الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5154 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ خَلِيقَتَانِ، تُنْصَبَانِ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَيُوعِدُهُمُ الْخَيْرَ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَيَقُولُ: إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُومًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
5154 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ خَلِيقَتَانِ) أَيْ: مَخْلُوقَتَانِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِي رحمه الله وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى سَيَخْلُقَانِ خَلْقًا آخَرَ كَسَائِرِ الْمَعَانِي مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيُجَسَّدَانِ وَيُجَسَّمَانِ لِقَوْلِهِ:(تُنْصَبَانِ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ التَّاءَ فِي الْخَلِيقَةِ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَظْهَرَانِ ( «لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ» ) أَيْ: أَهْلُ الْمَعْرُوفِ بِالْفِعْلِ أَوِ الْأَمْرِ (وَيُوعِدُهُمُ الْخَيْرَ) أَيْ: وَيُوعِدُهُمُ ابْتِغَاءَ الْجَمِيلِ وَالْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، وَبِالْمُوَاصَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (وَأَمَّا الْمُنْكَرُ، فَيَقُولُ) أَيْ: لِأَصْحَابِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ (إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ) أَيِ: ابْعُدُوا عَنِّي، وَتَنَحَّوْا مِنْ قُرْبِي (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُومًا) أَيْ: لُصُوقًا وَقُرْبًا مِنْ نَتِيجَةِ الْمُنْكَرِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عِتَابِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَظْهَرُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِ رِيحٍ فِي الْقَبْرِ، وَكَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَمَلَ الطَّالِحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ:( «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهَ» ) : وَتَحْقِيقُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِذَوَاتِهَا، أِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِرَبْطِهِمَا رَبْطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ:
أَخَافُ وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَعِقَابَهُ وَأَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ حُكَمٌ عَدْلُ فَإِنْ يَكَ عَفْوًا فَهُوَ مِنْهُ تَفَضُّلٌ وَإِنْ يَكَ تَعْذِيبًا فَإِنِّي لَهُ أَهْلُ
وَالتَّدْقِيقُ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ أَنَّ السَّبَبَ الْفَاعِلِيَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ وَبِمُوجِبِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْقَابِلِيُّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا مِنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّ قَابِلِيَّةَ الْخَيْرِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي مِنَ الْفَيْضِ الْأَقْدَسِ الَّذِي لَا دَخْلَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ، وَقَابِلِيَّةَ الشَّرِّ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ الْحَادِثِ بِسَبَبِ ظُهُورِ النَّفْسِ بِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْحَاجِيَّةِ لِلْقَلْبِ الْمُكَدِّرَةِ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ، حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الصَّقْلِ بِالرَّزَايَا وَالْبَلَايَا وَنَحْوَهَا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وَهَهُنَا يَتَمَوَّجُ أَمْوَاجُ بَحْرِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لِتُقَسِّمَ الْعِبَادَ فِيمَا يَفْعَلُونَ، وَسَفِينَةُ النَّجَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
[كِتَابُ الرِّقَاقِ]
[25]
كِتَابُ الرِّقَاقِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5155 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
[25]
كِتَابُ الرِّقَاقِ
الرِّقَاقُ: بِالْكَسْرِ جَمْعُ رَقِيقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ رِقَّةٌ أَيْ: لَطَافَةٌ قَالَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَرِقُّ بِهَا الْقُلُوبُ إِذَا سُمِعَتْ، وَتَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا بِسَبَبِهَا، وَتَزْهَدُ فِيهَا. سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُحْدِثُ رِقَّةً وَرَحْمَةً.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5155 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نِعْمَتَانِ) : مُبْتَدَأٌ (مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : صِفَةٌ لَهُ أَوْ خَبَرُهُ (الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) أَيْ: صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُوَّةُ الْكَسْبِيَّةُ وَفَرَاغُ الْخَاطِرِ بِحُصُولِ الْأَمْنِ، وَوُصُولُ كِفَايَةِ الْأَمْنِيَّةِ، وَالْمَعْنَى لَا يَعْرِفُ قَدْرَ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ حَيْثُ لَا يَكْسِبُونَ فِيهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ كِفَايَةَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَادِهِمْ فَيَنْدَمُونَ عَلَى تَضْيِيعِ أَعْمَارِهِمْ عِنْدَ زَوَالِهَا وَلَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ. قَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» ". وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ رحمه الله، قَالَ الْعُلَمَاءُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَفَرَّغُ لِلطَّاعَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُكَفِّيًا صَحِيحَ الْبَدَنِ، فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا، وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَلَا يَكُونُ مُسْتَغْنِيًا، فَلَا يَكُونُ مُتَفَرِّغًا لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِشُغْلِهِ بِالْكَسْبِ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ الْأَمْرَانِ وَكَسَلَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَهُوَ الْمَغْبُونُ أَيِ: الْخَاسِرُ فِي التِّجَارَةِ. مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَبْنُ كِنَايَةً عَنْ فَسَادِ حَالِهِ وَضَيَاعِ مَالِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَهْ
…
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ
وَقَالَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ ابْنُ الْفَارِضِ:
عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَبْكِ مَنْ ضَاعَ عُمْرُهُ
…
وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَلَا سَهْمُ
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ.
5156 -
وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ» ؟ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5156 -
(وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " وَاللَّهِ) : قَسَمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْحُكْمِ (مَا الدُّنْيَا) : " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ: مَا مَثَلُ الدُّنْيَا مِنْ نَعِيمِهَا وَزَمَانِهَا (فِي الْآخِرَةِ) أَيْ: فِي جَنْبِهَا وَمُقَابَلَةِ نَعِيمِهَا وَأَيَّامِهَا (إِلَّا مِثْلُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهَا، وَمَا فِي قَوْلِهِ:(مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ) : مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مِثْلَ جَعْلِ أَحَدِكُمْ (أُصْبُعَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ: بِزِيَادَةِ هَذِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَصْغَرُ الْأَصَابِعِ (فِي الْيَمِّ) أَيْ: مَغْمُوسًا فِي الْبَحْرِ الْمُفَسَّرِ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ (فَلْيَنْظُرْ) أَيْ: فَلْيَتَأَمَّلْ أَحَدُكُمْ (بِمَ يَرْجِعُ) أَيْ: بِأَيِّ: شَيْءٍ يَرْجِعُ أُصْبُعُ أَحَدِكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ يَرْجِعُ ضُبِطَ بِالتَّذْكِيرِ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّأْنِيثِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ ضَمِيرَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْأُصْبُعِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَعْنَى
فَلْيَتَفَكَّرْ بِأَيِّ مِقْدَارٍ مِنَ الْبَلَّةِ الْمُلْتَصِقَةِ مِنَ الْيَمِّ يَرْجِعُ أُصْبُعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى بِمَ يَرْجِعُ الْحَالُ وَيَنْتَقِلُ الْمَآلُ؟ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مِنَحَ الدُّنْيَا وَمِحَنَهَا فِي كَسْبِ الْجَاهِ وَالْمَالُ مِنَ الْأُمُورِ الْفَانِيَةِ السَّرِيعَةِ الزَّوَالِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرَحَ وَيَغْتَرَّ بِسَعَتِهَا، وَلَا يَجْزَعَ وَيَشْكُوَ مِنْ ضِيقِهَا، بَلْ يَقُولُ فِي الْحَالَتَيْنِ:«لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» ! فَإِنَّهُ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَأُخْرَى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَجَمْعِيَّةُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَيَصْرِفُهَا فِي الطَّاعَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وُضِعَ مَوْضِعُ قَوْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحْضِرُ تِلْكَ الْحَالَةَ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ هَلْ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أَمْ لَا؟ وَهَذَا تَمْثِيلٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ وَإِلَّا فَأَيْنَ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمُتَنَاهِي وَغَيْرِ الْمُتَنَاهِي؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
5157 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ قَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ! قَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5157 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِجَدْيٍ) أَيْ: وَلَدِ مَعِزٍ (أَسَكَّ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: صَغِيرِ الْأُذُنِ أَوْ عَدِيمِهَا أَوْ مَقْطُوعِهَا (مَيِّتٍ قَالَ: " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟) أَيْ: مَثَلًا (فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ) أَيْ: بِشَيْءٍ مَا مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّا لَا نُحِبُّهُ بِلَا شَيْءٍ أَيْضًا (قَالَ: " فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا) أَيْ: لَجَمِيعُ أَنْوَاعِ لَذَّاتِهَا (أَهْوَنُ) أَيْ: أَسْهَلُ وَأَحْقَرُ وَأَذَلُّ " عَلَى اللَّهِ " أَيْ: عِنْدَهُ تَعَالَى " مِنْ هَذَا " أَيْ: مِنْ هَوَانِ هَذَا الْجَدْيِ " عَلَيْكُمْ ": وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي أَنَّ الدُّنْيَا إِنْ كَانَتْ تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى فِيهَا كَافِرًا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّزْهِيدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْعُقْبَى ; فَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، مَا أَنَّ تَرْكَ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مُحِبَّ الدُّنْيَا وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأُمُورِ الدِّينِ تَكُونُ أَعْمَالُهُ مَدْخُولَةً بِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ، وَتَارِكَ الدُّنْيَا وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَكُونُ لَهُ مَطْمَعٌ أُخْرَوِيٌّ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْيَقِينِ: مَنْ أَحَبِّ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هِدَايَتِهِ جَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ، وَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَلَالَتِهِ جَمِيعُ الْمُفْسِدِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5158 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5158 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ) أَيْ: كَالسَّجْنِ لِلْمُؤْمِنِ فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَكَالْجَنَّةِ لِلْكَافِرِ فِي جَنْبِ مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ عَرَضَ نَفْسَهُ عَنِ الْمَلَاذِ وَأَخَذَهَا بِالشَّدَائِدِ، فَكَأَنَّهُ فِي السِّجْنِ، وَالْكَافِرَ فَرَّجَهَا بِالشَّهَوَاتِ فَهِيَ لَهُ كَالْجَنَّةِ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَائِقِ. وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ مَا قَالَهُ فُضَيْلُ بْنِ عِيَاضٍ: مَنْ تَرَكَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَهُوَ فِي سِجْنٍ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَتْرُكَ لَذَّاتِهَا وَتَمَتُّعَاتِهَا فَأَيُّ سَجْنٍ عَلَيْهِ؟ وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَرَاتِبَ السِّجْنِ وَمَنَازِلَهُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ ضِيقِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنِ ارْتِكَابِ الْوَاجِبَاتِ الْفِعْلِيَّةِ، وَاجْتِنَابِ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ، وَكَذَا مِنْ مَشَقَّاتِ الْأَحْوَالِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَالْبَلَاءِ وَالْغَلَاءِ وَمَوْتِ الْأَحِبَّاءِ وَغَلَبَةِ الْأَعْدَاءِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ النُّطْفَةِ وَأَطْوَارِهَا فِي مَشِيمَةِ الْبَطْنِ إِلَى الظُّهُورِ فِي الْمَهْدِ وَالْبُطُونِ فِي اللَّحْدِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَدِّ وَالْكَبَدِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] أَيْ: لَا يَزَالُ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ مَبْدَؤُهُ ظُلْمَةُ الرَّحِمِ وَمَضِيقُهُ، وَمُنْتَهَاهُ الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ هَذَا السِّجْنَ، إِمَّا إِلْبَاسُ الْخُلَعِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْقَرَارُ فِي الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ، وَإِمَّا تَسْلِيطُ الزَّبَانِيَةِ بِمُوجِبِ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِ، وَنَقْلُهُ مِنَ السَّجْنِ السَّهْلِ الْفَانِي إِلَى الْحَبْسِ الصَّعْبِ الْبَاقِي، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ سُمِعَ هَاتِفٌ يَهْتِفُ: أُطْلِقَ دَاوُدُ مِنَ السِّجْنِ. قَالَ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: إِنَّ السَّجْنَ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَى السَّاعَاتِ وَمُرُورِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا ظَهَرَتْ بِصِفَاتِهَا أَظْلَمَ الْوَقْتُ عَلَى
الْقَلْبِ حَتَّى ضَاقَ، وَانْكَمَدَ، وَهَلِ السِّجْنُ إِلَّا تَضْيِيقٌ وَحَجْزٌ مِنَ الْخُرُوجِ وَالْوُلُوجِ، فَكُلَّمَا هَمَّ الْقَلْبُ بِالتَّبَرُّؤِ عَنْ مَشَائِمِ الْأَهْوَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ عَنْ قُيُودِ الشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ تَسَبُّبًا إِلَى الْآجِلَةِ، وَتَنَزُّهًا فِي فَضَاءِ الْمَلَكُوتِ، وَمَشَاهَدَةً لِلْجَمَالِ الْأَزَلِيِّ حَجَزَهُ الشَّيْطَانُ الْمَرْدُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْمَطْرُودِ بِالِاحْتِجَابِ، فَيُدْلَى بِحَسَبِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ إِلَيْهِ، فَكَدَّرَ صَفْوَ الْعَيْشِ عَلَيْهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِ طَبْعِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ السُّجُونِ وَأَضْيَقِهَا، فَإِنَّ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَفْظُهُ:" «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» ". وَالسَّنَةُ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْقَحْطُ وَالْجَدَبُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: ( «إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ وَسِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ حِينَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي سِجْنٍ فَأُخْرِجَ مِنْهُ فَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَفَسَّحُ فِيهَا» ) . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: ( «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَالْقَبْرَ أَمْنُهُ، وَالْجَنَّةَ مَصِيرُهُ. يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْكَافِرِ، وَالْقَبْرَ عَذَابُهُ، وَالنَّارَ مَصِيرُهُ» ) . وَرَوَى ابْنُ لَالَ عَنْ عَائِشَةَ: الدُّنْيَا لَا تَصْفُو لِمُؤْمِنٍ، كَيْفَ وَهِيَ سِجْنُهُ وَبَلَاؤُهُ.
5159 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5159 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً» ) : قَالَ شَارِحٌ: أَيْ لَا يُضِيعُ أَجْرَ حَسَنَةِ الْمُؤْمِنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ حَاصِلُ الْمَعْنَى، وَأَمَّا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ وَالْمَعْنَى، فَالظَّالِمُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] وَفِي الْقَامُوسِ: ظَلَمَهُ حَقَّهُ أَيْ: مَنَعَهُ إِيَّاهُ، فَالْحَدِيثُ تَفْسِيرٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَتَبْيِينٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْعَيْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَبَيَانُ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْعُقْبَى، كَمَا قَالَ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] وَقَالَ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وَلِذَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ كَانَ لِي حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ لَكَفَتْنِي، بِنَاءً عَلَى الْمُضَاعَفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَثُوبَةِ الْعَظِيمَةِ الْمَسْطُورَةِ. (يُعْطَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ كُلَّ خَيْرٍ (بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الْحَسَنَةِ (فِي الدُّنْيَا) : مِنْ رَفْعِ الْبَلَاءِ وَتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّعْمَاءِ.
وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يُعْطِي اللَّهُ إِيَّاهُ بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا (وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ طِبْقَ مَا قَبْلَهُ (وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لَا غَيْرَ أَيْ: يُعْطَى، وَفِي الْعُدُولِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَطْمَحَ نَظَرِ الْكَافِرِ فِي الْعَطَاءِ إِنَّمَا هُوَ بَطْنُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُجْزَى (بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ) أَيْ: مِنْ إِطْعَامِ فَقِيرٍ وَإِحْسَانٍ لِيَتِيمٍ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَنَحْوِهَا مِنْ طَاعَاتٍ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا الْإِسْلَامُ (فِي الدُّنْيَا) : ظَرْفٌ لِيُطْعَمُ (حَتَّى إِذَا أَفْضَى) أَيْ: وَصَلَ (إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ) : بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ أَيْ: لَمْ يَبْقَ وَلَمْ يُوجَدْ (لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا) : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَوْلُهُ: لَا يَظْلِمُ لَا يُنْقِصُ، وَهُوَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا (مُؤْمِنًا) وَالْآخَرُ (حَسَنَةً) ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا اكْتَسَبَ حَسَنَةً يُكَافِئُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَيَرْغُدَ عَيْشَهُ فِي
الدُّنْيَا، وَبِأَنْ يُجْزَى وَيُثَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكَافِرُ إِذَا اكْتَسَبَ حَسَنَةً فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَفُكَّ أَسِيرًا أَوْ يُنْقِذَ غَرِيقًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَلَا يُجْزَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ يُقَابِلُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْفَضْلِ، وَالْكَافِرَ بِالْعَدْلِ، وَلَا يُسْئِلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» " اهـ.
وَمُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجْزَى بِسَيِّئَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَيِّئَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا» ". وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَمَنْ يَنْجُو مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَحَرُّرُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " هُوَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ» ". وَقَدْ صَحَّ عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ: الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: "«مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» ". وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
5160 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا أَنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (حُفَّتْ) بَدَلَ (حُجِبَتْ) .
ــ
5160 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " حُجِبَتِ النَّارُ) أَيْ: أُحِيطَتْ (بِالشَّهَوَاتِ) : كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا (وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ) : كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. إِلَّا عِنْدَ مُسْلِمٍ: (حُفَّتْ) بَدَلَ (حُجِبَتْ) : يَعْنِي لَفْظُ حُجِبَتْ لِلْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ حُفَّتْ لِمُسْلِمٍ فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعْنًى، وَقَدْ وَافَقَ مُسْلِمًا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، لَكِنَّ حَدِيثَهُمْ فِيهِ تَقَدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مُخَالِفٌ لِلْبُخَارِيِّ فِي تَرْتِيبِهِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ:( «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» ) وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ لَا يُوصَلُ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَكَارِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى النَّارِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، وَكَذَلِكَ بِهَا مَحْجُوبَتَانِ بِهِمَا، فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ، فَهَتْكُ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَكَارِهِ، وَهَتْكُ حُجُبِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَّا الْمَكَارِهُ فَيَدْخُلُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ وَالْعَادَاتُ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَالصَّبْرُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الَّتِي النَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ الْمُبَاحَةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا اهـ. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْحَدِيثَ مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ بَنَى مَكَّةَ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ وَالدَّرَجَاتِ» " أَيْ: لَا تَحْصُلُ دَرَجَاتُهَا إِلَّا بِالتَّحَمُّلِ عَلَى مَكْرُوهَاتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5161 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثُ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٌ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5161 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَعِسَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ أَيْ: خَابَ وَخَسِرَ (عَبْدُ الدِّينَارِ) أَيِ: الَّذِي اخْتَارَهُ عَلَى رِضَا مَعْبُودِهِ الْجَبَّارِ بِأَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْ لَا يَصْرِفَهُ فِي مَحَلِّهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ) : وَهَذَانَ مِثَالَانِ وَخُصَّا بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهُمَا النَّقْدَانِ الْحَاصِلُ بِهِمَا جَمِيعُ مَقَاصِدِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ. (وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ) : وَهِيَ ثَوْبُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمٍ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي لِبْسِهَا الْخُيَلَاءُ وَالرُّعُونَةُ وَالرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَمِنْ كَمَالِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا وَعَدَمِ الطَّاقَةِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، فَكَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهَا،
وَقِيلَ: هِيَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ لَهُ عَلَمَانِ أَرَادَ بِهِ مُحِبَّ كَثْرَةِ الثِّيَابِ النَّفِيسَةِ وَالْحَرِيصَ عَلَى التَّحَمُّلِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، تَعِسَ ذَمُّ التَّقَيُّدِ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً، وَعَدَمُ التَّعَلُّقِ بِتَخْلِيَةِ الْبَاطِنِ عَنِ الْأَوْصَافِ الدَّنِيَّةِ وَتَحْلِيَتُهَا بِالنُّعُوتِ الرَّضِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ، ثُمَّ تَطْوِيلُ الْأَكْمَامِ وَجَرُّ الْأَذْيَالِ حَرَامٌ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَمَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللِّبْسُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ فِي اخْتِيَارِ التَّكَلُّفِ وَالتَّقَشُّفِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ. وَاخْتَلَفَ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، وَمُخْتَارُ الشَّاذِلِيَّةِ، وَالنَّقْشَبَنْدِيَّةِ وَالْبِكْرِيَّةِ التَّلَبُّسُ بِلِبَاسِ الْأَغْنِيَاءِ كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ فَرْقَدًا السَّبَخِيَّ دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَعَلَى الْحَسَنِ حُلَّةٌ فَجَعَلَ يَلْمِسُهَا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَى ثِيَابِي؟ ثِيَابِي ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَثِيَابُكَ ثِيَابُ أَهْلِ النَّارِ. بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ أَصْحَابُ الْأَكْسِيَةِ، ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلُوا الزُّهْدَ فِي ثِيَابِهِمْ وَالْكِبْرَ فِي صُدُورِهِمْ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَأَحَدُهُمْ بِكِسَائِهِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ لَهَا خَبَرٌ أَوْ دُعَاءٌ عَلَى مَنِ اسْتَعْبَدَهُ حُبُّ الدُّنْيَا، وَاسْتَرَقَّهُ الْهَوَى، وَأَعْرَضَ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَوْلَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
أَتَمَنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالًا
…
أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ
وَلَمْ يَقُلْ صَاحِبُهَا إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَذْمُومَ مَنْ يَكُونُ أَسِيرًا لِجَمْعِ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي حَقَّ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ. (إِنْ أُعْطِيَ) أَيْ: هَذَا التَّعِيسُ (رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: غَضِبَ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ وَانْقِلَابِ حَالِهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَانْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] الْآيَةَ. وَكَمَا قَالَ عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَئَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11](تَعِسَ) : كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ لِلتَّشْدِيدِ قَوْلَهُ: (وَانْتَكَسَ) أَيْ: صَارَ ذَلِيلًا (وَإِذَا شِيكَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: دَخَلَ شَوْكٌ فِي عُضْوِهِ (فَلَا انْتُقِشَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِ، أَوْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخْرِجُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ لَا يُرْحَمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: تَعِسَ إِذَا عَثَرَ وَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْعَيْنُ وَهُوَ دُعَاءُ عَلَيْهِ بِالْخَيْبَةِ لِأَنَّ مَنِ انْتَكَسَ فِي أَمْرِهِ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَإِذَا شِيكَ أَيْ: إِذَا شَاكَتْهُ شَوْكَةٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى انْتِقَاشِهَا، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا بِالْمِنْقَاشِ، وَالْخَمِيصَةُ: ثَوْبُ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ مُعْلَمٍ، وَقِيلَ: لَا تُسَمَّى خَمِيصَةٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَوْدَاءَ مُعْلَمَةً وَكَانَتْ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ قَدِيمًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قِيلَ خُصَّ الْعَبْدُ بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَنَ بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا خَلَاصَ لَهُ عَنْ أَسْرِهِ، وَلَمْ يُقِلْ: مَالِكُ الدِّينَارِ وَلَا جَامِعُ الدِّينَارِ ; لِأَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الدُّنْيَا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَا قَدْرَ الْحَاجَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، يُؤْذِنُ إِلَى شِدَّةِ حِرْصِهِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَطَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَفِي قَوْلِهِ:" تَعِسَ وَانْتَكَسَ " صَنْعَةٌ لِتَرْدِيدٍ مَعَ التَّرَقِّي أَعَادَ تَعِسَ الَّذِي هُوَ الِانْكِبَابُ عَلَى الْوَجْهِ لِيَضُمَّ مَعَهُ الِانْتِكَاسَ الَّذِي هُوَ الِانْقِلَابُ عَلَى الرَّأْسِ، لِيَتَرَقَّى فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ:" إِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ " عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ فَلَا يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ فِي الْبَلَاءِ إِذَا تَرَحَّمَ لَهُ النَّاسُ رُبَّمَا هَانَ الْخَطْبُ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّى بَعْضَ التَّسَلِّي، وَهَؤُلَاءِ بِخِلَافِهِ، بَلْ يُرِيدُ غَيْظَهُمْ بِفَرَحِ الْأَعْدَاءِ وَشَمَاتَتِهِمْ، وَإِنَّمَا خُصَّ انْتِقَاشُ الشَّوْكِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الِانْتِقَاشَ أَسْهَلُ مَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ نَفَى ذَلِكَ الْأَهْوَنَ فَيَكُونُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مَنْفِيًّا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (طُوبَى) أَيْ: حَالَةٌ طَيِّبَةٌ أَوْ شَجَرَةٌ وَالْجَنَّةُ (لِعَبْدٍ) أَيْ:
خَالِصٍ لِلَّهِ تَعَالَى (آخِذٍ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٍ (بِعِنَانِ فَرَسِهِ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: بِلِجَامِهِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: طَرِيقِ الْجِهَادِ (أَشْعَثَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَبْدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ (رَأْسُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ الْأَشْعَثَ وَهُوَ مُغْبَرُّ الرَّأْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ عَبْدٍ، وَقَوْلُهُ:(مُغْبَرَّةٍ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ عَبْدٍ، وَقَوْلُهُ:(قَدَمَاهُ) : فَاعِلُهَا.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَشْعَثَ وَمُغْبَرَّةً حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي آخِذٍ لِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حَالَيْنِ مِنَ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ مَوْصُوفَ (إِنْ كَانَ) أَيْ: ذَاكَ الْعَبْدُ (فِي الْحِرَاسَةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: حِمَايَةِ الْجَيْشِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَهَجَّمَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ (كَانَ) أَيْ: كَامِلًا (فِي الْحِرَاسَةِ) : غَيْرَ مُقَصِّرٍ فِيهَا بِالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحِرَاسَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ أَعَمَّ لَكِنَّهَا فِي الْعُرْفِ مُخْتَصَّةٌ بِمُقَدِّمَةِ الْعَسْكَرِ، وَلِذَا قَالَ:(وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ) أَيْ: فِي مُؤَخَّرَةِ الْجَيْشِ (كَانَ فِي السَّاقَةِ) أَيْ: كَامِلًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَيْضًا بِأَنْ لَا يَخَافَ مِنَ الِانْقِطَاعِ، وَلَا يَهْتَمَّ إِلَى السَّبْقِ بَلْ يُلَازِمُ مَا هُوَ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا يُرَادُ بِالْجَزَاءِ الْكَمَالُ، فَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ أَوِ السَّاقَةِ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فِيهَا، وَلَا يَغْفُلُ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَرَادَ بِالْحِرَاسَةِ حِرَاسَتَهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَالسَّاقَةُ مُؤَخَّرَةُ الْجَيْشِ، فَالْمَعْنَى ائْتِمَارُهُ لِمَا أُمِرَ، وَإِقَامَتُهُ حَيْثُ أُقِيمَ، لَا يُفْقَدُ مِنْ مَكَانِهِ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحِرَاسَةَ وَالسَّاقَةَ لِأَنَّهُمَا أَشَدُّ مَشَقَّةً، وَأَكْثَرُ آفَةً، الْأَوَّلُ عِنْدَ دُخُولِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ. (إِنِ اسْتَأْذَنَ) أَيْ: طَلَبَ الْإِذْنَ فِي دُخُولِ مَحْفِلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِذَا اسْتَأْذَنَ (لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ) أَيْ: لِعَدَمِ مَالِهِ وَجَاهِهِ (وَإِنْ شَفَعَ) أَيْ: لِأَحَدٍ (لَمْ يُشْفَّعْ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: لَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ، وَتَوْضِيحَهُ مَا قِيلَ أَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَأَرْبَابِهَا بِحَيْثُ يَفْنَى بِكُلِّيَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا يَبْتَغِي مَالًا وَلَا جَاهًا عِنْدَ النَّاسِ، بَلْ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا، وَلَمْ يَقْبَلِ النَّاسُ شَفَاعَتَهُ، وَعِنْدَ اللَّهِ يَكُونُ شَفِيعًا مُشَفَّعًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ صَدْرَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» " مُخْتَصَرًا.
5162 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ، قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ وَقَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ. وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5162 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ أَوْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ (مِنْ بَعْدِي) أَيْ: بَعْدَ وَفَاتِي وَفَقْدِ حَيَاتِي (مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ: وَسُكُونُ الْهَاءِ وَبِفَتْحٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: الزَّهْرَةُ وَيُحَرَّكُ النَّبَاتُ أَوْ نَوْرُهُ أَوِ الْأَصْفَرُ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ حُسْنُهَا وَبَهْجَتُهَا، فَقَوْلُهُ:(وَزِينَتُهَا) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالزَّهْرَةِ إِشَارَةً إِلَى حُدُوثِهَا حُلْوَةً خَضِرَةً وَسُرْعَةِ فِنَائِهَا، وَالْمَعْنَى أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنَّ كَثْرَةَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ فَتْحِ بِلَادِكُمْ تَمْنَعُكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتَشْغَلُكُمْ عَنِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَتُحَدِثُ فِيكُمُ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَمَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ لَوَازِمِ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَمَا بَعْدَهُ حَتَّى الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ( «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ» ؟) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِرْشَادِ، وَالْمَعْنَى أَيُفْتَحُ عَلَيْنَا وَيَأْتِي الْخَيْرُ مِنَ الْغَنَائِمِ وَالْمَالِ وَالْحَلَالِ، وَتَوْسِيعِ الرِّزْقِ مَصْحُوبًا بِالشَّرِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ تَرْكُ الْخَيْرِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: الْبَاءُ صِلَةُ يَأْتِي وَهِيَ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: هَلْ يَسْتَجْلِبُ الْخَيْرُ الشَّرَّ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ حُصُولَ الْغَنِيمَةِ لَنَا خَيْرٌ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْخَيْرُ سَبَبًا لِلشَّرِّ؟ (فَسَكَتَ) أَيْ: مُتَأَمِّلًا أَوْ مُسْتَغْرِقًا أَوْ مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ سُكُوتًا مُمْتَدًّا، (حَتَّى ظَنَّنَا أَنَّهُ يُنَزَّلُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نَزَلَ الْوَحْيُ (عَلَيْهِ) أَيْ: بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَإِلَّا فَهُوَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى إِمَّا وَحْيًا جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا.
(قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَمَسَحَ عَنْهُ) أَيْ: عَنْ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ (الرُّحَضَاءَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمَدِّ، عَرَقُ الْحُمَّى عَلَيْهِ مَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَرَقٌ يَظْهَرُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ
الْوَحْيِ عَلَيْهِ، فَالتَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَسَحَ عَنْهُ عَرَقًا كَعَرَقِ أَثَرِ الْحُمَّى تَرْحَضُ الْجَسَدَ أَيْ: تَغْسِلُهُ مِنْ كَثْرَتِهِ. (وَقَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " وَكَأَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَمِدَهُ) أَيْ: حَمِدَ السَّائِلَ وَاسْتَحْسَنَهُ فِي سُؤَالِهِ لِكَوْنِهِ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ لِنَفْعِ الْعِبَادِ وَالْعُبَّادِ (فَقَالَ: " إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) أَيْ: حَقِيقَةً لِتَنَافِيهِمَا، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْخَيْرُ سَبَبًا لِلشَّرِّ، فَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِقَوْلِهِ المُنَاسِبِ لِتَعْبِيرِ الْخَيْرِ بِالزَّهْرَةِ حَيْثُ قَالَ:(وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَلْقِ أَسْبَابِهِ وَآلَتِهِ (مَا يَقْتُلُ) أَيْ: نَبَاتًا أَوْ شَيْئًا يُهْلِكُ الدَّوَابَّ (حَبَطًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: انْتِفَاخَ بَطْنٍ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَهُوَ تَمْيِيزٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَدْ يَقْتُلُ حَقِيقَةً (أَوْ يُلِمُّ) : بِضَمِّ يَاءٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ، أَيْ: يَكَادُ أَنْ يَقْتُلَ وَيَقْرُبُ أَنْ يُهْلِكَ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ خِيَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ لَاسْتَطَابَتِهَا إِيَّاهُ حَتَّى تُنْفَخَ بُطُونُهَا عِنْدَ مُجَاوَزَتِهَا حَدَّ الِاعْتِدَالِ، فَتَنْفَتِقَ أَمْعَاؤُهَا مِنْ ذَلِكَ فَتَمُوتَ أَوْ تَقْرُبَ الْمَوْتَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَضْرَابَ الْعُشْبِ فَهِيَ كُلُّهَا خَيْرٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرُّ مِنْ قِبَلِ إِفْرَاطِ الْأَكْلِ، فَكَذَلِكَ الْمُفْرِطُ فِي جَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، أَوْ مِنَ الْحَلَالِ الْمُشْغِلِ عَنْ حَالِهِ يُكْثِرُ فِي التَّنَعُّمِ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي مَآلِهِ، فَيَقْسُو قَلْبُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، فَيُورِثُ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ فَيَتَكَبَّرُ وَيَتَجَبَّرُ وَيُقِرُّ النَّاسَ، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ مِنْهَا، فَحَيْثُ آلَ مَآلُ الْمَالِ لِهَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِعَذَابِهِ فِي الْعُقْبَى يَصِيرُ سَبَبَ الْوَبَالِ وَشَدَّةَ النَّكَالِ وَسُوءَ الْحَالِ. (إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ الطَّرِيُّ الْغَضُّ مِنَ النَّبَاتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ خُضْرَةٍ، وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ كُلَّ آكِلِهِ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَالْبَيَانِ الْمَسْطُورِ لِقَوْلِهِ:(أَكَلَتْ) أَيِ: الْمَاشِيَةُ الْآكِلَةُ الْمُفْرِطَةُ أَكْلَهَا (حَتَّى امْتَدَّتْ) أَيِ: امْتَلَأَتْ وَشَبِعَتْ (خَاصِرَتَاهَا) أَيْ: جَنْبَاهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الشِّبَعِ بِامْتِدَادِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَمْتَدَّانِ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْبَطْنِ (اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ) أَيْ: ذَاتَهَا وَقُرْصَهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بَرَكَتْ مُسْتَقْبِلَةً إِلَيْهَا تَسْتَمْرِئُ بِذَلِكَ مَا أَكَلَتْ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: تَرَكَتِ الْأَكْلَ وَلَمْ تَأْكُلْ مَا فَوْقَ طَاقَةِ كِرْشِهَا حَتَّى تَقْتُلَهَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى مَسْقَطِ ضَوْئِهَا وَاسْتَرَاحَتْ فِيهِ. (فَثَلَطَتْ) أَيْ: أَلْقَتْ رَوْثَهَا رَقِيقًا سَهْلًا (وَبَالَتْ) أَيْ: فَزَالَ عَنْهَا الْحَبَطُ (ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ) أَيْ: ثُمَّ إِذَا حَصَلَ لَهَا خِفَّةٌ وَاحْتَاجَتْ إِلَى الْأَكْلِ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، كَذَلِكَ مَنْ أَخْرَجَ مَا فِي الْمَالِ حَتَّى الْحُقُوقِ، وَعَالَجَ نَفْسَهُ بِالِاحْتِمَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَغْنِيَاءِ، وَعَرَفَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَيَكُونُ الْمَالُ حِينَئِذٍ خَيْرًا لَهُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْخَطَرُ فِيهِ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَضُرُّ السَّالِكِينَ بِحَسَبِ الْأَغْلَبِ اخْتَارَ اللَّهُ لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ طَرِيقَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ. وَذَهَبَ الصُّوفِيَّةُ أَجْمَعُهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ وَمَرَامُ الْمَقَامِ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُهُ لُغَةً وَحَلًّا مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، فَفِي النِّهَايَةِ: الْحَبَطُ بِالتَّحْرِيكَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: حَبِطَتِ الدَّابَّةُ تُحْبِطُ حَبَطًا بِالتَّحْرِيكَ إِذَا أَصَابَتْ مَرْعًى طَيِّبًا، فَأَفْرَطَتْ فِي الْأَكْلِ حَتَّى تَنْتَفِخَ فَتَمُوتَ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهُ الْمَاشِيَةُ، وَيُلِمُّ أَيْ: يَقَرُبُ وَيَدْنُو مِنَ الْهَلَاكِ، وَالْخَضِرُ بِكَسْرِ الضَّادِ نَوْعٌ مِنَ الْبُقُولِ لَيْسَ مِنْ أَحْرَارِهَا وَجَيِّدِهَا وَإِنَّمَا تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي إِذَا لَمْ تَجِدْ غَيْرَهَا فَلَا تُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهَا وَلَا تَسْتَمْرِئُهَا.
قَالَ الْقَاضِي: آكِلَةَ نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَقْتُلُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ مِنَ الْمُثْبَتِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قَرَأْتُ إِلَّا يَوْمَ كَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ لِوُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْكَشَّافِ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ فِيهِ لِأَنَّ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا بَعْضُ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لِدَلَالَةِ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا آكِلَ الْخَضِرِ غَيْرَ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا، يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَفِيهِ مَثَلَانِ، ضُرِبَ أَحَدُهُمَا لِلْمُفْرِطِ فِي جَمْعِ الدُّنْيَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا، وَضُرِبَ الْآخَرُ لِلْمُقْتَصِدِ فِي أَخْذِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا فَهُوَ مَثَلٌ لِلْمُفْرِطِ الَّذِي يَأْخُذُهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبِيعَ يُنْبِتُ أَحْرَارَ الْعُشْبِ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، حَتَّى يَنْتَفِخَ بُطُونُهَا لِمَا قَدْ جَاوَزَتْ حَدَّ
الِاحْتِمَالِ فَتَنْفَتِقُ أَمْعَاؤُهَا فَتَهْلِكُ، كَذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا، وَيَمْنَعُ ذَا الْحَقِّ حَقَّهُ يَهْلِكُ فِي الْآخِرَةِ بِدُخُولِ النَّارِ، وَأَمَّا مَثَلُ الْمُقْتَصِدِ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ " وَذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ لَيْسَتْ مِنْ أَحْرَارِ الْبُقُولِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الرَّبِيعُ فَتَسْتَكْثِرُ مِنْهَا الْمَاشِيَةُ، وَلَكِنَّهَا مِنْ كَلَأِ الصَّيْفِيِّ الَّتِي تَرْعَاهَا الْمَوَاشِي بَعْدَ هَشِيمِ الْبُقُولِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِكْثَارٍ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِمَنْ يَقْتَصِدُ فِي أَخْذِ الدُّنْيَا، وَلَا يَحْمِلُهُ الْحِرْصُ عَلَى أَخْذِهَا فَهُوَ يَنْجُو مِنْ وَبَالِهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، إِنَّ الْمُقْتَصِدَ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ جَاوَزَ حَدَّ الِاقْتِصَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَقَرُبَ مِنَ السَّرَفِ الْمَذْمُومِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الْإِنْسَانِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: أَكَلَتْ حَتَّى امْتَدَّتْ خَاصِرَتُهَا، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ قَرِيبٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَا يَلْبَثُ عَلَيْهِ، بَلْ يَلْتَجِئُ إِلَى الدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ الدَّافِعَةِ لِلْحِرْصِ الْمُهْلِكِ الْقَامِعَةِ لَهُ، وَهُوَ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، فَحَذَفَ مَا حَذَفَ مِنَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْمَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاقْتِصَادِ وَالْقُرْبِ مِنْ حَدِّ الْإِسْرَافِ مَرَّةً بَعْدَ أُولَى، وَثَانِيَةً بَعْدَ أُخْرَى لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ وَقُوَّتِهَا فِيهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْعُدَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْحَدِّ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ الْإِسْرَافُ، وَيَقْرُبُ مِنَ الِاقْتِصَادِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْمَحْمُودُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لَكِنْ يَجِبُ التَّأْوِيلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ شَيْئًا يَقْتُلُ آكِلَهُ إِلَّا الْخَضِرَ مِنْهُ إِذَا اقْتَصَدَ فِيهِ آكِلُهُ وَتَحَرَّى دَفْعَ مَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْهَلَاكِ. (وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ) أَيِ: الْمَحْسُوسَ فِي الْبَالِ (خَضِرَةٌ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حُلْوَةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ أَيْ: حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ لِزِيَادَةِ الْمَذَاقِ وَالتَّأْنِيثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ عِبَارَةٌ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ أَنَّ زَهْرَةَ هَذَا الْمَالِ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: كَذَلِكَ نَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا خَضِرٌ حُلْوٌ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أُنِّثَ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ شَيْءٌ كَالْخَضِرِةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضِرَةِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ أَيْ: أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوِ الْمَعِيشَةَ خَضِرَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْمَالِ بِالدُّنْيَا، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ زِينَتَيِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] فَيُوَافِقُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: " «الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ» . . " عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ اهـ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ مُشَبَّهٌ بِالْمَرْعَى الْمُشْتَهَاةِ لِلْأَنْهَامِ (فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ) أَيْ: بِقَدْرِ احْتِيَاجِهِ مِنْ طَرِيقِ حِلِّهِ (وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ الْوَاجِبِ أَوْ نَدَبَهُ (فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ) أَيْ: مَا يُعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُدْفَعُ بِهِ ضَرُورَاتُ الْمُؤْنَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَعُونَةِ الْوَصْفُ مُبَالَغَةً أَيْ: فَنِعْمَ الْمُعِينُ عَلَى الدِّينِ. (هُوَ) أَيِ: الْمَالُ، وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ، (وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ وَجَمَعَهُ مِنْ حَرَامٍ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ (كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) : فَيَقَعُ فِي الدَّاءِ الْعُضَالِ وَالْوَرْطَةِ الْمُهْلِكَةِ لِغَلَبَةِ الْحِرْصِ كَالَّذِي بِهِ جُوعُ الْبَقَرِ، وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي لَهُ الِاسْتِسْقَاءُ حَيْثُ مَا يُرْوَى، وَكُلَّمَا يَشْرَبُ يَزِيدُ عَطَشًا وَانْتِفَاخًا (وَيَكُونُ) أَيِ: الْمَالُ (شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: حُجَّةً عَلَيْهِ يَوْمَ يَشْهَدُ عَلَى حِرْصِهِ وَإِسْرَافِهِ، وَأَنَّهُ أَنْفَقَهُ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ لِعِبَادِ اللَّهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: مِثَالُ الْمَالِ مِثَالُ الْحَيَّةِ الَّتِي فِيهَا تِرْيَاقٌ نَاقِعٌ وَسُمٌّ نَافِعٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا الْمُعَزِّمُ الَّذِي يَعُودُ وَجْهُ الِاحْتِرَازِ عَنْ شَرِّهَا وَطَرِيقِ اسْتِخْرَاجِ تِرْيَاقِهَا كَانَتْ نِعْمَةً، وَإِنْ أَصَابَهَا السَّوَادِيُّ الْغَبِيُّ فَهِيَ عَلَيْهِ بَلَاءٌ مُهْلِكٌ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ الْخَوَاجَةُ عُبَيْدُ اللَّهِ النَّقْشَبَنْدِيُّ رحمه الله: أَنَّ الدُّنْيَا كَالْحَيَّةِ، فَكُلُّ مَنْ يَعْرِفُ رُقْيَتَهَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا، وَإِلَّا فَلَا. فَقِيلَ وَمَا رُقْيَتُهَا؟ فَقَالَ: أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ يَأْخُذُهَا وَفِي أَيْنَ يَصْرِفُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5163 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5163 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ) : بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِلِاهْتِمَامِ عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَأَخْشَى عَلَيْكُمْ) وَالْمَعْنَى: مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ وَأَنَّهُ أَنْفَعُ لَكُمْ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَقْدِرَ وَإِنْ كَانَ كَادَ الْفَقْرَ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا (وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ) أَيْ: تُوَسَّعَ (عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا) أَيْ: فَتَعْمَلُوا مُعَامَلَةَ الْأَغْنِيَاءِ الْأَغْنِيَاءَ فَتَهْلَكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ. (كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ: فَهَلَكُوا بِسَبَبِ عَدَمِ تَرَحُّمِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ لِأَجْلِ كَمَالِ الْمَيْلِ إِلَى الْمَالِ (فَتَنَافَسُوهَا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَطْفٌ عَلَى تُبْسَطَ، مِنْ نَافَسْتُ فِي الشَّيْءِ أَيْ: رَغِبْتُ فِيهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُنَافَسَةَ وَالتَّنَافُسَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَالْمَعْنَى فَتَخْتَارُوهَا أَنْتُمْ وَتَرْغَبُوا فِيهَا غَايَةَ الرَّغْبَةِ (كَمَا تَنَافَسُوهَا) : بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ: كَمَا رَغِبَ فِيهَا مَنْ قَبْلَكُمْ (وَتُهْلِكُكُمْ) أَيِ: الدُّنْيَا (كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ فِي الْقَرِينَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ الِاهْتِمَامُ بِشَأْنِ الْفَقْرِ لِأَنَّ الْأَبَ الْمُشْفِقَ إِذَا احْتَضَرَ إِنَّمَا يَكُونُ اهْتِمَامُهُ بِشَأْنِ الْوَلَدِ وَضَيَاعِهِ وَإِعْدَامِهِ الْمَالَ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" حَالِي مَعَكُمْ خِلَافَ حَالِ الْوَالِدِ فَإِنِّي لَا أَخْشَى الْفَقْرَ كَمَا يَخْشَاهُ الْوَالِدُ وَلَكِنْ خَوْفِي مِنَ الْغِنَى الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ " ثُمَّ التَّعْرِيفُ فِي الْفَقْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ، فَهُوَ الْفَقْرُ الَّذِي كَانَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْدَامِ وَالْقِلَّةِ، وَالْبَسْطُ هُوَ مَا بَسَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ وَهُوَ الْفَقْرَ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مَا هُوَ، وَالْبَسْطُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَنَظِيرُهُ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَالْبَدَنِ، وَبِالْغِنَى الزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلطُّغْيَانِ، وَشَغْلِ الْإِنْسَانِ عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: تَرْغَبُونَ فِيهَا فَتَشْتَغِلُونَ بِجَمْعِهَا، وَتَحْرِصُونَ عَلَى إِمْسَاكِهَا، فَتَطْغَوْنَ بِهَا فَتَهْلَكُونَ بِهَا. قَالَ تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى - أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَالَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَطْمَعُ النَّاسُ وَيَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ فَمَنَعَهُ مِنْهُمْ فَتَقَعُ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ " فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ اهـ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْحَدِيثَ بَلْ مُحَالٌ بِلَا مَجَالٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا قَالَ:" «مَنْ أَصْبَحَ حَزِينًا عَلَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى، وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ تَضَعْضَعَ لِغَنِيٍّ لِيَنَالَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ أَسْخَطَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى» ". وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: " «وَمَنْ قَعَدَ أَوْ جَلَسَ إِلَى غَنِيٍّ فَتَضَعْضَعَ لَهُ لِدُنْيَا تُصِيبُهُ ذَهَبَ ثُلْثَا دِينِهِ وَدَخَلَ النَّارَ»
".
5164 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ: (كَفَافًا) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5164 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ) أَيْ: ذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ وَأَحْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (قُوتًا) أَيْ: مَا يُكْسِبُ قُوَّةً عَلَى الطَّاعَةِ وَيَسُدُّ رَمَقًا فِي الْمَعِيشَةِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " كَفَافًا) : بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ مِنَ الْقُوتِ مَا يَكُفُّ الرَّجُلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ عَنِ السُّؤَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى، وَبَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَدْنَى الْمَعِيشَةِ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَوْلَى، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي حَقِّ مَنْ شَاءَ مِمَنْ أَرَادَ اصْطِفَاءَهُ وَاجْتِبَاءَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِالْآلِ خَوَاصُّ أُمَّتِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْكَمَالِ مَا وَرَدَ فِي دُعَائِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ:" «اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَعَلِمَ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَقْلِلْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَحَبِّبَ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ وَعَجِّلْ لَهُ الْقَضَاءَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي وَلَمْ يُصَدِّقْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ» " وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «قَلِيلٌ يَكْفِيكَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُطْغِيكَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: «قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» ، وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالَ:
زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ
…
وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ
هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ هُوَ الَّذِي لَا يَفَضِلُ عَنِ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدَرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْقُوتَ مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ قُوتًا لِحُصُولِ الْقُوَّةِ مِنْهُ سَلَكَ صلى الله عليه وسلم طَرِيقَ الِاقْتِصَادِ الْمَحْمُودِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُلْهِي وَقِلَّتَهُ تُنْسِي، فَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى. وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ كُلَّ الْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْعَبَ الرَّجُلُ فِي طَلَبِهِ ; لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَحُكْمُ الْكَفَافِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ قِلَّةَ الْأَكْلِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْكُلُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَكَفَافُهُ وَقُوتُهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ فِي أُسْبُوعٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الْأَكْلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَكَفَافُهُ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَهُ أَضَرَّهُ ذَلِكَ، وَلِمَ يَقْوَ عَلَى الطَّاعَةِ. وَمِنْهَا مَنْ يَكُونُ كَثِيرَ الْعِيَالِ فَكَفَافُهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَ عِيَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ عِيَالُهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ، فَإِذًا قَدْرُ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَمِقْدَارُهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ إِلَّا أَنَّ الْمَحْمُودَ مَا بِهِ الْقُوَّةُ، عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ: " «اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ فِي الدُّنْيَا قُوتًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
5165 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5165 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ أَفْلَحَ) أَيْ: فَازَ وَظَفِرَ بِالْمَقْصُودِ (مَنْ أَسْلَمَ) أَيِ: إِنْقَادَ لِرَبِّهِ الْمَعْبُودِ (وَرُزِقَ) أَيْ: مِنَ الْحَلَالِ (كَفَافًا) أَيْ: مَا كَفَاهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَكَفَّهُ عَمَّا سِوَاهُ (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ) أَيْ: جَعَلَهُ قَانِعًا (بِمَا آتَاهُ) أَيْ: بِمَا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، بَلْ جَعَلَهُ شَاكِرًا لِمَا أَعْطَاهُ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا:" «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَأُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَيْهِ نَاظِرَةً» " وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ مُخْتَصَرًا: " «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبًّا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَقَالَ تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] الْآيَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ النِّيَّاتِ.
5166 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي، مَالِي. وَإِنَّ مَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لَكَ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
5166 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقُولُ الْعَبْدُ) أَيْ: مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْسِبَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، كَمَا قَالَتْهُ الصُّوفِيَّةُ الصَّفِيَّةُ (مَالِي، مَالِي) أَيْ: مَالِي كَذَا، مَالِي كَذَا، وَالْمَعْنَى يَعُدُّهُ افْتِخَارًا أَوْ يَذْكُرُهُ احْتِقَارًا، أَوْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَآلِ مِنَ الْوَبَالِ. (وَإِنَّ مَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ) :" مَا " الْأَوْلَى مَوْصُولَةٌ وَلَهُ صِلَتُهُ، وَمِنْ مَالِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالصِّلَةِ، وَثَلَاثٌ خَبَرٌ، وَإِنَّمَا أَنَّثَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَنَافِعِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثُ مَنَافِعَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ مَنْفَعَةً وَاحِدَةً مِنْهَا حَقِيقَةٌ بَاقِيَةٌ، وَالْبَاقِي مِنْهَا صُورِيَّةٌ فَانِيَةٌ. (مَا أَكَلَ) أَيْ: مَا اسْتَعْمَلَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ أَوِ اكْتِفَاءٌ (فَأَفْنَى) أَيْ: فَأَعْدَمَهُمَا (أَوْ لَبِسَ) أَيْ: مِنَ الثِّيَابِ (فَأَبْلَى) أَيْ: فَأَخْلَقَهَا (أَوْ أَعْطَى) أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى (فَاقْتَنَى) أَيْ: جَعَلَهُ قِنْيَةً وَذَخِيرَةً لِلْعُقْبَى (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) أَيْ: وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَالِ مِنَ الْمَوَاشِي وَالْعَقَارِ وَالْخَدَمِ وَالنُّقُودِ وَالْجَوَاهِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (فَهُوَ) أَيِ: الْعَبْدُ (ذَاهِبٌ) أَيْ: عَنْهُ (وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) أَيْ: مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ بِلَا فَائِدَةٍ رَاجِعَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5167 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5167 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَتْبَعُ الْمَيِّتَ) أَيْ: إِلَى قَبْرِهِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ (فَيَرْجِعُ اثْنَانِ) أَيْ: إِلَى مَكَانِهِمَا وَيَتْرُكَانِهِ وَحْدَهُ (وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ) أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ (يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ) أَيْ: أَوْلَادُهُ وَأَقَارِبُهُ وَأَهْلُ صُحْبَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ (وَمَالُهُ) : كَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَالدَّابَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بَعْضَ مَالِهِ وَهُوَ مَمَالِيكُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اتِّبَاعُ الْأَهْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاتِّبَاعُ الْمَالِ عَلَى الِاتِّسَاعِ، فَإِنَّ الْمَالَ حِينَئِذٍ لَهُ نَوْعٌ تَعَلَّقَ بِالْمَيِّتِ مِنَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَمُؤْنَةِ الْغُسْلِ وَالْحَمْلِ وَالدَّفْنِ، فَإِذَا دُفِنَ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَعَمَلُهُ) أَيْ: مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهِ. (فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ) أَيْ: كَمَا تُشَاهِدُ حَالَهُ وَمَآلَهُ (وَيَبْقَى) أَيْ: مَعَهُ (عَمَلُهُ) أَيْ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَلِذَا قِيلَ: الْقَبْرُ صُنْدُوقُ الْعَمَلِ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5168 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5168 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟) أَيْ: مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ( «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: " فَإِنَّ مَالَهُ» ) أَيْ: حَقِيقَةً (مَا قَدَّمَ) أَيْ: مَا قَدَّمَهُ عَلَى مَوْتِهِ بِإِرْسَالِهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ النَّافِعُ الْبَاقِي لَهُ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110](وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) أَيْ: مَا خَلَّفَهُ لَهُمْ حَيْثُ يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5169 -
وَعَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ:«أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] قَالَ: (يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي. قَالَ: (وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ! إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» ؟) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5169 -
(وَعَنْ مُطَرِّفٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ، وَمَرَّ ذِكْرُهُ. (قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] أَيْ: أَشْغَلَكُمْ طَلَبُ كَثْرَةِ الْمَالِ (قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ) أَيْ: لِكَوْنِهِ ظَلُومًا جَهُولًا فِي حَمْلِ الْأَمَانَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ (مَالِي، مَالِي) أَيْ: يَغْتَرُّ بِنِسْبَةِ الْمَالِ تَارَةً وَيَفْتَخِرُ بِهِ أُخْرَى (قَالَ) : أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ وَدَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي (وَهَلْ لَكَ) أَيْ: وَهَلْ يَحْصُلُ لَكَ مِنَ الْمَالِ وَيَنْفَعُكَ مِنَ الْمَآلِ (يَا ابْنَ آدَمَ! إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟) أَيْ: فَأَمْضَيْتَهُ مِنَ الْإِفْنَاءِ وَالْإِبْلَاءِ، وَأَبْقَيْتَهُ بِنَفْسِكَ يَوْمَ الْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] وَقَالَ عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5170 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5170 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تَعَالَى وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْغِنَى) أَيِ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَقِيقَةِ غِنًى صَادِرًا (عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ) : وَهُوَ غِنَى الْيَدِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ، وَالْأَحْوَالِ الْحَادِثَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مَتَاعُ الدُّنْيَا وَحُطَامُهَا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْعَرَضُ بِالتَّحْرِيكَ يَتَنَاوَلُ النُّقُودَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَبِالسُّكُونِ لَا يَتَنَاوَلُ النُّقُودَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَعَنْ هَذِهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] الْكَشَّافُ أَيْ: فَحَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا، وَتَحْقِيقُهُ: فَأَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنْهُ. (وَلَكِنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ (الْغِنَى) أَيِ: الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ (غِنَى النَّفْسِ) أَيْ: عَنِ الْمَخْلُوقِ لِاسْتِغْنَاءِ الْقَلْبِ بِإِغْنَاءِ الرَّبِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغِنَى الْحَقِيقِيَّ هُوَ قَنَاعَةُ النَّفْسِ بِمَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى، وَالتَّجَنُّبُ عَنِ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، فَهُوَ فَقِيرٌ فِي حَقِيقَةِ الْحَالِ وَنَتِيجَةِ الْمَآلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ بِمُوجِبِ طُولِ الْآمَالِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قَانِعٌ بِالْقُوتِ وَرَاضٍ بِعَطِيَّةِ مَالِكِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِقَلْبِهِ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْغَيْرِ بِرَبِّهِ، سَوَاءٌ يَكُونُ فِي يَدِهِ مَالٌ أَوْ لَا. إِذْ لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْقُوتِ وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ، بَلْ يَسْتَعِينُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الدُّنْيَا لِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ الْجَمِيلِ فِي الْعُقْبَى وَالثَّنَاءِ الْجَزِيلِ مِنَ الْمَوْلَى، رَزَقَنَا الْمَقَامَ الْأَعْلَى. وَفِي الْحَدِيثِ:" «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى» ". وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْفَدُ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ:
عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَةَ
…
وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهُ
قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُرَادُ بِغِنَى النَّفْسِ الْقَنَاعَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَسُدُّ الْحَاجَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ
…
فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرًا
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِغِنَى النَّفْسِ حُصُولُ الْكِمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَأَنْشَدَ أَبُو الطَّيِّبِ مَعْنَاهُ:
وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ
…
مَالِهِ مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ
يَعْنِي: يَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِهِ وَأَوْقَاتَهُ فِي الْغِنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ طَلَبُ الْكَمَالَاتِ لِيَزِيدَ غِنًى بَعْدَ غِنًى، لَا فِي الْمَالِ لِأَنَّهُ فَقْرٌ بَعْدَ فَقْرٍ اهـ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ:
رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ
…
فِينَا لَنَا عِلْمٌ وَلِلْأَعْدَاءِ مَالُ
فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ
…
وَإِنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لَا يُزَالُ
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَالَ إِرْثُ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، وَأَنَّ الْعِلْمَ إِرْثُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْأَبْرَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5171 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟) قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَخَذَ يَدِي فَعَدَّ خَمْسًا، فَقَالَ:(اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ ; فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكَ تُمِيتُ الْقَلْبَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5171 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْخُذْ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيِ: الْأَحْكَامَ الْآتِيَةَ لِلسَّامِعِ الْمُصَوَّرَةَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَيْ لِلِاسْتِفْهَامِ (فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟) : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ " أَوْ " فِي الْآيَةِ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ بِقَوْلِهِ: عُذْرًا لِلْمُحِقِّينَ، وَنُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " أَوْ " فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى " بَلْ " إِشَارَةً إِلَى
التَّرَقِّي مِنْ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ إِلَى مِنَصَّةِ التَّكْمِيلِ، عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا لِلتَّنْوِيعِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ: فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، (قُلْتُ: أَنَا) أَيْ: آخُذُهَا عَنْكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) : وَهَذِهِ مُبَايَعَةٌ خَاصَّةٌ وَمُعَاهَدَةٌ خَالِصَةٌ، وَنَظِيرُهُ مَا عَاهَدَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مَخْلُوقًا، وَكَانَ إِذَا وَقَعَ سَوْطَهُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ نَزَلَ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. (فَأَخَذَ بِيَدِي) أَيْ: تَحْقِيقًا لِلْقَضِيَّةِ وَتَقْرِيبًا لِلْخُصُوصِيَّةِ (فَعَدَّ خَمْسًا) أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ، أَوْ مِنَ الْأَصَابِعِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، (فَقَالَ:" اتَّقِ الْمَحَارِمَ) : وَهِيَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ وَتَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ (تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) : إِذْ لَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرَائِضِ، وَعَوَامُّ النَّاسِ يَتْرُكُونَهَا وَيَعْتَنُونَ بِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، فَيُضَيِّعُونَ الْأُصُولَ وَيَقُومُونَ بِالْفَضَائِلِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى شَخْصٍ قَضَاءُ صَلَوَاتٍ وَيَغْفُلُ عَنْ أَدَائِهَا، وَيَطْلُبُ عِلْمًا أَوْ يَجْتَهِدُ عَمَلًا فِي صَلَوَاتٍ وَعِبَادَاتِ نَفْلٍ، أَوْ يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ حُقُوقِ النَّاسِ، فَيُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ أَوْ يَبْنِي الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ وَنَحْوَهَا، وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِالِاتِّقَاءِ اعْتِنَاءٌ لِجَانِبٍ الِاحْتِمَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْحُكَمَاءِ فِي مُعَالَجَةِ الدَّاءِ بِالدَّوَاءِ. ( «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ» ) أَيْ: سَوَاءٌ يَقَعُ لَكَ بِوَاسِطَةِ مَخْلُوقٍ أَوْ بِغَيْرِهَا (تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) : سَأَلَ شَخْصٌ السَّيِّدَ أَبَا الْحَسَنِ الشَّاذِلِيَّ رحمه الله عَنِ الْكِيمْيَاءِ؟ فَقَالَ: هِيَ كَلِمَتَانِ: اطْرَحِ الْخَلْقَ عَنْ نَظَرِكَ وَاقْطَعْ طَمَعَكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَكَ غَيْرَ مَا قَسَمَ لَكَ. وَقَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ الْبَارِي: اعْلَمْ أَنَّ الْقَسْمَ لَا يَفُوتُكَ بِتَرْكَ الطَّلَبِ، وَمَا لَيْسَ بِقَسْمٍ لَا تَنَالُهُ بِحِرْصِكَ فِي الطَّلَبِ، وَالْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ، فَاصْبِرْ وَالْزَمِ الْحَالَ وَارْضَ بِهِ لِيَرْضَى عَنْكَ ذُو الْجَلَالِ. (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ) أَيْ: وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ (تَكُنْ مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا أَوْ مُعْطِيًا لَهُ الْأَمْنَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» " أَيْ: شُرُورَهُ وَغَوَائِلَهُ. (وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ) أَيْ: عُمُومًا (مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ) أَيْ: مِثْلَ مَا تُحِبُّهُ لَكَ خَاصَّةً حَتَّى تُحِبَّ الْإِيمَانَ لِلْكَافِرِ وَالتَّوْبَةَ لِلْفَاجِرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (تَكُنْ مُسْلِمًا) أَيْ: كَامِلًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَعَمُّ مِنْ حَدِيثِ: "«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» " وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الطِّيبِيُّ رحمه الله بِهِ، فَالْأَظْهَرُ فِيمَا اعْتَضَدَهُ حَدِيثُ: "«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ» ". (وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ) أَيْ: تَكُنْ طَيِّبَ الْقَلْبِ وَحَيًّا بِذِكْرِ الرَّبِّ (فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكَ) أَيِ: الْمُوَرِّثَةَ لِلْغَفْلَةِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّادِ لِلْمَعَادِ (تُمِيتُ الْقَلْبَ) أَيْ: إِنْ كَانَ حَيًّا وَيَزِيدُ اسْوِدَادًا إِنْ كَانَ مَيِّتًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
وَفِي التَّصْحِيحِ لِلْجَزَرِيِّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ الْبَاجِيُّ عَنِ الْحَسَنِ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ: الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِنَحْوِهِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لَهُ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ، لَكِنَّ بَقِيَّةَ إِسْنَادِهِ فِيهِ ضَعْفٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِيهِ أَنَّ حَدِيثَ الْحَسَنِ اعْتَضَدَ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ فَتَرَقَّى عَنْ دَرَجَةِ الضَّعْفِ، مَعَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إِجْمَاعًا.
5172 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ! تَفْرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسِدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَكَ شُغُلًا وَلَمْ أَسِدَّ فَقْرَكَ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5172 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ) : خُصَّ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ عُمْدَةُ الْعَابِدِينَ، وَأُضِيفَ إِلَى آدَمَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي مَرْتَبَةِ التَّائِبِينَ (تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي) أَيْ: بَالِغْ فِي فَرَاغِ قَلْبِكَ لِعِبَادَةِ رَبِّكَ (أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى) أَيْ: أَحْسِنْ قَلْبَكَ عُلُومًا وَمَعَارِفَ تُورِثُ الْغِنَى عَنْ غَيْرِ الْمَوْلَى (وَأَسِدَّ فَقْرَكَ) أَيْ: وَأَسِدَّ بَابَ حَاجَتِكَ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَجْزُومِ مِنْ جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا لِمُتَابَعَةِ عَيْنِهَا، وَقَدْ جُوِّزَ فِي لَمْ يَمُدَّ الْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَ مَعَ الْإِدْغَامِ (وَإِنْ لَا تَفْعَلُ) أَيْ: مَا أَمَرْتُكَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ الْمَوْلَى النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالْأُخْرَى. (مَلَأْتُ يَدَكَ) أَيْ: جَوَارِحَكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ يَدَيْكَ، وَفِي الْجَامِعِ: يَدَيْكَ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْيَدُ لِمُزَاوَلَةِ أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ بِهَا. (شُغْلًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ ضَمُّهُمَا وَفَتْحُهُمَا وَفَتْحٌ فَسُكُونٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيِ: اشْتِغَالًا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ. (وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) أَيْ: لَا مِنْ شُغْلِكَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّكَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَلَا تَنَالُ إِلَّا مَا قَدَّرْتُ لَكَ مِنَ الْمَالِ فِي الْآزَالِ وَتُحْرَمُ عَنْ غِنَى الْقَلْبِ لِتَرْكِ عِبَادَةِ الرَّبِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ، وَفِي التَّصْحِيحِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، وَاسْمُهُ هُرَيْرَةُ، وَيُقَالُ هَرَمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: فِي حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ لِينٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِاخْتِصَارٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَدَيْكَ شُغْلًا، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ.
قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَقُولُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا. يَا ابْنَ آدَمَ! لَا تُبَاعِدْ عَنِّي أَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغْلًا» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالْعِلْمِ، فَاخْتَارَ الْعِلْمَ، فَأُعْطِيَ الْمُلْكَ وَالْمَالَ لِاخْتِيَارِهِ الْعِلْمَ» ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا: " «مَنِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ عز وجل كَفَاهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «آلَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» ".
5173 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَذُكِرَ آخَرُ بِرِعَّةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَعْدِلْ بِالرِّعَّةِ) . (يَعْنِي الْوَرَعَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5173 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ» ) أَيْ: فِي طَاعَةٍ مَعَ قِلَّةِ وَرَعٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَالتَّنْوِينُ فِيهِمَا لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْكِيرِ (وَذُكِرَ أَيْ: عِنْدَهُ (آخَرُ بِرِعَّةٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ عِدَّةٍ أَيْ: بِوَرَعٍ عَنْ حَرَامٍ مَعَ قِلَّةِ عِبَادَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا. (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَعْدِلْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مَجْزُومًا وَقِيلَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا أَيْ: لَا تَزْنِ وَلَا تُقَابِلِ الْعِبَادَةَ (بِالرِّعَّةِ " يَعْنِي الْوَرَعَ) : تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمُرَادُ بِالْوَرَعِ التَّقْوَى عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى امْتِثَالِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَا تَعْدِلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ مَجْزُومَ اللَّامِ، يَعْنِي لَا تُقَابِلْ شَيْئًا بِالرِّعَّةِ، وَهِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ الْوَرَعُ، فَإِنَّ الْوَرَعَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ خَصْلَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَنْفِيًّا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: لَا تُقَابِلْ خَصْلَةً بِالْوَرَعِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْخِصَالِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَرَعُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّسَرُّعِ إِلَى تَنَاوُلِ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ وَهُوَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَذَلِكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَنَدْبٌ وَهُوَ الْوُقُوفُ عَنِ الشُّبَهَاتِ وَذَلِكَ لِلْأَوْسَاطِ، وَفَضِيلَةٌ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى أَقَلِّ الضَّرُورَاتِ، وَذَلِكَ لِلنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَقَدْ أُلْحِقَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا تَعْدِلْ بِالرِّعَّةِ قَوْلُهُ شَيْئًا، وَلَيْسَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مِنْهُ أَثَرٌ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ ضُبِطَ لَا يُعْدَلُ بِصِيغَةِ الْمُذَكَّرِ الْمَجْهُولِ، عَلَى أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا، حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ شَيْءٍ مُطْلَقًا.
5174 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا.
ــ
5174 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَمُهْمَلَةٍ نِسْبَةً إِلَى أَوْدِ بْنِ صَعْبٍ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلْقَهُ، هُوَ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ) : حَالٌ، (" اغْتَنِمْ ") : مِنَ الِاغْتِنَامِ، هُوَ أَخْذُ الْغَنِيمَةِ (" خَمْسًا ") أَيْ: مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ (" قَبْلَ خَمْسٍ ") أَيْ: مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُتَوَقَّعَةِ فِي الِاسْتِقْبَالِ (" شَبَابَكَ ") أَيْ: زَمَانَ قُوَّتِكَ عَلَى الْعِبَادَةِ (قَبْلَ هَرَمِكَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَبْلَ كِبَرِكَ وَضَعْفِكَ عَنِ الطَّاعَةِ (وَصِحَّتَكَ) أَيْ: وَلَوْ فِي هَرَمِكَ (قَبْلَ سَقَمِكَ) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: مَرَضِكَ وَ (" غِنَاكَ ") أَيْ: قُدْرَتَكَ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فِي مُطْلَقِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْ أَعَمِّ الْأَمْوَالِ (" قَبْلَ فَقْرِكَ ") أَيْ: فَقَدِكَ إِيَّاهُ بِالْحَيَاةِ أَوِ الْمَمَاتِ، فَإِنَّ الْمَالَ فِي ضِدِّهِ الزَّوَالُ (" وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ") : سَبَقَ بَيَانُ مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ (" وَحَيَاتَكَ ") : وَلَوْ فِي الْكِبَرِ الْمَقْرُونِ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ الْمُمْكِنِ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِذِكْرِ اللَّهِ (" قَبْلَ مَوْتِكَ ") أَيْ: وَقْتِ إِتْيَانِ أَجَلِكَ وَانْقِطَاعِ عَمَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا) : قَالَ الْجَزَرِيُّ رحمه الله فِي التَّصْحِيحِ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا مُرْسَلًا، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلْقَهُ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَهُ شَاهِدٌ مَرْفُوعٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذَا اللَّفْظِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ مُرْسَلًا.
5175 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفْسِدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَالدَّجَّالُ شَرٌّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
5175 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (" مَا يَنْتَظِرُ أَحَدُكُمْ ") : خَرَجَ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، أَيْ: مَتَى تَعْبُدُونَ رَبَّكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوهُ مَعَ قِلَّةِ الشَّوَاغِلِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، كَيْفَ تَعْبُدُونَهُ مَعَ كَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ وَضَعْفِ الْقُوَى؟ لَعَلَّ أَحَدَكُمْ مَا يَنْتَظِرُ (" إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا ") أَيْ: جَاعِلُكَ طَاغِيًا عَاصِيًا مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ (" أَوْ فَقْرًا مُنْسِيًا ") : مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِمُشَاكَلَةِ الْأُولَى أَيْ: جَاعِلًا صَاحَبَهُ مَدْهُوشًا يُنْسِيهِ الطَّاعَةَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَالتَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ. (" أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ") أَيْ: لِلْبَدَنِ لِشِدَّتِهِ، أَوْ لِلدِّينِ لِأَجْلِ الْكَسَلِ الْحَاصِلِ مِنْهُ (" أَوْ هَرَمًا مُفْنِدًا ") : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: مُبْلِغًا صَاحَبَهُ إِلَى الْفَنَدِ وَهُوَ ضَعْفُ الرَّأْيِ: يُقَالُ: أَفْنَدَهُ إِذَا جَعَلَ رَأْيَهُ ضَعِيفًا وَقَالَ شَارِحٌ: يُقَالُ فَنِدَ الرَّجُلُ إِذَا كَثُرَ كَلَامُهُ مِنَ الْخَرَفِ، وَأَفْنَدَهُ الْكِبْرُ يَقِفُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنْ غَايَةِ كِبَرِهِ اه.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّفْنِيدَ لِلنِّسْبَةِ إِلَى الْخَرَفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ عليه الصلاة والسلام:{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله أَيْ: تَنَسُبُونِي إِلَى الْفَنَدِ، وَهُوَ نُقْصَانُ عَقْلٍ يَحْدُثُ مِنْ هَرَمٍ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفَنَدُ: بِالتَّحْرِيكِ الْخَرَفُ وَإِنْكَارُ الْعَقْلِ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ، وَالْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالرَّأْيِ وَالْكَذِبُ كَالْإِفْنَادِ، وَفَنَّدَهُ تَفْنِيدًا كَذَّبَهُ وَعَجَّزَهُ وَخَطَّأَ رَأْيَهُ كَأَفْنَدَهُ، وَلَا تَقُلْ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَأْيٍ أَبَدًا اه.
وَكَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله مُعَلِّلًا يَكُونُ نُقْصَانُ عَقْلِهَا ذَاتِيًّا. أَقُولُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ نُقْصَانَ عَقْلِهَا إِضَافِيٌّ. وَمَعَ هَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهَا لِنُقْصَانٍ عَرَضِيٍّ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْفَنَدُ فِي الْأَصْلِ الْكَذِبُ، وَأَفْنَدَ تَكَلَّمَ بِالْفَنَدِ، وَفِي الْفَائِقِ قَالُوا لِلشَّيْخِ إِذَا هَرِمَ: قَدْ أَفْنَدَ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْمُحَرَّفِ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ سُنَنِ الصِّحَّةِ، فَشُبِّهَ بِالْكَاذِبِ فِي تَحْرِيفِهِ، وَالْهَرِمُ الْمُفْنِدُ مِنْ أَخَوَاتِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ جُعِلَ الْفَنَدُ لِلْهَرِمِ وَهُوَ لِلْهَرَمِ، وَيُقَالُ أَيْضًا أَفْنَدَهُ الْهَرَمُ،
وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ: شَيْخٌ مُفْنِدٌ يَعْنِي مَنْسُوبٌ إِلَى الْفَنَدِ، وَلَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُفْنِدَةٌ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي شَبِيبَتِهَا ذَاتَ رَأْيٍ فَتُفَنَّدَ فِي كِبَرِيِّتِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله، قَوْلُهُ: مُفْنِدٌ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَنْ شَدَّدَهُ فَلَيْسَ بِمُصِيبٍ. (" أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ") بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَاتِلًا بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَوْبَةٍ وَوَصِيَّةٍ فَفِي النِّهَايَةِ الْمُجْهِزُ هُوَ السَّرِيعُ، يُقَالُ: أَجْهَزَ عَلَى الْجَرِيحِ إِذَا أَسْرَعَ قَتْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْمَوْتُ الْمُجْهِزُ الْمُسْرِعُ يُرِيدُ بِهِ الْفُجَاءَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ كَقَتْلٍ وَغَرَقٍ وَهَدْمٍ. (أَوِ الدَّجَّالَ، فَالدَّجَّالُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَالدَّجَّالُ (" شَرٌّ غَالِبٌ يُنْتَظَرُ ") أَيْ: أَسْوَأُهُ (" أَوِ السَّاعَةَ ") أَيِ: الْقِيَامَةُ (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ") أَيْ: أَشَدُّ الدَّوَاهِي وَأَفْظَعُهَا وَأَصْعَبُهَا (" وَأَمَرُّ ") أَيْ: أَكْثَرُ مَرَارَةً مِنْ جَمِيعِ مَا يُكَابِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّدَائِدِ لِمَنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِهَا، وَلَمْ يُعِدَّ لَهَا قَبْلَ حُلُولِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالدَّجَّالُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أُبْهِمَ مِمَّا سَبَقَ، وَالْوَاوُ فِي السَّاعَةِ نَائِبَةٌ مَنَابَ الْفَاءِ الْمُلَابِسَةِ لِلْعَطْفِ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَحَاصِلُ مُجْمَلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ اسْتِبْطَاءٌ لِمَنْ تَفَرَّغَ الْأَمْرَ وَهُوَ لَا يَغْتَنِمُ الْفُرْصَةَ فِيهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ فِي الدُّنْيَا يَنْتَظِرُ إِحْدَى الْحَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ. فَالسَّعِيدُ مَنِ انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ وَاغْتَنَمَ الْمُكْنَةَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ مُفْتَرَضِهِ وَمَسْنُونِهِ قَبْلَ حُلُولِ رَمْسِهِ، وَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ وَتَذْكِرَةٌ بَالِغَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .
5176 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5176 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ") أَيْ: مَبْعُودَةٌ مِنَ اللَّهِ لِكَوْنِهَا مُبْعَدَةً عَنِ اللَّهِ (" مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ") أَيْ: مِمَّا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ (" إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ ") بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. (" وَمَا وَالَاهُ ") أَيْ: أَحَبَّهُ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَفْعَالِ الْقُرْبِ، أَوْ مَعْنَاهُ مَا وَالَى ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ: قَارَبَهُ مَنْ ذَكَرَ خَيْرًا وَتَابَعَهُ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي وَالدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: هُوَ مِنَ الْمُوَالَاةِ وَهِيَ الْمُتَابَعَةُ، وَيَجُورُ أَنْ يُرَادَ بِمَا يُوَالِي ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ. (" وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ ") : أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، فَيَكُونُ الْوَاوَانِ بِمَعْنَى " أَوْ " قَالَ الْأَشْرَفُ قَوْلُهُ: وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ مَرْفُوعٌ، وَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْصُوبٌ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمُوجَبِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ هَكَذَا وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ وَبِالرَّفْعِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ إِلَّا أَنَّ بَدَلَ أَوْ فِيهِ الْوَاوُ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بِالنَّصْبِ مَعَ أَوْ مُكَرَّرًا، وَالنَّصْبُ فِي الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالرَّفْعُ فِيهَا عَلَى التَّأْوِيلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: الدُّنْيَا مَذْمُومَةٌ لَا يُحْمَدُ فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَعَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ: الدُّنْيَا أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ دُنْيَا وَهِيَ مَعْبَرَةٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَهْدُ هُوَ الْمِيلُ الْأَوَّلُ، وَاللَّحْدُ هُوَ الْمِيلُ الثَّانِي وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ هِيَ الْقَنْطَرَةُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا حَظٌّ، وَلَهُ فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ، وَيَعْنِي بِالْأَعْيَانِ الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ، وَيَعْنِي بِالْحَظِّ حُبَّهَا فَيَنْدَرِجُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُهْلِكَاتِ الْبَاطِنَةِ كَالرِّيَاءِ وَالْحِقْدِ وَغَيْرِهِمَا. وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ أَنَّهُ يُصْلِحُهَا بِحَظٍّ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ دُنْيَوِيٌّ أَوْ أُخْرَوِيٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْحِرَفُ الصِّنَاعَاتُ، وَإِذَا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَدُنْيَاكَ مَا لَكَ فِيهِ لَذَّةٌ فِي الْعَاجِلِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ، فَلَيْسَتْ وَسَائِلُ الْعِبَادَاتِ مِنَ الدُّنْيَا كَأَكْلِ الْخُبْزِ مَثَلًا لِلتَّقَوِّي عَلَيْهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ: الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ وَمَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ مِنْهَا» " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّنْيَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَجُزْءٌ لِلْمُنَافِقِ، وَجُزْءٌ لِلْكَافِرِ، فَالْمُؤْمِنُ يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ، وَالْكَافِرُ يَتَمَتَّعُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: وَمَا وَالَاهُ لِاحْتِوَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ وَالْفَاضِلَاتِ وَمُسْتَحْسَنَاتِ الشَّرْعِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَالْعِلْمَ تَخْصِيصًا بَعْدَ التَّعْمِيمِ دَلَالَةً عَلَى فَضْلِهِ، فَعَدَلَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمَا صَرِيحًا بِخِلَافِ ذَلِكَ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، وَلِيُؤْذِنَ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَى الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ هَمَجٌ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى بِالْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَيُخْرِجُ مِنْهُ الْجُهَلَاءَ وَالْعَالِمَ الَّذِي لَمْ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَمَنْ تَعَلَّمَ عِلْمَ الْفُضُولِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ رَأْسُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ، بَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ لِلْأَبْدَانِ وَالرُّوحِ لِلْإِنْسَانِ، وَهَلْ لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْحَيَاةِ غِنًى، وَهَلْ لَهُ عَنِ الرُّوحِ مَعْدَلٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِهِ بَقَاءُ الدُّنْيَا وَقِيَامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. رَوَيْنَا عَنْ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ» " فَالْحَدِيثُ إِذًا مِنْ بَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي خُصَّ بِهَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَقَالَ: حَسَنٌ. (وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ وَفِي الْجَامِعِ نُسِبَ إِلَيْهِمَا بِدُونِ لَفْظِ إِلَّا وَبِالنَّصْبِ وَلَفْظِ " أَوْ " فِي قَوْلِهِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَهَذَا فِي بَابِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الدَّالِ فَقَالَ:" «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عز وجل» " رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَيْضًا:" «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَأَيْضًا " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ» " رَوَاهُ الْبَزَّارُ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ. وَأَيْضًا " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
5177 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5177 -
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: تَزِنُ وَتُسَاوِي (" عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ") أَيْ: رِيشَةَ نَامُوسَةٍ وَهُوَ مَثَلٌ لِلْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا أَدْنَى قَدْرٍ (" مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا ") أَيْ: مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا (" شَرْبَةَ مَاءٍ ") أَيْ: يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْهَا أَدْنَى تَمَتُّعٍ، فَإِنَّ الْكَافِرَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَالْعَدُوُّ لَا يُعْطِي شَيْئًا مِمَّا لَهُ قَدْرٌ عِنْدَ الْمُعْطِي فَمِنْ حَقَارَتِهَا عِنْدَهُ لَا يُعْطِيهَا لِأَوْلِيَائِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ:" «إِنَّ اللَّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ عَنِ الدُّنْيَا، كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمُ الْمَرِيضَ عَنِ الْمَاءِ» "، وَحَدِيثُ:" مَا زُوِيَتِ الدُّنْيَا عَنْ أَحَدٍ إِلَّا كَانَتْ خِيَرَةً لَهُ "، وَمِنْ كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ. وَفِي دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَامِعُ الْمَانِعُ الْقَائِمُ فِي مَقَامِ الرِّضَا الْقَانِعُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَاءِ، «اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ» ، وَمِنْ دَنَاءَتِهَا لَدَيْهِ أَنْ يُكَثِّرَهَا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف: 33] الْآيَةَ. «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» ". قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] ، {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ ": وَكَذَا الضِّيَاءُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
5178 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5178 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ» ") : وَهِيَ الْبُسْتَانُ وَالْقَرْيَةُ وَالْمَزْرَعَةُ. وَفِي النِّهَايَةِ: الضَّيْعَةُ فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنَ الضَّيَاعِ، وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْهُ مَعَاشُهُ كَالضَّيْعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (" فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: فَتَمِيلُوا إِلَيْهَا عَنِ الْأُخْرَى، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا مِمَّا يَكُونُ مَانِعًا عَنِ الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى، وَعَنِ التَّوَجُّهِ كَمَا يَنْبَغِي إِلَى أَمْرِ الْعُقْبَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمَعْنَى لَا تَتَوَغَّلُوا فِي اتِّخَاذِ الضَّيْعَةِ فَتُلْهُوَا بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] الْآيَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.
5179 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5179 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ ") أَيْ: حُبًّا يَغْلِبُ عَلَى حُبِّ مَوْلَاهُ (" أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَكَذَا فِي الْقَرِينَةِ الْآتِيَةِ أَيْ: نَقْصُ دَرَجَتِهِ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ يَشْغَلُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ بِالدُّنْيَا، فَلَا يَكُونُ لَهُ فَرَاغٌ لِأَمْرِ الْأُخْرَى وَلِطَاعَةِ الْمَوْلَى (" «وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ» ") أَيْ: لِعَدَمِ تَوَجُّهِ فِكْرِهِ وَخَاطِرِهِ لِأَمْرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَمُهِمِّهَا، (" فَآثِرُوا ") : تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْأُخْرَى» ". وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ السَّاعَةِ {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3] فَآثِرُوا بِالْمَدِّ أَيْ: فَاخْتَارُوا. (" مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى ") : فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَخْتَارُ الْخَزَفَ الْبَاقِيَ عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؟ وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: أَقَلُّ الْعِلْمِ، بَلْ أَقَلُّ الْإِيمَانِ، بَلْ أَقَلُّ الْعَقْلِ أَنْ يَعْرِفَ صَاحِبُهُ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، وَنَتِيجَةُ هَذَا الْعِلْمِ أَنْ يُعْرِضَ عَنِ الْفَانِي، وَيُقْبِلَ عَلَى الْبَاقِي، وَعَلَامَةُ الْإِقْبَالِ عَلَى الْعُقْبَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمِيعَادِ وَظُهُورِ الْمَعَادِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: هُمَا كَكِفَّتَيْ مِيزَانٍ، فَإِذَا رَجَحَتْ إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ خَفَّتِ الْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَحَبَّةَ الدُّنْيَا سَبَبٌ لِاشْتِغَالِهِ بِهَا، وَالِانْهِمَاكِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِلِاشْتِعَالِ عَنِ الْآخِرَةِ، فَيَخْلُو عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ، فَيَفُوتُ الْفَوْزُ بِدَرَجَاتِهَا وَثَوَابِهَا. وَهُوَ عَيْنُ الْمَضَرَّةِ سِوَى مَا يُقَاسِيهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْحُسَّادِ، وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَكَسْبِهَا فِي الْبِلَادِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «خَيْرُكُمْ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ وَلَا دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» ".
5180 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَلُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5180 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لُعِنَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَلُعِنَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ» ") : كَذَا بِالْعَطْفِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ بِغَيْرِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ حَدِيثِ:" «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ» " قَدْ تَقَدَّمَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
5181 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
5181 -
(وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) : أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ (عَنْ أَبِيهِ) : هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ جَمِيعِهَا وَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ وَخَطَأُ قَدَمٍ، وَلِذَا قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِدُونِ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ نُسْخِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ سَهْوٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَوَقَعَ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ تَقْلِيدًا، وَصَوَابُهُ: عَنِ ابْنِ كَعْبِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، كَمَا فِي أَصْلِ التِّرْمِذِيِّ، وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ") : نَافِيَةٌ (" ذِئْبَانِ ") : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبْدَلُ (" جَائِعَانِ ") : أَتَى بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ (" أُرْسِلَا ") أَيْ: خُلِّيَا وَتُرِكَا (" فِي غَنَمٍ ") أَيْ: فِي قِطْعَةِ غَنَمٍ (" بِأَفْسَدَ ") : الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ: أَكْثَرُ إِفْسَادًا (" لَهَا ") أَيْ: لِتِلْكَ الْغَنَمِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ أَوِ الْقِطْعَةِ (" مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ ") : الْمُشَبَّهُ بِالذِّئْبَيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالشَّيْئَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُمَا قَوْلُهُ: (" عَلَى الْمَالِ ") أَيِ: الْكَثِيرِ (" وَالشَّرَفِ ") أَيِ: الْجَاهِ الْوَسِيعِ، وَقَوْلُهُ:(" لِدِينِهِ ") مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَيْهِمَا أَكْثَرُ فَسَادًا لِدِينِهِ الْمُشَبَّهِ بِالْغَنَمِ لِضَعْفِهِ بِجَنْبِ حِرْصِهِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لِلْغَنَمِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا " بِمَعْنَى لَيْسَ، وَذِئْبَانِ اسْمُهَا، وَجَائِعَانِ صِفَةٌ لَهُ، وَأُرْسِلَا فِي غَنَمِ الْجُمْلَةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ، وَقَوْلُهُ: بِأَفْسَدَ خَبَرٌ لِمَا وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: بِأَشَدَّ إِفْسَادًا، وَالضَّمِيرُ فِي لَهَا لِلْغَنَمِ وَاعْتُبِرَ فِيهَا الْجِنْسِيَّةُ، فَلِذَا أُنِّثَ. وَقَوْلُهُ: مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِرْصِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَاهُ. وَقَوْلُهُ (لِدِينِهِ) اللَّامُ فِيهِ بَيَانٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] كَأَنَّهُ قِيلَ: بِأَفْسَدَ لِأَيِّ شَيْءٍ؟ قِيلَ: لِدِينِهِ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جِنْسِ الْغَنَمِ بِأَشَدَّ إِفْسَادًا لِتِلْكَ الْغَنَمِ مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِدِينِ الْمَرْءِ أَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ إِذَا أُرْسِلَا فِيهَا، أَمَّا الْمَالُ فَإِفْسَادُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْقُدْرَةِ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ الشَّهَوَاتِ، وَيَجُرُّ إِلَى التَّنْعِيمِ فِي الْمُبَاحَاتِ، فَيَصِيرُ التَّنَعُّمُ مَأْلُوفًا، وَرُبَّمَا يَشْتَدُّ أُنْسُهُ بِالْمَالِ، وَيَعْجِزُ عَنْ كَسْبِ الْحَلَالِ، فَيَقْتَحِمَ فِي الشُّبَهَاتِ مَعَ أَنَّهَا مُلْهِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا أَحَدٌ، وَأَمَّا الْجَاهُ فَكَفَى بِهِ إِفْسَادًا أَنَّ الْمَالَ يُبْذَلُ لِلْجَاهِ، وَلَا يُبْذَلُ الْجَاهُ لِلْمَالِ وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، فَيَخُوضُ فِي الْمُرَاءَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَفْسَدُ اه.
وَقَدْ قَالَتِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ رحمهم الله: إِنَّ آخِرَ مَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِ الصِّدِّيقِينَ مُحِبَّةُ الْجَاهِ، فَإِنَّ الْجَاهَ وَلَوْ كَانَ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ وَالْمَشْيَخَةِ وَالْحَالَاتِ الْكَشْفِيَّةِ، فَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَى الْمَخْلُوقِ وَالْغَفْلَةُ وَالْغَيْرَةُ الرُّبُوبِيَّةُ أَوِ الرُّؤْيَةُ الِاثْنَيْنِيَّةُ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ يَحْجُبُ السَّالِكَ عَنِ الْخَلْوَةِ فِي الْجَلْوَةِ بِوَصْفِ الْبَقَاءِ بِاللَّهِ، وَالْفِنَاءِ عَمَّا سِوَاهُ، هَذَا وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَكُونُ الرَّجُلُ مُرَائِيًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ. قِيلَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: يُحِبُّ أَنْ يَكْثُرَ النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : لَعَلَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَإِلَّا فَحَقُّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّارِمِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، هَذَا وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ، عَنْ أَبِيهِ.
5182 -
وَعَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا أَنْفَقَ مُؤْمِنٌ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أُجِرَ فِيهَا، إِلَّا نَفَقَتَهُ فِي هَذَا التُّرَابِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5182 -
(وَعَنْ خَبَّابٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتِّ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ، لَحِقَهُ سَبْيٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَعْتَقَتْهُ، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَصَبَرَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا أَنْفَقَ مُؤْمِنٌ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أُجِرَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُثِيبَ: (" فِيهَا ") أَيْ: فِي تِلْكَ النَّفَقَةِ أَوْ إِنْفَاقِهَا (" إِلَّا نَفَقَتَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُوجَبِ ; لِأَنَّ النَّفْيَ عَادَ إِلَى الْإِيجَابِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. (" فِي هَذَا التُّرَابِ ") أَيِ: الْبِنَاءِ فَوْقَ الْحَاجَةِ وَهَذَا لِلتَّحْقِيرِ، وَقِيلَ: التُّرَابُ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَدَنِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: (نَفَقَتَهُ) مَنْصُوبَةٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوجَبِ، إِذِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ فَيَكُونُ مُوجَبًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
5183 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
5183 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ: ثَابِتٌ فِي طَرِيقِ رِضَاهُ (" إِلَّا الْبِنَاءَ ") : اللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيْ: إِلَّا الْبِنَاءَ الزَّائِدَ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ (فَلَا خَيْرَ فِيهِ) : لِوُقُوعِ الْإِسْرَافِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا السَّرَفُ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِطْعَامِ وَالْإِنْعَامِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَيْرٌ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْمُسْتَحِقُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَنَامِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا خَيْرَ فِيهِ تَفْرِيعِيَّةٌ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ رحمه الله بِالْوَاوِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَوْلَهُ: وَلَا خَيْرَ فِيهِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنَ الْجُمْلَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
5184 -
ــ
5184 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا) أَيْ: وَقْتًا (وَنَحْنُ مَعَهُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً) أَيْ: بِنَاءً عَالِيًا (فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ ") : اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: مَا هَذِهِ الْعِمَارَةُ الْمُنْكَرَةُ وَمَنْ بَانِيهَا؟ (قَالَ أَصْحَابُهُ: هَذِهِ لِفُلَانٍ، رَجُلٍ) : بِالْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا) أَيْ: أَضْمَرَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ (فِي نَفْسِهِ) : غَضَبًا عَلَى فَاعِلِهَا فِي فِعْلِهَا، فَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ حَمَلْتَ الْحِقْدَ عَلَيْهِ إِذَا أَضْمَرْتَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ
…
وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
(حَتَّى لَمَّا جَاءَ صَاحِبُهَا، فَسَلَّمَ) أَيْ: صَاحِبُهَا (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام (فِي النَّاسِ) أَيْ: فِي مَحْضَرٍ مِنْهُمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَأَعْرَضَ عَنْهُ) أَيْ: فَلَمْ يَرُدَّ عليه السلام، أَوْ رَدَّ وَأَعْرَضَ عَنِ الِالْتِفَاتِ، كَمَا هُوَ دَأْبُهُ مِنَ الْمُلَاطَفَةِ لَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْدِيبًا لَهُ وَتَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ (صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا) : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولَ حَتَّى، وَلَمَّا الْحِينِيَّةُ ظَرْفٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ مُسَامَحَةً، وَكَانَ الطِّيبِيُّ رحمه الله جَعَلَ قَوْلَهُ صَنَعَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ: فَأَعْرَضَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَعَ الْفَاءِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ جَوَابَ لَمَّا أَيْ كَرِهَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَوْلُهُ:(حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِيهِ) أَيْ: عَرَفَ أَنَّ الْغَضَبَ كَانَ لِأَجْلِهِ (وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ)
أَيْ: بِسَبَبِهِ (فَشَكَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا رَآهُ مِنْ أَثَرِ الْغَضَبِ وَالْإِعْرَاضِ (إِلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ: أَصْحَابِهِ الْخُلَّصِ، أَوْ إِلَى أَصْحَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَالَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَرَى مِنْهُ مَا لَمْ أَعْهَدْهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، وَلَا أَعْرِفْ لَهُ سَبَبًا، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَظْهَرُ لَهَا وَجْهٌ، (قَالُوا: خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ) : اخْتِيَارًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَمَا تَهْوَاهُ، (فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَهَا) أَيِ: الْقُبَّةَ (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (" مَا فَعَلَتِ الْقُبَّةُ؟ ") : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (قَالُوا: شَكَا إِلَيْنَا صَاحِبُهَا إِعْرَاضَكَ) أَيْ: سَبَبَهُ (فَأَخْبَرْنَاهُ) أَيْ: بِأَنَّهُ لِأَجْلِ بِنَائِكَ الْقُبَّةَ (فَهَدَمَهَا. قَالَ: " أَمَا ") : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ كُلَّ بِنَاءٍ ") : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَبْنِيُّ (" وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا لَا، إِلَّا مَا لَا) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ (يَعْنِي: إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ) أَيْ: لَا فِرَاقَ عَنْهُ، قِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ بَنَاهُ صَاحِبُهُ فَهُوَ وَبَالٌ أَيْ: عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْوَبَالُ فِي الْأَصْلِ الثِّقَلُ، وَالْمَكْرُوهُ أَرَادَ مَا بَنَاهُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّنَعُّمِ فَوْقَ الْحَاجَةِ لَا أَبْنِيَةَ الْخَيْرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطَاتِ، فَإِنَّهَا مِنَ الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلرَّجُلِ مِنَ الْقُوتِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَسْجِدًا» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّ بُنْيَانٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلَّا مَا كَانَ هَكَذَا» ". وَأَشَارَ بِكَفِّهِ " وَكُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَا عَمِلَ بِهِ ".
5185 -
وَعَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ (الْمَصَابِيحِ) عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عَتْبَدَ، بِالدَّالِ بَدَلَ التَّاءِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ.
ــ
5185 -
(وَعَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ عَيْنٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا هَاءٌ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ شَيْبَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ خَالُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَسَكَنَ الشَّامَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ فَاضِلًا صَالِحًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، رَوَى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: أَوْصَانِي (قَالَ) : بَدَلٌ مِنْ عَهِدَ أَوْ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلْعَهْدِ، وَاخْتَارَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْأَوَّلَ حَيْثُ قَالَ: بَدَلٌ مِنْهُ بَدَلَ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا
…
تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
أَبْدَلَ تُلْمِمْ بِنَا مِنْ قَوْلِهِ تَأْتِنَا. (" إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ ") أَيْ: لِلْوَسِيلَةِ بِحَسَبِ الْمَآلِ (" خَادِمٌ ") أَيْ: فِي السَّفَرِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (" وَمَرْكَبٌ ") أَيْ: مَرْكُوبٌ يُسَارُ عَلَيْهِ (" فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ: فِي الْجِهَادِ أَوِ الْحَجِّ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَنَاعَةُ وَالِاكْتِفَاءُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا لِلْآخِرَةِ، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، «عَنْ خَبَّابٍ:" إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَكْفِيهِ إِلَخْ. نِسْبَةٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةُ قِصَّةٍ تَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عَتْبَدَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ فَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ (بِالدَّالِ) أَيِ: الْمُهْمَلَةِ (بَدَلَ التَّاءِ) أَيِ: الْفَوْقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي آخِرِ لَفْظِ: عُتْبَةَ (وَهُوَ تَصْحِيفٌ) : إِذْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَسْمَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا سَبَقَ مِنَ الضَّبْطِ الْوَاقِعِ فِي الْأُصُولِ، وَهُنَا تَحْرِيفٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَبَعْضِ الْحَوَاشِي أَيْضًا، فَاحْذَرْ فَإِنَّ الصَّوَابَ مَا تَحَرَّرَ.
5186 -
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي بِهِ عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5186 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ ") أَيْ: حَاجَةٌ (" فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَوْصُوفٌ سِوَى مَحْذُوفٍ أَيْ: شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ اه. وَفِي نُسْخَةٍ مُوَافِقَةٍ لِمَا فِي الْجَامِعِ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَالْمُرَادُ بِهَا ضَرُورِيَّاتُ بَدَنِهِ الْمُعِينِ عَلَى دِينِهِ (" بَيْتِ ") : بِالْجَرِّ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخِصَالِ الْمُبَيَّنَةِ (" يَسْكُنُهُ ") أَيْ: دَفْعًا لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ (" وَثَوْبٌ يُوَارِي ") أَيْ: يَسْتُرُ (" بِهِ عَوْرَتَهُ ") أَيْ: عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ حَالَ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِيهَا (" وَجِلْفُ الْخُبْزِ ") : بِكَسْرِ جِيمٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجِلْفُ بِالْكَسْرِ الْغَلِيظُ الْيَابِسُ مِنَ الْخُبْزِ غَيْرِ الْمَأْدُومِ، أَوْ حَرْفُ الْخُبْزِ، وَالظَّرْفُ، وَالْوِعَاءُ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْجِلْفُ ظَرْفُهُمَا مِنْ جِرَابٍ وَرَكْوَةٍ، وَأَرَادَ الْمَظْرُوفَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْحَاجَةِ. (" وَالْمَاءِ ") : بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجِلْفِ أَوِ الْخُبْزِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الشُّرَّاحِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِحْدَى الْخِصَالِ. قَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ بِالْحَقِّ مَا وَجَبَ لَهُ مِنَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَبِعَةٍ فِي الْآخِرَةِ وَسُؤَالٍ عَنْهُ، وَإِذَا اكْتَفَى بِذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُظُوظِ يُسْأَلُ عَنْهُ وَيُطَالَبُ بِشُكْرِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَرَادَ بِالْحَقِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَتَوَقَّفَ تَعَيُّشُهُ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْحَقِيقِيُّ مِنَ الْمَالِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَبِعَةُ حِسَابٍ إِذَا كَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجِلْفُ وَالْخُبْزُ وَحْدَهُ لَا أُدْمَ مَعَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَبْزُ الْغَلِيظُ الْيَابِسُ. قَالَ: وَيُرْوَى بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ جِلْفَةٍ وَهِيَ الْكِسْرَةُ مِنَ الْخُبْزِ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ، قَالَ شِمْرٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْجِلْفُ الظَّرْفُ مِثْلُ الْخُرْجِ وَالْجُوَالِقِ، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: ذَكَرَ الظَّرْفَ، وَأَرَادَ بِهِ الْمَظْرُوفَ أَيْ: كِسْرَةَ خُبْزٍ وَشَرْبَةَ مَاءٍ اه. وَالْمَقْصُودُ غَايَةُ الْقَنَاعَةِ، وَنِهَايَةُ الْكِفَايَةِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ أَدْهَمَ:
وَمَا هِيَ إِلَّا جَوْعَةٌ قَدْ سَدَدْتُهَا
…
وَكُلُّ طَعَامٍ بَيْنَ جَنْبَيَّ وَاحِدُ
وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَيَا نَفْسُ يَكْفِيكِ طُولُ الْحَيَاةِ
…
إِذَا مَا قَنَعْتِ وَرَبِّ الْفَلَقْ
رَغِيفٌ بِفَوْذَنْجٍ يَابِسٌ
…
وَمَا رَوَى وَلُبْسٌ خَلِقْ
وَخُفْشٌ تَكُفُّكَ جُدْرَانُهُ
…
فَمَاذَا الْعَنَا وَمَاذَا الْقَلَقْ
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
5187 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. قَالَ: " ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5187 -
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ) أَيْ: جَامِعٍ نَافِعٍ فِي بَابِ الْمَحَبَّةِ (إِذَا أَنَا) : لِلتَّأْكِيدِ (عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ) : بِفَتْحِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَيُسْكَنُ (قَالَ: " ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: بِتَرْكِ حُبِّهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ زَوَائِدِهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ وَعَوَائِدِهَا، (" يُحِبَّكَ اللَّهُ ") أَيْ: لِعَدَمِ مَحَبَّتِكَ عَدُوَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدِّدَةِ لِلْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ (" وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ ") أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ (" يُحِبَّكَ النَّاسُ ") : لِتَرْكِكَ مَحْبُوبِهِمْ، وَعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
وَمَا الزُّهْدُ إِلَّا فِي انْقِطَاعِ الْخَلَائِقِ
…
وَمَا الْحَقُّ إِلَّا فِي وُجُودِ الْحَقَائِقِ
وَمَا الْحُبُّ إِلَّا حُبُّ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ
…
عَنِ الْخَلْقِ مَشْغُولًا بِرَبِّ الْخَلَائِقِ
وَقِيلَ: الزُّهْدُ عِبَارَةٌ عَنْ عُزُوبِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، أَوْ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ تَرَفُّعًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ شَرْحِ الصَّدْرِ بِنُورِ الْيَقِينِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الزُّهْدُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَا جَاهٌ، وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ رحمه الله: يَا زَاهِدُ! قَالَ: الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ جَاءَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً فَتَرَكَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَفِيمَ زَهَدْتُ؟ قُلْتُ: هَذَا بَيَانُ كَمَالِ الزُّهْدِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الزُّهْدِ هُوَ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِجَذْبَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَصْرِفُ السَّالِكَ عَنِ الْأُمُورِ الْفَانِيَةِ، وَتَشْغَلُ بِالْأَحْوَالِ الْفَانِيَةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ النَّفْسَ مُدَّعِيَةٌ لِلزُّهْدِ، وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا مِنْ كَذِبِهَا إِلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدُّنْيَا وُجُودِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَثَمَرَتُهُ الْقَنَاعَةُ مِنَ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ زَادِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ مَطْعَمٌ يَدْفَعُ الْجُوعَ، وَمَلْبَسٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَمَسْكَنٌ يَصُونُهُ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَأَثَاثٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي الْمَنَازِلِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الزُّهْدَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ عَنْهُ بِالْكُلْفَةِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ بِالْحَذَرِ عَنْ مَعْتَبَةِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّعِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْمُرَاقَبَةِ، ثُمَّ الزُّهْدُ وَالزُّهْدُ بِاسْتِحْقَارِ مَا زَهَدْتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَاسْتِوَاءِ الزُّهْدِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ، وَالذَّهَابِ عِنْدَ اكْتِسَابِ أُجَرٍ بِتَرْكِهَا نَاظِرًا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الْفَاعِلِ الْحَقِّ، فَيُشَاهِدُ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزُّهْدَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَفْضَلُهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُحِبَّ الدُّنْيَا مُتَعَرِّضٌ لِبُغْضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
قَالَ مِيرَكُ: أَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ التِّرْمِذِيِّ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ نُسَّاخِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ، وَالْإِمَامَ النَّوَوِيَّ، وَالشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا كُلُّهُمْ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ فَتَأَمَّلْ. قُلْتُ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. اه. لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا إِلَخْ. وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. نَعَمْ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا:" «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ» ". وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ. رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: يُكْثِرُ بَدَلَ يُطِيلُ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا: تُشَعِّبُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا: أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَكَ أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتَى. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزَّهَادَةِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكُ آخِرِهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
5188 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَامَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَسَدِهِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَبْسُطَ لَكَ وَنَعْمَلَ فَقَالَ: " مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5188 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ) أَيْ: عَنِ النَّوْمِ (وَقَدْ أَثَّرَ) أَيْ: أَثَّرَ الْحَصِيرُ (فِي جَسَدِهِ) أَيْ: غَايَةَ التَّأْثِيرِ (فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَبْسُطَ) : بِضَمِّ السِّينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " لَوْ " لِلتَّمَنِّي، وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ أَذِنْتَ لَنَا أَنْ نَبْسُطَ لَكَ) : فِرَاشًا لَيِّنًا (وَنَعْمَلَ) أَيْ: لَكَ ثَوْبًا حَسَنًا. أَيْ: لَكَانَ أَحْسَنَ مِنِ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ، (فَقَالَ:" مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا ") : " مَا " نَافِيَةٌ أَيْ: لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطَ عَلَيْهَا، وَأَجْمَعَ مَا فِيهَا وَلَذَّتَهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ، فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله، قَوْلُهُ: وَنَعْمَلَ مُتَعَلِّقَةٌ مَحْذُوفٍ، فَيُقَدَّرُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ وُجُودُ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِسَاطًا، وَمِنْ ثَمَّ طَابَقَهُ قَوْلُهُ:" مَا لِي وَلِلدُّنْيَا " أَيْ: لَيْسَ حَالِي مَعَ الدُّنْيَا. (" إِلَّا كَرَاكِبٍ ") أَيْ: إِلَّا
كَحَالِ رَاكِبٍ (" اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا ") : وَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، وَهُوَ التَّشْبِيهُ بِسُرْعَةِ الرَّحِيلِ: وَقِلَّةِ الْمُكْثِ، وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ وَاللَّامُ فِي لَلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " مَعَ " وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ، فَالتَّقْدِيرُ مَا لِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا الدُّنْيَا مَعِي. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالضِّيَاءُ.
5189 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ " ثُمَّ نَقَدَ بِيَدِهِ فَقَالَ: (عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ، قَلَّ تُرَاثُهُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5189 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي ") : أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْمَغْبُوطَ بِهِ حَالُهُ أَيْ: أَحْسَنُهُمْ حَالًا وَأَفْضَلُهُمْ مَآلًا (" عِنْدِي ") أَيْ: فِي دِينِي وَمَذْهَبِي (" لَمُؤْمِنٌ ") : اللَّامُ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ، أَوِ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَهُوَ مُؤْمِنٌ (" خَفِيفُ الْحَاذِ ") : بِتَخْفِيفِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: خَفِيفُ الْحَالِ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ، وَخَفِيفُ الظَّهْرِ مِنَ الْعِيَالِ، فَيَتَمَكَّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي طَرِيقِ الْخَالِقِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَلَائِقِ وَالْعَوَائِقِ، وَمُجْمَلُ الْمَعْنَى أَحَقُّ أَحِبَّائِي وَأَنْصَارِي عِنْدِي بِأَنْ يُغْبَطَ وَيُتَمَنَّى حَالُهُ مُؤْمِنٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (" ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ ") أَيْ: وَمَعَ هَذَا هُوَ صَاحِبُ لَذَّةٍ وَرَاحَةٍ مِنَ الْمُنَاجَاةِ مَعَ اللَّهِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَاسْتِغْرَاقٍ فِي الْمُشَاهَدَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» " وَأَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ " أَيْ: بِوُجُودِهَا وَحُصُولِهَا، وَمَا أَقْرَبَ الرَّاحَةَ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَمَا أَبْعَدَهَا مِمَّا قِيلَ مَعْنَاهُ: أَذِّنْ بِالصَّلَاةِ لِنَسْتَرِيحَ بِأَدَائِهَا مِنْ شُغْلِ الْقَلْبِ بِهَا وَقَوْلُهُ: (" أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ ") : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، أَوِ الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَمِّيَّةِ، وَالثَّانِي عِبَارَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ (" وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ ") أَيْ: كَمَا أَطَاعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَالتَّخْصِيصِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ، وَجَعَلَهُ الطِّيبِيُّ عَطْفَ تَفْسِيرٍ عَلَى أَحْسَنَ وَتَفْسِيرُنَا أَحْسَنُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَأَطَاعَهُ فِي عِبَادَتِهِ بِالْإِخْفَاءِ، وَلَا يُظْهِرُ طَاعَتَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى عَادَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ: (" وَكَانَ غَامِضًا ") أَيْ: خَامِلًا خَافِيًا غَيْرَ مَشْهُورٍ (" فِي النَّاسِ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْخُرُوجَ عَنْهُمْ يُوجِبُ الشُّهْرَةَ بَيْنَهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عُمُومُهُمْ، فَلَا يَضُرُّهُ مَعْرِفَةُ خُصُوصِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مِمَّنْ يُصَاحِبُهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (" لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ") أَيْ: عِلْمًا وَعَمَلًا، وَهُوَ بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ لِمَعْنَى الْغُمُوضِ (" وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا ") أَيْ: قَدْرَ كِفَايَتَهُ بِحَيْثُ يَكُفُّهُ وَيَمْنَعُهُ عَنِ الْإِجْنَاحِ إِلَى الْكَافَّةِ، (" فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى الرِّزْقِ الْكَفَافِ، أَوْ عَلَى الْخُمُولِ وَالْغُمُوضِ، أَوْ عَلَى مَا ذُكِرَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مِلَاكُ الْأَمْرِ الصَّبْرُ، وَبِهِ يُتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وَقَالَ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24](ثُمَّ نَقَدَ) : بِالنُّونِ وَالْقَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمِلَةِ الْمَفْتُوحَةِ (بِيَدِهِ) أَيْ: نَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ بِأَنْ ضَرَبَ إِحْدَى أُنْمُلَتَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى سُمِعَ مِنْهُ صَوْتٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ مِنْ نَقَدْتُ الشَّيْءَ بِأُصْبُعِي أَنْقُدُهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ نَقْدَ الدَّرَاهِمِ، وَنَقْدَ الطَّائِرِ الْحَبَّ إِذَا لَقَطَهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِثْلُ النَّقْرِ وَيُرْوَى بِالرَّاءِ اه. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ أَيْ: صَوَّتَ بِأُصْبُعِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهِيَ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
جِدًّا ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ. (فَقَالَ: " عُجِّلَتْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (" مَنِيَّتُهُ ") أَيْ: مَوْتُهُ (" قَلَّتْ بَوَاكِيهِ ") : جَمْعُ بَاكِيَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَبْكِي عَلَى الْمَيِّتِ (" قَلَّ تُرَاثُهُ ") أَيْ: مِيرَاثُهُ وَمَالُهُ الْمُؤَخَّرُ عَنْهُ مِمَّا يُورَثُ حُمِلَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أُرِيدَ بِالنَّقْدِ هَهُنَا ضَرَبُ الْأُنْمُلَةِ عَلَى الْأُنْمُلَةِ، وَضَرَبَهَا كَالْمُتَقَلِّلِ لِلشَّيْءِ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ قَلِيلًا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّلُ مُدَّةَ عُمُرِهِ وَعَدَدَ بَوَاكِيهِ وَمَبْلَغَ تُرَاثِهِ، وَقِيلَ: الضَّرْبُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَفْعَلُهُ الْمُتَعَجِّبُ مِنَ الشَّيْءِ، أَوْ مَنْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُ، وَرُبَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يُظْهِرُ قِلَّةَ الْمُبَالَاةِ بِشَيْءٍ أَوْ يَفْعَلُ طَرَبًا وَفَرَحًا بِالشَّيْءِ اه.
وَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَهُوَ يَتَعَجَّبُ مِنْ حُسْنِ حَالِهِ وَجِمَالِ مَآلِهِ، وَقِيلَ، قَوْلُهُ: عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ أَنَّهُ يُسْلِمُ رُوحَهُ سَرِيعًا لِقِلَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالدُّنْيَا، وَغَلَبَهُ شَوْقُهُ إِلَى الْمَوْلَى لِحَدِيثِ " «الْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ» ". قَالَ الْأَشْرَفُ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَلِيلُ مُؤَنِ الْمَمَاتِ، كَمَا كَانَ قَلِيلَ مُؤَنِ الْحَيَاةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ:" «أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّ بَوَاكِيهِ» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ: " «خَيْرُكُمْ فِي الْمِائَتَيْنِ كُلُّ خَفِيفِ الْحَاذِ الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ» " قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: عِلَّتُهُ دَاوُدُ، وَلِذَا قَالَ الْخَلِيلُ: ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ فِيهِ وَخَطَّئُوهُ اه.
فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ التَّرَهُّبِ أَيَّامَ الْفِتَنِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ وَاهِيَةٌ:
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُحَلُّ فِيهِ الْعُزْبَةُ وَلَا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينُهُ إِلَّا مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، وَمِنْ حَجَرٍ إِلَى حَجَرٍ كَالطَّائِرِ بِفِرَاخِهِ، وَكَالثَّعْلَبِ بِأَشْبَالِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ» " الْحَدِيثَ. وَمِنْهَا: مَا رَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الصُّوفِيِّ، عَنِ ابْنِ حُذَيْفَةَ ابْنِ الْيَمَانِ، عَنْ أَبِيهِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا:" «خَيْرُ نِسَائِكُمْ بَعْدَ سِتِّينَ مِائَةٍ الْعَوَاقِرُ، وَخَيْرُ أَوْلَادِكُمْ بَعْدَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ الْبَنَاتُ» ". وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي " إِلَى أَنْ قَالَ: " فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ " ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ فَقَالَ: " عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ " الْحَدِيثَ. وَقَالَ عُقْبَةُ: عَلِيٌّ ضَعِيفٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ لِلشَّامِيِّينَ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اه.
وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي الزُّهْدِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ مِنْ حَدِيثِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَفْظُهُ:" «أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ» " وَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ مَا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ:" «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ اقْتَنَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِزَوْجَةٍ وَلَا وَلَدٍ» ". وَلِلدَّيْلَمِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ رحمهم الله الْخَوَارِزْمِيِّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ غَفَّالٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ:" «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَأَنْ يُرَبِّيَ أَحَدُكُمْ جَرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا مِنْ صُلْبِهِ» ".
5190 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا، يَا رَبِّ! وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعَتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
5190 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي ") أَيْ: إِلَيَّ عَرْضًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَالْمَعْنَى شَاوَرَنِي وَخَيَّرَنِي بَيْنَ الْوُسْعِ فِي الدُّنْيَا، وَاخْتِيَارِ الْبُلْغَةِ لِزَامَ الْعُقْبَى مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِتَابٍ. (" لِيَجْعَلَ لِي ") أَيْ: مِلْكًا لِي أَوْ مَخْصُوصًا لِأُمَّتِي عَلَى تَقْدِيرِ إِقْبَالِي عَلَيْهَا، وَالْتِفَاتِي إِلَيْهَا، وَيَصِيرُ لِأَجْلِي (" بَطْحَاءَ مَكَّةَ ") أَيْ: أَرْضَهَا وَرِمَالَهَا (" ذَهَبًا ") أَيْ: بَدَلَ حَجَرِهَا وَمَدَرِهَا، وَأَصْلُ الْبَطْحَاءِ مَسِيلُ الْمَاءِ، وَأَرَادَ هُنَا عَرْصَةَ مَكَّةَ وَصَحَارِيهَا فَإِفَاضَتُهُ بَيَانِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: بَطْحَاءُ مَكَّةَ تَنَازُعٌ فِيهِ عَرَضَ وَلِيَجْعَلَ أَيْ: عَرَضَ عَلَيَّ بَطْحَاءَ لِيَجْعَلَهَا لِي ذَهَبًا (" فَقُلْتُ: لَا ") أَيْ: لَا أُرِيدُ وَلَا أَخْتَارُ. (" يَا رَبِّ! وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا ") أَيْ: أَخْتَارُ أَوْ أُرِيدُ أَنْ أَشْبَعَ وَقْتًا أَيْ: فَأَشْكُرُ (" وَأَجُوعُ يَوْمًا ") أَيْ: فَأَصْبِرُ كَمَا فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ
بِقَوْلِهِ: (" فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ ") أَيْ: بِعَرْضِ الِافْتِقَارِ عَلَيْكَ (" وَذَكَرْتُكَ ") أَيْ: بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْفَقْرَ يُورِثُ الذِّكْرَ، كَمَا فِي الْغِنَى يُوجِبُ الْكُفْرَ (" وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ ") أَيْ: بِمَا أَلْهَمَتْنِي مِنْ ثَنَائِكَ (" وَشَكَرْتُكَ ") : عَلَى إِشْبَاعِكَ وَسَائِرِ نَعْمَائِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: جَمَعَ فِي الْقَرِينَتَيْنِ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَهُمَا صِفَتَا الْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] الْكَشَّافُ: صَبَّارٌ عَلَى بَلَائِهِ شَكُورٌ لِنَعْمَائِهِ وَهُمَا صِفَتَا الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ، فَجَعَلَهُمَا كِنَايَةً عَنْهُ، أَقُولُ: وَتَحْقِيقُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ السَّادَةِ الصَّفِيَّةِ أَنَّ الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَالْخَصْلَتَيْنِ الْمَسْطُورَتَيْنِ نَاشِئَتَانِ مِنْ تَرْبِيَةِ اللَّهِ لِلسَّالِكِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، إِذْ بِهِمَا تَتِمُّ مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ، وَهُوَ الرِّضَا عَنِ الْمَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ حَالِ الْمُتَحَرِّفِينَ، وَأَفْعَالِ الْمُتَحَيِّرِينَ الْمُذْنِبِينَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .
5191 -
وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
5191 -
(وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: أَنْصَارِيُّ خَطْمِيٌّ، يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، رَوَى عَنِ ابْنِهِ سَلَمَةَ. قَالَ ابْنُ عَبْدُ الْبَرِّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُرْسِلُ حَدِيثَهُ اه. وَهُوَ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام، فَحَدِيثُهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ تَابِعِيًّا فَمُرْسَلُهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِإِطْلَاقِهِمْ حَدِيثَهُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ ") أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (" آمِنًا ") أَيْ: غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْعِصْمَةِ عَنِ الْمَنَاهِي، وَلِذَا قِيلَ: لَيْسَ الْعِيدُ لِمَنْ لَبِسَ الْجَدِيدَ إِنَّمَا الْعِيدُ لِمَنْ أَمِنَ الْوَعِيدَ. (" فِي سِرْبِهِ ") : الْمَشْهُورُ كَسْرُ السِّينِ أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ: السِّرْبُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ: فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: فِي بَيْتِهِ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله. أَبَى بَعْضُهُمْ إِلَّا السَّرْبَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ أَنَّ: فِي بَيْتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ رِوَايَةً، وَلَوْ سَلِمَ لَهُ قَوْلُهُ أَنْ يُطْلَقَ السِّرْبُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ، كَانَ قَوْلُهُ هَذَا حَرِيًّا بِأَنْ يَكُونَ أَقْوَى الْأَقَاوِيلِ، إِلَّا أَنَّ السِّرْبَ يُقَالُ لِلْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَرْضِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السِّرْبُ الطَّرِيقُ وَبِالْكَسْرِ الطَّرِيقُ وَالْبَالُ وَالْقَلْبُ وَالنَّفْسُ وَبِالتَّحْرِيكِ جُحْرُ الْوَحْشِ وَالْحَقِيرُ تَحْتَ الْأَرْضِ اه. فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَلَوْ فِي بَيْتٍ تَحْتَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ كَجُحْرِ الْوَحْشِ، أَوِ التَّشْبِيهَ بِهِ فِي خَفَائِهِ وَعَدَمِ ضِيَائِهِ. (" مُعَافًى ") : اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ أَيْ: صَحِيحًا سَالِمًا مِنَ الْعُيُوبِ (" فِي جَسَدِهِ ") أَيْ: بَدَنِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ") أَيْ: كِفَايَةُ قُوتِهِ مِنْ وَجْهِ الْحَلَالِ (" فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْحِيَازَةِ، وَهِيَ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ (" لَهُ ") : وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِمَنْ رَابِطٌ لِلْجُمْلَةِ أَيْ: جُمِعَتْ لَهُ (" الدُّنْيَا ") أَيْ: (" بِحَذَافِيرِهَا ") : كَمَا فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ، أَيْ: بِتَمَامِهَا، وَالْحَذَافِيرُ: الْجَوَانِبُ، وَقِيلَ: الْأَعَالِي، وَاحِدُهَا حِذْفَارٌ أَوْ حُذْفُورٌ، وَالْمَعْنَى، فَكَأَنَّمَا أُعْطِيَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ: حَذَافِيرِهَا.
5192 -
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5192 -
(وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً) أَيْ: ظَرْفًا (" شَرًّا مِنْ بَطْنٍ ") : صِفَةُ وِعَاءٍ (" بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ ") : مُبْتَدَأٌ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقَوْلُهُ:(" أُكُلَاتٌ ") : بِضَمَّتَيْنِ خَبَرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ، وَالْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ اللُّقْمَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ: لُقَيْمَاتٌ بِالتَّصْغِيرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى التَّحْقِيرِ، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْلِيلِ بِالتَّنْكِيرِ. (" يُقِمْنَ صُلْبَهُ ") أَيْ: ظَهْرَهُ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَقِيَامِ الْمَعِيشَةِ، وَإِسْنَادُ الْإِقَامَةِ إِلَى الْأُكُلَاتِ مَجَازِيَّةٌ سَبَبِيَّةٌ، (" فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَيُضَمُّ أَيْ: لَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ (" فَثُلُثٌ ") : بِضَمِّهِمَا وَيُسْكَنُ اللَّامُ (" طَعَامٌ ") : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ: ثُلُثٌ مِنْهُ لِلطَّعَامِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" وَثُلُثٌ شَرَابٌ ") : وَاللَّامُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِمَا لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (" وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ") : بِحَرَكَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى قُوتٍ أَلْبَتَّةَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ، فَلْيَجْعَلْ ثُلُثَ بَطْنِهِ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثَهُ لِلشَّرَابِ، وَلْيَتْرُكْ ثُلُثًا خَالِيًا بِخُرُوجِ النَّفَسِ، وَلَا يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ كَطَائِفَةِ الْقَلَنْدَرِيَّةِ حَيْثُ يَقُولُونَ بِمَلْءِ الْبَطْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَالْمَاءُ يُحَصَّلُ مَكَانُهُ وَلَوْ فِي الْمَسَامِّ وَالنَّفَسُ إِنِ اشْتَهَى خَرَجَ وَإِلَّا فَلَا بَعْدَ تَمَامِ الْمَرَامِ، فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ قَالَ تَعَالَى:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] وَسَبَقَ: " «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءَ» ".
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيِ: الْحَقُّ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ عَمَّا يُقَامُ بِهِ صُلْبُهُ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَلْبَتَّةَ لِتَجَاوُزٍ فَلَا يَتَجَاوَزْ عَنِ الْقِسْمِ الْمَذْكُورِ، جَعَلَ الْبَطْنَ أَوَّلًا وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ لِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِيمَا هِيَ لَهُ، وَالْبَطْنُ خَلْقٌ لِأَنَّهُ يُتَقَوَّمُ بِهِ الصُّلْبُ بِالطَّعَامِ وَامْتِلَاؤُهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونَ شَرًّا مِنْهَا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فِي الْجُوعِ عَشْرُ فَوَائِدَ. الْأُولَى: صَفَاءُ الْقَلْبِ وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةَ، وَيُعْمِي الْقَلْبَ، وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الدِّمَاغِ، كَشِبْهِ الشَّبَكَةِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ، فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنِ الْجَوَلَانِ. وَثَانِيهَا: رِقَّةُ الْقَلْبِ وَصَفَاؤُهُ الَّذِي بِهِ هُيِّئَ لِإِدْرَاكِ لَذَّةِ الْمُنَاجَاةِ وَالتَّأَثُّرِ بِالذِّكْرِ. وَثَالِثُهَا: الِانْكِسَارُ وَالذُّلُّ وَزَوَالُ الْمَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالْفَرَحِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الطُّغْيَانِ، وَلَا تَنْكَسِرُ النَّفْسُ لِشَيْءٍ وَلَا تُذَلُّ، كَمَا تُذَلُّ بِالْجُوعِ، فَعِنْدَهُ تَسْتَكِنُّ لِرَبِّهَا وَتُفِيقُ عَلَى عَجْزِهَا. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْسَى بَلَاءَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَأَهْلَ الْبَلَاءِ، فَإِنَّ الشَّبْعَانَ يَنْسَى الْجَائِعِينَ وَالْجُوعَ. وَخَامِسُهَا: وَهِيَ مِنْ كِبَارِ الْفَوَائِدِ كَسْرُ شَهَوَاتِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَتَقْلِيلُهَا يُضْعِفُ كُلَّ شَهْوَةٍ وَقُوَّةٍ وَالسَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَالشَّقَاوَةُ فِي أَنْ تَمْلِكَهُ نَفْسُهُ. وَسَادِسَتُهَا: دَفْعُ النَّوْمِ وَدَوَامُ السَّهَرِ، فَإِنَّ مَنْ شَبِعَ شَرِبَ كَثِيرًا، وَمَنْ كَثُرَ شُرْبُهُ كَثُرَ نَوْمُهُ، وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ ضَيَاعُ الْعُمُرِ، فَوَاتُ التَّهَجُّدِ، وَبَلَادَةُ الطَّبْعِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَالْعُمُرُ أَنْفَسُ الْجَوَاهِرِ، وَهُوَ رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ، فِيهِ يَتَّجِرُ، وَالنَّوْمُ مَوْتٌ فَتَكْثِيرُهُ تَنْقِيصٌ مِنَ الْعُمُرِ. وَسَابِعَتُهَا: تَيْسِيرُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ يَمْنَعُ مِنْ كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ يَشْتَغِلُ بِالْأَكْلِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ أَوْ طَبْخِهِ ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى غَسْلِ الْيَدِ وَالْخَلَاءِ ثُمَّ يَكْثُرُ تَرَدُّدُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَاءِ، وَلَوْ صَرَفَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فِي الذِّكْرِ وَالْمُنَاجَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَكَثُرَ رِبْحُهُ. قَالَ السَّرِيُّ: رَأَيْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْجُرْجَانِيِّ سَوِيقًا يَسْتَفُّ مِنْهُ فَقُلْتُ: مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي حَسَبْتُ مَا بَيْنَ الْمَضْغِ إِلَى الِاسْتِفَافِ سَبْعِينَ تَسْبِيحَةً فَمَا مَضَغْتُ الْخُبْزَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَثَامِنَتُهَا: مِنْ قِلَّةِ الْأَكْلِ صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَدَفْعُ الْأَمْرَاضِ، فَإِنَّ سَبَبَهَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ، وَحُصُولُ فَضْلَةِ الْأَخْلَاطِ فِي الْمَعِدَةِ وَالْعُرُوقِ، ثُمَّ الْمَرَضُ يَمْنَعُ عَنِ الْعِبَادَاتِ، وَيُشَوِّشُ الْقَلْبَ، وَيُحْوِجُ إِلَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مُؤَنٍ، وَفِي الْجُوعِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ كُلَّ ذَلِكَ. وَتَاسِعَتُهَا: خِفَّةُ الْمُؤْنَةِ فَإِنَّ مَنْ تَعَوَّدَ قِلَّةَ الْأَكْلِ كَفَاهُ مِنَ الْمَالِ قَدْرٌ يَسِيرٌ. وَعَاشِرَتُهَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيثَارِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا فَضَلَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ، فَمَا يَأْكُلُهُ فَخِزَانَتُهُ الْكَنِيفُ، وَمَا يُتَصَدَّقُ بِهِ فَجَزَاؤُهُ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ:" فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثُ لِشَرَابِهِ ".
5193 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَتَجَشَّأُ فَقَالَ: " أَقْصِرْ مِنْ جُشَائِكَ، فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ.
ــ
5193 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَتَجَشَّأُ) : بِتَشْدِيدِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ: يُخْرِجُ الْجُشَاءَ مِنْ صَدْرِهِ، وَهُوَ صَوْتٌ مَعَ رِيحٍ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ الشِّبَعِ، وَقِيلَ: عِنْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ، وَقِيلَ: الرَّجُلُ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، رَوَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّجُلُ هُوَ وَهْبُ أَبُو جُحَيْفَةَ السُّوَائِيُّ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«أَكَلْتُ ثَرِيدَةَ بُرٍّ بِلَحْمٍ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَتَجَشَّأُ (فَقَالَ: أَقْصِرْ» ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيِ: امْتَنِعْ (" مِنْ جُشَائِكَ ") بِضَمِّ الْجِيمِ مَمْدُودًا، وَكَانَ أَصْلُ الطِّيبِيِّ رحمه الله أَقْصِرْ عَنَّا. فَقَالَ مَعْنَاهُ اكْفُفْ عَنَّا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجُشَاءِ هُوَ النَّهْيُ عَنِ الشِّبَعِ ; لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْجَالِبُ لَهُ اه. وَقِيلَ: التَّجَشُّؤُ التَّكَلُّفُ. (" فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ ") أَيْ: أَكْثَرَهُمْ فِي الزَّمَانِ (جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُهُمْ شِبَعًا ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ (" فِي الدُّنْيَا ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: هُوَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو جُحَيْفَةَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «أَكَلْتُ ثَرِيدَةً بِلَحْمٍ، وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَتَجَشَّأُ. فَقَالَ: " يَا هَذَا كَفَّ مِنْ جُشَائِكَ ; فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: بَلْ هُوَ وَاهٍ جِدًّا فِيهِ وَهُوَ ابْنُ عَوْفٍ، وَعَمْرُو بْنُ مُوسَى، لَكِنْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ. رُوَاةُ أَحَدِهِمَا ثِقَاتٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ قَالَ الرَّاوِي: فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ مِلْءَ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، كَانَ إِذَا تَعَشَّى لَا يَتَغَدَّى، وَإِذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: فَمَا مَلَأْتُ بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً اه. (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ نَحْوَهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ، كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْبَكَّاءِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيِّ.
5194 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5194 -
(وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ) أَيِ: الْأَشْعَرِيِّ مَعْدُودٌ فِي الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً ") : وَهِيَ مَا تُوقِعُ أَحَدًا فِي الضَّلَالَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (" وَفِتْنَةُ أُمَّتِي ") : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ (" الْمَالُ ") : لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِحُصُولِ الْمَنَالِ وَمَانِعٌ عَنْ كَمَالِ الْمَآلِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
5195 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يُجَاءُ بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَعْطَيْتُكَ وَخَوَّلْتُكَ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ، فَمَا صَنَعْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَيَقُولُ لَهُ: أَرِنِي مَا قَدَّمْتَ. فَيَقُولُ: رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَإِذَا عَبْدٌ لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا فَيُمْضَى بِهِ إِلَى النَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
ــ
5195 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُجَاءُ ") أَيْ: يُؤْتَى (" بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ ") أَيْ: مِنْ كَمَالِ ضَعْفِهِ (" بَذَجٌ ") : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ فَجِيمٍ وَلَدُ الضَّأْنِ مُعَرَّبُ بره أَرَادَ بِذَلِكَ هَوَانَهُ وَعَجْزَهُ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَأَنَّهُ بَذَجٌ مِنَ الذُّلِّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: شَبَّهَ ابْنَ آدَمَ بِالْبَذَجِ لِصَغَارِهِ
وَصِغَرُهُ أَيْ: يَكُونُ حَقِيرًا ذَلِيلًا (" فَيُوقَفُ ") أَيْ: فَيُحْبَسُ قَائِمًا (" بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى ") أَيْ: عِنْدَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ (" فَيَقُولُ لَهُ ") أَيْ: بِلِسَانِ مَلَكٍ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ بِبَيَانِ الْقَالِ أَوِ الْحَالِ (" أَعْطَيْتُكَ ") أَيِ: الْحَيَاةَ وَالْحَوَاسَّ وَالصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ وَنَحْوَهَا، (" وَخَوَّلْتُكَ ") أَيْ: جَعَلْتُكَ ذَا خَوَلٍ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَمْثَالِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلْتُكَ مَالِكًا لِبَعْضٍ وَمِلْكًا لِبَعْضٍ (" وَأَنْعَمْتُ عَلَيْكَ ") أَيْ: بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَبِإِرْسَالِ الرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (" فَمَا صَنَعْتَ ") أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ (" فَيَقُولُ: رَبِّ! جَمَعْتُهُ ") أَيِ: الْمَالَ (" وَثَمَّرْتُهُ ") : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: أَنْمَيْتُهُ وَكَثَّرْتُهُ (" وَتَرَكْتُهُ ") أَيْ: فِي الدُّنْيَا عِنْدَ مَوْتِي (" أَكْثَرَ مَا كَانَ ") أَيْ: فِي أَيَّامِ حَيَاتِي (" فَارْجِعْنِي ") : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ: رُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا (" آتِكَ بِهِ كُلِّهِ ") أَيْ: بِإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِكَ، كَمَا أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْآخِرَةِ {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99] (" فَيَقُولُ لَهُ ") أَيِ: الرَّبُّ (" أَرِنِي مَا قَدَّمْتَ ") أَيْ: لِأَجْلِ الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ (" فَيَقُولُ ") أَيْ: ثَانِيًا كَمَا قَالَ أَوَّلًا (" رَبِّ! جَمَعْتُهُ وَثَمَّرْتُهُ وَتَرَكْتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بِهِ كُلِّهِ. فَإِذَا عَبْدٌ ") : الْفَاءُ فَصِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَئَةِ، وَعَبْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ (" لَمْ يُقَدِّمْ خَيْرًا ") أَيْ: فِيمَا أَعْطَى، وَلَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَمْ يَتَّعِظْ مَا وُعِظَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ - وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [المزمل: 18 - 20](" فَيُمْضَى ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: فَيُذْهَبُ (" بِهِ إِلَى النَّارِ ") .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَظَهَرَ مِمَّا حُكِيَ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ كَانَ كَعَبْدٍ أَعْطَاهُ سَيِّدُهُ رَأْسَ مَالٍ لِيَتَّجِرَ بِهِ وَيَرْبَحَ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، فَأَتْلَفَ رَأْسَ مَالِهِ بِأَنْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَاتَّجَرَ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالتِّجَارَةِ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ خَائِفٌ خَاسِرٌ. قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] فَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ الْعَبْدِ وَذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ رحمه الله: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَلَذَّةٍ وَسَعَادَةٍ، بَلْ كُلَّ مَطْلُوبٍ وَمُؤْثَرٍ يُسَمَّى نِعْمَةً، وَلَكِنَّ النِّعْمَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ السَّعَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَتَسْمِيَةُ مَا عَدَاهَا غَلَطٌ أَوْ مَجَازٌ كَتَسْمِيَةِ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْبَرُ عَلَيْهَا إِلَى الْآخِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ مَحْضٌ، وَكُلُّ سَبَبٍ يُوصِلُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَيُعِينُ عَلَيْهَا إِمَّا بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِوَسَائِطَ، فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُ نِعْمَةٌ صَحِيحٌ وَصِدْقٌ، لِأَجْلِ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى النِّعْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ) : بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ أَيْ: نَسَبَ إِسْنَادَهُ إِلَى الضَّعْفِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا.
5196 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ جِسْمَكَ وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5196 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ ") أَيْ: عَنْهُ (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَيْ: أَوَّلُ شَيْءٍ يُحَاسَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ (" مِنَ النَّعِيمِ ") : بَيَانٌ لِمَا (" أَنْ يُقَالَ لَهُ ") : خَبَرُ إِنَّ، وَكَانَ الطِّيبِيُّ رحمه الله جَعَلَ مِنَ النَّعِيمِ مُتَعَلِّقًا بِيُسْأَلُ حَيْثُ قَالَ " مَا " فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَنْ يُقَالَ خَبَرُ إِنَّ أَيْ: أَوَّلُ سُؤَالِ الْعَبْدِ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: (" أَلَمْ نُصِحَّ ") أَيْ: بِعَظَمَتِنَا (" جِسْمَكَ ") : مِنَ الْإِصْحَاحِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الصِّحَّةِ (" وَنُرَوِّكَ ") : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْإِرْوَاءِ (" مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَلَفْظُهُمَا: " «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَأُرَوِّكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟» ". وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
5197 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
5197 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ» ") أَيْ: خَمْسَةِ أَحْوَالٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَنَّثَهُ لِتَأْوِيلِ الْخِصَالِ (" عَنْ عُمُرِهِ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الْمِيمُ أَيْ: عَنْ مُدَّةِ أَجَلِهِ (" فِيمَا أَفْنَاهُ ") أَيْ: صَرَفَهُ (" وَعَنْ شَبَابِهِ ") أَيْ: قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمْرِهِ (" فِيمَا أَبْلَاهُ ") أَيْ: ضَيَّعَهُ، وَفِيهِ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَإِشَارَةٌ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فِي طَرَفَيْهِ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْخَصْلَةِ الْأُولَى فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (" وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ") أَيْ: مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (" وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ") أَيْ: فِي طَاعَةٍ أَمْ مَعْصِيَةٍ (" وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟ ") : وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْأُسْلُوبِ لِلتَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْمَطْلُوبِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا غَيَّرَ السُّؤَالَ فِي الْخَصْلَةِ الْخَامِسَةِ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهَا أَهَمُّ شَيْءٍ وَأَوْلَاهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُكْتَةً لَخَتْمِ الْخِصَالِ بِهَا تَرَقِّيًا، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْعِلْمَ مُقَدِّمَةُ الْعَمَلِ وَهُوَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَوْلَا الْعَمَلُ اه. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا فِي الْعِلْمِ بِالْفُرُوعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ كِتَابِهِ وَآيَاتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، فَأَشْرَفُ الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا، وَأَلْطَفُهَا، وَأَكْمَلُهَا، وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ قُدِّسَ سِرُّهُ، لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا تَعْلَمُ عِلْمًا يَنْتَقِلُ مَعَكَ لِانْتِقَالِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِيهَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْعُلَمَاءِ أَيْضًا، هَذَا وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه " «كَيْفَ أَنْتَ يَا عُوَيْمِرُ إِذَا قِيلَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ؟ فَإِنْ قُلْتَ: عَلِمْتُ. قِيلَ لَكَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ وَإِنْ قُلْتَ: جَهِلْتُ قِيلَ لَكَ فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فِيمَا جَهِلْتَ أَلَا تَعَلَّمْتَ» ". وَمَعَ هَذَا رَوَى: " وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ". وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ: "«أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَتَمَامُهُ: لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5198 -
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: " «إِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5198 -
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " إِنَّكَ لَسْتَ بِخَيْرٍ ") أَيْ: بِأَفْضَلَ (" مِنْ أَحْمَرَ ") أَيْ: جِسْمًا (" وَلَا أَسْوَدَ ") أَيْ: لَوْنًا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ بِلَوْنٍ دُونَ لَوْنٍ، وَإِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مَثَلًا لِكَوْنِهِمَا أَكْثَرَ وُجُودًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَوْنُ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رحمه الله حَيْثُ جَزَمَ وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَحْمَرِ الْعَجَمُ، وَبِالْأَسْوَدِ الْعَرَبُ، (" إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ ") : بِضَمِّ الضَّادِ أَيْ: تُرِيدُ أَنْتَ أَحَدَهُمَا (" بِتَقْوَى ") : بِالْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] فَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِالتَّنْوِينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ بِالصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ الْبَاهِرَةِ، بَلْ بِالتَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالضَّمِيرُ فِي تَفْضِيلِهِ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَّلُهُمَا بِتَأْوِيلِ الْإِنْسَانِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُضِرٌّ، وَالتَّقْدِيرُ لَسْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَقَوْلُهُ: أَنْ تَفْضُلَهُ تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ اه. فَتَأَمَّلْ فِيهِ، فَإِنَّ جَعْلَ الضَّمِيرِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ دَلَالَتِهِمَا عَلَى الْعُمُومِ مِنَ الْجِنْسُ الَّذِي وَقَعَ الْمُخَاطَبُ فَرْدًا مِنْهُ عَنْ صَحِيحٍ، وَكَذَا تَأْوِيلُهُمَا بِالْإِنْسَانِ الْمُرَادِ بِهِ الْجِنْسُ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: لَسْتَ بِأَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ زِيَادَتِكَ عَلَيْهِ بِتَقْوَى مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ لَهَا مَرَاتِبُ: أَدْنَاهَا: التَّقْوَى عَنِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ، وَأَوْسَطُهَا: عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَالْمَلَاهِي، وَعَنِ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ فِي الطَّاعَةِ، وَأَعْلَاهَا: أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الْحُضُورِ مِنَ اللَّهِ غَائِبًا عَنْ حُضُورِ مَا سِوَاهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «مَا فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» " ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ رحمه الله. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا وَهُوَ عِنْدَ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّوَادِرِ مِنْ قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ.
5199 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا زَهِدَ عَبْدُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عَيْبَ الدُّنْيَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا سَالِمًا إِلَى دَارِ السَّلَامِ» ". (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5199 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا زَهِدَ ") : بِكَسْرِ الْهَاءِ (" عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا ") أَيْ: زِيَادَتُهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ (" إِلَّا أَنْبَتَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ") أَيْ: أَنْبَتَ الْمَعْرِفَةَ الْمُتْقَنَةَ (" فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ ") : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ مِنَ الْبَصِيرَةِ أَيْ: جَعَلَهُ مُعَايِنًا (" عَيْبَ الدُّنْيَا ") أَيْ: مَعَايِبَهَا مِنْ كَثْرَةِ عَنَائِهَا وَقِلَّةِ غَنَائِهَا وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَتْعَابِ الْبَدَنِ وَإِكْثَارِ الْحُزْنِ وَإِشْعَالِ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الرَّبِّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي: لَمَّا زَهِدَ الدُّنْيَا لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ بِعُيُوبِ الدُّنْيَا أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةً، حَتَّى حَصَلَ لَهُ بِهَا حَقُّ الْيَقِينِ. (" وَدَاءَهَا ") أَيْ: عِلَّةَ مِحْنَتِهَا وَسَبَبَ طِلْبَتِهَا (" وَدَوَاءَهَا ") أَيْ: مُعَالَجَتَهَا بِمَعْجُونِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالِاحْتِمَاءَ عَنْهَا بِالصَّبْرِ وَالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِمَا قُسِمَ لَهُ مِنْهَا. (" وَأَخْرَجَهُ ") أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (" مِنْهَا ") أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا وَبَلِيَّاتِهَا (" سَالِمًا ") أَيْ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعُقْبَى (" إِلَى دَارِ السَّلَامِ ") : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَزْهَدْ فِيهَا وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْبِهَا وَدَائِهَا وَدَوَائِهَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْلًا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِسَلَامٍ، بَلْ بَعْدَ سَابِقَةِ عَذَابٍ أَوْ لَاحِقَةِ حِجَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا:" «مَا زَانَ اللَّهُ الْعِبَادَ بِزِينَةٍ أَفْضَلَ مِنْ زَهَادَةٍ فِي الدُّنْيَا وَعَفَافٍ فِي بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ» ".
5200 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ اللَّهُ قَلَبَهُ لِلْإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً، فَأَمَّا الْأُذُنُ فَقَمِعٌ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَمُقِرَّةٌ لِمَا يُوعَى الْقَلْبُ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5200 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ ") أَيْ: جَعَلَ قَلْبَهُ خَالِصًا لِلْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ وَمَا يَتْبَعُهُ، (" وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا ") أَيْ: عَنِ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْبُغْضِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَوْلَى وَالذُّهُولِ عَنِ الْعُقْبَى. قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88](" وَلِسَانَهُ صَادِقًا ") أَيْ: فِي قَوْلِهِ وَوَعْدِهِ وَعَهْدِهِ (" وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً ") أَيْ: بِذِكْرِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ (" وَخَلِيقَتَهُ ") أَيْ: جِبِلَّتَهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا مِنْ أَصْلِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْفِطْرَةِ (" مُسْتَقِيمَةً ") أَيْ: غَيْرَ مَائِلَةٍ إِلَى طَرِيقِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (" وَجَعَلَ أُذُنَهُ ") : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسْكَنُ الثَّانِيَةُ (" مُسْتَمِعَةً ") أَيْ: لِلْحَقِّ وَاعِيَةً لِلْعِلْمِ (" وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً ") أَيْ: إِلَى دَلَائِلِ الصُّنْعِ مِنَ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ (" فَأَمَّا ") : بِالْفَاءِ الْعَاطِفَةِ، وَلَعَلَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ، وَالْمَعْنَى أَمَّا مَا سَبَقَ مِنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِمَا، فَأَمْرُهُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا لِلْإِفْلَاحِ، وَأَمَّا (" الْأُذُنُ فَقَمْعٌ ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَبِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ سُكُونِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ الْقَمْعُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَعِنَبٍ مَا يُوضَعُ فِي فَمِ الْإِنَاءِ فَيُصَبُّ فِيهِ الدُّهْنُ وَغَيْرُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَمْعُ كَضِلَعٍ إِنَاءٌ يُتْرَكُ فِي رُءُوسِ الظُّرُوفِ لِتُمْلَأَ بِالْمَائِعَاتِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ وَالدِّهَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: شَبَّهَ إِجْمَاعِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وَيَعُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ بِالْأَقْمَاعِ، (" وَأَمَّا الْعَيْنُ فَمُقِرَّةٌ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَذَا فِي أَصْلِ الْأَصِيلِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِفَتَحَاتٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: مَحَلُّ قَرَارٍ (" لِمَا يُوعَى ") أَيْ: يُحْفَظُ (" الْقَلْبُ ") : بِالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا فِي الْأَصِيلِ وَيُنَاسِبُ الْإِيعَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَمُقِرَّةٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ ; لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الْقَلْبِ وَتُقِرُّ فِيهِ مَا أَدْرَكَتْهُ بِحَاسَّتِهَا، فَكَأَنَّ الْقَلْبَ لَهَا وِعَاءٌ وَهِيَ تُقِرُّ فِيهِ مَا رَأَتْهُ. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: وَمِنَ الْمَجَازِ قَرَّ الْكَلَامَ فِي أُذُنِهِ وَضَعَ فَاهُ عَلَى أُذُنِهِ فَأَسْمَعَهُ، وَهُوَ مِنْ قَرَّ الْمَاءُ فِي الْإِنَاءِ إِذَا صَبَّهُ فِيهِ، وَالْقَلْبُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ يُوعَى، وَيُحْتَمَلُ النَّصْبُ أَيْ: يَقَرُّ فِي الْقَلْبِ أَيْ: يَحْفَظُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ إِمَّا سَمْعِيَّةٌ فَالْأُذُنُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْقَلْبَ وِعَاءً لَهَا، أَوْ نَظَرِيَّةٌ فَالْعَيْنُ هِيَ الَّتِي تُقِرُّهَا فِي الْقَلْبِ وَتَجْعَلُهُ وِعَاءً لَهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ قَوْلُهُ:(" وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا ") أَيْ: حَافِظًا، فَالْفَذْلَكَةُ لِلْقَرِينَتَيْنِ قُلْتُ: وَبِهِ يَتِمُّ آلَاتُ الْعِلْمِ وَأَسْبَابُهُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وَفِي تَقَدُّمِ السَّمْعِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْعُمْدَةَ هِيَ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تُعْرَفُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْمُوَرِّثَةِ لِعِلْمِ الْيَقِينِ ثُمَّ يَرْتَقِي إِلَى مَرْتَبَةِ النَّظَرِ وَرُتْبَةِ الْفِكْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ عِلْمُهُ عَيْنَ الْيَقِينِ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ عَرْشُ الرَّبِّ، وَبِهِ يَصِلُ إِلَى كَمَالِ حَقِّ الْيَقِينِ، رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْيَقِينِ فِي دَرَجَاتِ الدِّينِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَوَجْهُ الْغَايَةِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْيَقِينِ تَرْكُ الْعِبَادَةِ فِي الدِّينِ، بَلْ يَحْصُلُ بِهِ مَرْتَبَةُ وَضْعِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ، كَمَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَلِذَا أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَوْتُ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْحَيَاةِ، أَذَاقَنَا اللَّهُ مِنْهُ بَعْضَ الذَّوْقِ الْمَمْزُوجِ بِحَلَاوَةِ الشَّوْقِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
5201 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عز وجل يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] » رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
5201 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عز وجل يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ ") أَيْ: مَعَ وُجُودِ فِعْلِهِ إِيَّاهَا (" مَا يُحِبُّ ") أَيْ: مِنْ أَسْبَابِهَا (" فَإِنَّمَا هُوَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْإِعْطَاءُ (" اسْتِدْرَاجٌ ") أَيْ: مَكْرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الِاسْتِدْرَاجُ هُوَ الْأَخْذُ فِي الشَّيْءِ، وَالذَّهَابُ فِيهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، كَالْمَرَاقِي وَالْمَنَازِلِ فِي ارْتِقَائِهِ وَنُزُولِهِ، وَمَعْنَى اسْتِدْرَاجِ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى مَا يُهْلِكُهُمْ، وَيُضَاعِفُ عُقْبَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ تَوَاتُرَ اللَّهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ انْهِمَاكِهِمْ فِي الْغَيِّ، فَكُلَّمَا جَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ازْدَادُوا بَطَرًا وَجَدَّدُوا مَعْصِيَةً، فَيَتَدَرَّجُونَ فِي الْمَعَاصِي بِسَبَبِ تَرَادُفِ النِّعَمِ، ظَانِّينَ أَنَّ مُتَوَاتِرَةَ النِّعَمِ أَثَرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَتَقْرِيبٌ، وَإِنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْهُ وَتَبْعِيدٌ، (ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيِ: اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا {فَلَمَّا نَسُوا} [الأعراف: 165] أَيْ: عَهْدَهُ سُبْحَانَهُ، أَوْ تَرَكُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ:{مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أَيْ: وُعِظُوا فَتَحْنَا بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] أَيْ: مِنْ أَسْبَابِ النِّعَمِ الَّتِي فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مُوجِبَاتِ النِّقَمِ {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: 44] أَيْ: أُعْطُوا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَطُولِ الْعُمُرِ {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] أَيْ: فَجْأَةً بِالْمَوْتِ أَوِ الْعَذَابِ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أَيْ: وَاجِمُونَ سَاكِتُونَ مُتَحَسِّرُونَ مُتَحَيِّرُونَ آيِسُونَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَفِي الْجَامِعِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ.
5202 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ دِينَارًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيَّةٌ " قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَيَّتَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5202 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ) : فِي النِّهَايَةِ: هُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ، وَكَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ يَسْكُنُونَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِهَذَا النَّعْتِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَلِيهِ مُعَلِّلٌ بِهِ يَعْنِي انْتِمَاءَهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا مَعَ وُجُودِ الدِّينَارَيْنِ أَوِ الدِّينَارِ، دَعْوَى كَاذِبَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، يَقْتَنُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَمَا عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِتْنَةِ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ اخْتِيَارٌ لِلْأَفْضَلِ وَإِلَّا دَخَلَ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِقْنَاعُ فِيهَا مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ لَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ حَدٌّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ (تُوُفِّيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَجُوِّزَ الْمَعْلُومُ أَيْ: قُبِضَ وَمَاتَ (وَتَرَكَ دِينَارًا) أَيْ: وُجِدَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّةٌ ") أَيْ: هُوَ كَيَّةٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ سَبَبُ كَيَّةٍ أَوْ آلَةٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] الْآيَةَ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (ثُمَّ تُوِفِّيَ آخَرُ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ (فَتَرَكَ دِينَارَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيَّتَانِ ") : وَتَوْضِيحُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَعَ
الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى نِهَايَةِ حَاجَتِهِمْ، وَغَايَةِ فَاقَتِهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّائِلِينَ إِمَّا قَالًا وَإِمَّا حَالًا، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ، فَوَقَعَ أَيِ: السُّؤَالُ لِكُلِّهِمَا مَعَ وُجُودِ الدِّينَارِ لَهُمَا حَرَامًا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ بِصُورَةِ الْفُقَرَاءِ مِنْ لُبْسِ الْخَلَقِ أَوْ زِيِّ الشَّحَّاذِينَ، وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ النُّقُودِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَأَخَذَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَأَكَلَ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَنْ أَظْهَرَ نَفْسَهُ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا أَوْ شَرِيفًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُطَابِقًا، وَأُعْطِيَ لِأَجْلِ عِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ شَرَفِهِ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الْكَازَرُونِيَّ رحمه الله: رَأَى جَمْعًا مِنَ الْفُقَرَاءِ يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ تَكِيَّةٍ فَقَالَ: يَا أَكَلَةَ الْحَرَامِ! فَامْتَنَعُوا عَنِ الْأَكْلِ، فَقَالَ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا يَأْكُلُ وَإِلَّا فَلَا. فَأَكَلَ بَعْضُهُمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ! طَعَامٌ وَاحِدٌ حَرَامٌ لِقَوْمٍ وَحَلَالٌ لِآخَرِينَ، فَلْيَحْذَرْ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ أَعَزَّهُمَا اللَّهُ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْحَالُ أَنَّهُ غِنًى شَرْعِيٌّ مِنَ الْأَوْقَافِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَكَنَ الْخَلَاوِيَ الْمَوْقُوفَةَ لِلْمَسَاكِينِ، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله بِأَنَّ الْغَنِيَّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْكُنَ فِي خَلَاوِي إِلَّا رَابِطَةً، وَلَا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ عَامٌّ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عِنْدَنَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، وَبَدَأَ يَظْهَرُ أَنَّ إِمَامَنَا الْأَعْظَمَ، وَمُقْتَدَانَا الْأَقْوَمَ لَوْ كَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَشَاهَدَ سُكَّانَ هَذَا الْمَكَانِ لَقَالَ بِحُرْمَةِ الْمُجَاوَرَةِ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ كَرَاهَتِهَا، لِعَدَمِ مَنْ يَقُولُ بِحَقِّ عَظَمَتِهَا وَحُرْمَتِهَا إِلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
5203 -
«وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى خَالِهِ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ يَعُودُ، فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا خَالِ؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ أَمْ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا؟ قَالَ: كَلَّا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا لَمْ آخُذْ بِهِ قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَإِنِّي أَرَانِي قَدْ جَمَعْتُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5203 -
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ) أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ (أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى خَالِهِ) أَيِ: النَّسَبِيُّ (أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ) : وَمَرَّ تَرْجَمَتُهُ (يَعُودُهُ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: يَزُورُهُ لِمَرَضِهِ (فَبَكَى أَبُو هَاشِمٍ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ بَاكِيًا (يَا خَالِ؟) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا عَلَى حَدِّ: يَا غُلَامُ! (" أَوَجَعٌ يُشْئِزُكَ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: يُقْلِقُكَ وَيُتْعِبُكَ فَيُبْكِيكَ، فَفِي الْقَامُوسِ: شَئِزَ شَأْزًا غَلُظَ وَاشْتَدَّ، وَيُقَالُ قَلِقَ وَأَشْأَزَهُ أَقْلَقَهُ. (" أَمْ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا؟ ") أَيْ: يَقْلَعُكَ فَيُبْكِيكَ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إِمَّا مِنِ اشْتِدَادِ مَرَضٍ صُورِيٍّ، أَوْ عَرَضٍ مَعْنَوِيٍّ، يَكُونُ كَانَ مِنْهُمَا بَاعِثًا عَلَى نَكَدٍ ظَاهِرِيٍّ وَبَاطِنِيٍّ. (قَالَ: كَلَّا) أَيِ: ارْتَدِعْ عَنْ حُسْبَانِكَ كَلَّا، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْبَاعِثُ أَحَدَهُمَا، (وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْدًا لَمْ آخُذْ بِهِ) : وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِمَّا وَصِيَّةٌ عَامَّةٌ، أَوْ مُبَايَعَةٌ خَاصَّةٌ (قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟) أَيِ: الْعَهْدُ وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا ذَاكَ (قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ ") أَيِ: الَّذِي يُحَصِّلُ الْمَنَالَ فِي الْمَالِ (" خَادِمٌ وَمَرْكَبٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرَانِي) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَظُنُّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: أُبْصِرُ أَوْ أَعْلَمُ (قَدْ جَمَعْتُ) أَيْ: زِيَادَةً عَلَى مَا عَهِدْتُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: حَذَفَ مُتَعَلِّقَهُ لِيَدُلَّ عَلَى الْكَثْرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
5204 -
ــ
5204 -
(وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: قُلْتُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا لَكَ لَا تَطْلُبُ) أَيْ: مَالًا أَوْ مَنْصِبًا (كَمَا يَطْلُبُ فُلَانٌ) أَيْ: وَهُوَ مِنْ نُظَرَائِكَ (فَقَالَ: إِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِتَقْدِيرِ لِأَنِّي (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أَمَامَكُمْ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: قُدَّامَكُمْ، وَهُوَ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَالِاسْمُ قَوْلُهُ:(" عَقَبَةً ") : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: مَرْقًى صَعْبًا مِنَ الْجِبَالِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (" كَؤُودًا ") : بِفَتْحٍ فَضَمِّ هَمْزَةٍ فَوَاوٍ فَدَالٍ أَيْ: شَاقَّةً فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَوْتُ وَالْقَبْرُ وَالْحَشْرُ، وَأَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا شَبَّهَهَا بِصُعُودِ الْعَقَبَةِ وَمُكَابَدَةٍ مَا يَلْحَقُ الرَّجُلَ مِنْ قَطْعِهَا، (" لَا يَجُوزُهَا ") أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُ تِلْكَ الْعَقَبَةَ عَلَى طَرِيقِ السُّهُولَةِ (" الْمُثْقَلُونَ ") : مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ أَيِ: الْحَامِلُونَ ثِقَلَ الْمَالِ وَمُؤْنَةَ الْجَاهِ وَسَعَةَ الْحَالِ، وَلِذَا قِيلَ: فَازَ الْمُخِفُّونَ وَهَلَكَ الْمُثْقَلُونَ. (فَأُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ) أَيْ: بِتَرْكِ الطَّلَبِ وَالصَّبْرِ عَلَى قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ (لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ) : لِئَلَّا يَحْصُلَ لِي التَّعَبُ فِيهَا.
5205 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إِلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ؟ ". قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ:" كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الذُّنُوبِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5205 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إِلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ» ") أَيْ: هَلْ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الِابْتِلَالِ؟ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ، هَلْ يَتَحَقَّقُ الْمَشْيُ عَلَى الْمَاءِ بِلَا ابْتِلَالٍ؟ (قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ:" كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الذُّنُوبِ ") أَيْ: مِنَ الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ لِصَاحِبِ حُبِّ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِ تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَحَثٌّ أَكِيدٌ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، وَكَفَى بِهَا تَبِعَةً أَنْ يُدْخَلَ الْفُقَرَاءُ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا بِكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، رَوَى الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: حَدِيثُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ:" «إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا لَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا كُلُّ مُخِفٍّ» " وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
5206 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ مُرْسَلًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] » رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ.
ــ
5206 -
(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَابِعِيٌّ خَضْرَمِيٌّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ، رَوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. (مُرْسَلًا) أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَوْحَى إِلَيَّ ") أَيْ: لَمْ يُوحَ إِلَيَّ (" أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ ") : أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْبَاءُ مُقَدَّرَةٌ، وَقَوْلُهُ:(" وَأَكُونَ ") : عَطَفٌ عَلَيْهِ (" مِنَ التَّاجِرِينَ ") أَيِ: الْمُتَوَغِّلِينَ فِي التِّجَارَةِ (" وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ ") أَيْ: قِيلَ لِي بِالْوَحْيِ (" أَنْ: سَبِّحْ) : أَنْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: مَقْرُونًا بِهِ، وَالْمَعْنَى نَزِّهِ اللَّهَ تَعَالَى عَمًّا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مُنْتَهِيًا إِلَى ثَنَاءِ رَبِّكَ بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ لَهُ، {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98] أَيِ: الْمُصَلِّينَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَرْكَانِ وَإِرَادَةِ تَمَامِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِ السَّجْدَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ:" «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ". {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} [الحجر: 99] : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالْعُبُودِيَّةِ {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 97] إِلَخَ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ (وَأَبُو نُعَيْمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ الزَّاهِدُ، لَقِيَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذًا رضي الله عنهم، رَوَى عَنْهُ جُبَيْرُ بْنُ نَفِيرٍ وَعُرْوَةُ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ. مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ انْتَهَى. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5207 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا اسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا، مُكَاثِرًا، مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) .
ــ
5207 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا ") أَيْ: مِنْ طَرِيقٍ حَلَالٍ (" اسْتِعْفَافًا ") أَيْ: لِأَجْلِ طَلَبِ الْعِفَّةِ (" عَنِ الْمَسْأَلَةِ ") : فَفِي النِّهَايَةِ الِاسْتِعْفَافُ طَلَبُ الْعَفَافِ وَالتَّعَفُّفِ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ وَالسُّؤَالِ مِنَ النَّاسِ. (" وَسَعْيًا عَلَى أَهْلِهِ ") أَيْ: لِأَجْلِ عِيَالِهِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ حَالِهِ (" وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ ") : إِحْسَانًا عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ زَائِدًا لَدَيْهِ (" لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ وَجْهَهُ مِنْ جِهَةِ كَمَالِ النُّورِ وَغَايَةِ السُّرُورِ (" مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ") : قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ كَمَالِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النُّورَ لَهُ بِبَرَكَةِ الْمُصْطَفَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ:{طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] فَإِنَّ طه أَرْبَعَةَ عَشَرَ بِحِسَابِ أَبْجَدِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ، وَهَذَا يَوْمُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. (" وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا ") أَيْ: فَضْلًا عَنْ أَنْ يَطْلُبَ حَرَامًا (" مُكَاثِرًا ") أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ طَالِبًا كَثْرَةَ الْمَالِ لِأَحْسَنِ الْحَالِ وَلَا صَرَفَهُ فِي تَحْسِينِ الْمَآلِ. (" مُفَاخِرًا ") أَيْ: عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ (" مُرَائِيًا ") أَيْ: أَنْ فُرِضَ عَنْهُ صُدُورُ خَيْرٍ أَوْ عَطَاءٍ (" لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ") : وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ طَلَبَ الْحَرَامَ، إِمَّا اكْتِفَاءً بِمَا يُفْهَمُ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ، وَإِمَّا إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْحَرَامَ أَكْلَهُ وَقُرْبَهُ حَرَامٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَلَبٌ وَمَرَامٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي حَدِيثٍ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَسَخَطِهِ، فَقَوْلُهُ: وَوَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ مُبَالَغَةٌ فِي حُصُولِ الرِّضَا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) .
5208 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لَعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5208 -
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ ") أَيْ: هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْخَيْرِ الْمَدْسُوسِ الْمَعْلُومِ كَالْمَحْسُوسِ (" خَزَائِنُ ") أَيْ: أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مَخْزُونَةٌ مَكْنُونَةٌ مَرْكُوزَةٌ مَوْضُوعَةٌ فِيمَا بَيْنَ عِبَادِهِ (" لِتِلْكَ الْخَزَائِنِ ") : خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَى مُبْتَدَئِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (" مَفَاتِيحُ ") أَيْ: عَلَى أَيْدِي عَبِيدِهِ الَّذِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ وُكَلَائِهِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ تَأْخِيرٍ بِدُونِ ذِكْرِ الشَّرِّ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّرَّ مَا خُلِقَ
لِذَاتِهِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " «الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» " أَدَبًا. فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَيْكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الشَّرَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَرْكِ الْخَيْرِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِسْبَةُ التَّضَادِّ كَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ خَزَائِنَ لِلشَّرِّ أَيْضًا قَوْلُهُ:(" «فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ» ") أَيْ: عِلْمًا أَوْ عَمَلًا أَوْ حَالًا أَوْ مَالًا (" وَمِغْلَاقًا لِلشَّرِّ وَوَيْلٌ لَعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ ") أَيْ: لِلْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَالْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْبُخْلِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ (" مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ ") . قَالَ الرَّاغِبُ: الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الْكُلُّ كَالْعَقْلِ مَثَلًا وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالشَّيْءِ النَّافِعِ، وَالشَّرُّ ضِدُّهُ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ قَدْ يَتَّحِدَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ الْوَاحِدِ شَرَّ الْآخَرِ، كَالْمَالِ الَّذِي يَكُونُ رِيَاءً كَانَ خَيْرًا لِزَيْدٍ وَشَرًّا لِعَمْرٍو، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرَيْنِ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أَيْ: مَالًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55] انْتَهَى. وَكَذَا الْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ حِجَابٌ وَسَبَبُ الْعَذَابِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ اقْتِرَابٌ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَقِيسَ عَلَى هَذَا الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يُورِثُ الْعُجْبَ وَالْغُرُورَ، وَمِنْهَا مَا يُورِثُ النُّورَ وَالسُّرُورَ وَالْحُبُورَ كَالسَّيْفِ وَالْخَيْلِ وَنَحْوِهَا. قَدْ يُجْعَلُ آلَةً لِلْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْقَرَارِ فِي دَارِ الْأَبْرَارِ، وَقَدْ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَيُنْتَهَى بِهَا إِلَى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «أَلَا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ» ". يَعْنِي بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لِأَهْلِهِ قِسْمَةً أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى جَعْلِ بَعْضِهِمْ مَرَائِي الْجَمَالِ وَبَعْضِهِمْ مَظَاهِرَ الْجَلَالِ، كَمَا قَالَ:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وَقَدْ قَالَ: ( «خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَخَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي» ) مُشِيرًا إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فَبَحْرُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَرِيضٌ عَمِيقٌ، لَا يَغُوصُ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ تَحْقِيقٌ بِتَوْفِيقٍ يَتَحَيَّرُ فِيهِ أَرْبَابُ السَّوَاحِلِ، وَيَمْضِي مِنْهُ أَصْحَابُ سُفُنِ الشَّرَائِعِ الْكَوَامِلِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ خَيْرًا مَنَحَهُ خُلُقًا حَسَنًا وَمَنْ أَرَادَ لَهُ سُوءًا مَنَحَهُ سَيِّئًا» ".
5209 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا «لَمْ يُبَارَكْ لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ جَعَلَهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ» ".
ــ
5209 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا لَمْ يُبَارَكْ لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ» ") أَيْ: بِأَنْ لَا يَصْرِفَهُ فِي رِضَا مَوْلَاهُ وَعِمَارَةِ عُقْبَاهُ وَحُسْنِ مَآلِهِ، (" جَعَلَهُ ") أَيْ: أَنْفَقَ مَالَهُ وَضَيَّعَهُ (" فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ ") أَيِ: الْمُعَبَّرِ بِهِمَا عَنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِ عَنْ أَعْرَاضِ الدِّينِ.
5210 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اتَّقُوا الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ ; فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» " رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5210 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اتَّقُوا الْحَرَامَ ") أَيِ: احْذَرُوا إِنْفَاقَهُ وَفِي الْجَامِعِ: اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ (" فِي الْبُنْيَانِ ") أَيْ: فِي صَرْفِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ (" فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ ") أَيْ: فِي الْأَيَّامِ الْآتِيَةِ، كَمَا وَرَدَ:" لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " وَالتَّقْيِيدُ بِالْحَرَامِ لَيْسَ لَهُ مَفْهُومٌ مُعْتَبَرٌ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ لَمْ يُنْفَقْ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ حُسْنِ الْمَآلِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: لَوْ أَكَلَ النَّاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنَ الْحَلَالِ لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا نِظَامٌ فِي الْحَالِ، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْغَفْلَةُ رَحْمَةٌ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] قِيلَ: التَّقْدِيرُ أَسْبَابُ خَرَابِ الدِّينِ، أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبُنْيَانِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِنْفَاقِ الْحَلَالِ فِي الْبُنْيَانِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ:" لِلرَّجُلِ " بَدَلَ " لِلْعَبْدِ ".
5211 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5211 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوْلَى مِنَ الدَّارِ الْإِقَامَةُ مَعَ عَيْشٍ هَنِيءٍ، وَدَارُ الدُّنْيَا خَالِيَةٌ عَنْهَا لَا يُسْتَحَقُّ لِذَلِكَ أَنْ تُسَمَّى دَارًا، فَمَنْ دَارُهُ الدُّنْيَا فَلَا دَارَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ
» ". (" وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ ") : فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَالِ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَبَرَّاتِ وَالصَّرْفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ، فَمَنْ أَتْلَفَهُ فِي تَحْصِيلِ الشَّهَوَاتِ وَاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، فَحَقِيقٌ بِأَنْ يُقَالَ: لَا مَالَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وَلِذَا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: (" وَلَهَا ") أَيْ: لِلدُّنْيَا (" يَجْمَعُ ") أَيِ: الْمَالَ (" مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ ") أَيْ: عَقْلًا كَامِلًا، أَوْ عَقْلَ الدِّينِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلتَّزَوُّدِ وَهُوَ الْمَحْمُودُ. قَالَ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] قُلْتُ: وَمُجْمَلُ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُعَدَّ دَارًا إِلَّا لِمَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَا مَالًا إِلَّا لِمَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِحْقَارُهَا وَانْحِطَامُهَا عَنْ أَنْ تُعَدَّ دَارًا أَوْ مَالًا لِمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ لَهُ قَرَارًا وَمَاتَ. قَالَ الرَّاغِبُ: كُلُّ اسْمٍ نَوْعٌ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: دَلَالَةٌ عَلَى الْمُسَمَّى وَفَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ كَامِلًا لِمَا خُلِقَ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَهُ مُطْلَقًا، بَلْ قَدْ يُنْفَى عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ لَيْسَ بِإِسْنَادٍ أَيْ: لَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الَّذِي خُلِقَ لِأَجْلِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا.
5212 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ " الْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ " قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَخِّرُوا النِّسَاءَ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
5212 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ) أَيْ: مَوْعِظَتِهِ (" الْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: مَجْمَعُهُ وَمَظِنَّتُهُ وَقِيلَ: أَصْلُ الْجِمَاعِ مَا يَجْمَعُ عَدَدًا، وَيُرَادِفُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا " «الْخَمْرُ أَمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ» ". وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ» " قِيلَ: دُعِيَ رَجُلٌ إِلَى سَجْدَةٍ لِصَنَمٍ فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى الزِّنَا فَأَبَى، ثُمَّ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا شَرِبَ فَعَلَ جَمِيعَ مَا طُلِبَ مِنْهُ. (" وَالنِّسَاءُ ") أَيْ: جِنْسُهُنَّ (" حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ ") : وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَوْ رَئِيسُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَوَّلُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ: الشَّيَاطِينِ أَيْ: مَصَائِدُهُمْ وَاحِدُهَا حِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ مَا يُصَادُ بِهَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، قِيلَ: مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا أَتَى مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ. ("«وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ") أَيْ: مِلَاكُهَا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ تَرْكَ الدُّنْيَا رَأَسُ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا لَا يَهْدِيهِ جَمِيعُ الْمُرْشِدِينَ، وَمَنْ تَرَكَهَا لَا يُغْوِيهِ جَمِيعُ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا مِنَ الْجَوَامِعِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ أَصْلٌ فِي الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
(قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (وَسَمِعْتُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ: " «أَخِّرُوا النِّسَاءَ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: حَيْثُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الذِّكْرِ، وَفِي الْحُكْمِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ، فَلَا تُقَدِّمُوهُنَّ ذِكْرًا وَحُكْمًا وَمَرْتَبَةً. قُلْتُ: وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى بُطْلَانِ مُحَاذَاةِ الْمُرَادِ بِشُرُوطِهَا الْمُغْتَرَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ، وَمُحَقَّقٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ رحمه الله. (رَوَاهُ) أَيِ: الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ (رَزِينٌ) : وَفِي التَّمْيِيزِ لِابْنِ الرَّبِيعِ حَدِيثٌ: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ يَعْنِي النِّسَاءَ. قَالَ شَيْخُنَا فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رحمه الله، وَذَكَرَ أَحَادِيثَ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نُطِيلُ بِهَا، وَأَشَارَ شَيْخُنَا لِبَعْضِهَا فِي مُخْتَصَرِ تَخْرِيجِ الْهِدَايَةِ انْتَهَى، فَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَا بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَرِيبِ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعِيِّ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ، فَضْلًا عَنْ شُهْرَتِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
5213 -
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْهُ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: " «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ".
ــ
5213 -
(وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَشَعِّبِ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْكَلَامِ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) أَيْ: بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: " «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» ") : قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ قَوْلِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليه الصلاة والسلام، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَكَذَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام. قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: وَقَدْ عُدَّ الْحَدِيثُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَتَعَقَّبَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله، بِأَنَّ ابْنَ الْمَدِينِيَّ أَثْنَى عَلَى مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَالْإِسْنَادُ حَسَنٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إِسْنَادًا وَهُوَ فِي فِي تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الصَّدَفِيِّ التَّابِعِيِّ بِلَفْظِ:" «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ الْخَطَايَا» ".
5214 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ الْآخِرَةَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا مُرْتَحِلَةٌ ذَاهِبَةٌ، وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ وَلَا حِسَابَ، وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ وَلَا عَمَلَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
5214 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى ") أَيْ: هَوَى النَّفْسِ وَمُشْتَهَيَاتُهَا (" وَطُولُ الْأَمَلِ ") أَيْ: بِتَسْوِيفِ الْعَمَلِ وَتَأْخِيرِهِ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ (" فَأَمَّا الْهَوَى ") أَيِ: الْمُخَالِفُ لِلْهُدَى الْمُوَافِقُ لِلْبَاطِلِ (" فَيَصُدُّ ") أَيْ: يَمْنَعُ صَاحِبَهُ (" عَنِ الْحَقِّ ") أَيْ: عَنْ قَبُولِهِ وَانْقِيَادِهِ (" وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ ") : مِنَ الْإِنْسَاءِ، وَيَجُوزُ بِالتَّشْدِيدِ (" الْآخِرَةَ ") : لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْطَعُ الْأَمَلَ، وَيُوجِبُ الْعَمَلَ " وَهَذِهِ الدُّنْيَا " أَيِ: الْمَعْلُومَةُ ذِهْنًا، وَالْمَفْهُومَةُ حِسًّا (" مُرْتَحِلَةٌ ") أَيْ: سَاعَةً فَسَاعَةً (" ذَاهِبَةٌ ") أَيْ: رَائِحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهَا، كَمَا لَا يَشْعُرُ بِسَيْرِ السَّفِينَةِ رَاكِبُهَا وَلِذَا قِيلَ: كُلُّ نَفَسٍ خُطْوَةٌ إِلَى أَجَلٍ رَاعَهَا " وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ " أَيْ: آتِيَةٌ شَبَّهَهُمَا بِالْمَطِيَّتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهِمَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَكُونُ النَّفَسَ الْأَخِيرَ الْمُقْتَضِيَ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي طَاعَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ " أَيْ: مُلَازِمُونَ، وَمُحِبُّونَ، وَرَاكِبُونَ، وَرَاغِبُونَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَضْدَادِ الْمَعْلُومَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، (" فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا ") : وَفِيهِ اهْتِمَامٌ تَامٌّ بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَمُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مُلَازَمَةِ أَمْرِ الْأُخْرَى حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَافْعَلُوا، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ حُبِّ الدُّنْيَا حُصُولُ الْآخِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْلِ الْآخِرَةِ تَرْكُ حَظِّ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا - كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 18 - 21](فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ أَيْ: فِي دَارٍ يُطْلَبُ مِنْكُمْ عَمَلُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ، فَاغْتَنِمُوا الْعَمَلَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِتَرْكِ الْأَمَلِ ; لِأَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ فِي طَاعَةٍ (" وَلَا حِسَابَ ") أَيِ: الْيَوْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاجِرِ وَإِلَّا فَرُوِيَ خِطَابًا لِلْأَبْرَارِ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18](وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ) أَيْ: وَفِي الْحِسَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (" وَلَا عَمَلَ ") أَيْ: يَوْمَئِذٍ لِانْقِطَاعِهِ بِالْأَجَلِ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: وَلَا حِسَابَ بِالْفَتْحِ بِغَيْرِ التَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَا عَمَلَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَشَارَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهَا وَوَشْكِ زَوَالِهَا، فِي قَوْلِهِ: الْآخِرَةُ أَشَارَ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَقُرْبِ نُزُولِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ يَعْنِي بَيَّنْتُ لَكُمْ حَالَ الدُّنْيَا مِنْ غُرُورِهَا وَفَنَائِهَا، وَحَالَ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِهَا وَبَقَائِهَا، وَجَعَلْتُ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ فِي أَيْدِيكُمْ فَاخْتَارُوا أَيًّا مَا شِئْتُمْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا حِسَابَ، فَوَضَعَ دَارَ الْعَمَلِ مَوْضِعَهَا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الدُّنْيَا مَا خُلِقَتْ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِلدَّارِ الْآخِرَةِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ جَابِرٌ مَرْفُوعًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي مَوْقُوفًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْضًا مَرْفُوعٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْرُوفَ لَيْسَ ذَلِكَ الْقَبِيلَ الْمَعْرُوفَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَسْمُوعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَوَارُدًا مُطَابِقًا مَطْبُوعًا.
5215 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ.
ــ
5215 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً) أَيْ: ظَهَرَ إِدْبَارُ الدُّنْيَا وَفَنَاؤُهَا، وَإِقْبَالُ الْآخِرَةِ وَبَقَاؤُهَا (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ) أَيْ: بِهَا مُتَعَلِّقُونَ (فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ) أَيْ: بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا (وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا) أَيْ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَعَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا (فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ) أَيْ: وَقْتُ عَمَلٍ (وَلَا حِسَابَ) أَيْ: زَمَانٌ لَا مُحَاسَبَةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَقَدْ يُقَالُ: جُعِلَ الْيَوْمُ نَفْسَ الْعَمَلِ، وَالْمُحَاسَبَةُ مُبَالَغَةٌ، كَذَا قَوْلُهُ (وَغَدًا) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ) : وَتَقَدَّمَ مَا فِي الْعَمَلِ وَالْحِسَابِ مِنِ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إِسْنَادٍ فِي كِتَابٍ.
5216 -
ــ
5216 -
(وَعَنْ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَالٌ حَادِثٌ وَحَالٌ عَارِضٌ (" حَاضِرٌ ") أَيْ: عَاجَلٌ مَحْسُوسٌ (" يَأْكُلُ مِنْهُ ") أَيْ: مِنَ الْعَرَضِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهَا أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا (" الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ") أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَقَالَ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] أَيْ: مَمْنُوعًا، هَذَا وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَرَضُ مَا لَا يَكُونُ لَهُ ثَبَاتٌ، وَمِنْهُ اسْتَعَارَ الْمُتَكَلِّمُونَ قَوْلَهُمُ: الْعَرَضُ لِمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ إِلَّا بِالْجَوْهَرِ كَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَقِيلَ لِلدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا ثَبَاتَ لَهَا، (" أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: حَرْفُ التَّنْبِيهِ هُنَا مُقْحَمٌ وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا قُوبِلَتِ الْقَرِينَةُ السَّابِقَةُ بِقَوْلِهِ أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ (" أَجَلٌ ") أَيْ: مُؤَجَّلٌ (" صَادِقٌ ") أَيْ: وُقُوعُهَا (وَيَقْضِي) أَيْ: يَحْكُمُ (فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ) أَيْ: مُمَيِّزٌ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْأَجَلُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ الْمَوْعُودُ، وَصَفَهُ بِالصِّدْقِ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِهِ وَثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُسْتَعْمَلُ التَّصْدِيقُ فِي كُلِّ مَا فِيهِ تَحْقِيقٌ يُقَالُ: صَدَقَنِي فِعْلُهُ وَكِتَابُهُ وَفِي الْمَثَلِ: صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ وَصَدَقَ فِي الْقِتَالِ إِذَا وَفَى حَقَّهُ، وَفَعَلَ عَلَى مَا يُحِبُّ وَكَمَا يُحِبُّ (أَلَا وَإِنَّ الْخَيْرَ) أَيْ: أَصْحَابَهُ (كُلَّهُ) أَيْ: جَمِيعَ أَصْنَافِهِ (بِحَذَافِيرِهِ) أَيْ: بِجَوَانِبِهِ وَأَطْرَافِهِ (فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي النَّارِ) الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَتَى بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ عَنِ الطِّيبِيِّ رحمه الله فَتَدَبَّرْ (أَلَا فَاعْمَلُوا) أَيِ: الْخَيْرَ (وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذَرٍ) أَيْ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ وُقُوعِ شَرٍّ (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ الْأَعْمَالُ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ كَقَوْلِهِمْ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ انْتَهَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُقَابَلُونَ بِأَفْعَالِكُمْ مَجْزِيُّونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ كَعَرْضِ الْعَسْكَرِ عَلَى الْأَمِيرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] عَلَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى لِلْعِلَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] أَوِ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ عَلَفْتُ مَاءً وَتِبْنًا، وَالتَّقْدِيرُ مَعْرُوضُونَ عَلَيَّ مُجَازَوْنَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ أَوْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] أَيْ: جَزَاءَهُ فِي إِحْدَى الدَّارَيْنِ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: الذَّرَّةُ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ، وَسُئِلَ ثَعْلَبٌ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ مِائَةَ نَمْلَةٍ وَزْنُ حَبَّةٍ، وَقِيلَ: الذَّرَّةُ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ، وَيُرَادُ بِهَا مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ فِي الْكُوَّةِ النَّافِذَةِ.
5217 -
وَعَنْ شَدَّادٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ عَادِلٌ قَادِرٌ، يُحِقُّ فِيهَا الْحَقَّ، وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ، كُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا» ".
ــ
5217 -
(وَعَنْ شَدَّادٍ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْأُولَى أَيِ: ابْنِ أَوْسٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَيَتَمَتَّعُ بِهَا (الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ) أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ (وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ) أَيْ: مَوْعُودٌ (صَادِقٌ) أَيْ: وَاقِعٌ غَيْرُ كَاذِبٍ فِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ رحمه الله وَصَفَ الْوَعْدَ بِالصِّدْقِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ أَيْ: صَادِقٌ وَعْدُهُ أَيْ فِي وَعْدِهِ (يَحْكُمُ فِيهَا) أَيْ: يَقْضِي فِي الْآخِرَةِ (مَلِكٌ) أَيْ: سُلْطَانٌ (عَادِلٌ) أَيْ: غَيْرُ ظَالِمٍ (قَادِرٌ) أَيْ: غَيْرُ عَاجِزٍ (يُحِقُّ فِيهَا الْحَقَّ) أَيْ: يُثْبِتُ وَيُعَيِّنُ (وَيُبْطِلُ) أَيْ: يُزْهِقُ (الْبَاطِلَ) وَالْمَعْنَى يُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلَيْهِمَا وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (كُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا) فَكَأَنَّ الدُّنْيَا الْبَاطِلَةَ مَقَرُّهَا النَّارُ وَبِئْسَ الْقَرَارُ، وَالْآخِرَةُ الْحَقَّةُ مَحَلُّهَا الْجَنَّةُ فَنِعْمَ الدَّارُ.
5218 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» " رَوَاهُمَا أَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَةِ) .
ــ
5218 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ وَيُسَكَّنُ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ تَثْنِيَةُ الْجَنَبَةِ، وَهِيَ النَّاحِيَةُ، فَفِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّهَا بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَنْبُ وَالْجَانِبُ وَالْجَنَبَةُ مُحَرَّكَةً شِقُّ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَجَانِبَتَا الْأَنْفِ، وَجَنْبَتَاهُ وَيُحَرَّكُ جَنَبَاهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْوَاوُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ وَقَوْلُهُ: (مَلَكَانِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى رَأْيٍ أَوْ مُبْتَدَأً وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ انْتَهَى، وَقَوْلُهُ:(يُنَادِيَانِ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ صِلَةٌ لِقَوْلِهِ مَلَكَانِ، وَقَوْلُهُ:(يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ أَوْ بَيَانٌ بَعْدَ بَيَانٍ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْأَسْمَاعِ لِلْخَلِيقَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ لَعَلَّ السِّرَّ لِعَدَمِ إِسْمَاعِ الثَّقَلَيْنِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ التَّكْلِيفُ بِمُعَايَنَةِ الْغَيْبِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «لَوْلَا أَنْ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» " فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ النِّدَاءِ لِغَيْرِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا هُمَا الْمُحْتَاجَانِ لِلتَّنْبِيهِ عَنْ غَفْلَةِ الْأَنْبَاءِ؟ قُلْتُ: فَائِدَتُهُ أَنْ يُخْبِرَ الصَّادِقُ الْمُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ نَاقِلًا عَمَّا سَمِعَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ الْحَقَّ الْمُطْلَقَ. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا) أَيْ: تَعَالَوْا (إِلَى رَبِّكُمْ) أَيْ: أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، أَوِ انْقَطِعُوا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] (مَا قَلَّ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ " وَمَا " مَوْصُولَةٌ (وَكَفَى) أَيْ: فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَزَادِ الْعُقْبَى (خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ (وَأَلْهَى) أَيْ: شَغَلَ عَنِ الْمَوْلَى وَحُسْنِ الْحَالِ وَتَحْسِينِ الْمَالِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُورُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْمَاعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى التَّنْبِيهِ عَنِ الْغَفْلَةِ مَجَازًا، فَمَعْنَى يُسْمِعَانِ الْخَلَائِقَ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ بِالْإِسْمَاعِ الثَّقَلَيْنِ، فَيُسْمِعَانِ غَيْرَهُمَا، ثُمَّ خَصَّ مِنَ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسَانَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ، وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الْحِرْصِ، وَجَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا حَتَّى أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْإِقْبَالِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِلَى كَمْ هَذِهِ الْغَفْلَةُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ؟ هَلُمُّوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ مَا قَلَّ مِنَ الْمَالِ، وَيَكْفِيكُمْ وَلَا يُلْهِيكُمْ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، سَمِعَ هَذَا النِّدَاءَ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ أَشَارَ اللَّهُ بِذِكْرِهِمْ وَرَفَعَ مِنْ مَنْزِلَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ:{لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] الْآيَةَ. وَمَعْنَى إِسْمَاعِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَوْنُهَا مُسَبِّحَةً لِلَّهِ مُنْقَادَةً لِمَا يُرَادُ مِنْهَا، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ كَلَامِهِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ غَيْرُ عَامَّةِ الثَّقَلَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ) : وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ الْأَوَّلَ فِي صَحِيحِهِ.
5219 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ، قَالَ:(إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ وَقَالَ بَنُو آدَمَ: مَا خَلَّفَ؟ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5219 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ (بِهِ) : وَالْيَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْمَعْنَى يَرْفَعُ مَرْوِيَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ: " إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمُوتُ بَلِ الْحَيُّ هُوَ الَّذِي يَمُوتُ. قُلْتُ: إِلَّا الْحَيَّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَفِي الْكَشَّافِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ، فَإِنَّهُ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، فَسَمَّى الْمُشَارِفَ لِلْمَرَضِ وَالضَّلَالِ مَرِيضًا وَضَالَّةً، وَعَلَى هَذَا يُسَمَّى الْمُشَارِفُ لِلْمَوْتِ مَيِّتًا: قُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَمَآلُ الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ أَوْ آخِرِ حَالِهِ، كَنَظَرِ الصُّوفِيَّةِ فِي أَمْرِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْأُولَى هِيَ الْأُولَى. (" قَالَتْ ") وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ تَقُولُ:(" الْمَلَائِكَةُ: مَا قَدَّمَ ") بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ: (" وَقَالَ بَنُو آدَمَ ") وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: وَيَقُولُ النَّاسُ (مَا خَلَّفَ؟) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَخَّرَ مِنَ الْأَمْوَالِ قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفَائِدَتُهُ اهْتِمَامُ شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ بِالْأَعْمَالِ، أَيْ: مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ حَتَّى يُثَابَ بِهِ، أَوْ يُعَاقَبَ عَلَيْهِ، وَاهْتِمَامُ الْوُرَّاثِ بِمَالِهِ لِيَرِثُوهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
5220 -
وَعَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ! إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ، وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، سِرَاعًا يَذْهَبُونَ، وَإِنَّكَ قَدِ اسْتَدْبَرْتَ الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْتَ، وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ مِنْهَا) . رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
5220 -
(وَعَنْ مَالِكٍ) أَيِ: ابْنِ أَنَسٍ (أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: " يَا بُنَيَّ ") : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَتُكْسَرُ عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ (" إِنَّ النَّاسَ ") أَيْ: مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا (" قَدْ تَطَاوَلَ ") أَيْ: بَعُدَ (" عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ ") أَيْ: مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمْ مُدَّةُ مَا وُعِدُوا بِهِ (وَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، سِرَاعًا) أَيْ: مُسْرِعِينَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (يَذْهَبُونَ) قُدِّمَ اهْتِمَامًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مَا يُوعَدُونَ، وَالْمَعْنَى تَطَاوَلَ عَلَى النَّاسِ بُعْدُ الْوَعْدِ وَقُرْبُ الْعَهْدِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كُلَّ سَاعَةٍ، بَلْ كُلَّ نَفَسٍ يَذْهَبُونَ إِلَى مَا يُوعَدُونَ كَالْقَافِلَةِ السَّيَّارَةِ، لَكِنَّهُمْ لَا يُحِسُّونَ كَالسُّكَّانِ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ:(وَإِنَّكَ) أَيْ: أَيُّهَا الْوَلَدُ وَأُرِيدَ بِهِ خِطَابُ الْعَامَّةِ الشَّامِلُ لِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ (قَدِ اسْتَدْبَرْتَ) أَيْ: أَنْتَ (الدُّنْيَا) أَيْ: سَاعَةً فَسَاعَةً (" مُنْذُ كُنْتَ ") أَيْ: وُجِدْتَ وَوُلِدْتَ (" وَاسْتَقْبَلْتَ الْآخِرَةَ ") أَيْ: نَفَسَا فَنَفَسًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَكَ فِي هَذَا الْمَسِيرِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْمَصِيرِ، ثُمَّ أَوْضَحَ لَهُ الْقِصَّةَ بِطَرِيقِ الْحِكْمَةِ، حَيْثُ بَيَّنَ الدَّارَيْنِ الْمَعْنَوِيَّتَيْنِ بِالدَّارَيْنِ الْمَحْسُوسَتَيْنِ، فَقَالَ (" وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ مِنْهَا ") : وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ دَفْعُ الْغَفْلَةِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
5221 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ". قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: " هُوَ النَّقِيُّ، التَّقِيُّ، لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
5221 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ ") : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: سَلِيمُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] مِنْ خَمَمْتَ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَكْنُوسًا مِنْ غُبَارِ
الْأَغْيَارِ، وَمُنَظَّفًا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَقْذَارِ، (" صَدُوقِ اللِّسَانِ ") : بِالْجَرِّ أَيْ: كُلُّ مُبَالِغٍ لِلصِّدْقِ فِي لِسَانِهِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ تَحْسِينِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُنَافِيًا أَوْ مُرَائِيًا مُخَالِفًا، (قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَجُورُ رَفْعُهُ عَلَى إِعْرَابِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ:(نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: " هُوَ النَّقِيُّ ") أَيْ: نَقِيُّ الْقَلْبِ، وَطَاهِرُ الْبَاطِنِ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ الْمَوْلَى (" التَّقِيُّ ") أَيِ: الْمُجْتَنِبُ عَنْ خُطُورِ السِّوَى (" لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ") : فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ، وَبِالْغُفْرَانِ مَحْظُوظٌ، وَبِعَيْنِ الْعِنَايَةِ مَلْحُوظٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ " لَا " لِنَفْيِ الْجِنْسِ " فَقَوْلُهُ:(" وَلَا بَغْيَ ") أَيْ: لَا ظُلْمَ لَهُ (" وَلَا غِلَّ ") أَيْ: لَا حِقْدَ (" وَلَا حَسَدَ ") أَيْ: لَا تَمَنِّيَ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ وَالتَّعْمِيمِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْإِثْمِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجَوَابُ يَلِي إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] أَيْ: أَخْلَصَهَا لِلتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمُ: امْتَحَنَ الذَّهَبَ وَفَتَنَهُ إِذَا أَذَابَهُ، فَخَلَّصَ إِبْرِيزَهُ مِنْ خَبَثِهِ وَنَقَّاهُ، وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَذْهَبَ الشَّهَوَاتِ عَنْهَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
5222 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5222 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَمْرٍو (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَرْبَعٌ ") أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (" إِذَا كُنَّ فِيكَ ") أَيْ: وُجِدْنَ فِي وُجُودِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (" فَلَا عَلَيْكَ ") أَيْ: لَا بَأْسَ (" مَا فَاتَكَ الدُّنْيَا ") : وَفِي الْجَامِعِ: مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " مَا " مَصْدَرِيَّةً، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَقْتَ فَوْتِ الدُّنْيَا إِنْ حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْخِلَالُ، وَأَنْ تَكُونَ نَافِيَةً أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ لِأَنَّهُ لَمْ تَفُتْكَ الدُّنْيَا إِنْ حَصَلَتْ لَكَ هَذِهِ الْخِصَالُ انْتَهَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا لَا يَخْفَى. (" حِفْظُ أَمَانَةٍ ") : يَشْمَلُ أَمَانَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْمَالِ (" وَصِدْقُ حَدِيثٍ ") : يَعُمُّ الْأَقْوَالَ (وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ) أَيْ: خُلُقٍ وَالتَّعْبِيرُ بِهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحُسْنِ الْجِبِلِّيِّ لَا التَّكَلُّفِيِّ وَالتَّصَنُّعِيِّ فِي الْأَحْوَالِ (" وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ ") : بِضَمِّ الطَّاءِ مَعَ تَنْوِينِ التَّاءِ أَيِ: احْتِرَازٌ مِنَ الْحَرَامِ، وَاحْتِفَاظٌ عَلَى الْحَلَالِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَعِفَّةُ مَطْعَمٍ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَا وَاوٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
5223 -
وَعَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ يَعْنِي الْفَضْلَ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. رَوَاهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) .
ــ
5223 -
(وَعَنْ مَالِكٍ) أَيِ: الْإِمَامِ (قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ: مَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ يَعْنِي الْفَضْلَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ أَوْ غَيْرِهِ تَفْسِيرًا، وَالْمَعْنَى يُرِيدُ لُقْمَانَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ مَا نَرَى الْفَضْلَ وَأَمَّا مَا الْأُولَى فَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَوْصَلَكَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي نَرَاهَا فِيكَ مِنَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى غَيْرِكَ (قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ) أَيْ: مُلَازَمَةُ صِدْقِ الْحَدِيثِ قَوْلًا وَنَقْلًا (وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ) أَيْ: مَالًا وَفِعْلًا (وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي) أَيْ: مَا لَا يَنْفَعُنِي حَالًا وَمَآلًا (رَوَاهُ) أَيْ مَالِكٌ (فِي " الْمُوَطَّأِ ") أَيْ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَحْثُ ذَلِكَ.
5224 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ، فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ. فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ، فَتَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ. فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ، وَبِكَ أُعْطِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] » .
ــ
5224 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَجِيءُ ") : بِالتَّأْنِيثِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ أَيْ: تَأْتِي (" الْأَعْمَالُ ") أَيْ: مُجَسَّمَةً لِتَحْتَجَّ لِصَاحِبِهَا وَتَشْفَعَ لِمَرَاعِيهَا أَوْ تُخَاصِمَ لِمُخَالِفِيهَا وَتَارِكِيهَا (" فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ ") أَيْ: بِلِسَانِ الْقَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجِيءِ ظُهُورُ أَثَرِ الْأَعْمَالِ وَنَتِيجَةِ الْأَفْعَالِ فِي الْمَآلِ (يَا رَبِّ! أَنَا الصَّلَاةُ) أَيِ الْمَبْدُوءَةُ فِي كِتَابِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قُلْتَ: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 22] وَالْمَخْتُومَةُ مِنْهَا بِقَوْلِكَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 34] وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَنَا الْمَعْرُوفَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْفَضْلِ وَالْمَزِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا الْعَالِمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ أَنَّ لِي فِي مَرْتَبَةِ الشَّفَاعَةِ لِأَنِّي عِمَادُ الدِّينِ (" فَيَقُولُ ") أَيِ الرَّبُّ (" إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ ") : وَهَذَا رَدٌّ لَهَا عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ أَيْ أَنْتِ ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى خَيْرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} [البقرة: 5] وَلَكِنْ لَسْتِ بِمُسْتَقِلَّةٍ فِيهَا وَلَا كَافِيَةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَبَقِيَّةِ الْأَفْعَالِ. (" فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ، فَتَقُولُ يَا رَبِّ! أَنَا الصَّدَقَةُ فَيَقُولُ: إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ ") : وَلَعَلَّ وَجْهَ تَأْخِيرِهِ عَنِ الصَّدَقَةِ فِي الْعُقْبَى تَأْخِيرُ وُجُوبِهِ عَنْهَا فِي الدُّنْيَا ( «فَيَقُولُ يَا رَبِّ! أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ» ") أَيْ: سَائِرُهَا مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا. (" عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى هَذَا الْمَقَالِ (" يَقُولُ ") : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فَيَقُولُ (" اللَّهُ تَعَالَى ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عز وجل (" إِنَّكَ ") أَيْ: أَيُّهَا الْعَمَلُ (" عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ ") أَيِ الِانْقِيَادُ الْبَاطِنُ الْمُوجِبُ لِلِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ، وَعَلَى تَرَادُفِهِمَا أَصْحَابُ الْإِيقَانِ وَأَرْبَابُ الْإِتْقَانِ (" فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ ") أَيْ: وَبَيْنَنَا مُنَاسَبَةُ الِاشْتِقَاقِ الِاسْمِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّسْمِيَّةُ وَالْوَسْمِيَّةُ، كَمَا حَقَّقَ فِي حَدِيثِ "«الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ» " فَإِنَّ الْمُقْتَضَى بِذَلِكَ أَنَّ الْقَائِمَ بِي يَدْخُلُ دَارَكَ دَارَ السَّلَامِ (" فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ") أَيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ لِاشْتِمَالِكَ عَلَى دِينٍ وَسِيمٍ (" بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ ") : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: آخُذُ بِكَ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعُقُوبَةِ (" وَبِكَ أُعْطِي ") أَيْ مَنْ أُسَامِحُهُ بِالْمَثُوبَةِ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْأَصْلُ الْمُدَارُ عَلَيْكَ أَمْرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ (" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِبِشَارَةٍ شَرِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَبَدًا، بَلْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ النَّاجِينَ مَآلًا وَمَنَالًا، وَأَنَّ أَمْرَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ مَعَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ يُرْجَى فِيهَا الْمُسَامَحَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ دَرْكِ الْهَاوِيَةِ.
5225 -
ــ
5225 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ لَنَا سِتْرٌ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: شَيْءٌ يُسْتَرُ بِهِ الْجِدَارُ أَوْ بَابُ الدَّارِ (فِيهِ تَمَاثِيلُ طَيْرٍ) أَيْ: تَصَاوِيرُ طُيُورٍ أَوْ طَيْرٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَائِشَةُ! حَوِّلِيهِ ") أَيْ: غَيِّرِيهِ بِتَبْدِيلِهِ أَوْ تَنْقِيلِهِ (" فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا ") : وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّوَرَ كَانَتْ صَغِيرَةً جِدًّا، أَوْ قَبْلَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَامْتِنَاعِ دُخُولِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ فِي مَكَانِهِ مَعَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ أَسْبَابٌ يَتَنَعَّمُ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ مِمَّا تَذْهَبُ بِحَلَاوَةِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
5226 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ. فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَأَجْمِعِ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» ".
ــ
5226 -
(وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ» ) أَيِ اخْتَصِرْ وَعَلَى الْمُهِمِّ اقْتَصِرْ (فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ ") أَيْ: شَرَعْتَ (" فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُوَدِّعٍ لِمَا سِوَى اللَّهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي مُنَاجَاةِ مَوْلَاكَ، أَوِ الْمَعْنَى صَلِّ صَلَاةَ مَنْ يُوَدِّعُ الصَّلَاةَ، وَمِنْهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ أَيِ: اجْعَلْ صَلَاتَكَ آخِرَ الصَّلَاةِ فَرْضًا فَحَسِّنْ خَاتِمَةَ عَمَلِكَ، وَأَقْصِرْ طُولَ أَمَلِكَ لِاحْتِمَالِ قُرْبِ أَجَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: فَأَقْبِلْ عَلَى اللَّهِ بِشَرَاشِرِكَ، وَوَدِّعْ غَيْرَكَ لِمُنَاجَاةِ رَبِّكَ (" وَلَا تَكَلَّمْ ") : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِمَا أَيْ: " لَا تَتَحَدَّثْ (" بِكَلَامٍ تَعْذِرُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ: تَحْتَاجُ أَنْ تَعْتَذِرَ (" مِنْهُ ") أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ (" غَدًا ") أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ: "«مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ". (" وَأَجْمِعِ الْإِيَاسَ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَيَجُورُ عَكْسُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] فَقَدْ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ جَمَعَ يَجْمَعُ، وَالْبَاقُونَ بِقَطْعِهَا وَالْكَسْرُ مِنْ أَجْمَعَ. بِمَعْنَى عَزَمَ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ فَالْمَعْنَى اعْزِمْ عَلَى قِطَعِ الْيَأْسِ أَوْ أَجْمِعْ خَاطِرَكَ عَلَى قَصْدِ الْيَأْسِ وَتَرْكِ الطَّمَعِ (" مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ") أَيْ قَنَاعَةً بِالْكِفَايَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْقِسْمَةِ الْمُحَرَّرَةِ الْمُقَرَّرَةِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ، وَأَنَّ الْغِنَى الْقَلْبِيَّ هُوَ الْإِيَاسُ مِمَّا أَبْدَى النَّاسُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: أَجْمِعْ رَأْيَكَ عَلَى الْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ، وَصَمِّمْ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه: 64] قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيَاسَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْيَأْسِ سَهْوًا مِنَ الْكَاتِبِ ; لِأَنَّ الْإِيَاسَ مَصْدَرُ أَسِهَ إِذَا أَعْطَاهُ، وَلَيْسَ مَصْدَرَ أَيِسَ مَقْلُوبِ يَئِسَ، لِأَنَّ مَصْدَرَ الْقُلُوبِ يُوَافِقُ الْفِعْلَ الْأَصْلِيَّ لَا الْمَقْلُوبَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَنْ آيَسَ نَفْسَهُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِيئَاسًا فَخَفَّفَ الْهَمْزَةَ أَيْ بِالنَّقْلِ وَالْحَذْفِ انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ أَيِسَ مِنْهُ كَسَمِعَ إِيَاسًا قَنِطَ، فَبَطَّلَ تَخْطِئَةُ الرِّوَايَةِ الْحُفَّاظَ الْمُعْتَمَدِينَ عَلَى ذَوَاتِ الصُّدُورِ لَا عَلَى مَا فِي السُّطُورِ، خُصُوصًا وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُصَحَّحَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ بَعْدَ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ:(رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْصِنِي. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاتَكَ وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَاللَّفْظُ لَهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ اه.
وَمِنَ الْمُحَالِ اتِّفَاقُ الْحُفَّاظِ وَالْأَصْحَابِ عَلَى سَهْوٍ وَقَعَ مِنْ أَحَدِ الْكُتَّابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
5227 -
ــ
5227 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لَمَّا أَرَادَ إِرْسَالَهُ قَاضِيًا أَوْ عَامِلًا (إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِيهِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ) أَيْ: بِأَمْرِهِ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ) أَيْ: تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَتَلَطُّفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُ يُؤْخَذُ اسْتِحْبَابُ مُشَايَعَةِ الْأَصْحَابِ، (فَلَمَّا فَرَغَ) أَيْ: مِنَ الْوَصِيَّةِ (قَالَ: " «يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي» ") أَيْ: مَعَ قَبْرِي عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " مَعَ " ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَسْجِدِي، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَبِقَبْرِي أَيْضًا، وَأَبْهَمَهُ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ حِينَئِذٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَسَى مَعْنَاهُ التَّرَجِّي فِي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَأَمَّا لَعَلَّ فَمَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ وَهُوَ تَرَجِّي الْمَحْبُوبِ وَالْإِشْفَاقُ مِنَ الْمَكْرُوهِ نَحْوَ: لَعَلَّ الْحَبِيبَ وَاصِلٌ، وَلَعَلَّ الرَّقِيبَ حَاصِلٌ، وَيَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ بِخِلَافِ لَيْتَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحَالِ نَحْوَ: لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ، فَاسْتِعْمَالُ عَسَى وَلَعَلَّ فِي الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، ثُمَّ فِي الْمُغْنِي يَقْتَرِنُ خَبَرُ لَعَلَّ بِأَنْ كَثِيرًا حَمْلًا عَلَى عَسَى كَقَوْلِهِ:
لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ عَلَيْكَ
…
مِنَ اللَّائِي يَدَعْنَكَ أَجْدَعَا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اسْتِعْمَالُ لَعَلَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاغِبًا لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَدْخَلَ أَنْ فِي الْخَبَرِ تَشْبِيهًا لِلَعَلَّ بِعَسَى تَلْوِيحًا إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79](فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَزَعًا وَفَزَعًا، فَفِي النِّهَايَةِ الْجَشَعُ أَجْزَعُ لِفِرَاقِ الْإِلْفِ فَقَوْلُهُ:(لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِلتَّجْرِيدِ (ثُمَّ الْتَفَتَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُعَاذٍ (فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ) : تَفْسِيرٌ لِلِالْتِفَاتِ، وَلَعَلَّ وَجْهُ الِالْتِفَاتِ بِإِدَارَةِ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ عَنْ مُعَاذٍ لِئَلَّا يَرَى بُكَاءَهُ وَيُصَيِّرَهُ سَبَبًا لِبُكَائِهِ عليه الصلاة والسلام، وَيَشْتَدُّ الْحُزْنُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مَعَ الْإِيمَاءِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُفَارَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَاجَهَةِ فِي الْعُقْبَى، فَسَلَّاهُ فِعْلًا وَوَصَّاهُ قَوْلًا، حَيْثُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّكَ تُفَارِقُنِي وَتُفَارِقُ الْمَدِينَةَ وَتَتْرُكُ الْمَدِينَةَ وَلَا تَرَانِي، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَتْقِيَاءِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ. (فَقَالَ:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي ") أَيْ: بِشَفَاعَتِي أَوْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَنْزِلَتِي (" الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا ") : جَمَعَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، وَالْمَعْنَى كَائِنًا مَنْ كَانَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا (" وَحَيْثُ كَانُوا ") أَيْ: سَوَاءٌ كَانُوا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَوْ بِالْيَمَنِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَسَّرَهُ، فَانْظُرْ إِلَى رُتْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ بِالْيَمَنِ عَلَى كَمَالِ التَّقْوَى، وَحَالَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَكَابِرِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ حِرْمَانِ الْمَنْزِلَةِ الزُّلْفَى، بَلْ مِنْ إِيصَالِ ضَرَرِهِمْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مِنْ بَعْضِ ذَوِي الْقُرْبَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّكَ بُعْدُكَ الصُّورِيُّ عَنِّي مَعَ وُجُودِ قَوْلِكَ الْمَعْنَوِيِّ بِي، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّقْوَى كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ نَوْعِ إِنْسَانٍ فَفِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّقْوَى الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا زَمَنَ الْحَضْرَةِ وَمَكَانَ الْخِدْمَةِ هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حِلِّ الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِ الْمَرَامِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّ الِالْتِفَاتَ كَانَ تَسَلِّيًا لِمُعَاذٍ بَعْدَمَا نَعَى نَفْسَهُ إِلَيْهِ يَعْنِي إِذَا رَجَعْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدِي فَاقْتَدِ بِأَوْلَى النَّاسِ بِي وَهُمُ الْمُتَّقُونَ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَنَحْوُهُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ:«أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ» كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ. قُلْتُ: وَالَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ خِلَافُ الْأَدَبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تُرِيدُ عَدَمَ وُجُودِهِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَيْتِ. قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رضي الله عنه خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ وَقَائِمٌ مَقَامَهُ. قُلْتُ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْمُدَّعَى لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ لَا عَلَى الصِّدِّيقِ وَلَا عَلَى الْمُرْتَضَى. (رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ أَسَانِيدِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ.
5228 -
ــ
5228 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: تَلَا) أَيْ: قَرَأَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام: 125] أَيْ: هَدْيَهُ الْخَاصَّ الْمُوَصِّلَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} [الأنعام: 125] أَيْ: يُوَسِّعْ قَلْبَهُ لِلْإِسْلَامِ أَيْ: لِشَرَائِعِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ يَلْطُفُ بِهِ وَيَقْذِفُ النُّورَ فِيهِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَسْكُنَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُحِبَّ الدُّخُولَ فِيهِ. قُلْتُ: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا سَيَجِيءُ فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ الصَّدْرِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ النُّورَ ") أَيْ نُورُ الْهِدَايَةِ (" إِذَا دَخَلَ الصَّدْرَ انْفَسَحَ ") أَيِ: انْشَرَحَ وَتَوَسَّعَ بِحَيْثُ يَسَعُهُ قَبُولُ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَيَحْلُو فِي مَذَاقِهِ مَرَارَةُ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْقَلْبُ فِي الْحَقِيقَةِ عَرْشُ الرَّبِّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ:«لَا يَسَعُنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» ، لِأَنَّ السُّفْلِيَّاتِ وَالْعُلْوِيَّاتِ لَيْسَ لَهُنَّ قَابِلِيَّةُ إِدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الْآيَاتِ. وَهَذَا فِيمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَأَرَادَ هِدَايَتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِمَّا يَرِدِ اللَّهُ غِوَايَتَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125](فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لِتِلْكَ) أَيِ الْخَصْلَةِ كَذَا قِيلَ، وَالصَّوَابُ هَلْ لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالِانْفِسَاخِ (مِنْ عِلْمٍ) أَيْ: عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ (تُعْرَفُ) أَيْ تِلْكَ الْحَالَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَاهَا وَهُوَ الِانْفِسَاخُ (بِهِ؟) أَيْ: بِذَلِكَ الْعِلْمِ حَتَّى نَقِيسَ حَالَنَا عَلَيْهِ، وَنَرْجِعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ إِلَيْهِ. (قَالَ:" نَعَمْ ") أَيْ: فِيهِ عِلْمٌ بَلْ عَلَامَاتٌ وَهِيَ (" التَّجَافِي ") أَيِ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّكَلُّفُ فِي الْبُعْدِ عَلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ لِتَحْصِيلِ السَّعْدِ (" مِنْ دَارِ الْغُرُورِ ") أَيِ الدُّنْيَا الْغَرَّارَةِ السَّحَّارَةِ الْغَدَّارَةِ الْمَكَّارَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان: 33] فَإِنَّهَا دَارُ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ، وَإِنْ كَانَ صُورَتُهَا أَنَّهَا النَّعْمَاءُ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ أَنَّهُ الْمَاءُ، حَتَّى أَتْبَعَهُمْ فِيهَا الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ (وَالْإِنَابَةُ) أَيِ الرُّجُوعُ وَالْمَيْلُ التَّامُّ (إِلَى دَارِ الْخُلُودِ) أَيْ دَارِ الْبَقَاءِ وَاللِّقَاءِ (" وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ ") أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَصَرْفِ الطَّاقَةِ فِي الطَّاعَةِ (" قَبْلَ نُزُولِهِ ") أَيْ قَبْلَ حُلُولِ الْمَوْتِ أَوْ ظُهُورِ مُقَدِّمَاتِهِ مِنَ الْمَرَضِ وَالْهَرَمِ، حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ حِينَئِذٍ عَلَى تَحْصِيلِ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ وَلَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، وَكَانَ هَذَا فَذْلَكَةً لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْعُمْدَةُ لِكَوْنِهِ عِلْمًا لَهُ وَمَا قَبْلُهُ إِنَّمَا هُوَ بَاعِثٌ بِطَرَفَيْهِ هُنَالِكَ عَلَى إِقْدَامِ السَّالِكِ عَلَى ذَلِكَ.