الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
535 -
عَنْ أَبِي الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ رضي الله عنه، قَالَ:«أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عليه السلام» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
535 -
(عَنْ أَبَى الْجُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ) : مَرَّ قَرِيبًا (قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ) : بِإِضَافَةٍ أَيْ: مِنْ جَانِبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعْرَفُ بِذَاكَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ (فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) : هُوَ أَبُو الْجُهَيْمِ الرَّاوِي، بَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْرَجِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. (فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيِ: السَّلَامَ عَلَيْهِ (حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ) : وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ حَتَّهُ وَحَكَّهُ (فَمَسَحَ وَجْهَهُ) : أَوَّلًا (وَيَدَيْهِ) : ثَانِيًا (ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ (السَّلَامَ) : بِالنَّصْبِ، مَفْعُولُ رَدَّ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
536 -
ــ
536 -
(وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ) : يَرْوِي، أَيْ: لِلتَّابِعِينَ (أَنَّهُمْ) : أَيِ: الصَّحَابَةَ (تَمَسَّحُوا) : أَيْ: تَيَمَّمُوا (وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (بِالصَّعِيدِ) : مُتَعَلِّقٌ بِتَمَسَّحُوا (لِصَلَاةِ الْفَجْرِ) : أَيْ: لِأَدَائِهَا (فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ) . . . إِلَخْ، بَيَانٌ لِتَمَسَّحُوا (ثُمَّ مَسَحُوا بِوُجُوهِهِمْ مَسْحَةً وَاحِدَةً) : بِطَرِيقِ الِاسْتِيعَابِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يُكَرَّرَ مَسْحُ التَّيَمُّمِ (ثُمَّ عَادُوا) : أَيْ: رَجَعُوا (فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى) : أَيْ: ضَرْبَةً أُخْرَى ( «فَمَسَحُوا بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالْآبَاطِ» ) : بِالْمَدِّ جَمْعُ إِبِطٍ (مِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ) : مِنْ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ: ابْتَدَأُوا بِالْمَسْحِ مِنْ بُطُونِ الْأَيْدِي لَا مِنْ ظُهُورِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الِاسْتِحْبَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِابْتِدَاءِ آلَةُ الْمَسْحِ لَا ابْتِدَاءُ الْمَمْسُوحِ، فَيُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِلصَّوَابِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: تَيَمَّمْنَا إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَذَلِكَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ لَمْ يَنْقِلْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: أَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ، فَلَمَّا سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِهِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ انْتَهَى إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْيَدُ اسْمٌ لِلْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَيَمَّمَ وَمَسَحَ يَدَيْهِ إِلَى مِرْفَقَيْهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْوُضُوءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْدِي هُنَا إِلَى الْمَرَافِقِ اهـ. وَيَعْنِي بِالْقِيَاسِ قِيَاسَ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
[بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ]
(11)
بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
537 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(11)
بَابُ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ
الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالْكَسْرِ مَا يُغْسَلُ بِهِ، وَبِالضَّمِّ غُسْلٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
537 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ ") : بِالرَّفْعِ أَصَحُّ (الْجُمُعَةَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُسَكَّنُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَيْ: صَلَاتَهَا (فَلْيَغْتَسِلْ)، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ ; وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَاعِلٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} [الأعراف: 131] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " {أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكَمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] " وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصُّبْحِ.
قَالَ مِيرَكُ - وَفِيهِ تَأَمُّلٌ -: فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْغُسْلَ عَقِيبُ الْمَجِيءِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَاءَ لِلْجَزَاءِ. قَالَ: وَكَلَامُ الطِّيبِيِّ غَفْلَةٌ عَنِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ:" مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ " وَسَنَدُهَا صَحِيحٌ اهـ. ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْغُسْلِ لِلِاسْتِحْبَابِ الْمُؤَكَّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا سَيَأْتِي، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
538 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
538 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ: الْخِدْرِيِّ: كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ") : مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَظْرُوفِ إِلَى الظَّرْفِ كَمَكْرِ اللَّيْلِ، وَأُخِذَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى يَوْمِهَا لَا إِلَى وَقْتِهَا أَنَّ وَقْتَ غُسْلِهَا يَدْخُلُ بِفَجْرِ يَوْمِهَا، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ خِلَافًا لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الرَّوَاحِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (وَاجِبٌ) : أَيْ: ثَابِتٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ ; لَا أَنَّهُ يَأْثَمُ تَارِكُهُ، خِلَافًا لِمَالِكٍ. قِيلَ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِحْبَابِ كَمَا يُقَالُ: رِعَايَةُ فُلَانٍ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ (عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أَيْ: بَالِغٍ مُدْرِكٍ أَوَانَ الِاحْتِلَامِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْمِهْنَةِ، وَيَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَثِيَابَ الْمِهْنَةِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا مُتَقَارِبَ السَّقْفِ، فَإِذَا عَرِقُوا تَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ، خُصُوصًا فِي بِلَادِهِمُ الَّتِي فِي غَايَةٍ مِنَ الْحَرَارَةِ، فَنَدَبَهُمْ عليه الصلاة والسلام إِلَى الِاغْتِسَالِ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ ; لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْإِجَابَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
539 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
539 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " حَقٌّ ") : أَيْ: ثَابِتٌ وَلَازِمٌ، أَوْ جَدِيرٌ وَلَائِقٌ (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) : أَيْ: بَالِغٍ عَاقِلٍ (أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا) : وَالْمُرَادُ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَمَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى (يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ) : أَوَّلًا (وَجَسَدَهُ) أَيْ: سَائِرَ بَدَنِهِ ثَانِيًا، وَاسْتَثْنَى دَاخِلَ الْعَيْنَيْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِيَغْتَسَلَ مُشْعِرٌ بِبَيَانِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، إِذِ الرَّأْسُ وَالْجَسَدُ مَحَلَّانِ لِلْوَسَخِ غَالِبًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ وَتَقْدِيمُ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَفِي الْوُضُوءِ سُنَّتَانِ، وَفِي الْغُسْلِ فَرْضَانِ عِنْدَنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
540 -
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
540 -
(عَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ (ابْنِ جُنْدُبٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَتُفْتَحُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ» ") : الْمُخْتَارُ فِيهَا كَسْرُ النُّونِ وَسُكُونُ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ النُّونِ وَكَسْرُ الْعَيْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ يُطْلَقُ لِلتَّجْوِيزِ وَالتَّحْسِينِ، وَتَقْدِيرُهُ بِتِلْكَ الْفِعْلَةِ هِيَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي " فَبِهَا " لِلسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، بَلْ حُكْمًا مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَبِالسُّنَّةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ أَخْذًا بِالسُّنَّةِ إِذَا اغْتَسَلَ، وَأَمَّا إِذَا تَوَضَّأَ فَإِنَّمَا أَتَى بِالْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَبِالشَّرِيعَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ أَوِ الْفِعْلَةِ أَوِ الْخَصْلَةِ اهـ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَبِالرُّخْصَةِ ; إِذِ الْفِعْلَةُ وَالْخَصْلَةُ مُبْهَمَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ، قِيلَ: فَبِالرُّخْصَةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ السُّنَّةُ الَّتِي تَرَكَهَا، أَيِ: الْغُسْلُ، وَهَذَا وَإِنْ قَوِيَ مَعْنًى ضَعِيفٌ لَفْظًا ; لِاخْتِلَافِ مَرْجِعِ الضَّمِيرَيْنِ مَعَ عَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَرْجِعِ الثَّانِي، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَبِالْفَرْضِيَّةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْفَرْضِيَّةُ هِيَ، أَيْ: أَوْ بِخَصْلَةِ النَّظَافَةِ أَخَذَ، وَنِعْمَتِ الْخَصْلَةُ هِيَ. (وَمَنِ اغْتَسَلَ) : أَيْ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِصَلَاتِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ إِلَّا قَبْلَ الْفَرْضِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ (فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) : لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ أَكْمَلُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِأَنَّ غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا خَبَرُ مُسْلِمٍ:" «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغِ الْقَائِلَ بِالْوُجُوبِ، وَأَمَّا ادِّعَاءُ أَنَّ حَدِيثَ الْوُجُوبِ أَصَحُّ فَقُدِّمَ عَلَى هَذَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ أَصَحِّيَّتَهُ لَا تَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ إِلَّا عَلَى ضِدِّهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ الصَّحِيحِ بِالْأَصَحِّ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَمِنْ ثَمَّ أَوَّلْنَا الْأَصَحَّ بِمَا يُوَافِقُ الصَّحِيحَ لَا الْعَكْسُ ; لِتَعَذُّرِهِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يُطْلَقُ كَثِيرًا شَائِعًا عَلَى التَّأْكِيدِ ; كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَدْحُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَجَعْلُ الْغُسْلِ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلَا يُطْلَقُ ذَلِكَ مَعَ فَرْضِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مُطْلَقًا.
541 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: " وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ".
ــ
541 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ غَسَّلَ ") : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (" مَيِّتًا ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (" فَلْيَغْتَسِلْ ") : لِإِزَالَةِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ، وَقِيلَ: أَمْرُ وُجُوبٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ رَشَاشِ الْمَغْسُولِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَكَانَهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ بَدَنِهِ، فَإِنْ عَلِمَ بِعَدَمِهَا فَلَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الشَّكِّ لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، مَعَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عَلَى الصَّحِيحِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا مَنْسُوخٌ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلِ سُئِلَ عَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ؟ قَالَ: يُجْزِئُهُ الْوُضُوءُ. كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.
(وَزَادَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَحَسَّنَهُ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَنْكَرُوا عَلَى التِّرْمِذِيِّ تَحْسِينَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ: وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَرَّجَ بَعْضُهُمْ لِتَصْحِيحِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدُ:" وَمَنْ حَمَلَهُ ") : أَيِ: الْمَيِّتَ يَعْنِي مَسَّهُ أَوْ أَرَادَ حَمْلَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَلْيَتَوَضَّأْ) : أَيْ: لِيَكُنْ عَلَى وُضُوءٍ حَالَ حَمْلِهِ ; لِيَتَهَيَّأَ لَهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لِيُجَدِّدَ الْوُضُوءَ احْتِيَاطًا ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لِشِدَّةِ دَهْشَتِهِ وَخَوْفِهِ مِنْ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَثِقَلِ حَمْلِهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْأَمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ اتِّفَاقًا.
542 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
542 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ) : أَيْ: يَرَى الْغُسْلَ (مِنْ أَرْبَعٍ) : أَيْ: يَأْمُرُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْهُنَّ ; إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَسَّلَ مَيِّتًا فَاغْتَسَلَ مِنْ غُسْلِهِ، فَإِنَّهُ مَا غَسَّلَ مَيِّتًا قَطُّ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَ مَاعِزًا أَيْ: أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْغَسَّالَ بِالِاغْتِسَالِ. وَقَوْلُهَا:(مِنَ الْجَنَابَةِ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا فَمِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَقِيلَ: ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ لَا تَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ بَلْ تَعَسُّفٍ، ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِي عَطْفِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حُجَّةٍ كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، قَالَ تَعَالَى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْأَكْلُ جَائِزٌ، وَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا فِيهِمَا (وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ) : بِالْجَرِّ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَإِنْ صَحَّ النَّصْبُ فَيَكُونُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْجَنَابَةِ، لَكِنْ لَا مَعْنَى لِلْغُسْلِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِجَعْلِ مِنَ الْمُقَدَّرَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَطْفِ لِلتَّعْلِيلِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا قِيلَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِمَنْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لَهُ وَلِكَرَامَتِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ وَلِكَرَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِهِ فَلَمْ يَصْلُحِ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَرْكِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْغُسْلِ الْوَاحِدِ فِيهِ يَنُوبُ عَنِ الْجَنَابَةِ وَعَنِ السُّنَّةِ (وَمِنَ الْحِجَامَةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: لِلْمَحْجُومِ، وَاغْتِسَالُهُ مِنَ الْحِجَامَةِ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَلَمَّا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ رَشَاشِ الْحِجَامَةِ فَتُسْتَحَبُّ النَّظَافَةُ، وَتَرْدِيدُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغُسْلَ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ لِلْمَحْجُومِ أَوْ لَهُ وَلِلْحَاجِمِ؟ لَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اغْتَسَلَ لَمَّا حَجَمَهُ غَيْرُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ حَجْمِهِ هُوَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقُلْ عَنْهُ، وَلَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ لِمَقَامِهِ الشَّرِيفِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ فَتَدَبَّرْ (وَمَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ) .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَسَّلَ مَيِّتًا وَاغْتَسَلَ مِنْهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ بَعْضٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. قُلْتُ: سَنَدُهُ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ، وَأَمَّا هَذَا فَغَيْرُ صَرِيحٍ بَلْ مُحْتَمَلٌ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ كَانَ غَالِبًا لِلِاسْتِمْرَارِ وَإِفَادَةِ التِّكْرَارِ، وَهُوَ بِأَصْلِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَاعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ كَمَا فِي رَجَمَ مَاعِزًا أَيْ: أَمَرَ بِرَجْمِهِ، بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ رَكَاكَةٌ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ عَائِشَةَ نَاقِلَةٌ عَنْهُ أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَأَيُّ إِسْنَادٍ إِلَيْهِ هُنَا، حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْرِ، بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادٌ لَوْ تُصُوِّرَ وُجُودُهُ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ أَمْرِهِ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا سَفْسَافٌ اهـ.
قُلْتُ: الرَّكَاكَةُ وَالْفَسَادُ إِنَّمَا ظَهَرَ لِفَسَادِ الْفَهْمِ فِي مَحَلِّ إِسْنَادٍ، فَالطِّيبِيُّ لَمَّا نَظَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَرَأَى مَا يُوهِمُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَسَّلَ الْمَيِّتَ، وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ حَمْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ:" كَانَ يَغْتَسِلُ " عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لِتَعَذُّرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فَقَالَ: مَعْنَى يَغْتَسِلُ أَيْ: كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ أَرْبَعٍ، وَلِذَا جَعَلَ نَظِيرَهُ رَجْمَ مَاعِزٍ، فَإِنَّ الرَّجْمَ مَا وَقَعَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام اتِّفَاقًا، بَلْ وَقَعَ بِأَمْرِهِ، فَتَأَمَّلْ لِيَظْهَرْ لَكَ مَوْضِعُ الزَّلَلِ وَمَوْضِعُ الْخَطَلِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ مِيرَكُ شَاهْ: لَمْ يُنْقُلْ عَنْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غَسَّلَ مَيِّتًا قَطُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:" يَغْتَسَلُ "، وَسَاقَهُ.
543 -
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ «يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ
ــ
543 -
(وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ أَسْلَمَ) : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَفْدِ تَمِيمٍ وَأَسْلَمَ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ» ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْحِلْمِ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ حَكِيمٌ، وَخَلْقٌ سِوَاهُ. (فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) : ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ اغْتِسَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ غُسْلٌ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْمُحْتَمَلَةِ عَلَى أَعْضَائِهِ مِنَ الْوَسَخِ وَالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ عليه الصلاة والسلام بِالْغُسْلِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْظِيفِ ; لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ الْجَسَدَ، وَاغْتِسَالُهُ مُؤَخَّرٌ عَنْ قَوْلِ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ فِي الْأَصَحِّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: يَجِبُ الْغُسْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، وَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ جَامَعَ أَوِ احْتَلَمَ فِي الْكُفْرِ، فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنِ اغْتَسَلَ فِيهِ. عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكْفِيهِ اغْتِسَالُهُ فِيهِ، وَيُسَنُّ أَيْضًا حَلْقُ رَأْسِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَا بَعْدَهُ ; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاغْتَسِلْ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَحَسَّنَهُ (وَأَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ الْمُنْذِرِيُّ (وَالنَّسَائِيُّ) : وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
544 -
عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا؟ قَالَ: لَا ; وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ وَخَيْرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ. وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ، إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ، حَتَّى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ، آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الرِّيَاحَ، قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ ; فَاغْتَسِلُوا، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَكُفُوا الْعَمَلَ، وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
544 -
(عَنْ عِكْرِمَةَ) : هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ مَكَّةَ وَتَابِعِيهَا، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هَلْ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: عِكْرِمَةُ. (قَالَ: إِنَّ نَاسًا) : وَفِي نُسْخَةٍ: أُنَاسًا (مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ) : وَهُوَ بِلَادٌ مِنْ عَبَّادَانِ إِلَى مَوْصِلٍ طُولًا، وَمِنَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضًا، وَالْعِرَاقَانِ: الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ. كَذَا فِي الْقَامُوسِ.
(جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ) : جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ مِنْ عَدَمِ رِعَايَةِ مَزِيدِ الْأَدَبِ فِي الْخِطَابِ مَعَ الْأَكَابِرِ (أَتَرَى) : بِفَتْحِ التَّاءِ مِنَ الرَّأْيِ: تَعْتَقِدُ (الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) : ظَرْفٌ لِلْغُسْلِ (وَاجِبًا؟ قَالَ: لَا) : أَيْ: لَا أَرَاهُ وَاجِبًا (وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ) : أَيْ: أَكْمَلُ طَهَارَةً وَأَفْضَلُ مَثُوبَةً ; لِأَنَّهُ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالسُّنَّةِ (وَخَيْرٌ) : أَيْ: نَفْعٌ كَثِيرٌ (لِمَنِ اغْتَسَلَ) : وَأَفْضَلُ لَهُ مِنَ الْوُضُوءِ (وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ) : وَاكْتَفَى بِالْوُضُوءِ (فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ) : هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: فَلَا بَأْسَ ; إِذْ لَيْسَ الْغُسْلُ فِيهِ وَاجِبًا (وَسَأُخْبِرُكُمْ) : السِّينُ لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلِاسْتِقْبَالِ (كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: سَبَبُ ابْتِدَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، أَوْ سُنِّيَّتِهِ لِلْجُمُعَةِ (كَانَ النَّاسُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ النَّاسِ الصَّحَابَةُ ; فَإِنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ (مَجْهُودِينَ) : يُقَالُ: جَهُدَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَجْهُودٌ، إِذَا وَجَدَ مَشَقَّةً، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُسَلَّطًا عَلَيْهِمُ الْجُهْدُ وَالْمَشَقَّةُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لَهُمْ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ وَأَوْلَاهَا، وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنِ الدُّنْيَا وَقَوَاطِعِهَا إِلَّا مَا يُضْطَرُّ إِلَى مُبَاشَرَتِهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَحْذُورِهَا (يَلْبَسُونَ الصُّوفَ) : جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ (وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ) أَيْ: فَيَعْرَقُونَ (وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ) : أَيْ: مَسْجِدُهُ عليه الصلاة والسلام، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِصَلَاتِهِمْ فِيهِ (ضَيِّقًا) : بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ (مُقَارِبَ السَّقْفِ) : لِعَدَمِ ارْتِفَاعِهِ فَيَكُونُ غَيْرَهَا (إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ) : أَيْ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ كَعَرِيشِ الْكَرْمِ يَعْنِي الْقَصْدَ مِنْهُ الِاسْتِظْلَالُ،