الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5121 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» ".
ــ
5121 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ خَزَنَ) : بِفَتْحِ زَايٍ أَيْ: حَفِظَ (لِسَانَهُ) : قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْزُنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ
…
فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَنْ سَتَرَ عُيُوبَ النَّاسِ وَكَتَمَهَا (سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ) أَيْ: عَيْبَهُ عَنِ النَّاسِ، أَوْ عَنِ الْحَفَظَةِ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ (وَمَنْ كَفَّ) أَيْ: مَنَعَ (غَضَبَهُ) أَيْ: عَنِ النَّاسِ (كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَهُ) أَيِ: الَّذِي أَثَّرَ غَضَبَهُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : جَزَاءً وِفَاقًا. وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ أَيْ: بِأَنْ لَمْ يُعَذِّبْهُ» فَتَوَافَقَ الْحَدِيثَانِ (وَمَنِ اعْتَذَرَ) : فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ: بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ لَدَيْهِ (قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ) : ظَاهِرُ نَظَائِرِهِ أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ قَبِلَ عُذْرَ أَخِيهِ قَبَلَ اللَّهُ عُذْرَهُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ أَوِ الْحِكْمَةُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُنَالِكَ.
5122 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ؟ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ. وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
5122 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (مُنْجِيَاتٌ) أَيْ: أَسْبَابُ نَجَاةٍ وَخَلَاصٍ (وَثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللَّهِ) أَيْ: خَوْفُهُ (فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ) أَيْ: لَا يُبَدِّلُ الْقَوْلَ الْحَقَّ لِأَجْلِ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ عَنْ أَحَدٍ أَوْ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَحَدٍ، (وَالْقَصْدُ) أَيِ: التَّوَسُّطُ فِي النَّفَقَةِ (فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ) أَيْ: فِي الْحَالَيْنِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ: فَهَوًى) . أَيْ: لِلنَّفْسِ (مُتَّبَعٌ) : احْتِرَازٌ عَنْ مَتْرُوكٍ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ مِنْ أَكْبُرِ الْمُنْجِيَاتِ كَمَا أَنَّ مُتَابَعَتَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْمُهْلِكَاتِ (وَشَحٌّ) أَيْ: بُخْلٌ (مُطَاعٌ) أَيْ: مُطَاوِعٌ لَهُ مَعْمُولٌ بِمُقْتَضَاهُ، فَقِيلَ: الشُّحُّ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَقِيلَ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ، وَقِيلَ الْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، وَقِيلَ الشُّحُّ مِمَّا فِي يَدِ غَيْرِكَ. وَالْبُخْلُ مِمَّا فِي يَدِكَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ الْبُخْلُ الْمَقْرُونُ بِالْحِرْصِ (وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) أَيْ: بِاسْتِحْسَانِ أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا أَوْ مَالِهَا وَجِمَالِهَا وَسَائِرِ مَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ كَمَالِهَا (وَهِيَ) أَيِ: الْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ (أَشَدُّهُنَّ) أَيْ: أَعْظَمُهُنَّ وِزْرًا وَأَكْثَرُهُنَّ ضَرَرًا لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى، وَمِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ، وَالْمُعْجَبُ مَغْرُورٌ وَمُزَيَّنٌ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمُبْتَدَعِ، فَإِنَّهُ قَلَّ أَنْ يَتُوبَ مِنْ بِدْعَتِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ الْمُعْجَبَ بِنَفْسِهِ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ وَمِنْ هَوَى النَّفْسِ الشُّحُّ الْمُطَاعُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] حَيْثُ أَضَافَ الشُّحَّ إِلَى النَّفْسِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
[بَابُ الظُّلْمِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5123 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الظُّلْمُ ظُلْمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[21]
بَابُ الظُّلْمِ
قَالَ الرَّاغِبُ: الظُّلْمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصُّ لَهُ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ، وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ. وَقَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَبِيرِ الْيَمَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ قَلْبَ عَبْدِهِ لِذَكَرِهِ وَفِكْرِهِ، فَمَنْ وَضَعَ فِيهِ غَيْرَهُ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ الْعَارِفُ ابْنُ الْفَارِضِ مُومِيًا إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْوَحْدَةِ وَالنُّبُوَّةِ أَوِ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ أَوِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ:
عَلَيْكَ بِهَا صَرْفًا وَإِنْ شِئْتَ مَزْجَهَا
…
فَعَدْلُكَ عَنْ ظُلْمِ الْحَبِيبِ هُوَ الظُّلْمُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5123 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الظُّلْمُ) أَيْ: جِنْسُهُ الشَّامِلُ لِلْمُتَعَدِّي وَالْقَاصِرُ الصَّادِرُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ (ظُلُمَاتٌ) أَيْ: أَسْبَابُ ظُلْمَةٍ لِمُرْتَكِبِهِ أَوْ مُوجِبَاتُ شِدَّةٍ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَفْهُومُهِ أَنَّ
الْعَدْلَ بِأَنْوَاعِهِ أَنْوَارٌ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : لِأَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَكُونُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْعَى بِنُورٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ إِيمَانِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ تَعَالَى:{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الشَّدَائِدُ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] أَيْ: شَدَائِدِهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأَنْكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَى ظَاهِرِهِ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ ظُلُمَاتٌ هُنَا لَيْسَ مَجَازًا، بَلْ حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ حَمَلَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ، فَالْمُرَادُ ظُلُمَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ مُسَبَّبَةٌ عَنِ الظُّلْمِ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْقَاضِي بِالْحَقِيقَةِ الْمُقَابَلَةِ لِلْمَجَازِ الْمُفَسَّرِ بِالشِّدَّةِ نَظَرًا إِلَى جَوْهَرِ الْمَعْنَى مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ بِالْإِعْرَابِ وَالْمَبْنِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَنْكَالِ أَنَّ الشَّدَائِدَ كَائِنَةٌ فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، وَالْأَنْكَالَ بَعْدَ الدُّخُولِ: قُلْتُ: فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الدَّارُ الْآخِرَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5124 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ " ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] » الْآيَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5124 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ) : مِنَ الْإِمْلَاءِ أَيْ: يُمْهِلُهُ وَيُؤَخِّرُهُ وَيُطَوِّلُ عُمْرَهُ حَتَّى يَكْثُرَ مِنْهُ الظُّلْمُ (حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) : مِنَ الْإِفْلَاتِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ ضِيقٍ مَعَ فِرَارٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ يَتْرُكُهُ، بَلْ أَخَذَهُ أَخْذًا شَدِيدًا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ قِيلَ: أَفْلَتَ الشَّيْءُ وَتَفَلَّتْ وَانْفَلَتَ بِمَعْنَى وَأَفْلَتَهُ غَيْرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يَنْفَلِتْ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَمْ يُفْلِتْهُ مِنْهُ أَحَدٌ أَيْ: لَمْ يُخَلِّصْهُ. قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَمَّا حَاصِلُ الْمَعْنَى أَوْ يُقَالُ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ فِي الْحَالِ وَوَعِيدٌ لِلظَّالِمِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِالْإِمْهَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42](ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتِضَادًا أَوْ أَبُو مُوسَى اسْتِشْهَادًا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] أَيْ: أَهْلَهَا {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] الْآيَةَ أَيْ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ بَدَلَ الْآيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ قَرَأَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
5125 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ " ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى اجْتَازَ الْوَادِيَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5125 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرَّ) أَيْ: أَرَادَ الْمُرُورَ (بِالْحِجْرِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: دِيَارِ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ (قَالَ: لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ: بِالْكُفْرِ (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ) أَيْ: لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ (مَا أَصَابَهُمْ) أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ أَيْ: مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا شَدَّدَ عَلَيْهِ الْحِسَابَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُصِيبَ مُنَافِقِيكُمْ عَيْنَ مَا أَصَابَهُمْ فَعَمَّمَ الْحُكْمَ بِالتَّخْوِيفِ تَسَتُّرًا عَلَيْهِمْ، (ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ مُبَالَغَةً مِنَ الْإِقْنَاعِ أَيْ: أَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا كَالْخَائِفِ لِئَلَّا يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى مَسَاكِنِهِمْ، أَوْ جَعَلَ قِنَاعَهُ عَلَى رَأْسِهِ شِبْهَ الطَّيْلَسَانِ. (وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى اجْتَازَ الْوَادِي) أَيْ: تَجَاوَزَهُ أَيْ: قَطَعَ عَرْضَهُ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ لِيَقْتَدُوا بِهِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ تَأْكِيدًا فِي الْقَضِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْخَشْيَةِ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَقَدْ قَالَ: " «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» " هَذَا مُجْمَلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ، فَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحِجْرُ مَنَازِلُ ثَمُودَ، وَذَلِكَ فِي سَيْرِهِ إِلَى تَبُوكَ خَشِيَ عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْتَازُوا عَلَى تِلْكَ الدِّيَارِ سَاهِينَ غَيْرَ مُتَّعِظِينَ بِمَا أَصَابَ أَهْلَ تِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِانْتِبَاهِ وَالِاعْتِبَارِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى عَنِ النَّهْيِ وَأَنْ يُصِيبَكُمْ نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالِ كَوْنِكُمْ بَاكِينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ الدَّاخِلُ فِي دَارِ قَوْمٍ أُهْلِكُوا بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَاكِيًا إِمَّا شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ حُلُولِ مِثْلِهَا بِهِ كَانَ قَاسِيَ الْقَلْبِ قَلِيلَ الْخُشُوعِ فَلَا يَأْمَنُ إِذَا كَانَ هَكَذَا أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمُ اهـ.
وَمَا أَصَابَ فِي قَوْلِهِ إِمَّا شَفَقَةً عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر: 88] وَقَوْلِهِ عز وجل: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مَاءَهَا وَكَانُوا قَدْ خَمَّرُوا بِهِ عَجِينَهُمْ، فَأَمْرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهَا دَوَابَّهُمْ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنَازِلَ هَؤُلَاءِ لَا تُتَّخَذُ سَكَنًا وَوَطَنًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ دُخُولِهَا إِلَّا مَعَ الْبُكَاءِ، فَالْمُتَوَطِّنُ يَكُونُ دَهْرُهُ بَاكِيًا. قُلْتُ: وَيُلَائِمُهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَاكِنَ لَهَا تَأْثِيرٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُكَّانِهَا مِحْنَةً وَمِنْحَةً كَمَا فِي الْأَزْمِنَةِ مِنْ مَوْسِمِ الطَّاعَاتِ وَسَاعَاتِ الْإِجَابَةِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ:«أَنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «أَنَّ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضَهَا الْأَسْوَاقُ» ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَأْثِيرُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَخْبَارُ وَأَثَارُ الْأَبْرَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5126 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5126 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَبِفَتْحِ اسْمِ مَا أَخَذَهُ الظَّالِمُ أَوْ تَعَرَّضَ لَهُ (لِأَخِيهِ) أَيْ: فِي الدِّينِ (مِنْ عِرْضِهِ) : بَيَانٌ لِلْمَظْلِمَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَانِبِهِ الذِّي يَصُونُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَنَسَبِهِ وَحَسَبِهِ وَيَتَحَامَى أَنْ يَنْتَقِصَ (أَوْ شَيْءٍ) أَيْ: أَمْرٌ آخَرُ كَأَخْذِ مَالِهِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ هُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (فَيَتَحَلَّلَهُ) أَيْ: فَلْيَطِبِ الظَّالِمُ حِلَّ مَا ذُكِرَ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَظْلُومِ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ تَحَلَّلْتُهُ وَاسْتَحْلَلْتُهُ إِذَا سَأَلْتَهُ أَنْ يَجْعَلَكَ فِي حِلٍّ (الْيَوْمَ) أَيْ: فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: (قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ) أَيْ: لَا يُوجَدُ (دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) : وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ، وَلَوْ بَذَلَ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ فِي بَذْلِ مَظْلِمَتِهِ، لِأَنَّ أَخْذَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ الْيَوْمَ عَلَى التَّحَلُّلِ أَهْوَنُ مِنْ أَخْذِ الْحَسَنَاتِ أَوْ وَضْعِ السَّيِّئَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّحَلُّلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ) أَيْ: بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا ظَالِمًا غَيْرَ مَعْفُوٍّ مِنْ مَظْلُومِهِ (أُخِذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عَمَلُهُ الصَّالِحُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ صَاحِبِهِ الظَّالِمِ عَلَى غَيْرِهِ (بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ) : وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ مُفَوَّضٌ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: إِنْ كَانَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلَ مَظْلِمَتِهِ تَوَجَّهَ لِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ فَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ بَدَلَ مَظْلِمَتِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ إِلَخِ اهـ. (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ: لَمْ تُوجَدْ (لَهُ حَسَنَاتٌ) أَيْ: بَاقِيَةٌ أَوْ مُطْلَقًا (أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ) أَيِ: الْمَظْلُومِ (فَحُمِلَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا أَيْ: فَوَضَعَ عَلَى الظَّالِمِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ نَفْسَ الْأَعْمَالِ بِأَنْ تَتَجَسَّمَ فَتَصِيرَ كَالْجَوَاهِرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا أَعَدَّ لَهُمَا مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] لِأَنَّ الظَّالِمَ فِي الْحَقِيقَةِ مَجْزِيٌّ بِوِزْرِ ظُلْمِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ تَخْفِيفًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5127 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ ". قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5127 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَدْرُونَ) أَيْ: (أَتَعْلَمُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟) كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، فَعَلَى هَذَا السُّؤَالُ عَنْ وَصْفِ الْمُفْلِسِ لَا عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَجَابَ صلى الله عليه وسلم بِوَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ: شَتْمٌ وَأَكْلٌ وَقَذْفٌ، وَفِي مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ فِي الْمُفْلِسِ، وَهَذَا سُؤَالُ إِرْشَادٍ لَا اسْتِعْلَامٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ كَذَا وَكَذَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا الْمُفْلِسُ مَنِ الْمُفْلِسُ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ فِي جَوَابِ الصَّحَابَةِ، وَفِي كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا مِنَ التَّعْبِيرِ بِمَنْ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ أَصْحَابِهِ (الْمُفْلِسُ فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا (مَنْ لَا دِرْهَمَ) أَيْ: مِنْ نَقْدٍ (لَهُ) :
أَيْ: مِلْكًا (وَلَا مَتَاعَ) أَيْ: مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ النَّقْدُ وَيَتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الْأَقْمِشَةِ وَالْعِقَادِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْمَوَاشِي وَالْعَبِيدِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِ الدُّنْيَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ فِينَا وَغَفَلُوا عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ كَانَ حَقُّهُمْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ كَانَ وَاضِحًا عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَجَابُوهُ بِمَا أَجَابُوهُ. (فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ) أَيِ: الْحَقِيقِيُّ أَوِ الْمُفْلِسُ فِي الْآخِرَةِ (مِنْ أُمَّتِي) أَيْ: كُلِّ: أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي الدُّنْيَا بِالدِّرْهَمِ وَالْمَتَاعِ (مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ) أَيْ: مَقْبُولَاتٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: مَصْحُوبًا بِهَا (وَيَأْتِي) أَيْ: وَيَحْضُرُ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ شَتَمَ هَذَا) أَيْ: وَقَعَ لَهُ شَتْمٌ لِأَحَدٍ (وَقَذَفَ هَذَا) أَيْ: بِالزِّنَا وَنَحْوَهُ (وَأَكَلَ مَالَ هَذَا) أَيْ: بِالْبَاطِلِ (وَسَفَكَ) أَيْ: أَرَاقَ (دَمَ هَذَا) أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ (وَضَرَبَ هَذَا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى مَنْ جَمَعَ بَيْنَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَهَذِهِ السَّيِّئَاتِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " وَلَكِنْ لَفْظُ الْمُفْلِسِ يُلَائِمُ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِإِفْلَاسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَيُعْطَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَذَا) أَيِ: الْمَظْلُومُ (مِنْ حَسَنَاتِهِ) أَيْ: بَعْضِ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ (وَهَذَا) أَيْ: وَيُعْطِي الْمَظْلُومَ الْآخَرَ (مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُؤَدِّي (مَا عَلَيْهِ) أَيْ: مِنَ الْحُقُوقِ (أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ) أَيْ: مِنْ سَيِّئَاتِ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ (فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) : أَوْ وُضِعَتْ عَلَى الظَّالِمِ (ثُمَّ طُرِحَ) أَيْ: أُلْقِيَ وَرُمِيَ (فِي النَّارِ) : وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا عَفْوَ وَلَا شَفَاعَةَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ يَرْضَى خَصْمُهُ بِمَا أَرَادَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يَعْنِي حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَمَنْ قَلَّ مَالُهُ، فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُفْلِسًا، وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَةَ الْمُفْلِسِ، لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَزُولُ وَيَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ وَرُبَّمَا انْقَطَعَ بِيَسَارٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ يَهْلَكَ مِنَ الْهَلَاكِ التَّامِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَهُوَ بَاطِلٌ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ، فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ، فَوُضِعَتْ عَلَيْهِ، فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ مُسَبَّبَةٌ عَنْ ظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ ضَرُورَةِ قَضِيَّةِ الْعَدْلِ الثَّابِتِ لَهُ تَعَالَى بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ مِنْهَا وَغَلَبَتْ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَإِنْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ يَبْقَى حَقُّ الْمَظْلُومِ ضَائِعًا، وَإِنْ أُدْخِلَ النَّارَ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] وَسَيَأْتِي أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مِمَّا لَا يُتْرَكُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا أَخْذَ الْحَسَنَاتِ وَإِمَّا وَضْعَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ خِفَّةُ مِيزَانِ عَمَلِهِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ فَيُعَذَّبُ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَبَبِ الْحَسَنَاتِ الْبَاقِيَةِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ، وَإِلَّا بِبَرَكَةِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَهَذَا مِنَ الْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ الْمُؤَيِّدَةِ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ اللَّائِحَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5128 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ: " «اتَّقَوُا الظُّلْمَ» ". فِي " بَابِ الْإِنْفَاقِ ".
ــ
5128 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَتُؤَدَّنَّ) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّهَا فَقَوْلُهُ: (الْحُقُوقُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الثَّانِي (إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَجَزَمَ شَارِحٌ وَقَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالْحُقُوقُ أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اللَّامُ فِيهِ جَوَابٌ قَسَمُهُ مُقَدَّرٌ وَالدَّالُ فِيهِ مَضْمُومَةٌ، وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ وَالْحُقُوقُ مَفْعُولُهُ، وَقِيلَ: الدَّالُ فِيهِ مَفْتُوحَةٌ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالْحُقُوقُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، لَكِنْ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ الْيَاءُ وَقَالَ: لَتُؤَدِّينَ اهـ. وَأَرَادَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ صِيغَةُ الْوَاحِدَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اخْشَيْنَ وَاغْزُونَ وَارْمِينَ بِتَسْكِينِ اللَّامَاتِ وَفَتْحِهَا عَلَى طَبْقِ التَّثْنِيَةِ، كَمَا تَقُولُ: اخْشَيَا وَارْمِيَا وَاغْزُوَا عَلَى مَا حُقِّقَ فِي مَحَلِّهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. وَالْحُقُوقُ: مَرْفُوعٌ هَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا، وَيَزْعُمُ بَعْضُهُمْ ضَمَّ الدَّالِّ وَنَصْبَ الْحُقُوقِ، الْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ صِحَّةُ الدِّرَايَةِ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ كَلَامَ الشَّيْخِ ضَبْطُ الْكَلِمَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ حَيْثُ يُقَالُ فِي الْمُفْرَدِ الْمَجْهُولِ: لِيَضْرِبَنَّ بِفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ، وَقَدْ غَفَلَ الطِّيبِيُّ عَنْ هَذَا الْمَبْنَى، وَذَهَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَدُّ لِأَجْلِ الرِّوَايَةِ فَلَا مَقَالَ، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الدِّرَايَةَ، فَإِنَّ بَابَ التَّغْلِيبِ وَاسِعٌ، فَيَكُونُ قَدْ غَلَبَ الْعُقَلَاءُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَجَعَلَ قَوْلَهُ:(حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) : غَايَةً بِحَسَبِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] فَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ عَلَى التَّغْلِيبِ اهـ.
وَالْمَعْنَى يُكَثِّرُكُمْ مِنَ الذَّرْءِ وَهُوَ الْبَثُّ، وَقَوْلُهُ:(فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَهُوَ جَعْلُ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَالُدٌ، فَإِنَّهُ كَانَ كَالْمَنْبَعِ لِلْبَثِّ وَالتَّكْثِيرِ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَجَعَلَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَشَبَّهَ التَّدْبِيرَ بِالْمَنْبَعِ، وَفِي الْإِتْقَانِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا، وَهَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ وَالْقَرْنَاءِ الشَّاتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ الْفَقِيرُ أَوِ الْمَظْلُومُ وَبِالْقَرْنَاءِ الْغَنِيُّ أَوِ الظَّالِمُ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ التَّغْلِيبِ وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، ثُمَّ الْجَلْحَاءُ بِجِيمٍ فَلَامٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَلْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَالْقَرْنَاءُ ضِدُّهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِعَادَتِهَا كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَطَالِلِ وَالْمَجَانِينِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى جل جلاله وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ قَالُوا: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ فِي الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ، فَلَيْسَ مِنْ قَصَاصِ التَّكْلِيفِ، بَلْ هُوَ قَصَاصُ مُقَابَلَةٍ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ قَصَاصَ مُقَابَلَةٍ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّ قَصَاصَ الْمُقَابَلَةِ نَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِهِ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَوْ نَطَحَ شَاةٌ قَرْنَاءُ شَاةً جَلْحَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْخَذُ الْقَرْنُ مِنَ الْقَرْنَاءِ وَيُعْطَى الْجَلْحَاءَ حَتَّى تَقْتَصَّ لِنَفْسِهَا مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الشَّاةُ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْهَا؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِعْلَامُ الْعِبَادِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَضِيعُ، بَلْ يُقْتَصُّ حَقُّ الْمَظْلُومِ مِنَ الْمَظَالِمِ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَوْجِيهٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْحِكْمَةِ بِالْغَرَضِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ دَالَّةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَالَةِ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الْحَيَوَانَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ بِذَوِي الْعُقُولِ مِنَ الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةِ تَنْطَحُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالتِّرْمِذِيُّ.
(وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ اتَّقَوُا الظُّلْمَ) : تَمَامُهُ: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقَوُا الشُّحَّ ; فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (فِي بَابِ الْإِنْفَاقِ) أَيْ: مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُؤَلِّفِ إِنْ كَانَ عَنْ تَكْرَارٍ أَسْقَطَهُ فَهُوَ اعْتِذَارٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ تَحْوِيلِ الْحَدِيثِ إِلَى بَابٍ أَنْسَبَ مِنْهُ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ شَامِلٌ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5129 -
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ. وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5129 -
(عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ فَلَا يُقَالُ امْرَأَةٌ إِمَّعَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: هُوَ الَّذِي يُتَابِعُ كُلَّ نَاعِقٍ وَيَقُولُ لِكُلِّ أَحَدٍ: أَنَا مَعَكَ لِأَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَوَزْنُهُ فِعَّلَةٌ كَدِيَّمَةٍ، وَلَا يَجُوزُ
الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّفَاتِ إِفْعَلَةٌ، وَهِيَ فِي الْأَسْمَاءِ أَيْضًا قَلِيلَةٌ، وَمَعْنَاهُ الْمُقَلِّدُ الَّذِي يَجْعَلُ دِينَهُ تَابِعًا لِدِينِ غَيْرِهِ بِلَا رِوَايَةٍ وَلَا تَحْصِيلِ بُرْهَانٍ اهـ. كَلَامُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ الْمُجَرَّدِ حَتَّى فِي الْأَخْلَاقِ فَضْلًا عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِصِفَةٍ أَوِ اسْمٍ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا بِأَنَّا مَعَكَ وَنَظِيرُهَا الْبَسْمَلَةُ وَالْحَيْعَلَةُ وَنَحْوَهُمَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِمَّعُ كَهِلَّعٍ وَهِلَّعَةٍ وَيُفْتَحَانِ الرَّجُلُ يُتَابِعُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى رَأْيِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ، وَمُتَّبِعُ النَّاسِ إِلَى الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْعَى، وَالْمُحْقِبُ النَّاسَ دِينَهُ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي غَيْرِ صَنْعَةٍ، وَمَنْ يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ، لَا يُقَالُ امْرَأَةٌ إِمَّعَةٌ أَوْ قَدْ يُقَالُ وَتَأَمَّعَ وَاسْتَأْمَعَ صَارَ إِمَّعَةً. وَقَالَ شَارِحٌ: الْإِمَّعُ وَالْإِمَّعَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الرَّجُلُ الَّذِي يَكُونُ لِضَعْفِ رَأْيِهِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَيُلَائِمُ أَرْبَ نَفْسِهِ وَمَا يَتَمَنَّاهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا الَّذِي يَقُولُ: أَنَا أَكُونُ مَعَ النَّاسِ كَمَا يَكُونُونَ مَعِي إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُتَعَيَّنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (يَقُولُونَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمَّعَةَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ هَذَا الْوَصْفَ يَقُولُونَ:(إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ) أَيْ: إِلَيْنَا أَوْ إِلَى غَيْرِنَا (أَحْسَنَّا) أَيْ: جَزَاءً أَوْ تَبَعًا لَهُمْ (وَإِنْ ظَلَمُوا) أَيْ: ظَلَمُونَا أَوْ ظَلَمُوا غَيْرَنَا فَكَذَلِكَ نَحْنُ (ظَلَمْنَا) : عَلَى وَفْقِ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: يَقُولُونَ إِلَخْ. بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْأَمَّعَةِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ وَإِنْ ظَلَمُوا أَنَا مُقَلِّدُ النَّاسِ فِي إِحْسَانِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَمُقْتَفِي أَثَرِهِمْ، (وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ) : أَمْرٌ مِنَ التَّوْطِينِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْجَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ أَيْ: عَزِّمُوا أَنْفُسِكُمْ عَلَى (إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا) أَيْ: فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا (وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) : قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: أَوْطَنَ الْأَرْضَ وَوَطَّنَهَا وَاسْتَوْطَنَهَا، وَمِنَ الْمَجَازِ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى كَذَا فَتَوَطَّنَتْ قَالَ:
وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُوَطِّنُ نَفْسَهُ
…
عَلَى نَائِبَاتِ الدَّهْرِ حِينَ تَنُوبُ
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَوْجِبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْإِحْسَانَ بِأَنْ تَجْعَلُوهَا وَطَنًا لِلْإِحْسَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا أَنْ تُحْسِنُوا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَطِّنُوا وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْ تُحْسِنُوا، وَالتَّقْدِيرُ: وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الْإِحْسَانِ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا لِأَنَّ عَدَمَ الظُّلْمِ إِحْسَانٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
5130 -
ــ
5130 -
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَحَابِيَّانِ مَشْهُورَانِ (أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ) أَيْ: أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (أَنِ اكْتُبِي) : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْكِتَابَةِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ (إِلَيَّ) أَيْ: مُرْسَلًا أَوْ مَوْصُولًا حَالٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ بَابٍ (وَلَا تُكْثِرِي) أَيْ: بِالْإِطْنَابِ، بَلْ أَوْجِزِي بِكَلَامٍ جَامِعٍ يَكُونُ فَصْلَ الْخِطَابِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ بَيْتِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْحِكَمِ وَبَدَائِعَ الْكَلِمِ. (فَكَتَبَتْ: سَلَامٌ عَلَيْكَ) : وَاقْتَصَرَتْ عَلَى غَنِيمَةِ السَّلَامَةِ خَوْفَ السَّآمَةِ (أَمَّا بَعْدُ) أَيْ: بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ مَا بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ) أَيْ: مَنْ طَلَبَ رِضَاهُ فِي شَيْءٍ يَسْخَطُ النَّاسُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ (كَفَاهُ اللَّهُ مَئُونَةَ النَّاسِ) أَيْ: وَمَئُونَةَ شَرِّهِمْ مِنَ الظُّلْمِ عَلَيْهِ وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ (وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ) : بِتَخْفِيفِ الْكَافِ أَيْ: خَلَّاهُ وَتَرَكَ نَصْرَهُ وَدَفَعَهُ (إِلَى النَّاسِ) : وَهَذَا وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. قَالَ الْمُظْهِرُ يَعْنِي إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ فِي فِعْلِهِ رِضَا اللَّهِ وَغَضَبَ النَّاسِ أَوْ عَكْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ الْأَوَّلَ رضي الله عنه وَدَفَعَ عَنْهُ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ فَعَلَ الثَّانِي وَكَلَهَ إِلَى النَّاسِ يَعْنِي سَلَّطَ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ وَيَظْلِمُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ شَرَّهُمْ. وَفِي النِّهَايَةِ: وَكَلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ أَيْ: أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ. (وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ) : فَالْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ سَلَامِ الْمُلَاقَاةِ، وَالثَّانِي فِي مَرْتَبَةِ الْمُوَادَعَةِ أَوْ كَأَنَّهَا قَالَتْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوَّلًا وَآخِرًا أَوْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَكْرَارِ السَّلَامِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى تَأْكِيدِ طَلَبِ السَّلَامَةِ وَتَرْكِ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَلَامَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5131 -
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ ذَاكَ؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وَفِي رِوَايَةٍ: " لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5131 -
(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ) : بِالتَّأْنِيثِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ مِنْ فَاعِلِهِ آيَةً وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] تَمَامُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82] أَيْ: فِي الْآخِرَةِ {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] أَيْ: فِي الدُّنْيَا (شَقَّ ذَلِكَ) أَيْ: صَعُبَ ذَلِكَ الْكَلَامُ أَوِ الْحُكْمُ (عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، لَا سِيَّمَا مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ (وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) أَيْ: ظُلْمًا قَاصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا مَعَ أَنَّ الثَّانِي أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى ظُلْمِ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7](فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا فَهِمْتُمْ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الظُّلْمُ (الشِّرْكُ) : فَفِي التَّنْكِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ أَيْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ) أَيْ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ (يَا بُنَيَّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13] أَيْ: لَا تَخْلِطِ الْإِشْرَاكَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْإِيمَانَ وَيَسْتَأْصِلُهُ وَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَهِمُوا خَلْطَ الْمَعْصِيَةِ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُهُ بِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خَلْطَهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكَ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ إِيمَانًا لُغَوِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَإِلَّا فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ نُعُوتِ النَّقْصِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِالْإِشْرَاكِ الصُّورِيِّ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكَ» ) . فَإِذَا تَأَمَّلْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الشِّرْكِ الْحَقِيقِيِّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذِ الْمُمْكِنُ بِجَنْبِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَالْمَعْدُومِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ هُوَ) أَيِ: الْأَمْرُ أَوِ الظُّلْمُ أَوِ الْحُكْمُ (كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) أَيْ: إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى اللَّبْسِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ الْمَعْصِيَةُ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّبْسِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ تُفَسِّقُهُمْ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ ذَاكَ مَعْنَاهُ لَيْسَ كَمَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّبْسَ يَقْتَضِي الْخَلْطَ وَلَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُ الشِّرْكَ بِالْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ بِهِ، وَقِيلَ النِّفَاقُ لِبْسُ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ بِالْكُفْرِ الْبَاطِنِ وَفِي الْآيَةِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ فِيهَا الشِّرْكُ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ اطِّلَاعٍ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5132 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5132 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ) : وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةٍ إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ (مَنْزِلَةً) أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قُيِّدَ بِهِ لِظُهُورِ الْأَمْرِ فِيهِ (عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ) أَيْ: ضَيَّعَهَا (بِدُنْيَا غَيْرِهِ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ.
5133 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ. يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ: ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَذَاكَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ تَجَاوَزَ عَنْهُ» ".
ــ
5133 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الدَّوَاوِينُ) أَيْ: صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الدِّيوَانُ الْجَرِيدَةُ مِنْ دُونِ الْكُتُبِ إِذَا جَمَعَهَا لِأَنَّهَا قِطَعٌ مِنَ الْقَرَاطِيسِ مَجْمُوعَةٌ. (دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ) أَيْ: لَا يَغْفِرُهُ وَلَا يَعْفُو عَنْهُ أَلْبَتَّةَ (الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) : وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكُفْرُ بِأَنْوَاعِهِ يَقُولُ اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أَيْ: بِلَا تَوْبَةٍ أَوْ لَا يَغْفِرُ الْإِشْرَاكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُهُ اللَّهُ) أَيْ: بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَلَا مُطَالَبَةٍ لَا مَحَالَةَ (ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتَصَّ) : مُتَعَلِّقٌ بِلَا يَتْرُكُهُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى يَقْتَصَّ (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) : أَوْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِإِرْضَاءِ خُصُومِهِمْ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاقْتِصَاصِ قَائِمٌ مَقَامَ الدِّيَةِ فِي الدُّنْيَا (وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يُبَالِي (بِهِ) : وَلَا يَرَى لَهُ وَزْنًا مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثِّقْلُ (ظُلْمُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ) : وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُوجِدُ حَقُّ عَبْدٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ أَيْضًا، فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ وَالْجِهَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَدَدِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْرَى لِفَقْرِ الْعَبْدِ وَاسْتِغْنَائِهِ سُبْحَانَهُ (فَذَاكَ) : بِالْأَلْفِ دُونِ اللَّامِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقَرِيبِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ: مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ (إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) أَيْ: بِقَدْرِ ذَنْبِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ (وَإِنْ شَاءَ تَجَاوَزَ عَنْهُ) أَيْ: غَفَرَهُ مَجَّانًا وَبِتَقْدِيرِنَا هَذَا يَنْدَفِعُ مَا يَرِدُ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ حَيْثُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّقْسِيمِ قَدْ يُنَافِيهِ آيَةُ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى لَا يَغْفِرُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا يُغْفَرُ أَصْلًا، وَفِي الثَّانِيَةِ لَا يُتْرَكُ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَا يُهْمَلُ قَطْعًا إِمَّا بِأَنْ يَقْتَصَّ مِنْ خَصْمِهِ أَوْ يُرْضِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الثَّالِثَةِ لَا يَعْبَأُ لِيَشْعُرَ بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيَتْرُكَ حَقَّهُ كَرَمًا وَلُطْفًا.
5134 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَقَّهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ» ".
ــ
5134 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) أَيْ: وَلَوْ ذِمِّيًّا (فَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَقَّهُ) أَيْ: سُؤَالَ مُحَاسَبَةٍ وَمُطَالَبَةٍ (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ) أَيْ: بَلْ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ وَوَعْدُ صِدْقٍ وَفِعْلَهُ عَدْلٌ، ثُمَّ بَعْدَهُ فَضْلٌ.
5135 -
وَعَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُقَوِّيَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ» .
ــ
5135 -
(وَعَنْ أَوْسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَسُكُونِ مُهْمِلَةٌ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَتَرْكِ صَرْفٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَلَمْ يُذَكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُقَوِّيَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ لِيُعِينَهُ (وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ) أَيْ: فِيهِ (فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الْمُقْتَضِي أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.