الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأُصُولِ الْمَاكِسُ: الْعِشَارُ، وَلَعَلَّ الْمُنَاسَبَةَ التَّشْبِيهِيَّةَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَكْسِ أَيْضًا لَمْ يَقْبَلِ اعْتِذَارَ التَّاجِرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَالَهُ مَالُ أَمَانَةٍ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ فِي بَنْدَرٍ آخَرَ، أَوْ أَنَّهُ مَدْيُونٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَقْوَى هُوَ أَنَّهُ مَعَ هَذَا يَظْلِمُ عَلَيْهِ بِأَخْذِ مَالِهِ مَعَ التَّعَدِّي إِلَى الزَّائِدِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:" «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ شِرَارَكُمُ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَهُمْ يُبْغِضُونَهُ قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى إِنْ شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ يَبِرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَالتَّنَصُّلُ: الِاعْتِذَارُ.
[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5052 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(18)
بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ
الْحَذَرُ: الِاحْتِرَاسُ مِنَ الضَّرَرِ، وَالتَّأَنِّي ضِدُّ الْعَجَلَةِ، مِنْ تَأَنَّى فِي الْأَمْرِ إِذَا تَوَقَّفَ فِيهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5052 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ) : بِرَفْعِ الْغَيْنِ عَلَى النَّفْيِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الْغَيْنِ عَلَى النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ فِي عَقْلِهِ (مِنْ جُحْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ حَاءٍ أَيْ ثُقْبٍ وَخَرْقٍ (وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) أَيْ: كَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهَا: عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُتَيَقِّظُ الْحَازِمُ الَّذِي لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ، فَيُخْدَعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا يُفْطَنُ هُوَ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْخِدَاعُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ دُونَ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَثَانِيهُمَا: عَلَى النَّهْيِ أَيْ: لَا يُخْدَعَنَّ الْمُؤْمِنُ وَلَا يُؤْتَيَنَّ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَفْلَةِ، فَيَقَعُ فِي مَكْرُوهٍ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَأَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغِ الْخَطَّابِيَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُوَ أَبُو غُرَّةَ الشَّاعِرُ الْجُمَحِيُّ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْرِصَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ مَا مِنْهُ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَأُسِرَ تَارَةً أُخْرَى، فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَكَلَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِ فَقَالَ:" لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ " الْحَدِيثَ. وَرَوَى النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَالَ: سَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسَرَ أَبَا غُرَّةَ الشَّاعِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَنَّ عَلَيْهِ وَعَاهَدَهُ أَنْ لَا يُحَرِّضَ عَلَيْهِ وَلَا يَهْجُوَهُ، فَأَطْلَقَهُ فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّحْرِيضِ وَالْهِجَاءِ، ثُمَّ أُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَأَلَهُ الْمَنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ " الْحَدِيثَ. وَهَذَا السَّبَبُ يُضَعِّفُ الْوَجْهَ الثَّانِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ ضَعْفِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُؤْمِنُ مُخْتَصًّا بِهِ عليه السلام، لِكَوْنِهِ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الطِّيبِيُّ فِي نُصْرَةِ الْخَطَّابِيِّ إِلَى أَنْ قَالَ: فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى وَالْمَقَامَ لَهُ أَدْعَى اهـ. وَبُعْدَهُ لَا يَخْفَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ وَأَحْمَدُ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
5053 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5053 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ) : بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ كَانَ رَئِيسَ عَبَدِ الْقَيْسِ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَأَنَّ عَبْدَ
" الْقَيْسِ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ رَئِيسَ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ. (إِنْ فِيكَ لِخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ) أَيْ: فِيكَ وَفِي غَيْرِكَ (الْحِلْمَ) : وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ تَأْخِيرُ مُكَافَأَةِ الظَّالِمِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الذَّنْبِ قِيلَ: وَالْمُرَادُ لَهُ هُنَا عَدَمُ اسْتِعْجَالِهِ وَتَرَاخِيهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي مَصَالِحِهِ. قُلْتُ: فَيَبْقَى مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ: (وَالْأَنَاةُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ وَهِيَ اسْمٌ مِنَ التَّأَنِّي، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْوَقَارُ وَالتَّثَبُّتُ، وَقِيلَ: الثَّبَاتُ فِي الطَّاعَاتِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَوْدَةُ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ. وَضُبِطَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَجَوَّزَ نَصْبُهُمَا، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ النَّصْبُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَفِي حَدِيثِ "«بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» " هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ رُوِيَ عَنِ الْمُنْذِرِ، الْأَشَجِّ أَنَّهُ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: " بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا " قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» اهـ. وَإِنَّمَا عَطَفُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ صلى الله عليه وسلم تَابِعَةٌ لِمَحَبَّتِهِ تَعَالَى لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5054 -
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الْأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسٍ الرَّاوِي مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5054 -
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) : صَحَابِيَّانِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ» ) أَيْ: مِنْ إِلْهَامِهِ (وَالْعَجَلَةُ) أَيْ: فِي أُمُورِ الدُّنْيَا (مِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ وَسْوَسَتِهِ. قِيلَ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا شُبْهَةَ فِي خَيْرِيَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90] قُلْتُ: بَوْنٌ بَيْنَ الْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَبَيْنَ الْعَجَلَةِ فِي نَفْسِ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ غَرِيبٌ. (وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ) أَيْ: مِنَ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِ رِجَالِ الْإِسْنَادِ (فِي عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسٍ الرَّاوِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ أَحَدِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ) أَيْ وَقَعَ طَعْنُ الْبَعْضِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ حِفْظِهِ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ ثِقَةٌ، فَأَمْرُهُ سَهْلٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ:" «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» ".
5055 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرُبَةٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
5055 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ» ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ صَاحِبَ زَلَّةِ قَدَمٍ أَوْ لَغْزَةِ قَلَمٍ فِي تَقْرِيرِهِ أَوْ تَحْرِيرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ لَا حَلِيمَ كَامِلًا إِلَّا مَنْ وَقَعَ فِي زَلَّةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ الْخَطَأُ وَالتَّخَجُّلُ، فَعُفِيَ عَنْهُ فَعَرَفَ بِهِ رُتْبَةَ الْعَفْوِ فَيَحْلُمُ عِنْدَ عَثْرَةِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ ثَابِتَ الْقَدَمِ. (وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ) . أَيْ صَاحِبَ امْتِحَانٍ فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ. قَالَ الشَّارِحُ أَيْ: لَا حَكِيمَ كَامِلًا إِلَّا مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ وَعَلِمَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا إِلَّا عَنْ حُكْمِهِ إِذِ الْحِكْمَةُ إِحْكَامُ الشَّيْءِ لِإِصْلَاحِهِ مِنَ الْخَلَلِ اهـ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي النِّهَايَةِ وَشَرْحِ الْمُظْهِرِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا حَلِيمَ وَلَا حَكِيمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَّا كَذَا لِيَصِحَّ الْحَصْرُ، وَقَدْ عَرَفْتَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِهِمَا فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى لَا حَلِيمَ إِلَّا وَقَدْ يَعْثُرُ كَمَا قِيلَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ الْحَلِيمِ، وَلَا حَكِيمَ مِنَ الْحُكَمَاءِ الطِّبِّيَّةِ إِلَّا صَاحِبَ التَّجْرِبَةِ فِي الْأُمُورِ الدَّائِبَةِ وَالذَّاتِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
5056 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي. فَقَالَ: " خُذِ الْأَمْرَ بِالتَّدْبِيرِ، فَإِنْ رَأَيْتَ فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، وَإِنْ خِفْتَ غَيًّا فَأَمْسِكْ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
5056 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي) أَيْ: بِشَيْءٍ يُزِيلُ تَحَيُّرِي فِي أَمْرِي (فَقَالَ: خُذِ الْأَمْرَ) أَيِ: الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ (بِالتَّدَبُّرِ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَيْ بِالتَّفَكُّرِ فِي دُبُرِهِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَصَالِحِهِ وَمَفَاسِدِهِ وَالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ. (فَإِنْ رَأَيْتَ فِي عَاقِبَتِهِ خَيْرًا) أَيْ: نَفْعًا دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا (فَأَمْضِهِ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ فَافْعَلْهُ (وَإِنْ خِفْتَ) أَيْ: رَأَيْتَ بِقَرِينَةِ الْقَرِيبَةِ فَفِيهِ تَفَنُّنٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَهَ فِيِ الشَّرِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:(غَيًّا) أَيْ: ضَلَالَةً، وَإِنَّمَا تَرَكَ مُرَاعَاةَ الْمُقَابَلَةِ لِيُفِيدَ زِيَادَةَ إِفَادَةِ الْمُشَاكَلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ خَيْرٌ وَهِدَايَةٌ، وَفِي الثَّانِي شَرٌّ وَضَلَالَةٌ، وَهَذَا بَعْضُ الصَّنِيعِ مِنْ صَنَائِعِ الْبَدِيعِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:(رَأَيْتَ) ، بِمَعْنَى عَلِمْتَ أَوْ ظَنَنْتَ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَنَّهُ مَبْنَى الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ غَالِبِهَا، وَالْمَطَالِبِ الْعُرْفِيَّةِ كُلِّهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الظَّنِّ لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْيَقِينِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكُمَّلِ الْعَارِفِينَ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الْعِلْمِ يُعْلَمُ بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَوْفُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ لِأَنَّ مَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ احْتَرَزَ عَنْهُ وَتَحَرَّى حَقِيقَتَهُ اهـ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِيُحَقِّقَ حَقِيقَتَهُ. قَالَ: وَهَذَا أَنْسَبُ لِلْمَقَامِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ (رَأَيْتَ)، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَهُمَا نَتِيجَةُ التَّفَكُّرِ وَالتَّدْبِيرِ. قُلْتُ: بَلْ هُمَا الْمُتَفَرِّعَانِ عَلَيْهِمَا الْمُنْتِجَانِ لِلْفِعْلِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِمْضَاءِ وَالتَّرْكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (فَأَمْسِكْ) أَيْ: كُفَّ عَنْهُ وَاتْرُكْهُ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْمَرْفُوعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّازِقِ فِي الْجَامِعِ، وَابْنُ عُدَيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
5057 -
وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْأَعْمَشُ. لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5057 -
(وَعَنْ مُصْعَبٍ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَبُو زُرَارَةَ (بْنُ سَعْدٍ) أَيِ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: سَعْدٍ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَأَمَّا مُصْعَبُ فَسَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ، وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ الْأَعْمَشُ) : أَيْ أَحَدُ الرُّوَاةِ وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ الْكَاهِلِيُّ الْأَسَدِيُّ مَوْلَى بَنِي كَاهِلٍ، بَطْنٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ خُزَيْمَةَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ بِأَرْضِ الرَّيِّ فَجِيءَ بِهِ حَمِيلًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ، فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ الْمَشْهُورِينَ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْقِرَاءَةِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ الْكُوفِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. (لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ: قَوْلَ سَعْدٍ هَذَا (إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ نَقْلًا وَرِوَايَةً عَنْهُ، أَوْ لَا أَعْلَمُ الْحَدِيثَ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ عليه السلام. (قَالَ: التُّؤَدَةُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيِ التَّأَنِّي (فِي كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ (خَيْرٌ) أَيْ: مُسْتَحْسَنٌ (إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ) أَيْ: لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْخَيِّرَاتِ آفَاتٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَكْثَرَ صِيَاحِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ تَسْوِيفِ الْعَمَلِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا يُعْلَمُ عَوَاقِبُهَا فِي ابْتِدَائِهَا أَنَّهَا مَحْمُودَةُ الْعَوَاقِبِ حَتَّى يَتَعَجَّلَ فِيهَا أَوْ مَذْمُومَةٌ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا، بِخِلَافِ الْأُمُورِ الْأُخْرِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ - وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 148 - 133] قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا تَحَرَّكَتْ لَهُ دَاعِيَةُ الْبَذْلِ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيُخَوِّفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْهُ. كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَرْشَخِيُّ فِي الْخَلَاءِ، فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ فَقَالَ: انْزِعْ عَنِّي الْقَمِيصَ وَادْفَعْهُ إِلَى فُلَانٍ. فَقَالَ: هَلَّا صَبَرْتَ حَتَّى تَخْرُجَ. قَالَ: خَطَرَ لِي بَذْلَهُ وَلَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي أَنْ تَتَغَيَّرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا.
5058 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5058 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ) : كَنَرْجِسٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ وَسَبَقَ تَحْقِيقُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" السَّمْتُ الْحَسَنُ) أَيِ: السِّيرَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ. قَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ الطَّرِيقُ، وَيُسْتَعَارُ لِهَيْئَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَفِي الْفَائِقِ: السَّمْتُ أَخْذُ الْمَنْهَجِ وَلُزُومُ الْمَحَجَّةِ. (وَالتُّؤَدَةُ) أَيِ: التَّأَنِّي فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ (وَالِاقْتِصَادُ) أَيِ: التَّوَسُّطُ فِي الْأَحْوَالِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الِاقْتِصَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْجَوْرِ وَالْعَدْلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُودِ، وَهَذَا الضَّرْبُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] وَالثَّانِي مَحْمُودٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَهُ طَرَفَانِ إِفْرَاطٌ وَتَفْرِيطٌ كَالْجُودِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ وَالشَّجَاعَةِ، فَإِنَّهَا بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الِاقْتِصَادُ الْمَحْمُودُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الِاقْتِصَادُ فِي الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدْرِ وَالِاقْتِصَادُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَمِنْهُ حَدِيثٌ: الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَحَدِيثُ: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ، وَكَذَا حُكْمُ الِاقْتِصَادِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وَقَوْلُهُ عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اطْلُبِ الْعِلْمَ بِحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْكَ عَنِ الْعَمَلِ، وَاعْمَلْ بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُكَ عَنِ الْعِلْمِ. (جُزْءٌ) أَيْ: كُلُّهَا أَوْ كُلٌّ مِنْهَا (مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا) : وَيُؤَيِّدُ الْأَخِيرَ مَا رَوَاهُ الضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "«السَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» " مَعَ زِيَادَةِ إِفَادَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، وَيَنْصُرُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي حَيْثُ قَالَ: جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْمُتَّصِفِ بِهِ، وَأَمَّا مَا قَالَ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ، فَهُوَ احْتِمَالُ غَلَطٍ مِنْهُ، وَسَبَبُهُ الْغَفْلَةُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ نَقْلًا وَعَقْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقَاضِي: كَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَةً عَلَى التَّذْكِيرِ، فَلَعَلَّهُ أَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْقِطْعَةِ أَوْ لِإِجْرَاءِ الْجُزْءِ مَجْرَى الْكُلِّ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. قُلْتُ: التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَانَ الصَّوَابُ، فَظَاهِرٌ لَا يَخْفَى (مِنَ النُّبُوَّةِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَائِهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْهَدْيُ وَالسَّمْتُ حَالَةُ الرَّجُلِ وَمَذْهَبُهُ وَالِاقْتِصَادُ سُلُوكُ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ وَالدُّخُولِ فِيهَا لِرِفْقٍ عَلَى سَبِيلِ تَمْكِينِ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مِنْ شَمَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ فَضَائِلِهِمْ، فَاقْتَدُوا بِهِمْ فِيهَا وَتَابِعُوهُمْ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ تَتَجَزَّأُ، وَلَا أَنْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ كَانَ نَبِيًّا، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَرَامَةٌ يَخُصُّ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْخِلَالَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَدَعَا إِلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَقِيَهُ النَّاسُ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّعَظُّمِ، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ لِبَاسَ التَّقْوَى الَّذِي أَلْبَسَهُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَوَجْهِهِ بِالِاخْتِصَاصِ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مَسْدُودٌ، فَإِنَّهُ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الرُّؤْيَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
5059 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5059 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْهَدْيَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الصَّالِحَ) أَيِ: السِّيرَةَ الْحَسَنَةَ (وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ) أَيِ: الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ مِنْ زِيِّ الصَّالِحِينَ، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهَدْيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَالسَّمْتَ بِالْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ، فَهُمَا فِي الطَّرِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَبِهِ تَتِمُّ الْحَقِيقَةُ. (وَالِاقْتِصَادَ) أَيِ: التَّوَسُّطَ فِي أَمْرِ الْمَعِيشَةِ وَالْمَعَادِ (جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ) : وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: خَمْسَةٌ بِالتَّاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ.
5060 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ ; فَهِيَ أَمَانَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
5060 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ) أَيْ: عِنْدَكَ أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (الْحَدِيثَ) أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ إِخْفَاءَهُ (ثُمَّ الْتَفَتَ) أَيْ: غَابَ عَنْكَ أَوْ عَنْهُ بِمُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ (فَهِيَ) أَيْ: ذَلِكَ الْحَدِيثُ وَأَنْتَ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ (أَمَانَةٌ) . وَقِيلَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى الْحِكَايَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَمَانَةِ، فَلَا يَحُوزُ إِضَاعَتُهَا بِإِشَاعَتِهَا، وَقَدْ فَسَّرَ الْمُظْهِرُ قَوْلَهُ: الْتَفَتَ بِغَابَ، وَحِينَئِذٍ، ثُمَّ عَلَى بَابِهِ مِنَ التَّرَاخِي الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ حُكْمُ التَّعْقِيبِ بِالْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْتَفَتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْتِفَاتِ خَاطِرِهِ إِلَى مَا تَكَلَّمَ، فَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا احْتِيَاطًا، فَثُمَّ هُنَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا تَرَتُّبُ الْفَاءِ، وَأَنَّ الثَّانِي مُسَبَّبٌ عَنِ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: هَذَا تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ غَيْرُ مُخَصَّصٍ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لِلْجَزَاءِ، فَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ أَصْلًا، وَحَاصِلُهُ إِجْمَالًا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآتِي الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ عَنْ جَابِرٍ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ.
5061 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التِّيِّهَانِ: " هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسَيْنِ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْ مِنْهُمَا. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! اخْتَرْ لِي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ. خُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5061 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِالنُّونِ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ فِي بَابِ الضِّيَافَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَيْلٌ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ هُنَاكَ (هَلْ لَكَ خَادِمٌ) ؟ أَيْ عَبْدٌ (قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ) أَيْ: أُسَارَى (فَأْتِنَا فَأُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسَيْنِ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ (فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْ مِنْهُمَا) أَيْ: وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ بَعْضَهُمَا (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! اخْتَرْ لِي) أَيْ: أَنْتَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنَّكَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارَ وَعَلَى اخْتِيَارِكَ الْمَدَارُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ (إِنَّ الْمُسْتَشَارَ) : مَنِ اسْتَشَارَهُ طَلَبَ رَأْيَهُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ (مُؤْتَمَنٌ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْأَمَانَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ (خُذْ هَذَا) أَيْ: مُشَارًا إِلَى أَحَدِهِمَا (فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي) . فِيهِ أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى خَيْرِيَّةِ الرَّجُلِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ الصَّلَاحِ لَا سِيَّمَا الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ (وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا) أَيِ اسْتِيصَاءَ مَعْرُوفٍ. قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَأْمُرْهُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ وَالنُّصْحِ لَهُ، وَقِيلَ: وَصِّ فِي حَقِّهِ بِمَعْرُوفِ كَذَا ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: اقْبَلْ وَصِيَّتِي فِي حَقِّهِ وَأَحْسِنْ مِلْكَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ مُطَوَّلًا كَمَا أَوْرَدْنَاهُ فِي بَابِ الضِّيَافَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ الْعَبْدَ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ عليه السلام، وَأَمَّا حَدِيثُ:" «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» ". فَقَدْ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سَمُرَةَ وَلَفْظُ:" «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، إِنْ شَاءَ أَشَارَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ، بِلَفْظِ:" «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ إِنْ شَاءَ أَشَارَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ لِلَفْظِ: " «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، فَإِذَا اسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ» ".
5062 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: " إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ فِي " بَابِ الْمُبَاشَرَةِ " فِي " الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ".
ــ
5062 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ) أَيْ: إِحْدَى الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمَجَالِسِ، وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ إِذَا رَأَى أَهْلَ مَجْلِسٍ عَلَى مُنْكَرٍ أَنْ لَا يَشِيعَ مَا رَأَى مِنْهُمْ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ
(سَفْكُ دَمٍ) : بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ هِيَ مَجْلِسُ إِرَاقَةِ دَمٍ (حَرَامٍ) ، بِالْجَرِّ صِفَةُ دَمٍ أَيْ دَمٌ حَرَامٌ سَفْكُهُ أَوْ دَمٌ مُحْتَرَمٌ فِي الشَّرْعِ (أَوْ فَرَجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ) . قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ فَقَطْ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ حَرَامٍ هُنَا لِأَجْلِ مَفْهُومِهِ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنَّ اقْتِطَاعَ مَالِ النَّاسِ ظُلْمًا حَرَامٌ، سَوَاءٌ يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا أَمْ حَرَامًا، فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالِاقْتِطَاعِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْمُظْهِرُ: كَمَا إِذَا سَمِعَ مَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ: أُرِيدُ قَتْلَ فُلَانٍ أَوِ الزِّنَا بِفُلَانَةٍ أَوْ أَخْذَ مَالِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ سَتْرُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى حَذَرِ مِنْهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَأَمَّا صَدْرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ:" الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ " فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه.
(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمَانَةِ) أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (فِي بَابِ الْمُبَاشَرَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي الْمَصَابِيحِ، وَعَلَى أَنَّ إِيرَادَهُ فِي الصِّحَاحِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْحِسَانِ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ حَوَّلَ الْحَدِيثَ مِنْ هُنَا إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهِ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَاعْتِذَارٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إِسْقَاطُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5063 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ، ثُمَّ قَالَ: مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَلَا أَفْضَلُ مِنْكَ وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي، وَبِكَ أُعْرَفُ، وَبِكَ أُعَاتِبُ، وَبِكَ الثَّوَابُ، وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ» ". وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5063 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ: قُمْ فَقَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْعُدْ فَقَعَدَ» ) : ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ خُلِقَ مُجَسَّدًا مُجَسَّمًا كَمَا يُخْلَقُ الْمَوْتُ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ أُمُورٌ مَعْنَوِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْهُ نَاشِئَةٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَرْبَابِ الْعُقُولِ، وَلَعَلَّ الْقِيَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الظُّهُورِ وَالْقُعُودِ عَنْ خَفَائِهِ، وَالْإِقْبَالُ عَنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَالْإِدْبَارُ عَنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ بِحَسَبِ مَا تُعَلَّقَ بِهِ الْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ الْأَزَلِيَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَجْمُوعُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَبِهِ يَتِمُّ غَرَضُ خَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي مَا خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا لِأَجْلِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ وَضْعُ الْحِكْمَةِ مَوْضِعَ الْعَرْضِ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ بِالْأَغْرَاضِ. (ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ) أَيْ: فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ جَوْهَرٌ شَرِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَضِيعُ وَالشَّرِيفُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُغْضَبُ مِنْ نِسْبَةِ فَقْدِهِ أَوْ نُقْصَانِهِ إِلَيْهِ (وَلَا أَفْضَلُ مِنْكَ) : لِحُصُولِ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ وَزِيَادَةِ الْعِبَادَاتِ وَالدَّرَجَاتِ بِهِ (وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ) أَيْ: حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ وَتَحْسِينُ الْمُعَامَلَةِ (بِكَ) أَيْ: بِسَبَبِكَ أَوْ بِقَدْرِكَ (آخُذُ) أَيِ: الْعِبَادَاتِ مِنْ عِبَادِي (وَبِكَ أُعْطِي) أَيِ: الثَّوَابَ وَالدَّرَجَاتِ (وَبِكَ أُعْرَفُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ذَاتًا وَصِفَةً وَحُكْمًا (وَبِكَ أُعَاتِبُ) أَيْ: عَلَى مَنْ أُعَاتِبُ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُ لَا عُتْبَ عَلَيْهِ. (وَبِكَ الثَّوَابُ) أَيْ: وُصُولُهُ حَالَ الْإِقْبَالِ (وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ) أَيْ: حُصُولُهُ وَقْتَ الْإِدْبَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْعَقْلِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْعِلْمِ الْمُنْتِجِ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسُمِّيَ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي، كَمَا يُسَمَّى نُهْيَةً لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَقْلُ يُقَالُ لِلْقُوَّةِ الْمُتَهَيِّئَةِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ، وَيُقَالُ لِلْعِلْمِ الَّذِي يَسْتَفِيدُهُ الْإِنْسَانُ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ عَقْلٌ، وَلِهَذَا قِيلَ:
فَإِنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ
…
فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ
وَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ
…
إِذْ لَمْ يَكُ مَطْبُوعٌ
كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَّمْسُ
وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعٌ
وَإِلَى الْأَوَّلِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عليه السلام: " «مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ» " وَإِلَى الثَّانِي أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " «مَا كَسَبَ أَحَدٌ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ عَقْلٍ يَهْدِيهِ إِلَى هُدَى أَوْ يَرُدَّهُ عَنْ رَدَى» " وَهَذَا الْعَقْلُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ بِلَا مَطْبُوعٍ، كَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ مَطْبُوعٌ بِلَا مَسْمُوعٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكَمَاءَ مَعَ أَنَّهُمْ أَكْبَرُ الْعُقَلَاءِ مَا نَفَعَهُمْ مُجَرَّدُ عُقُولِهِمُ الْمُطَوَّعَةِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَتِهِمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَالِهِمُ الْمَسْمُوعَةِ. وَقَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] وَنَظِيرُهُ الْمُشَاهَدُ لِكُلِّ أَحَدٍ: الْأَصَمُّ الْخَلْقِيُّ، فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ الْمَطْبُوعِ وَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، كَمَا أَجْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي آخِرِ الْفَصْلِ وَقَالَ هُنَا:(وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ) أَيْ: فِي ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ وَقَدْ طَعَنَ فِي ثُبُوتِهِ (بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) . فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي حَقِّهِ، لَكِنْ قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ: إِنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُخْتَصَرِ الشِّيحِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْفَيْرُوزِآبَادِي أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلُ إِلَخْ. ضَعِيفٌ. «وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ مِنَ الْعَقْلِ لِلْحَكِيمِ» . ضَعِيفٌ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيُّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ السَّبْتِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الدَّارُقُطْنِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمُ اهـ. وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ ظَاهِرٌ مِنْ نَتَائِجِ الْعَقْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5064 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ «الرَّجُلَ لِيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ". حَتَّى ذَكَرَ سِهَامَ الْخَيْرِ كُلَّهَا: " وَمَا يُجْزَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِقَدْرِ عَقْلِهِ» ".
ــ
5064 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ " حَتَّى ذَكَرَ سِهَامَ الْخَيْرِ) أَيْ: أَبْوَابَهُ وَأَنْوَاعَهُ (كُلَّهَا) أَيْ: جَمِيعَهَا (وَمَا يُجْزَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ مَا يُثَابُ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا بِقَدْرِ عَقْلِهِ) أَيْ: بِمِقْدَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هُنَا الْمُسْتَفَادُ بِالْعَقْلِ، فَيُفِيدُ أَنَّ زِيَادَةَ الْمُثَوَّبَاتِ وَالدَّرَجَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ عُلُومِ أَصْحَابِهَا وَعُقُولِ أَرْبَابِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ الْمَسْمُوعَ لَا يَنْفَعُ كُلَّ النَّفْعِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ وَبِهِ تَتَفَاوَتُ صَلَاةٌ عَنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٌ عَنْ صَدَقَةٍ وَصَوْمٌ عَنْ صَوْمٍ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرْكَعُ رَكْعَةً فِي مَقَامٍ تَفَضُلُ أَلْفَ رَكْعَةٍ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَرُبَّمَا يَعْمَلُ وَيَظُنُّ بِهِ خَيْرًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَبَالًا. قُلْتُ: لَا خَفَاءَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لَيْسَ لَهُ التَّمْيِيزُ فِي الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ، فَالْمَدَارُ هُنَا عَلَى الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، لَكِنْ بِمُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنَ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَفِي مَقَامٍ يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَسْمُوعِ فِي الطَّرِيقَةِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالنِّيَّاتِ، فَمَدَارُ كَمَالِ الصَّلَاةِ مَثَلًا بَعْدَ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا وَآدَابِهَا الْمَسْمُوعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ، وَقَطْعُ النَّظَرِ عَمَّا سِوَاهُ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صِلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدُسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا» ".
5065 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا أَبَا ذَرٍّ! لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» ".
ــ
5065 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ) أَيْ: مُخَاطِبًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ! لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِالتَّدْبِيرِ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَسْمُوعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِهِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمَطْبُوعِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ لَا نَفْعَ لَهُ بِدُونِ الْعَقْلِ الْمَسْمُوعِ، بَلْ رُبَّمَا يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ بِدُونِ