المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب تغير الناس] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ]

- ‌[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]

- ‌[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

- ‌[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

- ‌[بَابُ الظُّلْمِ]

- ‌[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

- ‌[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]

- ‌[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

- ‌[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

- ‌[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

- ‌[كِتَابُ الْفِتَنِ]

- ‌[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

- ‌[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

- ‌[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]

- ‌[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ]

- ‌[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [

- ‌بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

- ‌[بَابُ الْحَشْرِ]

- ‌[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

- ‌[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

الفصل: ‌[باب تغير الناس]

5358 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ: خَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْقَصْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأُعْطِي مَنْ حَرَمَنِي، وَأَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا، وَنُطْقِي ذِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً، وَآمُرُ بِالْعُرْفِ» " وَقِيلَ: (بِالْمَعْرُوفِ) . رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

5358 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ ") أَيْ: خِصَالٍ (" خَشْيَةِ اللَّهِ ") بِالْجَرِّ وَيَجُوزُ أُخْتَاهُ، أَيْ: خَوْفِهِ الْمَقْرُونِ بِالْعَظَمَةِ (" فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ") أَيْ: فِي الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ، أَوْ فِي الْخَلَا وَالْمَلَا (" وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ") بِالْقَصْرِ أَيْ: فِي الْحَالَيْنِ (" وَالْقَصْدِ ") أَيِ: الِاقْتِصَادِ فِي الْمَعِيشَةِ، أَوِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، غَيْرِ خَارِجٍ عَنْهُمَا بِالْجَزَعِ وَالطُّغْيَانِ (" فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي ") أَيْ: مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا غَايَةُ الْحِلْمِ وَنِهَايَةُ التَّوَاضُعِ، (" وَأُعْطِي مَنْ حَرَمَنِي ") وَهَذَا كَمَالُ الْكَرَمِ وَالْجُودِ (وَأَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي) أَيْ: مَعَ قُدْرَتِي عَلَى الِانْتِقَامِ، هَذَا نَتِيجَةُ الصَّبْرِ، وَقَضِيَّةُ الشُّكْرِ، وَرِعَايَةُ الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، (" وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا ") أَيْ: فِي أَسْمَائِكَ، وَصِفَاتِكَ، وَمَصْنُوعَاتِكَ، وَمَعَانِي آيَاتِكَ (" وَنُطْقِي ذِكْرًا ") أَيْ: بِتَسْبِيحِكَ وَتَحْمِيدِكَ، وَتَقْدِيسِكَ وَتَمْجِيدِكَ، وَتَكْبِيرِكَ وَتَوْحِيدِكَ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِكَ، وَمَوْعِظَةِ عِبَادِكَ (" وَنَظَرِي عِبْرَةً ") أَيْ: فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، (وَآمُرُ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: بَدَلًا مِنْ عَنِ الْعُرْفِ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ اكْتِفَاءً، أَوِ الْعُرْفُ يَشْمَلُ الْمَعْرُوفَ فِي الشَّرْعِ ارْتِكَابًا وَاجْتِنَابًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ذَكَرَ تِسْعًا وَأَتَى بِعَشْرٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَاشِرُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ عَقِبَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحْسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَرَنِي رَبِّي بِأَنْ أَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَآمُرَ غَيْرِي بِالِاتِّصَافِ بِهَا، فَالْوَاوَاتُ كُلُّهَا عَطَفَتِ الْمُفْرَدَ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَآمُرُ بِالْمَعْرُوفِ عَطَفَتِ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى الْمَجْمُوعِ بِحَسْبَ اللَّفْظِ، وَنَحْوُهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ - وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21] . (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

ص: 3359

5359 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُمُوعٌ وَإِنْ كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يُصِيبُ شَيْئًا مِنْ حَرِّ وَجْهِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5359 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ ") أَيْ: أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا (" دُمُوعٌ ") أَيْ: دَمَعَاتٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثٌ (" وَإِنْ كَانَ ") أَيِ: الْخَارِجُ أَوْ كُلُّ دَمْعٍ (" مِثْلَ رَأْسِ الذُّبَابِ ") أَيْ: كَمِّيَّةً أَوْ كَيْفِيَّةً (" مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُصِيبُ ") بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: يَصِلُ الدَّمْعُ (" شَيْئًا مِنْ حُرِّ وَجْهِهِ ") بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، أَيْ: خَالِصَةً، فَفِي الْقَامُوسِ: حُرُّ الْوَجْهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْكَ وَبَدَا لَكَ مِنْهُ (" إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ") وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمَوْصُوفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى حُرِّ وَجْهِهِ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ تَحْرِيمِ ذَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ:" «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنَيْهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَيُصِيبُ حُرَّ وَجْهِهِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ أَبَدًا» " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

ص: 3359

[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

ص: 3359

[7]

بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5360 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[7]

بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ

أَيْ: بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ الْمُوَافِقُ لِمَضْمُونِ أَكْثَرِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّغَيُّرِ اخْتِلَافُ حَالَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ فِي مُنَازَلَاتِهِمُ الشَّامِلَةِ لِتَغَيُّرِ أَزْمِنَتِهِمْ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5360 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا النَّاسُ ") أَيْ: فِي اخْتِلَافِ حَالَاتِهِمْ وَتَغَيُّرِ صِفَاتِهِمْ (" كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ ") قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جل جلاله: اللَّامُ فِيهِمَا لِلْجِنْسِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الرِّوَايَةُ فِيهِ عَلَى الثَّبْتِ كَإِبِلٍ مِائَةٍ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فِيهِمَا (" لَا تَكَادُ ") أَيْ: لَا تَقْرُبُ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا (" تَجِدُ فِيهَا ") أَيْ: فِي مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ (" رَاحِلَةً ") أَيْ: نَاقَةً شَابَّةً، قَوِيَّةً، مُرْتَاضَةً، تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، فَكَذَلِكَ لَا تَجِدُ فِي مِائَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ، وَحَمْلِ الْمَوَدَّةِ وَرُكُوبِ الْمَحَبَّةِ، فَيُعَاوِنُ صَاحِبَهُ وَيَلِينُ لَهُ جَانِبُهُ، وَهَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى مَشْرُوفٍ، وَلَا لِرَفِيعٍ مِنْهُمْ عَلَى وَضِيعٍ، كَإِبِلِ الْمِائَةِ لَا يَكُونُ فِيهَا رَاحِلَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً صِفَةُ الْإِبِلِ، وَالتَّشْبِيهُ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ، وَبَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ النَّاسِ لِلْإِبِلِ، قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَرْضِيَّ الْمُنْتَخَبَ مِنَ النَّاسِ الصَّالِحَ لِلصُّحْبَةِ سَهْلُ الِانْقِيَادِ عَسِرٌ وَجُودُهُ، كَالنَّجِيبَةِ الصَّالِحَةِ لِلرُّكُوبِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْإِبِلِ الْكَثِيرَةِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأَحْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، فَذَكَرَ الْمِائَةَ لِلتَّكْثِيرِ لَا لِلتَّحْدِيدِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْمُخْلِصِ مِنْ قَبِيلِ الْكِيمْيَاءِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْعَنْقَاءِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُرَفَاءِ:

أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا

أَنْ تَرَى مُلْتَقَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ

وَقَالَ الْآخَرُ:

وَإِذَا صَفَا لَكَ مِنْ زَمَانِكَ وَاحِدٌ

فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ

وَكَانَ يَقُولُ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: هَذَا زَمَانُ قَحْطِ الرِّجَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلًا التُّسْتَرِيَّ خَرَجَ مِنْ مَسْجِدٍ وَرَأَى خَلْقًا كَثِيرًا فِي دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، فَقَالَ: أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَثِيرٌ، وَالْمُخْلِصُونَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ، وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وَمِنْهَا:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ - وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: إِنَّمَا النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ بِالتَّنْكِيرِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 3360

5361 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ "، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: " فَمَنْ؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5361 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَتَتَّبِعُنَّ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ: لَتُوَافِقُنَّ بِالتَّبَعِيَّةِ (" سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ") بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سُنَّةٍ، وَهِيَ لُغَةً الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً، وَالْمُرَادُ هُنَا طَرِيقَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ، مِنْ تَغَيُّرِ دِينِهِمْ وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِمْ، كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ السِّينِ، فَفِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْ: طَرِيقَهُمْ (" شِبْرًا بِشِبْرٍ ") : حَالٌ

ص: 3360

مِثْلَ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ") أَيْ: سَتَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، (" حَتَّى لَوْ دَخَلُوا ") أَيْ: مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (" جُحْرَ ضَبٍّ ") وَهُوَ مِنْ أَضَيْقِ أَنْوَاعِ الْجُحْرِ وَأَخْبَثِهَا (" تَبِعْتُمُوهُمْ ") وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بُعِثَ لِإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيُ آخِرِ الْأُمَمِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكَمَالِ مِنهُمْ مَوْصُوفِينَ بِجَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ النُّقْصَانِ مِنْهُمْ فِي كَمَالِ الْمَرْتَبَةِ الْقُصْوَى مَنْعُوتِينَ بِجَمِيعِ الْخِلَالِ الذَّمِيمَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ذَكَرَ أَنَّهُ ارْتَاضَ بِجَمِيعِ مَا سَمِعَ رِيَاضَاتِ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ، فَأُعْطِيَ لَهُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ، وَأَيْضًا نَوْعُ بَنِي آدَمَ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الطَّبْعِ الْمَلَكِيِّ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوَانِيِّ، وَمِنَ الْطَبْعِ الْحَيَوَانِيِّ النَّفْسَانِيِّ السُّفْلَانِيِّ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْعُلُوِّ فَيَصِيرُ إِلَى الرُّتْبَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَسْفَلَ فَيَسِيرُ فِي طَرِيقَتِهِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَهَائِمِ أَدْنَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وَهُنَا يَنْفَتِحُ بَابُ الْقَضَاءِ، وَلَا خَلَاصَ إِلَى الْقَضَاءِ إِلَّا بِقَوْلِهِ:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] ، فَتَأَمَّلْ، (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتَعْنِي بِمَنْ نَتْبَعُهُمْ، أَوْ بِمَنْ قَبْلَنَا سُنَّةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (" فَمَنْ ") ؟ أَيْ إِنْ لَمْ أُرِدْهُمْ فَمَنْ (" سِوَاهُمْ ") ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ الْمَشْهُورُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مُنْدَرِسُونَ، فَإِذَا أُطْلِقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَهُمُ الْمُرَادُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَالَ شَارِحٌ:(فَمَنْ) اسْتِفْهَامٌ أَيْ: فَمَنْ يَكُونُ غَيْرُهُمْ يَعْنِي الْمَتْبُوعِينَ لَكُمْ هُمْ لَا غَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: رُوِيَ (الْيَهُودِ) بِالْجَرِّ أَيْ: هَلْ نَتَّبِعُ سُنَنَ الْيَهُودِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ يَعْنِي: قَبْلَنَا هُمُ الْيَهُودُ، انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَيِ: الْمَتْبُوعُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمْ غَيْرُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» ".

ص: 3361

5362 -

وَعَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5362 -

(وَعَنْ مِرْدَاسٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (الْأَسْلَمِيِّ) : كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ حَدِيثًا وَاحِدًا لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَذْهَبُ ") أَيْ: يَمُوتُ (" الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ ") بِالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنَ " الصَّالِحُونَ "، وَبِالنَّصْبِ حَالٌ أَيْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، أَوْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، (" وَتَبْقَى حُفَالَةٌ ") بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ حُثَالَةٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ الْفَاءِ، وَمَعْنَاهُمَا: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَالتَّنْكِيرُ فِي حُفَالَةٍ لِلتَّحْقِيرِ (" كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ ") أَيْ: نُخَالَتِهِ (" أَوِ التَّمْرِ ") أَيْ: دَقْلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ، أَيِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمْ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، وَهَكَذَا يَنْتَهِي إِلَى الْحُفَالَةِ مِثْلَ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ، قَالَ الْقَاضِي: الْحُفَالَةُ رَذَالَةُ الشَّيْءِ وَكَذَا الْحُثَالَةُ، وَالْفَاءُ وَالثَّاءُ يَتَعَاقَبَانِ كَثِيرًا، (" لَا يُبَالِيهِمُ اللَّهُ ") أَيْ: لَا يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْرًا، وَلَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْنًا (" بَالَةً ") أَيْ: مُبَالَاةً، فَيَكُونُ مَحْذُوفَ الْمِيمِ وَالْأَلِفِ لِكَوْنِهِمَا مِنَ الزَّوَائِدِ، كَمَا قِيلَ فِي لَبَّيْكَ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مَنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، وَأَصَابَ بَالَةً بَالِيَةً، مِثْلَ عَافَاهُ اللَّهُ عَافِيَةً، فَحَذَفُوا الْيَاءَ مِنْهَا تَخْفِيفًا، يُقَالُ: مَا بَالَيْتُهُ وَمَا بَالَيْتُ بِهِ وَمِنْهُ، أَيْ: لَمْ أَكْثَرِتْ بِهِ، وَقِيلَ: بَالَةٌ بِمَعْنَى حَالَةٍ، أَيْ: لَا يُبَالِي اللَّهُ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِهِ، وَمِنْهُ الْبَالُ بِمَعْنَى الْحَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

ص: 3361

الْفَصْلُ الثَّانِي

5363 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطِيَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ، سَلَّطَ اللَّهُ شِرَارَهَا عَلَى خِيَارِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5363 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطِيَاءَ ") بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْأَوْلَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ مَمْدُودَةً وَتُقْصَرُ، بِمَعْنَى: التَّمَطِّي، وَهُوَ الْمَشْيُ فِيهِ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ، وَيُرْوَى بِغَيْرِ الْيَاءِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ لَفْظُ الْجَامِعِ، وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: مَشْيَ تَبَخْتُرٍ، وَقِيلَ إِنَّهُ حَالٌ، أَيْ: إِذَا صَارُوا فِي نُفُوسِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ وَعَلَى غَيْرِهِمْ مُتَجَبِّرِينَ، (وَخَدَمَتْهُمْ) وَفِي الْجَامِعِ: خَدَمَهَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَالْمَعْنَى قَامَ بِخِدْمَتِهِمْ وَانْقَادَ فِي حَضْرَتِهِمْ (" أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ ") بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَيَانٌ لَهُ، (" سَلَّطَ اللَّهُ شِرَارَهَا ") وَلَفْظُ الْجَامِعِ: سَلَّطَ شِرَارَهَا، أَيْ: ظَلَمَةَ الْأُمَّةِ (" عَلَى خِيَارِهَا ") أَيْ: مَظْلُومِهِمْ. قَالَ الشُّرَّاحُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْمَغِيبِ، وَوَافَقَ الْوَاقِعُ خَبَرَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ وَتَجَمُّلَاتِهِمْ وَسَبَوْا أَوْلَادَهُمْ فَاسْتَخْدَمُوهُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّطَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا هَكَذَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3362

5364 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ، وَتَجْتَلِدُوا بِأَسْيَافِكُمْ، وَيَرِثُ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ» " - رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5364 -

(وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتُلُوا إِمَامَكُمْ» ") أَيِ: الْخَلِيفَةَ أَوِ السُّلْطَانَ (" وَتَجْتَلِدُوا ") أَيْ: تَتَضَارَبُوا (" بِأَسْيَافِكُمْ وَيَرِثُ دُنْيَاكُمْ شِرَارُكُمْ ") بِأَنْ يَصِيرَ الْمُلْكُ وَالْمَالُ وَالْمَنَاصِبُ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ، وَغَيْرِ أَرْبَابِ الِاسْتِحْقَاقِ (" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ") .

ص: 3362

5365 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعَ» ".

رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ــ

5365 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ ") بِنَصْبِ أَسْعَدَ وَيُرْفَعُ، أَيْ: أَكْثَرَهُمْ مَالًا، وَأَطْيَبَهُمْ عَيْشًا، وَأَرْفَعَهُمْ مَنْصِبًا، وَأَنْفَذَهُمْ حُكْمًا (" بِالدُّنْيَا ") أَيْ: بِأُمُورِهَا أَوْ فِيهَا (" لُكَعُ بْنُ لَكْعَ ") بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْكَافِ غَيْرُ مَصْرُوفٍ، أَيْ: لَئِيمُ بْنُ لَئِيمٍ، أَيْ: رَدِيءُ النِّسَبِ دَنِيءُ الْحَسَبِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ وَلَا يُحْمَدُ لَهُ خُلُقٌ، وَحُذِفَ أَلِفُ ابْنٍ لِإِجْرَاءِ اللَّفْظَيْنِ مَجْرَى عَلَمَيْنِ لِشَخْصَيْنِ خَسِيسَيْنِ لَئِيمَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ رحمه الله فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِنَصْبِ أَسْعَدَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ يَكُونُ، وَفِي بَعْضِهَا بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَكُونُ لِلشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ، انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْعَدُ اسْمًا، وَلُكَعُ يُنْصَبُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَغُرُّكَ مَا فِي بَعْضِ النَّسْخِ مِنْ نَصْبِ لُكَعَ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ شَارِحٌ عَلَى نَصْبِ أَسْعَدَ، وَقَالَ: لُكَعُ بِالرَّفْعِ اسْمُ يَكُونُ، وَهُوَ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الْعَبْدُ وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنِ اللُّكَعِ، يُقَالُ: لَكِعَ الْوَسَخُ عَلَيْهِ لَكَعًا فَهُوَ لُكَعٌ إِذَا الْتَصَقَ بِهِ، وَلِلرَّجُلِ اللَّئِيمِ كَمَا عَدَلَتْ لُكَاعُ الْمَرْأَةُ اللَّئِيمَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلْأَحْمَقِ وَالْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ، وَلِلْجَحْشِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخِفَّةِ، وَلِلصَّبِيِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، وَيُقَالُ لِلذَّلِيلِ الَّذِي تَكُونُ نَفْسُهُ كَالْعَبِيدِ، وَأُرِيدَ بِهِ هَاهُنَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا يُحْمَدُ لَهُ خُلُقٌ، انْتَهَى.

وَبِهَذَا ظَهَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أَثِمَ لُكَعُ "، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّغِيرِ قَدْرًا وَجُثَّةً، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِلْمَرَامِ، وَلِذَا قِيلَ: يُقَالُ لِلصَّبِيِّ

ص: 3362

الصَّغِيرِ لُكَعٌ مَصْرُوفًا، ذَهَابًا إِلَى صِغَرِ جُثَّتِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ وَاللَّئِيمِ وَالْأَحْمَقِ لِصِغَرِ قَدْرِهِمْ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَيَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ بِلُكَعَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ: الصَّغِيرِ، وَالْحَقِيرِ، وَالْعَبْدِ، وَالْأَحْمَقِ، وَاللَّئِيمِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لَيْسَ بِمَعْدُولٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ صَرِدٍ وَنَغِرٍ، فَحَقُّهُ أَنْ يُنَوَّنَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُول، وَفِي الْقَامُوسِ: اللُّكَعُ كَصَرِدِ اللَّئِيمِ وَالْعَبْدِ الْأَحْمَقِ، وَمَنْ لَا يَتَّجِهُ لِمَنْطِقٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَالْمُهْرِ، وَالصَّغِيرِ، وَالْوَسِخِ، وَيَقُولُ فِي النِّدَاءِ: يَا لُكَعُ، وَلَا يُصْرَفُ فِي الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ اللُّكَعِ، انْتَهَى، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ لُكَعُ هُنَا مَصْرُوفًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَدْلِ وَالصِّفَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (والْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالضِّيَاءُ.

وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ» "، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ الزُّهْدُ رِوَايَةً وَالدِّرْعُ تَصَنُّعًا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ» ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ» ، وَرَوَى السِّجْزِيُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ سَبْعُونَ كَذَّابًا، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ» . وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ عَلَامَةً لِقِيَامِ السَّاعَةِ، مُسْتَوْفًى الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 3363

5366 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ الْقُرَظِيِّ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي «مَنْ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، مَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ، وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ؟ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ، نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ، وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ. قَالَ: " لَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5366 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ) بِضَمِّ قَافٍ وَفَتْحِ رَاءٍ فَظَاءٍ مُعْجَمَةٍ نِسْبَةً إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، طَائِفَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ وَقَالَ: سَمِعَ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَتُرِكَ.

(قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَمْ يُسَمَّ هَذَا السَّامِعُ، لَكِنْ تَابِعِيٌّ تُغْفَرُ جَهَالَتُهُ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا آخَرَ، فَتَدَبَّرْ، (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ رضي الله عنه (إِنَّا لَجُلُوسٌ) أَيْ: جَالِسُونَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدِ قِبَاءٍ (فَاطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: فَظَهَرَ (عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، وَعُمَيْرٌ مُصَغَّرٌ (مَا عَلَيْهِ) أَيْ: لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ (إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ) أَيْ: كِسَاءٌ مَخْلُوطُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ (مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ)، أَيْ: مُرَقَّعَةٌ بِجِلْدٍ، قَالَ مِيرَكُ: هُوَ قُرَشِيٌّ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكَ النِّعْمَةَ وَالْأَمْوَالَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ السَّاكِنِينَ فِي مَسْجِدِ قِبَاءٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَبْدَرِيٌّ كَانَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي أَوَّلِ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُصْعَبًا بَعْدَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْعَمِ النَّاسِ عَيْشًا وَأَلْيَنِهِمْ لِبَاسًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ زَهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ بَايَعَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، فَكَانَ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فِي دُورِهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ السَبْعِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ نَزَلَ:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ. (فَلَمَّا رَآهُ) أَيْ: أَبْصَرَ مُصْعَبًا بِتِلْكَ الْحَالِ الصَّعْبَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى لِلَّذِي) أَيْ: لِلْأَمْرِ الَّذِي (كَانَ فِيهِ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (مِنَ النِّعْمَةِ

ص: 3363

وَالَّذِي هُوَ فِيهِ) أَيْ: وَلِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ (الْيَوْمَ) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ بُكَاءَهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لَهُ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ لِمَا رَآهُ مِنْ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ عَزِيزًا فِي قَوْمِهِ، وَمُنْغَمِسًا فِي نِعْمَتِهِ، لَكِنْ يُنَافِيهِ بَعْضَ الْمُنَافَاةِ مَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عُمَرَ، حَيْثُ بَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَجِعًا عَلَى حَصِيرِ سَرِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَقَدْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ عَلَى بَدَنِهِ الشَّرِيفِ، وَتَذَكَّرَ عُمَرُ تَنَعُّمَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فَقَالَ لَهُ: " أَنْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْبُكَاءُ عَلَى الْفَرَحِ فِي أَنَّهُ وَجَدَ فِي أُمَّتِهِ مَنِ اخْتَارَ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْعُقْبَى، أَوْ عَلَى الْحُزْنِ فِي فَقْدِ مَا عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْمُسَاعَدَةِ لِبَعْضِ الْكِسْوَةِ، أَوْ لِمُعَاوَنَةٍ فِي بَعْضِ الْمَعِيشَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَنَا نَقْلُ الرَّاوِي.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيْفَ ") أَيِ: الْحَالُ (" بِكُمْ إِذَا غَدَا ") أَيْ: ذَهَبَ أَوَّلَ النَّهَارِ (" أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ ") بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، أَيْ: فِي ثَوْبٍ، أَوْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ (" وَرَاحَ ") أَيْ: ذَهَبَ آخِرَ النَّهَارِ (فِي حُلَّةٍ ") ؟ أَيْ أُخْرَى مِنَ الْأُولَى.

قَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُكُمْ بِحَيْثُ يَلْبَسُ كُلٌّ مِنْكُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ حُلَّةً وَآخِرَهُ أُخْرَى مِنْ غَايَةِ التَّنَعُّمِ؟ (" وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ ") أَيْ: قَصْعَةٌ مِنْ مَطْعُومٍ (" وَرُفِعَتْ أُخْرَى ") أَيْ: مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُتْرَفِينَ مِنْ طَائِفَةِ الْأَرْوَامِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَصْنَافِ الْأَطْعِمَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْأَطْبَاقِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَنَعِّمِينَ مِنْ طَبَقَةِ الْأَعْجَامِ (" وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ ") بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: جُدْرَانَهَا، وَالْمَعْنَى: زَيَّنْتُمُوهَا بِالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ مِنْ فَرْطِ التَّنْعِيمِ، (" كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ") وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سَتْرَهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهَا لِامْتِيَازِهَا.

(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ ") وَبَيَّنُوا سَبَبَ الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ مُسْتَأْنَفًا فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (نَتَفَرَّغُ) أَيْ: عَنِ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ (لِلْعِبَادَةِ)، أَيْ بِأَنْفُسِنَا (وَنُكْفَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ (الْمُؤْنَةَ) أَيْ: بِخَدَمِنَا، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى: نَدْفَعُ عَنَّا تَحْصِيلَ الْقُوتِ لِحُصُولِهِ بِأَسْبَابٍ مُهَيَّأَةٍ لَنَا، فَنَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَمَلِ بِالْخَيْرَاتِ الْمَدَنِيَّةِ، وَالْمَبَرَّاتِ الْمَالِيَّةِ (قَالَ) وَفَى نُسْخَةٍ فَقَالَ:(" لَا ") أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْتُمْ (" أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ ") ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ كَفَافُ خَيْرٍ مِنَ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَشْتَغِلُ بِدُنْيَاهُ وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ مِثْلَ مَنْ لَهُ كَفَافٌ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ، فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، فَإِنَّ الْغَنِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَقْوِيَاءُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَا بَالُ غَيْرِهِمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:«مَا زُوِيَتِ الدُّنْيَا عَنْ أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ خَيْرَةً لَهُ» ، أَقُولُ: قَوْلُهُ: عَنْ أَحَدٍ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ عَذَابُهُ أَخَفُّ مِنَ الْكَافِرِ الْغَنِيِّ فِي النَّارِ، فَإِذَا نَفَعَ الْفَقْرُ الْكَافِرَ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ الصَّابِرَ فِي دَارِ الْقَرَارِ؟ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3364

5367 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

5367 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ ") أَيْ: فِي أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ (" عَلَى دِينِهِ ") أَيْ: عَلَى حِفْظِ أَمْرِ دِينِهِ بِتَرْكِ دُنْيَاهُ (" كَالْقَابِضِ ") أَيْ: كَصَبْرِ الْقَابِضِ فِي الشِّدَّةِ وَنِهَايَةِ الْمِحْنَةِ (" عَلَى الْجَمْرِ ") : جَمْعُ الْجَمْرَةِ هِيَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجُمْلَةُ صِفَةُ " زَمَانٌ "، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الصَّابِرُ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّ الرَّابِطَ مَذْكُورٌ فِيهِ بِقَوْلِهِ (فِيهِمْ) كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَمَا لَا يَقْدِرُ الْقَابِضُ عَلَى الْجَمْرِ أَنْ يَصْبِرَ بِإِحْرَاقِ يَدِهِ، كَذَلِكَ

ص: 3364

الْمُتَدَيِّنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى دِينِهِ لِغَلَبَةِ الْعُصَاةِ وَالْمَعَاصِي، وَانْتِشَارِ الْفِسْقِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَى الْجَمْرَةِ إِلَّا بِصَبْرٍ شَدِيدٍ، وَتَحَمُّلِ غَلَبَةِ الْمَشَقَّةِ، كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ دِينِهِ وَنُورُ إِيمَانِهِ إِلَّا لِصَبْرٍ عَظِيمٍ وَتَعَبٍ جَسِيمٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَقْوَى، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ مَا أَحَدٌ يَصْبِرُ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقْبَضُ عَلَى الْجَمْرِ أَيْضًا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَمْرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ، أَوْ إِحْرَاقٍ، أَوْ إِغْرَاقٍ وَنَحْوِهَا ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] وَقَدْ أَشَارَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله فِي زَمَانِهِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ:

وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي

كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلَا

قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: أَيْ: هَذَا الزَّمَانُ زَمَانُ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُنْكِرَ الْمَعْرُوفُ وَعُرِفَ الْمُنْكَرُ وَفَسَدَتِ النِّيَّاتُ، وَظَهَرَتِ الْخِيَانَاتُ، وَأُوذِيَ الْمُحِقُّ، وَأُكْرِمَ الْمُبْطِلُ، فَمَنْ يَسْمَعُ لَك بِالْحَالَةِ الَّتِي لُزُومُهَا فِي الشِّدَّةِ كَالْقَابِضِ عَلَى جَمْرِ النَّارِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:" «ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلٍّ بِرَأْيهِ، فَعَلَيْكَ خَاصَّةُ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» "، انْتَهَى. (" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: هَذَا الْحَدِيثُ وَقَعَ لَهُ ثُلَاثِيًّا، وَفِي سَنَدِهِ عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ وَحْدَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، انْتَهَى، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ أَذَلَّ مِنْ شَاتِهِ.

ص: 3365

5368 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنِكُمْ، فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

5368 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ ") وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِذَا كَانَتْ (أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ) أَيْ: أَتْقِيَاءَكُمْ (وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ) أَيْ: أَسْخِيَاءَكُمْ، وَاحِدَةُ سَمْحٍ، فَكَأَنَّهُ جَمْعُ سَمِيحٍ بِمَعْنَى سَمْحٍ (" وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ ") مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَاوُرِ أَيْ: ذَوَاتُ شُورَى عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مُتَشَاوَرٍ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وَالْمَعْنَى: مَا دُمْتُمْ مُتَشَاوِرِينَ فِي أُمُورِكُمْ، (فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُمْ عَامِلُونَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَطُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ (وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ) أَيْ: بِالْفِسْقِ وَالظُّلْمِ (وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ) أَيْ: بِقِلَّةِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ (وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ) أَيْ: مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِهِنَّ، وَالْحَالُ أَنَّهُنَّ مِنْ نَاقِصَاتِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَقَدْ وَرَدَ: شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ، وَفِي مَعْنَاهُنَّ كُلُّ مَنْ يَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ حَالِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِضَرَرِ الدِّينِ وَوَبَالِ الْمَالِ، (فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا) أَيْ: فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3365

5369 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا "، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ "، قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: " حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ــ

5369 -

(وَعَنْ ثَوْبَانَ) : وَهُوَ مَوْلَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُوشِكُ الْأُمَمُ) أَيْ: يَقْرُبُ فِرَقُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ (" أَنْ تَدَاعَى ") : حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، أَيْ: تَتَدَاعَى (عَلَيْكُمْ) :

ص: 3365