَارِكُ الصَّلَاةِ كَالْمُرْتَدِّ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ: صَاحِبُ الرَّأْيِ لَا يُقْتَلُ، بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ. اهـ.

قُلْتُ: وَنِعْمَ الرَّأْيُ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ ; إِذِ الْأَقْوَالُ بَاقِيهَا ضَعِيفَةٌ، ثُمَّ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لِتَرْكِهَا، أَوْ تَرْكُهَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، أَوْ يُخْشَى عَلَى تَارِكِهَا أَنْ يَمُوتَ كَافِرًا، أَوْ فِعْلُهُ شَابَهَ فِعْلَ الْكَافِرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ:«بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ:«لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إِلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ: «بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» .

ص: 510

الْفَصْلَ الثَّانِي

570 -

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى ; مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

570 -

(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ ") : مُبْتَدَأٌ (" افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى ") : صِفَةُ الْمُبْتَدَأِ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ (مَنْ أَحْسَنَ) : هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ (وُضُوءَهُنَّ) : بِمُرَاعَاةِ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِإِحْسَانِهِ الْإِتْيَانَ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِإِحْسَانِهِ تَصْحِيحَهُ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ (وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ) : أَيْ: وَقْتِهِنَّ، أَوْ فِي أَوْقَاتِهِنَّ الْمُخْتَارَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَبْلَ أَوْقَاتِهِنَّ وَأَوَّلَهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ الصَّوَابُ مَا أَفَادَتْهُ فِي الَّتِي اللَّامُ بِمَعْنَاهَا مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَهُ. اهـ.

ص: 510

وَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ ; لِأَنَّ الطِّيبِيَّ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا فِي مَذْهَبِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عَلَى الْفَرَائِضِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَخُشُوعَهُنَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ) : بِشَرْطِهِ وَسُنَنِهِ الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ (وَخُشُوعَهُنَّ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْخُشُوعُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ. قَالَ السَّيِّدُ: عَطَفَهُ عَلَى الرُّكُوعِ إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] الرُّكُوعُ: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَتَمَّ خُضُوعَهُنَّ بَعْدَ خُضُوعٍ أَيْ: خُضُوعًا مُضَافًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] كَرَّرَهَا لِشَدَّةِ الْخَطْبِ النَّازِلِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ الْأَرْكَانُ. أَيْ: أَتَمَّ أَرْكَانَهَا، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ تَغْلِيبًا كَمَا سُمِّيَتِ الرَّكْعَةُ رَكْعَةً، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِنَا إِذْ صَلَاةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا رُكُوعَ فِيهَا، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَسَاهَلُونَ فِيهِ وَلِكَوْنِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالْوَسِيلَةِ لِغَيْرِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْأَرْكَانِ، فَفِيهِ تَنْبِيهُ نَبِيِّهِ عَلَى إِتْمَامِ مَا سِوَاهُ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُشُوعِهِنَّ سُكُونُ الْجَوَارِحِ عَنِ الْعَبَثِ، وَالْقَلْبِ عَنْ أَنْ يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَلَاتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَأَمِّلًا لِمَعَانِي قِرَاءَتِهِ وَأَذْكَارِهِ، وَلِلسَّبَبِ الَّذِي شُرِعَ كُلُّ رُكْنٍ لِأَجْلِهِ مِنَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا، وَمِنَ الرُّكُوعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمِنَ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ ; بِجَعْلِ أَشْرَفِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَوْطِئِ الْأَقْدَامِ وَالنِّعَالِ (كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ) : أَيْ: وَعْدٌ، وَالْعَهْدُ: حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا فَحَالًا، سَمَّى مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَازَاةِ لِعِبَادِهِ عَهْدًا عَلَى جِهَةِ مُقَابَلَةِ عَهْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ وَعَدَ الْقَائِمِينَ بِحِفْظِ عَهْدِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ، وَوَعْدُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ لَا يُخْلِفَهُ، فَسُمِّيَ وَعْدُهُ عَهْدًا ; لِأَنَّهُ أَوْثَقُ مِنْ كُلِّ وَعْدٍ (أَنْ يَغْفِرَ لَهُ) : إِمَّا جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةُ الْمُبْتَدَأِ صِفَةُ عَهْدٍ، وَإِمَّا بَدَلٌ عَنْ عَهْدٍ، وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْأَمَانُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْمُرَادُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ (وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ: أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ تَرَكَ الْإِحْسَانَ (فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) : فَضْلًا (وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) : عَدْلًا، وَقَدَّمَ مَشِيئَةَ الْغُفْرَانِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَوَكَّلَ أَمْرَ التَّارِكِ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَجْوِيزًا لِعَفْوِهِ، وَمِنْ عَادَةِ الْكِرَامِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَعْدِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْوَعِيدِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِقَابُ الْعَاصِي، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِثَابَةُ الْمُطِيعِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخَلْقِهِ شَيْءٌ، بَلْ لَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَإِيلَامُهُمْ، وَإِثَابَةُ الْفَاسِقِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى الْكَافِرَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَأَمَّا تَحْقِيقُ خُلْفِ الْوَعِيدِ، فَفِي رِسَالَةِ الْقَوْلِ السَّدِيدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ صَالِحٌ، قَالَهُ مِيرَكُ. (وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ (نَحْوَهُ) : أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

ص: 511

571 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

571 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلُّوا خَمْسَكُمْ: أَضَافَ إِلَيْهِمْ لِيُقَابِلَ الْعَمَلَ بِالثَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: جَنَّةَ رَبِّكُمْ، وَلِيَنْعَقِدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حِكْمَةُ إِضَافَةِ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ إِلَيْهِمْ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّ ذَوَاتَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِكَيْفِيَّاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَحَثُّهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِلِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ الْعَمَلِيَّةَ يُقَابِلُهَا إِضَافَةُ فَضِيلَةٍ هِيَ أَعْلَى مِنْهَا وَأَتَمُّ، وَهِيَ الْجَنَّةُ الْمُضَافَةُ إِلَى وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ الْمُشْعِرِ بِمَزِيدِ تَرْبِيَتِهِمْ وَتَرْبِيَةِ نَعِيمِهِمْ، بِمَا فَارَقُوا بِهِ سَائِرَ الْأُمَمِ (وَصُومُوا شَهْرَكُمْ) : أَيِ: الْمُخْتَصَّ بِكُمْ وَهُوَ رَمَضَانُ، وَأَبْهَمَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ صَارَ مِنَ الظُّهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَالتَّرَدُّدَ (وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ) : الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لَكُمْ، وَلَعَلَّ تَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنِ الصَّوْمِ ; لِأَنَّهَا فُرِضَتْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا اقْتِرَانُهُمَا فِي غَالِبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ ; لِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأُخْرَى أُمُّ

ص: 511

الطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَدُّوا زَكَاتَكُمْ ; إِيمَاءً إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُطْلَقٍ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَى نِصَابِهَا السَّائِمَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَى مَحَبَّتِهَا مَحَبَّةً مُفْرِطَةً، رُبَّمَا أَفْضَتْ بِكَثِيرِينَ إِلَى إِيثَارِ بَقَائِهَا عَلَى بَقَاءِ النَّفْسِ، وَلِذَا مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:" {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] " عَلَى حَدِّ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ (وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرَكُمْ ") : أَيِ: الْخَلِيفَةَ وَالسُّلْطَانَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، أَوِ الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ، أَوْ أَعَمُّ أَيْ: كُلُّ مَنْ تَوَلَّى أَمْرًا مِنْ أُمُورِكُمْ، سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانَ وَلَوْ جَائِرًا وَمُتَعَلِّيًا وَغَيْرَهُ مِنْ أُمَرَائِهِ أَوْ سَائِرَ نُوَّابِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَمِيرَكُمْ ; إِذْ هُوَ خَاصٌّ عُرْفًا بِبَعْضِ مَنْ ذُكِرَ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِقَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . (تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ) : جَوَابُ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ مَنْ فَعَلَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فَهُوَ يَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَالْمُرَادُ: تَنَالُوا مِنْ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ مَا يَلِيقُ بِأَعْمَالِكُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَالدَّرَجَاتِ عَلَى حَسَبِ الطَّاعَاتِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

ص: 512

572 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنْهُ.

ــ

572 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ: مُحَمَّدٍ (عَنْ جَدِّهِ) : أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مُرُوا ") : أَمْرٌ مِنَ الْأَمْرِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِلتَّخْفِيفِ، ثُمَّ اسْتُغْنِيَ عَنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ تَخْفِيفًا، ثُمَّ حُرِّكَتْ فَاؤُهُ ; لِتَعَذُّرِ النُّطْقِ بِالسَّاكِنِ (أَوْلَادَكُمْ) : يَشْمَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ (بِالصَّلَاةِ) وَرُبَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الشُّرُوطِ (وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ) : لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ (وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ) : لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا، أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغَ (وَفَرِّقُوا) : أَمْرٌ مِنَ التَّفْرِيقِ (بَيْنَهُمْ) : أَيْ: بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلَيْنِ أَوِ الْمَرْأَتَيْنِ أَنْ يَنَامَا فِي مَضْجَعٍ وَاحِدٍ ; بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ عَوْرَتُهُمَا مَسْتُورَةً بِحَيْثُ يَأْمَنَانِ الْتِمَاسَ الْمُحَرَّمِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ تَمْكِينُ ابْنَيْنِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي مَضْجَعٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَا يَجُوزُ إِلَخْ، مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّتِهِ فَتَأَمَّلْ. (فِي الْمَضَاجِعِ) : أَيِ: الْمَرَاقِدِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ بُلُوغَ الْعَشْرِ مَظَنَّةُ الشَّهْوَةِ، وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاتٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ فِي الطُّفُولِيَّةِ تَأْدِيبًا وَمُحَافَظَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمُ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَيَجْتَنِبُوا مَحَارِمَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي: شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَرَاوَيَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ رِوَايَةِ: عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِدُونِ قَوْلِهِ: وَفَرِّقُوا إِلَخْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

ص: 512

573 -

وَفِي الْمَصَابِيحِ عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ.

ــ

573 -

(وَفِي الْمَصَابِيحِ، عَنْ سَبْرَةَ) : بِسُكُونِ الْبَاءِ (ابْنِ مَعْبَدٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ أَيْضًا، لَكِنْ بِلَفْظِ:«مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ التَّفْرِيقُ.

ص: 512

574 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

574 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " الْعَهْدُ ") : أَيْ: وَالْمِيثَاقُ الْمُؤَكَّدُ بِالْإِيمَانِ (الَّذِي بَيْنَنَا) : أَيْ: مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ (وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ) : قَالَ الْقَاضِي: الضَّمِيرُ الْغَائِبُ لِلْمُنَافِقِينَ شَبَّهَ الْمُوجِبَ لِإِبْقَائِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ بِالْعَهْدِ الْمُقْتَضِي لِإِبْقَاءِ الْمُعَاهَدِ وَالْكَفِّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ تَشَبُّهُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي حُضُورِ صَلَاتِهِمْ وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ، وَانْقِيَادُهُمْ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ كَانُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ سَوَاءً. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا اسْتُؤْذِنَ فِي قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ (فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ) : أَيْ: أَظْهَرَ الْكُفْرَ، وَعَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ نِفَاقًا

ص: 512

اعْتِقَادِيًّا كَافِرٌ، فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ كَفَرَ، قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْغَائِبِينَ عَامًّا فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ:«لَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» ، فَالْمُرَادُ بِالْمُتَكَلِّمِ فِي بَيْنَنَا هُوَ الْمُعَظِّمُ نَفْسَهُ، وَالْكُفْرُ مُئَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ (وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ مِيرَكُ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً.

ص: 513

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

575 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ عُمَرَ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ شَيْئًا. فَقَامَ الرَّجُلُ، فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَدَعَاهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ: " {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يَذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [الفاتحة: 114 - 30524] ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ : " فَقَالَ: بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

575 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً) : أَيْ: دَاعَبْتُهَا وَزَاوَلْتُ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَيْرَ أَنِّي مَا جَامَعْتُهَا. قَالَهُ الطِّيبِيُّ (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ) : أَيْ: أَسْفَلَهَا وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْمَسْجِدِ ; لِأَظْفَرَ مِنْهَا بِجِمَاعِهَا (إِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا) : مَا مَوْصُولَةٌ، أَيِ: الَّذِي تَجَاوَزَ الْمَسَّ أَيِ: الْجِمَاعَ (فَأَنَا هَذَا، فَاقْضِ) : الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ: أَنَا حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمُنْقَادٌ لِحُكْمِكَ فَاقْضِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (مَا شِئْتَ) : أَيْ: أَرَدْتَهُ بِمَا يَجِبُ عَلَىَّ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (فَقَالَ لَهُ عُمَرَ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ) : أَيْ: لَكَانَ حَسَنًا، لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ " لَوْ " تَحْضِيضِيَّةٌ أَيْ: هَلَّا سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ (قَالَ) : أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (وَلَمْ يَرُدَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ أَوْ عَلَى عُمَرَ (شَيْئًا) : مِنَ الْكَلَامِ انْتِظَارًا لِقَضَاءِ اللَّهِ فِيهِ، رَجَاءً أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ (فَقَامَ الرَّجُلُ، فَانْطَلَقَ) : أَيْ: فَذَهَبَ ظَنًّا مِنْهُ لِسُكُوتِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَلِّغَهُ، فَإِنْ كَانَ عَفْوًا شَكَرَ وَإِلَّا عَادَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِحَالِهِ، وَإِلَّا فَانْطِلَاقُهُ قَبْلَ صَرِيحِ الْإِذْنِ مِنْهُ خِلَافُ الْأَدَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ هَرَبٌ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ اعْتَرَفَ، فَكَيْفَ يَهْرُبُ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْدَرِئُ بِهِ الْحُدُودُ، (فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيْ: أَرْسَلَ عَقِبَهُ (رَجُلًا) : لِيَدْعُوهُ (فَدَعَاهُ) : أَيِ الرَّجُلُ الرَّجُلَ (وَتَلَا) : عليه الصلاة والسلام (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ السَّائِلِ (هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود: 114] : بَدَلٌ مِنَ الْآيَةِ " {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ": أَيِ الصُّبْحَ فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَوِ الْأَخِيرَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ " زُلَفًا ": أَيْ: فِي سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّهَارِ " مِنَ اللَّيْلِ ": مِنْ بَيَانٌ يَعْنِي: صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} [هود: 114] ": أَيِ: الصَّلَوَاتِ وَسَائِرَ الطَّاعَاتِ " {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ": أَيْ: يَمْحُونَ الصَّغَائِرَ وَيُخَفِّفْنَ الْكَبَائِرَ " ذَلِكَ ": أَيْ: مَا ذُكِرَ أَيْ:

ص: 513

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْمِنَّةِ الْجَسِيمَةِ " ذِكْرَى ": أَيْ: تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ " لِلذَّاكِرِينَ ": لِنِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ لِلْمُتَّعِظِينَ (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) : قِيلَ: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ: هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (يَا نَبِيَّ اللَّهِ) : وَاخْتِيرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ إِيمَاءً بِأَنَّ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا هُوَ مَا أَنْبَأَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى (هَذَا) : أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ (لَهُ) : أَيْ: لِلسَّائِلِ (خَاصَّةً؟) : أَيْ: يَخُصُّهُ خُصُوصًا أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً (فَقَالَ: " بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً ") أَيْ: يَعُمُّهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ هُوَ يَدْخُلُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا ; لِأَنَّهُ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسِيَاقُ هَذَا غَيْرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ تَكَرَّرَتْ لِرَجُلَيْنِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ سُكُوتَهُ عليه الصلاة والسلام فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِحُكْمِ الْأُولَى لِانْتِظَارِ شَيْءٍ جَدِيدٍ فِيهَا. اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ تَكْرَارُ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِهَا ثَانِيًا، بَلْ إِنَّهُ قَرَأَهَا اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا، وَرُبَّمَا كَانَ سُكُوتُهُ لِأَمْرٍ آخَرَ، فَلَمَّا قَامَ الرَّجُلُ نَادَاهُ وَبَيَّنَ لَهُ مُدَّعَاهُ، وَيَخْطِرُ بِالْبَالِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ - أَنَّ سَبَبَ سُكُوتِهِ وَعَدَمَ مُبَادَرَتِهِ بِالْمَقَالِ أَنْ لَا تَجْتَرِئَ الْأُمَّةُ عَلَى سُوءِ الْفِعَالِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 514

576 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ زَمَنَ الشِّتَاءِ، وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ. قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ. قَالَ: فَقَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ فَتَتَهَافَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ، كَمَا تَهَافَتَ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

576 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ زَمَنَ الشِّتَاءِ) : أَيِ: الْبَرْدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فَصْلِ الشِّتَاءِ وَهُوَ الْخَرِيفُ (وَالْوَرَقُ) : أَيْ: جِنْسُهُ (يَتَهَافَتُ) : أَيْ: يَتَسَاقَطُ مُتَوَالِيًا (فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ) : أَيْ: مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَهُ عليه الصلاة والسلام، أَوْ لِمَنْ يَظُنُّ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُمَا مُتَّصِلَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَجَعَلَ ذَاكَ) : وَفِي أَصْلِ الْعَفِيفِ بِاللَّامِ (الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ) : أَيْ: طَفِقَ الْوَرَقُ مِنَ الْغُصْنَيْنِ يَتَسَاقَطُ تَسَاقُطًا سَرِيعًا ; لِأَنَّهُمَا عِنْدَ الْقَبْضِ بِهِمَا أَوْ نَفْضِهِمَا أَسْرَعُ سُقُوطًا مِنْ تَرْكِهِمَا عَلَى حَالِهِمَا. (قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَبَا ذَرٍّ " قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ " لَبَّيْكَ " أَيْ: إِجَابَةٌ لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَوْ إِقَامَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ: مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ أَقَامَ فِيهِ فَالتَّثْنِيَةُ لِلتَّكْثِيرِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ الْقُرْبِ (قَالَ: " إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ ") : أَيْ: بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا (يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ) : أَيْ: ذَاتَهُ وَمَرْضَاتَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَالِيَةٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: خَالِصًا لَهُ أَوْ خَالِصَةً لَهُ تَعَالَى، بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا سُمْعَةٌ وَلَا رِيَاءٌ، أَوْ بِأَنْ لَا يَقْصُدَ بِهَا حَظًّا لِنَفْسِهِ لَا دُنْيَوِيًّا وَلَا أُخْرَوِيًّا، إِنَّمَا يَقْصُدُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ فَقَطْ (فَتَهَافَتْ) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (عَنْهُ ذُنُوبُهُ، كَمَا تَهَافَتَ) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: يَتَهَافَتُ بِالْمُضَارِعِ لِلْمُذَكَّرِ، وَفِي أُخْرَى وَهِيَ أَصْلُ الْعَفِيفِ لِلْمُؤَنَّثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ:(هَذَا الْوَرَقُ) : يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَيْ: هَذِهِ الْأَوْرَاقُ (عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) : أَيْ: عَنْ غُصْنَيْهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

ص: 514

577 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

577 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) : هُوَ مِنْ جُهَيْنَةَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: غُلِّبَتِ السَّجْدَةُ عَلَى سَائِرِ الْأَرْكَانِ كَمَا غُلِّبَتِ الرَّكْعَةُ عَلَيْهَا (لَا يَسْهُو) : أَيْ: لَا يَغْفَلُ (فِيهِمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَكُونَ حَاضِرَ

ص: 514

الْقَلْبِ أَوْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) : قُيِّدَ بِالصَّغَائِرِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ شُمُولَ الْكَبَائِرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : قَالَ مِيرَكُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو بَيْنَهُمَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» " اهـ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَهُمَا أَيْ: فِيمَا بَيْنَ أَفْعَالِ الرَّكْعَتَيْنِ ; لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ فِيهِمَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 515

578 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ:" مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

578 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) : الْجُمْهُورُ عَلَى كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ، وَهُوَ الْفَصِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ أَوْ أَكْثَرِهَا بِحَذْفِهَا، قَالَهُ الْكَرَمَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ كِتَابَتُهُ بِلَا يَاءٍ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ لَفْظًا وَخَطًّا لِلتَّخْفِيفِ، كَمَا فِي نَحْوِ: الْمُتَعَالِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْعَوْصُ أَوِ الْعَيْصُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ (ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ فَضْلَهَا وَشَرَفَهَا (فَقَالَ) : الْفَاءُ لِلتَّفْسِيرِ (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا) : أَيْ: مِنْ أَنْ يَقَعَ زَيْغٌ فِي فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَّاهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَفْتُرْ عَنْهَا (كَانَتْ) : أَيْ: صَلَاتُهُ أَوْ مُحَافَظَتُةُ عَلَيْهَا (لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا) : تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ نُورًا بَيْنَ يَدَيْهِ مُغْنِيًا عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهَا، وَبُرْهَانًا أَيْ دَلِيلًا عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ، فَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لِلتَّدَلِّي، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ زِيَادَةً فِي نُورِ إِيمَانِهِ وَحُجَّةً وَاضِحَةً عَلَى كَمَالِ عِرْفَانِهِ (وَنَجَاةً) : أَيْ: ذَاتُ نَجَاةٍ أَوْ جُعِلَتْ نَفْسُهَا نَجَاةً مُبَالَغَةً، كَرَجُلٍ عَدْلٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَلِكَ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَنَجَاةٌ لَهُ فِي الْقَبْرِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ (وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا) : أَيْ: عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَحْرُومِيَّةِ (لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : مَحْشُورًا أَوْ مَحْبُوسًا أَوْ مُعَذَّبًا فِي الْجُمْلَةِ (مَعَ قَارُونَ) : الَّذِي مَنَعَهُ مَالُهُ عَنِ الطَّاعَةِ (وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ) : وَزِيرُهُ اللَّذَيْنِ حَمَلَهُمَا جَاهُهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ (وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ) : عَدُوُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ: وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: فِي مُسْنَدَيْهِمَا (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ. قَالَ مِيرَكُ، نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ جَيِّدٌ.

ص: 515

579 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

579 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ) : بَصْرِيٌّ مِنْ بَنِي عَقِيلِ بْنِ كَعْبٍ، مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ (قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَوْنَ) : مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: لَا يَعْتَقِدُونَ (شَيْئًا) : مَفْعُولُهُ (مِنَ الْأَعْمَالِ) : نَعْتُهُ (تَرْكُهُ كُفْرٌ) : الْجُمْلَةُ كَذَا نَعَتُهُ (غَيْرَ الصَّلَاةِ) : اسْتِثْنَاءٌ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إِلَى " شَيْئًا " قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ ضَمِيرُ تَرِكِهِ، وَجَوَّزَ ابْنُ حَجَرٍ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لَشَيْئًا وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ غَيْرُ مُفِيدٍ، ثُمَّ الْحَصْرُ يُفِيدُ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمْ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْوِزْرِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 515

580 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ:«أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ؟ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

ــ

580 -

(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ مُتَنَاهِيًا، وَالزَّجْرُ عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ جَامِعًا وَضَعَ خَلِيلِي مَكَانَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِظْهَارًا لِغَايَةِ تَعَطُّفِهِ وَشَفَقَتِهِ (أَنْ لَا تُشْرِكْ) : بِالْجَزْمِ فَإِنْ مُفَسِّرَةٌ؛ لِأَنَّ فِي أَوْصَى مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَا: نَاهِيَةٌ.: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ قَالَ: أُوصِيكَ بِأَنْ لَا تُشْرِكْ فَإِنْ

ص: 515