الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعَاطِفِ، فَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ انْتَهَى. وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطِبٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَالضَّمِيرُ لِلنَّاسِ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ وَوَقَفْتُهَا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، الْمَعْنَى احْبِسُوهُمْ (إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَيُقَالُ: أَخْرِجُوا) : أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْ: مَيِّزُوا مِمَّا بَيْنَ الْخَلَائِقِ (بَعْثَ النَّارِ) أَيْ: مَبْعُوثَهَا بِمَعْنَى مَنْ يُبْعَثُ إِلَيْهَا (فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ كَمْ؟) أَيْ: سَأَلَ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ كَمِّيَّةِ الْعَدَدِ الْمَبْعُوثِ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُونَ: كَمْ عَدَدًا نُخْرِجُهُ مِنْ كَمْ عَدَدٍ؟ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، فَكَمِ الْأُولَى خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَكَمِ الثَّانِيَةُ مُبْتَدَأٌ، أَوْ هُمَا مَفْعُولَا نُخْرِجُ الَّذِي لِلْمُتَكَلِّمِ، (فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: أَخْرِجُوا لِلنَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ (وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ)، قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ يُتْرَكُونَ فِيهَا بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفُوا عَنْ طَرِيقِ جَهَنَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُصُوا مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا بِالشَّفَاعَةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ عَذَابَ النَّارِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا كِتَابٍ، فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي الْعِقَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَذَلِكَ) أَيِ: الْوَقْتُ (يَوْمَ)، أَوْ فَذَلِكَ الْحُكْمُ وَقْتَ (يُجْعَلُ) أَيْ: يَصِيرُ فِيهِ (الْوِلْدَانُ) أَيِ: الصِّبْيَانُ جَمْعُ وَلِيدٍ (شِيبًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ أَشْيَبَ كَأَبْيَضَ وَبِيضٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ الْأَطْفَالُ شِيبًا فِي الْحَالِ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَنَّ وَلِيدًا شَابَ مِنْ وَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ لَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ هَذَا، يَوْمَ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ مُضَافًا، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ مَرْفُوعًا، وَيُجْعَلَ الْوِلْدَانُ صِفَةً لَهُ، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا وَأَنْ يَكُونَ مُضَافًا مَفْتُوحًا، فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ حِينَئِذٍ حَقِيقِيًّا وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَأَوْفَقُ، لِمَا وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، (وَذَلِكَ) أَيْ: أَيْضًا (يَوْمَ يُكْشَفُ) : فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ بِرَفْعِ يَوْمٍ مُنَوَنًّا، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَتْحِ مُضَافًا، وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ يُكْشَفُ (عَنْ سَاقٍ) أَيْ: شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ، يُقَالُ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنِ السَّاقِ إِذَا اشْتَدَّ فِيهَا، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوَلَدَ يَمُوتُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ، فَيُدْخِلُ الْمُدْمِرُ يَدَهُ فِي رَحِمِهَا فَيَأْخُذُ سَاقَهُ ; فَجُعِلَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَخَطْبٍ جَسِيمٍ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا هَابَ الْقَوْلَ فِيهِ شُيُوخُنَا، فَأَجْرَوْهُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ بَاطِنِ مَعْنَاهُ، عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِهِمْ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ تَفْسِيرِ كُلِّ مَا لَا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِكُنْهِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، أَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ فَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ شِدَّةٍ عَظِيمَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَظِيعَةٍ، وَهُوَ إِقْبَالُ الْآخِرَةِ وَظُهُورُهَا وَذَهَابُ الدُّنْيَا وَإِدْبَارُهَا، وَيُقَالُ لِلْأَمْرِ إِذَا اشْتَدَّ وَتَفَاقَمَ وَظَهَرَ وَزَالَ خَفَاؤُهُ: كَشَفَ عَنْ سَاقِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ سَاقٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ: ( «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ» ) أَيْ: حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ:«لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، فَالْمُرَادُ بِالْهِجْرَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ هِيَ الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مِنْ دِيَارِ الْبِدْعَةِ إِلَى دِيَارِ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ بِلَادِ الشَّرِّ إِلَى بِلَادِ الْخَيْرِ، (فِي بَابِ التَّوْبَةِ) : وَفِيهِ اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ مُنْضَمٌّ إِلَى بَيَانٍ قَوْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ أَنْسَبُ بِذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [
بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]
[27]
كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
[1]
بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5521 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ " قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا. قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ " ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ " قَالَ: " وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ:" كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ ".
ــ
[27]
كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
[1]
بَابُ نَفْخِ الصُّورِ
بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ بَعْثِ الْمَوْتَى إِلَى الْمَحْشَرِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5521 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ ") أَيْ: نَفْخَةِ الصَّعْقِ وَهِيَ الْإِمَاتَةُ، وَنَفْخَةِ النُّشُورِ وَهِيَ الْإِحْيَاءُ (أَرْبَعُونَ) : أَبْهَمَ فِي الْحَدِيثِ وَبَيَّنَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ عَامًا، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْإِبْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ، (قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَرْبَعُونَ يَوْمًا) ؟ بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ (قَالَ: أَبَيْتُ) أَيِ: امْتَنَعْتُ عَنِ الْجَوَابِ لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا هُوَ الصَّوَابُ، أَوْ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ صَاحِبِ الْمَقَالِ ; فَلَا أَدْرِي مَا الْحَالُ، (قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ) ، قَالَ: الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ لَا أَدْرِي أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْفَاصِلَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَيُّ شَيْءٍ أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ أَعْوَامًا، وَأَمْتَنِعُ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا أَعْلَمُ. (قَالَ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَهُ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَكُونَ مَوْقُوفًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: رَاوِيًا عَنْهُ وَنَاقِلًا مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْجَامِعِ لَفْظُ قَالَ فِيهِ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ، (ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أَيْ: مَطَرًا كَالطَّلِّ عَلَى مَا سَبَقَ (فَيَنْبُتُونَ) أَيْ: فَيَنْبُتُ أَجْسَادُ الْخَلْقِ مِنْهُ (كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ)، أَيْ: مِنَ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فُهِمَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ، فَتَعْبِيرُهُ بِـ " ثُمَّ " هُنَا لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ أَيْ: بَعْدَمَا عَلِمْتَ مَا سَبَقَ، فَاعْلَمْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ.
(قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ) أَيْ: جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ (لَا يَبْلَى) أَيْ: لَا يَخْلَقُ وَلَا يَرِمُّ مِمَّنْ يَبْلَى جَسَدُهُ ; «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ» ، وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، بَلْ قِيلَ: وَمِنْهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ فَإِنَّهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءُ أَوْ كَالْأَحْيَاءِ، (إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا)، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: إِلَّا عَظْمٌ وَاحِدٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ (شَيْءٍ) وَهُوَ وَاضِحٌ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ لَا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا نَفْيُ النَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ; فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا فَإِنَّهُ لَا يَبْلَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ ; لِأَنَّ اسْمَهُ مَوْصُوفٌ، كَقَوْلِكَ: لَيْسَ زَيْدٌ إِلَّا قَائِمًا، فَـ " مِنَ الْإِنْسَانِ " حَالٌ مِنْ شَيْءٍ (وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ تَثْلِيثَ الْعَيْنِ مَعَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، فَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ، وَهُوَ الْعَظْمُ بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ الَّذِي فِي أَسْفَلِ الصُّلْبِ.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: الْمُرَادُ طُولُ بَقَائِهِ تَحْتَ التُّرَابِ، لَا أَنَّهُ لَا يَفْنَى أَصْلًا ; فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَحْسُوسِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ وَآخِرُ مَا يَبْلَى، وَمَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَاعِدَةُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأُسُّهُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ أَصْلَبَ مِنَ الْجَمِيعِ، كَقَاعِدَةِ الْجِدَارِ وَأُسِّهِ، وَإِذَا كَانَ أَصْلَبَ كَانَ أَطْوَلَ بَقَاءً.
أَقُولُ: التَّحْقِيقُ - وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ - أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ يَبْلَى آخِرًا، كَمَا شَهِدَ بِهِ حَدِيثٌ، لَكِنْ لَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا حُقِّقَ فِي بَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْقَلِيلَ مِنْهُ الْمَخْلُوطَ بِالتُّرَابِ غَيْرُ قَابِلٍ لِأَنْ يَتَمَيَّزَ بِالْحِسِّ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْحِسِّ. (وَمِنْهُ يُرَكَّبُ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ (الْخَلْقُ) أَيْ: سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: كَمَا خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِيجَادِ كَذَلِكَ خُلِقَ أَوَّلًا فِي الْإِعَادَةِ، أَوْ أُبْقِيَ حَتَّى يُرَكَّبَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ ثَانِيًا.
قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) ، وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ، وَفِي الْجَامِعِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كُلُّ ابْنِ آدَمَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ: أَعْضَاءُ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحَيَوَانِ (يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ) أَيْ: فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ عَجْبِ الذَّنَبِ (خُلِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: ابْتُدِئَ مِنْهُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا (وَفِيهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ، وَسَبَقَ أَنَّ فِي تَأْتِي مُرَادِفَةً لِمِنْ (يُرَكَّبُ) أَيْ: ثَانِيًا. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَا مَخْصُوصٌ فَيُخَصُّ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ ; فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَهُمْ، وَهُوَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ.
5522 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» "؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5522 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ» ) : وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمَا إِبْدَالُهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، (بِيَمِينِهِ) أَيْ: بِقُوَّتِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ، أَوْ بِيَمِينِهِ الصَّادِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، أَوْ بِقَبْضِ الْمَلَائِكَةِ وَطَيِّهِمُ الْكَائِنَيْنِ بِيَمِينِ عَرْشِهِ. قَالَ الْقَاضِي: عَبَّرَ بِهِ عَنْ إِفْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْمُظِلَّةَ وَهَذِهِ الْمُقِلَّةَ، رَفْعُهُمَا مِنَ الْبَيْنِ، وَإِخْرَاجُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْوًى وَمَنْزِلًا لِبَنِي آدَمَ بِقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَهُونُ عَلَيْهَا الْأَفْعَالُ الْعِظَامُ الَّتِي يَتَضَاءَلُ دُونَهَا الْقُوَى وَالْقُدَرُ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهَا الْأَفْهَامُ وَالْفِكَرُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، وَأَضَافَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ طَيَّ السَّمَاوَاتِ وَقَبْضَهَا إِلَى الْيَمِينِ، وَطَيَّ الْأَرْضِ إِلَى الشِّمَالِ ; تَنْبِيهًا وَتَخْيِيلًا لِمَا بَيْنَ الْمَقْبُوضَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَصِفَةِ الْأَجْسَامِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ فِي صِفَاتِهِ، مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الْجِهَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ، فَلَا نَخُوضُ فِي تَأْوِيلِهِ، بَلْ نُؤْمِنُ بِمَا هُوَ مَدْلُولُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ سُبْحَانَهُ، مَعَ التَّنْزِيهِ عَمَّا يُوهِمُ الْجِهَةَ وَالْجِسْمِيَّةَ. (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) أَيْ: لَا مُلْكَ إِلَّا لِي، أَوْ أَنَا مَلِكُ الْمُلُوكِ وَالْأَمْلَاكِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَلِكَ أَبْلَغُ مِنَ الْمَالِكِ، مَعَ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أَنَّ أَيَّ الْقِرَاءَتَيْنِ أَبْلَغُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ:
وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ رَاوِيهِ نَاصِرُ
وَمُجْمَلُ الْكَلَامِ فِي الْبَيْضَاوِيِّ مَذْكُورٌ وَالتَّفْصِيلُ فِي غَيْرِهِ مَسْطُورٌ، (أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ) ؟ أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ دَوَامًا لَا يَرَوْنَ بِهِ زَوَالًا، أَوِ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ الْأُلُوهِيَّةَ فِي الْجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ، وَقُيِّدَ بِهَا لِأَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى هُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ أَفْعَالِ أَهْلِ السُّفْلَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
5523 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: " يَأْخُذُهُنَّ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْأُخْرَى " - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ "؟ .» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5523 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ» ) ؟ أَيِ: الظَّلَمَةُ الْقَهَّارُونَ (أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ) ؟ أَيْ: بِمَالِهِمْ وَجَاهِهِمْ وَخَيْلِهِمْ وَحَشَمِهِمْ، لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، (ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُسَكَّنُ (بِشِمَالِهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُهُنَّ) أَيْ: بَدَلَ يَطْوِي، فَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ (بِيَدِهِ الْأُخْرَى)، هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْفَقُ بِحَدِيثِ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَضَمِيرُهُنَّ إِلَى الْأَرَضِينَ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ نَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَأَنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْأَرَضِينَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟) فَيُنْظَرُ فِي الْأُصُولِ لِطَلَبِ الْأَحْرَى. قَالَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالشِّمَالُ الْقُدْرَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّ التَّسْخِيرُ التَّامُّ وَالْقَهْرُ الْكَامِلُ، وَهُوَ كَذَلِكَ الْآنَ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي الْقِيَامَةِ يَكُونُ أَظْهَرَ، وَنَسَبَ طَيَّ السَّمَاوَاتِ إِلَى الْيَمِينِ وَطَيَّ الْأَرَضِينَ إِلَى الشِّمَالِ ; تَنْبِيهًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَقْبُوضَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ، بَعْدَ أَنْ نَزَّهَ ذَاتَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ نِسْبَةِ الشِّمَالِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ; لِأَنَّ الشِّمَالَ نَاقِصٌ فِي الْقُوَّةِ عَادَةً، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النُّقْصَانِ، وَعَنْ سَائِرِ صِفَاتِ الْحَدَثَانِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5524 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا اللَّهُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5524 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُكْسَرُ مُفْرَدُ الْأَحْبَارِ أَيْ: عَالِمٌ (مِنَ الْيَهُودِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَوْ مِنْ أَحْبَارِهِمْ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ، فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ، (وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ) أَيْ: جِنْسَهُ (عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى) أَيِ: التُّرَابَ النَّدِيَّ، يَعْنِي الْمَاءَ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ الثَّرَى (عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ) أَيْ: بَاقِيَهُ (عَلَى إِصْبَعٍ) ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ طَيَّ الْعُلْوِيِّ بِيَمِينِهِ وَالسُّفْلِيِّ بِالْأُخْرَى، وَأَيْضًا ظَاهِرُ تَقْسِيمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْأَصَابِعِ مُوهِمٌ لِإِرَادَةِ تَحَقُّقِ الْجَارِحَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَصَابِعِ الْخَمْسَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُجَسِّمَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا قَرَّرَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْهُ لَزِمَ إِمَّا التَّأْوِيلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلَفِ وَهُوَ أَعْلَمُ، أَوِ التَّسْلِيمُ وَالتَّفْوِيضُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، فَقَالَ شَارِحٌ: وَالْمَعْنَى يَهُونُ عَلَى اللَّهِ إِمْسَاكُهُمْ وَحِفْظُهَا، كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ يَحْمِلُ بِأُصْبُعِهِ لِقُوَّتِهِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: السَّبِيلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ، أَوْ ضَرْبٍ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَصْوِيرُ عَظَمَتِهِ، وَالتَّوْفِيقُ عَلَى جَلَالَةِ شَأْنِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ تَصَرُّفَ أَقْوَى قَادِرٍ عَلَى أَدْنَى مَقْدُورٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي سُهُولَةِ الْمَطْلَبِ، وَقُرْبِ التَّنَاوُلِ، وُفُورُ الْقُدْرَةِ، وَسَعَةُ الِاسْتِطَاعَةِ: هُوَ مِنِّي عَلَى حَبْلِ الذِّرَاعِ، وَإِنِّي أُعَالِجُ ذَلِكَ بِبَعْضِ كَفِّي، وَأَسْتَقِلُّهُ بِفَرْدِ أُصْبُعٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ اسْتِهَانَةً بِالشَّيْءِ، وَاسْتِظْهَارًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْمُتَوَرِّعُ عَنِ الْخَوْضِ فِي تَأْوِيلِ أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، إِذْ لَمْ يُنْزِلْهَا فِي سَاحَةِ الصَّدْرِ مَنْزِلَةَ مُسَمَّيَاتِ الْجِنْسِ.
(ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ) : الضَّمِيرُ لِلْأَصَابِعِ، وَالْمَعْنَى يُحَرِّكُهُنَّ (فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) أَيِ: الْقَادِرُ الْقَوِيُّ الْقَاهِرُ (أَنَا اللَّهُ) أَيِ: الْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَعْبُودِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ) : عِلَّةُ الْعِلَّةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّمَا ضَحِكَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَتَعَجَّبَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ إِمْسَاكٍ وَلَا أُصْبُعٍ وَلَا هَزٍّ وَلَا شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ فَهْمَهُ وَقَعَ أَوَّلَ شَيْءٍ وَآخِرَهُ عَلَى الزُّبْدَةِ وَالْخُلَاصَةِ الَّتِي هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا تَرَى بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقَّ، وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَلَا أَنْفَعَ وَأَهْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ الْمُشْتَبِهَاتِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّ أَكْثَرَهُ تَخَيُّلَاتٌ قَدْ زَلَّتْ فِيهَا الْأَقْدَامُ قَدِيمًا، (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِضَادًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِشْهَادًا، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أَيْ: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ وَالْأَرْضُ: الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ جِنْسَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ {جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] أَيْ: مَقْبُوضَتُهُ وَفِي مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يَشَاءُ بِلَا مُزَاحِمٍ مَعَ سُهُولَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُنَّ بِعَظَمَتِهِنَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ لَيْسَتْ إِلَّا قَبْضَةً وَاحِدَةً {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أَيْ: مَجْمُوعَاتٌ بِقُدْرَتِهِ أَوْ مُغَيَّبَاتٌ بِقَسَمِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ أَنَّهُ يُفْنِيهِمَا {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] : بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
5525 -
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " عَلَى الصِّرَاطِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5525 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ) ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ) أَيْ: سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] أَيْ: يَوْمَ تُبَدَّلُ هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا أَرْضًا أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ (وَالسَّمَاوَاتُ) أَيْ: كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْكَوَاشِي: إِنَّهَا تُبَدَّلُ بِخُبْزَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَأْكُلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ حَتَّى يَفْرُغَ الْحِسَابُ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْحَشْرِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ يُبَدِّلُهَا أَرْضًا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ كَالصَّحَائِفِ، وَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ، وَالْإِبْدَالُ جَعْلُ الشَّيْءِ مَكَانَ آخَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَدْ يَكُونُ التَّبْدِيلُ فِي الذَّوَاتِ، كَقَوْلِكَ بَدَّلْتُ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ، وَفِي الْأَوْصَافِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلَقَةَ خَاتَمًا إِذَا أَذَبْتَهَا وَسَوَّيْتَهَا خَاتَمًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَبْدِيلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ فَقِيلَ: تُبَدَّلُ أَوْصَافُهَا فَتَسِيرُ عَلَى الْأَرْضِ جِبَالُهَا، وَتُفَجَّرُ بِحَارُهَا، وَتُجْعَلُ مُسْتَوِيَةً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَتُبَدَّلُ السَّمَاوَاتُ بِانْتِشَارِ كَوَاكِبِهَا، وَكُسُوفِ شَمْسِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا. وَقِيلَ: يُخْلَقُ بَدَلُهَا أَرْضٌ وَسَمَاوَاتٌ أُخَرُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَمْ يُخْطِئْ عَلَيْهَا أَحَدٌ خَطِيئَةً. وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّبْدِيلِ تَغْيِيرُ الذَّاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ حَيْثُ قَالَتْ:(فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ) : الْمَعْهُودِ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ جِنْسِ الصِّرَاطِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5526 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5526 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ ") : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ وَتَذْكِيرِهِ لِتَغْلِيبِ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ الْمُذَكَّرُ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَوْكَبَيْنِ النَّيِّرَيْنِ، وَقَوْلُهُ:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفٌ لَهُ، وَالتَّكْوِيرُ مَعْنَاهُ اللَّفُّ، وَمِنْهُ تَكْوِيرُ الْعِمَامَةِ، وَقَالَ تَعَالَى:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] وَهُوَ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9]، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنَ التَّكْوِيرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى اللَّفِّ الْجَمْعُ، أَيْ: يَلُفُّ صُوَرَهُمَا لَنَا ; فَيَذْهَبُ انْبِسَاطُهُمَا فِي الْآفَاقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ رَفْعُهُمَا ; لِأَنَّ الثَّوْبَ إِذَا طُوِيَ رُفِعَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعْنَةٌ مُكَوَّرَةٌ مِنْ كَوَّرَهُ إِذَا أَلْقَاهُ، أَيْ: مُلْقَيَانِ مِنْ فَلَكِهِمَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَشْبَهُ بِنَسَقِ الْحَدِيثِ لِمَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ تَكْوِيرُهَا فِيهَا لِيُعَذَّبَ بِهِمَا أَهْلُ النَّارِ، لَا سِيَّمَا عُبَّادَ الْأَنْوَارِ، وَلَا يُعَذَّبَانِ فِي النَّارِ، فَإِنَّهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّكْلِيفِ، بَلْ سَبِيلُهُمَا فِي النَّارِ سَبِيلُ النَّارِ نَفْسِهَا، وَسَبِيلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ، إِنْ شَاءَ أَخْرَجَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا، وَالْعَقِيرُ: الزَّمِنُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5527 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5527 -
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ أَنْعَمُ ") أَيْ: أَفْرَحُ وَأَتَنَعَّمُ مِنْ نَعِمَ عَيْشُهُ كَفَرِحَ اتَّسَعَ، وَلِأَنَّ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنَ النَّعْمَةِ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ الْمَسَرَّةُ وَالْفَرَحُ وَالتَّرَفُّهُ. (وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ) أَيْ: وَضَعَ طَرَفِ الصُّورِ فِي فَمِهِ (وَأَصْغَى سَمْعَهُ) أَيْ: أَمَالَ أُذُنَهُ (وَحَنَى جَبْهَتَهُ) أَيْ: أَمَالَهَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَجُّهِ لِإِصْغَاءِ السَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْأُذُنِ، (يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ
الِالْتِقَاءِ وَالْإِصْغَاءِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِصَاحِبِهِ، بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله: مَعْنَاهُ كَيْفَ يَطِيبُ عَيْشِي، وَقَدْ قَرُبَ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ وَضَعَ رَأْسَ الصُّورِ فِي فَمِهِ، وَهُوَ مُتَرَصِّدٌ مُتَرَقِّبٌ لِأَنْ يُؤْمَرَ فَيَنْفُخَ فِيهِ. (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا تَأْمُرُنَا؟) أَيْ: أَنْ نَقُولَ الْآنَ، أَوْ حِينَئِذٍ، أَوْ مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ (قَالَ:" قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ") : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ: كَافِينَا اللَّهُ (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) : فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ: نِعْمَ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ اللَّهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَيْرَكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالُوا لَهُ:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
5528 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الصُّورُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
5528 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الصُّورُ قَرْنٌ ") : قِيلَ دَائِرَةٌ رَأْسُهُ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، (يُنْفَخُ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ النَّفْخَتَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5529 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] : الصُّورِ، قَالَ: وَ (الرَّاجِفَةُ) : النَّفْخَةُ الْأُولَى، وَ (الرَّادِفَةُ) الثَّانِيَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5529 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ} [المدثر: 8] أَيْ: نُفِخَ {فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] الصُّورِ: بِالْجَرِّ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ الصُّورُ، (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا {الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] أَيْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6 - 7] ; لِأَنَّهَا تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ عِنْدَهَا أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ وَتَتَزَلْزَلُ لَهَا، (وَالرَّادِفَةُ: الثَّانِيَةُ) أَيْ: لِأَنَّهَا تَقَعُ عَقِيبَهَا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّاجِفَةُ الْوَاقِعَةُ الَّتِي تَرْجُفُ عِنْدَهَا الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى وُصِفَتْ بِمَا يَحْدُثُ بِحُدُوثِهَا، وَالرَّادِفَةُ الْوَاقِعَةُ الَّتِي تَرْدُفُ الْأُولَى وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ أَيْ: فِي عُنْوَانِهِ تَعْلِيقًا، لَكِنْ وَصَلَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ.
5530 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الصُّورِ، وَقَالَ: " عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ» .
ــ
5530 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاحِبَ الصُّورِ) أَيْ: إِسْرَافِيلَ (وَقَالَ: " عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ فَكَسْرِ رَاءٍ فَسُكُونِ يَاءٍ وَبِفَتْحِهِمَا وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ وَتُحْذَفُ، أَرْبَعُ لُغَاتٍ كُلُّهُنَّ مُتَوَاتِرَاتٌ، (وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ) : بِهَمْزَةٍ وَتَحْتِيَّةٍ وَتُحْذَفُ وَبِوَزْنِ مِفْعَالٍ، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ لِلْجَعْبَرِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُمَا مَمْدُودَانِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ الْمَدَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ أَوْ حَرْفَ الْمَدِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ جِبْرَائِيلَ بِالْأَلِفِ الْمَمْدُودَةِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَاخْتِيرَ لِمُشَاكَلَةِ مِيكَائِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.