المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الأمر بالمعروف] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ]

- ‌[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]

- ‌[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

- ‌[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

- ‌[بَابُ الظُّلْمِ]

- ‌[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

- ‌[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]

- ‌[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

- ‌[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

- ‌[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

- ‌[كِتَابُ الْفِتَنِ]

- ‌[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

- ‌[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

- ‌[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]

- ‌[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ]

- ‌[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [

- ‌بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

- ‌[بَابُ الْحَشْرِ]

- ‌[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

- ‌[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

الفصل: ‌[باب الأمر بالمعروف]

5136 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى وَاللَّهِ، حَتَّى الْحُبَارَى لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا هُزْلًا لِظُلْمِ الظَّالِمِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

5136 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ) : وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] وَقَوْلُهُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وَكَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فَهِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَسْرِي أَثَرُ ظُلْمِهِ إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ (فَقَالَ: بَلَى) أَيْ: بَلَى قَدْ يَضُرُّ غَيْرَهُ أَيْضًا، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ أَثَرُ ضَرَرِهِ عَلَى نَفْسِهِ (وَاللَّهِ حَتَّى) أَيْ: حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمُسْتَأْنَسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى (الْحُبَارَى) : بِضَمِّ الْحَاءِ طَيْرٌ مَشْهُورٌ (لَتَمُوتُ فِي وَكْرِهَا) أَيْ: بَيْتِهَا وَعُشِّهَا (هُزْلًا) : بِضَمِّ هَاءٍ وَسُكُونِ زَايٍ نَقِيضَ السِّمَنِ (لِظُلْمِ الظَّالِمِ) أَيْ: لِأَجْلِ ظُلْمِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وَيُمْهِلُ عَنْ بَعْضٍ وَلَا يُهْمِلُ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] الْآيَةَ. وَفِي النِّهَايَةِ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ الْقَطْرَ عَنِ الْحُبَارَى بِشُؤْمِ ذُنُوبِ الظَّالِمِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً أَيْ: طَبْعًا لِلْكَلَأِ النَّاشِئِ مِنَ الْغَيْثِ، فَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ، وَيُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَمَبِيتِهَا مَسِيرَةَ أَيَّامٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: بَلَى إِيجَابٌ لِمَا نُفِيَ قَبْلَهُ وَهَهُنَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِلْمَنْبَتِ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ لَا يَضُرُّ غَيْرَهُ. فَقَالَ: بَلَى يَضُرُّ غَيْرَهُ حَتَّى يَضُرَّ الْحُبَارَى (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ وَلَفْظُهُ: " «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكَ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، أَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ وَيَتَجَاوَزُ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَمَظَالِمُ لِلْعِبَادِ بَيْنَهُمُ، الْقَصَاصُ لَا مَحَالَةَ» .

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي: فَقَدْ أَخْرَجَهُ سَمُّوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: " «إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ عز وجل» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو لَيْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ: " «اتَّقَوْا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا ; فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَادٌّ وَلَا حِجَابٌ» " رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: " «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ كَأَنَّهَا شَرَارَةٌ» " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَفْظُهُ:" «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» ".

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ أَيْضًا.

ص: 3207

[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

ص: 3207

(22)

بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5137 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

22 -

بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ

وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ، وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ اهـ. وَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَعُمُّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5137 -

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ رَأَى) أَيْ: عَلِمَ (مِنْكُمْ مُنْكَرًا) أَيْ: فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ أَصَالَةً وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ تَبَعًا، وَفِي الْإِتْيَانِ بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهُ إِلَّا مَنْ يَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْإِحْسَانِ وَتَفَاوُتِ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ: مَنْ أَبْصَرَ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ (فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) أَيْ: بِأَنْ يَمْنَعَهُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَكْسِرَ الْآلَاتِ وَيُرِيقَ الْخَمْرَ وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ إِلَى مَالِكِهِ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيِ: التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ وَإِزَالَتَهُ بِالْفِعْلِ، لِكَوْنِ فَاعِلِهِ أَقْوَى مِنْهُ (فَبِلِسَانِهِ) أَيْ: فَلْيُغَيِّرْهُ بِالْقَوْلِ وَتِلَاوَةِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ الْوَعْظِ وَالتَّخْوِيفِ وَالنَّصِيحَةِ (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيِ: التَّغْيِيرَ بِاللِّسَانِ أَيْضًا (فَبِقَلْبِهِ) : بِأَنْ لَا يَرْضَى بِهِ وَيُنْكِرَ فِي بَاطِنِهِ عَلَى مُتَعَاطِيهِ، فَيَكُونُ تَغْيِيرًا مَعْنَوِيًّا إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إِلَّا هَذَا الْقَدْرِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَلْيُنْكِرْهُ بِقَلْبِهِ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِالْقَلْبِ، فَيَكُونُ التَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9](وَذَلِكَ) أَيِ: الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ (أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) أَيْ: شُعَبِهِ أَوْ خِصَالِ أَهْلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَقَلُّهَا ثَمَرَةً، فَمَنْ غَيَّرَ الْمَرَاتِبَ مَعَ الْقُدْرَةِ كَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ تَرَكَهَا بِلَا قُدْرَةٍ أَوْ يَرَى الْمَفْسَدَةَ أَكْثَرَ وَيُكَرِّرُ مُنْكِرًا لِقَلْبِهِ، فَهُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَضْعَفُ زَمَنِ الْإِيمَانِ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيمَانُ أَهْلِ زَمَانِهِ قَوِيًّا لَقَدَرَ عَلَى الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْكَارِ الْقَلْبِيِّ، أَوْ ذَلِكَ الشَّخْصُ الْمُنْكِرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ أَضْعَفُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَوِيًّا صُلْبًا فِي الدِّينِ لَمَا اكْتَفَى بِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ:" «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ لِلْأُمَرَاءِ، وَالثَّانِي لِلْعُلَمَاءِ، وَالثَّالِثُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْكَارُ الْمَعْصِيَةِ بِالْقَلْبِ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَلَمْ يَكْرَهْهُ، وَرَضِيَ بِهِ وَاسْتَحْسَنَهُ كَانَ كَافِرًا، وَلَعَلَّ الْإِطْلَاقَ الدَّالَّ عَلَى الْعُمُومِ لِإِفَادَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَمَا تَأْوِيلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَضْعَفُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ مِنْهَا. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْإِيمَانِ لِانْتِفَائِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ

ص: 3208

ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. قُلْتُ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ الْقَوِيَّةَ وَالضَّعِيفَةَ إِذَا انْتَفَتْ كَانَ الْإِيمَانُ كَالْمَعْدُومِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا لِلْخَصْمِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ مِنَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ، لَا يُقَالُ هَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّا نَقُولُ: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ، هَلْ هُوَ قَابِلٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ أَمْ لَا؟ بَلِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ نَفْسَ الْإِيمَانِ وَجَوْهَرَهُ لَا يَتَجَزَّأُ، أَوْ إِنَّمَا كَمَالُهُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ وُجُودُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ مَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ عَطَفَ الْأَعْمَالَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْأَعْمَالِ جُزْءَ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، فَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ الْمُؤْمِنِ بِهِ، وَهَذَا بَحْثٌ طَوِيلُ الذَّيْلِ مَحَلُّهُ كُتُبُ الْعَقَائِدِ وَمَبَاحِثُ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ حَرَامًا وَجَبَ الزَّجْرُ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا نُدِبَ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا تَبَعٌ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ نُدِبَ فَمَنْدُوبٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ شَامِلٌ لَهُ، إِذِ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَضِدُّ الْمَنْهِيِّ إِمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ وَالْكُلُّ مَعْرُوفٌ، وَشَرْطُهُمَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَأَنْ يُظَنَّ قَبُولُهُ، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ فَيُسْتَحْسَنُ إِظْهَارُ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَفْظُ مَنْ لِعُمُومِهِ شَمِلَ كُلَّ أَحَدٍ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا إِذَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَقْبَحُ ذَلِكَ فِي الْفَاسِقِ قَالَ تَعَالَى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَقَالَ عز وجل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وَأَنْشَدَ:

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى

طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ مَرِيضُ

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ: " فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ " هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهِيَ أَيْضًا مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدَّيْنُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ الرَّوَافِضِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي: لَا نَكْتَرِثُ بِخِلَافِهِمْ، وَوُجُوبُهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَفَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ، فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا هُوَ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهِ إِلَّا هُوَ، وَكَمَنَ يَرَى زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ غُلَامَهُ عَلَى مُنْكَرٍ. قَالُوا: وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِظَنِّهِ أَنْ لَا يُفِيدَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟ قَالُوا: وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى آحَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاةَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَعَ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ وَتَرْكِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى التَّشَاغُلِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْءِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مُدْخَلٌ فِيهِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَى ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ كُلَّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ، وَيَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَرْفُقَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: إِنَّ هَذَا الْبَابَ بَابٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ بِهِ قِوَامُ الْأَمْرِ وَمِلَاكُهُ، فَإِذَا فَسَدَ عَمَّ الْعِقَابُ الصَّالِحَ وَالظَّالِمَ. قَالَ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ.

ص: 3209

5138 -

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُّوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا، وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا، فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِهِ وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5138 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُدَاهِنِ) أَيِ: الْمُدَاهِنُ الْمُتَسَاهِلُ (فِي حُدُودِ اللَّهِ) أَيْ: تَرَكَ الْقِيَامَ لِإِقَامَتِهَا، أَوْ بِالنَّهْيِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ الْحُدُودَ، وَلَعَلَّ التَّخْصِيصَ لِلِاعْتِنَاءِ أَوْ لِأَنَّ ضَرَرَهَا قَدْ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُدُودِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي، فَذَكَرَ الْحُدُودَ لِتَغْلِيبِ الْأَقْوَى، أَوْ لِأَنَّ حَدَّ كُلِّ مَعْصِيَةٍ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ، (وَالْوَاقِعِ فِيهَا) أَيْ: وَمَثَلُ الْفَاعِلِ لِلْمَنَاهِي وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْوَاقِعِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ كَأَنَّهُ طَارِحٌ مِنْ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي هَوَى بِئْرٍ عَمِيقٍ وَمَكَانٍ سَحِيقٍ. (مَثَلُ قَوْمٍ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: كَمَثَلِ جَمْعٍ مُجْتَمِعٍ مِنَ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ (اسْتَهَمُوا سَفِينَةً) أَيِ: اقْتَسَمُوا مَحَالَّهَا وَمَنَازِلَهَا بِالْقُرْعَةِ، وَهَذَا قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي جَمْعٍ خَاصٍّ مَلَكُوهَا بِالشَّرِكَةِ الْمُتَسَاوِيَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الِاقْتِسَامُ بِحَسَبِ أَمْرِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ نَدْبُ الْقُرْعَةِ إِذَا تَشَاجَرُوا أَيْ: تَنَازَعُوا عَلَى الْجُلُوسِ فِي الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَذَلِكَ إِذَا نَزَلُوا فِيهَا جُمْلَةً أَمَّا إِذَا نَزَلُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَصِحُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ السَّفِينَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى الْحُجَّاجِ وَالْغُزَاةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، (فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا) أَيْ: مِنَ الْمَنَازِلِ (وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا) أَيْ: فِي الْمَجْلِسِ (فَكَانَ الَّذِي) أَيْ: وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا (فِي أَسْفَلِهَا) أَيْ: فِي الْبَعْضِ الَّذِي مُسْتَقِرٌّ فِي أَسْفَلِهَا، فَأَفْرَدَ الْمَوْصُولَ نَظَرًا إِلَى لَفْظَةِ الْبَعْضِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ الصُّلَحَاءَ فِي الْأُمَّةِ كَثِيرُونَ، وَأَنَّ الطُّلَحَاءَ قَلِيلُونَ مَغْلُوبُونَ مَقْهُورُونَ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الصَّالِحَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ كَثِيرٌ كَبِيرٌ عَالٍ بِعُلُوِّ الدِّينِ، وَالْفَسَقَةَ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْقِلَّةِ وَمَنْزِلَةِ الذِّلَّةِ وَمَقَامِ أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. (يَمُرُّ بِالْمَاءِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ (عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا، فَتَأَذَّوْا بِهِ) أَيْ: فَتَأَذَّى مَنْ بِالْأَعْلَى بِمُرُورِهِ عَلَيْهِمْ، وَحَاصِلُهُ، أَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَيَذْهَبَ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَفِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ وَإِمْرَارِهِ بِالْمَاءِ عَلَيْهِمْ تَأَذَّوْا بِهِ بِحَيْثُ ظَهَرَ لَهُ، أَوْ أَظْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ أَوِ الْفِعْلِ الشَّنِيعِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَاءُ كِنَايَةً عَنِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَإِمْرَارِهِ لِطَرْحِهِ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُوجَدُ التَّأَذِّي أَكْثَرَ، وَوَجْهُ الْمُضَايَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ أَظْهَرُ خُصُوصًا إِذَا كَانَ أَهْلُ السُّفْلِ فُقَرَاءَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُقْتَضَى طَالِعِهِمْ وَنَازِلِهِمْ فِي الْحَظِّ عَنْ مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صَوَّرَ مَحَلَّ الْأَوَّلِينَ أَعْلَى لَخُلُّوِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي، وَجَعَلَ مُقَابِلَهُمْ أَسْفَلَ لِارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ، (فَأَخَذَ فَأْسًا بِإِبِطِهِ) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدِّلُ أَلِفًا (فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ (يَنْقُرُ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: يَدُقُّ وَيَخْرُقُ وَيَقْطَعُ (أَسْفَلَ السَّفِينَةِ) أَيْ: مِنْ أَلْوَاحِهَا (فَأَتَوْهُ) أَيْ: فَجَاءَهُ أَهْلُ الْعَوَالِي (فَقَالُوا: مَا لَكَ؟) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ بَاعِثٍ لَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ (قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: مِنَ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ طَرْحِهِ (فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: مَنَعُوهُ. يُقَالُ: أَخَذْتُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ إِذَا مَنَعْتَهُ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، كَأَنَّكَ أَمْسَكْتَ يَدَهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (أَنْجَوْهُ) أَيْ: خَلَّصُوهُ (وَنَجَّوْا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: وَخَلَّصُوا (أَنْفُسَهُمْ) أَيْضًا فَخَلَصُوا مِنَ الْهَلَاكَ جَمِيعًا، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَتَيْنِ (وَإِنْ تَرَكُوهُ) أَيْ: عَلَى فِعْلِهِ (أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَذَلِكَ إِنْ مَنَعَ النَّاسُ الْفَاسِقَ عَنِ الْفِسْقِ نَجَا وَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تَرَكُوهُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ وَهَلَكُوا بِشُؤْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] أَيْ: بَلْ تُصِيبُكُمْ عَامَّةً بِسَبَبِ مُدَاهَنَتِكُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهِنَةِ الْمَنْهِيَّةِ وَالْمُدَارَاةِ الْمَأْمُورَةِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا وَيَقْدِرَ عَلَى دَفْعِهِ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ حِفْظًا لِجَانِبِ مُرْتَكِبِهِ، أَوْ جَانِبِ غَيْرِهِ لِخَوْفٍ أَوْ طَمَعٍ، أَوْ لِاسْتِحْيَاءٍ مِنْهُ أَوْ قِلَّةِ مُبَالَاةٍ فِي الدِّينِ، وَالْمُدَارَاةُ مُوَافَقَتُهُ بِتَرْكِ حَظِّ نَفْسِهِ وَحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَعِرْضِهِ، فَيَسْكُتُ عَنْهُ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ

ص: 3210

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى تَحْمُّلُ الْأَذَى مِنَ الْخَلْقِ رِضًا بِمَا قَضَى لَهُ الْحَقُّ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْبَاطِلِ مَعَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُدَارَاةُ فِي أَمْرِ حَقٍّ مَعَ الْأَحِبَّاءِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: شَبَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُدَاهِنَ فِي حُدُودِ اللَّهِ بِالَّذِي فِي أَعْلَى السَّفِينَةِ، وَشَبَّهَ الْوَاقِعَ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِالَّذِي فِي أَسْفَلِهَا، وَشَبَّهَ انْهِمَاكَهُمْ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ وَعَدَمَ تَرْكِهِ إِيَّاهَا بِنَقْرِهِ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، وَعَبَّرَ عَنْ نَهْيِ النَّاهِي الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِالْأَخْذِ عَلَى يَدَيْهِ، وَبِمَنْعِهِ إِيَّاهُ عَنِ النَّقْرِ، وَعَبَّرَ عَنْ فَائِدَةِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِنَجَاةِ النَّاهِي وَالْمَنْهِيِّ، وَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ نَهْيِ النُّهَاةِ بِالتَّرْكَ، وَعَبَّرَ عَنِ الذَّنْبِ الْخَاصِّ لِلْمُدَاهِنِينَ الَّذِينَ مَا نَهَوُا الْوَاقِعَ فِي حُدُودِ اللَّهِ بِإِهْلَاكِهِمْ إِيَّاهُ وَأَنْفُسَهُمْ، وَكَأَنَّ السَّفِينَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ الْمُحِيطِ بِالْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ فِرْقَةَ النُّهَاةِ إِرْشَادًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ وَأَنَّ يَتَعَاوَنُوا عَلَى أَمْثَالِ هَذَا النَّهْيِ، أَوْ إِلَى أَنَّ مَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا النَّهْيُ فَهُوَ كَالْجَمْعِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وَأَفْرَدَ الْوَاقِعَ فِي حُدُودِ اللَّهِ لِأَدَائِهِ إِلَى ضِدِّ الْكَمَالِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3211

5139 -

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ! مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5139 -

(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُجَاءُ) أَيْ: يُؤْتَى (بِالرَّجُلِ) أَيِ: الْمُقَصِّرُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ) أَيْ: تَخْرُجُ سَرِيعًا (أَقْتَابُهُ) أَيْ: أَمْعَاؤُهُ (فَيَطْحَنُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: يَدُورُ (فِيهَا) أَيْ: فِي أَقْتَابِهِ وَأَقْصَابِهِ (كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ) أَيْ: كَدَوَرَانِهِ حَوْلَ رَحَاهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: فَيَطْحَنُ فِيهَا هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ. وَفِي فِيهَا لِلْأَمْعَاءِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: يَدُورُ وَيَتَرَدَّدُ فِي أَقْتَابِهِ، يَعْنِي يَدُورُ حَوْلَ أَقْتَابِهِ وَيَضْرِبُهَا بِرِجْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَيَدُورُ فِي النَّارِ وَمَا حَوْلَهَا، كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ أَيْ: فِي رَحَاهُ. (فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ) أَيْ: مِنَ الْفَسَقَةِ (فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ) : كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ بِالْعِلْمِ أَوِ الْمَشْيَخَةِ (مَا شَأْنُكَ؟) أَيْ: حَالُكَ الْغَرِيبُ وَمَآلُكَ الْعَجِيبُ (أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ) أَيْ: لَا أَفْعَلُهُ (وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 3211

الْفَصْلُ الثَّانِي

5140 -

عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ وَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5140 -

(عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ» ) أَيْ: لِيُسْرِعَنَّ (اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ) أَيْ: لَتَسْأَلُنَّهُ (وَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ) : وَالْمَعْنَى: وَاللَّهِ إِنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ إِمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْكُمْ، وَإِمَّا إِنْزَالُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكُمْ، ثُمَّ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْكُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ:" «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» ".

ص: 3211

5141 -

وَعَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5141 -

(وَعَنِ الْعُرْسِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ (ابْنِ عَمِيرَةَ) : بِفَتْحِ عَيْنٍ وَكَسْرِ مِيمٍ وَبَرَاءٍ وَلَا يُعْرَفُ فِي الرِّجَالِ عُمَيْرَةَ بِالضَّمِّ، بَلْ كُلُّهُ بِالْفَتْحِ، كَذَا فِي الْمُغْنِي. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ كِنْدِيٌّ، رَوَى عَنْهُ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ ابْنُ أَخِيهِ وَغَيْرُهُ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا فُعِلَتِ السَّيِّئَةُ (فِي الْأَرْضِ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَمِيعًا (مَنْ شَهِدَهَا) : جَوَابُ الشَّرْطِ وَالْفَاءُ مَحْذُوفَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَإِنَّمَا حَسُنَ حَذْفُ الْفَاءِ فِيهِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ بِلَفْظِ الْمَاضِي. ذَكَرَهُ الْقَاضِي رحمه الله وَالْمَعْنَى مَنْ حَضَرَهَا، (فَكَرِهَهَا) أَيْ: فَأَنْكَرَهَا وَلَوْ بِقَلْبِهِ (كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا) أَيْ: وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا (وَمَنْ غَابَ عَنْهَا) أَيْ: وَعَلِمَ بِهَا (فَرَضِيَهَا) أَيْ: فَرَضِيَ بِهَا وَاسْتَحْسَنَهَا (كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا) أَيْ: وَلَمْ يُنْكِرْهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ: إِذَا عَمَلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا. الْحَدِيثَ.

ص: 3212

5142 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ:" «إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي أَكْثَرَ مِمَنْ يَعْمَلُهُ» ".

ــ

5142 -

(وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] أَيِ: الْزَمُوا حِفْظَ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَإِذَا حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لَمْ يَضُرَّكُمْ إِذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ بِارْتِكَابِ الْمَنَاهِي إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اجْتِنَابِهَا (فَإِنِّي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَجْرُونَ عَلَى عُمُومِهَا، وَتَمْتَنِعُونَ عَنِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنِّي (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ) أَيْ: مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ (يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا قُلْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَقْوَامٍ أُمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنُهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَبَوُا الْقَبُولَ كُلَّ الْإِبَاءِ، فَذَهَبَتْ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وَمَا كُلِّفْتُمْ مِنْ إِصْلَاحِهَا، وَالْمَشْيَ بِهَا فِي طُرُقِ الْهُدَى، لَا يَضُرُّكُمُ الضَّلَالُ فِي دِينِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 61] وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الزَّمَانِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآتِي لِأَبِي ثَعْلَبَةَ، فَإِنَّ الْعَامَّ قَدْ يَخُصُّ مَرَّةً أُخْرَى اهـ.

لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَبْنَى وَصَرِيحُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهَيْنِ. أَمَّا أَوَّلًا فَقَوْلُهُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أُمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ فَأَبَوْا كُلَّ الْإِبَاءِ، فَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ أَصْلًا، بَلْ وَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ وُجُودٌ أَبَدًا، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا يُمَكِنُ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ قَوْمًا ارْتَدُّوا بِسَبَبِ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ: فَذَهَبَتْ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ حَسْرَةً عَلَيْهِمُ إِلَخْ. وَأَمَا ثَانِيًا فَقَوْلُهُ: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ. لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِبَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى الرَّسُولِ، وَيَتْرُكُوا تَقْلِيدَ آبَائِهِمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَإِبَائِهِمْ، فَأَصَرُّوا عَلَى بُطْلَانِهِمْ، وَقَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] نَعَمْ وَرَدَ مَا يُنَاسِبُ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَّهُ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ وَيَكْفُرُ أَبُوهُ، وَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَيَكْفُرُ أَخُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قُلُوبَهُمْ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ دَعَوْا آبَاءَهُمْ وَإِخْوَانَهُمْ فَقَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الْآيَةَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْبَيْضَاوِيِّ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ لَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى الْكَفَرَةِ

ص: 3212

وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمُعِينِ الصَّفْوِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْحِسْبَةِ إِذَا عُلِمَ عَدَمُ قَبُولِهَا، أَوْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ، أَوْ إِضْرَارٌ لَهُ مِنْهَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ السِّلْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعْنَى إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِذَا ائْتَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنْهُ، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَإِنَّ الِاهْتِدَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِتْيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ إِهْلَاكِ النَّفْسِ أَسَفًا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْكَفَرَةُ وَالْفَسَقَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وَقَالَ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 105] الْآيَةَ. فَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِيرُ غَيْرِكُمْ مِثْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا فَعَلَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِذَا رَأَوْا) أَيِ: النَّاسُ (الظَّالِمَ) أَيِ: الْفَاسِقَ (فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: لَمْ يَمْنَعُوهُ عَنْ ظُلْمِهِ (أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ) أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ أَشَدَّ الْحِجَابِ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ النَّائِبُ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَعْمَلُ أَحَدٌ فَمَا بَيْنَهُمْ (بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَنْ يَعْمَلُهُ) : هُمْ صِفَةُ قَوْمٍ أَيْ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِيَ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَهَا، فَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ عَنْهَا عَمَّهُمُ الْعَذَابُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُزَادُ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ وَهُمْ صِفَةُ قَوْمٍ. قُلْتُ: هَذِهِ التَّقَادِيرُ مُسْتَفَادَةٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رحمه الله وَفِي رِوَايَةٍ:«لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلَيَسُومُنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَيَدْعُنَّ اللَّهَ خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: خَافَ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَأَوَّلَ النَّاسُ الْآيَةَ غَيْرَ تَأَوُّلِهَا، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَنِ الَّذِي أُذِنَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَغْيِيرِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَقَدْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالرَّيْبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَعْنِي عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَخُذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَاتْرُكُوهُمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْهُ أَيْ: قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ أَيْ: وَيَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ أَيْ: يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ اهـ. وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْآتِي.

ص: 3213

5143 -

وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِمْ وَلَا يُغَيِّرُونَ، إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5143 -

(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يَعْمَلُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِرَجُلٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ وَسَوَّغَهُ وَصْفُهُ أَيْ: يَفْعَلُ (فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي) أَيْ: بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْعَمَلِ (يَقْدِرُونَ) أَيِ: الْقَوْمُ (عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الرَّجُلِ بِالْيَدِ أَوِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إِنْكَارِ الْجَنَانِ (وَلَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا أَصَابَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى (بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى الرَّجُلِ أَوْ إِلَى عَدَمِ التَّغْيِيرِ، وَتَكُونُ " مِنِ " ابْتِدَائِيَّةً أَيْ: بِسَبَبِ شُؤْمِهِ، وَأَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ وَلَفْظُهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَجُلٌ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَمْنَعُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ عَلَيْهِ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمَصَابِيحِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَكَانَ مَوْضِعُهُ الْفَصْلُ الثَّالِثُ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُؤَلِّفَ مَا وَجَدَ فِي الْأُصُولِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ. قُلْتُ: هَذَا التَّنْبِيهُ مُوَجَّهٌ نَبِيَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْفِعْلِيِّ، وَأَمَّا كَوْنُ مَوْضِعِهِ الْفَصْلَ الثَّالِثَ فَلَيْسَ فِي مَوْضِعِهِ.

ص: 3214

5144 -

وَعَنْهُ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] . فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " بَلِ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5144 -

(وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ) أَيِ: ابْنِ جُرْهُمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخُشَنِيِّ، بَايَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله أَيِ: احْفَظُوهَا وَالْزَمُوا إِصْلَاحَهَا، وَالْجَارُّ مَعَ الْمَجْرُورِ جُعِلَ اسْمًا لِلَزِمُوا، وَلِذَلِكَ نُصِبَ (أَنْفُسَكُمْ)، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] أَيْ: لَا يَضُرُّكُمُ الضَّلَالُ إِذَا كُنْتُمْ مُهْتَدِينَ، وَمِنَ الِاهْتِدَاءِ أَنْ يُنْكِرَ الْمُنْكَرَ حَسَبَ طَاقَتِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ. وَلَا يَضُرُّكُمْ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنْ قُرِئَ لَا يَضُرَّكُمْ بِالْجَزْمِ عَلَى الْجَوَابِ أَيْ: لِلْأَمْرِ أَوْ عَلَى النَّهْيِ، لَكِنَّهُ ضُمَّتِ الرَّاءُ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّاءِ الْمُدْغَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ لَا يَضُرَّكُمْ بِالْفَتْحِ وَلَا يَضِرْكُمْ بِكَسْرِ الضَّادِ وَضَمِّهَا أَيْ: مَعَ سُكُونِ الرَّاءِ مِنْ ضَارَّهُ يَضِيرُهُ وَيَضُورُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَقُولُ الرَّاوِي: سُئِلَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فِي شَأْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105](فَقَالَ) أَيْ: أَبُو ثَعْلَبَةَ (أَمَا) : بِتَخْفِيضِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الْآيَةِ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا) أَيِ: امْتَثِلُوا (بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ (وَتَنَاهَوْا) أَيِ: انْتَهُوا وَاجْتَنِبُوا (الْمُنْكَرَ) : وَمِنْهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ نَهْيِهِ أَوِ الِائْتِمَارُ بِمَعْنَى التَّأَمُّرِ كَالِاخْتِصَامِ بِمَعْنَى التَّخَاصُمِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّنَاهِي، وَالْمَعْنَى لِيَأْمُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ طَائِفَةً عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: بَلِ ائْتَمِرُوا إِضْرَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ أَيْ: سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُلْتُ: أَمَا نَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " «لَا تَتْرُكُوا، بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ» إِلَخْ. اهـ.

وَالْمَعْنَى كُونُوا قَائِمِينَ بِهِمَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِهِمَا، (حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ) أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًا وَنُكْتَةُ الْإِفْرَادِ انْفِرَادُ الْمُسْتَقِيمِ، وَاجْتِمَاعُ الْعَامَّةِ عَلَى الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَالْمَعْنَى إِذَا عَلِمْتَ الْغَالِبَ عَلَى

ص: 3214

النَّاسِ (شُحًّا مُطَاعًا) : أَوْ إِذَا عَرَفْتَ شُحًّا أَيْ: بُخْلًا مُطَاعًا بِأَنْ أَطَاعَتْهُ نَفْسُكَ وَطَاوَعَهُ غَيْرُكَ (وَهَوًى مُتَّبَعًا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: وَهَوًى لِلنَّفْسِ مَتْبُوعًا، وَطَرِيقَ الْهُدَى مَدْفُوعًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلًّا يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَمَا تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ وَمَا تَتَمَنَّاهُ (وَدُنْيَا) : بِالْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي الدَّارِ الدَّنِيَّةِ (مُؤْثَرَةً) أَيْ: مُخْتَارَةً عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَدَرَجَاتِ الْآخِرَةِ ( «وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ» ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى أَقْوَى الْأَدِلَّةِ وَتَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِنَحْوِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْإِعْجَابُ بِكَسْرِ الْهَمْزِ هُوَ وِجْدَانُ الشَّيْءِ حَسَنًا، وَرُؤْيَتُهُ مُسْتَحْسَنًا بِحَيْثُ يَصِيرُ صَاحِبُهُ بِهِ مُعْجَبًا، وَعَنْ قَبُولِ كَلَامِ الْغَيْرِ مُجَنَّبًا وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، (وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ) : بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمِلَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ بِمَعْنَى لَا فِرَاقَ لَكَ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى رَأَيْتَ أَمْرًا يَمِيلُ إِلَيْهِ هَوَاكَ وَنَفْسُكَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، حَتَّى إِذَا قُمْتَ بَيْنَ النَّاسِ لَا مَحَالَةَ أَنْ تَقَعَ فِيهَا (فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ) : وَاعْتَزِلْ عَنِ النَّاسِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ، وَأَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَالْمَعْنَى، فَإِنْ رَأَيْتَ أَمْرًا لَا طَاقَةَ لَكَ مِنْ دَفْعِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ اهـ. وَنَفْسَكَ مَنْصُوبٌ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَوْ فَيَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهَا مِنَ الْمَعَاصِي، لَكِنْ يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى الْزَمْ خَاصَّةَ نَفْسِكَ. قَوْلُهُ:(وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ) أَيْ: وَاتْرُكْ أَمْرَ عَامَّةِ النَّاسِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَرِيقِ الْخَوَاصِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا رَأَيْتَ بَعْضَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِي، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ السُّكُوتِ لِعَجْزِكَ فَاحْفَظْ نَفْسَكَ عَنِ الْمَعَاصِي، وَاتْرُكِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاشْتَغِلْ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ) أَيْ: قُدَّامَكُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ الْآتِيَةِ، أَوْ خَلْفَكُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْهَاوِيَةِ (أَيَّامَ الصَّبْرِ) أَيْ: أَيَّامًا لَا طَرِيقَ لَكُمْ فِيهَا إِلَّا الصَّبْرُ، أَوْ أَيَّامًا يُحْمَدُ فِيهَا الصَّبْرُ وَهُوَ الْحَبْسُ عَلَى خِلَافِ النَّفْسِ مِنِ اخْتِيَارِ الْعُزْلَةِ وَتَرْكِ الْخِلْطَةِ وَالْخَلْوَةِ، (فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ) أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ (قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ) : يَرَى يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالصَّبْرِ كَمَشَقَّةِ الصَّابِرِ عَلَى قَبْضِ الْجَمْرِ بِيَدِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ:

وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي

كَقَبْصٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلَا

(لِلْعَامِلِ) أَيِ: الْكَامِلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ. (أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ) أَيْ: فِي غَيْرِ زَمَانِهِ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (مِنْهُمْ) : فِيهِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَجْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَلًى وَلَمْ يُضَاعَفْ أَجْرُهُ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يُرَادَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يُبْتَلَوْا بِبَلَائِهِ (قَالَ: " أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ:" «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلَ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ". وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، كَمَا فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ إِلَى قَوْلِهِ: مِثْلَ عَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَزَادَ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) .

ص: 3215

5145 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ:" «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ " وَذَكَرَ: " إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا غَدْرَ أَكْبَرُ مِنْ غَدْرِ أَمِيرِ الْعَامَّةِ، يُغْرَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ ". قَالَ: " وَلَا يَمْنَعْنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ " وَفِي رِوَايَةٍ: " إِنْ رَأَى مُنْكَرًا أَنْ يُغَيِّرَهُ " فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَاهُ فَمَنَعَتْنَا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:" أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا، وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا " قَالَ: وَذَكَرَ الْغَضَبَ " فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَخِيَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ ". قَالَ: " اتَّقُوا الْغَضَبَ ; فَإِنَّهُ جَمْرَةٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟ وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ؟ فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَضْطَجِعْ وَلْيَتَلَبَّدْ بِالْأَرْضِ " قَالَ: وَذَكَرَ الدَّيْنَ فَقَالَ: " مِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَيِّئَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَخِيَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسَاءَ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ ". حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَأَطْرَافِ الْحِيطَانِ فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5145 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَامَ فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، أَوْ فِي حَقِّنَا أَوْ لِأَجْلِنَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا) أَيْ: وَاعِظًا لِقَوْلِهِ: (بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمْ يَدَعْ) أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ (يَكُونُ) أَيْ: يَقَعُ ذَلِكَ الشَّيْءُ (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) أَيْ: سَاعَةِ الْقِيَامَةِ (إِلَّا ذَكَرَهُ) أَيْ: عَيَّنَهُ وَبَيَّنَهُ (حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ) أَيْ: مِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَحَفِظَهُ (وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ) أَيْ: مِمَنْ أَنْسَاهُ اللَّهُ وَتَرَكَ نَصْرَهُ (وَكَانَ فِيمَا قَالَ) أَيْ: مِنْ خُطْبَتِهِ وَمَوْعِظَتِهِ (إِنَّ الدُّنْيَا) : وَفِي الْجَامِعِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا (حُلْوَةٌ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَذِيذَةٌ حَسَنَةٌ (خَضِرَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ أَيْ: نَاعِمَةٌ طَرِيَّةٌ. وَفِي الْجَامِعِ: تَقَدَّمَ خَضِرَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِالْخَضِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشَّيْءَ النَّاعِمَ خَضِرًا، أَوْ لِشَبَهِهَا بِالْخَضْرَاوَاتِ فِي ظُهُورِ كَمَالِهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهَا غَدَّارَةٌ مَكَّارَةٌ سَحَّارَةٌ تَفْتِنُ النَّاسَ بِلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الدُّنْيَا طَيِّبَةٌ مَلِيحَةٌ فِي عُيُونِ أَرْبَابِهَا وَقُلُوبِ أَصْحَابِهَا لَا يَشْبَعُونَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، وَلَا مِنْ سَعَةِ الْجَاهِ، وَكَثْرَةِ الْإِقْبَالِ وَطُولِ الْآمَالِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِشِدَّةِ انْجِذَابِ النُّفُوسِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ النَّاقِصَةُ، فَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَتْ إِلَيْهَا أَمْيَلَ وَعَلَيْهَا أَقْبَلَ. (وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا) أَيْ: جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ فِي الدُّنْيَا، مَعْنَاهُ أَنَّ أَمْوَالَكُمْ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ لَكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ جَعَلَكُمْ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ، أَوْ جَاعِلُكُمْ خُلَفَاءَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَعْطَى مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ إِيَّاكُمْ (فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ: تَعْتَبِرُونَ بِحَالِهِمْ، وَتَتَفَكَّرُونَ فِي مَآلِهِمْ، وَتَتَصَرَّفُونَ فِي دُنْيَاكُمْ، وَتُرَاعُونَ فِي دُنْيَاكُمْ لِعُقْبَاكُمْ، وَحَاصِلٌ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ لَهُ الْعِلْمُ التَّنْجِيزِيُّ عَلَى طِبْقِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ التَّقْدِيرِيِّ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَاتَّقُوا الدُّنْيَا) أَيِ: احْذَرُوا زِيَادَتَهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلدِّينِ النَّافِعَةِ فِي الْأُخْرَى (وَاتَّقَوُا النِّسَاءَ) أَيْ: مَكْرَهُنَّ وَغَدْرَهُنَّ وَحُبَّهُنَّ الْبَالِغَ الْبَاعِثَ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مِنْ أَسْبَابِ الْكَمَالِ، وَفِي الْجَامِعِ زِيَادَةٌ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ، (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جُمْلَةِ مَا ذَكَرَ (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُكْسَرُ (لِكُلِّ غَادِرٍ) : مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ (لِوَاءً) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: عَلَمَا إِعْلَامًا بِسُوءِ حَالِهِ وَقُبْحِ مَآلِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: يَوْمَ الْفَضِيحَةِ (بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ) : مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَدْرِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ أَنْ يُجَازَى بِغَدْرِهِ فِي الْعُقْبَى وَلَوْ كَانَ مَرَّةً (فِي الدُّنْيَا) : وَلَا شَكَ أَنَّ الْغَدْرَ فِيهَا لَهُ مَرَاتِبُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِهَذَا قَالَ:(وَلَا غَدْرَ أَكْبَرُ مِنْ غَدْرِ أَمِيرِ الْعَامَّةِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَرَادَ بِهِ الْمُتَغَلِّبَ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ بِتَأْمِيرِ الْعَامَّةِ وَمُعَاضِدَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنَ الْخَاصَّةِ، وَأَهْلِ الْعَقْدِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَوِي السَّابِقَةِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ:(يُغْرَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ) : مِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَكُونَ لِوَاؤُهُمْ خَلْفَهُمْ لِيُعْرَفُوا بِهِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ لِكُلِّ مَنْ دَعَا إِلَى حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ لِوَاءٌ يُعَرَفُ بِهِ وَذَكَرَ عِنْدَ اسْتِهِ اسْتِهَانَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يُلْصَقُ بِهِ، وَيُدْنَى مِنْهُ دُنُوًّا لَا يَكُونُ مَعَهُ اشْتِبَاهٌ اهـ. فَقَوْلُهُ: يُغْرَزُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُنْصَبُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَهُوَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ مَكْسُورَةِ الْعَجُزِ أَوْ حَلْقَةِ الدُّبُرِ.

(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَمْنَعَنَّ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (أَحَدًا مِنْكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ) أَيْ: عَظْمَتُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ وَمُخَالَفَتُهُمْ وَمَهَابَتُهُمْ (أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَأْمُرَ لَهُ (إِذَا عَلِمَهُ) : وَفِي النِّهَايَةِ: يَجْعَلُ الْعَرْضَ الْقَوْلَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَيُطْلِقُهُ عَلَى غَيْرِ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ قَالَ بِيَدِهِ أَيْ: أَخَذَ، وَقَالَ بِرِجْلِهِ أَيْ: مَشَى (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ (إِنْ رَأَى مُنْكَرًا) : بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ (أَنْ يُغَيِّرَهُ) : مَفْعُولُ لَا يَمْنَعَنَّ أَيْ: مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكِرِ، (فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْنَاهُ) أَيِ: الْمُنْكَرَ (فَمَنَعَتْنَا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهِ) أَيْ: عَمَلًا بِمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُخْصَةِ السُّكُوتِ عِنْدَ الْمَخَافَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ

ص: 3216

وَضَعْفِ زَمَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ، فَأَنْ لَا يُبَالِيَ بِشَيْءٍ، مِمَّا ذُكِرَ، وَلِذَا وَرَدَ:" «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» " عَلَى مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] أَيْ: يَبِيعُهَا بِبَذْلِهَا فِي الْجِهَادِ، أَوْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى يُقْتَلَ ظُلْمًا لِرِضَاهُ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ عَجَزُوا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْبُطْلَانِ كَيَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْفَسَقَةِ، فَكَيْفَ حَالُنَا وَالْحَالُ أَنَّ بَعْدَ الْأَلْفِ أَيَّامَ تَقَهْقُرِ الْإِسْلَامِ، وَتَسَلُّطِ السَّلَاطِينِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِهِمْ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةِ، وَقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَكَثْرَةِ الْعُضَلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْقُضَاةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَشَايِخِ الْمُرَائِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَهَذَا لَا شَكَ أَنَّهُ زَمَانُ الصَّبْرِ الْمَقْرُونُ بِالشُّكْرِ الْمُنْضَمِّ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُتَعَيِّنُ فِيهِ السُّكُوتُ، وَمُلَازَمَةُ الْبُيُوتِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.

(ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ بَنِي آدَمَ) : خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَالشَّيَاطِينَ خُلِقُوا لِلشَّرِّ فَقَطْ، فَالْأَوَّلُونَ مَظَاهِرُ الْجَمَالِ، وَالْآخَرُونَ مَظَاهِرُ الْجَلَالِ، وَبَنُو آدَمَ خُلِقُوا عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " أَيْ: عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ الْجَامِعَةِ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَلَمَّا خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةَ الْكَامِلَةَ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِ الْأَمَانَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ أَيْ: عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعُلْوِيَّاتِ، وَالسُّفْلِيَّاتِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا أَيِ: امْتَنَعْنَ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِنَّ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَالْإِنْسَانُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النُّعُوتِ الْمِلْكِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعِنَايَةِ الْجَمَالِ الرَّبَّانِيِّ وَالصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِغَضَبِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيِّ، فَإِنْ مَالَ السَّالِكُ إِلَى الْمَلَكِ صَارَ خَيْرًا مِنْهُ، وَإِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْطَانِ صَارَ شَرًّا مِنْهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ الْإِجْمَالِيِّ وَالنَّعْتِ الْإِكْمَالِيِّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(خُلِقُوا) أَيْ: جُبِلُوا عَلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنِ اخْتِيَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى) أَيْ: مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَوْقَاتِهِمَا (فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا) أَيْ: مِنْ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، أَوْ فِي بِلَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ حِينَ يُولَدُ قَبْلَ التَّمْيِيزِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَزَلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ (وَيَحْيَا) أَيْ: يَعِيشُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ مِنْ حِينِ تَمْيِيزِهِ إِلَى انْتِهَاءِ عُمْرِهِ (مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا (وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا) أَيْ: كَذَلِكَ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا» ) أَيْ: بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَابِلِيَّةُ قَبُولِ الْهِدَايَةِ، لَوْلَا مَانِعٌ مِنْ بَوَاعِثِ الضَّلَالَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ:" «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ» " الْحَدِيثَ. ( «وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ خَاتِمَةِ الْهَاوِيَةِ، ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا» ) : فَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ اللَّاحِقَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ مِنَ السَّعَادَةِ الْكَامِلَةِ وَالشَّقَاوَةِ الشَّامِلَةِ، وَكَانَ التَّقْسِيمُ غَالِبِيٌّ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَقَدْ عُلِمَتْ مِمَّا ذُكِرَ إِجْمَالًا.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْغَضَبَ) : وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَخْلَاقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا أَيْضًا كَالْإِيمَانِ مَجْبُولَةٌ مَجْعُولَةٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشَّمَائِلِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي آدَمَ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نَبِيِّ اللَّهِ وَصِفِيِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ طِينَتُهُ مَعْجُونَةً بِوَصْفِ خِلْقَتِهِ بِيَدَيِ الْلَّهِ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ أَوَّلًا مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ، وَالِاجْتِبَاءِ آخِرًا أَنْ يَكُونَ عَلَى طِبْقِهَا طَبَقَاتُ أَوْلَادِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ النَّاشِئَةِ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ (مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ) أَيْ: بِمُقْتَضَى الْخُلُقِ النَّفْسَانِيِّ (سَرِيعَ الْفَيْءِ) :

ص: 3217

أَيِ: الرُّجُوعَ مِنَ الْغَضَبِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) أَيْ: إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ مُقَابَلَةٌ بِالْأُخْرَى، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ فَاعِلُهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْحَالَتَيْنِ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ، فَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ: إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ وَلَا شَرُّهُمْ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ) : فَعِيلَ مِنَ الْبُطْءِ مَهْمُوزٌ وَقَدْ يُبَدَّلُ وَيُدْغَمُ، وَهُوَ ضِدُّ السَّرِيعِ (بَطِيءَ الْفَيْءِ، فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) : كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْأُولَى ( «وَخِيَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ» ) : وَالتَّقْسِيمُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ رُبَاعِيٌّ لَا خَامِسَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ وَالدَّنِيَّةِ، وَأَنَّ كَمَالَهُ أَنْ تَغْلِبَ لَهُ الصِّفَاتُ الْحَمِيدَةُ عَلَى الذَّمِيمَةِ لَا أَنَّهَا تَكُونُ مَعْدُومَةً فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَالْعَادِمَيْنِ، إِذْ أَصْلُ الْخُلُقِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلِذَا وَرَدَ: وَلَوْ سَمِعْتُمْ أَنَّ جَبَلًا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوهُ، وَإِنْ سَمِعْتُمْ أَنَّ رَجُلًا تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ أَيْ: الْأَصْلِيِّ فَلَا تُصَدِّقُوهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئِهَا إِلَّا أَنْتَ» ".

(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فِي إِعَادَةِ قَالَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ لِكَمَالِهِ لِطُولِهِ. (اتَّقُوا الْغَضَبَ) أَيْ: مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، أَوْ بِالتَّعَوُّذِ مِنْهُ إِلَى الرَّبِّ (فَإِنَّهُ جَمْرَةٌ) أَيْ: حَرَارَةٌ غَرِيزِيَّةٌ وَحِدَّةٌ جِبِلِّيَّةٌ مُشْعِلَةٌ جَمْرَةَ نَارٍ مَكْمُونَةٌ فِي كَانُونِ النَّفْسِ (عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ) أَيْ: مُتَعَالِيَةٌ عَلَيْهِ عِنْدَ غَلَبَتِهِ بِحَيْثُ لَا تُخَلِّي لِلْقَلْبِ وَالْعَقْلِ مَعَهَا مَجَالُ تَصَرُّفٍ وَتَعَقُّلٍ. (أَلَا تَرَوْنَ) أَيْ: أَلَا تَنْظُرُونَ (إِلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ) أَيْ: عُرُوقِ حَلْقِ الْغَضْبَانِ (وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ) : كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ فِي أَثَرِ الْحُمَّى، فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ. (فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: أَدْرَكَ ظُهُورَ أَثَرٍ مِنْهُ أَوْ مَنْ عَلِمَ فِي بَاطِنِهِ شَيْئًا مِنْهُ (فَلْيَضْطَجِعْ) أَيْ: تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَإِظْهَارًا لِعَجْزِهِ عَنْهُ (وَلِيَتَلَبَّدْ بِالْأَرْضِ) أَيْ: لِيَلْتَصِقْ وَيَلْتَزِقْ بِهَا حَالَ اضْطِجَاعِهِ، أَوْ يَزِدْ عَلَيْهِ بِالتَّمَرُّغِ فِي تُرَابِهَا حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّعَةِ عَنِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَتِذْكَارِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَكَبَّرَ وَيَتَجَبَّرَ عَلَى الْأَصْحَابِ، وَأَنَّ الْأَنَانِيَّةَ النَّاشِئَةَ عَنْ غَلَبَةِ الْعُنْصُرِ النَّارِيَّةِ مِنْ صِلَةِ الشَّيْطَانِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِفْسَادِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ يَقْتَضِي التَّوَاضُعَ وَالتَّحَمُّلَ، وَسَائِرَ مَا يَقْتَضِي صَلَاحَ الْعِبَادِ وَالْمَعَادِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الدَّيْنَ) أَيْ: أَنْوَاعُ قَضَائِهِ (فَقَالَ: مِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْقَضَاءِ) أَيْ: مُسْتَحْسَنُ الْأَدَاءِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ (وَإِذَا كَانَ) أَيِ: الدَّيْنُ (لَهُ) أَيْ: عَلَى أَحَدٍ (أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ لَمًّا) : بِأَنَّ لَمْ يُرَاعِ الْأَدَبَ وَآذَى فِي تَقَاضِيهِ وَعَسَّرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الطَّلَبِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) أَيْ: فَالْخَصْلَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ مُتَسَاقِطَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سَيِّئَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَجْمَلَ) أَيْ: أَسْهَلَ وَأَيْسَرَ (فِي الطَّلَبِ) أَيْ: فِي طَلَبِ دَيْنِهِ (فَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى) : إِذْ لَا خَيْرَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا ( «وَخِيَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ» ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَجْمَلَ فِي الطَّلَبِ، وَشِرَارُكُمْ مَنْ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَسَاءَ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ لَهُ) أَيِ: الدَّيْنُ (أَفْحَشَ فِي الطَّلَبِ) : فَالتَّقْسِيمُ عَقْلِيٌّ رُبَاعِيٌّ (حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ) : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: غَايَةَ قَوْلِهِ قَامَ فِينَا خَطِيبًا أَيْ: قَامَ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا إِلَّا ذَكَرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ أَيْ: وَقَعَتْ (عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ وَأَطْرَافِ الْحِيطَانِ) : جَمْعُ حَائِطٍ بِمَعْنَى

ص: 3218

الْجِدَارِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:" إِذَا " لِلْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَتْ مَاضٍ، وَفَائِدَتُهُ اسْتِحْضَارُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] الْكَشَّافُ هُوَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْلِهِ: حِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ (فَقَالَ: أَمَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا) أَيْ: فِي جُمْلَةِ مِمَّا مَضَى مِنْهَا، وَفِي حَدِيثٍ مَا سَبَقَ مِنْهَا (إِلَّا كَمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ) : يَعْنِي نِسْبَةُ مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلَى جُمْلَةِ مَا مَضَى كَنِسْبَةِ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا إِلَى مَا مَضَى مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا كَمَا بَقِيَ مُسْتَثْنًى مِنْ فَاعِلِ لَمْ يَبْقَ أَيْ: لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، لَكِنْ مِنْ نَوْعِ تَغْيِيرٍ وَزِيَادَةِ يَسِيرٍ.

ص: 3219

5146 -

وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5146 -

(وَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) : بِفَتْحِ مُوَحِّدَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِرَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ وَقَالَ: حَدِيثُهُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ وَلَا تُوهِمُ إِرْسَالَهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَنْ يَهْلِكَ) : بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ أَيْ لَنْ يَفْسُدَ وَلَنْ يَتْلِفَ (النَّاسُ) أَيْ: دِينُهُمْ وَكَمَالُهُمْ، أَوْ مَعْنَاهُ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا (حَتَّى يُعْذَرُوا) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ وَيُفْتَحُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: قِيلَ إِنَّهُ مِنْ أَعْذَرَ فُلَانٌ إِذَا كَثُرَ ذَنْبُهُ، فَكَأَنَّهُ سُلِبَ عُذْرُهُ بِكَثْرَةِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ، أَوْ مِنْ أَعْذَرَ غَيْرَهُ إِذَا جَعَلَهُ مَعْذُورًا، فَكَأَنَّهُمْ أَعْذَرُوا مَنْ يُعَاقِبُهُمْ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، أَوْ مِنْ أَعْذَرَ أَيْ: صَارَ ذَا عُذْرٍ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُذْنِبُونَ فَيَعْذِرُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ زَائِغَةٍ وَأَعْذَارٍ فَاسِدَةٍ مِنْ قَبْلِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْسَبُ بِبَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّ النَّاهِيَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ذَنْبَهُ وَهُوَ يَتَبَرَّأُ مِنَ الذَّنْبِ، وَيُعَذِّبُ لِنَفْسِهِ وَلِإِقْدَامِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: هُوَ مِنْ أَعْذَرَ الرَّجُلُ إِذَا صَارَ ذَا ذَنْبٍ كَثِيرٍ أَيْ: حَتَّى تَكْثُرَ ذُنُوبُهُمْ وَعُيُوبُهُمْ، فَيَسْتَوْجِبُوا الْعُقُوبَةَ وَيُقِيمُوا لِمَنْ عَاقَبَهُمُ الْعُذْرَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ لِلتَّبْيِينِ أَيْ: تَكْثُرُ ذُنُوبُ أَنْفُسِهِمْ لَا ذُنُوبَ غَيْرِهِمْ، وَيُرْوَى بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنْ أَعْذَرَهُ إِذَا سَلَبَ عُذْرَهُ أَيْ: حَتَّى يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعُذْرِ بِأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ حَتَّى يُبَيِّنُوا لَهُمُ الرَّشَادَ مِنَ الضَّلَالِ، وَالْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: حَتَّى يَعْذُرُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَأْوِيلَاتٍ زَائِغَةٍ وَأَعْذَارٍ بَاطِلَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

ص: 3219

5147 -

وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَوْلًى لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

5147 -

(وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ) : بِكَسْرِ الْكَافِ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ حَيْوَةَ، وَعَنْهُ عِيسَى بْنُ عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَاهُ. (قَالَ: حَدَّثَنَا مَوْلًى) أَيْ: مَعْتُوقٌ (لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي) : وَهُوَ عَمِيرَةُ الْكِنْدِيُّ الْحَضْرَمِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَسَكَنَهَا، وَمَاتَ بِهَا، رَوَى عَنْهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ) أَيِ: الْأَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ (بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ) أَيْ: بِعِصْيَانِ الْأَقَلِّ مِنْهُمْ (حَتَّى يَرَوْا) أَيِ: الْأَكْثَرُونَ (الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ ظَاهِرًا فَاشِيًا (وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ احْتِرَازًا عَنْ حَالِ عَجْزِ الْأَكْثَرِ أَيْضًا كَمَا فِي زَمَانِنَا، (فَلَا يُنْكِرُوا) : عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَرَوُا الْمُنْكَرَ (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ سُكُوتِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ قُدْرَةِ الْأَكْثَرِ (عَذَّبَ اللَّهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ) : كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25](رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

ص: 3219

5148 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ أَطْرًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: "«كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» ".

ــ

5148 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي) أَيْ: مِنَ الزِّنَا، وَصَيْدِ يَوْمِ السَّبْتِ وَغَيْرِهِمَا (نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ) أَيْ: أَوَّلًا (فَلَمْ يَنْتَهُوا) أَيْ: فَلَمْ يَقْبَلُوا النَّهْيَ، وَلَمْ يَتْرُكُوا الْمَنْهِيَّ (فَجَالَسُوهُمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءُ (فِي مَجَالِسِهِمْ) أَيْ: مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعُصَاةِ وَمَسَاكِنِهِمْ (وَآكَلُوهُمْ) : بِمَدِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الْمُؤَاكَلَةِ مُفَاعَلَةٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْأَكْلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ) أَيْ: خَلَطَ (قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ) : يُقَالُ: ضَرَبَ اللَّبَنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَيْ: خَلَطَهُ، ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ: سَوَّدَ اللَّهُ قَلَبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ بِشُؤْمِ مَنْ عَصَى، فَصَارَتْ قُلُوبُ جَمِيعِهِمْ قَاسِيَةً بَعِيدَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ أَوِ الرَّحْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي وَمُخَالَطَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا اهـ. وَقَوْلُهُ: قَلْبَ مَنْ لَمْ يَعْصِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّ مُؤَاكَلَتَهُمْ وَمُشَارَبَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَإِلْجَاءٍ بَعْدَ عَدَمِ انْتِهَائِهِمْ عَنْ مَعَاصِيهِمْ مَعْصِيَةٌ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْبُغْضِ فِي اللَّهِ أَنْ يَبْعُدُوا عَنْهُمْ وَيُهَاجِرُوهِمْ وَيُقَاطِعُوهُمْ وَلَمْ يُوَاصِلُوهُمْ، وَلِذَا قَالَ:(فَلَعَنَهُمْ) أَيِ: الْعَاصِينَ وَالسَّاكِتِينَ الْمُصَاحِبِينَ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] ذَلِكَ أَيْ: لَعَنَهُمْ (بِمَا عَصَوْا) أَيْ: بِسَبَبِ عِصْيَانِهِمْ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] أَيْ: يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَدِّ بِأَنَّ جَرَّ الْمَعَاصِي إِلَى الْكُفْرِ بِالِاسْتِحْلَالِ وَنَحْوَهُ، وَبِالرِّضَا لِلْمَعَاصِي وَاسْتِحْسَانِهَا مِنْ أَهْلِهَا. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مِنْ كَمَالِ إِعْرَاضِهِ وَقُوَّةِ اعْتِرَاضِهِ (وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ: عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى ظَهْرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَلَسَ مُسْتَوِيًا لِلِاهْتِمَامِ بِإِتْمَامِ الْكَلَامِ (فَقَالَ: لَا) أَيْ: لَا تُعْذَرُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ خَلْفَ أَهْلِ تِلْكَ الْأُمَّةِ. (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ) : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الطَّاءِ (أْطِرًا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: حَتَّى تَمْنَعُوا أَمْثَالَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا عَنْ أَمْثَالِهِمْ، فَتَمْتَنِعُوا أَنْتُمْ عَنْ مُوَاصَلَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ وَمُؤَاكَلَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْأَطْرُ: الْإِمَالَةُ وَالتَّحْرِيفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، أَيْ: حَتَّى تَمْنَعُوا الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ عَنِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَتُمِيلُوهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَفِي الْفَائِقِ: حَتَّى مُتَعَلِّقَةٌ بِلَا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ مَظَالِمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ يُعْذَرُ فِي تَخْلِيَةِ الظَّالِمِينَ وَشَأْنَهُمْ؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى تَأْطِرُوهُمْ وَتَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَالْمَعْنَى لَا تُعْذَرُونَ حَتَّى تَجْبُرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ وَإِعْطَاءِ النَّصَفَةِ الْمَظْلُومَ، وَالْيَمِينُ مُعْتَرَضَةٌ بَيْنَ لَا وَحَتَّى، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِتِلْكَ الَّتِي يَجِيءُ بِهَا الْمُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِقَسَمِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَفِي رِوَايَتِهِ) : الضَّمِيرُ لِأَبِي دَاوُدَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (كَلَّا) أَيْ: حَقًّا أَوِ ارْتَدَعُوا عَنْ حُسْبَانِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ جَوَازِ السُّكُوتِ عَنِ الْمُنْكَرِ ( «وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ» ) أَيْ: بِطَرِيقِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَمَرَاتِبِ الِاحْتِسَابِ عَلَى الْغَايَةِ، ( «وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ» ) : بِالتَّثْنِيَةِ مُبَالَغَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ أَوْ عَلَى قَصْدِ الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ. (وَلَتَأْطُرُنَّهُ) أَيْ: لَتَمْنَعُنَّ الظَّالِمَ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَخْذِ الْيَدِ بِالْيَدِ (عَلَى الْحَقِّ) أَيْ: عَلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْكَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ (أَطْرًا) أَيْ: مَنْعًا ظَاهِرًا لَيْسَ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ (وَلَتَقْصُرُنَّهُ) : بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ: وَلَتَحْبِسُنَّهُ (عَلَى الْحَقِّ) أَيْ: عَلَى قَبُولِهِ (قَصْرًا) أَيْ: بِالْهِجْرَةِ عَنْهُ إِذَا عَجَزْتُمْ عَمَّا سَبَقَ، حَتَّى تَضِيقَ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَإِنَّهُ حَبْسٌ مَعْنَوِيٌّ أَقْوَى مِنْ سِجْنٍ صُورِيٍّ (أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ) أَيْ: لَيَخْلِطَنَّ (بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) : الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ (، ثُمَّ لَيَلْعَنَنَّكُمْ) أَيِ: اللَّهُ (كَمَا لَعَنَهُمْ) أَيْ: بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ قَطْعًا.

ص: 3220

5149 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَئِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ» ".

ــ

5149 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي) : بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ نَصْبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: أَبْصَرْتُ لَيْلَةً أُسْرِيَ بِي فِيهَا (رِجَالًا تُقْرَضُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: تُقْطَعُ (شِفَاهُهُمْ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ شَفَةٍ بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ، وَلَامُهَا هَاءٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُهَا (بِمَقَارِيضَ) : جَمَعَ مِقْرَاضٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْقَطْعِ الْمَعْرُوفَةُ (مِنْ نَارٍ) أَيْ: مَخْلُوقَةٌ مِنْهَا (قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ) أَيْ: هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ كَذَا الْحَالُ (يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ) : مِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ وَوُعَّاظُهُمْ وَمَشَايِخُهُمْ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: مَحَطُّ الْإِنْكَارِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْجُمْلَةَ الْأَوْلَى تَقْبِيحًا لِسُوءِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَتَوْبِيخًا عَلَى عُلُومِهِمُ الْمَقْرُونَةِ بِتَرْكَ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أَيْ: سُوءَ صَنِيعِكُمْ. وَقَالَ عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ". وَكَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ". (رَوَاهُ) أَيْ: الْبَغَوِيُّ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَالْبَيْهَقِيُّ) : عَطْفٌ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُقَدَّرِ (فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ (قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ) : بِمِنِ الْبَيَانِيَّةِ (الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) : بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ خُطَبَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ لِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِيهِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِهِ:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ يَتَفَطَّنُ لِذَلِكَ مِنْ رُزِقَ الذِّهْنَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ أَطْبَقُوا فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ أَوْجَهُ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ، كَمَا حُقِّقَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 2 - 3] وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ - الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} [البقرة: 26 - 27] وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". ( «وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ» ) : وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهَمَا أَوَّلًا.

ص: 3221

5150 -

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5150 -

(وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ) : قَالَ الرَّاغِبُ: الْمَائِدَةُ الطَّبَقُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، وَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَائِدَةٌ أَيْ: عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرِكَةِ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، وَقَوْلُهُ:(خُبْزًا وَلَحْمًا) : تَمْيِيزٌ، بخورا فرد خلا (وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا) أَيْ: بِقَصْدِ أَكْلِ الْأَحْسَنِ أَوِ الْأَكْثَرِ مِنْ غَيْرِهِمْ (وَلَا يَدَّخِرُوا) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ مِنَ الذَّخِيرَةِ وَهُوَ التَّخْبِيَةُ (لِغَدٍ) أَيْ: لِيَوْمٍ عَقِبَ يَوْمِ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ لِوَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَهُ، (فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَمُسِخُوا) أَيْ: فَغَيَّرَ اللَّهُ صُوَرَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ بَعْدَ تَغْيِيرِ

ص: 3221

سِيرَتِهِمُ الْإِنْسِيَّةِ (قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ) : مَنْصُوبَانِ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: مَسَخَهُ كَمَنَعَهُ حَوَّلَ صُورَتَهُ إِلَى أُخْرَى وَمَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا فَهُوَ مَسْخٌ وَمَسِيخٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: حَالَتَانِ مُقَدَّرَتَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشعراء: 149] اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ شَبَابَهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَشُيُوخَهُمْ خَنَازِيرَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3222

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5151 -

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّهُ تُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ شَدَائِدُ، لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ، فَجَاهَدَ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَقَلْبِهِ، فَذَلِكَ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ السَّوَابِقُ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ، فَصَدَّقَ بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ أَحَبَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ يَنْجُو عَلَى إِبْطَانِهِ كُلِّهِ» ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5151 -

(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ ( «تُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ سُلْطَانِهِمْ» ) : يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ وَالشَّخْصَ كَيَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ وَأَمْثَالِهِمَا (شَدَائِدُ) أَيْ: مِحَنٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ دِينِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا (لَا يَنْجُو) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ أَيْ: لَا يُخَلَّصُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ السُّلْطَانِ وَشَدَائِدِهِ النَّاشِئَةِ مِنْ ظُلْمِهِ فَهُمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِضَمِيرٍ مُفْرَدٍ (إِلَّا رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ يَعُودُ إِلَى شَدَائِدَ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ أَوِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ الشَّدَائِدُ، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْجُو عَلَى الْأَوَّلِ اسْتِئْنَافٌ وَعَلَى الثَّانِي صِفَةُ قَوْلِهِ شَدَائِدُ اهـ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ فِي زَمَانِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْمُشَابِهِ بِالشَّيْطَانِ إِلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْكَمَالِ وَالتَّكْمِيلِ، فَعَرَفَ دِينَ اللَّهِ أَوَّلًا بِتَفْصِيلِهِ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَعَمَلَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ (فَجَاهَدَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِ إِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ (بِلِسَانِهِ) أَيْ: بِطَرِيقِ النَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ (وَيَدِهِ) أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ وَقُوَّةٌ (وَقَلْبِهِ) أَيْ: بِإِنْكَارِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقِيَامًا بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَذَلِكَ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ السَّوَابِقُ) أَيِ: السِّعَادَاتُ السَّابِقَةُ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِةِ اللَّاحِقَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] أَيِ: الْجَامِعُونَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَالتَّكْمِيلِ، وَدَرَجَاتِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالتَّعْلِيمِ {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] فَفِي كَلَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام: مَنْ عَمِلَ وَعَلِمَ وَعَلَّمَ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا. ( «وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَصَدَّقَ لَهُ» ) أَيْ: فَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْحَقِّ وَالنَّهْيِ عَنِ الْبَاطِلِ، وَاكْتَفَى بِهِ عَنِ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ لِعَجْزِهِ أَوْ ضَعْفِ قَلْبِهِ وَقُوَّةِ خَصْمِهِ. (وَرَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ) أَيْ: تَارِكًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِغَيْرِهِ مُكْتَفِيًا بِإِنْكَارِ قَلْبِهِ لِضَعْفِ إِيمَانِهِ أَوْ ضَعْفِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ إِنْكَارِ قَلْبِهِ قَوْلُهُ:(فَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ) أَيْ: بِعَمَلِ حَقٍّ (أَحَبَّهُ) أَيْ: بِقَلْبِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ لِأَجْلِهِ (وَإِنْ رَأَى مَنْ يَعْمَلُ بِبَاطِلٍ) أَيْ: مَنْ يَعْمَلُ الشَّرَّ (أَبْغَضَهُ عَلَيْهِ) أَيْ: وَتَرَكَ مُصَاحَبَتَهُ وَمُجَالَسَتَهُ وَلَوْ كَانَ مَنْ كَانَ (فَذَلِكَ يَنْجُو عَلَى إِبْطَانِهِ) أَيْ: إِبِطَانِ مَا ذُكِرَ فِي قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الْبَاطِلِ (كُلِّهِ) : تَأْكِيدٌ مُفِيدٌ

ص: 3222

لِأَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ لَا مُقْتَصِرًا عَلَى أَحَدِهِمَا فَتَأَمَّلْ هَذَا. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: السَّوَابِقُ جَمْعُ سَابِقَةٍ وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] وَقَوْلُهُ: " «عَرَفَ دِينَ اللَّهِ فَجَاهَدَ عَلَيْهِ» " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. هُوَ مِنْ بَابِ التَّقْسِيمِ الْحَاصِرِ، لِأَنَّ النَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِمَّا سَابِقٌ أَوْ مُقْتَصِدٌ أَوْ دُونَهُمَا، فَالْفَاءَاتُ فِي قَوْلِهِ: فَجَاهَدَ فَصَدَّقَ فَسَكَتَ، مُسَبَّبَاتٌ عَنِ الْعِرْفَانِ، فَمَعْنَى الْأَوَّلِ مَنْ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَتَصَلَّبَ فِي دِينِهِ، فَبَدَّلَ جُهْدَهُ فِي الْمُجَاهَدَةِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَقَلْبِهِ، وَمَعْنَى الثَّالِثِ مَنْ عَرَفَ دِينَ اللَّهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ وَسَكَتَ فَلَمْ يُجْهُدْ فِيهِ إِلَّا عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:" وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " فَيَبْقَى قَوْلُهُ: فَصَدَّقَ بِهِ فِي دَرَجَةِ الْمُقْتَصِدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا هُوَ دُونَ الْأَوْلَى، وَفَوْقَ الثَّالِثَةِ، وَهُوَ أَنْ يُجَاهِدَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَالتَّصْدِيقُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي اللِّسَانِ مَجَازًا فِي الْعَمَلِ، فَتَصْدِيقُهُ هُنَا مُعَبَّرٌ بِهِ عَنْ دَفْعِ الْمُنْكِرِ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ.

ص: 3223

5152 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى جِبْرَئِيلَ عليه السلام: أَنِ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا، قَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانٌ: لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ". قَالَ: " فَقَالَ: اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ» ".

ــ

5152 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوْحَى اللَّهُ عز وجل إِلَى جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام أَنِ اقْلِبْ) : هَمْزَةُ وَصْلٍ وَلَامٌ مَكْسُورَةٌ (مَدِينَةَ كَذَا وَكَذَا بِأَهْلِهَا) أَيْ: مَصْحُوبَةٌ مَعَهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي أَوْحَى مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وَالْبَاءَ مُقَدَّرَةٌ (فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ فِيهِمْ عَبْدَكَ فُلَانًا لَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام. (فَقَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى: (اقْلِبْهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ) : فِي تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا إِيذَانٌ بِوَعِيدٍ شَدِيدٍ (فَإِنَّ وَجْهَهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ) أَيْ: لَمْ يَتَغَيَّرْ (فِيَّ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: فِي حَقِّي وَلَأَجْلِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ غَضَبِ إِنْكَارِ الْقَلْبِ عَلَى مُرْتَكِبِ الْمُنْكَرِ (سَاعَةً) أَيْ: وَاحِدَةً (قَطُّ) أَيْ: أَبَدًا، وَفِيهِ تَوْسِعَةٌ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَوْ غَضِبَ عَلَيْهِ مَرَّةً لِلَّهِ لَسُومِحَ فِي بَقِيَّةِ أَوْقَاتِ عُمْرِهِ.

ص: 3223

5153 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَا لَكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَيُلَقَّى حُجَّتَهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! خِفْتُ النَّاسَ وَرَجَوْتُكَ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

5153 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَا لَكَ إِذَا رَأَيْتَ الْمُنْكَرَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ» ) أَيْ: بِلِسَانِكَ أَوْ يَدِكَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَيُلَقَّى) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ (حُجَّتَهُ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: بَيِّنَتَهُ عَلَيْهَا وَيُلَقَّنُ بِهَا إِذَا كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ إِنْجَاءَهُ. (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! خِفْتُ النَّاسَ وَرَجَوْتُكَ) : فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، وَإِظْهَارٌ لِلْعَجْزِ، وَاعْتِمَادٌ عَلَى كَرَمِ الرَّبِّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِيمَنْ يَخَافُ سَطْوَتَهُمْ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا عَنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَفِيهِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا مَعْذُورٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَلَقِّي الْحُجَّةِ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَصَّرَ فِي الْجُمْلَةِ فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ الْمَعْذِرَةَ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 3223