المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب أشراط الساعة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ]

- ‌[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]

- ‌[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

- ‌[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

- ‌[بَابُ الظُّلْمِ]

- ‌[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

- ‌[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]

- ‌[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

- ‌[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

- ‌[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

- ‌[كِتَابُ الْفِتَنِ]

- ‌[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

- ‌[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

- ‌[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]

- ‌[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ]

- ‌[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [

- ‌بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

- ‌[بَابُ الْحَشْرِ]

- ‌[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

- ‌[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

الفصل: ‌[باب أشراط الساعة]

الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ الرَّجَاءِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ:" «إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي وَهُوَ شَقِيقٌ (فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟)، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: مَا الْبَابُ؟ فَكَأَنَّهُمْ تَفَرَّسُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَابِ الشَّخْصُ لَا الْبَابُ الْحَقِيقِيُّ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَفِي الْكَسْرِ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةِ عُمَرَ رضي الله عنه فَكَأَنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ كَانَ بَابَ الصَّوَابِ، وَمِفْتَاحًا لِعِزِّ الْإِسْلَامِ، وَمَأْمَنًا مِنَ الْفِتَنِ بَيْنَ الْأَنَامِ، فَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَأَدْخَلَهُ دَارَ السَّلَامِ.

(قَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (نَعَمْ) أَيْ: كَانَ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ، (كَمَا يَعْلَمُ) أَيْ: كَعِلْمِهِ (أَنَّ دُونَ غَدٍ) أَيْ: قُدَّامَهُ (لَيْلَةٌ)، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغَدَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مُتَأَخِّرًا عَنْ حُصُولِ اللَّيْلَةِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ زَمَنَ الْأَمْنِ فِي قُوَّةِ الْيَوْمِ الْحَاضِرِ، وَوَقْتَ الْفِتَنِ بِمَنْزِلَةِ الْغَدِ الْحَاضِرِ، وَالْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا فِي مَرْتَبَةِ لَيْلٍ سَاتِرٍ، وَمَا أَحْسَنَ تَعْبِيرَ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عَنْ ظُهُورِ يَوْمِ الْفِتْنَةِ بِالْغَدِ الْوَاقِعِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الظُّلْمَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا بِاللَّيْلَةِ ; لِخَفَاءِ أَمْرِ الْفِتْنَةِ وَشِدَّةِ بَلَائِهَا، فَإِنَّ اللَّيْلَ أَدْهَى لِلْوَيْلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْبَابُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ، (إِنِّي حَدَّثْتُهُ) : اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثًا) أَيْ: ظَاهَرًا (لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) : وَهِيَ جَمْعُ الْأُغْلُوطَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُغْلَطُ بِهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا مُحْتَمَلًا كَالْأَغَالِيطِ، بَلْ صَرَّحْتُهُ تَصْرِيحًا، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ آثَرَ حُذَيْفَةُ الْحِرْصَ عَلَى حِفْظِ السِّرِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ لِعُمَرَ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَنَّى عَنْهُ كِنَايَةً، أَيْ: لَا يَخْرُجُ مِنَ الْفِتَنِ شَيْءٌ فِي حَيَاتِكَ، وَكَأَنَّهُ مَثَّلَ الْفِتَنَ بِدَارٍ مُقَابِلٍ لِدَارِ الْأَمْنِ، وَحَيَاتُهُ بَابٌ مُغْلَقٌ، وَمَوْتُهُ بِفَتْحِ ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ أَنَّهُ كَنَّى بِالْكَسْرِ عَنِ الْقَتْلِ، وَبِالْفَتْحِ عَنِ الْمَوْتِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ الصَّرِيحِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الرَّمْزِ وَالتَّلْوِيحِ، لَكِنَّ عُمَرَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ فَضْلًا عَنِ الْعِبَارَةِ، بَلْ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَسْرَارِ وَأَرْبَابِ الْأَنْوَارِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالسُّؤَالِ تَحْقِيقَ الْحَالِ، وَأَنَّهُ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ يَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْبَابِ ; وَلِذَا جَزَمَ حُذَيْفَةُ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَوْلُ الطِّيبِيِّ رحمه الله: وَلَعَلَّهُ لِهَذَا السِّرِّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّكَ لِجَرِيءٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ إِظْهَارَ الْحَقِّ الْمَسْمُوعِ مِنْ سَيِّدِ الْخَلْقِ لَا يُسْتَبْعَدُ حَتَّى يُسَمَّى جَرَاءَةً عَلَى الرَّدِّ، فَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(قَالَ) أَيْ: شَقِيقٌ (فَهِبْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنَ الْهَيْبَةِ أَيْ: فَخَشِينَا (أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ؟) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ) : وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (سَلْهُ) أَيْ: سَلْ حُذَيْفَةَ (فَسَأَلَهُ فَقَالَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ (عُمَرُ) أَيْ: هُوَ الْبَابُ بِمَعْنَى السَّدِّ لِلْفِتْنَةِ عَنِ الْأَصْحَابِ وَالْأَحْبَابِ، أَوْ لِأَنَّهُ بَابُ النُّطْقِ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي الْجَامِعِ:" «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ حُذَيْفَةَ.

ص: 3427

5436 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

5436 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مَعَ قِيَامِ السَّاعَةِ) أَيْ: مَعَ قُرْبِ قِيَامِهَا، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ الْمَبَانِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) أَيْ: إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

ص: 3427

[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

ص: 3427

[2]

بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5437 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ. وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ ". ". وَفِي رِوَايَةٍ: " يَقِلُّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[2]

بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ

أَيْ: عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْأَشْرَاطُ الْعَلَامَاتُ، وَاحِدَتُهَا شَرْطٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَبِهِ سُمِّيِتِ شُرَطُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَقَالَ: أَشْرَاطُ السَّاعَةِ مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ صِغَارِ أُمُورِهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَنَّ الشُّرَطَ مُحَرَّكَةً الْعَلَّامَةُ، وَأَوَّلُ الشَّيْءِ، وَرَذَائِلُ الْمَالِ وَصِغَارُهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الشُّرَطُ لَهُ مَعْنَيَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا يُنْكِرُ صِغَارَ أُمُورِ السَّاعَةِ ; لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ مِنْ صَاحِبِ السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ أَوَّلًا، وَزِيَادَةِ عَيْنِ الْيَقِينِ فِي مَقَامِ الْمُشَاهِدَةِ آخِرًا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5437 -

(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ» ") أَيْ: يَرْتَفِعُ إِمَّا بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَإِمَّا بِخَفْضِهِمْ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ (" وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ ") أَيْ: بِغَلَبَةِ السُّفَهَاءِ (" وَيَكْثُرَ الزِّنَا ") أَيْ: لِأَجْلِ قِلَّةِ الْحَيَاءِ (وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ ") : بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: شَرِبَ كَسَمِعَ شُرْبًا، وَيُثَلَّثُ، ثُمَّ كَثْرَةُ شُرْبِ الْخَمْرِ مُوَرِّثَةٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، فَيَحْصُلُ الِاعْتِدَاءُ. (" وَيَقِلَّ الرِّجَالُ ") أَيْ: وُجُودُهُمُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ نِظَامُ الْعَالَمِ، (" وَيَكْثُرَ النِّسَاءَ ") أَيْ: مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِظُهُورِهِنَّ الْأَمْرُ الْأَهَمُّ، بَلْ وَجُودُهُنَّ مِمَّا يُكْثِرُ الْغَمَّ وَالْهَمَّ، وَيَقْتَضِي تَحْصِيلَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، (" حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ ") : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الْقَائِمُ (" الْوَاحِدُ ") أَيِ: الْمُنْفَرِدُ لِمَصَالِحِهِنَّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ لَهُ، بَلْ أَعَمُّ مِنْهَا وَمِنَ الْأُمَّهَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: " يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ ") : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا بَدَلَانِ مِنْ (يُرْفَعَ وَيَكْثُرَ)، فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ مَآلَ آخِرِهِ إِلَى رَفْعِ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ السَّجَزِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُرْفَعَ الرُّكْنُ وَالْقُرْآنُ» ". وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ:" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رحمه الله وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:" «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنَا، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ، وَيَبْقَى النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ» ".

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبَى مُوسَى مَرْفُوعًا:" «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْمَرَجُ وَهُوَ الْقَتْلُ» ".

ص: 3428

5438 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ، فَاحْذَرُوهُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5438 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ» ")، قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ مِنْهُ كَثْرَةَ الْجَهْلِ، وَقِلَّةَ الْعِلْمِ، وَالْإِتْيَانَ بِالْمَوْضُوعَاتِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ادِّعَاءُ النُّبُوَّةِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَ زَمَانِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ يَدَّعُونَ أَهْوَاءً فَاسِدَةً، وَيُسْنِدُونَ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَأَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، (" فَاحْذَرُوهُمْ "؟ رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: قَوْلُهُ: " فَاحْذَرُوهُمْ " غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ جَابِرٍ اهـ. وَفِي الْجَامِعِ كَلَفْظِ الْمِشْكَاةِ بِكَمَالِهِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

ص: 3429

5439 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5439 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ) أَيْ: يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ (إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: " إِذَا ضُيِّعَتِ ") : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّضْيِيعِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْإِضَاعَةِ (" الْأَمَانَةُ ") أَيْ: حِينَ جُعِلَتِ الْأَمَانَةُ ضَائِعَةً بِالْخِيَانَةِ، أَوْ وُضِعَتْ عِنْدَ غَيْرِ أَرْبَابِ الدِّيَانَةِ (" فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ") أَيْ: فَإِنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ. (قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا) ؟ هَذَا يُؤَيِّدُ النُّسْخَةَ أَيْ: كَيْفَ تَضْيِيعُ الْأَمَانَةِ، وَالْأُمَّةُ قَائِمُونَ بِأَمْرِهَا، وَالْعَامَّةُ مُعْتَنُونَ بِقَدْرِهَا (قَالَ:" إِذَا وُسِّدَ ") : بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ عَلَى مَا فِي الْمُقَدِّمَةِ أَيْ: أُسْنِدَ وَفُوِّضَ (" الْأَمْرُ ") أَيْ: أَمْرُ السُّلْطَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوِ الْحُكُومَةِ (" إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ") أَيْ: مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالْجَهَلَةِ وَالْفَسَقَةِ، وَالْبَخِيلِ وَالْجَبَانِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قُرَشِيًّا وَلَوْ كَانَ مِنْ نَسْلِ سَلَاطِينِ الزَّمَانِ، هَذَا فِي الْخَلِيفَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ أُولِي الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ مِنَ التَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَخِرُ بِهِ الْأَقْرَانُ.

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنْ يَلِيَ الْأَمْرَ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، فَيُلْقَى لَهُ وِسَادَةُ الْمُلْكِ وَأَرَادَ بِالْأَمْرِ الْخِلَافَةَ، وَمَا يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مِنْ قَضَاءٍ وَإِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالتَّوْسِيدُ: أُخِذَ مِنَ الْوِسَادِ، يُقَالُ: وَسَدْتُهُ الشَّيْءَ بِالتَّخْفِيفِ فَتَوَسَّدَهُ، إِذَا جَعَلَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَلَفْظَةُ " إِلَى " فِيهَا إِشْكَالٌ، إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ: وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَلَعَلَّهُ أَتَى بِهَا لِيَدُلَّ عَلَى إِسْنَادِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ اهـ.

وَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ إِلَى تَأْتِي مُرَادِفَةً لِلَّامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل: 33] اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَالْأَمْرُ لَكِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ رَاجِعٌ إِلَيْكِ، وَالْأَحْسَنُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى التَّفْوِيضِ وَالْإِسْنَادِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا. (" فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ") : لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُرْبِ قِيَامِهَا، وَإِنَّمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُنُوِّ السَّاعَةِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى اخْتِلَالِ الْأَمْرِ، وَعَدَمِ تَمَامِ النِّظَامِ، وَوَهَنِ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَضَعْفِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْوُلَاةِ وَفَسَادَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ لِتَغَيُّرِ الرَّعِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَخْرَجَ الْجَوَابَيْنِ مُخْرَجَ الِاسْتِئْنَافِ لِلتَّأْكِيدِ ; وَلِأَنَّ السُّؤَالَ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ حَقِيقِيٍّ يُطَابِقُهُ، فَإِنَّ تَأْقِيتَ السَّاعَةِ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، عَدَلَ عَنِ الْجَوَابِ إِلَى ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ دَلَالَةً مِنْ أَمَارَاتِهَا، وَسَلَكَ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي مَسْلَكَ الْأَوَّلِ ; لِيَنْتَسِقَ الْكَلَامُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُكْتَفَى عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، وَأَنْ يُؤْتَى فِي السُّؤَالِ الثَّانِي بِمَتَى ; لِيُطَابِقَ الْجَوَابَ، فَزَادَ فِي الْأَوَّلِ:" فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " ; لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: " إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ " لَيْسَ إِبَّانَ السَّاعَةِ، بَلْ مِنْ أَمَارَاتِهَا، فَلَا تَكُونُ إِذَا شَرْطِيَّةً، وَتَأْوِيلُ السُّؤَالِ الثَّانِي: مَتَى تَضِيعُ الْأَمَانَةُ؟ وَكَيْفَ حُصُولُ التَّضْيِيعِ؟ فَقَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ، فَأَطْنَبَ فِي الْأَوَّلِ لِإِفَادَةِ مَعْنًى زَائِدٍ، وَاخْتَصَرَ فِي الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَفَنُّنًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْجَوَابَيْنِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ أَصْلِ الطِّيبِيِّ رحمه الله، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَإِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 3429

5440 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ، حَتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ: " تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ إِهَابَ أَوْ يِهَابَ» ".

ــ

5440 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى يَكْثُرَ الْمَالُ ") أَيِ ابْتِلَاءٌ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ (" وَيَفِيضَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، أَيْ: يَسِيلَ مِنْ كَثْرَتِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَالسَّيْلِ ; لِيَمِيلَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ كُلَّ الْمَيْلِ، (" حَتَّى يُخْرِجَ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يُفْرِزَ (" الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ ")، أَيْ: لِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلِقِلَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِ بِتَشَوُّشِ الْحَالِ، (" وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ ") أَيْ: تَصِيرَ أَوْ تَرْجِعَ (" مُرُوجًا ") : بِالضَّمِّ أَيْ: رِيَاضًا كَمَا كَانَتْ بِنَبَاتَاتِهَا وَأَشْجَارِهَا وَأَثْمَارِهَا، (" وَأَنْهَارًا ") أَيْ: مِيَاهًا كَثِيرَةً جَارِيَةً فِي أَنْهَارِهَا.

وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَرْجُ: الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ ذَاتُ نَبَاتٍ كَثِيرٍ تَمْرُجُ فِيهِ الدَّوَابُّ، أَيْ: تُخَلَّى تَسْرَحُ مُخْتَلِطَةً كَيْفَ شَاءَتْ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الدُّنْيَا جَنَّةُ الْحَمْقَى فِي أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ غَافِلِينَ عَنِ الْعُقْبَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) : أَيْ لِمُسْلِمٍ (قَالَ: " تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ ") أَيْ: تَصِلُ نِهَايَةَ مَسَاكِنِ الْمَدِينَةِ (" إِهَابَ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، (" أَوْ يِهَابَ ") بِكَسْرِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِلِازْدِوَاجِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا مَوْضِعَانِ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَعَدَمُ صَرْفِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ، وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ عِمَارَةِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: أَوْ نِهَابَ. بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ، وَرُوِيَ بِالْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَمَّا إِهَابُ فَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا يَهَابُ فَبِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمَكْسُورَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي فِي الشَّرْحِ وَالْمَشَارِقِ إِلَّا الْكَسْرَ، وَحَكَى الْقَاضِي رحمه الله عَنْ بَعْضِهِمْ نِهَابَ بِالنُّونِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ أَنَّ الْمَدِينَةَ يَكْثُرُ سَوَادُهَا حَتَّى يَتَّصِلَ مَسَاكِنُ أَهْلِهَا بِإِهَابَ أَوْ يِهَابَ، شَكَّ الرَّاوِي فِي اسْمِ الْمَوْضِعِ، أَوْ كَانَ يُدْعَى بِكِلَا الِاسْمَيْنِ، فَذَكَرَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، وَفِي التَّصْحِيحِ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ أَنَّ قَوْلَهُ:" إِهَابَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَلَمْ يَصْرِفْهُ عَلَى قَصْدِ الْبُقْعَةِ، وَ " يِهَابَ " بِيَاءٍ ـ آخِرَ الْحُرُوفِ - مَكْسُورَةٍ، كَذَا قَيَّدَهُ عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ، وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ: فِيهِ نِهَابُ بِالنُّونِ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالشَّكُّ فِيهِ مِنَ الرَّاوِي.

وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِهَابُ كَكِتَابِ الْجِلْدِ، وَكَسَحَابٍ: مَوْضِعٌ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ يِهَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 3430

5441 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يُقَسِّمُ الْمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5441 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَكُونُ ") أَيْ: يُوجَدُ (" فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ ") أَيْ: سُلْطَانٌ بِحَقٍّ (" يُقَسِّمُ الْمَالَ ") أَيْ: عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْعَدْلِ، وَلَا يُخَزِّنُهُ كَسَلَاطِينِ زَمَانِنَا (" وَلَا يَعُدُّهُ ") بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: وَيُعْطِي كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ عَدٍّ وَإِحْصَاءٍ، بَلْ يَكُونُ إِحْسَانُهُ جُزَافًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مِنَ الْإِعْدَادِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ عُدَّةً وَذَخِيرَةً، أَيْ: لَا يَدَّخِرُ لِعَدُوٍّ لَا يَكُونُ لَهُ خِزَانَةً، كَفِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سَبَقَهُ شَارِحٌ ; حَيْثُ قَالَ: إِمَّا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: لَا يُحْصِيهِ، أَوْ يُعِدُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: لَا يَدَّخِرُهُ، وَهُوَ كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنْ يُضْعِفُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَبْنًى وَمَعْنًى قَوْلُهُ:(وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: يُعْطِيهِ بِالْكَفَّيْنِ (" حَثْيًا ") : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَتَى بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: حَثْيًا بَلِيغًا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(" وَلَا يَعُدُّهُ عَدًّا ") : مَصْدَرٌ بَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ ثُلَاثِيٌّ لَا رُبَاعِيٌّ. قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَثْوُ الَّذِي يَفْعَلُهُ هَذَا الْخَلِيفَةُ يَكُونُ لِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْفُتُوحَاتِ مَعَ سَخَاءِ نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: السِّرُّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ يُظْهَرُ لَهُ كُنُوزُ الْأَرْضِ، أَوْ يُعَلَّمُ الْكِيمْيَاءُ، أَوْ يَكُونُ مِنْ كَرَامَتِهِ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحَجَرُ ذَهَبًا، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3430

5442 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ كَنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5442 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ» ") : بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا أَيْ يَكْشِفَ (" عَنْ كَنْزٍ ") : فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: حَسَرْتُ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِي، وَحَسَرْتُ الثَّوْبَ عَنْ بَدَنِي أَيْ: كَشَفْتُهُمَا. وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ يَظْهَرَ وَيَكْشِفَ نَفْسَهُ عَنْ كَنْزٍ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ حَسَرَ مُتَعَدٍّ. وَقَالَ الْخَلْخَالِيُّ أَحَدُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ، أَيْ: سَيُظْهِرُ فُرَاتٌ عَنْ نَفْسِهِ كَنْزًا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ الْقَلْبُ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ. وَفِي الْقَامُوسِ: حَسَرَهُ يَحْسُرُهُ وَيَحْسِرُهُ كَشَفَهُ، وَالشَّيْءُ حُسُورًا انْكَشَفَ، فَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اللُّزُومِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: يَقْرُبُ الْفُرَاتُ أَنْ يَنْكَشِفَ عَنْ كَنْزٍ، أَيِ: انْكِشَافًا صَادِرًا عَنْ كَنْزٍ عَظِيمٍ. (" مِنْ ذَهَبٍ ") أَيْ: كَثِيرٍ (" فَمَنْ حَضَرَ ") أَيْ: فَالْغَائِبُ بِالْأَوْلَى (" فَلَا يَأْخُذْ ") : بِصِيغَةِ النَّهْيِ (" مِنْهُ شَيْئًا ") أَيْ: لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْمُقَاتَلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ الْكَبِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَلَا يَأْخُذُ نَفْيًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 3431

5443 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مَنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5443 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ» ") ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَّحِدَةٌ وَالرِّوَايَةَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْمَعْنَى عَنْ كَنْزٍ عَظِيمٍ مِقْدَارِ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ الْجَبَلُ مَعْدِنًا مِنْ ذَهَبٍ، (" يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ ") أَيْ: عَلَى تَحْصِيلِهِ وَأَخْذِهِ، (" فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ") أَيْ: مِنَ النَّاسِ الْمُتَقَاتِلِينَ، (" وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ") أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ (" لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو ") . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

أَيْ: أَنَا الَّذِي يَنْجُو، فَنُظِرَ إِلَى الْمُبْتَدَأِ فَحُمِلَ الْخَبَرُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْصُولِ اهـ. أَيْ: يَرْجُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاجِيَ فَيَقْتُلَ الْبَاقِيَ فِي الْحَالِ رَجَاءَ أَنْ يَنْجُوَ فِي الْمَآلِ فَيَأْخُذَ الْمَالَ، وَهَذَا مِنْ سُوءِ الْآمَالِ وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِ كِنَايَةٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: أَنَا الَّذِي أَفُوزُ بِهِ، فَعُدِلَ إِلَى أَنْجُو ; لِأَنَّهُ إِذَا نَجَا مِنَ الْقَتْلِ تَفَرَّدَ بِالْمَالِ وَمَلَكَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3431

5444 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ، فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ، فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5444 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَقِيءُ الْأَرْضُ ") : مُضَارِعٌ مِنَ الْقَيْءِ، أَيْ: تُلْقِي الْأَرْضُ (" أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ") : بِفَتْحِ الْهَمْزِ جَمْعَ الْفِلْذَةِ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمَقْطُوعَةُ طُولًا، وَسَمَّى مَا فِي الْأَرْضِ كَبِدًا تَشْبِيهًا بِالْكَبِدِ الَّتِي فِي بَطْنِ الْبَعِيرِ ; لِأَنَّهَا أَحَبُّ مَا هُوَ مُخَبَّأٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الْكَبِدَ أَطْيَبُ مَا فِي بَطْنِ الْجَزُورِ، وَأَحَبُّهُ إِلَى الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي بَطْنِ الْبَعِيرِ ; لِأَنَّ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الْفِلْذُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْبَعِيرِ، فَالْمَعْنَى: تُظْهِرُ كُنُوزَهَا وَتُخْرِجُهَا مِنْ بُطُونِهَا إِلَى ظُهُورِهَا، (" أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالطَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ:" الْأُسْطُوَانَةِ " فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوَّلُ جِنْسٌ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِجَمْعِ الْأَمْثَالِ، وَقَوْلُهُ:(" مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ") لِبَيَانِ مُجْمَلِ الْحَالِ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْضَ تُلْقِي مِنْ بَطْنِهَا مَا فِيهِ مِنَ الْكُنُوزِ، وَقِيلَ: مَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْعُرُوقِ الْمَعْدِنِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانَةِ، وَشَبَّهَهَا بِأَفْلَاذِ الْكِبَادِ هَيْئَةً

ص: 3431

وَشَكْلًا، فَإِنَّهَا قِطَعُ الْكَبِدِ الْمَقْطُوعَةِ طُولًا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا - وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 1 - 2]، (" فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ ") أَيْ: قَاتِلُ النَّفْسِ (" فَيَقُولُ: فِي هَذَا ") أَيْ: فِي طَلَبِ هَذَا الْغَرَضِ، وَلِأَجْلِ تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ (" قَتَلْتُ ") أَيْ: مَنْ قَتَلْتُ مِنَ الْأَنْفُسِ، (" وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ ") أَيْ: قَاطِعُ الرَّحِمِ (" فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَلَوْ رُوِيَ مَعْلُومًا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، أَيْ: تَسَبَّبَ لِقَطْعِ يَدِي (" ثُمَّ يَدَعُونَهُ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَتْرُكُونَ مَا قَاءَتْهُ مِنَ الْكَنْزِ أَوِ الْمَعْدِنِ (" فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا ") . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.

ص: 3432

5445 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5445 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا» ") أَيْ: لَا تَفْرَغُ وَلَا تَنْقَضِي (" حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ ") : الْمُرَادُ بِهِمَا الْجِنْسُ، فَهُمَا فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الِاسْتِغْرَاقُ، فَكُلُّ فَرْدٍ فِي هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ (" فَيَتَمَرَّغُ ") أَيْ: يَتَقَلَّبُ الرَّجُلُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: فَوْقَ الْقَبْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَتَمَسَّكُ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ وَيَتَقَلَّبُ فِي التُّرَابِ، (" وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ ") أَيْ: مَيِّتًا (" وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ، (" إِلَّا الْبَلَاءُ ") أَيِ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى التَّمَنِّي لَيْسَ الدِّينُ بَلِ الْبَلَاءُ وَكَثْرَةُ الْمِحَنِ وَالْفِتَنِ وَسَائِرُ الضَّرَّاءِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الدِّينُ هُنَا الْعَادَةُ وَلَيْسَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتَمَرَّغُ، يَعْنِي: يَتَمَرَّغُ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ، وَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي حَالٍ لَيْسَ التَّمَرُّغُ مِنْ عَادَتِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْبَلَاءُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الدِّينُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ التَّمَرُّغُ وَالتَّمَنِّي لِأَمْرٍ أَصَابَهُ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الدُّنْيَا، فَيُفِيدُ الْبَلَاءَ الْمُطْلَقَ بِالدُّنْيَا بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، وَاتَّفَقَا عَلَى: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.

قُلْتُ: وَهَذَا اللَّفْظُ فِي الْجَامِعِ أُسْنِدَ إِلَى أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ خُرُوجِ نَفْسِهِ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْعَسَلُ فَيَشْرَبُهُ» ". وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبَى ذَرٍّ قَالَ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَمُرُّ الْجَنَازَةُ فِيهِمْ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: يَا لَيْتَ أَنِّي مَكَانَهُ» ".

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبَى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرِضَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَتَيْتُ أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُرْجِعْهَا، وَقَالَ: يُوشِكُ يَا أَبَا سَلَمَةَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَيُوشِكُ يَا أَبَا سَلَمَةَ إِنْ بَقِيتَ إِلَى قَرِيبٍ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ.

ص: 3432

5446 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5446 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ» ") أَيْ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهُمَا (" تُضِيءُ ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: تُنَوِّرُ (" أَعْنَاقَ الْإِبِلِ ") : جَمْعُ الْعُنُقِ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الْعُضْوُ الْمَعْرُوفُ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ، (" بِبُصْرَى ") : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَوْرَانَ بِالشَّامِ، وَقِيلَ: مَدِينَةُ قَيْسَارِيَةِ الْبَصْرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَكَذَا الرِّوَايَةُ بِنَصْبِ " أَعْنَاقَ " وَهُوَ مَفْعُولُ تُضِيءُ، يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ

ص: 3432

وَأَضَاءَتْ غَيْرَهَا، وَبُصَرَى بِضَمِّ الْبَاءِ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَوْرَانَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ، وَقَدْ خَرَجَتْ فِي زَمَانِنَا نَارٌ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ نَارًا عَظِيمَةً خَرَجَتْ مِنْ جَنْبِ الْمَدِينَةِ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - الشَّرْقِيِّ وَرَاءَ الْحَرَّةِ، وَتَوَاتَرَ الْعِلْمُ بِهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ، وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: رَأَى هَذِهِ النَّارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ رُؤْيَةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا وَلَا خَفَاءَ، فَإِنَّهَا لَبِثَتْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ يَوْمًا تَتَّقِدُ وَتَرْمِي بِالْأَحْجَارِ الْمُجْمَرَةِ بِالنَّارِ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى مَا حَوْلَهَا، مُشَاكِلَةً لِلْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ:{تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] ، وَقَدْ سَالَ مِنْ يَنْبُوعِ النَّارِ فِي تِلْكَ الصَّحَارَى مَدٌّ عَظِيمٌ شَبِيهٌ بِالصُّفْرِ الْمُذَابِ، فَيَجْمُدُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، فَيُوجَدُ شَبِيهًا بِخَبَثِ الْحَدِيدِ.

قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ وَهِيَ لَمْ تَحْدُثْ بَعْدُ» ".

قُلْتُ: لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَوَّلَ الْأَشْرَاطِ مُطْلَقًا بَلِ الْأَشْرَاطَ الْمُتَّصِلَةَ بِالسَّاعَةِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهَا تَقُومُ عَمَّا قَرِيبٍ، فَإِنَّ مِنَ الْأَشْرَاطِ بَعْثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَتَقَدَّمْهَا تِلْكَ النَّارُ، أَوْ أَرَادَ بِالنَّارِ نَارَ الْحَرْبِ وَالْفِتَنِ كَفِتْنَةِ التَّتَرِ، فَإِنَّهَا سَارَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَأَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ: فَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ فِيهِمَا، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا رِوَايَتُهُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ بِأَنَّهُ أَتَى بِإِسْنَادٍ غَيْرِ إِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ، فَيَكُونُ مُسْتَدْرِكًا لَا مُسْتَدْرَكًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ رُشْدٍ، وَلَعَلَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَوْ لَهُ مُتَابِعٌ أَوْ مُشَاهِدٌ يَنْجَبِرُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَقَلُّ رَاوٍ أَجْمَعُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 3433

5447 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5447 -

(وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ") : سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (" نَارٌ ") أَيْ: شُعْلَةٌ سَاطِعَةٌ أَوْ فِتْنَةٌ طَالِعَةٌ (" تَحْشُرُ النَّاسَ ") أَيْ: تَجْمَعُهُمْ (" مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَرَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ:" «أَوَّلُ شَيْءٍ يَحْشُرُ النَّاسَ نَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ» "، كَذَا فِي الْجَامِعِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ السَّابِقُ.

ص: 3433

الْفَصْلُ الثَّانِي

5448 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ بِالنَّارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5448 -

(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ» ") أَيْ: زَمَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ يَتَقَارَبَ أَهْلُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الشَّرِّ، أَوْ يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ نَفْسُهُ فِي الشَّرِّ حَتَّى يُشْبِهَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، أَوْ تَقْصُرَ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هُنَا لِقَوْلِهِ:(" فَتَكُونُ ") بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ وَهُوَ بِالتَّأْنِيثِ، وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ لَيْلًا، ثُمَّ عَطَفَ الشَّهْرَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى فَتَصِيرُ (" السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ") .

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى قِلَّةِ بَرَكَةِ الزَّمَانِ وَذَهَابِ فَائِدَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لِكَثْرَةِ اهْتِمَامِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنَ النَّوَازِلِ وَالشَّدَائِدِ وَشُغْلِ قَلْبِهِمْ بِالْفِتَنِ الْعِظَامِ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ تَنْقَضِي أَيَّامُهُمْ وَلَيَالِيهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ قِصَرَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي فِي الْمَسَرَّاتِ وَطُولَهَا فِي الْمَكَارِهِ، قُلْنَا: الْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي الْقِصَرِ وَالطُّولِ مُفَارِقٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَمَنِّي الْإِطَالَةِ لِلرَّخَاءِ، أَوْ إِلَى تَمَنِّي الْقِصَرِ

ص: 3433

لِلشِّدَّةِ، وَالَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى زَوَالِ الْإِحْسَاسِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا صَحِيحٌ، (" وَالشَّهْرُ ") أَيْ: وَيَكُونُ الشَّهْرُ (" كَالْجُمُعَةِ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأُسْبُوعُ، (" وَتَكُونُ ") : بِالتَّأْنِيثِ رَفْعًا وَيُنْصَبُ أَيْ وَتَصِيرُ (" الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ") أَيْ: كَالنَّهَارِ، (" وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ") أَيِ: الْعُرْفِيَّةِ النُّجُومِيَّةِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقِسْمَةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرِيَّةَ فِي اعْتِدَالِ الْأَزْمِنَةِ الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتَائِيَّةِ، (" وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ بِالنَّارِ ") : بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَيُفْتَحُ أَيْ: مِثْلَهَا فِي سُرْعَةِ ابْتِدَائِهَا وَانْقِضَائِهَا. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ كَزَمَانِ إِيقَادِ الضَّرْمَةِ وَهِيَ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ أَوَّلًا كَالْقَصَبِ وَالْكِبْرِيتِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّرَمَةُ مُحَرَّكَةً السَّعَفَةُ أَوِ الشِّيحَةُ فِي طَرَفِهَا نَارٌ. وَفِي الْأَزْهَارِ: الضَّرْمَةُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ غُصْنُ النَّخْلِ، وَالشِّيحَةُ نَبْتٌ فِي طَرَفِهَا نَارٌ فَإِنَّهَا إِذَا اشْتَعَلَتْ تُحْرَقُ سَرِيعًا اهـ.

فَالْمُرَادُ بِهَا السَّاعَةُ اللُّغَوِيَّةُ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّمَانِ مِنَ اللَّمْحَةِ وَاللَّحْظَةِ وَالطَّرْفَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ أَوْ عِيسَى عليه الصلاة والسلام أَوْ كِلَيْهِمَا. قُلْتُ: وَالْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِظُهُورِ هَذَا الْأَمْرِ فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَهُوَ فِي زَمَانِهِمَا. قَالَ فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَالسَّاعَةُ كَالضَّرْمَةِ، فَمَا وَجْهُ التَّقَارُبِ وَمَعْنَاهُ؟ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ السَّنَةَ ذَاتُ شُهُورٍ وَجُمَعٍ وَأَيَّامٍ وَسَاعَاتٍ، فَإِنَّ كُلَّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وَثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ جُمُعَةً، وَثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَاعَةً، وَإِذَا عَادَتِ السَّنَةُ إِلَى الشَّهْرِ عَادَتْ جُمُعَتُهَا إِلَى جُمُعَةِ شَهْرِ تِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ أَرْبَعٌ، وَأَيَّامُهَا إِلَى أَيَّامِ شَهْرٍ بِتِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَسَاعَاتُهَا إِلَى سَاعَاتِ شَهْرٍ بِتِلْكَ السَّنَةِ، وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَاعَةً، وَنِسْبَةُ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى السَّنَةِ كَجُزْءٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا بِلَا زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ، نَعَمْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ مِنْ أَمَدِ الضَّرْمَةِ بِالنَّارِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَلَا يَتَبَيَّنُ لِلنَّاظِرِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ ; فَلِذَا قَالَ:" يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ "، وَلَمْ يَقُلْ يَتَسَاوَى الزَّمَانُ اهـ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ وَبَيَانٍ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ مِنَ الْبَابِ الْآتِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3434

5449 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا، وَعَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا، فَقَامَ إِلَيْنَا فَقَالَ:" «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ قَالَ: " يَا ابْنَ حَوَالَةَ! إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ إِلَى رَأْسِكَ» ". رَوَاهُ. . . . .

ــ

5449 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: أَزْدِيٌّ نَزَلَ الشَّامَ، رَوَى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَغَيْرِهِ، (قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ") أَيْ: أَرْسَلَنَا (لِنَغْنَمَ) أَيْ: لِنَأْخُذَ الْغَنِيمَةَ (عَلَى أَقْدَامِنَا) أَيْ: مَاشِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بَعَثَنَا أَيْ بَعَثَنَا رِجَالًا غَيْرَ رُكَّابٍ، (فَرَجَعْنَا) أَيْ: سَالِمِينَ مَأْمُونِينَ (فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا) أَيْ: فَصِرْنَا مَغْمُومِينَ مَحْزُونِينَ، (وَعَرَفَ الْجَهْدَ) : بِالْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالضَّمِّ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجَهْدُ الطَّاقَةُ وَيُضَمُّ وَالْمَشَقَّةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمَشَقَّةُ، وَقَدْ صَرَّحَ شَارِحٌ بِالْفَتْحِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ فِي أَصْلِهِ، أَيْ: وَعَرَفَ مَشَقَّةَ أَلَمِ فَقْدِ الْغَنِيمَةِ (فِي وُجُوهِنَا) أَيْ: فِيمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنْ آثَارِ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ وَالْخَجَالَةِ وَالْحَيَاءِ، (فَقَامَ) أَيْ: خَطِيبًا (فِينَا) أَيْ: لِأَجْلِنَا أَوْ فِيمَا بَيْنَنَا (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ ") : مِنَ الْوُكُولِ أَيْ: لَا تَتْرُكْ أُمُورَهُمْ (" إِلَيَّ ") أَيْ: إِلَى أَمْرِي (" فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ ") : بِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلنَّهْيِ ; وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ عَنْ غَيْرِهِ ; وَلِذَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ. وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49] وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

ص: 3434

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ لَهُ الْقُرْبُ الْإِلَهِيُّ قَدَّمَ دَفْعَ وُكُولِهِمْ إِلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ:(" وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفُتِحَ، فَفِي الْقَامُوسِ: عَجَزَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَسَمِعَ، ثُمَّ فِي تَأْخِيرِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الْأَنْفَسَ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، (" وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ ") أَيْ: إِلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا خَصَّ النَّاسَ لِقُرْبِ الِاسْتِئْنَاسِ ; (" فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ ") عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ فَيَعْجِزُوا لِظُهُورِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَيَسْتَأْثِرُوا ; إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا يَكْتَفُونَ بِإِظْهَارِ الْعَجْزِ، بَلْ يَتَبَادَرُونَ إِلَى أَنْ يَخْتَارُوا الْجَيِّدَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالرَّدِيءَ لِغَيْرِهِمْ، فَفِيهِ تَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ فِي شُهُودِ صُنْعِ اللَّهِ وَالْغَيْبَةِ عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى يَكِلُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَعْتَمِدُوا فِي جَمِيعِ حَوَائِجِهِمْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أُمُورَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، كَمَا قَالَ:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] .

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمَعْنَى: لَا تُفَوِّضْ أُمُورَهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْ كِفَايَةِ مُؤْنَتِهِمْ وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَلَا تُفَوِّضْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَعْجِزُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; لِكَثْرَةِ شَهَوَاتِهَا وَشُرُورِهَا، وَلَا تُفَوِّضْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَخْتَارُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ ; فَيَضِيعُوا، بَلْ هُمْ عِبَادُكَ فَافْعَلْ بِهِمْ مَا يَفْعَلُ السَّادَةُ بِالْعَبِيدِ. (ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي)، أَيْ: لِحِكْمَةٍ سَتَأْتِي، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى ذَلِكَ الْمَرَامِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهَا ثُمَّ رَفَعَهَا، (ثُمَّ قَالَ:" يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ ") أَيْ: خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ (" قَدْ نَزَلَتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ") أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، كَمَا وَقَعَتْ فِي إِمَارَةِ بَنِي أُمَيَّةَ (" فَقَدْ دَنَتِ ") أَيْ: قَرُبَتِ (" الزَّلَازِلُ ") أَيْ: وُقُوعُهَا وَهِيَ مُقَدِّمَاتُ زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] ، وَالزَّلْزَلَةُ هِيَ الْحَرَكَةُ وَالزِّلْزَالُ مَصْدَرٌ، (" وَالْبَلَابِلُ ") : جَمْعُ بَلْبَلَةٍ، فَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ الْهُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، وَبَلْبَلَةُ الصَّدْرِ وَسْوَاسُهُ، (" وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ ") أَيْ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، (" وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ ") أَيِ: الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَأْسِكَ (" إِلَى رَأْسِكَ " رَوَاهُ) : كَذَا هُنَا بَيَاضٌ بِالْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ فِي الْحَاشِيَةِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. جَزَرِيٌّ وَأُلْحِقَ فِي نُسْخَةٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ.

ص: 3435

5450 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا اتُّخِذَ الْفَيْءُ دِوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخَمْرُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا ; فَارْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا وَمَسْخًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5450 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا اتُّخِذَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا أُخِذَ (" الْفَيْءُ ") أَيِ: الْغَنِيمَةُ (" دِوَلًا ") : بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَيُضَمُّ أَوَّلُهُ جَمْعُ دُولَةٍ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، أَيْ: غَلَبَةً فِي الْمُدَاوَلَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الدَّوْلَةُ انْقِلَابُ الزَّمَانِ، وَالْعُقْبَةُ فِي الْمَآلِ وَيُضَمُّ، أَوِ الضَّمُّ فِيهِ وَالْفَتْحُ فِي الْحَرْبِ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ، أَوِ الضَّمُّ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَتْحُ فِي الدُّنْيَا، الْجَمْعُ: دُوَلٌ مُثَلَّثَةً. وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْمَلَكِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الدُّولَةُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْمَالِ يَعْنِي الْفَيْءَ، وَبِالْفَتْحِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالِ الْبُؤْسِ وَالضُّرِّ إِلَى حَالِ السُّرُورِ.

ص: 3435

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَغْنِيَاءُ وَأَصْحَابُ الْمَنَاصِبِ يَسْتَأْثِرُونَ بِحُقُوقِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ أَمْوَالَ الْفَيْءِ تُؤْخَذُ غَلَبَةً وَأَثَرَةً صَنِيعَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَذَوِي الْعُدْوَانِ، (" وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ")، أَيْ: بِأَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِوَدَائِعِ بَعْضِهِمْ وَأَمَانَاتِهِمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا كَالْمَغَانِمِ يَغْنَمُونَهَا، (" وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ") أَيْ: بِأَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا حَتَّى تُعَدَّ غَرَامَةً، (" وَتُعُلِّمَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ (" لِغَيْرِ الدِّينِ ")، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ بِغَيْرِ اللَّامِ، وَالْأُولَى أَوْلَى، أَيْ: رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَيْ: يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ لِطَلَبِ الْجَاهِ وَالْمَالِ لَا لِلدِّينِ وَنَشْرِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ، (" وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ") أَيْ: فِيمَا تَأْمُرُهُ وَتَهْوَاهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَهُدَاهُ، (" وَعَقَّ أُمَّهُ ") أَيْ: خَالَفَهَا فِيمَا تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ، وَفِي الْقَرِينَتَيْنِ إِشْعَارٌ بِانْقِلَابِ الدَّهْرِ ; لِانْعِكَاسِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:(" وَأَدْنَى صَدِيقَهُ، وَأَقْصَى أَبَاهُ ") ; حَيْثُ قَرَّبَ صَدِيقَهُ الْأَجْنَبِيَّ إِلَيْهِ، وَبَعَّدَ أَقْرَبَ الْأَقْرَبِينَ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ أَشْفَقُ الْأَشْفَقِينَ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: خَصَّ عُقُوقَ الْأُمِّ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ عُقُوقُ كُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعْدُودًا مِنَ الْكَبَائِرِ ; لِتَأَكُّدِ حَقِّهَا، أَوْ لِكَوْنِ قَوْلِهِ: وَأَقْصَى أَبَاهُ بِمَنْزِلَةِ وَعَقَّ أَبَاهُ، فَيَكُونُ عُقُوقُهُمَا مَذْكُورًا. أَقُولُ: فَفِيهِ تَفَنُّنٌ وَتَسْجِيعٌ، مَعَ زِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: أَقْصَى، عَلَى قَوْلِهِ: عَقَّ، عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ عُقُوقُ الْأَبِ مِنْ عُقُوقِ الْأُمِّ بِالْأَوْلَى.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: وَأَدْنَى صَدِيقَهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، كِلَاهُمَا قَرِينَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأَطَاعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ، لَكِنَّ الْمَذْمُومَ فِي الْأُولَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ إِدْنَاءَ الصَّدِيقِ مَحْمُودٌ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ الْإِفْرَادَ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَذْمُومَانِ. وَأَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ إِطَاعَةَ الْمَرْأَةِ وَالْأُمِّ فِي الْمُبَاحِ مَنْدُوبَتَانِ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ مَنْهِيَّتَانِ، فَالْغَرَابَةُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هِيَ فِي انْعِكَاسِ الْقَضِيَّةِ وَانْقِلَابِ الْبَلِيَّةِ، وَكَذَا فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ; إِذْ يُتَصَوَّرُ إِدْنَاءُ الصَّدِيقِ الصَّالِحِ وَإِبْعَادُ الْأَبِ الصَّالِحِ، وَيُؤَيِّدُ مَا حَرَّرْنَا قَوْلُهُ: فَرَجَّحَ جَانِبَ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ عَلَى جَانِبِ الْأُمِّ، فَإِنَّهَا مَرْضَاةُ الرَّبِّ، وَخَصَّ الْأُمَّ بِالذِّكْرِ لِزِيَادَةِ حَقِّهَا، وَتَأَكُّدِ مَشَقَّتِهَا فِي تَرْبِيَتِهِ، فَعُقُوقُهَا أَقْبَحُ مِنْ عُقُوقِ الْأَبِ، وَأَدْنَى صَدِيقَهُ أَيْ: قَرَّبَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُجَالَسَةِ، وَأَقْصَى أَبَاهُ أَبْعَدَهُ وَلَمْ يَسْتَصْحِبْهُ وَلَمْ يَسْتَأْنِسْ بِهِ. (وَظَهَرَتِ الْأَصْوَاتُ) أَيْ: رَفْعُهَا (فِي الْمَسَاجِدِ) ، وَهَذَا مِمَّا كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ لِلذِّكْرِ حَرَامٌ، (وَسَادَ الْقَبِيلَةَ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْبَلَدُ وَالْمَحَلَّةُ (فَاسِقُهُمْ) ، وَظَالِمُهُمْ بِالْأَوْلَى، وَقَدْ كَثُرَ هَذَا أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَثْرَةَ هِيَ الْعَلَامَةُ، وَإِلَّا فَلَمْ يَكُنْ يَخْلُو زَمَانٌ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123](وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ) أَيِ: الْمُتَكَفِّلُ بِأَمْرِهِمْ (أَرْذَلَهُمْ) أَيْ: أَبْخَلَهُمْ، أَوْ أَكْثَرَهُمْ رَذَالَةً فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: زَعِيمُ الْقَوْمِ رَأْسُهُمْ. وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ، وَسَيِّدُ الْقَوْمِ رَأْسُهُمْ وَالْمُتَكَلِّمُ عَنْهُمْ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النُّسَخَ جَمِيعَهَا عَلَى رَفْعِ " زَعِيمُ " وَنَصْبِ " أَرْذَلَهُمْ "، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعْكَسَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالزَّعِيمِ الْكَرِيمُ، وَبِالْأَرْذَلِ الْأَحْمَقُ وَالْأَخْمَلُ، وَفِي الْمَالِ وَالْجَاهِ أَقَلُّ، (" وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ ") أَيْ: عُظِّمَ (" مَخَافَةَ شَرِّهِ ") أَيْ: لَا لِسَبَبٍ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ رَجَاءِ خَيْرِهِ، (" وَظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ أَيِ: الْإِمَاءُ الْمُغَنِّيَاتُ، (" وَالْمَعَازِفُ ")، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: وَظَهَرَتْ آلَاتُ اللَّهْوِ، (" وَشُرِبَتِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" الْخُمُورُ ") أَيْ: أَنْوَاعُ الْخَمْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تُشْرَبُ شُرْبًا ظَاهِرًا، (" وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا ") : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَلَامَةَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ الْمُنَاسِبَةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا: أَصْحَابُ مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ.

ص: 3436

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ طَعَنَ الْخَلَفُ فِي السَّلَفِ، وَذَكَرُوهُمْ بِالسُّوءِ، وَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَأَنَّهُ لَعَنَهُمْ. أَقُولُ: إِذَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُتَحَقِّقَةً فَمَا الْمُحْوِجُ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهَا إِلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَقَدْ كَثُرَتْ كَثْرَةً لَا تَخْفَى فِي الْعَالَمِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِينَ:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وَقَالَ:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَانِ بِمَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ فِي اجْتِهَادِهِ، وَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فَتَحُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَحَفِظُوا الْأَحْكَامَ وَسَائِرَ الْعُلُومِ مِنْ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَانْتَفَعُوا بِهِمْ عُلَمَاءُ الْأَعْلَامِ وَمَشَايِخُ الْكِرَامِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ نَقُولَ فِي حَقِّهِمْ:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] ، وَقَدْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ لَاعِنَةٌ مَلْعُونَةٌ، إِمَّا كَافِرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ، حَيْثُ لَمْ يَكْتَفُوا بِاللَّعْنِ وَالطَّعْنِ فِي حَقِّهِمْ، بَلْ نَسَبُوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ أَوْهَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَفْهَامِهِمُ الْكَاسِدَةِ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَخَذُوا الْخِلَافَةَ وَهِيَ حَقُّ عَلِيٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِنْكَارِ الْمُنْكِرِينَ، وَأَيُّ دَلِيلٍ لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ نَصًّا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ، ثُمَّ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ اجْتِهَادٍ، فَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ، غَايَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ كَانَ مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ مَاتَ تَائِبًا، أَوْ بَاقِيًا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مَعَ غَالِبِ رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّفَاعَةِ بِبَرَكَةِ الْخِدْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا: يَكُونُ لِأَصْحَابِي زَلَّةٌ، يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ ; لِسَابِقَتِهِمْ مَعِي. فَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ ذُنُوبِنَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِذَا كُنَّا رَاجِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا وَشَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبِأَنْصَارِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ طَائِفَةَ الرَّافِضَةِ الْمَرْفُوضَةِ، الْبَاغِضَةِ الْمَبْغُوضَةِ، أَفْسَقُ الْخَلْقِ وَأَظْلَمُهُمْ، وَأَحْمَقُ الْعَالَمِينَ وَأَجْهَلُهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «لَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ". وَقَالَ: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» ".

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: " «حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمَا كُفْرٌ، وَحُبُّ الْأَنْصَارِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ الْعَرَبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَمَنْ حَفِظَنِي فِيهِمْ فَأَنَا أَحْفَظُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". (" فَارْتَقِبُوا ") : جَوَابُ إِذَا، وَالْمَعْنَى: فَانْتَظِرُوا (" عِنْدَ ذَلِكَ ") أَيْ: عِنْدَ وُجُودِ مَا ذُكِرَ (" رِيحًا حَمْرَاءَ ") أَيْ: شَدِيدَةً فِي الْهَوَاءِ (" وَزَلْزَلَةً ") أَيْ: حَرَكَةً عَظِيمَةً لِلْأَرْضِ (" وَخَسْفًا ") أَيْ: ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ وَغَيْبُوبَةً فِيهَا (" وَمَسْخًا ") : بِتَغْيِيرِ الصُّوَرِ عَلَى طِبْقِ اخْتِلَافِ تَغَيُّرِ السِّيَرِ (" وَقَذْفًا ") أَيْ: رَمْيَ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ (" وَآيَاتٍ ") أَيْ: عَلَامَاتٍ أُخَرَ لِدُنُوِّ الْقِيَامَةِ وَقُرْبِ السَّاعَةِ، (" تَتَابَعُ ") : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا (" كَنِظَامٍ ") : بِكَسْرِ النُّونِ أَيْ: عِقْدٍ مِنْ نَحْوِ جَوْهَرٍ وَخَرَزٍ (" قُطِعَ سِلْكُهُ ") : بِكَسْرِ السِّينِ أَيِ: انْقَطَعَ خَيْطُهُ (" فَتَتَابَعَ ") أَيْ: مَا فِيهِ مِنَ الْخَرَزِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ بِخِلَافِ الْمَاضِي، فَإِنَّهُ حَالٌ أَوِ اسْتِقْبَالٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَقَالَ: غَرِيبٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ، فَانْقَطَعَ السِّلْكُ فَيَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا» ".

ص: 3437

5451 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ، وَعَدَّ هَذِهِ الْخِصَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ: " تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ "، قَالَ: " وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ "، وَقَالَ: " وَشُرِبَ الْخَمْرُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5451 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ ") بِسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ (" خَصْلَةً ") أَيْ: فِعْلَةً ذَمِيمَةً (" حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ ") أَيْ: نَزَلَ

ص: 3437

(وَعَدَّ) أَيْ: وَأَحْصَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (هَذِهِ الْخِصَالَ) أَيِ: الْخَمْسَ عَشْرَةَ، (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ: عَلِيٌّ رضي الله عنه: (" تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ ")، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْوَلَاءِ، وَعَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَعْدَادَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ. (قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (" وَبَرَّ صَدِيقَهُ ") أَيْ: بَدَلَ أَدْنَى (" وَجَفَا أَبَاهُ ") : بَدَلَ أَقْصَى، فَهُوَ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (" وَشُرِبَ الْخَمْرُ ") أَيْ: بَدَلَ شُرِبَتِ الْخُمُورُ بِتَغْيِيرِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، (" وَلُبِسَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" الْحَرِيرُ ")، قَالَ صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ: هَذَا بَدَلٌ مِنَ اللَّعْنِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ اللَّعْنَ مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَالصَّوَابُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تُعُلِّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ، فَتَطَابَقَ الْعَدَدَانِ فِي الرِّوَايَتَيْنِ، فَصَحَّ قَوْلُ الطِّيبِيِّ: أَنَّهُ عَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَعْدَادَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَبَطَلَ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ: إِنَّ الْمَجْمُوعَ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَسِتَّةَ عَشَرَ اهـ.

وَهُنَا أَنَا أَذْكُرُ لَكَ مُفَصِّلًا مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مُجْمِلًا بَلْ مُخْتَصِرًا مُخِلًّا مُهْمِلًا بِقَوْلِهِ: (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، فَفِي الْجَامِعِ: إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ إِذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (فَأَوْ) هُنَا لِلتَّنْوِينِ، وَالْوَاوُ هُنَاكَ لِلْجَمْعِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ.

ص: 3438

5452 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي - أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا» ".

ــ

5452 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا ") أَيْ: لَا تَفْنَى وَلَا تَنْقَضِي (" حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ ") أَيْ: وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَرَبِيٌّ، (" رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ ") أَيْ: يُوَافِقُ (" اسْمُهُ اسْمِيَ ") أَيْ: وَيُطَابِقُ رَسْمُهُ رَسْمِيَ، فَإِنَّهُ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، وَبِهَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ يَهْدِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمْ يَذْكُرِ الْعَجَمَ، وَهُمْ مُرَادُونَ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْعَرَبَ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَكَانُوا يَدًا وَاحِدَةً قَهَرُوا سَائِرَ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ بُعَيْدَ هَذَا اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ الْعَرَبَ لِغَلَبَتِهِمْ فِي زَمَنِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَشْرَفَ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَمُرَادُهُ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُطِيعُونَهُ، بِخِلَافِ الْعَجَمِ بِمَعْنَى ضِدِّ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمْ خِلَافٌ فِي إِطَاعَتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ ") أَيْ: يُظْهِرَ (" فِيهِ ") أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (" رَجُلًا ") أَيْ: كَامِلًا (" مِنِّي ") أَيْ: مِنْ نَسَبِي (" - أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مِنْ بَنِي الْحَسَنِ، أَوْ مِنْ بَنِي الْحُسَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ حَسَنِيٌّ، وَمِنْ جَانِبِ الْأُمِّ حُسَيْنِيٌّ، قِيَاسًا عَلَى مَا وَقَّعَهُ فِي وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ - عَلَيْهِمُ

ص: 3438

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، حَيْثُ كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، وَإِنَّمَا نُبِّئَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَقَامَ الْكُلِّ، وَنِعْمَ الْعِوَضُ وَصَارَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَتْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ وَأَكَابِرُ الْأُمَّةِ مِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْجَبِرَ الْحَسَنُ بِأَنْ أُعْطِيَ لَهُ وَلَدٌ يَكُونُ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَقُومُ مَقَامَ سَائِرِ الْأَصْفِيَاءِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَمَّا نَزَلَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ الْخِلَافَةِ الصُّورِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي مَنْقَبَتِهِ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ: أُعْطِيَ لَهُ لِوَاءُ وَلَايَةِ الْمَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَتِهَا النِّسْبَةُ الْمَهْدَوِيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلنُّبُوَّةِ الْعِيسَوِيَّةِ، وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْمِلَّةِ النَّبَوِيَّةِ - عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفُ السَّلَامِ وَآلَافُ التَّحِيَّةِ - وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَبَى إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ - مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(" وَيُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِيَ، وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي ") : فَيَكُونُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ ; حَيْثُ يَقُولُونَ: الْمَهْدِيُّ الْمَوْعُودُ هُوَ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ، (" يَمْلَأُ الْأَرْضَ ") : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِحَسَبِهِ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَهُ مُعَيِّنٌ لِنَسَبِهِ، أَيْ: يَمْلَأُ وَجْهَ الْأَرْضِ جَمِيعًا أَوْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، (" قِسْطًا ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ (" وَعَدْلًا ") : أَتَى بِهِمَا تَأْكِيدًا، وَكَذَا الْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ:(" كَمَا مُلِئَتْ ") أَيِ: الْأَرْضُ قَبْلَ ظُهُورِهِ (" ظُلْمًا وَجَوْرًا ") ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُغَايَرَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ الظُّلْمُ هُنَا قَاصِرًا لَازِمًا وَالْجَوْرُ تَعَدِّيًا مُتَعَدِّيًا، وَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِسْطِ إِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَبِالْعَدْلِ النَّصَفَةُ وَالْحُكْمُ بِمِيزَانِ الشَّرِيعَةِ وَانْتِصَارُ الْمَظْلُومِ وَانْتِقَامُهُ مِنَ الظَّالِمِ، فَيَكُونُ جَامِعًا لِمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، وَقَائِمًا بِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ هُوَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَمَوْصُوفًا بِوَصْفِ الْكَمَالِ، وَهُوَ إِجْرَاءُ كُلٍّ مِنْ تَجَلِّي الْجَمَالِ وَتَجَلِّي الْجَلَالِ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِكُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، هَذَا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا:" «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ، لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلِكُ جِبَالَ الدَّيْلَمِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةَ» . وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّيْلَمُ: جَبَلٌ مَعْرُوفٌ. وَرَوَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: "«الْمَهْدِيُّ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِي، وَجْهُهُ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ» ".

ص: 3439

5453 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5453 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها، وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي» ") : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْعِتْرَةُ وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ صُلْبِهِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِتْرَةُ الْأَقْرِبَاءَ أَيْضًا وَهِيَ الْعُمُومَةُ. قُلْتُ: الْمَعْنَيَانِ لَا يُلَائِمَانِ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: (" مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ ") رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: عِتْرَةُ الرَّجُلِ أَخَصُّ أَقَارِبِهِ، وَعِتْرَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ، وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ. أَقُولُ: الْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَرَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَقِيلَ عِتْرَتُهُ أَهْلُ بَيْتِهِ لِخَبَرٍ وَرَدَ، وَقِيلَ أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقِيلَ أَهْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ، وَقِيلَ نَسْلُهُ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي هُنَا أَنْ عَلَيْهِ يُقْتَصَرُ وَيُخْتَصَرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ عَمِّي، فَمَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي وُجِدَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ لِلْمَهْدِيِّ الْمَوْعُودِ أَيْضًا نِسْبَةٌ نِسْبِيَّةٌ إِلَى الْعَبَّاسِيَّةِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «الْمَهْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ» " أَيْ: يُصْلِحُ أَمْرَهُ " وَيَرْفَعُ قَدْرَهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ اللَّيْلِ ; حَيْثُ يَتَّفِقُ عَلَى خِلَافَتِهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيهَا ".

ص: 3439

5454 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5454 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَهْدِيُّ مِنِّي ") أَيْ: مِنْ نَسْلِي وَذُرِّيَّتِي، أَوْ مِنْ عَشِيرَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي، (" أَجْلَى الْجَبْهَةِ ") : قَالَ شَارِحٌ أَيْ: وَاسِعُهَا. وَفِي النِّهَايَةِ: خَفِيفُ الشَّعَرِ مَا بَيْنَ التُّرْعَتَيْنِ مِنَ الصُّدْغَيْنِ، وَالَّذِي انْحَسَرَ الشَّعَرُ عَنْ جَبْهَتِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُخْتَصَرًا. وَفِي النِّهَايَةِ: التُّرْعَتَانِ مِنْ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مِمَّا لَا شَعَرَ عَلَيْهِ، وَالْجَلَا مَقْصُورًا انْحِسَارُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنَ الشَّعَرِ أَوْ نِصْفِ الرَّأْسِ، أَوْ هُوَ دُونَ الصَّلَعِ، وَالنَّعْتُ أَجْلَى وَجَلْوَاءُ، وَجَبْهَةٌ جَلْوَاءُ وَاسِعَةٌ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ الشَّارِحَ السَّابِقَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَقَامِ وَالْمُطَابِقُ. (" أَقْنَى الْأَنْفِ ") أَيْ: مُرْتَفِعُهُ كَذَا قَالَ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْقَنَا فِي الْأَنْفِ طُولُهُ وَدِقَّةُ أَرْنَبَتِهِ مَعَ حَدَبٍ فِي وَسَطِهِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَقْنَى وَامْرَأَةٌ قَنْوَاءُ انْتَهَى. فَفِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ، وَالْأَرْنَبَةُ طَرَفُ الْأَنْفِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَدَبُ الِارْتِفَاعُ وَهُوَ ضِدُّ الِانْخِفَاضِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَفْطَسَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهُ الْهَيْئَةِ. (" «يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ» ")، وَأَمَّا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِ رَاوٍ: أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ، فَهُوَ شَكٌّ مِنْهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَجْزُومَةٌ بِالسَّبْعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَشْكُوكَةً، وَطَرَحَ الشَّكَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ وَاكْتَفَى بِالْيَقِينِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 3440

5455 -

وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ الْمَهْدِيِّ قَالَ:" «فَيَجِيءُ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ! أَعْطِنِي أَعْطِنِي ". قَالَ: " فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5455 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: " «فَيَجِيءُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: يَا مَهْدِيُّ! أَعْطِنِي أَعْطِنِي» ") : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: أَعْطِنِي مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ; لِمَا تَعَوَّدَ مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" «فَيَحْثِي لَهُ فِي ثَوْبِهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَحْمِلَهُ» ") ; لِمَا رَأَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْمَالِ وَمُطَالَبَتِهِ مِنْهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَأَغْنَاهُ عَنِ السُّؤَالِ، وَخَلَّصَ نَفْسَهُ عَنِ الْمَلَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3440

5456 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يَكُونُ اخْتِلَافٌ عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ، فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُخْرِجُونَهُ وَهُوَ كَارِهٌ، فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ بِالْبَيْدَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ، وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَخْوَالُهُ كَلْبٌ، فَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ بَعْثًا فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بَعَثُ كَلْبٍ، وَيَعْمَلُ فِي النَّاسِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَيُلْقِي الْإِسْلَامُ بِجِرَانِهِ فِي الْأَرْضِ، فَيَلْبَثُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5456 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَكُونُ ") أَيْ: يَقَعُ (" اخْتِلَافٌ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ (" عِنْدَ مَوْتِ خَلِيفَةٍ ") أَيْ: حُكْمِيَّةٍ، وَهِيَ الْحُكُومَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِالْغَلَبَةِ التَّسْلِيطِيَّةِ، (" فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ") أَيْ: كَرَاهِيَةً لِأَخْذِ مَنْصِبِ الْإِمَارَةِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمُعَطَّرَةُ أَوِ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِيهَا الْخَلِيفَةُ، (" هَارِبًا إِلَى مَكَّةَ ") ; لِأَنَّهَا مَأْمَنُ كُلِّ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهَا، وَمَعْبَدُ كُلِّ مَنْ سَكَنَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهُوَ الْمَهْدِيُّ بِدَلِيلِ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الْمَهْدِيِّ، (" فَيَأْتِيهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ") أَيْ: بَعْدَ ظُهُورِ أَمْرِهِ وَمَعْرِفَةِ نُورِ قَدْرِهِ (" فَيُخْرِجُونَهُ ") أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (" وَهُوَ كَارِهٌ ") : إِمَّا بَلِيَّةَ الْإِمَارَةِ وَإِمَّا خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، (" فَيُبَايِعُونَهُ بَيْنَ الرُّكْنِ ") أَيِ: الرُّكْنِ الْأَسْعَدِ وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ (" وَالْمَقَامِ ") أَيْ: مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَيَقَعُ مَا بَيْنَ زَمْزَمَ أَيْضًا - شَرَّفَهَا اللَّهُ - وَهَذَا الْمُثَلَّثُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَطِيمِ مِنَ الزَّمَنِ الْقَدِيمِ ; وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ فِيهِ وَحَنِثَ أَوْ خَالَفَ الْعَهْدَ وَنَقَضَ

ص: 3440

حَطَمَ، أَيْ: كَسَرَ رَقَبَتَهُ، وَقَطَعَ حُجَّتَهُ، وَهَلَكَ دَوْلَتَهُ، (" وَيُبْعَثُ إِلَيْهِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُرْسَلُ إِلَى حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَأَقَامَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، (" بَعْثٌ مِنَ الشَّامِ ") أَيْ: جَيْشٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْمَلَامِ، (" فَيُخْسَفُ بِهِمْ ") أَيْ: كَرَامَةً لِلْإِمَامِ (" بِالْبَيْدَاءِ ") : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (" بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ") : وَلَعَلَّ تَقْدِيمَ مَكَّةَ لِتَفْضِيلِهَا وَتَقَدُّمِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هِيَ أَرْضٌ مَلْسَاءُ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: يُخْسَفُ بِالْبَيْدَاءِ، بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، وَلَيْسَ بِالْبَيْدَاءِ الَّتِي أَمَامَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَهِيَ شُرَفٌ مِنَ الْأَرْضِ. قُلْتُ: وَلَا بِدْعَ أَنْ تَكُونَ هِيَ إِيَّاهَا مَعَ أَنَّهَا الْمُتَبَادَرُ مِنْهَا، وَلَعَلَّ الشَّيْخَ ظَفِرَ بِنَقْلٍ صَرِيحٍ، أَوْ بَنَى عَلَى أَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّامِ عَنْ قَدِيمِ الْأَيَّامِ لَيْسَ عَلَى الْمَدِينَةِ ; وَلِهَذَا جُعِلَ مِيقَاتُهُمُ الْجُحْفَةَ، لَكِنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِمُ الْمَشْهُورَةِ، وَمَالُوا إِلَى دُخُولِ الْمَدِينَةِ الْمُطَهَّرَةِ لِمَصَالِحَ دِينِيَّةٍ وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَرَضُهُمْ مُحَارَبَةَ الْمَهْدِيِّ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا يُطَوِّلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَسَافَةَ، بَلْ يُرِيدُونَ الْمُسَابَقَةَ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْمُسَايَفَةِ، (" وَإِذَا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ ") أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ وَمَا جُعِلَ لِلْمَهْدِيِّ مِنَ الْعَلَامَةِ (" أَتَاهُ أَبْدَالُ الشَّامِ ")، وَنِعْمَ الْبَدَلُ مِنَ الْكِرَامِ عَنِ اللِّئَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَبْدَالُ الشَّامِ هُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْعُبَّادُ، الْوَاحِدُ بَدَلٌ كَجَمَلٍ أَوْ بَدْلٌ كَحَمْلٍ ; سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بُدِلَ بِآخَرَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ، إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ بِآخَرَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَاحِدُهُ بَدِيلٌ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ بُدَلَاءُ أَيْضًا، فَيَكُونُ نَظِيرَ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ وَشُرَفَاءَ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُمْ سُمُّوا أَبْدَالًا ; لِأَنَّهُمْ قَدْ يَرْتَحِلُونَ إِلَى مَكَانٍ وَيُقِيمُونَ فِي مَكَانِهِمُ الْأَوَّلِ شَبَحًا آخَرَ شَبِيهًا بِشَبَحِهِمُ الْأَصْلِيِّ بَدَلًا عَنْهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ بِهِمْ يُقِيمُ اللَّهُ عز وجل الْأَرْضَ، وَهُمْ سَبْعُونَ، أَرْبَعُونَ بِالشَّامِ وَثَلَاثُونَ فِي غَيْرِهَا انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّامِ جِهَتُهُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ وَرَائِهِ لَا بِخُصُوصِ دِمَشْقِ الشَّامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سُمُّوا أَبْدَالًا ; لِأَنَّهُمْ أُبْدِلُوا الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ بِالشَّمَائِلِ الرَّضِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ.

وَقَالَ الْقُطْبُ الْحَقَّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: إِنَّمَا سُمُّوا أَبْدَالًا لِأَنَّهُمْ فَنُوا عَنْ إِرَادَتِهِمْ فَبُدِّلَتْ بِإِرَادَةِ الْحَقِّ عز وجل، فَيُرِيدُونَ بِإِرَادَةِ الْحَقِّ أَبَدًا إِلَى الْوَفَاةِ، فَذُنُوبُ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ أَنْ يُشْرِكُوا إِرَادَةَ الْحَقِّ بِإِرَادَتِهِمْ، عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَغَلَبَةِ الْحَالِ وَالدَّهْشَةِ، فَيُدْرِكُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بِالْيَقَظَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، فَيَرْجِعُونَ عَنْ ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ عز وجل. أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْعَارِفَ ابْنَ الْفَارِضِ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:

وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ

عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي

فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ مِنْ مَاءٍ مَعِينٍ، وَاللَّهُ الْمُعِينُ. (" وَعَصَائِبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ") أَيْ: خِيَارُهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عُصْبَةُ الْقَوْمِ خِيَارُهُمْ، وَلَعَلَّهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] ، أَوْ طَوَائِفُهُمْ، فَإِنَّ الْعِصَابَةَ تَأْتِي بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ ; بِتَعَصُّبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَشَدِّ بَعْضِهِمْ ظَهْرَ بَعْضٍ وَتَعَضُّدِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَصَائِبُ جَمْعُ عِصَابَةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْهُ: الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ، وَالنُّجَبَاءُ بِمِصْرَ، وَالْعَصَائِبُ بِالْعِرَاقِ. أَرَادَ أَنَّ التَّجَمُّعَ لِلْحُرُوبِ يَكُونُ بِالْعِرَاقِ، وَقِيلَ: أَرَادَ جَمَاعَةً مِنَ الزُّهَّادِ سَمَّاهُمْ بِالْعَصَائِبِ ; لِأَنَّهُ قَرَنَهُمْ بِالْأَبْدَالِ وَالنُّجَبَاءِ.

ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «خِيَارُ أُمَّتِي فِي كُلِّ قَرْنٍ خَمْسُمِائَةٍ، وَالْأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ، فَلَا الْخَمْسُمِائَةُ يَنْقُصُونَ، وَلَا الْأَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ عز وجل مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مَكَانَهُ، وَأَدْخَلَ فِي الْأَرْبَعِينَ» ". وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنَا عَلَى أَعْمَالِهِمْ. قَالَ: " «يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَتَوَاسَوْنَ فِيمَا آتَاهُمُ اللَّهُ عز وجل» ". وَبِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لِلَّهِ عز وجل فِي الْخَلْقِ سَبْعَةً» "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ:" «فَبِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُمْطِرُ وَيُنْبِتُ وَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ» ".

ص: 3441

قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: كَيْفَ بِهِمْ يُحْيِي وَيُمِيتُ؟ قَالَ: " لِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ عز وجل إِكْثَارَ الْأُمَمِ فَيَكْثُرُونَ، وَيَدْعُونَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ فَيُقْصَمُونَ، وَيَسْتَسْقُونَ فَيُسْقَوْنَ، وَيَسْأَلُونَ فَتُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَيَدْعُونَ فَيُدْفَعُ بِهِمْ أَنْوَاعُ الْبَلَاءِ " انْتَهَى.

وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَبْدَالَ وَالْعَصَائِبَ يَأْتُونَ الْمَهْدِيَّ (" فَيُبَايِعُونَهُ، ثُمَّ يَنْشَأُ ") أَيْ: يَظْهَرُ (" رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ") : هَذَا هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي يُخَالِفُ الْمَهْدِيَّ (" أَخْوَالُهُ كَلْبٌ ") : وَهُمْ قَبِيلَةٌ فَتَكُونُ أُمُّهُ كَلْبِيَّةٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ حَقِّيَّةٌ، وَبِشَارَةٌ جَلِيَّةٌ، وَتَفَاؤُلٌ بِغَلَبَةِ ذُرِّيَّةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ أَنَّ أُمَّ الْقُرَشِيِّ تَكُونُ كَلْبِيَّةً فَيُنَازِعُ الْمَهْدِيَّ فِي أَمْرِهِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِأَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، (فَيَبْعَثُ) أَيِ: الْكَلْبِيُّ (" إِلَيْهِمْ ") أَيْ: إِلَى الْمُبَايِعِينَ لِلْمَهْدِيِّ (" بَعْثًا ") أَيْ: جَيْشًا، (" فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ ") أَيْ: فَيَغْلِبُ الْمُبَايِعُونَ عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ الْكَلْبِيُّ، (" وَذَلِكَ ") أَيِ: الْبَعْثُ (" بَعْثُ كَلْبٍ ") أَيْ: جَيْشُ كَلْبٍ بَاعِثُهُ هُوَ نَفْسُ الْكَلْبِيِّ (" وَيَعْمَلُ ") أَيِ: الْمَهْدِيُّ فِي النَّاسِ (" بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ") أَيْ: شَرِيعَتِهِ (" وَيُلْقِي ") : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: يَرْمِي وَيُرْخِي (" الْإِسْلَامُ ") أَيِ: الْمُشَبَّهُ بِالْبَعِيرِ الْمُنْقَادِ لِلْأَنَامِ (" بِجِرَانِهِ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ فَرَاءٍ وَنُونٍ، وَهُوَ مُقَدَّمُ عُنُقِهِ أَيْ: بِكَمَالِهِ، فَفِيهِ مَجَازُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجِرَانُ بَاطِنُ الْعُنُقِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: أَنَّ نَاقَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَعَتْ جِرَانَهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: حَتَّى ضَرَبَ الْحَقُّ بِجِرَانِهِ، أَيْ: قَرَّ الْإِسْلَامُ وَاسْتَقَرَّ قَرَارُهُ وَاسْتَقَامَ، كَمَا أَنَّ الْبَعِيرَ إِذَا بَرَكَ وَاسْتَرَاحَ مَدَّ عُنُقَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قِيلَ: ضُرِبَ الْجِرَانُ مَثَلًا لِلْإِسْلَامِ إِذَا اسْتَقَرَّ قَرَارُهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِتْنَةً، وَجَرَتْ أَحْكَامُهُ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ، (" فَيَلْبَثُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيِ: الْمَهْدِيُّ بَعْدَ ظُهُورِهِ (" سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ: لَمْ يَرِدْ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ ذِكْرُ الْأَبْدَالِ، إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَعْرِيفِ غَالِبِ أَلْفَاظِ الصُّوفِيَّةِ: الْقُطْبُ، وَيُقَالُ لَهُ الْغَوْثُ هُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَالَمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَيْ: نَظَرًا خَاصًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفَاضَةُ الْفَيْضِ وَاسْتِفَاضَتُهُ، فَهُوَ الْوَاسِطَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَيُقَسَّمُ الْفَيْضُ الْمَعْنَوِيُّ عَلَى أَهْلِ بِلَادِهِ بِحَسَبِ تَقْدِيرِهِ وَمُرَادِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْأَوْتَادُ أَرْبَعَةٌ: مَنَازِلُهُمْ عَلَى مَنَازِلِ الْأَرْكَانِ مِنَ الْعَالَمِ، شَرْقٌ وَغَرْبٌ وَشَمَالٌ وَجَنُوبٌ، مَقَامُ كُلٍّ مِنْهُمْ مَقَامُ تِلْكَ الْجِهَةِ.

قُلْتُ: فَهُمُ الْأَقْطَابُ فِي الْأَقْطَارِ، يَأْخُذُونَ الْفَيْضَ مِنْ قُطْبِ الْأَقْطَابِ الْمُسَمَّى بِالْغَوْثِ الْأَعْظَمِ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوُزَرَاءِ تَحْتَ حُكْمِ الْوَزِيرِ الْأَعْظَمِ، فَإِذَا مَاتَ الْقُطْبُ الْأَفْخَمُ، أُبْدِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَحَدٌ بَدَلَهُ غَالِبًا، ثُمَّ قَالَ: الْأَبْدَالُ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ، إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ، وَهُمْ سَبْعَةٌ. قُلْتُ: الْأَبْدَالُ اللُّغَوِيُّ صَادِقٌ عَلَى رِجَالِ الْغَيْبِ جَمِيعًا، وَقَدْ سَبَقَ لِلْبَدَلِ مَعْنًى آخَرَ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَيْهِ ; وَلَعَلَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِحُصُولِ كَثْرَةِ الْبَدَلِ فِيهِمْ لِغَلَبَتِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَوْ سَبْعُونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، فَقَوْلُهُ: وَهُمْ سَبْعَةٌ وَهْمٌ، ثُمَّ قَالَ: النُّقَبَاءُ هُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا خَبَايَا النُّفُوسِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ. أَقُولُ: لَعَلَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ النَّقْبِ بِمَعْنَى الثَّقْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النُّقَبَاءَ جَمْعُ نَقِيبٍ، وَهُوَ شَاهِدُ الْقَوْمِ وَضَمِينُهُمْ وَعَرِيفُهُمْ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، أَيْ: شَاهِدًا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ يُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِ قَوْمِهِ وَيُفَتِّشُ عَنْهَا، أَوْ كَفِيلًا يَكْفُلُ عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَعَاهَدُوا عَلَيْهِ عَلَى مَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ

ص: 3442

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ خَمْسُمِائَةٍ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: النُّجَبَاءُ هُمُ الْمُشْتَغِلُونَ بِحَمْلِ أَثْقَالِ الْخَلْقِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ. أَقُولُ: كَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ اللُّغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: نَاقَةٌ نَجِيبٌ وَنَجِيبَةٌ وَجَمْعُهُ نَجَائِبُ، وَأَنْسَبُ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَيْضًا مِنْ أَنَّ النَّجِيبَ الْكَرِيمُ وَالْجَمْعَ نُجَبَاءُ، وَالْمُنْتَجَبُ الْمُخْتَارُ، وَنَجَائِبُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُهُ.

هَذَا وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا " «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَلَهُ أَرْبَعُونَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَلَهُ سَبْعَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَلَهُ خَمْسَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام وَلَهُ ثَلَاثَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مِيكَائِيلَ عليه الصلاة والسلام وَلَهُ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ عليه الصلاة والسلام كُلَّمَا مَاتَ الْوَاحِدُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ السَّبْعَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْعَامَّةِ، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ الْهَمَّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، انْتَهَى.

وَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَعُمُومِ جُودِهِ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مَحْلُولًا مِنْ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ أَنْ يَجْعَلَنِي مَنْصُوبًا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ مِنْ مَرْتَبَةِ الْعَامَّةِ إِلَى أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْخَاصَّةِ، وَيُتِمَّ عَلَيَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مَعَ الزِّيَادَةِ إِلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَبْدَالَ لَا تَكُونُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَبْدَالِ، بَلْ تَعُمُّ الرِّجَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَحَدًا يَكُونُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِي عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ أَشْرَفَ وَأَلْطَفَ مِنْ قَلْبِهِ الْأَكْرَمِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ بِظَاهِرِهِ بِتَفْضِيلِ خَوَاصِّ الْمَلَكِ عَلَى خَوَاصِّ الْبَشَرِ، وَكَذَا تَفْضِيلُ إِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى جِبْرَائِيلَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَهَذَا وَقَالَ الْعَارِفُ الصَّمَدَانِيُّ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدَّوْلَةِ السِّمْنَانِيُّ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: إِنَّ الْأَبْدَالَ مِنْ بُدَلَاءِ السَّبْعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ:" «هُوَ مِنَ السَّبْعَةِ وَسَيِّدُهُمْ» ". أَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا مِنْ ثِقَاتٍ وَسَنَدِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ الْقُطْبُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ عِصَامًا، فَحَرِيٌّ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ مَظْهَرٌ خَاصٌّ لِلتَّجَلِّي الرَّحْمَانِيِّ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَظْهَرًا خَاصًّا لِلتَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الْمَخْصُوصِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ اللَّهُ.

قُلْتُ: هَذَا يُفِيدُ مُؤَيِّدًا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُشَارِكْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَقَامِهِ الْأَعْظَمِ، لَكِنَّ فِي كَوْنِ الْقُطْبِيَّةِ لِعِصَامٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي أَنَّهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ، بِخِلَافِ أُوَيْسٍ فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ سَيِّدُ التَّابِعِينَ إِشْكَالًا عَظِيمًا، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْقُطْبِيَّةُ الْكُبْرَى مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ الْيَافِعِيُّ رحمه الله: وَقَدْ سَتَرَ أَحْوَالَ الْقُطْبِ وَهُوَ الْغَوْثُ عَنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ، لَكِنِّي أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا غَالِبِيٌّ ; لِثُبُوتِ الْقُطْبِيَّةِ لِلسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ رحمه الله بِلَا نِزَاعٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ادَّعَوْا أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرَادَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فَلَا إِشْكَالَ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى بَاطِلًا وَزُورًا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعٌ مِنَ الْأَوْبَاشِ، وَأَرَادَ الْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ ; فَقُتِلَ وَاسْتَرَاحَ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى وَاقِعَةَ الْحَالِ فَحَمَلَهَا شَيْخُهُ عَلَى الْآفَاقِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى الْأَنْفُسِ ; لِئَلَّا يَحْصُلَ الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ رَئِيسُ النُّورِ بِخَشْيَةِ أَحَدِ مَشَايِخِ الْكُبْرَوِيَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْبِلَادِ الْهِنْدِيَّةِ جَمَاعَةٌ تُسَمَّى الْمَهْدَوِيَّةَ، وَلَهُمْ رِيَاضَاتٌ عَمَلِيَّةٌ، وَكُشُوفَاتٌ سُفْلِيَّةٌ، وَجَهَالَاتٌ ظَاهِرِيَّةٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمَوْعُودَ هُوَ شَيْخُهُمُ الَّذِي ظَهَرَ، وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ غَيْرُهُ مَهْدِيٌّ فِي الْوُجُودِ، وَمِنْ ضَلَالَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ الْوَلِيُّ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي رحمه الله رِسَالَةً جَامِعَةً فِي عَلَامَاتِ الْمَهْدِيِّ، مُنْتَخَبَةً مِنْ رَسَائِلِ السُّيُوطِيِّ رحمه الله وَاسْتَفْتَى مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي مَكَّةَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَدْ أَفْتَوْا

ص: 3443

بِوُجُوبِ قَتْلِهِمْ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا مُعْتَقَدُ الطَّائِفَةِ الشِّيعَةِ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ الْمَوْعُودَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ الْعَسْكَرِيُّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، بَلْ هُوَ مُخْتَفٍ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ مِنَ الْعَوَامِّ وَالْأَعْيَانِ، وَأَنَّهُ إِمَامُ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِي وَقْتِهِ وَيَحْكُمُ فِي دَوْلَتِهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَالْأَدِلَّةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ إِذَا اخْتَفَى دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَبْدَالِ أَوَّلًا، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ الْأَبْدَالِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَبْطَالِ، يَعْنِي دَائِرَةَ الْأَرْبَعِينَ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ الْأَبْطَالِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ السُّيَّاحِ وَهُمُ السَّبْعَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ; فَصَارَ سَيِّدَ السُّيَّاحِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَوْتَادِ وَهُمُ الْخَمْسَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَصَارَ سَيِّدَ الْأَوْتَادِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْأَفْذَاذِ، وَهُمُ الثَّلَاثَةُ، وَبَقِيَ فِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَصَارَ سَيِّدَ الْأَفْذَاذِ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْأَرِيكَةِ الْقُطْبِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ تَوَفَّى اللَّهُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيَّ الْقُطْبَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ فِي بَغْدَادَ فِي الشُّونِيزِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَبَقِيَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْقُطْبِيَّةِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تَوَفَّاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، انْتَهَى.

وَقَدْ نَقَلَ مَوْلَانَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ - هَذَا عَنْهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي اعْتِقَادِهِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدَّوْلَةِ ظَهَرَ بَعْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ، وَلَمْ يُسْنِدْ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدَّعِي هَذَا مِنْ طُرُقِ الْكَشْفِ، وَكَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا إِلَّا كَذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَبْنَى الِاعْتِقَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَسَاسُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْنَى لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ ; وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْعَمَلِ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لِلصُّوفِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ الْكَشْفِيَّةِ، أَوْ مِنَ الْحَالَاتِ الْمَنَامِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إِلَى الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ - عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَأَكْمَلُ التَّحِيَّةِ - لَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي أَحْوَالِ الْمَهْدِيِّ مِمَّا جَمَعَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله وَغَيْرُهُ تَرُدُّ عَلَى الشِّيعَةِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ، بَلْ جَعَلُوا تَمَامَ إِيمَانِهِمْ وَبِنَاءَ إِسْلَامِهِمْ وَأَرْكَانَ أَحْكَامِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ الْمَهْدِيُّ الْمَوْعُودُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ.

ص: 3444

5457 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَلَاءً يُصِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةَ، حَتَّى لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا مِنْ عِتْرَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي، فَيَمْلَأُ بِهِ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ، لَا تَدَعُ السَّمَاءُ مِنْ قَطْرِهَا شَيْئًا إِلَّا صَبَّتْهُ مِدْرَارًا، وَلَا تَدَعُ الْأَرْضُ مِنْ نَبَاتِهَا شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ حَتَّى يَتَمَنَّى الْأَحْيَاءُ الْأَمْوَاتَ، يَعِيشُ فِي ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ» ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ.

ــ

5457 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلَاءً ") أَيْ: عَظِيمًا (" يُصِيبُ هَذِهِ الْأُمَّةَ حَتَّى لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً ") أَيْ: مَلَاذًا (" يَلْجَأُ إِلَيْهِ ") أَيْ: يَعُوذُ وَيَلُوذُ بِهِ (" مِنَ الظُّلْمِ ") أَيْ: بَلَاءً نَاشِئًا مِنَ الظُّلْمِ الْعَامِّ، (" فَيَبْعَثُ اللَّهُ رَجُلًا ") أَيْ: كَامِلًا عَادِلًا عَالِمًا عَامِلًا وَهُوَ الْمَهْدِيُّ (مِنْ عِتْرَتِي ") أَيْ: أَقَارِبِي (" وَأَهْلِ بَيْتِي ") أَيْ: مِنْ أَخَصِّهِمْ، (" فَيَمْلَأُ ") أَيِ: اللَّهُ (" بِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِ وُجُودِ ذَلِكَ الرَّجُلِ (" الْأَرْضَ ") أَيْ: جَمِيعَهَا، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ تُمْلَأُ بِالتَّأْنِيثِ مَجْهُولًا، فَالْأَرْضُ مَرْفُوعٌ، (" قِسْطًا وَعَدْلًا ") : تَمْيِيزٌ مِنَ النِّسْبَةِ (" كَمَا مُلِئَتْ ") أَيْ: بِغَيْرِهِ (" ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ") أَيْ: جِنْسُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (" وَسَاكِنُ الْأَرْضِ ") أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ حَتَّى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ وَالْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ، كَمَا سَبَقَ فِي فَضْلِ الْعُلَمَاءِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ:(" لَا تَدَعُ السَّمَاءُ ") أَيْ: لَا تَتْرُكُ فِي زَمَانِهِ (" مِنْ قَطْرِهَا شَيْئًا ") أَيْ: مِنْ أَقْطَارِ أَمْطَارِهَا (" إِلَّا صَبَّتْهُ ") أَيْ: كَبَّتْهُ (" مِدْرَارًا ") : فِي الْفَائِقِ: الْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ، وَمِفْعَالُ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ مِعْطَارٌ مِطْفَالٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ السَّمَاءِ، أَيْ: مِنْ فَاعِلِ صَبَّتْهُ، (" وَلَا تَدَعُ الْأَرْضُ مِنْ نَبَاتِهَا ") أَيْ: مِنْ أَنْوَاعِ نَبَاتِهَا وَأَصْنَافِهَا (" شَيْئًا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ ") أَيْ: أَنْبَتَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ (" حَتَّى يَتَمَنَّى الْأَحْيَاءُ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ

ص: 3444

الْحَيِّ مَرْفُوعٌ، وَأَخْطَأَ مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ وَنَصَبَهُ، (" الْأَمْوَاتَ ") : بِالنَّصْبِ وَمَنْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُصِبْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الْأَحْيَاءُ رُفِعَ بِالْفَاعِلِيَّةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ: يَتَمَنَّوْنَ حَيَاةَ الْأَمْوَاتِ أَوْ كَوْنَهُمْ أَحْيَاءً ; وَإِنَّمَا يَتَمَنَّوْنَ لِيَرَوْا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَمْنِ، وَيُشَارِكُوهُمْ فِيهِ، وَمَنْ زَعَمَ فِيهِ الْأَحْيَاءَ بِالنَّصْبِ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَفَاعِلُ التَّمَنِّي الْأَمْوَاتُ فَقَدْ أَحَالَ، (" يَعِيشُ ") أَيِ: الْمَهْدِيُّ (" فِي ذَلِكَ ") أَيْ: فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَدْلِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ (" سَبْعَ سِنِينَ ") : وَهُوَ مَجْزُومٌ بِهِ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، (" أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" أَوْ تِسْعَ سِنِينَ ". رَوَاهُ) تَرَكَ هُنَا بَيَاضًا فِي الْأَصْلِ وَأَلْحَقَ بِهِ: رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ، لَكِنْ نَقَلَ الْجَزَرِيُّ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ.

ص: 3445

5458 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ، حَرَّاثٌ، عَلَى مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَنْصُورٌ، يُوَطِّنُ أَوْ يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ - أَوْ قَالَ: إِجَابَتُهُ» - ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5458 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ رَجُلٌ ") أَيْ: صَالِحٌ (" مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ ") أَيْ: مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَبُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَنَحْوِهِمَا، (" يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ ") : اسْمٌ لَهُ، وَقَوْلُهُ: (" حَرَّاثٌ ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، صِفَةٌ لَهُ أَيْ: زَرَّاعٌ (" عَلَى مُقَدِّمَتِهِ ") أَيْ: مُقَدِّمَةِ جَيْشِهِ (" رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَنْصُورٌ ") : اسْمٌ لَهُ أَوْ صِفَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَقَائِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، لَكِنَّ إِيرَادَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مُلَائِمٍ لَهُ، وَمَعَ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ، مَعَ أَنَّ عُنْوَانَ الْبَابِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَهْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَنُقِلَ عَنْ خَوَاجَهْ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّمَرْقَنْدِيِّ النَّقْشَبَنْدِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: الْمَنْصُورُ هُوَ الْخَضِرُ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا بِنَقْلٍ قَالَ: أَوْ كَشْفِ حَالٍ.

(" يُوَطِّنُ ") أَيْ: يُقَرِّرُ وَيُثَبِّتُ الْأَمْرَ، وَأَصْلُ التَّوْطِينِ جَعْلُ الْوَطَنِ لِأَحَدٍ، (" أَوْ يُمَكِّنُ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج: 41] ، أَوْ هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: يُهَيِّئُ الْأَسْبَابَ بِأَمْوَالِهِ وَخَزَائِنِهِ وَسِلَاحِهِ، وَيُمَكِّنُ أَمْرَ الْخِلَافَةِ وَيُقَوِّيهَا وَيُسَاعِدُهَا بِعَسْكَرِهِ (" لِآلِ مُحَمَّدٍ ") أَيْ: لِذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عُمُومًا وَلِلْمَهْدِيِّ خُصُوصًا، أَوِ الْآلُ مُقْحَمٌ وَالْمَعْنَى لِمُحَمَّدٍ وَالْمَهْدِيِّ، (" كَمَا مَكَّنَتْ قُرَيْشٌ ") أَيْ: كَتَمْكِينِهِمْ (" لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ") : وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَدَخَلَ فِي التَّمْكِينِ أَبُو طَالِبٍ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: يُمَكِّنُ لِآلِ مُحَمَّدٍ أَيْ فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام: 6] أَيْ: جَعَلَ لَهُ فِي الْأَرْضِ مَكَانًا، وَأَمَّا مَكَّنْتُهُ فِي الْأَرْضِ فَأُثَبِّتُهُ فِيهَا، وَمَعْنَاهُ جَعَلَهُمْ فِي الْأَرْضِ ذَوِي بَسْطَةٍ فِي الْأَمْوَالِ وَنُصْرَةٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَمَا مَكَّنَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشٌ آخِرَ أَمْرِهَا، فَإِنَّ قُرَيْشًا وَإِنْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا مِنْ مَكَّةَ، لَكِنَّ بَقَايَاهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ أَسْلَمُوا، وَمَكَّنُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ

ص: 3445

بِالتَّمْكِينِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ التَّمْكِينِ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَمْكِينِ الْمُشَبَّهِ تَمْكِينُهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، فَلَا يَحْسُنُ حَمْلُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَلَى آخِرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أَخْرَجُوا. لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمُوهِمِ لِإِهَانَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قِيلَ بِكُفْرِ مَنْ أَطْلَقَ هَذَا الْقَوْلَ، وَتَأْوِيلُهُ تَسَبَّبُوا لِخُرُوجِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَكَانِ أَنْصَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُعَطَّرَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِهِ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْرَاجُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله وَغَيْرُهُ.

(" وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُهُ ") أَيْ: نَصْرُ الْحَارِثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ نَصْرُ الْمَنْصُورِ وَهُوَ الْأَبْلَغُ، أَوْ نَصْرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمَا، أَوْ نَصْرُ الْمَهْدِيِّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ ; إِذْ وُجُودُ نَصْرِهِمَا عَلَى أَهْلِ بِلَادِهِمَا وَمَنْ يَمُرَّانِ بِهِ ; لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَنْصَارِ الْمَهْدِيِّ، (" - أَوْ قَالَ إِجَابَتُهُ - ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَعْنَى قَبُولُ دَعْوَتِهِ وَالْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: فِي بَابِ الْمَهْدِيِّ بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ، أَوْ لِمَا قَامَ عِنْدَهُ مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ. قَالَ السَّيِّدُ: وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.

ص: 3446

5459 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ، وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5459 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ» ") أَيْ: سِبَاعُ الْوَحْشِ كَالْأَسَدِ، أَوْ سِبَاعُ الطَّيْرِ كَالْبَازِي، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، (" الْإِنْسَ ") أَيْ: جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، (" وَحَتَّى تُكَلِّمَ الرَّجُلَ ") : فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُنَا تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَبَيَانُ جَوَازٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ، مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْفَاعِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، (" عَذَبَةُ سَوْطِهِ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: طَرَفُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ رَأْسُ سَوْطِهِ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ فِي طَرَفِهِ، يُسَاقُ بِهِ الْفَرَسُ مِنْ عَذَبَ الْمَاءُ إِذَا طَابَ وَسَاغَ فِي الْحَلْقِ ; إِذْ بِهَا يَطِيبُ سَيْرُ الْفَرَسِ وَيَسْتَرِيحُ رَاكِبُهُ، وَقِيلَ: مِنَ الْعَذَابِ إِذْ بِهَا يُجْلَدُ الْفَرَسُ وَيُعَذَّبُ فَيَرْتَاضُ، وَيُهَذِّبُ بِهِ أَهْلَهُ بَعْدَهُ، (" وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

ص: 3446

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5460 -

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْآيَاتُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5460 -

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْآيَاتُ ") أَيْ: آيَاتُ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ، تَظْهَرُ بِاعْتِبَارِ ابْتِدَائِهَا ظُهُورًا كَامِلًا (" بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ") أَيْ: مِنَ الْهِجْرَةِ، أَوْ مِنْ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنْ وَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ فِي الْمِائَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَهُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَتَتَابُعِ الْآيَاتِ، مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الْأَرْضِ، وَظُهُورِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَأَمْثَالِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْآيَاتُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَيْ: تَتَابُعُ الْآيَاتِ، وَظُهُورُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ عَلَى التَّتَابُعِ وَالتَّوَالِي بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: وَآيَاتٍ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ قُطِعَ

ص: 3446

سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُ الْمِائَتَيْنِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ عَلَى ذَوِي النُّهَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 3447

5461 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّايَاتِ السُّودَ قَدْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَأْتُوهَا ; فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ــ

5461 -

(وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ ") : الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْخِطَابُ الْعَامُّ أَيْ: إِذَا أَبْصَرْتُمْ (" الرَّايَاتِ ") أَيِ: الْأَعْلَامَ (" السُّودَ ") : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ عَسْكَرُ الْحَارِثِ وَالْمَنْصُورِ، (" فَأْتُوهَا ") أَيْ: فَأْتُوا الرَّايَاتِ، وَاسْتَقْبِلُوا أَهْلَهَا، وَاقْبَلُوا أَمْرَ أَمِيرِهَا، (" فَإِنَّ فِيهَا خَلِيفَةَ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ ") أَيْ: نُصْرَتَهُ وَإِجَابَتَهُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ ابْتِدَاءَ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، ثُمَّ دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ خَلِيفَةُ اللَّهِ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَسَبِيلِ الْعَدْلِ، وَقَدْ سَبَقَ مَنْعُهُ، لَكِنْ قَدْ يُئَوَّلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ مِنَ اللَّهِ خَلِيفَةً لِأَنْبِيَائِهِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوبُ هُوَ الْمَنْسُوبَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 3447

5462 -

وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ عَلِيٌّ، وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ، - ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ - يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ.

ــ

5462 -

(وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَيْ: مَوْقُوفًا (وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنَ قَالَ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: قَالَ، إِمَّا تَأْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ لِتَوَهُّمِ الْإِطَالَةِ، (إِنَّ ابْنِي هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الْحَسَنِ ; لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْحُسَيْنُ أَوِ الْجِنْسُ، (سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: بِقَوْلِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، (وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ) أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ (رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ وَتُسَكَّنُ (وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ) أَيْ: فِي جَمِيعِهِ، إِذْ سَبَقَ بَعْضُ نَعْتِهِ الْمُوَافِقِ لِخَلْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (- ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا) : بِالْإِضَافَةِ وَدُونِهَا، فَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ، وَيَكُونُ لَهُ انْتِسَابٌ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فِي الْحُسَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ الشِّيعَةِ: إِنَّ الْمَهْدِيَّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ، فَإِنَّهُ حُسَيْنِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ، لَا يُقَالُ لَعَلَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْمَهْدِيِّ، فَإِنَّا نَقُولُ: يُبْطِلُهُ قِصَّةُ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي السَّادَاتِ الْحُسَيْنِيَّةِ وَلَا الْحَسَنِيَّةِ مَنْ مَلَأَ الْأَرْضَ عَدْلًا إِلَّا مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَهْدِيِّ الْمَوْعُودِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ) : هَذَا أَعْنِي وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ كَلَامُ جَامِعِ الْأُصُولِ، نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الطِّيبِيِّ رحمه الله قَوْلُهُ: لَمْ يَذْكُرِ الْقِصَّةَ التَّعْرِيفُ فِيهِ

ص: 3447